المنتظم
الجزء التاسع
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت
سنة أربع وسبعين ومائة
فمن الحوادث فيها أن الرشيد ولَى إسحاق بن سليمان الهاشمي السِّند
ومكران، واستقصى، الرشيد فيها، يوسف بن أبي يوسف وأبوه حيّ. وغزا
الصائفة عبدُ الملك بن صالح. وفيها: خرج الرشيد إلى البصرة يُريد الحج،
فزاد في مسجد البصرة مما يلي القبلة، وخرج فبدأ بالمدينة، فقسم في
أهلها مالاً عظيماً.
ووقع الوباء في هذه السنة بمكة، فأبطأ عن دخولها، ثم دخلها فقضى طوافه
وسعيه، ولم ينزل مكة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
بكر بن مضر بن محمد بن حكيم، أبو عبد الملك، مولى ربيعة بن شرحبيل بن
حسنة وُلد سنة مائة، وكان عابداً، وتوفي يوم عرفة من هذه السنة.
عبد اللّه بن لَهيعة بن عُقْبة بن فُرغان، أبو عبد الرحمن
الحَضْرَميُّ.
ولد سنة سبع وتسعين. وروى عن مِشْرَح بن هَاعَان، وغيره. وكان قاضي
مصر، وروى عنه: الليث، وابن المبارك. وتوفي في ربيع الأول من هذه
السنة، وكان ضعيفاً.
عبد الرحمن بن أبي الزناد، يكنى: أبا عبد اللّه. توفي في هذه السنة.
محمد بن
عبد الرحمن بن أبي الزناد واسم أبي الزناد: عبد اللّه بن ذكوان - مولى
رملة بنت شيبة، وكنية محمد: أبو عبد اللّه، المديني.
كان يطلب الحديث مع أبيه، ولقي عامة شيوخه، وكان بينهما في السن سبع
عشرة سنة، وحديثه قليل، روى عنه محمد بن عمر الواقدي. وكان عالماً
بالقراءة والحديث، والفرائض، والحساب، والعروض.
توفي في هذه السنة وهو ابن أربع وخمسين سنة، ومات أبوه قبله بإحدى
وعشرين ليلة، ودفنا في مقابر باب التين. وقيل: في مقبرة الخيزران.
منصور، مولى عيسى بن جعفر، ولقبه: زلزل فغلب عليه ونُسي اسمه.
وكان يضرب بالعود، فيُضرَب به المثل، وعمل ببغداد بركة للسبيل كان يضرب
بها المثل.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد ابن علي، الخطيب
قال: أنشدنا الحسن بن أبي بكر قال: أنشدنا أبي قال: أنشدنا إبراهيم بن
محمد بن عرفة نفطويه لنفسه:
لو أن زهيراً وامرأ القيس أبصرا ... ملاحة ما تحويه بِرْكَةُ زَلْزَل
لما وصفا سَلْمَى ولا أم سالم ... ولا أكثر ذِكْرَ الدخول فحومَل
أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزاز قال: أنبأنا أبو محمد الجوهري، أخبرنا
أبو عمر بن حيوية قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان قال:
أخبرنا أبو العباس المروزي قال: حدَّثني المفضل قال: حدثني إسحاق بن
إبراهيم الموصلي، عن أبيه قال: قال لي زلزل: عندي جارية من حالها من
قصتها قد علّمتها الغناء. فكنت أشتهي أن أراها، وأستحي أن أسأله، فلما
توفي زلزل بلغني أن ورثته يعرفون الجارية، فصرت إليهم، فأخرجوها فإذا
هي جارية كاد الهزال يكويها، لولا ما تم منها ونقص منه، فقلت لها:
غنّي، فغنَّت وعيناها تذرفان، ثم شهقت، ظننت أن نفسها قد خرجت. فركبت
من ساعتي، فدخلت على أمير المؤمنين، فأخبرته خبرها، فأمر بإحضارها،
فلما دخلت عليه قال: غنّي. فغنَّت وجعلت تريد البكاء، فتمنعها هيبة
أمير المؤمنين، فرحمها وأعجب بها، وقال: أتحبين أن أشريك؟ فقالت: يا
سيدي، أما إذ خيرتني فقد وجب نصحك عليّ، والله لا يشتريني أحد بعد زلزل
فينتفع بي. فأمر بشرائها وأعتقها وأجرى عليها رزقاً.
وفي رواية أخرى: أنه قال: أتحبين أن أشتريك؟ فقالت: يا أمير المؤمنين،
لقد عرضت علي ما يقصر عنه الأمل، ولكن ليس من الوفاء أن يملكني أحد
فينتفع بي. فزاد رقة عليها، وقال: غني صوتاً فغنت:
العينُ تظهر كتماني وتبديه ... والقلبُ يكتم ماضمَّنتهُ فيه
وكيف ينكتم المكنون بينهما ... والعين تظهره والقلب يخفيه
فاشتراها وأعتقها، وأجرى عليها إلى أن مات.
عابد مصري مبتلى.
أخبرنا
عبد الوهاب الأنماطي قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار قال: أخبرنا
أحمد بن علي التوذي قال: أخبرنا عمر بن ثابت قال: أخبرنا علي بن أحمد
بن أبي قيس قال:، حدَّثنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال: حدَثنا علي بن
الحسين، عن موسى بن عيسى، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي قال: حدَّثني
بعض الحكماء قال: خرجت وأنا أريد الرباط، حتى إذا كنت بعريش مصر أو
دونه إذا أنا بمظلة، وإذا فيها رجل قد ذهبت يداه ورجلاه وبصره، وإذا هو
يقول: اللهم إني أحمدك حمداً يوافي محامد خلقك، كفضلك على سائر خلقك،
إذ فضلتني على كثير ممن خلقت تفضيَلاً قلت: واللّه لأسْألنَّه أعلَمَهُ
أم ألهِمَه، فدنوت منه، فسلمت عليه فردَّ عليَّ السلام فقلت: إني سائلك
عن شيء تخبرني به قال: إن كان عندي منه علم أخبرتك فقلت: على أي نعمةٍ
من نعمه تحمده أم على أي فضيلة تشكره؟ قال: أليس ترى ما قد صنع بي قلت:
بلى قال: فو اللّه لو أن الله عز وجل صبّ علي السماءَ ناراً فأحرقتني،
وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فغرّقتني، وأمر الأرض فخسفت بي، ما
ازددت له إلا حباً وشكراً وإن لي إليك حاجة .قلت: وما هي. قال: كان لي
مَنْ يتعاهدني في وقت صلاتي ويطعمني عند إفطاري، وقد فقدته منذ أمس،
انظر إلي، هل تحسه لي فقلت: إن في قضاء حاجة هذا العبد لقربة إلى الله
تعالى، فخرجت في طلبه حتى إذا كنت في كثبان من رمل، إذا سبع قد افترس
الغلام فأكله، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، كيف آتي هذا العبد
الصالح من وجه رقيق فأخبره الخبر لئلا يموت، فأتيته، فسلَمت عليه، فرد
عليَ السلام، فقلت له: إني سائلك عن شيء، أتخبرني به؟ قال: إن كان عندي
منه علم أخبرتك به. قلت: أنت أكرم على الله عز وجل منزلة أم أيوب عليه
السلام قال: بل أيوب عليه السلام كان أكرم على الله عز وجل مني، وأعظم
منزلة فقلتَ: أليس قد، ابتلاه فصبر، حتى استوحش منه من كان يأنس به،
وصار غرضاً لمُرار الطريق؟ فقال: بلى. قلت: إن ابنك الذي أخبرتني من
قصته ما أخبرتني، خرجت في طلبه، حتى إذا كنت بين كثبان رمل، إذا أنا
بالسبع قد افترس الغلام وأكله فقال: الحمد للّه الذي لم يجعل في قلبي،
حسرة من الدنيا ثم شهق شهقة فمات. فقلت: آنا لله وآنا إليه راجعون،
مَنْ يعينني على غسله وتكفينه ودفنه. فبينا أنا كذلك إذا بركب يريدون
الرباط، فأشرت إليهم فأقبلوا، فقالوا: ما أنت وهذا فأخبرتهم بالذي كان
من أمره، فثنوا رحلهم فغسلناه بماءِ البحر، وكفناه بأثواب كانت معهم،
ووليت الصلاة عليه من بينهم، ودفناه في مظلته تلك، ومضى القوم إلى
رباطهم، وبت في مظلته تلك الليلة آنساً به. فلما مضى من الليل مثل ما
بقي، إِذا أنا بصاحبي في روضة خضراء عليه ثياب خضر قائماً يتلو الوحي،
فقلت: أليس أنت صاحبي؟ قال: بلى قلت: فما الذي صيَّرك إلى ما أرى؟ قال:
وردت من الصابرين على درجة لم ينالوها إلا بالصبر عند البلاء، والشكر
عند الرخاء.
فقال الأوزاعي ما زلت أحب أهل ذلك البلاء منذ حدثني الحكيم بهذا الحديث
ثم دخلت
سنة خمس وسبعين ومائة
فمن الحوادث فيها: عَقد الرشيد لابنه محمد من بعده ولاية العهد، فأخذ
له بيعة القواد والجند ببغداد، وسماه: الأمين، وله يومئذ خمس سنين،
فقدَّمه على المأمون، والمأمون أكبر منه؟ لأن أمه زبيدة.
وقد روى أبو بكر الصولي قال: حدَّثنا سليمان بن داود المهلبي قال:
حدَثنا القاسم بن محمد بن عباد، عن أبيه قال: كان الرشيد يقول: إني
لأتعرف في عبد الله حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة نفس الهادي، فلو
أشأ أن أنسبه إلى الرابعة فَيّ لنسبته، وإني لأرضى سيرته، وأحمد
طريقته، واستحسن سياسته، وأرى قوته وذهنه، وأمن ضعفه ووهنه، وإني لأقدم
محمداً عليه، وأعلم أنه منقاد لهواه، متصرف في طريقه، مبذر لما حوته
يده، مشارك للنساءِ والإماء في رأيه، ولولا أم جعفر وميل بني هاشم إليه
لقدّمت عبد الله عليه.
قال الصولي: ثم جعل يرى فضل المأمون، وعقله فيندم على تقديمه محمداً،
فقال:
لقد بان وجه الرأي لي غير أنني ... غلبت على الأمر الذي كان أحزما
فكيف يردُّ الذر في الضرع بعد ما ... توزع حتى صار نهباً مقسما
أخاف التواءَ الأمر بعد انصداعِهِ ... وأن ينقض الأمر الذي كان أبرما
وكان
السبب في التقدم لمحمد: أن جماعةً من بني العباس مدُوا أعناقهم إلى
الخلافة بعد الرشيد، إذ لم يكن له ولي عهد، فمضى عيسى بن جعفر إلى
الفضل بن يحيى، فقال له: أنشدك اللّه لما عملت في البيعة لابن أختي -
يعني محمد بن زبيدة - فإنه ولدك، وخلافته لك. فوعده أن يفعل، فلما صار
الفضل إلى خراسان فرق فيهم أموالاً وأعطى الجند أعطيات متتابعة، ثم
أظهر البيعة لمحمد، فبايع الناس له، وكتب إلى الأفاق فبويع له، فأنكر
قوم البيعة لصغر سنه.
وفيها: عزل الرشيد العباس بن جعفر عن خراسان، وولاها خاله الغطريف بن
عطاء.
وفيها: صار يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن إلى الدّيْلم، فتحرك هناك.
وفيها: غزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح.
قال الواقدي: الذي غزاها عبد الله بن صالح. قال: وأصابهم في هذه الغزاة
برد قطع أيديهم وأرجلهم.
وفيها : حج بالناس الرشيد. وقيل: بل سليمان بن المنصور.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحكم بن فضيل، أبو محمد الواسطي. نزل المدائن، وحدَّث بها عن خالد
الحذَاء، ويعلى بن عطاء، روى عنه: أبو النضر هاشم بن القاسم، وكان
الحكم ثقة عند أهل زمانه، توفي في هذه السنة.
شعوانة العابدة . كانت كثيرة التعبد، شديدة الخوف، طويلة البكاء،
وسألها الفضيل بن عياض الدعاء فقالت: يا فضيل، أما بينك وبين الله ما
إن دعوته استجاب لك؟ فشهق الفضيل وخرّ مغشياً عليه.
أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا جعفر بن أحمد قال: أخبرنا أحمد بن علي
التوزي قال: حدثنا محمد بن عبد الله الدقاق، حدثنا أبو علي بن صفوان
قال: حدثنا أبو بكر بن عبيد قال: حدَّثني محمد بن الحسين قال: حدَثني
مالك بن ضيغم قال: قال لي أبي يوماً انطلق بنا حتى نأتي هذه المرأة
الصالحة، فننظر إليها - يعني شعوانة - فانطلقت أنا وأبو همام فدخلنا
عليها فقالت: مرحباً يا ابن مَنْ لم نره ونحن نحبه، أما والله يا بني
إني لمشتاقة إلى أبيك، وما يمنعني من إتيانه إلا أني أخاف أن أشغله عن
خدمة سيده، وخدمة سيده أولى به من محادثة شعوانة، ثم قالت: ومَنْ
شعوانة، وما شعوانة؟! أمة سوداء عاصية. ثم أخذت في البكاء فلم تزل تبكي
حتى خرجنا وتركناها.
أخبرتنا شهدة بنت أحمد قالت: أخبرنا جعفر بن أحمد السراج قال: حدَّثنا
أحمد بن علي قال: حدثنا محمد بن عبد الله القطيعي قال: حدَّثنا ابن
صفوان قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثني إبراهيم بن عبد الملك
قال: قدمت شعوانة وزوجها مكة، فجعلا يطوفان ويصليان، فإذا كلّ أو عيا
جلس، وجلست خلفه فيقول هو في جلوسه: أنا العطشان من حبك لا أروى. وتقول
هي: أنبت لكل داء دواء في الجبال ودواء المحبين في الجبال لم ينبت.
الليث بن سعد بن عبد الرحمن، أبو الحارث. يقال إنه مولى خالد بن ثابت
الفهمي.
ولد بقرقشندة، وهي قرية من أسفل أرض مصر، سنة أربع وتسعين. وروى عن:
عطاء بن أبى ربا، والزهري، ونافع في آخرين. حدث عن هشيم، وابن المبارك
وغيرهما. وكان فقيهاً فاضلاً ثقة جَواداً، يحفظ القرآن ويعرف الحديث
والعربية والشعر.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، الخطيب
قال: أخبرني الأزهري قال: حدثنا عبد اللّه بن عثمان الدقاق قال: حدَثنا
علي بن محمد المصري قال: حدثني محمد بن أحمد بن عياض قال: سمعت حرملة
بن يحيى يقول: سمعت ابن وهب يقول: كتب مالك بن أنس، إلى الليث بن سعد،
أريد أن ادخل ابنتي على زوجها فأحب أن تبعث لي بشيء من عصفر. قال: فبعث
إليه الليث ثلاثين حملاً عصفر فصبغ لابنته، وباع منه بخمس مائة دينار
وبقي عنده فضلة.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا علي بن طلحة
المقري، أخبرنا صالح بن أحمد بن محمد الهمداني قال: حدثنا أحمد بن
القاضي قال: حدثنا أحمد بن عثمان النسائي قال: سمعت قتيبة بن سعيد
يقول: سمعت شعيب بن الليث يقول: خرجت مع أبي حاجاً، فقدم المدينة، فبعث
إليه مالك بن أنس بطبق فيه رطب، فجعل على الطبق ألف دينار ورده إليه .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال أخبرنا
عبيد الله بن عمر الواعظ قال: حدثنا عبد الله بن سليمان قال: سمعت أبي
يقول: قال قتيبة بن سعيد: كان الليث بن سعد يستغل كل سنة عشرين ألف
دينار، وقال:
ما وجبت
عليّ زكاة قط، وأعطى ابن لهيعة ألف دينار وأعطى مالك بن أنس ألف دينار،
وأعطى منصور بن عمار ألف دينار، وجارية تساوي ثلاثمائة دينار. قال:
وجاءت امرأة إلى الليث بن سعد، فقالت: يا أبا الحارث إن ابني عليل وقد
اشتهى عسلاً، فقال: يا غلام، أعطها مرطاً من عسل. والمرط مائة وعشرون
رطلاً.
توفي الليث في شعبان من هذه السنة.
المنذر بن عبد اللّه بن المنذر بن المغيرة بن عبد اللّه بن خالد بن
حزام.
كان من سروات قريش، وأهل الفضل.
أنبأنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة
قال: أخبرنا المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سليمان بن داود قال: حدثنا
الزبير بن بكار قال: حدَّثني عمي مصعب قال: أخبرني الفضل بن الربيع
قال: دعاه أمير المؤمنين المهدي إلى قضاء المدينة فلم أر رجلاً قط كان
له استعفاء منه، قال لأمير المؤمنين: إني كنت وليت ولاية فخشيت أن لا
أكون سلمت منها، فأعطيت الله عهداً أن لا ألي ولاية أبداً، وأنا أعيذ
أمير المؤمنين باللّه ونفسي أن يحملني على أن أخيس بعهد الله. قال أمير
المؤمنين المهدي: فواللّه لقد أعطيت هذا من نفسك قبل أن أدعوك. قال:
والله لقد أعطيت هذا من نفسي قبل أن تدعوني. فقال: قد أعفيتك.
قال الزبير: وحدثني غير عمي من قريش قال: عرض عليه أمير المؤمنين
المهدي مائة ألف درهم على أن يلي له القضاء فاستعفى، فقال: لا أعفيك
حتى تدلني على إنسان أوليه القضاء. فدله على عبد الله بن محمد بن عمران
فاستقضاه، فحج تلك الأيام المنذر بن عبد الله وأبو فاكترى لأبيه إلى
الحج وما يجد ما يكتري لنفسه فحج ماشياً.
توفي المنذر في هذه السنة رحمه الله.
ثم دخلت
سنة ست وسبعين ومائة
فمن الحوادث فيها : تولية الرشيد الفضل بن يحيى كور الجبال، وطَبرستان،
ودُنْباوند، وقُومِس، وأرمينيَة، وأذْرَبيجان.
وفيها: ظهر يحيى بن عبد الله بن حسن بالديلم، فاشتدت شوكته، وقَوي
أمره، ونزع إليه الناس من الأمصار والكُور، فاغتم لذلك الرشيد، وندب
إليه الفضل بن يحيى في خمسين ألفاً، ومعه صناديد القَواد، فاستخلف
منصور بن زياد بباب أمير المؤمنين يجري الكتب على يديه، ثم مضى وحمل
معه الأموال، وكاتب صاحب الديلم وجعل له ألف ألف درهم على أن يسهل خروج
يحيى، فأجاب يحيى إلى الصلح والخروج على أن يكتب له الرشيد أماناً بخطه
على نسخة يبعث بها إليه. فكتب الفضل بذلك إلى الرشيد، فسره وكتب أماناً
ليحيى بن عبد الله، وأشهد عليه، الفقهاء والقضاة وجلة أبني هاشم،
مشايخهم منهم: عبد الصمد بن علي، والعباس بن محمد، ومحمد بن إبراهيم،
وموسى بن عيسى، ومَنْ أشبههم ووجه به مع جوائز وكرامات وهدايا فوجّه
الفضل بذلك إليه، فقدم يحيى عليه، وورد به الفضل بغداد، فلقيه الرشيد
بكل ما أحبّ، وأمر له بمال كثير، وأجرى له أرزاقاً سنية، وأنزله منزلاً
سرّياً بعد أن أقام في منزل يحيى بن خالد أياماً، وكان يتولى أمره
بنفسه، ولا يَكِلُ ذلك إلى غيره، وأمر الناس بإتيانه والسلام عليه بعد
انتقاله عن منزل يحيى، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة الشاعر في
الفضل:
ظَفِرتَ فلا شلتْ يَدٌ بَرْمَكيةٌ ... رَتَقْت بها الفَتْقَ الذي بين
هاشم
على حين أعْيَا الراتقينَ التِئامُهُ ... فكَفُوا وقالوا لَيسَ
بالمتلائم
فأصْبَحْتَ قد فازَتْ يَدَاك بِخطًةٍ ... من المجدِ باقٍ ذكرها في
الْمَواسِم
وما زالَ قِدْحُ المُلْكِ يَخْرُجُ فائزاً ... لكمْ كلَّما ضُمتْ
قِداحُ المُساهِم
ثم إن
الرشيد دعا يحيى بن عبد الله وعنده أبو البختري القاضي ومحمد بن الحسن
الفقيه، وأحضر كتاب الأمان الذي أعطاه يحيى، فقال لمحمد بن الحسن: ما
تقول في هذا الأمان، أصحيح هو؟ قال: نعم، فحاجه الرشيد في ذلك. فقال له
محمد بن الحسن: ما يصنع بالأمان لو كان محارباً ثم ولي وكان آمناً.
فسأل أبا البختري أن ينظر في الأمان، فقال أبو البختري: هذا منتقض من
وجه كذا ومن وجه كذا، فقال الرشيد: أنت قاضي القضاة وأنت أعلم بذلك،
فمزَّق الأمان وتَفَلَ فيه أبو البختري، وقام يحيى ليمضى إلى الحبس.
فقال له الرشيد : انصرف، أما ترون به أثر علة الآن، إن مات قال الناس
سمّوه؟! فقال يحيى: كلا ما زلت عليلاً منذ كنت في الحبس وقبله. فما مكث
بعد هذا إلا شهراً حتى مات.
وفي هذه السنة: هاجت العصبية بالشام بين النزارَية واليمانية، وكان رأس
النزاريَّة يومئذ أبو الهيذام، وقتل بينهم خلق كثير.
وكان العامل على الشام حين هاجت هذه الفتنة موسى بن عيسى، فولى الرشيد
موسى بن يحيى بن خالد البرمكي الشام، وضمّ إليه من القواد والجنود
جماعة، فأصلح بين أهلها، وسكنت الفتنة، فمدحه الشاعر فقال:
قد هاجت الشأمُ هَيْجاً ... يشيب راسَ وَليده
فصُب موسى عليها ... بخيله وجُنُودِهْ
فَدانَتِ الشأمُ لمّا ... أتى بِسُنْح وَحيدهْ
هو الجَوادُ الذي بُذْ ... ذَ كلُ وجودٍ بجودِهْ
أعداهُ جودُ أبيه ... يحيى وجودُ جُدوده
فجاءَ موسَى بن يحيى ... بطارفٍ وتَليدِه
ونَالَ موسى ذُرى المج ... د وَهْو حَشوُ مُهُودِه
خصَصْتُه بمَديحي ... منثورِهِ وقَصيدِهْ
مِنَ البرامِكِ عودٌ ... له فأكرِمْ بِعُودِه
حَوَوا على الشعر طراً ... خفيفهِ ومَديدِهْ
وفي هذه السنة: عزل الرشيد الغطريف بن عطاء، عن خراسان، وولاها حمزة
أبن مالك، بن الهيثم الخزاعي.
وفيها: ولي جعفر بن يحيى بن خالد مصر فولاها عمر بن مِهران.
وسبب ذلك: أن موسى بن عيسى كان على مصر، فبلغ الرشيد أنه عازم على
الخَلْع، فقال: واللّه لا أعزله إلا بأخسَ مَنْ على بابي. فذكر له عمر
بن مهران وكان أحول مشوه الوجه خسيس اللباس، وكان يشمر ثيابه، ويقصر
أكمامَه، ويركب بغلاً عليه رَسَنٌ ، ويُردف غلامه خلفه، فدعاه فولاه
مصر، فقال: يا أمير المؤمنين، أتولى على شرط أن يكون، إليَ إذني إذا
أصلحت البلاد انصرفت. فجعل ذلك إليه وبلغ الخبر موسى بن عيسى، فدخل عمر
دار موسى والناس عنده، فجلس في أخْريات الناس، فلما تفرق أهل المجلس
قال موسى لعمر: ألك حاجة يا شيخ؟ قال: نعم. ثم قام بالكتب، فدفعها إليه
فقال: يقدم أبو حفص. قال: فأنا أبو حفص. قال: أنت عمر بن مهران؟! قال:
نعم. قال: لعن الله فرعون حين قال: " أليس لي ملك مصر " . ثم سلّم له
العمل ورحَل، فتقدّم عمر إلى غلامه، فقال: لا تقبل من الهدايا إلا ما
يدخل في الجراب، لا تقبل دابة، ولا جارية، ولا غلاماً. فجعل الناس
يبعثون بهداياهم، فيرد الألطاف، ويقبل المال والثياب، فيأتي بها عمر،
فيكتب عليها أسماء مَنْ بعث بها، ثم وضع الجباية. وكان قوم قد اعتادوا
المطل وكسر الخراج، فبدأ برجل منهم فلواه، فقال: والله لا تؤدي ما عليك
من، الخراج إلا في بيت المال، بمدينة السلام بغداد. فأشخصه مع رجلين،
وكتب إلى الرشيد بالحال، وأخبره أنه قد خلف. فلم يلوه بعدها أحدٌ من
الخراج بشيء، واستأدى النَجم الأول، والثاني، فلما كان في الثالث وقعت
مماطلة فأحضر أهل الخراج فشكوا الضَيقة، فأمر بإحضار تلك الهدايا
فأجزاها عن أهلها، ثم انصرف عن البلد.
وحكى أبو بكر الصولي أن الرشيد بايع في سنة ست وسبعين ومائة، لابنه عبد
اللّه بالعهد بعد الأمين، وسمَاه: المأمون، وولاَّه المشرق كله، وكتب
بينهما كتاباً علقه في المسجد الحرام.
وفيها غزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك، فافتتح حصناً.
وفيها: حج بالناس سليمان بن المنصور.
قال أبو بكر الصولي: وفي هذه السنة حجت زبيدة فأمرت ببناءِ المصانعْ.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن صالح بن عبد الله بن عباس.
كان أمير
مصر، حكى عنه ابن وهب، وتوفي في شعبان هذه السنة.
إبراهيم بن علي، بن سلمة بن علي بن هرمة، أبو إسحاق الفهري المديني.
شاعر مفلق، فصيح مسهب مجيد، أدرك دولة الأمويين والهاشميين، وكان ممن
اشتهر بالانقطاع للطالبيين.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا الخطيب، أخبرنا الأزهري، أخبرنا أحمد
بن إبراهيم، أخبرنا إبراهيم بن عرفة قال: تحول المنصور إلى مدينة
السلام، ثم كتب إلى أهل المدينة أن يوفدوا عليه خطباءهم وشعراءهم، فكان
ممن وفد عليه إبراهيم بن هرمة، قال: فلم يكن في الدنيا خطبة أبغض إلي
من خطبة تقربني منه، واجتمع الخطباء والشعراء من كل مدينة، وعلى
المنصور ستر يرى الناس من ورائه ولا يرونه، وأبو الخصيب حاجبه قائم
يقول: يا أمير المؤمنين، هذا فلان الشاعر فيقول: أنشد، حتى كنت آخر مَن
بقي. فقال: يا أمير المؤمنين، هذا إبراهيم بن هرمة، فسمعته يقول: لا
مرحباً ولا أهلاً، ولا أنعم اللّه به عيشاً ، فقلت: إنا لله وإنا إليه
راجعون، ذهبت واللّه نفسي ثم رجعت إلى نفسي، فقلت: يا نفس هذا موقف إن
لم تشتدي فيه هلكت، فقال أبو الخصيب: أنشد. فأنشدته:
سرى ثوبه عنك الصبى المتخايل ... وقرب للبين الخليط المزايل
حتى انتهيت إلى قولي:
فأما الذي أمنته يأمن الردى ... وأما الذي حاولت بالثكل ثاكل
فقال: يا غلام، ارفع عني الستر فرفع، فإذا وجهه كأنه فلقة قمر، ثم قال:
تمم القصيدة. فلما فرغت قال: ادن. فدنوت، ثم قال: اجلس، فجلست، وبين
يديه مخصرة فقال: يا إبراهيم، قد بلغني عنك أشياء لولاها لفضلتك على
نظرائك، فأقر لي بذنوبك أعفها عنك. فقلت: هذا رجل فقيه عالم، وإنما
يريد أن يقتلني بحجة تجب عليَّ فقلت: يا أمير المؤمنين، كل ذنب بلغك
مما عفوته عني فأنا مقربه.
فتناول المخصرة فضربني بها، فقلت:
أصبر من ذي ضاغطٍ عركرك ... ألقى بواني زوره للمبرك
ثم ثنى فضربني، فقلت:
أصبر من عَوْب بجنبيه جلب ... قد أثر البطان فيه والحقب
فقال: قد أمرت لك بعشرة آلاف درهم، وألحقتك بنظرائك من طريح بن
إسماعيل، ورؤبة بن العجاج ولئن بلغني عنك أمر أكرهه لأقتلنك. قلت: نعم،
وأنت في حل أو سعة، من دمي إن بلغك أمر تكرهه. قال ابن هرمة: فأتيت
المدينة. فأتاني رجل من الطالبيين، فسلّم عليَّ فقلت: تنَحّ عني لاتشيط
بدمي.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي، الخطيب، قال: أخبرنا أبو عبد
الله الحسين بن الحسن المخزومي، حدَّثنا أبو بكر الصولي، حدثنا محمد بن
زكريا الغلابي، عن أحمد بن عيسى وذكر ابن هرمة قال - وكان متصلاً بنا -
وهو القائل فينا:
ومهما ألام على حبهم ... فإني أحب بني فاطمه
بني بنت من جاءَ بالمحكما ... ت وبالدين والسنة القائمه
فلست أبالي بحبي لهم ... سواهم من النعم السائمه
فقيل له في دولة بني العباس: ألست القائل كذا. وأنشده هذه الأبيات،
فقال: أعض الله قائلها بهن أمه، فقال له من يثق به: ألست قائلها؟ قال:
بلى، ولكن أعض بهن أمي خير من أن أقتل.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا الخطيب قال: حدَّثنا أبو جعفر محمد بن علان
الوراق، حدَّثنا محمد بن أحمد بن محمد بن حماد قال: حدثنا هاشم بن محمد
بن هارون الخزاعي، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب، ابن أخي
الأصمعي، عن عمه قال: قال لي رجل من أهل الشام: قدمت المدينة فقصدت
منزل إبراهيم بن هرمة، فإذا بنية له صغيرة تلعب بالطين، فقلت لها: ما
فعل أبوك؟ قالت: وفد إلى بعض الأجواد، فما لنا به علم منذ مدة. فقلت:
انحري لنا ناقة، فإنا أضيافك. قالت: والله ما عندنا ناقة. قلت: فشاة.
قالت: والله ما عندنا. قلت: فدجاجة، قالت: والله ما عندنا. قلت:
فأعطينا بيضة. قالت: والله ما عندنا. قلت: فباطل ما قال أبوك:
كم ناقةٍ قد وجَأتُ منحرها ... بمستهل الشؤبوب أو جمل
قالت: فذاك الفعل من أبي هو الذي أصارنا إلى أن ليس عندنا شيء.
قال الأخفش: قال لنا ثعلب مرة: إن الأصمعي قال: ختم الشعر بإبراهيم بن
هرمة، وهو آخر الحجج.
الجراح بن مليح بن عدي، أبو وكيع.
ولد
بالسند، حدَّث عن أبي إسحاق السبيعي، والأعمش. وولي بيت المال ببغداد
في زمان الرشيد. وثقه يحيى بن معين، ويعقوب بن سفيان، وقال محمد بن
سعد: كان ضعيفاً في الحديث، قال الدارقطني: ليس بشيء.
توفي في هذه السنة.
سعيد بن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن جميل، أبو عبد الله المديني.
ولي القضاء ببغداد في عسكر المهدي، وزمن هارون الرشيد، وولي سبع عشرة
سنة، وحدَّث عن هشام بن عروة، وسهل بن أبي صالح. قال يحيى: هو ثقة.
توفي ببغداد في هذه السنة.
صالح بن بشير، أبو بشر القارىء، المعروف بالمري.
من أهل البصرة، كان مملوكاً لامرأة من بني مرة بن الحارث، حدث عن
الحسن، وابن سيرين، وبكر بن عبد اللّه، وثابت، روى عنه: عفان، وغيره.
وكان عبداً صالحاً، كثير الخوف، شديد البكاء، وكان يذكر ويعظ، فحضر
مجلسه سفيان الثوري فقال: هذا نذير قوم.
قال المؤلف: وقد ضعفه بعض المحدثين، والذي نراه أنه كان يخلط فيما
يروي، ولا يتعمد الخطأ.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال أخبرنا السكري،
قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الشافعي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن
الأزهر قال: حدثنا ابن الغلابي قال: حدثنا شيخ من الكُتٌاب: أن صالحاً
المري لما أرسل إليه المهدي، قدم عليه، فلما دخل عليه ودنا بحماره من
بساط المهدي أمر ابنيه - وهما وليا عهده - موسى وهارون، فقال: قوما
فأنزلا عمكما. فلما أقبلا إليه أقبل صالح علي نفسه، فقال: يا صالح لقد،
خبتَ وخَسِرْتَ، إن كنت إنما عملت لهذا اليوم.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن أعلي، الخطيب قال: أخبرني علي
بن أيوب قال: حدثنا محمد بن عمران بن موسى قال: حدثنا محمد بن أحمد
الكاتب قال: حدَّثنا الحسين بن فهم قال: حدثني أبو همام قال: حدَّثني
أبو نعيم بن عين قال: قال صالح المري: دخلت على المهدي فقلت: يا أمير
المؤمنين، احمل لله ما أكلمك به اليوم، فإن أولى الناس بالله أحملهم
لغلظة النصيحة فيه، وجدير بمن له قرابة، برسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يرث أخلاقه، ويَأتم بهَدْيه وقد ورثك الله من فهم العلم ميراثاً قطع
به عذرك، اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خصم من خالفه في أمته،
ومن كان محمد خصمه كان الله خصمه، فاعتد لمخاصمة الله، ومخاصمة رسوله
حججاً تضمن لك النجاة، أو استسلم للهلكة، واعلم أن أبطأ الضَرعى نهضة
صريع هوى يدعيه إلى الله قربة، وإن أثبت الناس قدماً يوم القيامة آخذهم
بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فمثلك لا يكاثر بتجريد
المعصية، ولكن تتمثل لك الإساءة إحساناً، ويشهد لك عليها خونة العلماء،
وبهذه الحبالة تصيدت الدنيا نظراءك، فأحسن الحلم فقد أحسنت إليك الاداء
قال: فبكى المهدي.
قال أبو همام: فأخبرني بعض الكتاب أنه رأى هذا الكلام مكتوباً في
دواوين المهدي.
عبد الملك بن محمد، بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري. مديني
قدم والياً على قضائها من قِبل الهادي، وكان عالماً بمذاهب أهل
المدينة، روى عنه: المفضل بن فضالة وغيره، وتوفي بالعراق، في هذه
السنة.
الفرج بن فضالة بن النعمان بن نعيم، أبو فضالة الحمصي التنوخي من
أنفسهم.
سكن بغداد، وكان على بيت المال بها في أول، خلافة الرشيد. حدث عن يحيى
بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وغيرهما. روى عنه: علي بن الجعد
وسريج بن يونس.
وذكر رجل من ولده أنه ولد في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان في
غزوة مسلمة الطوانة جاء الخبر بولادته يوم فتحت الطوانة، فأعلم أبوه
مسلمة فقال مسلمة: ما سميته؟ قال: سميته الفرج لما فرج الله عنا في هذا
اليوم بالفتح. فقال مسلمة لفضالة: أصبت وكان أصاب المسلمين على الطوانة
شدة شديدة. وذلك في سنة ثمان وثمانين.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، الخطيب قال:
أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى بن عبد العزيز قال: حدَّثنا علي بن محمد
بن الحسن القزويني قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: أقبل المنصور يوماً
راكباً والفرج بن فضالة جالس عند باب الذهب، فقام الناس، فدخل من الباب
ولم يقم له الفرج فاستشاط غضباً، ودعا به فقال: ما منعك من القيام حين
رأيتني؟ قال: خفت أن يسألني الله عنه لِمَ فعلت، ويسألك لِمَ رضيت؟ وقد
كرهه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. قال: فبكى المنصور وقرّبه وقضى
حوائجه.
توفي الفرج في هذه السنة وقيل: في سنة سبع وسبعين، وقد وثقه بعض
المحدثين وضعفه بعضهم.
المسيب بن زهير بن عمرو، أبو مسلم الضبي.
ولد في خلافة عمر بن عبد العزيز، وكان من رجالات الدولة العباسية، وولي
شرطة بغداد في أيام المنصور، والمهدي، والرشيد، وقد كان تولى خراسان
أيام المهدي، وتوفي في هذه السنة وهو ابن ست وسبعين سنة.
الوضاح أبو عوانة، مولى يزيد بن عطاء الواسطي.
وقال البخاري: يزيد بن عطاء، ويزيد مولى بني يشكر، وكان من سبي جرجان،
رأى الحسن، وابن سيرين، وسمع من محمد بن المنكدر، وقتادة، ومنصور ابن
المعتمر والأعمش، روى عنه: شعبة؟ وابن عليه، وابن مهدي، وكان أميناً
ثبتاً ثقة صدوقاً.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر، أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب، قال: أخبرنا أبو نعيم الحافظ قال: حدثنا محمد بن جعفر بن أحمد
بن الليث الواسطي قال: حدثنا أسلم بن سهل قال: حدثنا أحمد بن محمد بن
أبان قال: سمعت أبي يقول: اشترى عطاء بن يزيد أبا عوانة ليكون مع أبيه
يزيد، وكان لأبي عوانة صديق قاص، وكان أبو عوانه يحسن إليه، فقال
القاص: ما أدري بأي شيء أكافئه، فكان بعد ذلك لا يجلس مجلساً إلا قال
لمن حضره: ادعو الله لعطاء البزار، فإنه اعتق أبا عوانة. فكان قل مجلس
إلا ذهب إلى عطاء مَنْ يشكره، فلما كثر عليه ذلك أعتقه.
توفى أبو عوانة في هذه السنة. وقيل: في سنة خمس، وله اثنتان وثلاثون
سنة.
ثم دخلت
سنة سبعة وسبعين ومائة
فمن الحوادث فيها: أن الرشيد عزل جعفر بن يحيى عن مصر، وولأَها إسحاق
بن سليمان. وعزل حمزة بن مالك عن خراسان وولِّاها الفضل بن يحيى إلى ما
كان إليه من الأعمال. وفيها:غزا الصائفة عبد الرزاق بن عبد الحميد
التَغلبي.
وكان في ليلة الأحد لأربع بقين من المحرم ظلمة وحمرة وريح، ثم كانت
ظلمة ليلة الأربعاء لليلتين بقيتا من المحرم، ثم كانت ريح وظلمة شديدة
يوم الجمعة لليلة خلت من صفر.
وفيها: حج الرشيد بالناس.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
شريك بن عبد اللّه، أبو عبد اللّه النخعي الكوفي، القاضي أدرك عمر بن
عبد الرحمن، وسمع أبا إسحاق السبيعي، ومنصور بن المعتمر، وعبد الملك بن
عمير، وسماك بن حرب، وسلمة بن كهيل، وحبيب بن أبي ثابت، والأعمش
وخلقاًكثيراً. روى عنه: ابن المبارك، ووكيع، وابن مهدي، وغيرهم.وهومن
كبار العلماء الثقات، إلا أن قوماً قدحوا في حفظه.
أخبرنا أبو منصور، القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، الخطيب
قال: أخبرنا القاضي أبو العلاء الواسطي قال: أخبرنا محمد بن جعفر
التميمي قال: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد قال: أخبرنا وكيع قال:
أخبرني إبراهيم بن عثمان قال: حدَّثنا أبوخالد يزيد بن يحيى بن يزيد
قال: حدَثني أبي قال: مر شريك القاضي بالمستنير بن عمرو النخعي فجلس
إليه فقال: أبا عبد اللّه، منْ أدَبَك. قال: أدبتني نفسي، واللهّ ولدت
ببخارى فحملني ابن عم لنا حتى طرحني عند بني عمٍّ لي، فكنت أجلس إلى
معلم لهم فعلق بقلبي تعلم القرآن، فجئت إلى شيخهم فقلت: يا عمَّاه،
الذي كنت تجريه علي هنا أجره علي بالكوفةأعرف بها السنَّة وقومي، ففعل،
فكنت بالكوفة أضرب اللبن وأبيعه وأشتري دفاتر وطروساً، فاكتب فيها
العلم والحديث، ثم طلبت الفقه فبلغت ما ترى فقال المستنير لولده: سمعتم
قول ابن،عمكم، وقد أكثرت عليكم في الأدب ولا اراكم تفلحون فيه، فليؤدب
كل رجل منكم نفسه، فمن أحسن فلها، ومن أساء فعليها.
لما ولي القضاء اضطرب حفظه.
أخبرنا
أبو منصور قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قالى: أخبرنا أبو الفرج محمد بن
عمر الجصاص قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف قال: وجدت في
كتابناعن أبي العباس بن مسروق ما يدل حاله على السماع. قال: سمعت أبا
كريب يقول: سمعت يحيى بن يمان يقول: لما ولي شريك القضاء أكره على ذلك،
وأقعد معه جماعةمن الشرطة يحفظونه، ثم طاب للشيخ فقعد من نفسه، فبلغ
الثوري أنه قعد من نفسه. فجاء فتراءى له، فلما رأى الثوري قام إليه
فعظمه وأكرمه، ثم قال: يا أباعبدالله، هل من حاجة. قال: نعم مسألة.
قال: أو ليس عندك من العلم ما يجزيك؟ قال: أحببت أن أذاكرك بها. قال:
قل. قال: ما تقول في امرأة جاءت فجلست على باب رجل، ففتح الرجل الباب
واحتملها، ففجر بها، لمن تحد منهما؟، فقال له: دونها لأنها مغصوبة قال:
فإنه لما كان من الغد جاءت فتزينت وتبخرت، وجلست على ذلك الباب، ففتح
الرجل الباب فرأها فاحتملها ففجر بها، لمن تحدّ منهما؟ قال:
أحدهماجميعاً؟ لأنها جاءت من نفسها، وقد عرفت الخبر بالأمس. قال: أنت
كان عذرك حيث كان الشرط يحفظونك، اليوم أي عذر لك؟ قال: يا أبا عبد
اللّه، أكلمك. قال: ما كان اللّه ليراني أكلمك أوتتوب. قال: فوثب فلم
يكلمه حتى مات وكان إذا ذكره قال: أي رجل كان لولم يفسدوه
أخبرناأبومنصور، القزاز قال: أخبرنا أ أبو بكر بن ثابت الخطيب قال:
أخبرناحمزة بن محمد بن طاهرقال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم قال: حذَثنا
البغوي قال: حذَثنا أحمد بن زهيرقال: حدَثنا سليمان بن شيخ قال:
حدَّثني عبد الله بن صالح بن !مسلم قال: كان شريك على قضاء الكوفة فخرج
يلقى الخيزران، فبلغ شاهي وأبطأت الخيزران، فأقام ينتظرها ثلاثَاَ ويبس
خبزه، فجعل يبله بالماء ويأكله، فقال العلاء بن المنهال:
فإن كان الني قدقلت حقا بأنْ قدأكرهوك علىالقضاء فمالك موضعاًفي كل يوم
تلقَى من يحج من النساء
مقيم في قرى شاهي ثلاثآ بلا زاد سوى كسر وماء أخبرنا أبومنصور القزاز
قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبوالطيب الطبري قال:
أخبرنا المعافى بن زكريا قال: حدًثنا محمد بن مزيد الخزاعي
قال: حدَّثنا الزبير قال: حذَثني عمي، عن عمربن الهياج بن سعيد قال:
أتته امرأة يوماً - يعنىِ شريكاً - وهو في مجلس الحكم، فقالت: إنا
باللة ثم بالقاضي، امرأة من ولدجرير بن عبد اللة صاحب النبي صلى الله
عليه وسلم. وردَدت الكلام فقال: إيها عنك الأن من ظلمك؟ فقالت: الأمير
موسى بن عيسى، كان لي بستان على شاطىء الفرات، لىِ فيه نخل ورثته عن
آبائي، فقاسمت أخوتي وبنيت بيني وبينهم حائطاً، وجعلت فيه فارسياً في
بيت يحفظ النخل، ويقوم ببستاني، فاشترى الأمير موسى بن عيسى من أخوتي
جميعاً، وساومنىِ وأرغبني فلم أبعه، فلما كان في هذه الليلة بعث
بخمسمائة فاعل فاقتلعواالحائط، فاصبحت لا أعرف من نخلي شيئا، واختلط
بنخل أخوتي، فقال: يا كلام طينه بختم، ثم قال لها: امضىِ إلى بابه حتى
يحضر معك. فجاءت المرأة بالطينهَ فأخذهاالحاجب ودخل بها إلى موسى فقال:
أعدى شريك عليك، فقال: ادع لي صاحب الشرط. فدعا به، فقال: امض إلى
شريك، فقل يا سبحان الله، ما رأيت أعجب من أمرك امرأة ادعت دعوى لم تصح
أعديتها علي قال: يقول له صاحب الشرط،إن رأى الأمير أن يعفيني فليفعل،
فقال: امض ويلك. فخرج فأمرغلمانه أن يتقدموا إلىالحبس بفراش وغيره من
آلة الحبس، فلما جاء وقف بين يدي شريك فأدىالرسالة؟ قال: خذ بيده فضعه
في الحبس. قال: قد عرفت والله إنك تفعل بي هذا،فقدمت ما يصلحني إلى
الحبس، وبلغ موسى بن عيسى الخبر، فوجَّه الحاجب إليه فقال: هذا رسول،
أي شيء عليه؟ فلما وقف بين يديه وأدىالرسالة قال: ألحقه بصاحبه فحبس.
فلما صلى
الأمير العصر بعث إلى إسحاق بن الصباح الأشعثي وجماعة من وجوه الكوفة
من أصدقاء شريك. فقال: امضوا إليه وأبلغوه سلامي، وأعلموه أنه قد استخف
بي وإني لست كالعامة، فمضوا وهوجالس في مسجده بعد العصر، فدخلوا عليه
فأبلغوه الرسالة، فلما انقضى كلامهم قال لهم: ما لي لا أراكم جئتم في
غيره من الناس فكلمتموني؟ من هاهنا من فتيان الحي؟ فليأخذكل واحد منكم
بيد رجل، فيذهب به إلى الحبس لا ينم والله إلا فيه. قالوا: أجاد أنت؟
قال: حقأ حتى لا تعودوابرسالة ظالمِ. فحبسهم فركب موسى بن عيسى في
الليل إلى باب الحبس، فأطلقهم جميعاَ. فلما كان من الغد وجلس شريك
للقضاء، جاء السجان فأخبره فدعا بالقمطر فختمه، ووجه به إلى منزله، ثم
قال لغلامه ألحقني بثقلي إلى بغداد، فواللّه ما طلبنا هذاالأمر منهم،
ولكن أكرهونا عليه، ولقد ضمنوا لنا الاعزاز فيه إذ أقد، تقلدناه لهم،
ومضى نحو قنطرة الكوفة إلى بغداد.
وبلغ موسى بن عيسى الخبر، فركب في موكبه فلحقه وجعل يناشده الله ويقول:
يا أبا عبد الله تثبت، انظر اخوانك تحبسهم دع أعواني. قال: نعم لأنهم
مشوا لك في أمر لم يجب عليهم المشي فيه، ولست ببارح أو يردوا جميعاً
إلى الحبس وإلا مضيت إلى أمير المؤمنين فاستعفيته مما قلَّدني. فأمر
بردّهم جميعاً إلى الحبس، وهو والله واقف مكانه حتى جاءه السجان فقال
له: قد رجعوا إلى الحبس. فقال لأعوانه: خذوا بلجامه، فردوه بين يدي إلى
مجلس الحكم فمروا به بين يديه حتى أدخل المسجد وجلس مجلس القضاء، ثم
قال: علي بالجويرية المتظلمة من هذا، فجاءت فقال: هذا خصمك قد حِضر،
وهوجالس معها بين يديه، فقال: أولئك يخرجون من الحبس قبل كل شيء. قال:
أما الآن فنعم، أخرجوهم. ثم قال له: ما تقول فيما تدعيه هذه المرأة،
قال: صدقت. قال: فرد جميع ما أخذ منها وتبني حائطها في وقت واحد سريعاً
كما هدم. قال: أفعل. قال: بقي لك شيء. قال: تقول المرأة بيت الفارسي
ومتاعه. قال: يقول موسى بن عيسى: ونرد ذلك جميعه، بقي لك شيء تدعينه؟
قالت: لا، وجزاك الله خيراً. قال: قومي، ثم وثب من مجلسه، فأخذ بيد
موسى بن عيسى، فأجلسه في مجلسه، ثم قال: السلام عليك أيها الأمير تأمر
بشيء؟ قال: أي شيءآمر؟ وضحك.
أخبرنا القزاز قال أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرنا العتيقي قال:
أخبرنا محمد بن العباس قال: حدَّثنا محمد بن خلف قال: أخبرني أحمد بن
عثمان بن حكيم قال: أخبرني أبي قال: كان شريك القاضي لا يجلس حتى يتغدى
ثم يأتي المسجد فيصلي ركعتين، ثم يخرج رقعة من قمطرة فينظر فيها، ثم
يدعو بالخصوم، وإنما كان يقدمهم الأول فالأول، فقيل لابن شريك: نحب أن
نعلم ما في هذه الرقعة؟ فنظر فيها ثم أخرجها إلينا، فإذا فيها: يا شريك
بن عبد الله أذكر الصراط وحدته، يا شريك بن عبد الله، اذكر الموقف بين
يدي الله تعالى.
توفي شريك بالكوفة يوم السبت غرة ذي القعدة من هذه السنة رحمه الله
تعالى.
ثم دخلت
سنة ثمان وسبعين ومائة
فمن الحوادث فيها: وثوب الحوْفيَّة بمصر بعامل الرشيد عليهم إسحاق بن
سليمان، وقتالهم إيَّاه وتوجيه الرشيد إليه هرثمة بن أعين في عدة من
القوَّاد مدداً له، حتى أذعن أهل الحَوْف، ودخلوا في الطاعة، وأدوْا ما
كان عليهم من وظائف السلطان، وكان هرثمة إذ ذاك والي فلسطين، فلما
انقضى أمر الحَوْفية صرف هارون إسحاق عن مصر، وولاها هرثمة نحواً من
شهر، ثم صرفه عنها ولاها عبد الملك بن صالح.
وفيها: كان وثوب أهل إفريقية بعبدويه الأنباريّ ومَنْ معه من الجند
هنالك، فقتلوا الفضل بن روح بن حاتم، وأخرج مَنْ كان بها من آل المهلب،
فوجه الرشيد إليهم هرثمة فرجعوا إلى الطاعة، وكان عبدويه قد غلب على
إفريقية، وخلع السلطان فتلطف الأمير يحيى بن خالد، وكاتبه بالترغيب في
الطاعة والترهيب والتجريد للمعصية، فقبل الأمان، وعاد إلى الطاعة، فولي
له يحيى .
وفيها: فوض الرشيد أمورَه إلى يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها: خرج الوليد بن طريق الشاري بالجزيرة فقتل إبراهيم بن خازم بن
خزيمة بنصيبين، ثم مضى إلى إرمينية .
وفي هذه
السنة: شخص الفضل بن يحيى إلى خُراسان والياً عليها، فأحسن السِّيرة
بها، وبنى المساجد والرّباطات، وغزا ما وراء النهر، واتخذ بخُراسان
جنداً من العجم يبلغ عددهم خمس مائة ألف، وسماهم العباسيّة، وقدم بغداد
منهم عشرون ألفاً فسمُّوا ببغداد الكرَنبية .
وفيها: غزا الصائفة معاوية بن زُفر بن عاصم، وغزا الشَّاتية سليمان بن
راشد .
وفيها: حج بالناس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، وهو إذ ذاك العامل
على مكة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
عبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أبو طاهر
الأنصاري المدني قدم بغداد فحدَّث بها، وروى عنه: سريج بن النعمان وكان
ثقة جليلاً، من أهل العلم والسنَة والحديث، وولاه الرشيد القضاء
بالجانب الشرقي من بغداد، فمكث أياماً ثم مات، فصلى عليه هارون ودفنه
في مقبرة العباسة بنت المهدي، وقيل: توفي في سنة ست وسبعين ومائة.
عبثر بن القاسم، أبو زبيد الكوفي.
سمع أبا إسحاق الشيباني، وسليمان التيمي، والأعمش، والثوري، روى عن
قتيبة، وكان ثقة صدوقاً توفي في هذه السنة.؟؟؟
ثم دخلت
سنة تسع وسبعين ومائة
فمن الحوادث فيها: انصراف الفضل بن يحيى عن خراسان، واستخلافُه عليها
عمرو بن شُرَحبيل.
وفيها: ولى الرشيد خُراسان منصور بن يزيد بن منصور الحميري، وعزل محمد
بن خالد بن برمك عن الحجبة، وولاها الفضل بن الربيع.
وفيها: خرج بخُراسان حمزة بن أترك السجستاني.
وفيها: رجع الوليد بن طريف الشاري إلى الجزيرة، واشتدت شوكته، وكثر
تبعه، فوجه الرشيد إليه يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني، فراوغه يزيد،
ولقيه على غرة فقتله وجماعة ممن، معه وتفرَّق الباقون،.
واعتمر الرشيد في هذه السنة في رمضان شكراً لله تعالى، على، ما أنعم به
عليه في الوليد بن طريف، فلما قضى عمرته انصرف إلى المدينة فأقام بها
إلى وقت الحج، ثم حج بالناس، فمضى من مكة إلى منى، ثم إلى عرفات وشهد
مشاهدها والمشاعر ماشياً، ثم انصرف على طريق البصرة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة، أبو هاشم الحميري يُلَقب: السيد،
كان شاعراً مجيداً، لكنه أفرط في سب الصحابة، وقذف أزواج رسول اللّه
صلى الله عليه وسلم ، وكان يقول بإمامة محمد بن الحنفية، ويقول: إنه
مقيم بجبل رضوى، وإنه لم يمت. ومن شعره في ذلك:
ألا قل للوصي فدتك نفسي ... أطلت بذلك الجبل المقاما
أضر بمعشرٍ والوك منّا ... وسموك الخليفة والإماما
وعادوا فيك أهل الأرض طرًا ... مقامك فيهم ستين عاما
وما ذَاقَ ابن خولة طعم موت ... ولا وارت لنا أرض عظاما
لقد أمسى بمُورَقِ شعبَِرضْوَى ... تراجعه الملائكة الكلاما
هدانا اللّه إذ حرتم لأمرٍ ... به وارثه يلتمس التماما
تمام مَودَةِ المهدي حتى ... تروا آياتنا تترى نظاما
وكان الحميري يشرب الخمر، ويقول بالرجعة، فقال لرجل: تعطيني ديناراً
بمائة دينار إلى الرجعة؟ فقال: نعم، إن وثقت لي بمن يضمن لي أنك ترجع
إنساناً وإنما أخشى أن ترجع كلباً أو خنزيراً فيذهب مالي قال: الأصمعي
لما سمع شعره: قاتله الله، ما أطبعه وأسلكه طريق الشعراء، والله لولا
ما في شعره من سب السلف ما قدمت عليه من طبقته أحداً.
وذكر القاضي أبو بكر محمد بن الطيب قال: كان السيد الحميري يزعم أن
جهنم بحضرَموْتَ وبوادي بَرْهَوت.
وقال في أبي بكر وعمر رضي اللهّ عنهما يصف عداءهما عنده:
أمست عظامهما بطيبة للبلَى ... وبحضرموت شرها روحاهما
وقال في ذم سيدتنا عائشة رضي الله عنها:
أعائشَ إنك في المحدثات ... وفي المحدثين بوادي اليمن
بِبرهُوت تسقين من مائها ... شراباً كريهاً شديد الأسَنْ
قال: وكان شديد اللهج بسب سيدتنا عائشة وسيدتنا حفصة رضي الله عنهما،
وقال في ذلك:
جاءَت مع الأشقين في هودج ... تُزْجي إلى البصرة أجنادها
كأنها في فعلها حيَّةٌ ... تريد أن َتأكل أولادها
قال: وكان
يقصد قذف حُرَم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالعظائم.
ذكر أبو الفرج الأصفهاني أنه قال يعني في، عائشة وحفصة:
أحداهما نمَت عليه حديثه ... وبغت عليه بغية إحداهما
فهما اللتان سمعت رب محمد ... في الذكر قصّ على العباد نباهما
قال المصنف: وإنما يذكر العلماء ذلك لتعرف هذا اللعين وغَورَهُ في
الكفر.
واختلفوا أين مات لعنه اللّه، فقيل: بواسط، أخذه كرب فجلس قبل موته
فقال: اللهم هذا كان جزائي لحُب آل محمد، فمات فلم يدفنوه لكفره وسبّه
الصحابة رضي الله عنهم.
وقيل: بل توفي ببغداد، واسود وجهه قبل موته، فأفاق من سكرته وفتح عينيه
وقال: يا أمير المؤمنين، تفعل هذا لوليك؟ قالها ثلاث مرات ومات، فدفن
بالحديثة ببغداد وذلك في خلافة الرشيد.
حماد بن زيد بن إبراهيم، أبو إسماعيل.
كان من كبار العلماء وسادات الفقهاء، أسند عن خلق كثير من التابعين.
وتوفي في رمضان هذه السنة وهو ابن إحدى وثمانين سنة.
قال ابن مهدي: ما رأيت أعرف بالسنة منه.
وقال يزيد بن زريع يوم موته: مات سيد المسلمين.
خالد بن عبد اللّه بن عبد الرحمن، أبو الهيثم. وقيل: أبو أحمد الطحان،
مولى مزينة .
من أهل واسط، ولد سنة عشر ومائة، وسمع يونس بن عبيد، وابن عون،
وغيرهما. روى عنه: وكيع، وابن مهدي، وعفان بن مسدد، وكان ثقة صالحاً.
قال إسحاق الأزرق: ما أدركت أفضل من خالد. قيل: قد رأيت سفيان فقال:
كان سفيان رجل نفسه، وكان خالد رجل عامة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
حدَّثنا أبو نعيم الحافظ قال: سمعت الطبراني يقول: سمعت عبد الله بن
أحمد بن حنبل يقول: قال أبي: كان خالد بن عبد الله الواسطي من أفاضل
المسلمين اشترى نفسه من اللّه أربع مرات فتصدق بوزن نفسه فضة أربع
مرات.
توفي في رجب هذه السنة، وقيل: في سنة اثنتين وثمانينن رحمه الله تعالى.
الإمام مالك بن أنس بن مالك بن عامر بن الحارث بن غَيْمان بالغين
المعجمة بعدها ياء مثناة من تحتها - بن جُثَيل - بالجيم بعدها ثاء
مثلثة - بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح.
حُمِل بمالك ثلاث سنين، وكان طوالاً عظيم الهامة، أصلع شديد البياض إلى
الشقرة، أبيض الرأس واللحية.
رأى خلقاً من التابعين، وروى عنهم، وكان ثقة حجة، يلبس الثياب العدنية
الجياد، وكان نقش خاتمه حسبي الله ونعم الوكيل فقيل له: لِم نقشت هذا؟
فقال: سمعت الله يقول عقب هذه الآية " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم
يمسسهم سُوْء " وكان إذا دخل بيته فأدخل رجله قال: ما شاء الله، وقال:
سمعت الله يقول: " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ماشاء اللّه " أخبرنا محمد
بن ناصر قال: أخبرنا أبو سهل بن سعدويه قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن
الفضل القرشي قال: أخبرنا أبو بكر بن مردويه قال: حدَّثنا سليمان بن
أحمد قال: حدثنا مسعدة بن أسعد العطار قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر
قال: سمعت معن بن عيسى يقول: كان مالك بن أنس إذا أراد أن يحدث بحديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل وتَبخر وتطيب، فإذا رفع أحد صوتَه
عنده قال: اغضض من صوتك فإن اللهّ عز وجل يقول: " يا أيها الذين آمنوا
لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " فمن رفع صوته عند حديث النبي صلى
الله عليه وسلم فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم
.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم ، أخبرنا حمد بن أحمد الحداد، أخبرنا أبو
نعيم الحافظ، حدثنا محمد بن علي بن عاصم قال: سمعت الفضل بن محمد
الجندي يقول: سمعت أبا مصعب يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: ما أفتيت حتى
شهد لي سبعون أني أهل لذلك.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي ابن سليمان قال: أخبرنا أحمد بن أحمد قال:
أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني الحافظ قال: حدثنا أبو محمد بن حيان قال:
حدَّثنا أبو محمد بن أحمد بن عمرو قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن كليب
قال: حدثني أبو طالب، عن أبي عبيدة قال: سمعت ابن مهدي يقول: سأل رجل
مالكاً عن مسألة فقال: لا أحسنها. فقال الرجل: إني ضربت إليك من كذا
وكذا لأسألك عنها. فقال له مالك ابن أنس: إذا رجعت إلى مكانك وموضعك
فأخبرهم إني قد قلت لك لا أحسنها.
أخبرنا
زاهر بن طاهر قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي قال: أخبرنا
أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم قال: حدثنا أبو الحسين، محمد بن
يحيى العلوي قال: حدَثنا أبو علي الغطريف قال: حدَّثنا أبو إسماعيل
الترمذي ، حدثنا نعيم بن حماد قال: سمعت ابن المبارك يقول: ما رأيت
رجلاً ارتفع مثل مالك بن أنس من رجل ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن
تكون له سريرة عند الله.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية
قال: أخبرنا أبو أيوب الجلاب، أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدَّثنا
محمد بن سعد قال: حدَّثنا محمد بن عمر قال: لما دُعي مالك وسُور وسُمع
منه شَنِف الناس له وحسدوه، فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا به
إليه، وقالوا: إنه لا يرى أيمان بيعتكم بشيء، وهو يأخذ بحديث رواه عن
ثابت عن الأحنف، في طلاق المكره أنه لا يجوز، فغضب جعفر بن سليمان،
فدعا بمالك، فاحتج عليه بما رُقي إليه، ثم جرده ومدَّه وضربه بالسياط،
ومُدت يده حتى انخلع كتفاه، وارتُكب منه أمر عظيم، فو الله ما زال
بمالك بعد ذلك من رفعة عند الناس، وكأنما كانت، تلك السياط حُلياً
حُليَ بها .
وكان يشهد الصلوات والجنائز والجمعة ، ويعود المرضى، ويجلس في المسجد،
ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد، وكان يصلىِ ثم ينصرف
وترك شهود الجنائز، وكان يأتي أهلها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله فلم يكن
يشهد الصلوات في مسجد ولا الجمعة، ولا يأتي أحداً يُعزيه، واحتمل الناس
له ذلك، ومات على ذلك وربما كُلم في ذلك فيقول: ليس كل الناس يقدر
يتكلم بعذره.
ومنذ خرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة لزم مالك بيته فلم يخرج حتى
قتل محمد، وكان يجلس في منزله على ضجاع له ونمارق مطروحة يمنة ويسرة في
سائر البيت لمن يأتيه من قريش والأنصار، وكان مجلسه مجلس وقار وحلم،
وكان نبيَلاً مهيباً لايستفهم هيبة .
قال محمد بن سعد: وحدثنا ابن أبي أويس قال اشتكى مالك أياماً يسيرة،
فسألت بعض أهلنا عما قال عند الموت، فقال: تشهد ثم قال: " لله الأمر من
قبل ومن بعد " .
وتوفي في صبيحة أربعة عشر من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة، في
خلافة هارون، وصلى عليه والي المدينة عبد الله بن محمد بن إبراهيم،
ودفن بالبقيع وهو ابن خمس وثمانين سنة، وقيل: توفي في صفر من هذه السنة
رضي الله عنه.
ثم دخلت
سنة ثمانين ومائة
فمن الحوادث فيها: عود الفتنة بالشام، فاقتتل أهلها، وتفاقم الأمر،
فاغتم بذلك الرشيد، وعقد لجعفر بن يحيى على الشام، وقال له: إما أن
تخرج أنت أو أنا. فقال له جعفر: بل أقيك بنفسي فشخص في جلة القَواد
والكراعِ والسلاح، وأتاهم فأصلح بينهم، وقتل المناصفية منهم ولم يدع
بها رمحاً ولا فرساً، فعادوا إلى الأمن والطمأنينة، وانطفأت تلك
الثائرة، وولى جعفر بن يحيى صالح بن سليمان البلقاء وما يليها، واستخلف
على الشام عيسى بن العتكيّ، وانصرف فازداد الرشيد له إكراماً، فلما قدم
دخل على الرشيد فقبل يديه ورجليه، وقال: الحمد لله الذي آنس وحشتي
وأنسأ في أجلي حتى أراني وجه سيدي وأكرمني بقربه، وردني إلى خدمته، فو
الله إن كنت لأذكر غيبتي، والمقادير التي أزعجتني، فأعلم أنها كانت
بمعاصٍ لحقتني، ولو طال مقامي لخفت أن يذهب عقلي إشفاقاً على قربك
وأسفاً على فراقك .
وفي هذه السنة: كانتَ زلزلة بمصر ونواحيها، وسقطت رأس منارة الإسكندرية
فيها.
وفيها: أخذ الرشيد من جعفر بن يحيى الخاتم، فدفعه إلى أبيه يحيى بن
خالد .
وفيها: ولى جعفر بن يحيى خُراسان وسجستان، فاستعمل جعفر عليها محمد بن
الحسن بن عطية .
وفيها: شخص الرشيد من مدينة السلام يريد الرّقة على طريق الموصل، فلما
نزل البَردان، ولّى عيسى بن جعفر خراسان، وعزل عنها جعفر بن يحيى،
وكانت ولاية جعفر إياها عشرين ليلة .
وفيها: ولى جعفر بن يحيى الحرس .
وفيها: هدم الرشيد سور الموصل بسبب الخوارج الذين خرجوا منها، ثم مضى
إلى الرّقة فنزلها، فاتخذها وطناً .
وفيها: عزل هَرْثمة بن أعين عن إفريقية وأقفله إلى مدينة السلام
فاستخلف جعفر بن يحيى على الحرَس.
وفيها: خرج خُراشة الشيباني وشَرِيَ بالجزيرة فقتله مسلم بن بكار بن
مسلم العقيلي.
وفيها:
خرجت المحمرة بجرحان، وكتب طي بن موسى بن هامان أن الذي يهيج ذلك عليه
عمرو بن محمد العمركي، وأنَه زنديق، فأمر الرشيد بقتله، فقُتل بمَرْو.
وفيها: عَزَل الرشيد الفضل بن يحيى عن طبرستان والرّويان، وولَّى ذلك
عبد الله بن حازم. وعزلَ الفضل أيضاً عن الري، ووليَها محمد بن يحيى بن
الحارث، وولى سعيد بن مسلم الجزيرة .
وفيها : غزا الصائفة معاوية بن زفر بن عاصم .
وفيها: قدم الرشيد من مكة إلى البصرة في المحرَم فنزل المحمدية أياماً،
ثم تحوّل منها إلى قصر عيسى بالحربية، وشخص عن البصرة لاثنتي عشرة ليلة
بقيت من المحرم، فقدم بغداد، ثم شخص منها، إلى الحيرة فسكنها، وابتنى
بها المنازل، وأقطع مَنْ معه الخطط، وأقام بها نحواً من أربعين يوماً،
فوثب أهل الكوفة وأساءوا مجاورته، فارتحل إلى مدينة السلام، ثم شخص إلى
الرقة، فاستخلف ببغداد الأمين، وولاه العراق .
وحج بالناس في هذه السنة: موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير، أبو إبراهيم الأنصاري .
مولى بني زريق، قارىء مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعِ عبد
الله بن دينار، وشريك بن عبد الله، ومالك بن أنس، وغيرهم. وكان ثقة
مأموناً. فأقام ببغداد يؤدب علي بن المهدي إلى أن توفي في هذه السنة.
علي بن المهدي، أبو محمد الهاشمي، وأمه ريطة بنت أبي العباس.
تولى أمور الحج وإمارة الموسم غير مرة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي، أنبأنا إبراهيم بن
مخلد قال: أخبرنا إسماعيل بن علي الخطبي قال: توفي أبو محمد علي ابن
أمير المؤمنين المهدي في المحرم من سنة ثمانين ومائة في بستانه
بعيساباذ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة؟ لأن مولده بالري سنة سبع وأربعين
ومائة وهو أسن من أخيه الرشيد بشهور.
حَسَان بن سنان بن أوفى بن عوف، أبو العلاء التنوخي الأنباري.
ولد سنة ستين من الهجرة على النصرانية، وكانت دينه ودين آبائه ثم أسلم،
وحسن إسلامه، وكان يكتب بالعربية والفارسية والسريانية، ولحق الدولتين،
فلما قلده السفاح ربيعة الرأي القضاء بالأنبار أتى مكتوب بالفارسية،
فلم يحسن أن يقرأه، فطلب رجلاً ثقة ديناً يحسن قراءته، فدلَ على حسان
فجاء به، فكان يقرأ له الكتب بالفارسية، فلما اختبره ورضي مذاهبه
استكتبه، وكان جد إسحاق البهلول، وسمع أنس بن مالك، ودعا له، فخرج من
أولاده جماعة: فقهاء، وقضاة، ورؤساء، وصلحاء، وكتاب، وزهاد. وروى عنه:
ابن أبي إسحاق.
وتوفي في هذه السنة، وهو ابن مائة وعشرين سنة.
سلمة بن صالح، أبو إسحاق الجعفي الأحمر الكوفي.
حدَث عن أبي إسحاق، وحماد بن أبي سليمان. روى عنه: أحمد بن منيع، وكان
قد ولي القضاء بواسط في زمن الرشيد ثم عزل وقدم بغداد فأقام بها إلى أن
مات.
وكان سبب عزله عن واسط: أن هشيم بن بشير تقدم مع خصم له إليه، فكلّم
الخصم هشيماً بكلمة، فرفع هشيم يده، فلطم الخصم، فأمر سلمة بهشيم فضرب
عشر درر وقال: تتعدى على خصمك بحضرتي؟ فأغضب ذلك مشيخة واسط، فخرجوا
إلى الرشيد، فلقوه بمكة يطوف، فكلموه في سلمة وقالوا: لسنا نطعن عليه،
ولكن رجل موضع رجل. فأمر بعزله وتقليد سواه.
أخبرنا
أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت، أخبرنا محمد بن عمر بن روح،
أخبرنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا طاهر بن مسلم العبدي قال: حدثني محمد
بن عمران الضبي، حدثنا محمد بن خلاس قال: لما عزل شريك عن القضاء تعلق
به رجل ببغداد فقال: ِيا أبا عبد الله، لي عليك ثلاثمائة درهم
فأعطنيها. قال: ومن أنا؟ قال: أنت شريك بن عبد الله القاضي. قال: ومن
أين هي لك؟ قال: ثمن هذا البغل الذي تحتك. قال: نعم، تعال. فجاء يمشي
معه، حتى إذا بلغ الجسر قال: مَنْ ها هنا؟ فقام إليه أولئك الشرط،
فقال: خذوا هذا فاحبسوه، لئن أطلقتموه لأخبرن أبا العباس عبد الله بن
مالك. فقالوا: إن هذا الرجل يتعلق بالقاضي إذا عزل، فيدعي عليه فيفتدي
منه، قد تعلق بسلمة الأحمر حين عُزل عن واسط، فأخذ منه أربعمائة درهم،
فقال: هكذا؟ فكلم فيه، فأبى أن يطلقه، فقال له عبد الله بن مالك: إلى
كم يحبس؟ قال: إلى أن يرد على سلمة الأحمر أربعمائة درهم. قال: فرد على
سلمة الأحمر أربعمائة درهم، فجاء سلمة إلى شُريك فشكر له، فقال له: يا
ضعيف كل مَنْ سألك مالك أعطيته إياه.
اضطرب على سلمة حفظه فضغَفه أصحاب الحديث، وتوفي ببغداد في هذه السنة.
وقيل: في سنة ست وثمانين. وقيِل: سنة ثمان وثمانين.
الضحاك بن عثمان بن عبد اللّه بن خالد بن حزام.
كان علامة قريش بالمدينة بأخبارها، وأشعارها، وأيامها، وكان من أكبر
أصحاب مالك بن أنس هو وأبوه، ولما استعمل عبد الله بن مصعب بن ثابت على
اليمن وجَّه الضحاك خليفة له عليها، وفرض له كل سنة ألف دينار، وكلم له
الخليفة فأعطاه أربعين ألف درهم، وكان محمود السيرة.
وتوفي بمكة عند منصرفه من اليمن يوم التروية من هذه السنة.
عباد بن عباد بن حبيب بن المهلب بن أي صفرة، أبو معاوية البصري .
سمع هشام بن عروة. وروى عنه: أحمد بن حنبل، وأبو عبيد، وكان ثقة
صدوقاً، غزير العقل، ذا هيْئَةٍ حسنة.
وتوفي في هذه السنة. وقيل: سنة إحدى وثمانين.
عبد الوارث بن سعيد، أبو عبيدة التميمي، مولى بني العنبر .
شهد له شعبة بالإتقان. وتوفي في هذه السنة.
عافية بن يزيد بن قيس القاضي.
ولاه المهدي القضاء ببغداد في الجانب الشرقي، وحدث عن محمد بن عبد
الرحمن بن أبي ليلى، والأعمش، وغيرهما. وكان من أصحاب أبي حنيفة الذين
يجالسونه، فكان أصحابه يخوضون في مسألة فإن لم يحضر عافية قال أبو
حنيفة: لا ترفعوا المسألة حتى يحضر عافية، فإذا حضر، فإن وافقهم قال
أبو حنيفة: أثبتوها، وإن لم يوافقهم قال أبو حنيفة: لا تثبتوها " .
وكان عافية هو وابن علاثة فكانا يقضيان في عسكر المهدي في جامع
الرصافة، هذا في أدناه وهذا في أعلاه .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا علي بن المحسن القاضي قال: أخبرنا أبي قال: حدَّثنا أبو الحسين
علي بن هشام الكاتب قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن سعد مولى بني هاشم
قال: حدَّثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، عن أشياخه قال: كان عافية
القاضي يتقلد للمهدي القضاء، وكان عافية عالماً زاهداً، فصار إلى
المهدي في وقت الظهر في يوم من الأيام وهو خال، فاستأذن عليه فأدخله،
فإذا معه قمطرة فاستعفاه من القضاء واستأذنه في تسليم القمطر إلى من
يأمر بذلك، فظن أن بعض الولاة قد غض منه، أو أضعف يده في الحكم، فقال
له في ذلك، فقال له: ما جرى من هذا شيء، قال: فما كان سبب استعفائك؟
قال: كان يتقدم إلي خصمان موسران وجيهان منذ شهرين في قضية معضلة
مشكلة، وكل يدعى بينة وشهوداً، ويدلي بحجج تحتاج إلى تأمل وتثبت، فرددت
الخصوم رجاء أن يصطلحوا أو يتبين لي وجه فصل ما بينهما. قال: فوقف
أحدهما من خبري على أني أحب الرطب السكر، فعمد في وقتنا وهو أول أوقات
الرطب إلى أن جمع لي رطباً سكراً لا يتهيأ في وقتنا جمع مثله إلا لأمير
المؤمنين، وما رأيت أحسن منه ورشا بوابي جملة دراهم على أن يدخل الطبق
إلي ولا يبالىِ أن يرد، فلما دخل إلي أنكرت ذلك وطردت بوابي وأمرت برد
الطبق، فلما كان اليوم تقدم إلي مع خصمه فما تساويا في قلبي ولا في
عيني، وهذا يا أمير المؤمنين ولم أقبل فكيف يكون حالي لو قبلت، ولا آمن
أن تقع علي حيلة في ديني فأهلك، وقد فسد الناس. فأقلني أقالك الله
وأعفني، فأعفاه.
أخبرنا
عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي، الخطيب. قال: أخبرنا محمد بن
الحسين القطان، أخبرنا محمد بن الحسن بن زياد المقرىء إن داود بن وسيم
البوشنجي أخبرهم قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله، عن عمه عبد الملك
بن قريب الأصمعي: أنه قال: كنت عند الرشيد يوماً، فرفع إليه في قاض
يقال له: عافية، فكبر عليه، فأمر بإحضاره، فاحضر، وكان في المجلس جمع
كبير، فجعل أمير المؤمنين يخاطبه ويوقفه على ما رفع إليه، وطال المجلس،
ثم إن أمير المؤمنين عطس فشمته مَن كان بالحضرة ممن قرب منه سواه، فإنه
لم يشمته، فقال له الرشيد: ما بالك لم تشمتني كما فعل القوم؟ فقال له
عافية لأنك، يا أمير المؤمنين لم تحمد الله، فلذلك لم أشمتك، هذا النبي
صلى الله عليه وسلم عطس عنده رجلان فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر، فقال
يا رسول الله، ما بك شمت ذلك ولم تشمتني. قال: " لأن هذا حمد الله
فشمتناه وأنت لم تحمده فلم أشمتك " . فقال له الرشيد: ارجع إلى عملك،
فأنت لم تسامح في عطسة تسامح في غيرها؟ وصرفه منصرفاً جميلاً وزبر
القوم الذين كانوا رفعوا عليه .
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي، الخطيب قال: أخبرنا القاضي
أبو العلاء محمد بن علي بن يعقوب قال: أخبرنا علي بن محمد بن إبراهيم
الرياحي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال: أخبرنا أبو العباس
المنصور، عن ابن الأعرابي قال: خاصم أبو دلامة رجلاً إلى عافية فقال:
لقد خاصمتني غواةُ الرجا ... ل وخاصمتهم سنة وافيه
فما دَحَض الله لي حجةً ... وماخيب الله لي قافيه
فمن كنتُ من جوره خائفاً ... فلست أخافك يا عافيه
فقال له عافية: لأشكونَّك إلى أمير المؤمنين. قال: لِمَ تشكوني؟ قال:
لأنك هجوتني قال: والله لئن شكوتني ليعزلنك. قال: ولم؟ قال: لأنك لم
تعرف الهجاء من المديح.
عمرو بن عثمان بن قنبر، أبو بشر، المعروف بسيبويه النحوي، مولى بني
الحارث بن كعب. وقيل: مولى آل الربيع بن زياد .
وتفسير سيبويه: رائحة التفاح، وكانت والدته ترقصه في الصغر بذلك.
قال إبراهيم الحربي: سُمي سيبويه لأن وجنتيه كانتا كأنهما تفاحة.
قال مؤلف الكتاب: وكان سيبويه يصحب المحدثين والفقهاء، ويطلب الآثار،
وكان يستملي على حماد بن سلمة، فلحن في حرف، فعابه حماد فأنف من ذلك،
ولزم الخليل فبرع في النحو، وقدم بغداد وناظر الكسائي.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أنبأني القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي قال: أخبرنا أبو
يعقوب يوسف بن إسماعيل النجيرمي قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد
المهلبي قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن عبد الرحمن الروذباري قال:
حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الملك التاريخي قال: حدثنا إبراهيم الحربي
قال: سمعت ابن عائشة يقول: كنا نجلس مع سيبوبه النحوي في المسجد، وكان
شاباً جميلاً نظيفاً، قد تعلق من كل علم بسبب، وضرب فيِ كل أدب بسهم مع
حداثة سنه وبراعته في النحوْ.
قال التاريخي: وحدثني ابن الأعلم قال: حدَّثنا محمد بن سلام قال: كان
سيبويه جالساً في حلقة بالبصرة، فتذاكرنا شيئاً من حديث قتادة، فذكر
حديثاً غريباً وقال: لم يرو هذا غير سعيد بن أبي العروبة. فقال له بعض
مَنْ حضر: ما هاتان الزيادتان يا أبا بشر. قال: هكذا يقال، لأن العروبة
يوم الجمعة، فمن قال عروبة فقد أخطأ، قال ابن سلام: فذكرت ذلك ليونس
فقال: أصاب، لله دره .
قال أبو سعيد السيرافي: أخذ سيبويه اللغات عن أبي الخطاب الأخفش وغيره،
وعمل كتابه الذي لم يسبقه أحد إلى مثله ولا لحق به من بعده، وكان كتابه
لشهرته عند النحويين علماً، فكان يقال بالبصرة قرأ فلان للكتاب فيعلم
أنه كتاب سيبويه، وكان المراد إذا أراد مريد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه
يقول له: هل ركبت البحر. تعظيماً له واستصعاباً لما فيه.
وقال السيرافي: لم نعلم أحداً قرأ كتاب سيبويه عليه، إنما قرىء بعده
على أبي الحسن الأخفش، ورأيت في تعاليق أبي عبد الله المرزباني: قال
ثعلب: اجتمع أربعون نفساً حتى عملوا كتاب سيبويه هو أحدهم، وهو أول
الخليل ونكته فادعاه سيبويه، وأنا أستبعد هذا لأن مثله لا يخفى، والكل
قد سلموا للرجل.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد أبن علي بن ثابت، الخطيب
قال: أخبرنا هلال بن المحسن قال: حدثنا أحمد بن محمد بن الجراح قال:
حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال: أخبرنا ابن المتوكل قال: حدثنا أبو
بكر العبدي قال: لما قدم سيبويه بغداد، فناظر سيبويه الكسائي وأصحابه،
فلم يظهر عليهم، فسأل من يبذل من الملوك ويرغب في النحو؟ فقيل له: طلحة
بن طاهر. فشخص إلى خراسان، فلما انتهى إلى ساوة مرض مرضه الذي مات فيه،
فتمثل عند الموت:
يؤمل دنيا لتبقى له ... فمات المؤمل قبل الأمل
حثيثاً يروي أصول الفسيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل
أخبرنا عبد الرحمن أبن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب،
أخبرنا عبد الله بن يحيى السكري قال: أخبرنا جعفر بن محمد بن أحمد بن
الحكم قال: أخبرنا أبو محمد؟ الحسن بن علي المتوكل قال: أخبرنا أبو
الحسن المدائني قال: قال أبو عمرو بن يزيد: احتضر سيبويه فوضع رأسه في
حجر أخيه، فأغمي عليه فدمعت عين أخيه فأفاق فرآه يبكىِ فقال:
فكنا جميعاً فرق الدهر بيننا ... إلى الأمد الأقصى فمن يأمن الدهرا؟
توفي سيبويه في هذه السنة وقيل: في التي قبلها.
قال أبو بكر الخطيب: ويقال أن سنه كانت اثنتين وثلاثين سنة.
عفيرة العابدة.
كانت طويلة الحزن، كثيرة البكاء، قدم أخ لها، فبُشرت بقدومه، فبكت،
فقيل لها هذا وقت بكاء؟ فقالت: ما أجد للسرور فيِ قلبي مسكناً مع ذكر
الآخرة، ولقد أذكرني قدومه يوم القدوم على الله فمن بين مسرور ومثبور.
أخبرنا ابن ناصر بإسناد له عن محمد بن عبيد قال: دخلنا على امرأة
بالبصرة يقال لها: عفيرة، فقيل لها: أيا عفيرة، ادعي الله لنا. فقالت:
لو خرس الخاطبون ما تكلمت عجوزكم، ولكن المحسن أمن المسيء بالدعاءِ،
جعل الله قراكم من بيتي في الجنة، وجعل الموت مني ومنكم على بال.
مسلم بن خالد بن سعيد بن خرجة، أبو خالد. ويلقب:. الزنجي.
كان فقيهاً، عابداً، يصوم الدهر.
توفي بمكة في هذه السنة، لكنه كان كثير الخلط والخطأ في حديثه.
ثم دخلت
سنة إحدى وثمانين ومائة
فمن الحوادث فيها غزو الرشيد أرض الروم، فافتتح بها عنوة حصن الصّفصاف،
فقال مروان بن أبي حفصه:
إن أمير المؤمنين المصطفى ... قد ترك الصفصاف قاعاً صَفصفاً
وفيها: غزا عبد الملك بن صالح الروم فبلغ أنقرة، وافتتح مطمورة.
وفيها: غلبت المحمرة على جرجان.
وفيها: أحدث الرشيد عند نزوله للرقة في صدور كتبه الصلاة على النبي
محمد صلى الله عليه وسلم.
وفيها: حج بالناس الرشيد، وتخلف عنه يحيى بن خالد، ثم لحقه بالعمرة،
فاضعفاه من الولاية، فأعفاه فرد إليه الخاتم، وسأله الإذن له في المقام
بمكة، فأذن له، فانصرف إليها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحسن بن قحطبة بن شبيب بن خالد بن معدان، أبو الحسن، وهو أخو حميد بن
قحطبة والحسن أحد قواد الدولة العباسية.
توفي في هذه السنة وهو ابن أربع وثمانين سنة.
خلف بن خليفة بن صاعد، أبو أحمد الأشجعي .
روى عنه: هشيم، وقتيبة، والحسن بن عرفة. وكان ثقة صدوقاً، نزل الكوفة،
ثم انتقل إلى واسط، ثم تحول إلى بغداد فأقام بها، حتى توفي في هذه
السنة وهو ابن مائة سنة وستة.
عبد اللّه بن المبارك، أبو عبد الرحمن المروزي، مولى بني حنظلة.
كان أبوه تركياً أو كان عبداً لرجل من التجار من همذان من بني حنظلة،
وكان عبد اللّه إذا قدم همذان يخضع لوالديه ويعظمهم، وكانت أمه
خوارزمية.
ولد سنة ثماني عشرة ومائة، وسمع هشام بن عروة، وإسماعيل بن أبي خالد،
والأعمش، وسليمان التيمي، وحميد الطويل، وابن عون ومالكاً، والثوري،
والأوزاعي، وغيرهم. وكان من أئمة المسلمين الموصوفين بالحفظ والفقه
والعزيمة والزهد والكرم والشجاعة. وله التصانيف الحسان، والشعر المتضمن
للزهد والحكمة، وكان من أهل الغزو والمرابطة، وكان ابن عيينة يقول:
نظرت في أمر الصحابة وأمر ابن المبارك، فما رأيت لهم عليه فضلاً إلا
بصحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا
أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي، الخطيب، أخبرنا أحمد بن عبد
الله أبو الحسين المحاملي قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد المزكي قال:
حدثنا أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي قال: حدثنا عبد المجيد بن
إبراهيم، حدثنا وهب بن زمعة قال: حدَّثنا معاذ بن خالد قال:. قال
إسماعيل بن عياش: مما على وجه الأرض مثل عبد الله بن المبارك ولا أعلم
أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها في عبد اللّه بن المبارك
ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة، فكان يطعمهم الخبيص وهو
الدهر صائم.
أخبرنا عبد الرحمن أبن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو
الطيب عبد العزيز بن علي بن محمد القرشي قال: أخبرنا عمر بن أحمد بن
هارون قال: حدَّثنا محمد بن حمدويه قال: حدَّثنا أحمد بن سعيد بن مسعود
المروزي قال: حدثنا أبو حاتم الرازي قال: سمعت عبده بن سليمان يقول:
كنا في سريَّة مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما
التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعى إلى البراز، فخرج إليه رجل فطارده
ساعة، فطعنه فقتله، ثم خرج آخر فقتله، ثم خرج آخر فقتله، ثم دعى إلى
البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فقتله، فازدحم عليه الناس، فكنت فيمن
ازدحم عليه، فإذا هو يلثم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فممدته، فإذا هو
عبد اللّه بن المبارك، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرني
أبو علي عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فضالة قال: أخبرنا أبو الفضل
محمد بن محمد بن مجاهد قال: حدثنا محمد بن جبريل قال: سمعت أبا حسان
البصري يقول: سمعت الحسن بن عرفة يقول: قال ابن المبارك: استعرت قلماً
بأرض الشام، فذهب علي أن أرده إلى صاحبه، فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو
معي، فرجعت يا أبا علي إلى أرض، الشام حتى رددته على صاحبه .
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: حدَّثني
يحيى بن علي بن الطيب الدسكري قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم
الإسماعيلي قال: أخبرنا أبو الحسين عبد الله بن إبراهيم الرازي قال:
حدَّثنا محمد بن علي الهمذاني قال: حدثنا أبو حفص عمر بن مدرك قال:
حدٌثنا القاسم بن عبد الرحمن قال: حدَّثنا أشعث بن شعبة المصيصي قال:
قدم هارون الرشيد أمير المؤمنين الرقة وقدم عبد الله بن المبارك بعده،
فانجفل الناس خلف عبد اللّه بن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت
الغبرة، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب، فلما رأت
الناس قالت: ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خُراسان قدم الرقة يقال له:
عبد اللهّ بن المبارك . فقالت: هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا
يجمع الناس إلا بسوط وأعوان.
أخبرنا زاهر بن طاهر قال: أنبأنا أبو بكر البيهقي قال: حدثنا أبو عبد
الله الحاكم قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن العباس الضبي يقول: سمعت
عمر بن علي الجوهري يقول: حدَّثنا أبو بكر محمد بن عيسى الطرسوسي يقول:
حدثنا نعيم بن حماد قال حدَّثنا ابن المبارك قال: قدمت على معمر فسمعت
منه وأمرت له بجارية وخمسين ديناراً، ثم ودعته وخرجت، فلما كنت على
مرحلة ذاكرني عنه إنسان بحديث لم أكن سمعته منه فقلت: لم أسمع منه هذا
، فقال: ارجع فإنك منه قريب. فقلت: بعدما بررته لا أرجع فيكون عليه فيه
غضاضة أن أرجع إليه بعد البر، حدثني أنت عنه. فحدثني عنه.
قال الحاكم: وحدثنا محمد بن أيوب قال: أخبرنا أحمد بن عيسى قال: سمعت
علي بن الحسن يقول: سمعت عبد الله بن المبارك يقول. لا أرى لصاحب عشرة
آلاف درهم أن يدع الكسب، فإنه إن لم يفعل لم آمن أن لا يعطف على جاره
ولا يوسع على عياله.
قال
الحاكم: وأخبرني محمد بن عمر قال: أخبرنا محمد بن المنذر قال: حدَّثني
محمد بن إبراهيم الحدثي قال: حدَّثني أبي عن رجل قد سمَّاه كان ينزل
عليه عبد الله بن المبارك في بعض ما كان ومعه إخوان له، فشكى إلي
العُزْبة وأمرني أن أشتر له جارية. قال: فاشتريت له جارية، وعرضتها
عليه فرضيها، وقال: ابعث بها إلى المنزل. قال: فأتيت بها أهلي فأقامت
حتى حاضت وطهرت، فأخبرته بذلك فقال لي: ابعث بها الليلة، فأتيت بناتي
فأخبرتهن، فقمن إليها فمشطنها وهيأنها. قال: فلما صلى العشاء الآخرة
وجهتها إليه، فلما أصبحنا قال للجارية: امضي إلى أهل فلان. قال: فجاءت
الجارية فسألتها بناتي وأمهن عن حالها فقالت: ما وضع يده علي، قال:
فغدوت إليه فقلت: يا أبا عبد الرحمن، شكوت إليّ العُزْبة، وأمرتني
فاشتريت لك جارية، وعرضتها عليك فرضيتها، وقامت بناتي فهيأنها، وإن أم
فلان أخبرتني أنك لم تضع يدك عليها؟ قال: لي يا أبا فلان، القول ما قلت
لك من شدة العزبة، لكني لما خلوت بها ذكرت إخواني فتذهمت أن أنال شهوة
لا ينالوها، وليس في يميني ما يسعهم أخرج الجارية فبعها.
وفي معنى هذه الحكاية قول الشاعر:
وتركي مواساة الإخلاء بالذي ... تنال يدي ظلم لهم وعقوق
وإني لأستحيي من الناس أن أرى ... بحال اتساع والصديق مضيق
قال الحاكم: وأخبرني أبو نصر الخفاف قال: أخبرنا محمد بن المنذر قال:
سمعت يعقوب ابن إسحاق بن أيوب، الشيباني يقول: سمعت أبي يحكي عن أبيه
قال: كان عبد الله بن المبارك يحج ومعه أحمال وصناديق وخدم كثيرة، وكان
مع بعض خدمه قبجة فلما ارتحلوا من المنزل قدم أثقالهم، فنظر صاحب
القبجة إلى القبجة وهي ميتة، فألقاها على كناسة، وبقرب الكناسة باب
صغير، وعبد الله قائم على دابته، ونظر إلى جويرية تخرج رأسها وترجع
لتجد بذلك فرصة لكي لا يراها أحد، فتغافل عنها عبد الله، فخرجت في
إزارها ليس عليها قميص ولا مقنعة، فحملت تلك القبجة، ودخلت الدار تعدو،
فقال عبد الله لغلام له: انزل واقرع هذا الباب. ونزل الغلام وفعل ما
أمره به، فخرجت تلك الجارية، فسألها عبد الله عن حالها وقصتها وقصة
القبجة الميتة، لماذا حملتها؟ فقالت: يا أبا عبد الله، أنا وأخت لي في
هذه الحجرة ليس لنا في هذه الدنيا إلا هذا الإزار الواحد، وكان والدنا
رجلاً موسراً فمات، فظُلمنا وغُصبنا على أهوالنا، فبقينا بحال تحلّ لنا
أكل، الميتة، وليس في منزلنا إلا هذا الإزار، إذا لبسته بقيت أختي
عريانة، فهو كسوتنا وفراشنا ودثارنا. فقال لها عبد الله: ليس لكم قيّم؟
قالت: لا، والله. فرق لها عبد الله، ثم قال لغلامه: الحق فرد الأثقال،
فردّها، فسأل وكيله: أين النفقة. فقال: على وسطي. وكان حمل ألف دينار
فقال: يا غلام، عد عشرين ديناراً لنفقتنا إلى مرو، وصب الباقي في إزار
هذه الجارية. ففعل الغلام ذلك، فلما رجع إلى المنزل قيل له: ما ردَّك؟
قال: استقبلني ماهو أفضل من الحج. ورجع إلى مرو.
قال محمد بن المنذر: وحدثني موسى بن عمر وقال: سمعت الحسين بن الحسن
يقول: كنا عند ابن المبارك جلوساً، فجاء سائل فسأله شيئاً، فقال: يا
غلام ناوله درهماً، فلما ولى السائل قال له بعض أصحابه: يا أبا عبد
الرحمن، هؤلاء السؤال يتغذون بالشواء والفالوذج! كان يكفيه قطعة، فلِم
أمرت له بدرهم؟ قال ابن المبارك: يا غلام، رده، إنما ظننت أنهم يجيزون
بالبقل والخل عند غدائهم، فأما إذا كان غداؤهم الشواء والفالوذج فلا بد
من عشرة دراهم، يا غلام ناوله عشرة دراهم.
قال مؤلف الكتاب: وقرأت على ابن ناصر، عن أبي القاسم بن اليسرى، عن عبد
الله بن بطة قال: سمعت أحمد بن الخليل يقول: حدَثني الحسن بن عيسى قال:
سمعت إبراهيم بن رستم يقول: حدَثني خالد الواسطي قال: سمعت سفيان
الثوري يقول: إني لأجهد أن أكون ثلاثة أيام على حالة يكون عليها ابن
المبارك سنة فما أقدر عليه.
توفي ابن المبارك بهيت، في رمضان هذه السنة، وهو ابن ثلاث وستين سنة.
عيسى بن أبي جعفر المنصور.
توفي ببغداد في ذي القعدة من هذه السنة.
علي بن هاشم بن البريد، أبو الحسن الخزاز.
الكوفي قدم بغداد، وحدَّث بها عن إسماعيل بن أبي خالد، الأعمش.
روى عنه:
أحمد بن حنبل، واتفقوا على أنه كان ثقة ولكن، كان يتشيع. وتوفي في هذه
السنة.
المفَضَل بن فضالة بن عبيد، أبو معاوية الرعيني، ثم القتباني.
ولد سنة سبع ومائة وولي القضاء بمصر مرتين، وكان من أهل الدين والفقه
والورع، وإجابة الدعوة، دعا إلى الله أن يُذهب عنه الأمل فأذهبه عنه،
وكاد يختلس عقله ولم يهنئه شيء من الدنيا، فدعى اللّه أن يرثه إليه،
فرده فرجع إلى حاله.
قال ابن رمح: كان بيني وبين جار لي مشاجرة في حائط، فقالت أمي: امض إلى
القاضي المفضل بن فضالة فقل له: أمي تقول لك: أحب أن تأتي فتنظر هذه
الحائط لنا أو لجارنا؟ فمضيتَ فأخبرته، فقال اجلس لي بعد العصر حتى
آتيك. فجلست له، فأتى فدخل إلى دارنا ثم دخل إلى دار جارنا، فنظر ثم
قال: الحائط لجاركم. ثم انصرف.
توفي في شوال هذه السنة وسيأتي ذكر ابن ابنه المفضل بن فضالة بن المفضل
بن فضالة .
يعقوب العابد الكوفي .
أخبرنا أبو بكر بن حبيب الصوفي قال: أخبرنا أبو سعد بن أبي صاعق الحيري
قال: أخبرنا أبو عبد الله باكويه الشيرازي قال: حدَّثنا عمر بن محمد
الأردبيلي حدثنا علي بن محمد القرشي قال: حدثنا علي بن الموفق، حدثنا
منصور بن عمار قال: خرجت ذات ليلة فظننت أني قد أصبحت، فإذا عليّ ليل،
فقعدت عند باب صغير، فإذا بصوت شاب يبكي ويقول: وعزتك وجلالك ما أردت
بمعصيتي مخالفتك، ولقد عصيتك حين عصيتك، وما أنا بنكالك جاهل، ولا
بعقوبتك متعرض، ولا بنظرك مستخف، ولكن سولت لي نفسي، وغلبتني شقوتي،
وغرني سترك المرخي علي، عصيتك حين عصيتك بجهلي، وخالفتك بجهدي، فالآن
من عذابك مَنْ يستنقذني، وبحبل مَنْ أتصل إن قطعت حبلك عني؟ واسوأتاه
على ما مضت أيامي في معصية ربي، يا ويلي كم أتوب وكم أعود، قد آن لي أن
أستحي من ربي.
قال منصور: فلما سمعت كلامه، قلت: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، بسم
الله الرحمن الرحيم " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكمِ ناراً
وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد. . " الآية، فسمعت صوتاً
واضطراباً شديداً، فمضيت حاجتي، فلما أصبحت رجعت، وإذا أنا بجنازة علي
الباب، وعجوز تذهب تجيء، فقلت لها: مَن الميت؟ فقالت: أذهب عني، لا
تجدد علي أحزاني . فقلت: إني رجل غريب. فقالت: هذا ولدي، مرّ بنا
البارحة رجل - لا جزاه الله خيراً - ير - فقرأ أية فيها ذكر النار، فلم
يزل ولدي يضطرب ويبكي حتى مات.
قال منصور: هكذا واللّه صفة الخائفين يا ابن عمار.
ثم دخلت
سنة اثنتين وثمانين ومائة
فمن الحوادث فيها: انصراف الرشيد عن مكة، ومسيره إلى الرّقة، وبيعته
بها لابنه المأمون بعد الأمين ، فأخذ له البيعة على الجند، وضمّه إلى
جعفر بن يحيى، ووجّهه إلى مدينة السلام، ومعه من أهل بيته: جعفر بن
المنصور، وعبد الملك بن صالح. ومن القوّاد: علي بن عيسى، فبويع له
بمدينة السلام حين قدمها، وولاه أبوه خُراسان وما يتصل بها إلى همدان،
وسمَّاه المأمون.
أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا أبو عبد اللّه الحميدي قال: أخبرنا
أبو غالب بن بشران قال: أخبرنا أبو الحسين بن دينار الكاتب قال:
حدَّثنا أبو علي عيسى بن محمد الطوماري قال: حدَّثنا أبو بكر بن الجنيد
قال: حدَثني الحسين بن الصباح الزعفراني. قال: لما قدم الشافعي إلى
بغداد وافق عقد الرشيد للأمين والمأمون على العهد.
قال: فبكّر الناس ليهنئوا الرشيد، فجلسوا في دار العامة ينتظرون الإذن،
قال: فجعل الناس يقولون: كيف ندعو لهما؟ فإنا إذا فعلنا ذلك كان دعاء
على الخليفة، وإن لم ندع لهما كان تقصيراً؟ قال: فدخل الشافعي رضي
اللّه عنه، فجلس، فقيل له في ذلك، فقال: الله الموفق. فلما أذن دخل
الناس، وكان أول متكلم الشافعي رضي الله عنه فقال:
لا قصراً عنها ولابلغتهما ... حتى تطول على يديك طوالها
وفيها: غزا عبد الرحمن بن عبد الملك الصائفة فبلغ أفسوس مدينة أصحاب
الكهف .
وفيها: سَملت الروم عينيْ ملكِهم قسطنطين .
وحج بالناس في هذه السنة موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسماعيل بن عياش بن سليم العنسي، أبو عتبة.
من أهل
حمص، وُلد سنة اثنتين ومائة. وقيل: سنة ست. وسمع من الأكابر من أبي بكر
بن أبي مريم، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وسهل بن أبي صالح، وغيرهم.
وروى عنه: الأعمش وابن المبارك ويزيد بن هارون وقدم بغداد على المنصور
فولاه خزانة الكسوة، وكان يقول: ورثت عن أبي أربعة آلاف دينار فأنفقها
في طلب العلم.
قال يحيى بن معين: إسماعيل ثقة، والعراقيون يكرهون حديثه. وقال
البخاري: إذا حدث عن أهل بلده فصحيح، وإذا حدث عن غير أهل بلده ففيه
نظر.
توفي في هذه السنة وبعضهم يقول: في سنة إحدى وثمانين.
عمار بن محمد، أبو اليقظان الكوفي.
ابن أخت سفيان الثوري، سكن بغداد وحدّث عن الأعمش. روى عنه: أحمد بن
حنبل، والحسن بن عرفة. وقد وثَّقه قوم.
وقال ابن حبان: كان ممَنْ فحش خطؤه وكثر وهمه فاستحق الترك.
توفي في محرم هذه السنة.
مصد بن أبي شيبة بن إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي.
والد أبي بكر وعثمان وغيرهما.
قال أبو زكريا يحيى بن معين، كان رجلاً جميلاً ثقة كيّساً، وكان على
قضاء فارس، ومات بفارس في هذه السنة وهو ابن سبع وسبعين سنة.
محمد بن حميد، أبو سفيان اليشكري يعرف بالمعمري.
لقي، معمر بن راشد، ولرحلته إليه، سُمِّي المعمري. وسمع سفيان الثوري
وغيره. وكان ثقة صدوقاً فاضلاً.
لتوفي في هذه السنة.
مروان بن سليمان بن يحيى، بن أي حفصة، أبو الهيذام. وقيل: أبو السمط:
واسم أبي حفصة: يزيد، وكان من سبي إصطخر، سُبِيَ غلاماً فاشتراه عثمان
بن عفان، فوهبه لمروان بن الحكم، فأعتقه يوم الدار لأنه أبلى يومئذ
بلاءً حسناً.
وقيل: إن أبا حفصة كان طبيباً يهودياً أسلم على يد عثمان بن عفان.
وقيل: على يد مروان بن الحكم.
كان مروان بن سليمان شاعراً مجيداً، ومدح المهدي والرشيد ومعن بن
زائدة.
وقال الكسائي: إنما الشعر سقاء تمخض، فدفعت الزبدة إلى مروان بن أبي
حفصة.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، الخطيب قال:
أخبرني أبو علي الجازري قال: حدَّثنا المعافى قال: حدَّثنا أحمد بن
العباس العسكري قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثنا عبد الله بن
موسى بن حمزة قال: حدَّثني أحمد بن موسى قال: حدثنا الفضل بن بزيع قال:
رأيت مروان بن أبي حفصة قد دخل، على المهدي بعد موت معن بن زائدة،
فمدحه بأبيات، فقال: من أنت؟ قال: شاعرك مروان بن أبي حفصة. فقال له:
ألست تقول:
أقمنا باليمامة بعد معن ... مقاماً ما نريد به زيالا
وقلنا أين نرحل بعد معن ... وقد ذهب النوال فلا نوالا
قد جئت تطلب نوالنا، وقد ذهب النوال فلا شيء لك عندنا، جروا برجله.
فجر برجله حتى أخرج. فلما كان في العام المقبل تلطف حتى دخل مع
الشعراء. وإنما كانت الشعراء تدخل على الخلفاء في كل عام مرة، فمثل بين
يديه فأنشده:
طرقتك زائرة فحي خيالها
إلى أن بلغ منها
شهدت من الأنفال آخر آية ... بتراثهم فأردتمُ أبطالها
فجعل المهدي يتزاحف عن مصلاه إعجاباً بقوله، ثم قال: كم هي بيتاً؟ قال:
مائة بيت. فأمر له بمائة ألف درهم، فلما أفضت الخلافة إلى الرشيد أنشده
فقال: ألست القائل في معن كذا وكذا؟ وذكر البيتين، ثم أمر بإخراجه،
فتلطف حتى عاد ودخل بعد يومين، فأنشدى قصيدة، فأمر له بعدد أبياتها
ألوفاً .
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا الخطيب قال: أخبرنا، الأزهري قال: أخبرنا
أحمد بن إبراهيم، حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال: حدَثني عبد الله
بن إسحق بن سلام قال: خرج مروان من دار المهدي ومعه ثمانون ألف درهم،
فمرّ بزمن، فسأله فأعطاه ثلثي درهم، فقيل له: هلا أعطيته درهماً؟ فقال:
لو أعطيت مائة ألف لأتممت له درهماً.
قال: وكان مروان يبخل فلا يسرج له في داره ، فإذا أراد أن ينام أضاءت
له الجارية بقصبة إلى أن ينام .
أنبأنا
محمد بن عبد الملك، عن أبي محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد
بن عمران المرزباني قال: أخبرني يوسف بن يحيى بن علي المنجم، عن أبيه
قال : حدثني ابن مهرويه قال: حدَثني علي بن محمد النوفلي قال: سمعت أبي
يقول: كان المهدي يعطي ابن أبي حفصة وسلماً الخاسر عطية واحدة، وكان
سلم يأتي باب المهدي على برذون قيمته عشرة آلاف درهم، ولباسه الخز
والوشي والطيب يفوح منه، ويجيء مروان وعليه فرو وكل وقميص كرابيس،
وكساء غليظ، وكان لا يأكل اللحم بخلاً حتى يقدم إليه، فإذا قدم إليه،
أرسل غلامه فاشترى له رأساً فأكله، فقيل له: نراك لا تأكل إلا الرؤوس.
فقال: الرأس أعرف شعره فآمن خيانة الغلام، وليس بلحم يطبخه الغلام
فيقدر أن يأكل منه، وآكل منه ألواناً: آكل عينيه لوناً، وأذنيه لوناً،
وغلصمته لوناً، ودماغه لوناً، وأكفى مؤونة طبخه، فقد اجتمعت لي فيه
مرافق.
قال المرزبانيِ: وحدثني أحمد بن عيسى الكرخي قال: حدثنا أبو العيناء
قال: كان مروان بن أبي حفصة من أبخل الناس، خرج يريد المهدي، فقالت له
امرأة من أهله: ما لي عليك إن رجعت بالجائزة. قال: إن أعطيت مائة ألف
درهم أعطيتك درهماً، فأعطى ستين ألفاً، فدفع إليها أربعة دوانيق.
توفي مروان في هذه السنة ودفن ببغداد في مقبرة نصر بن مالك.
يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حَبْتةَ الأنصاري.
وسعد من الصحابة، عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فاستصغره.
وحَبْتَة أمه، وأبوه: بحير بن معاوية.
ويكنى يعقوب. أبا يوسف القاضي، وهو صاحب أبي حنيفة.
سمع أبا إسحاق الشيباني، وسليمان التيمي، ويحيى بن سعيد الأنصاري،
والأعمش، وهشام بن عروة، وابن إسحاق، والليث في آخرين.
روى عنه: محمد بن الحسن، وعلي بن الجعد، وأحمد بن حنبل، ويحيى ابن
معين.
وسكن بغداد وولاَّه الهادي القضاء، ثم الرشيد، وهو أول مَنْ دُعِيَ
بقاضي القضاة في الإسلام.
وكان استخلف ابنه يوسف على الجانب الغربي، وأقره الرشيد على عمله
وولأَه قضاء القضاة بعد أبي يوسف.
وقد روينا أنه تردد إلى أبي حنيفة وهو فقير، فنهاه أبوه عن ذلك فانقطع
فلما رآه أبو حنيفة انقطع، سأله عن سبب انقطاعه، فأخبره فأعطاه مائة
درهم وقال: استمتع بهذه، فإذا فرغت فأخبرني. ثم كان يتعاهده.
وروينا أن أباه مات وخلفه طفلاً، وأن أمه هي التي أنكرت عليه ملازمة
أبي حنيفة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا الحسن بن أبي بكر قال: ذكر محمد بن الحسن بن زياد النقاش: أن
محمد بن عبد الرحمن الشامي أخبرهم قال: أخبرنا علي بن الجعد قال:
أخبرني يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف قال: توفي أبي وخلفني صغيراً في حجر
أمي، فأسلمتني إلى قصَار أخدمه، فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة أبي
حنيفة، فأجلس فأستمع، وكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي،
وتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعنى بي، لما يرى من حرصي على
التعلم، فلما كثر ذلك على أمي قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد
غيرك، هذا صبي يتيم لا كسب له، وأنا من أطعمه من مغزلي، وآمل انه يكسب
دانقاً يعود به على نفسه. فقال لها أبو حنيفة: مُري يا رعناء، ها هوذا
يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق. فانصرفت وقالت له: أنت شيخ قد خرفت
وذهب عقلك.
ثم لزمته، فنفعني الله بالعلم، ورفعني حتى تقلدت القضاء، وكنت أجالس
الرشيد، معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدَّم إليَّ هارون
فالوذجة بدهن فقال لي هارون: يايعقوب، كل منه، فليس كل يوم يعمل لنا
مثله. فقلت: وماهذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذه فالوذجة بدهن، الفستق،
فضحكت. فقال لي: مم تضحك؟ قلت: خيراً، أبقى الله أمير المؤمنين. فقال:
لتخبرني. وألحَّ عليَّ، فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فتعجب من
ذلك، وقال: لعمري إن العلم يرفع وينفع دنيا وآخرة. وترحم على أبي
حنيفة، وقال: كان ينظر بعين عقله ما لا يرى بعين رأسه.
أخبرنا
محمد بن أبي طاهر البزاز قال: أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه
قال: حدثني أبي قال: كان سبب اتصال يوسف بالرشيد أنه قدم بغداد بعد موت
أبي حنيفة، فحدث بعض القوَّاد في يمين، وطلب فقيهاً يستفتيه فيها، فجيء
بأبي يوسف فأفتاه أنه لم يحنث، فوهب له دنانير، وأخذ له داراً بالقرب
منه، واتصل به، فدخل القائد يوماً إلى الرشيد فوجده مغموماً، فسأله عن
سبب غمه، فقال: شيء من أمر الدين قد أحزّنني فاطلب لي فقيهاً أستفتيه
فجاءه بأبي يوسف. قال أبو يوسف: فلما دخلت إِلى ممر بين الدور رأيت فتى
حسناً عليه أثر الملك، وهو في حجرة محبوس، فأومأ إليَ بإصبعه مستغيثاً،
فلم أفهم عنه إرادته، فأدخلت إلى الرشيد، فلما مثلت بين يديه سلمت
ووقفت، فقال لي: ما اسمك؟ قلت: يعقوب، أصلح الله أمير المؤمنين،. قال:
ما تقول في إمام شاهد رجلاً يزني، هل يحده؟ قلت: لا يجب ذلك. فحين
قلتها سجد الرشيد فوقع لي أنه قد رأى بعض أهله على ذلك، وأن الذي أشار
إلي بالإستغاثة هو الزاني. ثم قال الرشيد: ومن أين قلت هذا؟ قلت: من
قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إدرأوا الحدود بالشبهات " وهذه شبهة
يسقط الحدّ معها. فقال: وأي شبهة مع المعاينة؟! قلت: ليس توجب المعاينة
لذلك أكثر من العلم بما جرى، والحدود لا تكون بالعلم، وليس لأحد أخذ
حقه بعلمه. فسجد مرة أخرى وأمر لي بمال جزيل، وأن ألزم الدار، فما خرجت
حتى جاءتني هدية الفتى، وهدية أمه، وأسبابه، فصار ذلك أصلاً للنعمة،
ولزمت. الدار، فكان هذا الخادم يستفتيني وهذا يشاورني وصلاتهم تصل
إليً، ثم استدعاني الرشيد واستفتاني في خواص أمره، فلم تزل حالي تقوى
حتى قلّدني قضاء القضاة.
قال لي أبي: بلغني أن أبا يوسف لما مات خلف مائتي سراويل من أصناف
السراويلات وكل، بتكة أرمني تساوي ديناراً.
وبلغ من محله عند الرشيد أنه طلبه يوماً فجاء وعليه بردة فقال الرشيد:
جاءت به معتجراً ببرده ... سفوآء ترضى بنسيج وحده
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا محمد بن القاسم الأزرق قال: حدَّثنا محمد بن الحسن المقرىء أن
محمد بن عبد الرحمن الشاميِ أخبرهم قال: أخبرنا ابن الجعد قال: سمعت
أبا يوسف يقول: العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فأنت إذا
أعطيته كلك كان من إعطائه البعض على عشر.
قال مؤلف الكتاب: كان أبو حنيفة يشهد لأبى يوسف أنه أعلم الناس.
وقال المزني: أبو يوسف أتبعهم للحديث.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، الخطيب، أخبرنا
الحسين بن محمد المعدل قال: أخبرنا عبد الله بن الأسمي قال: حدثنا أبو
بكر الدامغاني الفقيه قال: حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال: حدثنا ابن أبي
عمران قال: حدّثنا بشر بن الوليد قال: سمعت أبا يوسف يقول: سألني
الأعمش عن مسألة فأجبته فيها، فقال لي: من أين قلتَ هذا؟ قلت: لحديثك
الذي حدثتناه أنت. ثم ذكرت الحديث فقال لي: يا يعقوب، إني لأحفظ هذا
الحديث قبل أن يخرج أبواك، فما عرفت تأويله حتى الآن .
وقال أبو زرعة الرازي: كان محمد بن الحسن جهمياً، وكان أبو يوسف سليماً
من التجهم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال:
أخبرنا الحسن بن أبي طالب قال: حدّثنا علي بن عمر بن محمد التمار قال:
حدَّثنا مكرم بن أحمد القاضي قال: حدَّثنا أحمد بن عطية قال: سمعت
بشاراً الخفاف قال: سمعت أبا يوسف يقول: مَنْ قال القرآن مخلوق فحرام
كلامه وفرض مباينته.
قال ابن المديني: كان أبو يوسف صدوقاً. وقال يحيى: هو ثقة.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال:، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال:
أخبرنا القاضي أبو العلاء الواسطي قال: حدَّثنا محمد بن جعفر التميمي
قال: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد قال: أخبرنا وكيع قال: أخبرني
إبراهيم بن أبي عثمان، عن يحيى بن عبد الصمد قال: خوصم موسى أمير
المؤمنين إلى أبي يوسف في بستانه فكان الحكم في الظاهر لأمير المؤمنين،
وكان الأمر على خلاف ذلك. فقال أمير المؤمنين لأبي يوسف: ما صنعت في
الأمر الذي نتنازع إليك فيه؟ قال: خصم أمير المؤمنين يسألني أن أحلف
أمير المؤمنين أن شهوده شهدوا على حق. فقال له موسى: وترى ذلك؟ قال:
قد، كان ابن أبي ليلى يراه قال. فأردد البستان عليه إنما احتال أبو
يوسف .
وروى الحسن بن أبي مالك قال: سمعت أبا يوسف يقول: وُلًيت هذا الحكم ،
وانغمست فيه، وليس في قلبي منه شيء، وأسأل الله أن لا يسألني عن جور
ولا ميل مني إلى أحد إلا يوماً واحداً، فإنه يقع في قلبي منه شيء.
قالوا: وما هو؟ قال: جاءني رجل فقال: لي بستان قد اغتصبني إياه أمير
المؤمنين. فقلت: فيِ يد مَنْ هو الآن؟ فقال: في يد أمير المؤمنين. قلت:
ومن يقوم بعمارته ومصلحته؟ قال: أمير المؤمنين. فأخذت قصته ودخلت، قلت:
يا أمير المؤمنين، إن لك خصماً بالباب قد، ادعى كيت وكيت. فقال: هذا
البستان لي، اشتراه لي، المهديِ. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن
تدعو خصمك فأسمع منكمما. قال: فدعي به، فأدخل فادّعى، فقلت: يا أمير
المؤمنين، ما تقول فيما ادعى؟ قال: البستان لي وفي يدي، اشتراه لي
المهدي. قلت: يا رجل قد سمعت، فما تشاء. قال: خذ لي يمينه. قلت: أيحلف
أمير المؤمنين؟ قال: لا. قلت: يا أمير المؤمنين، أعرض عليك اليمين
ثلاثاً فإن حلفت وإلا حكمت عليك. فعرضت عليه اليمين ثلاثاً، فأبى أن
يحلف، فقلت: يا أمير المؤمنين، قد حكمت عليك بهذا البستان، فإن رأيت أن
تأمر بتسليمه إليه. قال: لا أسلم. قلت: يا رجل، تعود في مجلس غير هذا
فقال: افعل لي ما يجب أن تفعل. قلت: يا أمير المؤمنين، بالحبس يعرض.
فأمر به فأخرج. فقال الفضل بن الربيع: والله ما رأيت مجلساً قط إلا
وهذا أحسن منه. فقلت: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن يتم حسن هذا المجلس
بردٌ هذا البستان. قيل له: فأي شيء في قلبك؟ قال: جعلت أحتال في صرف
الخصومة والقضية عن أمير المؤمنين، ولم أسأله أن يقعد مع خصمه أو يأذن
لخصمه أن يقعد معه على السرير.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي، الخطيب قال: أخبرنا أحمد
بن عمر بن روح النهرواني قال: أخبرنا المعافى بن زكريا قال: حدَّثنا
محمد بن أبي الأزهر قال: حدثنا حماد بن إسحاق الموصلي قال: حدَّثني أبي
قال: حدثني بشر بن الوليد وسألته: من أين جاء؟ قال: كنت عند أبي يوسف
القاضي وكنا في حديث ظريف، فقلت له: حدثني به، قال: قال لي يعقوب
القاضي: بينا أنا البارحة قد أويت إلى فراشي، فإذا داق يدق الباب دقاً
شديداً، فأخذت عليّ إزاري وخرجت، عليه فقال: أجب أمير المؤمنين. فقلت:
يا أبا حاتم، لي بك حرمة، وهذا وقت كما ترى، فإن أمكنك أن تدفع ذلك إلى
الغد. قال: ما لي إلى ذلك سبيل. قلت: وكيف كان السبب؟ قال: خرج إلي
مسرور الخادم فأمر أن آتي بك أمير المؤمنين. فقلت: قد أذن لي أن أصب
علي ماء وأتحنط، فإن كان أمر من الأمور كنت قد أحكمت شأني، وإن رزق
الله العافية فلن يضر. فأذن لي فدخلت، فلبست ثياباً جدداً، وتطيبت بما
أمكن من الطيب، ثم خرجنا، فمضينا حتى أتينا، إلى دار الرشيد، فإذا
مسرور، فقال له هرثمة: قد جئت به. فقلت لمسرور: يا أبا هاشم، خدمتي
وحرمتي، وهذا وقت ضيق فتدري لِم طلبني أمير المؤمنين؟ قال: لا. قلت:
فمَنْ عنده؟ قال: عيسى بن جعفر. قلت: ومَن؟ قال: ما عنده ثالث. فقال:
مر. فإذا صرت في الصحن، فإنه في الرواق، فحرك رجلك في الأرض، فإنه
سيسألك، فقل: أنا. فجئت ففعلت، فقال: مَنْ هذا؟ قلت: يعقوب قال: ادخل.
فدخلت، فإذا هو جالس وعن يمينه عيسى بن جعفر، فسلَّمت فرد عليّ السلام،
وقال: أظننا روعناك. قلت: أي والله، وكذلك مَنْ خلفي. قال: اجلس. فجلست
حتى سكن روعي، ثم التفت إليَ فقال: يا يعقوب، تدري لِم دعوتك. قلت: لا.
قال: دعوتك لأشهدك على هذا أن عنده جارية سألته أن يهبها لي فامتنع،
وسألته أن يبيعنيها فأبى، ووالله لئن لم يفعل لأقتلنّه. قال: فالتفتُ
إلى عيسى فقلت له: وما بلغ اللّه بجارية تمنعها أمير المؤمنين وتنزل
نفسك هذه المنزلة؟ فقال لي: عجلت في القول قبل أن تعرف ما عندي. قلت:
وما في هذا من الجواب؟ قال: إن علي يميناً بالطلاق والعتاق وصدقة ما
أملك أن لا أبيع هذه الجارية ولا أهبها. فالتفت إلي الرشيد فقال: هل له
في ذلك من مخرج. قلت: نعم. قال: وما هو. قلت: يهب لك النصف ويبيعك
النصف. فيكون لم يبع ولم يهب. قال: ويجوز ذلك؟ قلت: نعم. قال: فأشهدك
أني قد وهبت له نصفها وبعت له نصفها الباقي بمائة ألف دينار، فقال:
عليّ، بالجارية. فأتي بالجارية وبالمال، فقال خذها يا أمير المؤمنين ،
بارك الله لك فيها. قال: يا يعقوب، بقيت واحدة. قلت: وما هي؟ قال: هي
مملوكة، ولا بد أن تستبرأ، ووالله لئن لم أبت معها لِيلتي إني لأظن أن
نفسي ستخرج. قلت: يا أمير المؤمنين، تعتقها وتتزوجها، فإن الحرة لا
تستبرأ. قال: فإنى قد أعتقتها فمن يزوجنيها؟ قلت: أنا فدعا بمسرور
وحسين فخطبت وحمدت الله، ثم زوَّجته على عشرين ألف درهم، ودعا بالمال
فدفعه إليها، ثم قال لي يا يعقوب، انصرف. ورفع رأسه إلى مسرور وقال: يا
مسرور قال: لبيك أمير المؤمنين. قال: احمل إلى يعقوب مائتي ألف درهم،
وعشرين تختاً ثياباً. فحمل ذلك معي.
فقال بشر بن الوليد: فالتفت إلي يعقوب فقال: هل رأيت بأساً فيما فعلت؟
قلت: لا قال: فخذ منها حقك. قلت: وما حقي. قال: العشر. قال: فشكرته
ودعوت له وذهبت لأقوم، فإذا بعجوز قد دخلتَ فقالت: يا أبا يوسف، ابنتك
تقرئك السلام وتقول لك: والله ما وصل إليَّ في ليلتي هذه من أمير
المؤمنين إلا المهر الذي عرفته، وقد ضفت إليك النصف منه، وخلفت الباقي
لما أحتاج إليه. فقال: ردّيه، فوالله لا قبلته، أخرجتها من الرق
وزوجتها من أمير المؤمنين وترضى ليِ بهذا؟!! فلم نزل نشفع إليه ، أنا
وعمومتي حتى قبل، وأمر لي منه بألف دينار .
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني محمد بن
الحسين القطان قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن زياد النقاش: أن محمد بن
علي الصايغ أخبرهم قال: أخبرني يحيى بن معين قال: كنت عند أبي يوسف
القاضي وعنده جماعة من أصحاب الحديث وغيرهم، فوافته هدية من أم جعفر
احتوت على تخوت دبيقي، ومصمت، وطيب، وتماثيل ند، وغير ذلك، فذاكرني رجل
بحديث النبي صلى الله عليه وسلم " مَنْ أتته هدية وعنده قوم جلوس فهم
شركاؤه فيها " فسمعه أبو يوسف فقال: أبي تعرض؟ ذلك إنما قال النبي صلى
الله عليه وسلم: " والهدايا يومئذ الأقط والتمر والزبيب " ، ولم تكن
الهدايا ما ترون يا غلام، شل إلى الخزائن .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني الخلال
قال: أخبرنا علي بن عمرو الحريري: أن علي بن محمد النخعي حدَثهم قال:
أخبرنا إبراهيم بن إسحاق، عن بشر بن غياث قال: سمعت أبا يوسف يقول:
صحبت أبا حنيفة سبع عشرة سنة، ثم انصبت علي الدنيا سبع عشرة سنة، فما
أظن أجلي إلا قد اقترب قال: فما مضت شهور حتى مات.
قال النخعي: وحدَّثني أبو عمرو القزويني قال: حدثنا القاسم بن الحكم
العربي قال: سمعت أبا يوسف يقول عند موته: يا ليتني مت على ما كنت عليه
من الفقر، وإني لم أدخل في القضاء، يا ليتني على أني ما تعمدت بحمد
الله ونعمته جوراً ولا حَابَيْتُ خصماً على خصم من سلطان أوسوقة.
توفي أبو يوسف رحمه الله في ربيع الأول من هذه السنة. وهو ابن تسع
وستين سنة، وأقام في القضاء ست عشرة سنة.
يعقوب بن داود بن طهمان، أبو عبد اللّه .
مولى عبد الله بن حازم السلمي، استوزره المهدي، وقرب من قلبه، وغلب على
أمره، ثم إنه أمره بقتل بعض العلويين فقال: قد فعلت. ولم يفعل على ما
حكيناه في سنة ست وستين، فسجنه إلى أن أخرجه الرشيد.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا علي بن محمد المعدل قال: أخبرنا أبو علي الحسين بن صفوان قال:
حدَّثنا أبو بكر أبي الدنيا قال: حدثني خالد بن يزيدُ الأزدي قال:
حدّثني عبد الله بن يعقوب بن داود قال: قال أبي: حبسني المهدي في بئر
وبُنيت عليّ قبة، فمكثت فيها خمس عشرة سنة حتى مضى صدر من خلافة
الرشيد، وكان يُدلى إلي كل يوم رغيف وكوز من ماء، وأوذن بأوقات
الصلوات، فلما كان في رأس ثلاث عشرة حجة أتاني آتٍ في منامي فقال:
حَنى على يوسُفٍ رب فأخرجه ... من قعر جُبّ وبيت حوله غمم
قال: فحمدت الله، وقلت: أتى الفرج. قال: فمكثت حولاً لا أرى شيئاً،
فلما كان رأس الحول الثاني أتاني ذلك الآتي فقال لي:
عسى الكرب الذي أمسيتَ فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائِفٌ ويفك عانٍ ... ويأتي أهله النائي الغريب
فلما أصبحت نوديت، فظننت أني أوذن بالصلاة، فدلي لي حبْلٌ أسود، وقيل
لي: اشدد به وسطك ففعلت فأخرجوني فلما قابلت الضوء غشي بصري، فانطلقوا
بي فأدخلوني على الرشيد، فقيل لي: سلّم على أمير المؤمنين. فقلت:
السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا أمير المؤمنين المهدي. فقال: لست
به. قلت: السلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته الهادي. قال:
ولست به. قلت: السلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. قال:
الرشيد. فقلت: الرشيد. فقال: يا يعقوب، إنه والله ما شفع فيك إلي أحدٌ
غير أني حملت الليلة صبية لي على عنقي، فذكرت حملك إياي على عنقك،
ورثيت لك من المحل الذي كنت فيه، فأفرجت عنك. قال: فأكرمني وقرب مجلسي.
ثم قال: إن يحيى بن خالد تنكر لي كأنه خاف أن أغلبه على أمير المؤمنين
دونه، فخفته فاستأذنت للحج، فأذن لي.
فلم يزل مقيماً بمكة حتى مات بها في هذه السنة رحمه الله.
يزيد بن زريع بن معاوية العَيشي.
من بني عايش، وهم من ولد بكر بن وائل، كان عالماً صدوقاً ثبتاً. وكان
أبوه والي البصرة، فلم يأخذ من ميراثه شيئاً، وكان يعمل الخوص.
أخبرنا
ابن ناصر قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر الخياط
قال: حدَّثنا ابن أبي الفوارس قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن سلم قال:
حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الخالق قال: حدثنا أبو بكر المروزي قال:
سمعت عبد الوهاب يقول: سمعت أبا سليمان الأشقر يقول: تَنزه يزيد بن
زريع عن خمسمائة ألف من ميراث أبيه فلم يأخذه.
توفي يزيد بالبصرة في هذه السنة. وقيل: في سنة سبع وسبعين، وكان ثقة
صدوقاً ثبتاً في الحديث.
ثم دخلت
سنة ثلاث وثمانين ومائة
فمن الحوادث فيها: خروج الخزر على الناس. وفي سبب ذلك قولان: أحدهما:
أن ابنة خاقان الملك ماتت، فقيل لأبيها إنما قتلها المسلمون غيلة. فحنق
لذلك فأخذ في الأهبة لحرب المسلمين، وجاء في أكثر من مائة ألف،
فانتهكوا أمراً عظيماً، وأوقعوا بالمسلمين وبأهل الذمة، وسبوا منهم.
والثاني: أن سعيد بن مسلم قتل المنجم السلمي بفارس، فدخل ابنه بلاد،
فاستجاشهم على سعيد، فدخلوا أرمينية من الثُّلْمة، فانهزم سعيد، ونكحوا
المسلمات، فأقاموا مدة، فوجّه الرشيد خزيمة بن خازم ويزيد بن مزيد إلى
أرمينية حتى أصلحوا ما أفسد سعيد، وأخرجوا الخزر، وسدت الثلمة.
وفيها: كتب الرشيد إلى عيسى بن ماهان وهو بخراسان أن يصير إليه، وكان
سبب كتابه: أنه حُمل عليه، وقيل: إنه قد أجمع على الخلاف.
وفيها: خرج أبو الخصيب وهيب بن عبد الله النسائي.
وفيها: حجّ بالناس العباس بن موسى الهادي .
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف بن إسحاق الزهري.
سمع أباه، وابن هشام، وابن شهاب وابن عروة، وغيرهم.
روى عنه: شعبة، والليث بن سعد، وابن مهدي، وعلي بن الجعد، وأحمد بن
حنبل، وكان ثقة، ونزل بغداد فمات بها في هذه السنة وهو ابن خمس وسبعين
سنة، ودفن في مقابر باب التين.
بهلول بن راشد الإفريقي.
روى عن يونس بن يزيد، والقعنبي وكانت له عبادة وفضل، أمر محمد بن مقاتل
العتكي الأمير بالمعروف فضربه فمات بإفريقية في هذه السنة.
- داود بن مهران بن زياد، أبو هاشم الربعي.
ولد سنة مائة، وقدم مصر سنة تسع وثلاثين، وخرج عن المغرب إلى البصرة،
وأقام بها ورجع إلى مصر سنة ستين وخرجِ إلى المغرب فأقام بها، وعاد إلى
مصر فمات بها في رمضان هذه السنة، وكان عالماً ديناً في خلقه زعارة لا
يحدث.
علي بن الفضيل بن عياض.
مات في حياة أبيه، كان متعبداً، مجهتداً، شديد الخوف من الله تعالى على
حداثة سنه، يدقق في الورع، ويبالغ في النظر في المطعم، وقد أسند الحديث
عن عبد العزيز بن أبي رواد، وسفيان بن عيينة، وغيرهما.
أخبرنا المحمدان، ابن ناصر، وابن عبد الباقي قالا: أخبرنا حمد بن أحمد
قال: أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد اللّه قال: حدَّثنا عبد الله بن محمد
بن جعفر قال: حدثنا أحمد بن الحسين الحذاء قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم
المورقى قال: حدثنا سلمة بن عفان، عن محمد بن الحسين قال: كان علي بن
الفضيل يصلي حتى يزحف إلى فراشه ثم يلتفت إلى أبيه، فيقول: يا أبت،
سبقني العائدون.
قال الدورقي: وحدثني محمد بن شجاع، عن سفيان بن عيينة قال: ما رأيت
أحداً أخوف من الفضيل وابنه علي.
علي بن زياد، أبو الحسن العبسي المغربي.
من أهل تونس، رحل إلى الحجاز والعراق فيِ طلب العلم. وروى عن: الثوري،
ومالك، وهو الذي أدخل المغرب جامع الثوري،و موطأ مالك وفسر لهم قول
مالك ولم يكونوا يعرفونه أقبل ذلك، وهو معلم سحنون بن سعيد الفقيه.
توفي في هذه السنة.
محمد بن صبيح، أبو العباس المذكر، مولى بني عجل، يعرف: بابن السماك.
سمع هشام بن عروة، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وسفيان الثوري،
وغيرهم.
روى عنه: حسين بن علي، الجعفي، وأحمد بن حنبل، وغيرهما. وله مواعظ
حسان، ومقامات عند الرشيد.
أخبرنا
عبد الرحمن أبن محمد قال: أخبرنا، أحمد بن علي قال: أخبرني بكران بن
الطيب قال: حدثنا محمد بن أحمد المفيد قال: حدَّثنا عبد الرحمن بن محمد
بن المغيرة قال: حدثنا أبي قال: حدثني أبي المغيرة بن شعيب قال: حضرت
يحيى بن خالد وهو، يقول لابن السماك: إذا دخلت على أمير المؤمنين فأوجز
ولا تكثر عليه. قال: فلما دخل عليه وقام بين يديه قال: يا أمير
المؤمنين، إن لك بين يدي الله مقاماً، وإن لك من مقامك منصرفاً، فانظر
إلى أين منصرفك إلى الجنة أم إلى النار. قال: فبكى هارون حتى كاد أن
يموت.
توفي ابن السماك بالكوفة في هذه السنة.
موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه
عنهم، أبو الحسن الهاشمي.
ولد بالمدينة في سنة ثمان وعشرين. وقيل: سنة تسع وعشرين. وولد له
أربعون ولداً من ذكر وأنثى، وكان كثير التعبد، جوَّاداً، وإذا بلغه عن
رجل أنه يؤذيه بعث إليه ألف دينار وخرج إلى الصلح وأهدى له بعض العبيد
عصيدة، فاشترى الضيعة التي فيها ذلك العبد والعبد بألف دينار، وأعتقه
ووهبها له.
وأقدمه المهدي بغداد ثم رده إلى المدينة لمنام له رآه.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: حدَّثني
الحسن بن، محمد الخلال قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عمران قال: حدثنا
محمد بن يحيى، الصولي قال: حدثنا عون بن محمد قال: سمعت إسحق الموصلي
يقول: حدثنيا الفضل بن الربيع، عن أبيه: أنه لما حبس المهدي موسى بن
جعفر رأى المهدي في النوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول: يا
محمد " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم " قال
الربيع: فأرسل إلي ليلاً، فراعني ذلك فجئته، فإذا هو يقرأ هذه الآية،
وكان أحسن الناس صوتاً. وقال علي بموسى بن جعفر: فجئته به فعانقه
وأجلسه إلى جانبه، وقال: يا أبا الحسن، رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب في النوم فقرأ علي كذا، فتؤمننيِ أن َتخرج علي أو على أحد من
ولدي؟ فقال: والله لا فعلت ذلك، ولا هو من شأني قال: صدقت، يا ربيع
أعطه ثلاثة آلاف دينار ورده إلى أهله إلى المدينة قال الربيع: فأحكمت
أمره ليلاً، فما أصبح إلا وهو على الطريق خوف العوائق.
قال مؤلف الكتاب رحمه اللّه : ثم لم يزل مقيماً بالمدينة إلى أيام
الرشيد، فحجَّ الرشيد فاجتمعا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسمع
منه الرشيد كلاماً غيّره.
وهو ما أخبرنا به منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا
القاضي أبو العلاء الواسطي قال: حدثنا عمر بن أحمد الواعظ قال: حدَّثنا
الحسين بن القاسم قال: حدِّثني أحمد بن وهب قال: أخبرني عبد الرحمن بن
صالح الأزدي قال: حج هارون الرشيد فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم
زائراً له وحوله قريش وأفياء القبائل ومعه موسى بن جعفر فلما انتهيا
إلى القبر قال: السلام عليك يا رسول الله ، يا ابن عم. افتخاراً على
مَنْ حوله، فدنا موسى بن جعفر فقال: السلام عليك يا أبت فتغير وجه
هارون وقال: هذا الفخر يا أبا الحسن حقاً؟ ثم اعتمر الرشيد في رمضان
سنة تسع وسبعين، فحمل موسى معه إلى بغداد فحبسه بها، فتوفي في حبسه،
فلما طال حبسه كتب إلى الرشيد بما أخبرنا به عبد الرحمن بن محمد قال:
أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الجوهري قال: حدثنا محمد بن
عمران المرزباني قال: حدثنا عبد الواحد بن محمد الخصيبي قال: حدثني
أحمد بن إسماعيل قال: بعث موسى بن جعفر إلى الرشيد من الحبس رسالة
كانت: إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من
الرخاء، حتى نقص جميعاً إلى يوم ليس فيه انقضاء، يخسر فيه المبطلون .
توفي موسى بن جعفر لخمس بقين من رجب هذه السنة.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، الخطيب قال: أخبرنا القاضي
أبو محمد، الحسن بن الحسين الأستراباذي قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن
حمدان القطيعي قال: سمعت الحسن بن إبراهيم الخلال يقول: ما أهمني أمر،
فقصدت قبر موسى بن جعفر، فتوسلت به إلا سهل الله لي ما أحب.
هشيم بن بشير بن أبي حازم، واسم أبي حازم: القاسم بن دينار. وكنية
هشيم: أبو معاوية، السلمي الواسطي .
بخاري الأصل. وُلد سنة أربع ومائة، وكان أبوه طباخ الحجاج بن يوسف.
سمع هشيم
من: عمرو بن دينار، والزهري، ويونس بن عبيد، وأيوب، وابن عون، وخلق
كثير.
روى عنه: مالك، والثوري، وشعبة، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وغيرهم.
وكان من العلماء الحفاظ الثقات.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب، قال:
أخبرنا العتيقي قال: حدَّثنا محمد بن العباس قال: أخبرنا أبو أيوب
سليمان بن إسحق الحربي قال: قال أبو إسحق الحربي كان هشيم رجلاً كان
أبوه صاحب صحناة وكواميخ، يقال له: بشر، فطلب ابنه هشيم الحديث
واشتهاه، وكان أبوه يمنعه، فكتب الحديث حتى جالس أبا شيبة القاضي، وكان
يناظر أبا شيبة في الفقه، فمرض هشيم، فقال أبو شيبة: ما فعل ذلك الفتى
الذي كان يجيء إلينا؟ قالوا: عليل. فقال: قوموا بنا حتى نعوده فقام أهل
المجلس جميعاً يعودونه حتى جاؤوا إلى منزل بشير، فدخلوا إلى هشيم، فجاء
رجل إلى بشير ويده في الصحناة. فقال: الحق ابنك، قد جاء القاضي إليه
يعوده فجاء بشير والقاضي في داره فلما خرج قال لابنه: يا بني، قد كنت
أمنعك من طلب الحديث، فأما اليوم فلا. فصار القاضي يجيء إلى بابي، متى
أملت أنا هذا؟ أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت
قال: أخبرنا أحمد بن أحمد بن رزق قال: حدَّثنا أحمد بن سليمان النجاد
قال: حدَّثنا عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا قال: حدَّثني مَنْ سمع
عمرو بن عون قال: مكث هشيم يصلي الفجر بوضوء عشاء الآخرة قبل أن يموت
عشر سنين .
توفي هشيم ببغداد في شعبان هذه السنة.
يحيى بن زكريا بن أي زائدة، أبو سعيد.
سمع أباه وهشاماً بن عمر، والأعمش. أو غيرهم. روى عنه: قتيبة، وأحمد،
ويحيى، وغيرهم وولي قضاء المدائن، وكان عالماً ثقة.
وقال ابن المديني: انتهى العلم إليه في زمانه. وقال عبد الرحمن بن أبي
حاتم: هو أول من صنَّف الكتب بالكوفة .
توفي في هذه السنة. وقيل: في سنة اثنتين وثمانين. وقيل أربع وثمانين،
وهو ابن ثلاث وستين سنة.
يونس بن حبيب.
صحب أبا عمرو بن العلاء، وسمع من العرب. وقد روى عن العرب. وروى عنه
سيبويه، فأكثر. وله مذهب في النحو تفرد به، وقد سمع منه الكسائي
والفراء، وكانت حلقته بالبصرة يتباهى بها أهل العلم وأهل الأدب وفصحاء
العرب والبادية. توفي في هذه السنة وله ثمان وتسعون سنة.
ثم دخلت
سنة أربع وثمانين ومائة
فمن الحوادث فيها: قدوم هارون مدينة السلام في جمادى الآخرة منصرفاً
إليها من الرّقة في الفرات بالسفن، وغرق أكثر بغداد بزيادة الماء .
وولي حماد البربريّ مكة واليمن، وولي داود بن يزيد بن حاتم المهلبي
السند، ويحيى الحرشيّ الجبل، ومهرويه الرازيّ طبرستان، وقام بأمر،
إفريقية إبراهيم بن الأغلب .
وفيها: خرج أبو عمرو الشاري فقُتل .
وفيها: طلب أبو الخصيب الأمان، فأعطاه ذلك علي بن عيسى.
وفيها: حج بالناس إبراهيم بن محمد المهدي أمير المؤمنين.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن هارون الرشيد . أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن أحمد الحريري
قال: أنبأنا أبو طالب محمد بن علي بن الفتح العشاري قال: أخبرنا أبو
بكر أحمد بن محمد بن غالب الخوارزمي قال: أخبرنا إبراهيم بن أحمد
المزكي قال: أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق الثقفي قال: سمعت علي بن
الموفق يقول: سمعت عبد الله بن الفتوح يقول: خرجت يوماً أطلب رجلاً يرم
لي شيئاً في الدار، فذهبت، فأشير لي إلى رجل حسن الوجه بين يديه مزود
وزنبيل، فقلت: تعمل لي. قال: نعم بدرهم ودانق. فقلت: قم. فقام فعمل لي
عملاً بدرهم ودانق ودرهم ودانق، ودرهم ودانق، ثم أتيت يوماً آخر فسألت
عنه فقيل ذاك رجل لا يرى في الجمعة إلا يوماً واحداً يوم كذا. قال:
فجئت ذلك اليوم، فقلت: تعمل لي. قال: نعم بدرهم ودانق. فقلت أنا :
بدرهم. فقال: بدرهم ودانق. ولم يكن بي الدانق، ولكن أحببت أن أستعلم ما
عنده، فلما كان المساء وزنت له درهما فقال لي: ما هذا؟ قلت: درهم. قال:
ألم أقل لك: درهم ودانق؟! أفسدت علي. فقلت: وأنا ألم أقل لك بدرهم؟
فقال: لست آخذ منه شيئاً قال: فوزنت له درهماً ودانقاً. فقلت: خُذ.
فأبى أن يأخذ، وقال: سبحان اللّه أقول لك، لا آخذ وتلح علي!؟ فأبى أن
يأخذه ومضى.
قال:
فأقبل علي أهلي، وقالت: فعل الله بك ما أردت من رجل عمل لك عملاً بدرهم
أن أفسدت عليه. قال: فجئت يوماً أسأل عنه، فقيل لي: مريض، فاستدللت على
بيته فأتيته، فاستأذنت عليه فدخلت وهو مبطون، وليس في بيته شيء إلا ذلك
المزود والزنبيل، فسلمت عليه وقلت له: لي إليك حاجة، وتعرف فضل إدخال
السرور على المؤمن أحب لما جئت إلى بيتي أمرضك. قال: وتحب ذلك؟ قلت:
نعم. قال: بشرائط ثلاث. قلت: نعم. قال: أن لا تعرض عليَّ طعاماً حتى
أسألك، وإذا أنا مت أن تدفني في كسائي وجُبتي هذه. قلت: نعم. قال:
والثالثة أشد منهما، وهي شديدة، قلت: وإن كان. فحملته إلى منزلي عند
الظهر، فلما كان من الغد ناداني يا عبد الله فقلت: ما شأنك. قال قد
احتضرت، افتح صرّة على كم جبتي قال: ففتحتها فإذا فيها خاتم عليه فص
أحمر، فقال: إذا أنا مت ودفنتني فخُذ هذا الخاتم، ثم ادفعه إلى هارون
الرشيد، أمير المؤمنين، فقل له: يقول لك صاحب هذا الخاتم: ويحك لا
تموتن على سكرتك هذه فإنك إن مت على سكرتك هذه ندمت. قال: فلما دفنته
سألت يوم خروج هارون الرشيد أمير المؤمنين، وكتبت قصة، وتعرضت له
وأوذيت أذى شديداً، فلما دخل قصره وقرأ القصة وقال: علي بصاحب هذه
القصة. قال: فأدخلت عليه وهو مغضب يقول: يتعرضون لنا ويفعلون. فلما
رأيت غضبه أخرجت الخاتم، فلما نظر إلى الخاتم قال: من أين لك هذا
الخاتم، قلت: دفعه إليَّ رجل طيَّان. فقال لي: طيَّان طيان، وقربني
منه. فقلت: يا أمير المؤمنين إنه أوصاني بوصية فقال لي: ويحك قل. فقلت:
يا أمير المؤمنين إنه أوصاني إذا أوصلت إليك هذا الخاتم أن أقول لك
يقرئك صاحب هذا الخاتم السلام ويقول لك: ويحك لا تموتن على سكرتك هذه
فإنك إن مت عليها ندمت. فقام على رجليه قائماً وضرب بنفسه على البساط،
وجعل يتقلب عليه ويقول: يا بني نصحت أباك. فقلت في نفسي: كأنه ابنه، ثم
جلس وجاؤوا بالماء، فمسحوا وجهه، وقال كيف عرفته؟ قال فقصصت عليه قصته.
قال: فبكى وقال: هذا أول مولود لي، وكان أبي المهدي ذكر لي زبيدة أن
يزوجني بها، فبصرت بهذه المرأة فوقعت في قلبي، وكانت خسيسة فتزوجتها
سراً من أبي، فأولدتها هذا المولود، وأحدرتها إلى البصرة وأعطيتها، هذا
الخاتم وأشياء، وقلت لها: اكتمي نفسك، فإذا بلغك أني قعدت للخلافة
فأتيني، فلما قعدت للخلافة سألت عنهما فقيل لي أنهما، ماتا، ولم أعلم
أنه باقٍ، فأين دفنته؟ قلت: يا أمير المؤمنين دفنته في قبور عبد اللّه
بن مالك. قال: لي إليك حاجة، إذا كان بعد المغرب فقف لي بالباب حتى
أنزل إليك فأخرج متنكراً إلى قبره.
فوقفت له، فخرج متنكراً والخدم حوله حتى وضع يده بيدي، وصاح بالخدم
فتنحوا، فجئتُ به إلى قبره، فما زال ليلته يبكي إلى أن أصبح ويداه
ورأسه ولحيتُه على قبره وجعل يقول: يا بني، لقد نصحت أباك. قال: فجعلت
أبكي لبكائه رحمة مني له، ثم سمع كلاماً فقال: كأني أسمع كلام الناس.
قلت: أجل أصبحت يا أمير المؤمنين، قد طلع الفجر. فقال لي: قد أمرت لك
بعشرة آلاف درهم، واكتب عيالك مع عيالي، فإن لك فيَ حقَاً بدفنك ولدي،
وإن أنا مت أوصيت: من يكون مَنْ بعدي أن يجري عليك ما بقي لك عقب، ثم
أخذ بيدي حتى إذا بلغ قريباً من القصر ويده بيدي، فلما صار إلى القصر،
قال: انظر ما أوصيك به إذا طلعت الشمس، فقف لي حتى أنظر إليك فأدعو بك
فتحدثني حديثه. قلت: إن شاء الله، فلم أعد إليه.
قال المصنف: وقد روي حديث السبتي من طريق آخر، وفيه أشياء تخالف هذا،
وهذه الطريق التي سقناها أصح، وأسنادها ثقات.
وقد زاد القصَّاص في حديث السبتي، وأبدأوا وأعادوا وذكروا أنه كان من
زبيدة، وأنه خرج يتصيد فوعظه صالح المري، فوقع من فرسه وأشياء كلها
محال.
زين بن شعيب بن كريب، أبو عبد الملك المعافري.
روى عنه: ابن وهب، وغيره، وآخر مَنْ حدَّث عنه: مُرة الترسلي. وكانت له
عبادة وفضل، كان يحيى بن بكير يقول: حدَثني زين بن شعيب وكان والله
زينَاً.
توفي بالإسكندرية في هذه السنة.
عبد الله
بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، أبو بكر الأسدي. روى
عن أبي حازم، وهشام بن عروة، وموسى بن عقبة، وغيرهم. فلما قدم المهدي
المدينة اتصل به، وصار أحد خواصه، وكان المهدي يقول: واللهّ ما كان في
آبائه أحد إلا وهو أكمل منه، وما له في الناس نظير في كماله.
وبعث إليه أبو عبيد الله بألفي دينار فردها وكتب إليه إني لا أقبل صلة
إلا من خليفة أو ولي عهد .
ولما بايع المهدي لموسى قال له عبد الله بن مصعب:
اشدد بهارون حبال العقد ... وولهِ بعدَ وليّ العَهْدِ
فبايع له بعد موسى، فقال له عبد الله بن مصعب:
لا قصرا عنها ولا بلغتهما ... حتى تطول علي يديك طوالها
فلما ولي الرشيد عرض على عبد الله بن مصعب الولاية فأبى، فألزمه، فكان
جميل السيرة.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، الخطيب قال:
أخبرنا الأزهري قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا أحمد بن سليمان
الطوسي قال: حدثنا الزبير قال: حدَّثني عمي مصعب قال: كان أبي يكره
الولاية، فعرض عليه الرشيد ولاية المدينة، فأبى فألزمه، فأقام على ذلك
ثلاث ليال يلزمه فيأبى، فلما كان في الليلة الثالثة قال له: اغد علي
بالغداة إن شاء الله فغدا عليه، فدعا أمير المؤمنين بقناة وعمامة، فعقد
اللواء بيده، ثم قال: عليك طاعة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فخذ
هذا اللواء. فأخذه، وقال له: أما إذا ابتليتني يا أمير المؤمنين بعد
العافية فلا بد له أن أشترط لنفسي؟ قال له: اشترط. فاشترط خلالاً،
منها: أنه قال له مال الصدقات مال قسمه الله بنفسه، ولم يكله إلى أحد
من خلقه، فلست أستجيز أن أرتزق منه، ولا بد أرزق المرتزقة، فاحمل معي
رزقي ورزق المرتزقة من مال الخراج. قال: قد أجبتك إلى ذلك.
قال: وأنفذ من كتبك ما رأيت، وأقفُ، عما لا أرى، قال: وذلك لك. قال:
فولي المدينة، وكان يأمر بمال الصدقات يصيَّر إلى عبد العزيز بن محمد
الدراوردي، وإلى آخر معه وهو يحيى بن أبي غسان، فكانا يقسمانه، ثم ولاه
الرَّشيد اليمن، وزاده معها ولاية عك، وكانت عك إلى والي مكة، ورزقه
ألفي دينار في كل شهر. فقال يحيى بن خالد: يا أمير المؤمنين، كان رزق
والي اليمن ألف دينار، فجعلت رزق عبد الله بن مصعب ألفي دينار، وأخاف
أن لا يرضى أحد توليه اليمن من الرزق من قومك بأقل ما أعطيت عبد الله
بن مصعب، فلو جعلت رزقه ألف دينار كما كان يكون، وأعضته من الألف
الأخرى مالاً تجيزه به لم يكن عليك حجة لأحد من قومك في الجائزة فصير
رزقه ألف دينار، وأجازه بعشرين ألف دينار، واستخلف على اليمن الضحاك بن
عثمان.
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: ثم ولى المدينة ابنه بكار بن عبد اللهّ،
وشخص عبد اللّه بن مصعب إلى بغداد، ثم رحل إلى الرِّقة في صحبة الرشيد،
فتوفي بها في ربيع الأول من هذه السنة، وهو ابن سبعين سنة، فتلهف عليه
الرشيد، وبعث ابنه المأمون فصلى عليه.
أنبأنا الحسين بن محمد البارع قال: أخبرنا ابن المسلمة قال: أخبرنا
المخلص قال: أخبرنا أحمد بن سليمان الطوسي قال: حدَّثنا الزبير بن بكار
قال: حدَّثني عبد الله بن نافع قال: قال لي عبد الله بن مصعب: أريت
فيما يرى النائم كأن رجلاً يقول: يولد لك ابن من أم ولدك ولا تراه، فلم
يكن شيء أثقل عليه من أحمل، أم ولده أم عبد الله، فولدت عبد الله بن
عبد الله بن مصعب يوم مات عبد الله، فلم يره.
عبد اللّه بن عبد العزيز العمري، أبو عبد الرحمن.
أدرك أبا طوالة، وروى عن أبيه، وعن إبراهيم بن سعد، وكان عابداً
مجتهداً، ووعظ الرشيد فبالغ.
أخبرنا
ابن ناصر قال: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال قال: أخبرنا
أبو يحيى أحمد بن محمد بن الجراح قال: حدَّثنا محمد بن جعفر بن دران
قال: أخبرنا هاررن بن عبد العزيز العباسي قال: حدثنا محمد بن خلف بن
حبان قال: حدَّثنا محمد بن إسحاق بن عبد الرحمن البغوي قال: سمعت سعيد
بن سليمان يقول: كنت بمكة في رواق الشطوى وإلى جنبي عبد الله بن عبد
العزيز العمري وقد حجّ هارون الرشيد، فقال لي إنسان: يا أبا عبد
الرحمن، هو ذا أمير المؤمنين يسعى، قد أخلي له المسعى. قال العمري
للرجل: لا جزاك الله عني خيراً، كلفتني أمراً كنت عنه غنياً. ثم تعلق
نعليه وقام، فتبعته، فأقبل هارون الرشيد، من المروة يريد الصفا، فصاح
به: يا هارون قال: فلما نظر إليه قال: لبيك يا عم. قال: ارق الصفا.
فلما رقيه قال: ارم بطرفك إلى البيت، قال: قد فعلت. قال: كم هم. قال:
ومَنْ يحصيهم؟ قال: فكم في لناس مثلهم؟ قال: خلق لا يحصيهم إلا الله،
قال: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يُسأل عن حاجته نفسه، وأنت تُسأل
وحدك عنهم كلهم، فانظر كيف تكون. قال: فبكى هارون، وجلس وجعلوا يعطونه
منديلاً منديلاً للدموع.
قال العمري: وأخرى أقولها لك قال: قل يا عم. قال: والله إن الرجل ليسرع
في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن أسرع في مال المسلمين. ثم مضى
وهارون يبكي.
قال محمد بن خلف: سمعت محمد بن عبد الرحمن يقول: بلغني أن هارون الرشيد
قال: إني لأحب أن أحج كل سنة ما يمنعني إلا رجل من ولد عمر، ثم يُسمعني
ما أكره.
وقد روي لنا من طريق آخر أنه لقيه بالمسعى، فأخذ لجام دابته فأهوى
الأجناد إليه، فكفَّهم عنه الرشيد، فكلّمه، فإذا دموع الرشيد تسيل على
معرقة دابته، ثم انصرف.
وإنه لقيه مرة فقال: ياهارون، فعلت وفعلت. فجعل يسمع منه ويقول: مقبول
منك يا عم، على الرأس والعين. فقال له: يا أمير المؤمنين، حال الناس
كيت وكيت. فقال: عن غير علمي وأمري.
وخرج العمري إلى الرشيد مرة ليعظه، فلما نزل الكوفة زحف العسكر، حتى لو
كان، نزل بهم مائة ألف من العدو وما زادوا على هيئته، ثم رجع ولم يصل
إليه.
توفي العمري بالمدينة في هذه السنة، وهو ابن ست وستين سنة.
محمد بن يوسف بن معدان، أبو عبد اللّه الأصفهاني.
أدرك التابعين، وتشاغل بالتعبد، وكان ابن المبارك يُسمّيه عروس الزهاد.
وقال ابن المهدي: ما رأيت مثله.
وقال يحيى بن سعيد القطان: ما رأيت أفضل منه، وكان كأنه قد عاين.
أخبرنا المحمدان: ابن ناصر، وابن عبد الباقي قالا: أخبرنا حمد بن أحمد
قال: أخبرنا أحمد بن عبد اللهّ الحافظ قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن
جعفر بن حبان الحافظ قال: حدثنا أحمد بن عصام قال: حدَّثني يوسف بن
زكريا قال: كان محمد بن يوسف لا يشتري زاده من خباز واحد ولا من بقال
واحد، قال: لعلهم يعرفوني فيحابوني، فأكون ممن يعيش بدينه.
قال ابن عاصم: وأخبرنا عبد الرحمن بن عمر قال: قال عبد الرحمن بن مهدي
باينت محمد بن يوسف في الشتاء والصيف فلم يكن يضع جنبه.
توفي محمد بن يوسف ، ولم تكتمل له أربعون سنة.
المعافى بن عمران، أبو مسعود الأزدي الموصلي.
رحل في طلب الحديث إلى البلاد البعيدة، وجالس العلماء، ولازم سفيان
الثوري. فتفقه به وتأدب بآدابه، حدَّث عنه وعن أبي ذئب، ومالك، وابن
جريج، وغيرهم.
كان سفيان يقول: أنت معافى كاسمك. وكان يسمّيه الياقوتة، فيقول: يا
ياقوتة العلماء.
وصنف كُتباً، وروى عنه: ابن المبارك، وبشر الحافي، وكان زاهداً عابداً،
فاضلاً عاقلاً صاحب سُنَة ثقة .
أخبرنا أبو منصور، القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب قال:
أخبرنا محمد بن عمر بن القاسم النرسي قال: أخبرنا محمد بن عبد الله
الشافعي قال: حدثنا هيثم بن مجاهد قال: حدَّثنا إسحاق بن الضيف قال:
سمعت بشر بن الحارث يقول: قتل للمعافى بن عمران ابنان في وقعة الموصل،
فجاء إخوانه يعزّونه من الغد، فقال لهم: إن كنتم جئتم لتعزوني فلا
تعزوني، ولكن هنئوني، قال: فهنَّوه، فما برحوا حتى غداهم وغلفهم
بالغالية.
توفي المعافى في هذه السنة بالموصل. وقيل: في سنة خمس. وقيل: ست.
يعقوب بن الربيع. حاجب المنصور.
وهو أخو
الفضل بن الربيع، كان أديباً شاعراً، حسن الافتنان في العلوم، وكان له
جارية طلبها سبع سنين يبذل فيها ماله وجاهه حتى ملكها، وأعطي بها مائة
ألف دينار فلم يبعها، ولم تمكث عنده إلا ستة أشهر حتى ماتت، فرثاها
بمراث كثيرة .
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت،
الخطيب قال: أخبرنا التنوخي قال: حدثنا محمد بن عمران المرزباني قال:
أنشدنا علي بن سليمان الأخفش ليعقوب بن الربيع:
أضحوا يصيدون الظباء وإنني ... لأرى تصيّدها عليّ حراما
أشبهنَ منك سوالفاً ومدامعاً ... فأرى بذاك لها علي ذماما
أعْزِز عليَّ بان أودعِّ شبهها ... أو أن تذوق على يديّ حماما
وله أيضاً في جاريته:
لئن كان قربك لي نافعاً ... لبعدك أصبح لي أنفعا
لأني أمنتُ رزايا الدُّهور وإن جل خطب بأن أجْرَعا
ثم دخلت
سنة خمس وثمانين ومائة
فمن الحوادث فيها: قتل أهل طبرستان مَهْرُوَيه الرازي واليها، فولَّى
الرشيد مكانه عبد الله بن سعيد الحَرشي.
وفيها: قتل عبد الرحمن الأبناويّ أبانَ بن قحطبة الخارجي بموج القلعة.
وفيها: أغار حمزة الشاري بباذغيس من خراسان فوثب عيسى بن علي على عشرة
آلاف من أصحاب حمزة فقتلهم، وبلغ كابُل، وزابلستان .
وفيها غدر أبو الخصيب، وخرج وذهب إلى مرو، فأحاط بها، فهُزِم، ومضى نحو
سرخس، وقوي أمره.
وفيها: مات يزيد بن مزيد ببَرذعة، فوُليَ مكانه أسد بن يزيد.
وفيها: شخص الرشيد إلى الرّقة على طريق الموصل.
واستأذنه فيها يحيى بن خالد في العمرة والمجاورة، فأذن له، فخرج في
شعبان هذه السنة، واعتمر عمرة رمضان، ثم رابط بجدة إلى وقت الحج .
وفيها: حج بالناس منصور بن المهدي ووقعت صاعقة في المسجد الحرام في
رمضان هذه السنة على بعض ظلال المسجد الحرام فأحرقت الظلة، وقتلت
رجلين.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر.
عبد الصمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس. روى عن أبيه، وُلد سنة أربع
ومائة، وكان عظيم الخلق، وكانت فيه عجائب: منها: أنه حج يزيد بن معاوية
سنة خمسين، وحجّ عبد الصمد بالناس سنة خمسين ومائة. كذلك ذكره أبو بكر
الخطيب.
وقال الزبير بن بكار: حجّ يزيد بالناس سنة خمسين، وعبد الصمد سنة خمسين
إحدى ومئة وكان بين حجهما مائة سنة على قول الخطيب، وهما في النسب إلى
عبد مناف سواء؟ لأن يزيد هو ابن معاوية بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد
شمس بن عبد مناف. وعبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب
بن هاشم بن عبد مناف.
ومنها: أنه وُلد سنة أربع ومائة، وتوفي سنة خمس وثمانين.
وولد أخوه بن علي سنة ستين، وكانت بينه وبين أخيه في المولد أربع
وأربعون سنة.
وتوفي محمد بن علي سنة ست وعشرين، وتوفي عبد الصمد سنة خمس وثمانين،
وكان بينهما في الوفاة تسع وخمسون سنة .
ومنها: أنه ولد عبد اللّه بن الحارث على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو وعبد الصمد إلى عبد مناف سواء.
ومنها: أنه أدرك أبا العباس وهو ابن أخيه، وأدرك المنصور وهو ابن أخيه،
ثم أدرك المهدي وهو عم أبيه، ثم أدرك الهادي وهو عم جده، ثم أدرك
الرشيد.
وقال يوماً للرشيد: يا أمير المؤمنين، هذا مجلس فيه أمير المؤمنين، وعم
أمير المْومنين، وعم عمه، وعم عم عمه، وذلك أن سليمان بن جعفر عم
الرشيد. والعباس بن محمد بن علي عم سليمان، وعبد الصمد عم العباس.
ومنها: أنه مات بأسنانه التي وُلد بها ولم تتغير، وكانت أسنانه قطعة
واحدة من أسفل .
ومنها: أنه طارت ريشتان إلى عينيه فذهب بصره .
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
حدَثني عبد العزيز بن علي الوراق قال: حدثنا أبو موسى هارون بن عيسى
الخطيب قال: حدَّثنا إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم
الإمام قال: حدَثني أبي قال: حدَّثنا جدي محمد بن إبراهيم الإمام وكان
يجلس لولده وولد ولده في كل يوم خميس يعظهم ويحدّثهم قال: أرسل إلي
المنصور بكرة واستعجلني الرسول فدخلنا، فإذا الربيع واقف عند الستر،
وإذا المهدي ولي العهد في الدهليز جالس، وإذا عبد الصمد بن علي، وداود
بن علي، وإسماعيل بن علي وسليمان بن علي، ، وجعفر بن محمد بن علي بن
الحسين، وعبد الله بن حسن بن حسن، والعباس بن محمد، فقال الربيع:
اجلسوا مع بني عمكم فجلسنا، ثم دخل الربيع وخرج، وقال للمهدي: ادخل
أصلحك الله. ثم خرج، فقال: ادخلوا جميعاً. فدخلنا، فسلمنا، وأخذنا
مجالسنا، فقال للربيع: هات دوى وما يكتبون فيه. فوضع بين يدي كل واحد
منا دواة وورق، ثم التفت إلى عبد الصمد بن علي فقال: يا عم، حدّث ولدك
وأخوتك، وبني أخيك بحديث البر والصلة.
فقال عبد الصمد بن علي: حدثني أبي، عن جدي عبد الله بن عباس، عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن البر والصلة ليطيلان في الأعمار،
ويعمّران الديار، ويثريان الأموال، ولو كان القوم فجاراً " .
ثم قال: يا عم، الحديث الآخر.
فقال عبد الصمد: حدثني أبي، عن جدي عبد الله بن عباس قال: قال النبي
صلى الله عليه وسلم: " إن البر والصلة ليخففان سوء الحساب يوم القيامة
" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذين يصلون ما أمر اللّه به
أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب " .
فقال المنصور: يا عم، الحديث الآخر.
فقال عبد الصمد: حدثني أبي، عن جدي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: " كان في بني إسرائيل ملكان أخوان على مدينتين، وكان أحدهما باراً
برحمه، عادلاً على رعيته، وكان الآخر عاقاً برحمه، جائراً على رعيته،
وكان في عصرهما نبي، فأوحى الله تعالى إلى ذلك النبي أنه قد بقي من عمر
هذا البار ثلاث سنين، وبقي من هذا العاق ثلاثون سنة. قال: فأخبر النبي
رعية هذا ورعية هذا، فأحزن ذلك رعية العادل، وأحزن ذلك رعية الفاجر،
قال: ففرقوا بين الأطفال والأمهات، وتركوا الطعام والشراب، وخرجوا إلى
الصحراء يدعون الله أن يمتعهم بالعادل، ويزيل عنهم أمر الجائر فأقاموا
ثلاثاً، فأوحى إلى ذلك النبي أن أخبر عبادي أني قد رحمتهم، وأجبت
دعاءهم، فجعلت ما بقي من عمر هذا البار لذلك الجائر، وما بقي من عمر
هذا الجائر لذلك البار. قال: فرجعوا إلى بيوتهم، ومات العاق لتمام
الثلاث سنين، وبقي العادل فيهم ثلاثين سنة، ثم تلا رسول الله صلى الله
عليه وسلم " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على
اللّه يسير " .
ثم التفت المنصور إلى جعفر بن محمد، فقال: يا أبا عبد اللّه حدّث بني
عمك وإخوتك بحديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم في البر.
فقال جعفر بن محمد: حدَثني أبي، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب رضي الله
عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " ما من ملك يصل رحمه وذا
قربته ويعدل في رعيته إلا شيد اللهّ ملكه، وأجزل له ثوابه، وأكرم ما
به، وخفف حسابه " .
توفي عبد الصمد في هذه السنة بالجدري، وصلى عليه الرشيد ليلاً، ودفن في
باب البردان، وله إحدى وثمانون سنة.
عباد بن العوام بن عبد اللّه، أبو سهل الواسطي. سمع حصين بن عبد
الرحمن، وسعيد بن أبي عروبة.
روى عنه: أبو نعيم، وأحمد بن حنبل، وكان ثقة صدوقاً.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، الخطيب قال: أخبرنا
الجوهري قال: حدَّثنا محمد بن العباس قال: حدثنا أحمد بن معروف قال:
حدثنا الحسين بن الفهم قال: حدَّثنا محمد بن سعد قال: عباد بن العوام
كان من أهل واسط، وكان يتشيع، فأخذه هارون أمير المؤمنين فحبسه زماناً،
ثم عفى عنه، فأقام ببغداد، وكان ينزل بالكرخ على نهر البزازين .
توفي في هذه السنة. وقيل: في سنة ست وثمانين. وقيل: فيِ سنة تسع. وقيل:
في سنة ثلاث.
محمد بن
إبراهيم، المعروف بالإمام، ابن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. كان
يلي إمارة الحج والمسير بالناس إلى مكة وإقامة المناسك في خلافة
المنصور عدة سنين.
وتوفي ببغداد في خلافة الرشيد لإحدى عشرة بقيت من شوال هذه السنة.
وكان الرشيد إذ ذاك قد شخص إلى الرّقة، فصلى عليه الأمين، ودفن في
المقبرة المعروفة بالعباسية بباب الميدان.
محمد بن إبراهيم المعروف بالإمام بن الحسن، أبو بكر الهذلي كان هروي
الأصل، وهو أخو أبي معمر إسماعيل وأبي الهذيل إسحاق.
سمع من سفيان بن عيينة وغيره.
وقال موسى بن هارون الحافظ: هو صدوق لا بأس به.
ثم دخلت
سنة ست وثمانين ومائة
فمن الحوادث فيها: خروج علي بن عيسى بن ماهان من مَرْو لحرب أبي الخصيب
إلى نَسا، فقُتل بها، وسبي نساؤه وذراريّه، فاستقامت خُراسان.
وفيها: حبس الرشيد ثمامة بن أشرس لوقوفه على كذبه في أمر أحمد بن عيسى
بن زيد.
وكانت ببغداد رجفة شديدة بين المغرب والعشاء في رمضان.
وفيها: حج الرشيد، وكان شخوصه من الرّقة في رمضان، فمرّ بالأنبار، ولم
يدخل مدينة السلام، ولكنه نزل منزلاً على شاطىء الفرات، وأخرج معه
ابنيه الأمين والمأمون، فبدأ بالمدينة، فأعطى أهلها ثلاث عطيات، وبدأ
بنفسه، فنودي باسمه، فأخذ ثلاث أعطيات فوضعها بين يديه، وفعل ذلك
بالأمين والمأمون، ثم ببني هاشم، ثم بالناس بعدهم، ثم صار إلى مكة
فأعطى أهلها عطاءين، فبلغ ذلك ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار، وكان
عقد لابنه محمد ولاية العهد في يوم الخميس في شعبان سنة ثلاث وسبعين،
وسمّاه الأمين، وضم إليه الشام والعراق في سنة خمس وسبعين. ثم بايع
للمأمون في سنة ثلاث وثمانين، وولاه من حد همَذان إلى آخر المشرق.
أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا الحميدي قال: أخبرنا أبو الحسين بن دينار
قال: حدثنا أبو علي الطوماري قال: حدثنا أبو بكر بن الجنيد قال: حدَثني
الحسين بن الصباح الزعفرافي قال: لما قدم الشافعي إلى بغداد وافق عقد
الرشيد للأمين، والمأمون على العهد. قال: فبكر الناس لتهنئة الرشيد،
فجلسوا في دار العامة ينتظرون الإذن، فجعل الناس يقولون: كيف ندعو
لهما، فإنا إذا فعلنا ذلك كان دعاء على الخليفة وإن لم ندع لهما كان
تقصيراً، فدخل الشافعي، فجلس، فقيل له ذلك، فقال: الله الموفق، فلما
أذن دخل الناس، فكان أول متكلم الشافعي فقال:
لا قصرا عنها ولا بلغتهما ... حتى تطول على يديك طوالها
قال علماء السير: وكان القاسم بن الرشيد في حجر عبد الملك بن صالح،
فلما بايع الرشيد للأمين والمأمون، كتب إليه عبد الملك:
يا أيها الملِكُ الذِي ... لو كان نجماً كان سَعْدا
اعقد لقاسِمَ بيعَةً ... واقدَحْ له في الناس زَنْدا
الله فرد واحد ... فاجعل ولاةَ العهد ِفردا
فكان ذلك أول ما حضَّ الرشيد على البيعة للقاسم، فبايع له وسمَّاه
المؤتمن، ولاه الجزيرة والثغور والعواصم.
فلما قسم الأرض بين أولاده الثلاثة قال بعض الناس: قد أحكم الملك. وقال
بعضهم: بل ألقى بأسهم بينهم، وعاقبة ما صنع مخوفة على الرّعيّة.
وحج هارون ومعه أبناؤه ووزراؤه، وقوَّاده ، وقضاته في سنة ست وثمانين،
وخلف بالرقة إبراهيم بن عثمان بن نَهيك العكيّ، وعلى الحرم، والخزائن،
والأموال والعسكر وأشخص القاسم ابنه إلى منبج، فأسكنه إياها، ثم ضم
إليه، من القوَّاد والجند، فلما قضى مناسكه كتب إلى المأمون ابنه
كتابين أجهد الفقهاء والقضاة آراءهم فيهما، أحدهما: على محمد الأمير
بما اشترط عليه من الوفاء بتسليم ما ولي عبد الله من الأعمال، وصيَّر
له من الضياع والغلات والجوهر والأموال. والآخر: نسخة البيعة التي
أخذها على الخاصة والعامة والشروط لعبد اللهّ على محمد وعليهم، وحضر في
الكعبة، وأحضر وجوه بني هاشم والقوَّاد والفقهاء، وقرأ الكتاب على
الأمين والمأمون، وأشهد عليهما جميع من حضر من سائر ولده وأهل بيته
ومواليه ووزرائه وقوَّاده وكُتَابه وغيرهم، ثم رأى أن يعلق الكتاب في
الكعبة، فلما رفع ليعلق سقط.
وقد روى
إبراهيم بن عبد اللّه الحجبي عن أبيه قال: لما رفع الكتاب ليعلق بسقف
الكعبة سقط قبل أن يعلق، فقلت في نفسي: هذا أمر سريع انتقاضه. وتقدم
إلى الحجبة في حفظ الكتابين ومنع من أراد إخراجهما.
وكانت نسخة الكتاب: هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين كتبه محمد
بن هارون أمير المؤمنين، في صحة عقله وجواز من، أمره طائعاً غير مكره
أن أمير المؤمنين ولاني العهد من بعده وصير البيعة لي في رقاب
المسلمين، وولى عبد اللهّ بن هارون أمير المؤمنين العهد والخلافة،
وجميع أمور المسلمين بعدي، برضا منّي وتسليمه طائعاً غير مكره، وولاه
خراسان وثغورها، وكورها، وحربها، وجندها، وخراجها، وبيوت أموالها، أو
صدقاتها، وعشرها، وجميع أعمالها في حياته وبعدي، وشرطت لعبد اللهّ
هارون أمير المؤمنين برضا مني وطيب نفسي أن لأخي عبد اللهّ بن هارون
علي الوفاء بما عقد له هارون أمير المؤمنين من العهد والولاية والخلافة
وأمور المسلمين جميعاً بعدي، وتسليم ذلك له، وما جعل له من ولاية
خراسان، وأعمالها كلها، وما أقطعه أمير المؤمنين من قطيعته أو جعل له
من عقده أو ضيعة من ضياعه ، وابتاع من الضياع والعقد وما أعطاه في
حياته وصحته من مال أو حلي أو جوهر، أو متاع، أو كسوة، أو منزل، أو
دواب، أو قليل، أو كثيرة فهو لعبد اللهّ بن هارون أمير المؤمنين موفراً
مسلماً إليه، وقد عرفت ذلك كله شيئاً فشيئاً، فإن حدث بأمير المؤمنين
الموت، وأفضت الخلافة إلى محمد ابن أمير المؤمنين، فعلى محمد إنفاذ ما
أمر به هارون أمير المؤمنين في تولية عبد الله بن هارون أمير المؤمنين
خراسان وثغورها من لدن الري إلى أقصى خراسان ليس لمحمد ابن أمير
المؤمنين أن يحول عنه قائداً ولا راجلاً واحداً ممن ضم إليه من أصحابه
الذين ضمهم إليه أمير المؤمنين، ولا يحول عبد الله ابن أمير المؤمنين
من ولايته التي ولاها إياه هارون أمير المؤمنين، من ثغور خراسان
وأعمالها كلها بنداراً ولا عاملاً، ولا يدخل عليه في صغير من أمره ولا
كبير ضراراً، ولا يحول بينه وبين العمل في ذلك كله برأيه وتدبيره، ولا
يعرض لأحد ممن ضم إليه أمير المؤمنين من أهل بيته وصحابته، وقضاته،
وعماله، وكتابه، وخدمه، ومواليه، وجنده بما يلتمس إدخال الضرر والمكروه
عليهم في أنفسهم، ولا قرابتهم، ولا مواليهم، ولا أموالهم، ولا في
ضياعهم ودورهم ورباعهم ورقيقهم، ولا أحد من الناس بأمره ورأيه يترخص له
في ذلك ولا ينزع إليه أحد ممن ضم أمير المؤمنين عبد الله ابن أمير
المؤمنين وأهل بيت أمير المؤمنين، وصحابته وعماله وخدمه وجنده، ورفض
اسمه أومكْتبه، ومكانه مع عبد الله، عاصياً له أومخالفاً، فعلى محمد
ابن أمير المؤمنين رده إلى عبد اللهّ ابن أمير المؤمنين بصغرٍ له
وقَماء حتى ينفذ رأيه وأمره.
فإن أراد محمد ابن أمير المؤمنين خلع عبد اللهّ ابن أمير المؤمنين من
ولاية خراسان وثغورها وأعمالها، أو صرف أحد من قواده الذين ضمَهم إليه
أمير المؤمنين أو أن ينتقصه قليلاً أو كثيراً مما جعله أمير المؤمنين
له بوجه من الوجوه، أو بحيلة من الحيل، فلعبد اللّه بن هارون أمير
المؤمنين الخلافة بعد أمير المؤمنين، وهو المقدَّم على محمد ابن أمير
المؤمنين وهو وَليّ الأمر بعد أمير المؤمنين والطاعة من جميع قواد أمير
المؤمنين هارون من أهل خراسان وجميع المسلمين في جميع الأمصار لعبد
اللّه ابن أمير المؤمنين، والقيام معه، والمجاهدة لمَنْ خالفه، والذبّ
عنه، ما كانت الحياة في أبدانهم. وليس لأحد منهم أن يخالفه أو يعصيه،
ولا يخرج من طاعته، ولا يطيع محمد ابن أمير المؤمنين في خلعِ عبد اللّه
بن هارون أمير المؤمنين، وصرْف العهد عنه من بعده إلى غيره أو ينتقصه
شيئاً مما جعله له أمير المؤمنين هارون في حياته وصحته.
واشترط في كتابه الذي كتبه عليه في البيت الحرام وفي كتابه هذا. وعبد
الله ابن أمير المؤمنين المصدق في قوله، وأنتم في حلٍّ من البيعة التي
في أعناقكم لمحمد ابن أمير المؤمنين، وعلى محمد ابن أمير المؤمنين أن
ينقاد لعبد الله ابن أمير المؤمنين، ويسلم له الخلافة.
وليس
لمحمد ولا لعبد الله أن يخلعا القاسم ابن أمير المؤمنين، ولا يقدما
عليه أحداً من أولادهما وقراباتهما ولا غيرهم من جميع البرية، فإذا
أفضت الخلافة إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين فالأمر إليه في إمضاء ما
جعله أمير المؤمنين من العهد للقاسم بعده، أو صرف ذلك عنه إلى مَنْ رأى
من ولده وإخوته، وتقديم من أراد أن يقدم قبله، يحكم في ذلك بما أحب
وأراد، فعليكم معشر المسلمين إنفاذ ما كتبه أمير المؤمنين في كتابه هذا
وشرط، وعليكم السمع والطاعة لأمير المؤمنين فيما ألزمكم لعبد الله ابن
أمير المؤمنين، وعهد الله وذمته وذمم المسلمين والعهود والمواثيق التي
أخذ الله على الملائكة المقربين والمرسلين والنبيين، ووكدها في أعناق
المؤمنين ليقرب لعبد الله ابن أمير المؤمنين بما سمى، ولمحمد، وعبد
الله، والقاسم بني أمير المؤمنين بما سمى، وكتب في كتابه هذا واشترط
عليكم، فبرئت منك ذمّة الله، وذمة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وذمم
المسلمين، وكل مال هو اليوم لكل رجل منكم أو يستفيده إلى خمسين سنة فهو
صدقة على المساكين، وعلى كل رجل منكم المشي إلى بيت الله الحرام الذي
بمكة خمسين حجَّة نفراً واجباً لا يقبل الله منه إلا الوفاء بذلك، وكل
مملوك لأحد منكم أو يملكه فيما يستقبل إِلى خمسين سنة حر، وكلّ امرأة
له فهي طالق ثلاثَاً البتة طلاق الحرج، لا مثنويِّة لذلك فيها، والله
عليكم بذلك كفيل، وكفى بالله حسيباً.
ونسخة الشرط الذي كتبه عبد الله ابن أمير المؤمنين بخط يده في الكعبة:
هذا كتاب لعبد الله بن هارون أمير المؤمنين كتبه له عبد اللّه بن هارون
أمير المؤمنين في صحة من عقله وجواز أمر من أمره، وصدق نيّة، فيما كتبه
في كتابه هذا، ومعرفة بما فيه من الفضل والصلاح له ولأهل بيته وجماعة
المسلمين أن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد والخلافة وجميع أمور
المسلمين بعد أخي محمد بن هارون، وولاني في حياته ثغور خراسان وكورها،
وجميع أعمالها، وشرط على محمد بن هارون الوفاء بما عقد لي من الخلافة
وولاية العباد والبلاد بعده وولاية خراسان وجميع أعمالها، ولا يعرض لي
في شيء مما أقطعني أمير المؤمنين، أو ابتاع لي من الضياع والعُقَد
والرّباع، أو ابتعت منه من ذلك، وما أعطاني أمير المؤمنين من الأموال
والجواهر والكساء والمتاع والدواب والرقيق وغير ذلك، فلا يعرض لي ولا
لأحد من عُمَالي وكُتَّابي بسبب محاسبة، ولا يتَّبع لي في ذلك ولا لأحد
منهم أبداً، ولا يدخل علي ولا عليهم ولا على من كان معي ممن استعنتُ به
من جميع الناس مكروهاً في نفسي ولا دم، ولا شعر، ولا بشر ولا مال، ولا
صغير ولا كبير. فأجابه إلى ذلك وأقَرّ به، وكتب له كَتاباً أكدَّ فيه
على نفسه ورضي به أمير المؤمنين، وقبله فشرطت لأمير المؤمنين، وجعلت له
على نفسي أن أسمع وأطيع محمد، ولا أعصيه، وأنصحه ولا أغشه، وأوفي
ببيعته وولايته، ولا أغدر، ولا أنكُث، وأنفِذ كتبَهَ وأوامره ، وأحسن
مؤازرته، وجهاد عدوه في ناحيتي، ما وفى لي على ما شرط لأمير المؤمنين
في أمري، وسمى في الكتاب الذي كتبه لأمير المؤمنين، فإن احتاج محمد إلى
جند وكتب إليَّ يأمرني بإشخاصه إليه، أو إلى ناحية من النواحي، أو عدو
خالفه وأراد نقض شيء من سلطانه أو سلطاني الذي أسنده أمير المؤمنين
إلينا أن أنفذ أمره ولا أخالفه، ولا أقصر في شيء كتب به إلى، وإن أراد
محمد أن يوَلِّي رجَلاً من ولاة العهد والخلافة بعدي، فذلك له ما وفِّى
لي بما جعله لي أمير المؤمنين واشترط لي عليه، وعلي إنفاذ ذلك والوفاء
له به ولا انقض ذلك ولا أبدله، ولا أقدم قبله أحداً من ولدي، ولا
قريباً ولا بعيداً من الناس، إلا أن يولِّي أمير المؤمنين هارون أحداً
من ولده العهد بعدي فيلزمني ومحمداً الوفاء له.
وجعلت
لأمير المؤمنين ولمحمد الوفاء لي بما شرطت وسمَّيت في كتابي هذا، ما
وَفى لي محمد بجميع ما اشترط لي أمير المؤمنين عليه في نفسي، وما
أعطاني أمير المؤمنين من جميع الأشياء المسمِّاة في هذا الكتاب الذي
كتبه له، وعليّ عهد الله وميثاقه وذمة أمير المؤمنين وذمتي وذمم آبائي
وذمم المسلمين وأشد ما أخذ الله على ميثاقه على النبيين والمرسلين من
خلقه، من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكدة التي أمر الله الوفاء بها،
ونهى عن نقضها وتبديلها، وإن أنا نقضت شيئاً مما شرطت وسمّيت في كتابي
هذا، أو غيَّرت أو بذلت، أو نكثت أو غدرت، فبرئت من الله ومن ولايته
ودينه، ومحمد رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقيت الله يوم القيامة كافراً
مشركاً، وكل امرأة هي لي اليوم، أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثاً
البتة طلاق الحَرج، وكلّ مملوك هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة
أحرار لوجه الله، وعلي المشي إلى بيت اللّه الحرام الذي بمكَة ثلاثين
حجة، نذراً واجباً علي في عنقي حافياً راجلاً، لا يقبل الله مني إلا
الوفاء بذلك، وكل مال لي أو أملكه إلى ثلاثين سنة، هَدْي بالغ الكعبة،
وكلّ ما جعلت لأمير المؤمنين وشرطت في كتابي هذا لازم لا أضمر غيره،
ولا أنوي غيره.
وشهد سليمان ابن أمير المؤمنين وفلان وفلان. وكتب في ذي الحجة سنة سبع
وثمانين ومائة وكان في نسخة الكتاب الذي كتبه هارون إلى العمّال.
أما بعد، فإن الله ولي أمير المؤمنين، وولي ما ولاه، والحافظ لما
استرعاه وأكرمه به من خلافته وسلطانه والصانع له فيما قدم وأخَّر من
أموره، والمنعم عليه بالنَصر والتأييد في مشارف الأرض ومغاربها،
والكالىء والحافظ والكافي من جميع خلْقه وهو المحمود على جميع آلائه،
والمسؤل تمامَ حسْنِ ما مضى من قضائه لأمير المؤمنين، وعادته الجميله
عنده، وإلهامَ ما يرضى به، ويوجب له عليه أحسن المزيد من فضله.
ولم يزل أمير المؤمنين منذ اجتمعت الأمة على عَقْد العهد لمحمد ابن
أمير المؤمنين من بعد أمير المؤمنين، ولعبد الله ابن أمير المؤمنين من
بعد محمد، يُعمل رأيه ونظره ورويّته فيما فيه الصلاح لهما ولجميع
الرعية والجمع للكلمة، واللَّم للشعث، والحسم لكيْد أعداء النِّعم من
أهل الكفر والنفاق والغلّ، والقطع لآمالهم من كلّ فرصة يرجون إدراكها
وانتهازها، ويستخير الله في ذلك ويسأله العزيمة له على ما فيه الخِيرَة
لهما ولجميع الأمة.
فعزم الله لأمير المؤمنين على الشخوص بهما إلى بيت الله الحرام، وأخذ
البيعة منهما لأمير المؤمنين بالسمع والطاعة والانقياد لأمره، واكتتاب
الشرط على كلِّ واحد منهما لأمير المؤمنين ولهما بأشد المواثيق والعهود
وأغلظ الأيمان والتَّوكيد، وأخذ لكل واحد منهما على صاحبه بما التمس به
أمير المؤمنين اجتماع ألفتهما ومودتهما وتواصلهما ومكانتهما على حسن
النظر لأنفسهما ولرعية أمير المؤمنين التي استرعاهما.
فلما قدم مكة أظهر لمحمد وعبد الله رأيه في ذلك، وما نظر فيه لهما،
فقبلا ما دعاهما إليه، وكتَبا لأمير المؤمنين في بَطْن بيت الله الحرام
بخطوطهما، بمحْضر ممن شهد الموسم وأهل بيت أمير المؤمنين وقَوّاده
وقضاته وحَجبة الكعبة وشهاداتهم عليهما كتابين استودعهما أمير المؤمنين
الحجبة، وأمر بتعليقهما في داخل الكعبة.
فلما فرغ أمير المؤمنين من ذلك أمر قضاته الذين شهدوا عليهما، وحضروا
كتابيهما، أن يعلموا جميع مَن حضر الموسم من الحاج والعمار ووفود
الأمصار ما شهدوا عليه من شرطهما وكتابيهما ليعرفوا ذلك ويؤدُوه إلى
إخوانهم وأهل بلدانهم. ففعلوا، وقرىء عليهم الشرطان جميعاً في المسجد
الحرام، فانصرفوا. وقد اشتهر علم ذلك عندهم فأثبتوا الشهادة عليه،
وعرفوا نظر أمير المؤمنين لصلاحهم وحقن لدمائهم، ولم شعثهم وإطفاء
جَمْرة أعداء الله، وأعداء دينه.
وقد نسخ أمير المؤمنين ذينك الشرطين اللذين كتبهما محمد وعبد الله في
أسفل كتابه هذا.
وكتب إسماعيل بن صبيح يوم السبت لسبع ليال بقين من المحرم سنة ثمان
وثمانين ومائة.
وأمر هارون الرشيد للمأمون بمائة ألف درهم حملت له من الرقة إلى بغداد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أصبغ بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، أبو زيان
حكى عنه
عون بن عبد الله قال: قال لي أصبغ: سمعت من أبيك كلاماً نفعني اللّه
به: لئن يخطىء الإمام في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة.
توفي أصبغ في رمضان هذه السنة.
حسان بن إِبراهيم، أبو هشام العنزي الكوفي قاضي كرمان.
ولد سنة ست وثمانين، رأى محارب بن دثار، وسمع هشام بن عروة، والثوري،
وروى عنه عفان بن مسلم، ووثقه يحيى، وتوفي في هذه السنة، وله مائة سنة.
سلم الخاسر الشاعر هو: سلم بن عمرو بن حماد بن عطاء.
يقال أنه مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ويقال: بل مولى المهدي.
واختلف لِمَ سمَي الخاسر، فقال اليزيدي: ورث من أبيه مائة ألف درهم أو
أصاب من مدائح الملوك مائة ألف درهم، فأنفقها كلها على الأدب وأهله.
وحكى الأصفهاني: أنه ورث من أبيه مصحفاً فباعه واشترى بثمنه طنبوراً.
وذكر الصولي أن الرشيد قال له: لِمَ سُمِّيت الخاسر؟ فقال: بعت وأنا
صبي مصحفاً واشتريت بثمنه شعر امرىء القيس، وقد رزقني اللّه حفظ القرآن
بعد ذلك، فقال له: فأنت الآن الرابح.
قال: وقيل إنهم رأوه يوماً في سوق الدفاتر وقد باع مصحفاً بشعر الأعشى،
فقال له الناس: أنت واللّه الخاسر. فبقيت عليه.
قال: وكان مقتدراً على الشعر بلغ من اقتداره أنه اخترع شعراً على حرف
واحد لم يسبق إليه، وأقل شعر سُمع للعرب على حرفين، نحو قول دريد بن
الصمة:
ياليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
فقال سلم الخاسر لموسى الهادي شعراً على حرف واحد منه:
موسى المطرغيث بكرثم انهمر
كم اعتسرثم اقتسروكم قدر
ثم غفرعدل السيرباقي الأثر
خيرالبشرفرع مُضربدرٌ بدَر
لمن نظرهوالوزرلمن حضر
والمفتخرلمن غبروالمجتبر
لمن عثر.
وذكر الخطيب أنه كان على طريقة غير مرضيَّة من المجون والخلاعة والفسق،
ثم تعرى وترك ذلك، فرقت حاله، فاغتم لذلك، ورجع إلى شر مما كان عليه
أولاً، فباعِ مصحفاً كان له واشترى بثمنه دفتراً فيه شعر، فشاع خبره في
الناس فسمّوه: سلماَ الخاسر لذلك.
وكان من الشعراء المجيدين، وكان من تلامذة بشَّار، وصار يقول أرق من
شعره، فغضب بشار، وكان بشار قد قال:
مَنْ راقبَ الناسَ لم يظفر بحاجتِهِ ... وفاز بالطيباتِ الفاتك اللهج
فقال هو:
من راقب الناس مات غماً ... وفاز باللّذة الجَسُور
فغضب بشار وقال: ذهب واللّه بيتي، تأخذ المعاني التي قد تعبت فيها
فتكسوها ألفاظاً أخف من ألفاظي!؟ لا أرضى عنك. فما زالوا يسألونه حتى
رضي عنه.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال،: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن عمر قال: قال
محمد بن داود بن الجراح: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني
أحمد بن المبارك بن خالد قال: حدثني الجواني الهامشي قال: حدثني أبي
قال: كان سلم قد كسب مالاً بقصيدته التي مدح بها المهدي، التي أولها:
حضر الرحيل وشدَت الأحداج ... وحدا بهنَّ مشمر مزعاج
شربت بمكة من ذرى بطحائها ... ماء النبوة ليس فيه مزاج
وكان المهدي أعطى هارون بن أبي حفصة مائة ألف درهم، التي أولها :
طرقتك زائرة فحي خيالها.
فأراد أن ينقص سلماً عن هذه الجائزة، فحلف سلم أن لا يأخذ إلا مائة ألف
درهم، وألف درهم، وقال: تطرح القصيدتان إلى أهل العلم حتى يخيروا
بتقديم قصيدتي، فأنفذ له المهدي مائة ألف درهم، وألف درهم، فلما بلغ
إلى زمان الرشيد قال قصيدته التي أولها:
قل للمنازل بالكثيب الأعفر ... أسقيت غادية السحاب الممطر
قد بايع الثقلان مهدي الهدى ... لمحمد ابن زبيدة ابنة جعفر
فحشت زبيدة فاه دراً، فباعه بعشرين ألف دينار، وهذا حين بايع الرشيد
لمحمد ابن زبيدة.
ومات سلم
في أيام الرشيد وقد اجتمع عنده من المال قيمة ستة وثلاثين ألف دينار،
فأودعها أبا السمراء الغساني، فبقيت عنده، وأتى إبراهيم الموصلي يوم
العيد عند الرشيد وغنَّاه فأطربه، فقال: يا إبراهيم، سل ما شئت. قال:
نعم يا سيدي، أسأل شيئاً لا يرزأك، قال: ما هو؟ قال: مات سلم وليس له
وارث، وقد خلف ستة وثلاثين ألف دينار عند أبي السمراء الغساني، تأمره
بدفعها إليَّ. فبعث إليه أن يدفعها إليه فدفعها. وكان الجماز بعد ذلك
قدم هو وأبوه يطلبان ميراث سلم. وأنهما من قرابته .
وفي رواية: أن تركته كانت خمسين ألف دينار، وذكروا أنه لما قال أبو
العتاهية:
تعالى اللّه يا سلم بن عمر ... وذل الحرصُ أعناقَ الرجال
غضب سلم وقال: يزعم أني حريص، فقال يرد عليه:
ما أقبح التزهيدَ من واعظٍ ... يُزَهد الناس ولا يَزهَدُ
لو كان في تزهيده صادقاً ... أضحى وأمسى بيته المسجد
ورفض الدنيا فلم يلقها ... ولم يك يسعى ويسترفد
أيخاف أن تنفذ أرزاقه ... والرزق عند اللّه لا ينفد
والرزق مقسوم على ماترى ... يناله الأبيض والأسود
كلاَ يوفى رزقه كاملاً ... مَنْ كف عن جهدٍ ومَنْ يجهد
قال أبو هفان: وصل إلى سلم من البرامكة خاصة عشرون ألف دينار، ومن
الرشيد مثلها.
شقران بن علي الإفريقي، صاحب الفرائض. كان رجلاً صالحاً، بعبادته يضرب
المثل. توفي في هذه السنة.
عمر و بن زرارة بن واقد، أبو محمد، الكلابي النيسابوري.
سمع معاذ بن معاذ، وسفيان بن عيينة، وهشيم بن بشير، وابن علية، وغيرهم.
وقرأ القرآن على علي بن حمزة الكسائي. روى عنه: البخارىِ، ومسلم،
وغيرهما. وكان فوق الثقة.
العباس بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس. كان من رجالات بني
هاشم، وولي إمرة الجزيرة أيام الرشيد، وكان أجود الناس رأياً، وكان
الرشيد يقول: عمي العباس. يُذَكِّرنَا أسلافنا.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا الأزهري،
أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن عرفة قال: توفي العباس سنة خمس وثمانين
ومائة، وُلي العباس بن محمد - الذي تنسب إليه العباسية - الجزيرة، وصار
إلى الرقة، وأمر الرشيد ففرش له في قصر الإمارة، واتخذت له فيه الآلات
وشحن بالرقيق، وحمل إليه خمسة آلاف ألف درهم، وفي سنة ست وثمانين ومائة
توفي العباس ببغداد في رجب، وصلّى عليه الأمين، ودفن في العباسية
وسِنُّهُ خمس وستون سنة وستة أشهر، وستة عشر يوماً.
أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا البيهقي قال: حدثنا
سهل بن أحمد الديباجي قال: حدثنا محمد بن أحمد بن الفضل قال: حدثنا أبو
سلمة هشام بن عمرو القرشي قال: قال رجل للعباس بن محمد: إني أتيتك
لحاجة صغيرة. فقال له: اطلب لها رجلاً صغيراً.
يقطين بن موسى. كان أحد الدعاة إلى دولة بني العباس، وكان حازماً
داهية، ولما حبس مروان بن محمد إبراهيم الإمام تحيرت الشيعة فلم تدر
مَن الإمام بعده، فقال لهم يقطين: أنا أعلمكم. فمضى إلى الشام فوقف
لمروان، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا رجل تاجر، قدمت بمتاع، فأدخلت إلى
هيئة فابتاعه مني، ولم يزل يسوفني بثمنه، حتى جاءت رسلك فحبسته، فإن
رأيت أن تجمع بيني وبينه وتأخذ لي بحقي. فقال مروان لبعض خدمه: يا
غلام، امض معه إلى إبراهيم وقل له أخرج لهذا من حقه. فمضى معه إليه،
فلما رآه قال: يا عدو الله، إلى متى تمطلني ومن أمرت بدفع مالي إليّ؟.
فقال: إلى ابن الحارثية. فعاد إلى الشيعة فأعلمهم أن أبا العباس هو
الإمام بعده.
ثم دخلت
سنة سبع وثمانين ومائة
فمن الحوادث فيها: قتل الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد، وإيقاعه
بالبرامكة.
فأما سبب غضبه على جعفر الذي قتله لأجله فقد اختلف فيه، وفي سبب تغيره
على البرامكة.
فقال
بختيشوع: إني لقاعد في مجلس الرشيد إذ طلع يحيى بن خالد، وكان يدخل بلا
إذن، فلما صار بالقرب من الرشيد وسلَّم عليه ردّ عليه رداً ضعيفاً،
فعلم يحيى أن أمرهم قد تغيَّر، ثم أقبل علي الرشيد فقال: يا بختيشوع،
يدخل عليك في منزلك أحد بلا إذنك؟ فقلت: لا، ولا يطمع في ذلك، فقال: ما
بالنا يدخل علينا بلا إذن. فقام يحيى فقال: يا أمير المؤمنين قدمني
اللّه قبلك، واللّه ما ابتدأت ذلك الساعة، وما هو إلا شيء خصني به أمير
المؤمنين، ورفع به ذكري حتى إن كنت لأدخل وهو في فراشه، وما علمت أن
أمير المؤمنين كره ما كان يحب، وإذ علمت فإني أكون في الطبقة الثانية
من أهل الإذن والثالثة إن أمرني سيدي بذلك. قال: فآستحى، وكان من أرق
الخلفاء وجهاً، وعيناه في الأرض، ما يرفع طرفه. ثم قال: ما أردت ما
تكره، ولكن الناس يقولون. وخرج يحيى.
وقال ثمامة بن أشرس: رفع محمد بن الليث رسالة إلى الرشيد يعظه فيها
ويقول: إن يحيى بن خالد لا يغني عنك من الله شيئاً، وقد جعلته فيما
بينك وبين اللّه، فكيف أنت إذا وقفت بين يدي الله فسألك عما علمت في
عباده وبلاده، فقلت: استكفيت يحيى أمور عبادك. أتراك تحتج بحجة يرضاها.
مع كلام فيه توبيخ وتقريع، فدعى الرشيد يحيى وقد تقدم إليه خبر
الرسالة، فقال: تعرف محمد بن الليث؟ قال: نعم قال: فأي الرجال هو؟ قال:
متهم على الإسلام. فأمر به، فوضع في الحبس دهراً، فلما تنكر الرشيد
للبرامكة ذكره فأمر بإخراجه، فأحضر فقال له بعد مخاطبة طويلة: يا محمد،
أتحبني. قال: لا والله يا أمير المؤمنين. قال: تقول هذا!؟ قال: نعم،
وضعت رجلي في الأكبال، وحلت بيني وبين العيال بلا ذنب أتيت، ولا حدث
أحدثت، سوى قول حاسد يكيد الإسلام وأهله، ويحبّ الإلحاد وأهله، فكيف
أحبك؟ قال: !صدقت. وأمر بإطلاقه، ثم قال: يا محمد، أتحبني؟ قال: لا
واللّه يا أمير المؤمنين، ولكن قد ذهب ما في قلبي. فأمر أن يعطى مائة
ألف درهم، فأحضرت فقال: يا محمد، أتحبني؟ قال: أما الآن فنعم، قد أنعمت
عليّ، وأحسنت إلي. قال: انتقم الله ممن ظلمك، وأخذ لك بحقك ممن بعثني
عليك. قال: فقال الناس في البرامكة، فأكثروا، وان ذلك أو ما ظهر من
تغير حالهم.
وقال محمد بن الفضل مولى سليمان بن أبي جعفر: دخل يحيى بن خالد بعد ذلك
إلى الرشيد، فقام الغلمان إليه فقال الرشيد لمسرور الخادم: مُر الغلمان
أن لا يقوموا إليه إذا دخل. فدخل فلم يقم إليه أحد، فاربدَ لونُه، وكان
الغلمان والحجاب بعد ذلك إذا رأوه أعرضوا عنه، فكان ربما استسقى الشربة
فلا يسقونه.
وقال أبو محمد اليزيدي: مَنْ قال إن الرشيد قتل جعفر بن يحيى بغير سبب
يحيى بن عبد اللّه بن حسن فلا تصدّقه، وذلك أن الرشيد دفع يحيى إلى
جعفر فحبسه، ثم دعى به ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره فأجابه
إلى أن قال له: اتق الله في أمري ولا تتعرض أن يكون خصمك غداً محمد صلى
الله عليه وسلم، فواللّه ما أحدثت حدثاً، ولا آويت محدثَاً. فرقَّ له
وقال: اذهب حيث شئت من بلاد اللّه. قال: وكيف أذهب ولا آمن أن أؤخذ بعد
قليل. فأرَدّ إليك أو على غيرك. فوجّه إليه من أداه إلى مأمنه. وبلغ
الخبر الفضل بن الربيع من عين كانت له عليه من خاص خدمه، فدخل على
الرشيد فأخبره، فأراه أنه لا يعبأ بخبره وقال: ما أنت وهذا، لا أمّ لك،
فلعل ذلك عن أمري. فانكسر الفضل، وجاءه جعفر فدعا بالغداء فأكلا، وجعل
يلقمه ويحادثه، إلى أن كان آخر ما كان بينهما أن قال: ما فعل يحيى بن
عبد اللّه؟ قال: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس الضيق والأكبال
الثقيلة. فقال: بحياتي! فأحجم جعفر، وكان من أرق الخلق ذهناً، وأصحهم
فكراً، فهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره، فقال: لا وحياتك يا
سيدي، ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به، ولا مكروه عنده. قال: نعم ما
فعلت، ما عدوتَ ما كان في نفسي. فلما خرج أتبعه بصره حتى كاد يتوارى عن
وجهه، ثم قال: قتلني اللّه بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك.
فكان من أمره ما كان.
وقال
إدريس بن بحر: عرض رجل للرشيد فقال: نصيحة، فقال لهرثمة: خذ إليك الرجل
وسَلْه عن نصيحته. فسأله فأبى أن يخبره وقال: هي سر من أسرار الخليفة.
فأخبر هرثمة الرشيد فقال له: لا تبرح بالباب حتى أفرغ له. فلما كان في
الهاجرة، وانصرف من كان عنده، دعا به، فقال: أخلني. فالتفت هارون إلى
بنيه فقال: انصرفوا يا فتيان. فوثبوا، وبقي خاقان وحسين على رأسه، فنظر
إليهما الرجل فقال: تنحيا عنا. ففعلا، ثم أقبل على الرجل فقال: هات ما
عندك. فقال: على أن تؤمنني. قال: علي أن أؤمنك وأحسن إليك. قال: كنت
بحلوان في خان من خاناتها، فإذا أنا بيحيى بن عبد الله في دراعة صوف
غليظة وكساء صوف أخضر غليظ، وإذا معه جماعة ينزلون إذا نزل، ويرحلون
إذا رحل، ويكونون منه برصد، يوهمون مَنْ رآهم أنهم لا يعرفونه وهم
أعوانه، ومع كل واحد منهم منشور يأمن له إن عُرِض له. قال: تعرف يحيى
بن عبد اللّه؟ قال: أعرفه قديماً، وذلك الذي حقق معرفتي به بالأمس.
قال: فصفه. قال: مربوع، أسمر، رقيق البشرة، أجلح، حسن العينين، عظيم
البطن. قال: صدقت هو ذلك. قال: فما سمعته يقول؟ قال: ما سمعته يقول
شيئاً غير أني رأيته يصلي، ورأيت غلاماً من غلمانه أعرفه قديماً جالساً
على باب بالخان، فلما فرغ من صلاته أتاه بثوب غسيل، فألقاه في عنقه،
ونزع الجبة الصوف، فقال له: أحسن الله جزاءك، وشكر سعيك، فمن أنت. قال:
رجل من أبناء هذه الحولة، وأصلي من مرو، ومولدي مدينة السلام. قال:
فمنزلك بها؟ قال: نعم. فأطرق ملياً، ثم قال: كيف احتمالك لمكروه تمتحن
به في طاعتي؟ قال: أبلغ من ذلك حيث أحب أمير المؤمنين. قال: كن بمكانك
حتى أرجع. فدخل حجرة كانت خلف ظهره، فأخرج كيساً فيه ألفا دينار، فقال:
خذ هذه ودعني وما أدبر فيك. فأخذها وضم عليها ثيابه، ثم قال: يا غلام.
فأجابه خاقان وحسين، فقال: اصفعا ابن اللخناء، فصفعاه نحواً من مائة
صَفْعة، ثم قال: أخرِجاه إلى مَنْ بقيَ في الدار وعمامتُه في عنقه،
فقولا: هذا جزاء من يسعى ببطانة أمير المؤمنين وأوليائه ففعلا ذلك
وتحدثوا بخبره، ولم يعلم بحال الرجل أحد، ولا بما ألقى إلى الرشيد حتى
كان من أمر البرامكة ما كان.
أخبرنا
ابن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا أبو محمد
الجوهري قال: أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال: حدثنا عبد الواحد بن
محمد الخصيبي قال: حدَّثني أبو الفضل ميمون بن مهران قال: حدَّثتني
أمية البرمكية قالت: الناس يكثرون في قصة البرامكة، وأوكد الأسباب فيما
نالهم أن جعفر بن يحيى كان اشترى جارية مغنية يقال لها فتينة لم يكن
لها نظير في الدنيا في حسن الخلق وسجاة وطيبة، وكان ابن جامع إذا سمعها
بكى ما دامت تغني، وكان غيره من الحذاق يسلمون لها، وكان شراؤها على
جعفر مائة ألف دينار، فطلبها منه الرشيد فلم يدفعها إليه، فلم يكن إلا
قليلاً حتى نزل بهم ما نزل، فأخذت وأخذ جميع من معها من الجواري
والعوامل، ثم جلس لنا وأدخلنا عليه وفي يد كل واحدة منا ما تعمل به،
فأقبل يأمر واحدة واحدة، فتغني المغنية، وتزمر الزامرة، حتى بلغ إلى
فتينة، فقال لها: غَنّي. فأمسكت، فقلنا لها ونحن نرعد: ويحك غَنّي!
فأسبلت دمعها وقالت: أما بعد الساعة فلا. فحثثناها على ذلك فأبت، فنظر
الرشيد إلى أقبح مَنْ على رأسه وهو الحارث بن بسيحر وقال: خذها، قد
وهبتها لك. فأخذ بيدها ومضت معه، فلما ولت دعا الحارث وأسرَّ إليه
شيئاً علمناه فيما بعد؟ أمره أن لا يقربها، إذ كان إنما أراد كسرها، ثم
أمر بصرفنا فانصرفنا، ومكثنا أياماً، ثم ذكرنا فأمر بإحضارنا على
السبيل التي حضرناها أولاً، فلما وقفنا بين يديه قال للحارث: ما فعلت
فلانة؟ يعني: فتينة. قال: هي قبلي يا أمير المؤمنين. قال: هاتها.
فأحضرها وجلست وجلسنا، فأخذنا في شأننا وقال: هيهِ غنّي. فعصرت عينيها
ثم بكت وقالت: أما بعد الساعة فلا. فغضب الرشيد وقال: سيف ونطع، ثم قال
لها: غني. فردَّتْ مثل قولها الأول، وأسبلت الدموع، وذهبت عقولنا نحن،
ووقعت علينا الرعدة من شدة الخوف، فقال للسياف: انظر إلى يدي، فإذا
عقدت لك بالخنصر اثنين فأمسك، فإذا عقدت بالوسطى ثلاثاً فاضرب. فأخذ
السياف السيف ووقف وراءها شاهراً به. فقال لها الرشيد: غني: فقالت: أما
بعد الساعة فلا، وهي تبكي وقد علا بكاؤها، فعقد بيده واحدة، ثم قال لها
ثانية فقالت القول الأول، فعقد اثنين، ورفع يده يريها السياف وأقبل
يحرك الوسطى ويقول لها: غنّي. وأقبلنا عليها نناشدها في نفسها وفينا،
فاندفعت تغني:
لما رأيت الديار قد درست ... أيقنت أن النعيم لم يعد
فوثب إليها الرشيد، فأخذ العود من يدها، وأقبل يضرب به وجهها ورأسها
حتى تفتت، وأقبلت الدماء، وتطايرنا نحن، وحملت من بين يديه وقيدة،
فمكثت ثلاثاً وماتت.
وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري سبباً عجباً في خبر البرامكة في
هلاك جعفر قال: كان الرشيد لا يصبر عن جعفر وأخته عباسة بنت المهدي،
وقال جعفر: أزوجكها ليحل لك النظر إليها، ولا تمسها. فكانا يحضران
مجلسه، ثم يقوم عن مجلسه ويخليهما، فيقوم إليها جعفر فيجامعها، فحبلت
منه، فولدت غلاماً، وخافت من الرشيد، فلم يزل الأمر مستوراً، ووجهت
المولود مع خواص لها من مماليكها إلى مكة، فلم يزل الأمر مستوراً عن
الرشيد حتى وقع بين عباسة وبعض جواريها شر، فأنهت أمرها وأمر الصبي،
إلى الرشيد، وأخبرت بمكان الصبي، ومع مَنْ هو من جواريها، وما معه من
الحلي التي كانت زيَّنته بها أمه، فلما حج هارون هذه الحجة أرسل إلى
الموضع مَنْ يأتيه بالصبي وحواضنه، فلما حضرن سأل اللواتي معهن الصبي،
فأخبرنه بمثل القصة التي أخبرته بها الرافعة على عباسة، وكان ذلك سبب
ما نزل بهم.
وقد ذكر أبو بكر، الصولي أن علية بنت المهدي قالت للرشيد: ما رأيت لك
يوم سرور منذ قتلت جعفراً، فلأي شيء قتلته؟ فقال: لوعلمت أن قميصي يعلم
السبب الذي قتلت له جعفراً لأحرقته. وكان يحيى بن خالد قد كتب إلى
جعفر: إني إنما أهملتك ليعثر الزمان بك عثرة يُعرف بها أمرك، وإن كنت
أخشى أن تكون التي لا سوى لها وقال يحيى للرشيد: يا أمير المؤمنين، أنا
واللّه أكره مداخلة جعفر معك، ولست آمن أن ترجع العاقبة في ذلك عليَّ
منك، فلو أعفيته واقتصرت به على ما يتولاه من جسيم أعمالك كان ذلك
واقعاً بموافقتي. قال الرشيد: يا أبت، ليس بك ذلك، ولئن تريد أن تقدم
عليه الفضل.
وقد
أنبأنا محمد بن عبد الباقي قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه
قال: حدثني أبو الحسين علي بن هشام قال: سمعت الحسن بن عيسى يقول:
الشَّرَهُ قتل جعفر بن يحيى. فقيل له: إن الناس يقولون إن ذنبه أمر بعض
أخوات الرشيد. فقال: هذا من رواية الجُهَّال من كان يجسر على الرشيد
بهذا إنما كان جعفر قد حاز ضِيَاع الدنيا لنفسه، وكان الرشيد إذا سافر
لا يمر بضيعة أو بستان إلا قيل: هذا لجعفر.
فما زال ذلك في نفسه، ثم جنى على نفسه بأن وجه برأس بعض الطالبيين في
يوم نيروز من غير أن يكون قد أمره بقتله، فاستحل بذلك دمه.
وقيل: بل أرادت البرامكة إظهار الزندقة وإفساد الملك فقتلهم لذلك.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر قالا: أخبرنا المبارك بن
عبد الجبار، أخبرنا أبو عبد الله النصيبي، أخبرنا أبو القاسم إِسماعيل
بن سويد، حدثنا أبو بكر الأنباري قال: حدثني أبي، حدثنا عبد الله بن
عبد الرحمن المدائني قال: قال أبو زكار الأعمى: كنت عند جعفر البرمكي
في الليلة التي قتل فيها وهو يغني بهذا الشعر:
فلا تَبْعَد فكل فتىً سيأتي ... عليه الموتُ يبكر أو يُغَادي
وكل ذخيرة لا بد يوماً ... وإن بقيت تصير إلى نفاد
فلو فودِيتَ من حدث الليالي فديتك بالطريف وبالتلادِ
فقلت: يا سيدي، ممن أخذت هذا الشعر. قال: من أحسن شعراً من حكم الوادي.
فما قام عن موضعه حتى جاء مسرور غلام الرشيد فأخذ رأسه.
قال علماء السير: لما انصرف الرشيد عن الحج في سنة ست وثمانين قال
مسرور الخادم: سمعت الرشيد يقول في الطواف: اللهم إنك تعلم أن جعفر بن
يحيى قد وجب عليه القتل، وأنا أستخيرك في قتله فخِرْ لي. قالوا: ثم عاد
إلى الأنبار وبعث إليه بمسرور وحماد بن سالم، والمغني يغني:
فلا تَبْعَد فكل فتىً سيأتي ... عليه الموتُ يبكر أَو يغادي
قال مسرور: الذي جئت فيه من ذاك قد والله طرقك، أجب أمير المؤمنين.
قال: فوقع على رجلي يقبلها ويقول: حتى أدخل فأوصي. فقلت: أما الدخول
فلا سبيل إليه، ولكن أوص بما شئت. فتقدم في وصيته بما أراد، وقال: كل
مال لي فهو صدقة، وكل عبد لي فهو حر، وكل مَنْ لي عنده وديعة أو حق فهو
في حل. ثم أتت رسل الرشيد تستحث مسروراً، فأخرجه إخراجاً عنيفاً، حتى
أتى به المنزل الذي فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيد حمار، وأخبر الرشيد
فقال: ائتني برأسه. فجاء إلى جعفر وأخبره، فقال: الله اللّه، واللّه ما
أمرك بما أمرك به إلا وهو سكران، فدافع بأمري حتى أصبح، أؤامِره فيّ
ثانية. فعاد ليؤامره، فقال: يا ماصّ بَظْر أمّه ائتني برأس جعفر. فرجع
إليه فأخبره فقال: عاوده ثالثة. فأتاه فحدفه بعمود وقال: نُفيت من
المهديّ إن جئتني ولم تأتني برأسه لأرسلن إليك مَنْ يأتيني برأسك،
فأتاه برأسه.
وكان قتله ليلة السبت أول ليلة من صفر سنة سبع وثمانين بأرض الأنبار،
وهو ابن سبع وثلاثين سنة، ثم أمر بنصب رأسه على الجسر، وتقطيع بدنه،
وصلب كل قطعة على جسر، فلم يزل كذلك حتى مرّ عليه الرشيد حين خروجه إلى
خراسان، فقال: ينبغي أن يحرق هذا. فأحرق.
قال علماء
السير: وجه الرشيد في ليلة قتل جعفر من أحاط بيحيى بن خالد وجميع ولده
ومواليه ومن كان منهم بسبيل، فلم يفلت منهم أحد كان حاضراً، وحوّل
الفضل بن يحيى ليلاً فحُبس في ناحية من منازل الرشيد، وحُبس يحيى بن
خالد في منزله، وأخذ ما وجد لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك، ومنع أهل
العسكر من أن يخرج منهم خارج إلى مدينة السلام أو إلى غيرها، ووجَّه من
ليلته رجاء الخادم إلى الرَّقة في قبض أموالهم، وما كان من رقيقهم
ومواليهم وحشمهم، وفرق الكتب من ليلته في جميع الغلمان في نواحي
البلدان والأعمال بقبض أموالهم وأخذ وكلائهم فلما أصبح كتب إلى السندي
بتوجيه جثة جعفر إلى مدينة السلام، ونصْب رأسه على الجسر الأوسط، وقطع
جثته وصلْب كل قطعة على الجسر الأعلى والجسر الأوسط. ففعل السندي ذلك،
وأمر بالنداء في جميع البرامكة أن لا أمان لمن أمنهم أو آواهم إلا محمد
بن خالد وولده وأهله وحشمه، فإنه استثناهم لما ظهر من نصيحة له، وعرفَ
براءته مما دخل فيه غيره من البرامكة، وخلَّى سبيل يحيى قبل شخوصه مع
العم، ووكَل بالفضل، ومحمد، وموسى، وأبي المهدي صهرهم حَفظةً من قيل
هرثمة بن أعين إلى أن وافى بهم الرّقة، وأتى بأنس بن أبي شيخ صبيحة
الليلة التي قتل فيها جعفر فأصر بقتله، وكان من أصحاب البرامكة، وكان
قد رفع إليه عنه أنه على الزندقة.
وقيل ليحيى بن خالد أن الرشيد قد قتل ابنك، فقال: كذلك يُقتَل ابنُه.
أنبأنا محمد بن أبي طاهر البزاز، أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن
ابنه قال: حدثني علي بن هشام، أخبرنا علي بن عيسى قال: حدثنا أبي،
حدثنا داود بن الجراح قال: قال لي الفضل بن مروان قال: كنت أعمل في
أبواب ضياع الرشيد الحساب، فنظمت في حساب السنة التي نكب فيها
البرامكة، فوجدت ثمن هدية دفعتين من مال الرشيد أهداهما إلى جعفر بن
يحيى بضعة عشر ألف دينار، وفيه بعد شهور من هذه الهدية قد بينا الحساب
لثمن نفط وحب قطن ابتيع فأحرق به جثة جعفر بن يحيى بضعة عشر قيراطاً
ذهباً.
وقد ذكر أبو بكر الصولي: أن الرشيد كان يقول؟ لعن اللّه مَنْ أغراني
بالبرامكة، ما رأيت رخاء بعدهم، ولا وجدت لذة راحة.
قال الصولي: وحدثنا الغلابي، حدثنا العتبي قال: قال لي الرشيد بعد قتل
البرامكة: وددت والله إني شوطرت عمري، وغرمت نصف ملكي، وأني تركت
البرامكة على أمرهم.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني الأزهري، أخبرنا محمد
بن العباس قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف قال: أخبرني أبو النضر هشام
بن سعيد الزهري قال: أخبرني أبي قال: لما صلب الرشيد جعفر بن يحيى وقف
الرقاشي الشاعر فقال:
أمَا واللّه لولا خوف واشٍ ... وعيَنٌ للخليفة لاتنام
لطفنا حَوْلَ جِذعكَ واستلَمْنا ... كما للنَّاس بالحَجرِاسْتلامُ
فما أبصوت قبلك يا ابن يحيى ... حساماً فلَّه السيف الحسامُ
على اللذات والدنيا جميعاً ... ودولَة آل برمكٍ الّسلامُ
فقيل للرشيد، فأمر به فأحضر فقال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: تحركت
نعمته في قلبي فلم أصبر. قال: كم أعطاك؟ قال: كان يعطيني كل سنة ألف
دينار. قال: فأمر له بألفي دينار.
أخبرنا القزاز أخبرنا أحمد بن علي، الخطيب. قال: أخبرنا محمد بن عبد
الواحد بن علي، البزاز قال: أخبرنا أبو سعيد الحسن بن عبد الله
السيرافي قال: أخبرنا محمد بن أبي الأزهر قال: حدثنا الزبير بن بكار
قال: حدثني عمي مصعب بن عبد اللّه قال: لما قتل جعفر بن يحيى وصُلب
بباب الجسر رأسه، وفي الجانب الغربي جسده، وقفت امرأة على حمار فاره،
فنظرت إلى رأسه فقالت بلسان فصيح: واللّه لئن صرت اليوم آية لقد كنت في
المكارم غاية، ثم أنشأت تقول:
لما رأيت السيف خالط جعفراً ... ونادى منادٍ للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وأيقنت أنما ... قصارى الفتى يوماً مفارقة الدنيا
وما هي إلا دولة بعد دولة ... تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى
إذا أنزلت هذا منازل رفعةٍ ... من الملك حطت ذا إلى الغاية القصوى
ثم إنها حركت الحمار الذي تحتها وكأنها كانت، ريحاً لم يعرف لها أثر.
وفي هذه
السنة: هاجت العصبية بدمشق بين المضرية واليمانية، فوجَّه الرشيد محمد
بن منصور فأصلح بينهم.
وفيها: زلزلت المَصيصة فانهدم بعض سورها، ونضب ماؤهم ساعة من الليل.
وفيها: غزا هارون الروم، وافتتح هرقلة فظفر بابنة بطريقها فاستخلصها
لنفسه، وأغزى ابنه القاسم الصائفة، ووهبه لله عز وجل، وجعله قرباناً له
ووسيلة، وولاه العواصم، فدخل أرض الروم في شعبان، فأناخ على حصن سنان،
فجهدوا، فبعث إليه ملك الروم يبذل له إطلاق ثلثمائة أسير وعشرين أسيراً
من أسارى المسلمين على أن يرحل عنهم، ففعل.
وفيها: غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح وحبسه، وكان بلغه أنه يروم
الخلافة، فلم يزل محبوساً حتى توفي الرشيد، فأطلقه محمد، وعقد له على
الشام.
وفيها: نقض صاحب الروم الصلح الذي كان جرى بين الذي قبله وبين
المسلمين، ومنع ما كان ضمنه الهالك لهم، وكان سبب النقض: أن الروم كانت
عليهم امرأة تملكهم، فخلعوها وملكوا عليهم نقفور، فكتب إلى الرشيد: من
نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد: فإن الملكة التي كانت
قبلي أقامتك مقام الرّخّ، وأقامت مقامها مقام البَيدق، فحملت إليك من
أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثاله إليها، لكن ذلك ضعف النساء وحمقهنّ،
فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قِبَلك من أموالها، وافتد نفسك، وإلا
فالسيف بيننا وبينك.
فلما أن قرأ الكتاب استفزه الغضب، حتى لم يمكن أحداً أن ينظر إليه دون
أن يخاطبه، وتفرّق جلساؤه خوفاً، واستعجم الرأي على الوزير من، أن يشير
عليه أو يتركه برأيه، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب: بسم اللّه
الرحمن الرحيم. من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت
كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه. والسلام.
ثم شخص من يومه، وسار حتى أناخ بباب هِرَقلَة، ففتح وغنم، واصطفى، وخرب
وأحرق، واصطلم. فطلب نقفور الموادعة على خراج يؤديه في كل سنة، فأجابه
إلى ذلك، فلما رجع من غزوته، وصار بالرّقة نقض نقفور العهد، وخان
الميثاق، وكان البرد شديداً، فيئس نقفور من رجوعه إليه، فأتى الخبر
بارتداده عما أخذ عليه، فلم يتهيأ لأحد إخباره بذلك إشفاقاً عليه وعلى
أنفسهم من الكرّة في مثل تلك الأيام، فاحتيل له بشاعر من أهل جُدة يقال
له: أبو محمد عبد الله بن يوسف فأخبره بذلك في أبيات.
وفي هذه السنة: قتل إبراهيم بن محمد بن عثمان، بن نهيك. وقيل: إنما قتل
في سنة ثمان وثمانين.
وسبب قتله: أنه كان كثيراً ما يذكر البرامكة فيبكي حباً لهم، إلى أن
خرج من حد البكاء ودخل في باب طالبي الثار، فكان إذا خلا بجواريه فشرب
وسكر قال: يا غلام، سيفي، فيجيء غلامه بالسيف، فينتضيه ثم يقول:
واجعفراه، واسيداه، والله لأقتلن قاتلك. فلما كثر هذا من فعله جاء ابنه
عثمان إلى الفضل بن الربيع فأخبره، فأخبر الفضل الرشيد، فقال: أدخله.
فأدخله فقال: ما الذي قال عنك الفضل؟ فأخبره بقول أبيه وفعله، فقال
الرشيد: فهل سمع هذا أحد معك. قال: نعم، خادمه. فدعا خادمه سراً فسأله،
فقال: قد قال ذلك غير مرة. فقال الرشيد: ما يحل لي أن أقتل ولياً من
أوليائي بقول غلام وخَصيٍّ، لعلهما تواصيا على هذا. فأراد أن يمتحن
إبراهيم، فقال للفضل: إذا حضر الشراب فادعه، فإذا شرب خلَني وإياه.
ففعل ذلك الفضل، فلما خلا به الرشيد قال: يا إبراهيم، كيف أنت وموضع
السر من قلبك ؟ قال: يا سيدي، أنا كأحسن عبيدك وأطوع خدمك. قال: إن في
نفسي أمراً أريد أن أودعك إياه قد ضاق صدري، وأسْهَدَ ليلي. قال: إذاً
أخفيه أن تعلمه نفسي. قال: ويحك! قد ندمت على قتل جعفر بن يحيى ندامة
ما أحسن أن أصفها، فوددت أني خرجت من ملكي، وأنه كان بقي لي، فما وجدت
طعم النوم منذ فارقته، ولا لذّة العيش منذ قتلته. فلما سمعها إبراهيم
أسبل دمعه، وقال: رحم الله أبا الفضل وتجاوز عنه، والله يا سيدي لقد
أخطأت في قتله. فقال الرشيد: قم عليك لعنة الله يا ابن اللخناء فقام ما
يعقل، فانصرف إلى ابنه فقال: يا بني، ذهبت والله نفسي. فما كان إلا
ثلاث ليالٍ حتى قُتل.
وفيها: حج بالناس عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن
عباس.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
جعفر بن يحيى بن خالد، أبو الفضل البرمكي.
كانت له
فصاحة وبلاغة وكرم زائد، وكان أبوه يحيى بن خالد قد ضمه إلى القاضي أبي
يوسف ففقهه، فصار له اختصاص بالرشيد. وقيل إنه وقع لي في ليلة بحضرة
الرشيد زيادة على ألف توقيع، فنظر في جميعها فلم يخرج شيء منها عن موجب
الفقه.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت،
الخطيب قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا محمد بن عمران بن المرزباني
قال: حدَّثنا عبد الواحد بن محمد الخصيبي قال: سمعت علي بن الحسين
الإسكافي يحدّث قال: كان أحمد بن الجنيد الإسكافي وكان أخص الناس بجعفر
بن يحيى البرمكي، وكان الناس يقصدونه في حوائجهم إلى جعفر، وإن رقاع
الناس كثرت في خف أحمد بن الجنيد، فلم يزل كذلك إلى أن تهيأت له الخلوة
بجعفر فقال له: جعلني الله فداك، قد كثرت رقاع الناس معي وأشغالك
كثيرة، وأنت اليوم خالٍ، فإن رأيت أن تنظر فيها. فقال له جعفر: على أن
تقيم عندي اليوم. فقال: نعم. فصرف دوابه وأقام، فلما تغدوا جاءه
بالرقاع، فقال له جعفر: هذا وقت ذا دَعْنا اليوم، فأمسك عنه وانصرف ولم
ينظر في الرقاع، فلما كان بعد أيام خلا به، فأذكره الرقاع، فقال: نعم،
على أن تقيم عندي اليوم. فأقام عنده، ففعل به مثل الفعل الأول، حتى فعل
به ذلك فلما كان ذلك في آخر يوم أذكره فقال: دعني الساعة. وناما،
فانتبه جعفر قبل أحمد، فقال لخادم له: اذهب إلى خف أحمد بن الجنيد
فجئني بكل رقعة فيه، وانظر لا يعلم أحمد فذهب الغلام، وجاء بالرقاع،
فوقع فيها جعفر عن آخرها بخطه بما أحب أصحابها، ووكد ذلك، ثم أمر
الغلام أن يردها إلى الخف، فردها، فانتنبه أحمد ولم يقل فيها شيئاً،
وانصرف أحمد، فركب يعلل أصحاب الرقاع بها أياماً،. ثم قال لكاتب له:
ويحك هذه الرقاع قد أخلقت في خفي، وهذا ليس ينظر فيها، فخذها فتصفحها،
وجدد ماأخلق منها. فأخذها الكاتب، فنظر فيها، فوجد الرقاع موقعاً فيها
بما سأل أصحابها، فتعجب من كرمه ونبل أخلاقه، ومن أنه قضى حاجته ولم
يُعلمه بها لئلا يظن أنه اعتد بها عليه.
أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا، أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال:
أخبرنا أبو القاسم الأزهري حدٌثنا محمد بن العباس الخزاز، حدثنا محمد
بن خلف بن المرزبان، حدثنا يعقوب النخعي، حدثنا علي بن زيد كاتب العباس
المأمون قال: حدَثني محمد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: حدَّثني
أبي قال: حج هارون الرشيد ومعه جعفر بن يحيى البرمكي. قال: وكنت معهم،
فلما صرنا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي جعفر بن
يحيى: أحب أن تنظر لي جارية، ولا تبقى غاية في حذاقتها بالغناء والضرب،
والكمال في الظرف والأدب، وجنبني قولهم صفراء. قال: فأرشدت إلى جارية
لرجل، فدخلت عليه فرأيت رسوم النعمة، وأخرجها إلي فلم أر أجمل منها ولا
أصبح ولا آدب، ثم تغنت لي أصواتَاَ فأجادتها. قال: فقلت لصاحبها: قل ما
شئت. قال: أقول لك قولاً ولا انقص منه درهماً. قال: قلت: قل. قال:
أربعين ألف دينار. قال: قلت: قد أخذتها وأشترط عليك نظرة قال: ذاك لك.
قال: فأتيت جعفر بن يحيى. فقلت له: قد أصبت حاجتك على غاية الظرف
والأدب والجمال ونقاء اللون وجودة الضرب، وقد اشترطت نظرة، فاحمل المال
ومر بنا. فحمل المال على حمالين، وجاء جعفر مستخفياً، فدخلنا على
الرجل، فأخرجها، فلما رآها جعفر أعجب بها، وعرف أن قد صدقته، ثم غنَّته
فازداد بها عجباً، فقال لي: اقطع أمرها. فقلت لمولاها هذا المال، قد
وزناه ونقدناه، فإن قنعت وإلا فوجه إلى من شئت لينقد. فقال: لا بل اقنع
بما قلتم. قال: فقالت الجارية: يا مولاي في أي شيء أنت. فقال: قد عرفت
ما كنت فيه من النعمة، وما كنا فيه من انبساط اليد، وقد انقبضت عن ذلك
لتغير الزمان علينا، فقدرت أن تصيري إلى هذا الملك فتنبسطي في شهواتك
وإرادتك. فقالت الجارية: والله يا مولاي لو ملكت منك ما ملكت مني ما
بعتك بالدنيا وما فيها، وبعد فاذكر العهد الذي بيني وبينك. وقد كان حلف
لها أن لا يأكل لها ثمناً. فتغرغرت عينا المولى، وقال: اشهدوا أنها حرة
لوجه الله تعالى، وإني قد تزوجتها وأمهرتها داري. قال: فقال لي جعفر:
انهض بنا. قال: فدعوت الحمالين ليحملوا المال فقال جعفر: والله لا
يصحبنا منه درهم، ثم قال لمولاها: بارك اللّه لك فيه، انفقه عليها
وعليك،. قال: وقمنا فخرجنا.
أخبرنا
القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي، الخطيب قال: أخبرنا سلام بن الحسن
المقرىء قال: أخبرنا علي بن عمر الحافظ قال: حدَّثنا إبراهيم بن حماد
قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدَّثني محمد بن أحمد بن المبارك
العبدي قال: حدثني عبد الله بن علي أبو محمد قال: لما غضب الرشيد، على
البرامكة أصيب في خزانة لجعفر بن يحيى في جرة ألف دينار، في كل دينار
مائة دينار، على أحد جانبي كل دينار منها:
واصفر من ضرب دار الملو ... ك يلوح على وجهه جعفر
يزيد على مائة واحداً ... متى تعطه معسراً يوسر
قال المصنف: وقد ذكرنا السبب الذي أوجب قتل جعفر، ونكب البرامكة فلا
نحتاج إلى إعادة.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، ومحمد بن ناصر قالا: أخبرنا المبارك بن
عبد الجبار قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد النصيبي قال:
أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سويد قال: حدثنا أبو بكر الأنباري قال:
حدَّثني أبي قال: حدَّثنا عبد الله بن عبد الرحمن المدائني قال: قال
أبو زكَار الأعمى: كنت عند جعفر بن يحيى البرمكي في الليلة التي قتل
وهو يغني بهذا الشعر:
فلا تَبْعَد فكلُّ فتىً سيأتي ... عليه الموتُ يبكر أو يُغادِي
وكل ذخيرة لابد يوماً ... وإن بقيت تصير إلى نفاد
فلو فُودِيت من حدث الليالي ... فديتك بالطريف وبالتلاد
فقلت له: يا سيدي، ممن أخذت هذا الشعر؟ فقال: أخذته من أحسن الناس
شعراً من حكم الوادي. فما قام عن موضعه حتى جاء مسرور غلام الرشيد فأخذ
رأسه.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو يعلى أحمد بن
عبد الواحد قال: أخبرنا إسماعيل بن سعيد المعدل قال: حدَّثنا الحسين بن
الفهم قال: أخبرني الحسين بن سعيد العنبري قال: حدَثني حماد بن إسحاق،
عن أبيه قال: قال أبو يزيد الرياحي: كنت قاعداً عند خشبة جعفر بن يحيى
البرمكي أتفكر في زوال ملكه، وحاله التي صار إليها إذ أقبلت امرأة
راكبة لها رواء وهيئة، فوقفت على جعفر فبكت فأحزنت، وتكلمت فأبلغت،
وقالت: أما والله لئن أصبحت في الناس آية، لقد بلغت فيهم الغاية، ولئن
زال ملكك، وخانك دهرك، ولم يطل بك عمرك، لقد كنت المغبوط حالاً، الناعم
بالاً، يحسن بك الملك، فاستعظم الناس فقدك إذ لم يستخلفوا ملكاً بعدك،
فنسأل الله الصبر على عظيم الفجيعة وجليل الرزية التي لا تستعاض بغيرك،
والسلام عليك وداع غيرِ قالٍ ولا ناسٍ لذكرك، ثم أنشأت تقول:
العيش بعدك مر غير محبوب ... ومذ صلبت وَمَقْنا كل مصلوب
أرجو لك الله ذا الإحسان إن له ... فضلاً علينا وعفواً غير محسوب
ثم سكتت ساعة وتأملته، ثم أنشأت تقول:
عليك من الأحبة كل يوم ... سلام اللّه، ما ذكر السلام
لئن أمسى صداك برأي عين ... على خشب حباك بها الإمام
فمن مُلكٍ إلى ملَك برغم ... من الأملاك أسلمك الحمامُ
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن
رزق قال: أخبرنا عمر بن جعفر بن محمد بن مسلم قال: حدَّثنا الحارث بن
أبي أسامة قال: حدثني إسماعيل بن محمد قال: لما بلغ سفيان بن عيينة قتل
جعفر بن يحيى وما نزل بالبرامكة حول وجهه إلى القبلة وقال: اللهم إنه
كان قد كفانى مؤونة الدنيا فاكفه مؤونة الآخرة.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري قال: حدَّثنا المعافى بن زكريا.
وأخبرنا
محمد بن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا محمد بن
عبد الواحد قال: حدَّثنا محمد بن عبد الرحيم المازني قال: حدثنا أبو
علي الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا أبو بكر الضرير قال: حدَثني
غسان بن عمر القاضي، عن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي قال: دخلت على أمي
في يوم أضحى وعندها امرأة بَرْزة في أثواب دنسة رثة، فقالت لي: أتعرف
هذه!؟ قلت: لا. قالت: هذه عبادة أم جعفر بن يحيى بن خالد. فسلمت عليها
ورحبت بها، وقلت لها: يا فلانة، حدثيني ببعض أمركم. قالت: أذكر لك جملة
كافية فيها اعتبار لمن اعتبر، وموعظة لمن فكر، لقد هجم عليَ مثل هذا
العيد وعلى رأسي أربعمائة وصيفة، وأنا أزعم أن جعفراً ابني عاق بي، وقد
أتيتكم في هذا اليوم أسألكم، جلد شاتين أجعل أحدهما شعاراً والآخر
دثاراً.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار، أنبأنا علي بن أبي علي البصري، عن
أبيه، أن مسروراً قال: استدعاني المأمون فقال لي: قد أكثر عليَّ أخبار
السر بأن شيخاً يأتي خراب البرامكة فيبكي وينتحب طويلاً ثم ينشد شعراً
يرثيهم به وينصرف، فاركب أنت ودينار بن عبد الله واستتر بالجدران، فإذا
جاء وشاهدتما ما فعل وسمعتما ما قال فأتياني به، فركبنا مغلسين، فأتينا
الموضع فاختفينا فيه وأبعدنا الدواب، فلما أصبحنا إذا بخادم أسود قد
أقبل ومعه كرسي حديد، فطرحه وجاء على أثره كهل فجلس على الكرسي وتلفت
فلم ير أحداً، فبكى وانتحب حتى قلت قد فارق الدنيا، ثم أنشأ يقول:
ولما رأيت السيف خلل جعفراً ... ونادى منادٍ للخليفة في يحيى
وذكر أبياتاً قد تقدمت، فلما قام قبضنا عليه، فقال: ما تريدان مني.
قلت: هذا دينار بن عبد الله وأنا مسرور خادم أمير المؤمنين وهو يستدعيك
فالبس، ثم قال: إني لا آمنه على نفسي، أمهلني حتى أوصي. قلت: شأنك.
فسرنا معه فوقف على دكان رجل واستدعى دواة وبيضاء، فكتب فيها وصيته،
ودفعها إلى خادمه، وسرنا به، فلما مثل بين يدي الخليفة زبره وقال: من
أنت؟ وبم استحق منك البرامكة ما تصنع. فقال غير هايب ولا محتشم: يا
أمير المؤمنين، إن للبرامكة عندي أيادي خضراء، فإن أمر أمير المؤمنين
حدثته ببعضها. فقال: هات. فقال: أنا المنذر بن المغيرة الدمشقي، نشأت
في نعمة فزالت حتى أفضت إلى بيع داري، وأملقت إلى غير غاية، فأشير عليّ
بقصد البرامكة، فخرجت إلى بغداد ومعي نيف وعشرون امرأة وصبياً، فدخلت
بهم إلى مسجدِ ببغداد، ثم خرجت وتركتهم جياعاً لا نفقة لهم، فمررت
بمسجد فيه
جماعة
عليهم أحسن زي، فجلست معهم أردد في صدري ما أخاطبهم به فتحيد نفسي عن
ذل السؤال، فإذا خادم قد أزعج القوم، فقاموا فقمت معهم، فدخلوا داراً
كبيرة، فدخلت معهم، فإذا يحيى بن خالد على دكة وسط بستان، فجلسوا
وجلست، وكنا مائة رجل ورجل، فخرج مائة خادم وخادم، في يد كل واحد منهم
مجمرة ذهب، فيها قطعة عنبر، فسجروا العود، وأقبل يحيى على القاضي فقال
زوج ابن عمي هذا بابنتي عائشة فخطب وعقد النكاح، فأخذنا النثار من فتات
المسك وبناق العنبر َوتماثيل الند، فالتقط الناس والتقط، ثم جاءنا
الخدم في يد كل واحد منهم صينية فضة، فيها ألف دينار، مخلوط بالمسك،
فوضع بين يدي كل واحد واحدةَ، فأقبل كل واحد يأخذ الدنانير في كمه،
والصينية تحت إبطه، ويخرج، فبقيت وحدي، لا أجسر أفعل ذلك، فغمزني بعض
الخدم وقال: خذها وقم، فأخذتها وقمت، وجعلت أمشي، والتفت خوفاً من أن
يؤخذ مني، ويحيى يلاحظني من حيث لا أفطن، فلما قاربت الستر، رعدت فيئست
من الصينية، فجئت فأمرني بالجلوس، فجلست فسألني عن حالي فحدثته بقصتي،
فبكى، ثم قال: عليَّ بموسى. فجاءه، فقال: يا بني، هذا رجل من أولاد
النعم، قد رمته الأيام بصرفها، فخذه واخلطه بنفسك، فأخذني فخلع علي
وأمر لي بحفظ الصينية فكنت في العيش يومي وليلتي، ثم استدعى أخاه،
العباس وقال: إن الوزير سلم إليّ هذا، وأريد الركوب إلى دار أمير
المؤمنين، فليكن عندك اليوم. فكان يومي مثل أمسي، وأقبلوا يتداولوني
وأنا قلق بأمر عيالي، ولا أتجاسر أن أذكرهم، فلما كان اليوم العاشر
أدخلت إلى الفضل بن يحيى، فأقمت عنده يومي وليلتي، فلما أصبحت جاءني
خادم فقال: قم إلى عيالك وصبيانك. فقلت: إنَا للّه، ذهبت الصينية وما
فيها، فيا ليت هذا كان من أول يوم. فقمت والخادم يمشي بين يدي، فأخرجني
من الدار، فازداد يأسي، ثم أدخلني إلى دار كأن الشمس تطلع من جوانبها،
وفيها من صنوف الآلات والفرش، فلما توسطتها رأيت عيالي يرتعون فيها في
الديباج والستور، وقد حُمل إليهم مائة ألف درهم، وعشرة آلاف دينار،
وسلم إلي الخادم صكاً بضيعتين جليلتين، وقال: هذه الدار وما فيها
والضياع لك. فأقمت مع البرامكة في أخفض عيش ثم قصدني عمرو بن مسعدة في
الضيعتين، فألزمني من خراجهما ما لا يفي به دخلهما، فكلما لحقتني نائبة
قصدت دورهم فبكيتهم، فاستدعى المأمون عمرو بن اسحق، فأمره أن يرد على
الرجل ما استخرج منه، ويقرر خراجه على ما كان في أيام البرامكة. فبكى
الرجل بكاءً شديداً، فقال له المأمون: ألم استأنف لك جميلاً. قال: بلى،
ولكن هذا من بركة البرامكة. فقال: امض، فإن الوفاء مبارك، وحسن العهد
من الإيمان.
الفضيل بن عياض، أبو علي التميمي.
ولد بخراسان بكور أبْيَورد، وقدم الكوفة وهو كبير، فسمع الأعمش، ومنصور
بن المعتمر، وعطاء بن السائب، وحصين بن عبد الرحمن، وغيرهم.
ثم تعبد وانتقل إلى مكة، فمات بها في أول هذه السنة. وكان ثقة فاضلاً
زاهداً.
أخبرنا محمد بن ناصر قال: حدثنا حمد بن أحمد قال: أخبرنا أبو نعيم
الأصفهاني قال: حدَّثنا محمد بن علي قال: حدثنا أبو سعيد الجندي قال:
حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم قال: كانت قراءة الفضيل حزينة شهية بطيئة
مترسلة، كأنه يخاطب إنساناً، وكان إذا مرَّ بآية فيها ذكر الجنة ترفَد
فيها وسأل، وكان يلقى له حصير بالليل في مسجده، فيصلي من أول الليل
ساعة حتى تغلبه عيناه فينام على الحصير،، فينام قليلاً، ثم يقوم، فإذا
غلبه النوم نام، ثم يقوم، هكذا حتى يصبح.
وسمعته يقول: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم
مكبل، كبَّلتك خطيئتك.
أخبرنا
المحمدان: ابن ناصر، وابن عبد الباقي قالا: حدثنا حمد، بن أحمد قال:
أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ قال: حدَّثنا سليمان بن أحمد
قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال: حدثنا أبو عمرو الجرمي قال:
حدثني الفضيل بن الربيع قال: حج أمير المؤمنين، فأتاني فخرجت مسرعاً،
فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك. فقال: ويحك! قد حك في نفسي
شيء، فانظر لي رجلاً أسأله. فقلت: هنا سفيان بن عيينة. فقال: امض بنا
إليه. فأتيناه فقرعت الباب، فقال: مَنْ ذا قلت: أجب أمير المؤمنين.
فخرج مسرعاً، فقال: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إلي أتيتك، فقال له: خذ
لما جئناك له رحمك الله. فحدثه ساعة، ثم قال له: عليك دين؟ قال: نعم.
قال: أبا العباس، اقض دينه.
فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئاً، انظر لي رجلاً أسأله. قلت:
هذا عبد الرزاق بن همام. قال: امض بنا إليه. فأتيناه، فقرعت الباب
فقال: مَنْ هذا قلت: أجب أمير المؤمنين. فخرج مسرعاً فقال: يا أمير
المؤمنين، لو أرسلت إليَّ أتيتك.
فقال له: خذ لما جئناك له. فحادثه ساعة، ثم قال: هل عليك دين؟ قال:
نعم. قال: أبا عباس، اقض دينه.
فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئاً، انظر لي رجلاً أسأله. قلت:
هنا الفضيل بن عياض. قال: مرَّ بنا إليه. فأتيناه، فإذا هو قائم يصلي،
يتلو آية من القرآن، يرددها، فقال: اقرع الباب. فقرعت الباب. فقال:
مَنْ هذا؟ فقلت: أجب أَمير المؤمنين. فقال: ما لي ولأمير المؤمنين.
فقلت: سبحان الله، أما عليك طاعة، أليس قد رُوي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: " ليس للمؤمن أن يذل نفسه " ؟ فنزل ففتح الباب ثم ارتقى
إلى الغرفة، فأطفأ المصباح، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت، فدخلنا
فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف هارون قبلي إليه، فقال: يا لها من
كف، ما ألينها، إن نجت غداً من عذاب الله تعالى. فقلت في نفسي: ليكلمنه
الليلة بكلام من قلب نقي. فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله.
قال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله،
ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة. فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا
الأمر فأشيروا عليَّ. فقال سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غداً من
عذاب الله عز وجل فصُم عن الدنيا، وليكن إفطارك فيها الموت.
وقال محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين
عندك أباً، وأوسطهم أخاً، وأصغرهم عندك ولداً، فوقّر أباك، وأكرم أخاك،
وتحنن على ولدك.
وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله عز وجل فأحب
للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مُت إذا شئت، وإني
أقول لك إني أخاف عليك أشد الخوف، يوماً تزل فيه الأقدام، فهل معك -
رحمك اللهّ - مَنْ يشير عليك بمثل هذا؟ فبكى بكاءً شديداً حتى غشي
عليه، فقلت: أرفق بأمير المؤمنين يا بن أم الربيع، تقتله أنت وأصحابك
وأرفق أنا به، ثم أفاق فقال له: زدني رحمك الله. فقال: يا أمير
المؤمنين، بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكى إليه، فكتب إليه
عمر: يا أخي، أذكرك اللّه طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد
وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد منك وانقطاع الرجاء.
فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز فقال: ما
أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك، لا أعود إلى ولاية حتى ألقى اللّه عز
وجل قال: فبكى هارون بكاءً شديداً، ثم قال: زدني رحمك اللهّ.
فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عم المصطفى صلى الله عليه وسلم جاء
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أمّرني على إمارة.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الإمارة حسرة وندامة يوم
القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميراً فافعل " .
قال: فبكى هارون بكاءً شديداً، وقال له: زدني رحمك الله.
قال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن
استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش
لأحد من رعيتك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أصبح غاشاً
لرعيته لم يرح رائحة الجنة " .
فبكى
هارون وقال له: عليك دين؟ قال: نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه، فالوِيل
لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي. قال:
أعني من دين العباد. قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، أمرني أن أوحده وأطيع
أمره، فقال عز وجل: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم
من رزق وما أريد أن يطعمون إن اللّه هو الرزاق ذو القوة المتين " .
فقال له: هذه ألف دينار خذها أنفقها على عيالك، وتقو بها على عبادتك.
فقال: سبحان الله، أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا؟
سلمك اللهّ ووفقك. ثم صمت، فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فلما صرنا على
الباب قال: أبا العباس، إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد
المسلمين.
فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت له: يا هذا، قد ترى ما نحن فيه من ضيق
الحال، فلو قبلت هذا المال فانفرجنا به. فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل
قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه.
فلما سمع هارون هذا الكَلام قال: تدخل فعسى يقبل المال، فلما علم
الفضيل خرج فجلس على السطح على باب الغرفة، فجلس هارون إلى جنبه، فجعل
يكلمه فلا يجيبه، فبينا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا،
قد أذيت الشيخ منذ الليلة، فانصرف رحمك اللّه. فانصرفنا.
أبو شعيب البراثي العابد.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا أبو
نعيم الحافظ قال: أخبرني أبو جعفر الخلدي في كتابه. وحدَثني فيه محمد
بن إبراهيم عنه قال: سمعت الجنيد بن محمد يقول: كان أبو شعيب البراثي
أول من سكن براثا في كوخ يتعبد فيه، فمرت بكوخه جارية من بنات الكبار
من أبناء الدنيا كانت رُبِّيَتْ في قصور الملوك، فنظرت إلى أبي شعيب
فاستحسنت حاله، فصارت كالأسير له، فعزمت على التجرد عن الدنيا والاتصال
بأبي شعيب، فجاءت إليه وقالت: أريد أن أكون لك خادمة. فقال لها: إن
أردت ذلك فغيّري من هيئتك وتجردي عما أنت فيه حتى تصلحي لما أردت.
فتجردت عن كل ما تملكه ولبست لبسة النساك وحضرته فتزوجها، فلما دخلت
الكوخ رأت قطعة خصاف وكان يجلس عليها أبو شعيب تقيه من الندى، فقالت:
ما أنا بمقيمة فيها حتى تخرج ما تحتك، لأني سمعتك تقول: إن الأرض تقول
لابن آدم: تجعل بيني وبينك حجاباً وأنت غداً في بطني، فما كنت لأجعل
بيني وبينها حجاباً، فأخذ أبو شعيب الخصاف فرمى به، فمكثت معه سنين
كثيرة يتعبدان أحسن عبادة، وتوفيا على ذلك متعاونين.
قال المصنف: وقد ذكرنا فيما تقدم أن جوهرة زوجة عبد الله البراثي جرى
لها نحو هذا.
ثم دخلت
سنة ثمان وثمانين ومائة
فمن الحوادث فيها: غزو إبراهيم بن جبريل الصائفة، ودخوله أرض الروم،
فخرج للقائه نقفور، فجُرح وانهزم وقُتل من الروم أربعون ألفاً
وسبعمائة، وأخذ أربعة آلاف دابة.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، الخطيب قال:
قرأت على الجوهري، عن أبي عبد الله المرزباني قال: حدَّثني علي بن
هارون قال: أخبرني أبي قال: قال أبو الشيص يمدح الرشيد. عند ورود الخبر
بهزيمة نقفور وفتح بلد الروم من قصيدة:
شددت أمير المؤمنين قوى الملك ... صدعت بفتح الروم أفئدة الترك.
قرنت بسيف الله هام عدوه ... وطأطأت بالإسلام ناصية الشرك
فأصبحت مسروراً ولاتَعْيَ ضاحكاً ... وأصبح نقفور على ملكه يبكي
وفيها: رابط القاسم بن الرشيد بدابق.
وفيها: حج بالناس الرشيد، وهي آخر حجة حجها الرشيد، ولقيه بهلول في
الطريق فوعظه.
أخبرنا
محمد بن ناصر قال: أخبرنا محمد أبو الغنائم بن ميمون الزينبي قال:
حدَّثنا محمد بن علي بن عبد الرحمن قال: حدثنا زيد بن الحاجب قال:
أخبرنا محمد بن هارون قال: حدثنا علي بن الحسن قال: حدَّثنا علي بن
إبراهيم الكرخي قال: حدثنا محمد بن الحسن الحراني قال: حدَّثنا أحمد بن
عبد اللّه القزويني، عن الفضل بن الربيع قال: حججت مع هارون الرشيد،
فمررنا بالكوفة، فإذا بهلول المجنون يهذي، فقلت: اسكت فقد أقبل أمير
المؤمنين. فسكت، فلما حاذاه الهودج قال: يا أمير المؤمنين، حدَّثنا
إسحاق بن بابل قال: حدَّثنا قدامة بن عبد اللّه العامري قال: رأيت
النبي صلى الله عليه وسلم بمنى على جمل، وتحته رحل رث، ولم يكن ثم طرد
ولا ضرب ولا إليك إليك. قلت: يا أمير المؤمنين، إنه بهلول المجنون،
قال: قد عرفته، قل يا بهلول. فقال: يا أمير المؤمنين:
فهب أن قد ملكت الأرض طرّاً ... ودان لك العباد فكان ماذا
أليس غداً مصيرك جوف قبر ... ويحثو الترب هذا ثم هذا
قال: أجدت يا بهلول، أفغيره؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، مَنْ رزقه
اللّه جمالاً ومالاً، فعفّ في جماله، وواسى في ماله، كُتب في ديوان
الأبرار.
قال: فظن أنه يريد شيئاً، قال: فإنا قد أمرنا بقضاء دينك.
قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا تقض ديناً بدين، اردد الحق إلى
أهله، واقض دين نفسك من نفسك.
قال. إنا قد أمرنا أن نجري عليك.
قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا يعطيك شيئاً وينساني، أجرى عليَّ
الذي أجرى عليك، لا حاجة لي في جرايتك.
وقد روى أبو بكر الصولي قال: حدثنا محمد بن القاسم قال: حدثنا محمد بن
مسعر قال: لما دخل الرشيد إلى الفضيل بن عياض ولم يعرفه الفضيل، ثم
عرفه فقال له: أنت هو يا حسن الوجه، استكثر من زيارة هذا البيت، فإنه
لا يحج خليفة بعدك.
قال الصولي: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم البزار قال: حدَّثنا إسحاق بن
إبراهيم السندي، عن أبي بكر بن عياش أنه قال وقد مرَّ به الرشيد
بالكوفة منصرفَاً من الحج سنة ثمان وثمانين ومائة: لا يحج الرشيد بعد
هذه الحجة، ولا يحج بعده خليفة أبداً.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة، أبو إسحاق الفزاري كان
عالماً صاحب سُنَة، أسند الحديث عن سفيان الثوري، والأوزاعي. وتوفي
بالمصيصة في هذه السنة، وقيل: سنة خمس وثمانين.
إبراهيم بن ماهان بن بهمن، أبو إسحاق المعروف بالموصلي وهو من أرجان،
يُنسب إلى ولاء الحنظليين، وأصله من الفرس. خرج أبوه من أرجان بأمه وهي
حاملة به، فقدم الكوفة فولدته سنة خمس وعشرين ومائة، وصحب بالكوفة
فتياناً في طلب الغناء، فاشتدت عليه أخواله في ذلك، فخرج إلى الموصل،
ثم عاد إلى الكوفة، فقال له أخواله: مرحباً بالفتى الموصلي، ونظر في
الأدب، وقال الشعر: واتصل بالخلفاء والملوك.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز الطاهري قال: أخبرنا علي بن عبد
الله بن المغيرة الجوهري قال: حدِّثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال: حدثنا
الزبير بن بكار قال: حدَّثني إسحاق الموصلي، عن أبيه إبراهيم قال:
جاءني غلامي فقال: بالباب رجل حائك يطلب عليك الأذن. فقلت: ويلك! ما لي
وللحائك؟ قال: لا أدري غير أنه حلف بالطلاق أنه لا ينصرف حتى يكلمك
لحاجته. فقلت: ائذن له. فدخل، فقلت: ما حاجتك؟ قال: جعلني الله فداك،
أنا رجل حائك كان بالأمس جماعة من أصحابي وأنا تذاكرنا الغناء
والمقدمين فيه، فأجمع مَنْ حضر أنك رأس القوم وبندارهم وسيدهم فيه،
فحلفت بطلاق ابنة عمي أعز الخلق عليّ، ثقة مني بكرمك على أن تشرب عندي
غداً وتغنيني، فإن رأيت - جعلني الله فداك - أن تمن على عبدك بذلك.
فقلت له: أين منزلك؟ قال في دور الصحابة. قلت: فصف للغلام موضعه.
فلما صليت الظهر مضيت، فلما دخلت قام لي الحاكة وأكبوا علي، فقبلوا
أطرافي، وعرضوا عليَّ الطعام، فقلت: قد تقدمت في الأكل، وقلت له:
اقترح. فقال لي الحائك: غنني بحياتي:
يقولون لي لو كان بالوصل لم تمت ... نسيبة والطرّاق يكذب قيلها
فغنَيت، فقال: أحسنت والله، جعلني الله فداك. ثم قلت: اقترح. فقال:
غنني بحياتي:
وخُطَا
بأطراف الأسنَّة مضجعي ... وردّا على عينيَّ فضل ردائيا
فغنيت، فقال: أحسنت والله، جعلني الله فداك. فقلت: اقترح. فقال غنني
بحياتي:
أحقاً عباد الله أن لست وارداً ... ولا صادراً إلا عليّ رقيب
فقلت: يا بن اللخناء، أنت، بابن سريج أشبه منك بالحاكة، ثم قلت: واللهّ
إن عدت ثانية حلَّت امرأتك لغلامي قبل أن تحل لك. ثم انصرفت، وجاء رسول
الرشيد يطلبني، فمضيت من فوري ذلك، فدخلت على الرشيد، فقال: أين كنت يا
إبراهيم؟ فقلت: ولي الأمان. فقال: ولك الأمان، فحدثته، فضحك وقال: هذا
أنبل حائك على وجه الأرض، واللّه لقد كرمت في أمره، حسنت في إجابته.
وبعث إلى الحائك فاستنطقه وسأله، فاستطابه واستظرفه، وأمر له بثلاثين
ألف درهم.
توفي إِبراهيم في هذه السنة، وقال في ذلك:
مل والله طبيبي ... من مقاساة الذي بي
سوف أنعى عن قريب ... لعدو وحبيب
ويقال: مات سنة ثلاث عشرة ومائتين. والأول أصح. ووجد له من المال أربعة
وعشرين ألف ألف درهم.
جرير بن عبد الحميد بن جرير بن قرط بن هلال، أبو عبد اللّه الضبي
الرازي كوفي الأصل، ولد سنه عشر ومائة، ورأى أيوب السجستاني. وسمع من
مغيرة بن مقسم، وحصين بن عبد الرحمن، ومنصور بن المعتمر، وهشام بن
عروة، والأعمش، وغيرهم.
روى عنه ابن المبارك، والطيالسي، وأحمد بن حنبل، ويحيى، وابن المديني،
وغيرهم. وكان صاحب ليل، وعرض عليه ابن شبرمة أن يجري عليه من الصدقة في
كل شهر مائة درهم، فأبى. وتوفي في هذه السنة وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
رشدين بن سعد بن مفلح، أبو الحجاج. ولد سنة عشر ومائة، وروى عنه: ابن
المبارك، وبقية. وكان رجلاً صالحاً أدركه نوع من، التغفل. وتوفي في هذه
السنة.
عمر بن أيوب، أبو حفص العبدي الموصلي. رحل إلى الشام، والعراق، وأكثر
من سماع الحديث وكتابته، وسمع من المعافى بن عمران، والثوري، وخلق
كثير. روى عنه: أحمد بن حنبل ومدحه، وقال: هو ثقة، وكانت له هيئة.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال:
أخبرنا البرقاني قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن عبد الله بن حميرويه
قال: حدثنا الحسين بن إدريس الأنصاري قال: قال ابن عمار: رأيت عمر بن
أيوب أخرج صوفاً من قُفةٍ، مرقعة فدفعه إلى ابنه، فذهب به فباعه، فجاء
بخبز، فوضعه بين أيدينا، فأبينا أن نأكل، فبات ليلته ولم يكن عنده شيء،
وما رأيته يذكر الدنيا بواحدة، وكان من أشد الناس حياءً. توفي بالرقة،
في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة تسع وثمانين ومائة
فمن الحوادث فيها: شخوص الرشيد إلى الري. وسبب ذلك: أن الرشيد كان قد
استشار يحيى بن خالد في توليه خراسان علي بن عيسى بن ماهان، فأشار عليه
أن لا يفعل، فخالفه وولاه إياها، فلما شخص علي بن عيسى ظلم الناس
وعسفهم، وجمع مالاً جليلاً، ووجه إلى هارون بهدايا لم ير مثلها قط من
الخيل، والرقيق، والثياب، والنساء، والأموال، فقعد هارون بالشماسية على
دكان مرتفع حين وصلت إليه تلك الهدايا وأحضرت فعرضت عليه، فعظمت في
عينه، وكان إلى جانبه يحيى بن خالد، فقال له: يا أبا علي، هذا الذي
أشرت علينا أن لا نوليه هذا الثغر فخالفناك فيه، وكان في خلافك البركة.
وهو كالمازح معه إذ ذاك فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، أنا
وإن كنت أحب أن أصيب في رأي وأوافق في مشورتي، فأنا أحب أن يكون رأي
أمير المؤمنين أعلى، وفراسته أثقب، وما أحسن هذا وأكثره إن لم يكن
وراءه ما تكره. قال: وما ذاك. قال: إني أحسب أن أكثر هذا أخذ ظلماً.
فوقر ذلك في نفس الرشيد، فلما عاث علي بن عيسى بخراسان ووتر أشرافها،
وأخذ أموالهم، واستخف برجالهم شكى الناس سوء سيرته، وسألوا أمير
المؤمنين أن يبدّلهم من أحب من كفاءته، فدعا يحيى بن خالد فشاوره في
أمر علي بن عيسى وفي صرفه، وقال: أشر عليَّ برجل ترضاه لذلك الثغر،
يُصلح ما أفسد ذلك الفاسق ويرتق ما فتق. فأشار عليه بيزيد بن مزيد، فلم
يقبل.
وكان قد
قيل للرشيد أن علي بن عيسى قد أجمع على خلافك، فشخص إلى الري من أجل
ذلك عند منصرفه من مكة، فعسكر بالنهروان لثلاث عشرة بقيت من جمادى
الأولى ومعه ابناه: المأمون والقاسم، فلما صار بقرميسين أشخص إليه
جماعة من القضاة وغيرهم، وأشهدهم عليه أن جميع ماله في عسكره ذلك من
الأموال والخزائن والسلاح والكراع، وما سوى ذلك للمأمون، وأنه ليس له
فيه قليل ولا كثير، وجدد البيعة له على من كان معه، ووجه هرثمة بن أعين
صاحب حرسه إلى بغداد، فأخذ البيعة على الأمين، ثم مضى الرشيد عند
انصراف هرثمة إلى الري، وأقام بها نحواً من أربعة أشهر حتى قدم عليه
علي بن عيسى من خراسان بالأموال، والهدايا، والطُّرف، والمتاع، والمسك،
والجوهر، وآنية الذهب والفضة، والسلاح، والدواب، وأهدى بعد ذلك إلى
جميع من كان معه من أهل بيته وخدمه على طبقاتهم، فرأى منه خلاف ما كان
ظن به، وغير ما كان يقال عنه، فرضي عنه، وردِه إلى خراسان، فخرج وهو
مشيع له. وقدم خزيمة بن خازم على الرشيد الري، فأهدى له هدايا كثيرة.
وفي هذه السنة: قدم سعيد الجرشي بأربعمائة رجل من طبرستان، فأسلموا على
يد الرشيد.
وفيها: ولى الرشيد عبد اللّه بن مالك طبرستان، والريّ، والرُّويان،
دنْباوند، وقُومِس، وهَمَدان. وولى عيسى بن جعفر بن سليمان عمان، فقطع
البحر فافتتح حصنين، وعاد الرشيد إلى بغداد، فدخلها لليلتين بقيتا من
ذي الحجة، وقال: واللّه إني لأطوي مدينة ما وضعت مدينة بشرق ولا غرب،
وما رأيت مدينة أيمن منها ولا أيسر، وإنها لوطني ووطن آبائي، ودار
مملكة بني العباس ما بقوا، وما رأى أحط من آبائي سوءاً ولا نكبةً ولا
شراً، ولنعم الدار هي، ولكني أريد المناخ على ناحيتها أهل الشقاق
والنفاق والبغض لأئمة الهدى، ولولا ذلك ما فارقت بغداد ما حييت، ولا
خرجت عنها أبداً.
وفي هذه السنة: كان الفداء بين المسلمين والروم، فلم يبق بأرض الروم
مسلم إلا فودي به. فقال مؤمل بن جميل بن يحيى بن أبي حفصة ابن عم مروان
بن أبي حفصة، من قصيدة:
وفُكتْ بِكَ الأسرَى التي شُيدَتْ لها ... محابِسُ ما فيها حَمِيمٌ
يَزورُها
على حِين أعيا المسلمينَ فِكاكُها ... وقالوا: سُجُون المُشرِكينَ
قبورُها
وفي هذه السنة: رابط القاسم بدابق.
وفيها: حج بالناس العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن
عبد الله بن عباس.
ذكر من توفي في هده السنة من الأكابر إسحاق بن عبد الرحمن بن المغيرة
بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري. من أهل المدينة، سكن بغداد، وكان
له قدر عند الخلفاء والأمراء، وأبوه عبد الرحمن كان يقال له: عزيز،
وكان إسحاق في صحابة المهدي، والهادي، والرشيد وهلك في خلافته، وكان
موصوفاً بالصفاء والجود، حتى قال الشاعر الهيصبي فيه ولأخيه يعقوب:
نفى الجوع عن بغداد إسحاق ذو الندى ... كما قد نفى جوع الحجاز أخوه
ومايك من خير أتوه فإنما ... فعالُ غُرَيْرٍ قبلهم وَرثوهُ
فأقسم لو ضافَ الغُرَيْريَّ بغَتَة ... جميع بني حواء ماحفلوه
هو البحر
بل لو حل بالبحر وفدهومن يجتديه ساعة نزَفوه أخبرنا أبو منصور القزاز،
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ، أخبرنا علي بن أبي علي، حدَّثنا
محمد بن عبد الرحمن وأحمد بن عبد اللّه قالا: حدَّثنا أحمد بن سليمان
الطوسي، حدثنا الزبير، حدَّثنا أبو عزية محمد بن موسى الأنصاري قال:
كان إسحاق بن غرير معجباً بعبادة جارية المهلبية، وكانت الجارية منقطعة
إلى الخيزران أم المؤمنين، وهي ذات منزلة عندها قال: فركب يوماً عبد
الله بن مصعب بن الزبير وإسحاق بن غرير إلى المهدي، وكانا يأتيانه في
كل عشية إذا صلى الناس العصر، فيقيمان معه إلى أن ينقضي سمره، فلقيا
يوماً عبادة في طريقهما، فقال إسحاق بن غرير لعبد الله بن مصعب: يا أبا
بكر، هذه عبادة التي كنت تسمعني أذكرها. وركض دابته حتى استقبلها، فنظر
إليها، ثم رجع. فضحك عبد الله بن مصعب مما صنع. ثم مضيا فدخلا على أمير
المؤمنين المهدي، فحدثه عبد الله بن مصعب حديث إسحاق بن غرير وعبادة،
وما كان منه في أمرها تلك العشية، فقال لإسحاق: أنا أشتريها لك. وقام
فدخل على الخيزران، فقال: أين المهلبية؟ فأمرت بها فدعيت له، فقال لها:
أتبيعيني عبادة بخمسين ألف درهم؟ فقالت: يا سيدي، إن كنت تريدها لنفسك
فبها فَداك اللّه فقال: إنما أريدها لإسحاق بن غرير. فبكت وقالت: يدي
ورجلي ولساني في حوائجي تنزعها مني لإسحاق بن غرير. فقالت الخيزران: ما
يبكيك؟ لا يقدر واللّه إسحاق عليها. وقالت للمهدي: صار ابن غرير يتعشق
جواري الناس. فخرج المهدي فأخبر إسحاق الخبر، وأمر له بخمسين ألف درهم،
فأخذها، فقال في ذلك أبو العتاهية:
من صدق الحُب لأحبابه ... فإِن حب ابن غُرَيرٍ غُرور
أنساهُ عبَّادة ذات الهوى ... وأذهل الحُبَّ لديه الضمير
خمسون ألفاً كلها وازن ... خشن، لها في كل كيس صرير
وقال أبو العتاهية في ذلك أيضاً:
حبكَ المال لا كحبكَ عبَّا ... دةَ يا فاضح المحبينَا
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرني أحمد بن محمد بن أحمد الكاتب قال: حدَّثني جدي محمد بن عبيد
الله بن قفرجل، حدَّثنا محمد بن يحيى النديم قال: أنشدنا أحمد بن يحيى
قال: أنشدني الزبير لمنكف - وهو من ولد زهير بن أبي سلمى - يرثي إسحاق
بن غرير:
بكت العيونُ فأقْرَحَتْ أجفانَها ... عَبَراَتها جَزَعاً على إسحاق
فلئِن بكت جَزَعاً عليه فقد بكت ... حزناً عليه مكارمُ الأخلاق
يَاخَير َمن بكتِ المكارمُ فقْده ... لم يبق بعدَكَ للمكارِم باق
لو طافَ في شرقِ البلاد وغربها ... لم يَلْقَ إلا حامداً للاقي
ما بثَّ من كرم الطبائع ليلة ... إلا لِعرْضِك من نوالك واق
بَخِلَتْ بما حوت الأكفُّ وإنما ... خَلَق الإلهُ يدَيْك للإنفاق
الزبير بن خُبَيْب بن ثابت بن عبد اللّه بن الزبير بن العوام الأسدي.
سمع محمد بن عباد. وروى عنه معن بن عيسى، وكان من الفضلاء العُبَّاد.
قدم بغداد مرتين، إحداهما في زمن المهدي، والأخرى في زمن الرشيد.
أخبرنا القزاز، أخبرنا الخطيب قال: أخبرني الأزهري، حدثنا أحمد بن
إبراهيم بن الحسن، حدَّثنا أحمد بن سليمان الطوسي، حدثنا الزبير بن
بكار قال: حدثني مصعب بن عبد اللّه قال: سمعت أبي يقول: قال لي أمير
المؤمنين هارون الرشيد: دلني على رجل من أهل المدينة من قريش، له فضل
منقطع. قال: قلت: عمارة بن حمزة بن عبد اللّه. قال: فأين أنتَ عن ابن
عمك الزبير بن خبيب. قال: قلت له: إنما سألتني عن الناس، ولو سألتني عن
أسطوان من أساطين المسجد قلت لك الزبير بن خبيب.
توفي الزبير بوادي القرى في ضيعة له، وهو ابن أربع وسبعين سنة.
سعيد بن سليمان بن نوفل بن إسحاق المديني.
ولي قضاء المدينة في خلافة المهدي، ووفد على الرشيد، وكان شديد المذهب،
حسن الطريقة.
أخبرنا
القزاز، أخبرنا الخطيب، أخبرنا الأزهري، أخبرنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا
أحمد بن سليمان الطوسي، حدِّثنا، الزبير بن بكار قال: حدَّثني نوفل بن
ميمون قال: جاء سعيد بن سليمان إلى محمد بن عبد الله بن محمد بن عمران
شاهداً فرد شهادته، فلما ولي القضاء جاءه عبد اللّه بن محمد بن عمران
شاهداً فأخذ شهادته، فنظر فيها ساعة، ثم رفع رأسه وقال: المؤمن لا يشفي
غيظه، أوقع شهادته يا ابن دينار، فأوقعها.
سليمان بن حيان، أبو خالد الأحمر الأزدي الكوفي.
ولد سنة أربع عشرة ومائة. سمع يحيى بن سعيد الأنصاري، وسليمان التيمي،
والأعمش، روى عنه: أحمد بن حنبل، وكان سفيان يقول: هو رجل صالح، وكان
ينقم عليه خروجه مع إبراهيم ابن عبد الله بن حسن، فهجره لذلك. وقال
يحيى: هو ثقة.
أخبرنا القزاز، أخبرنا الخطيب، أخبرنا أحمد بن رزق الله، أخبرنا عثمان
بن أحمد الدقاق، أخبرنا محمد بن أحمد بن البراء، حدثنا عثمان بن أبي
شيبة قال: دخلت على أبي خالد الأحمر عند موته وهو يقول: يا نفس اخرجي،
والله لخروجك أحب إلي من بقائك في بدني.
توفي في هذه السنة. وقيل: في سنة تسعين.
عبد اللّه بن محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد اللّه،
أبو محمد التيمي.
من أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاَّه هارون الرشيد قضاء
المدينة، ثم صرفه وولاه مكة، ثم صرفه ورده إلى قضاء المدينة، ثم عزله
فقدم بغداد وأقام في ناحية الرشيد، ثم سافر معه إلى الري، فمات بها في
هذه السنة.
علي بن حمزة بن عبد اللّه، أبو الحسن الأسدي، المعروف بالكسائي النحوي.
أحد أئمة القراء، من أهل الكوفة، استوطن بغداد، وعلم الرشيد، ثم الأمين
بعده، وكان قد قرأ على حمزة الزيات، فأقرأ ببغداد زماناً بقراءة حمزة،
ثم اختار لنفسه قراءة، فأقرأ بها الناس.
وقد سمع الحديث من أبي بكر بن عياش، وسفيان بن عيينة، وآخرين.
وروى عنه: الفراء، وأبو عبيد.
وقال الشافعي: مَنْ أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي.
أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا أحمد بن ثابت، أخبرنا القاضي أبو العلاء
محمد بن علي، أخبرنا محمد بن جعفر بن هارون التميمي، حدثنا أبو علي
الحسن بن داود، حدثنا أبو جعفر عقدة، حدثنا أبو يزيد الوضاحي قال: قال
لي الفراء: إنما تعلم الكسائي النحو على الكبر، وكان سبب تعلمه: أنه
جاء يوماً وقد مشى حتى أعي، فجلس إلى الهبارين فقال: قد عييت. فقالوا
له: أتجالسنا وأنت تلحن؟! فقال: كيف لحنت؟ فقالوا له: إن كنت أردت من
التعب فقل أعييت، وإن كنت أردت من انقطاع الحيلة والتدبير والتحير في
الأمر فقل: عييت - مخففة فأنف من هذه الكلمة وقام من فوره، وسأل عمن
يعلم النحو. فأرشدوه إلى معاذ الهرا، فلزمه حتى أنفذ ما عنده، ثم خرج
إلى البصرة فلقي الخليل وجلس في حلقته، فقال له رجل من الأعراب: تركت
أسد الكوفة وتميمها وعندها الفصاحة، وجئت إلى البصرة؟ فقال للخليل: من
أين أخذت علمك هذا؟ فقال: من بوادي الحجاز، ونجد، وتهامة. فخرج ورجع
وقد أنفذ بخمس عشرة قنينة حبراً في الكتابة عن العرب سوى ما حفظه، ولم
يكن له همة غير البصرة والخليل، فوجد الخليل قد مات وقد جلس موضعه يونس
النحوي، فمرت بينهم مسائل أقر له يونس فيها وصدره موضعه.
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: وفي تسميته بالكسائي قولان: أحدهما: أنه
أحرم في كساء.
أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا أحمد بن علي، أنبأنا علي بن أحمد بن عمر
المقرىء، أخبرنا عبد الواحد عمر بن محمد بن أبي هاشم، حدَّثني محمد بن
سليمان بن محبوب، حدَّثنا أبو عبد الرحمن البصري مردويه، حدِّثنا علي
بن عبد الله المدني، حدَّثنا عبد الرحيم بن موسى قال: قلت للكسائي:
لِمَ سُمِّيت الكسائي؟ قال: لأني أحرمت في كساء.
القول
الثاني: أخبرنا به أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت، أخبرنا
محمد بن علي الصوري، أخبرنا أبو الحسن عبيد اللّه بن القاسم القاضي،
حدَّثنا علي بن محمد الحراني، حدَّثنا أبو بكر محمد بن يحيى بن سليمان
المروزي قال سألت خلف بن هشام: لِمَ سُمِّيَ الكسائي كسائياً. قال: دخل
الكسائي الكوفة فجاء إلى مسجد السّبيع، وكان حمزة بن حبيب الزيات يقرىء
فيه، فتقدم الكسائي مع أذان الفجر وهو ملتف بكساء، فرمقه القوم
بأبصارهم، فقالوا: إن كان حائكاً فسيقرأ سور يوسف، وإن كان ملاحاً
فسيقرأ سورة طه، فسمع، فابتدأ بسورة يوسف، فلما بلغ قصة الذئب قرأ: "
فأكله الذئب " بغير همز، فقال له حمزة: الذئب بالهمز. فقال الكسائي:
وكذلك أهمز الحوت فالتقمه الحؤت. قال: لا. قال: فلِمَ همزت الذئب ولم
تهمز الحوت؟ وهذا فأكله الذئب، وهذا فالتقمه الحوت؟ فرفع حمزة بصره إلى
خلاد الأحول، وكان أجمل غلمانه، فتقدم إليه في جماعة من، أهل المجلس
فناظروه فلم يصنعوا شيئاً. فقالوا: أفدنا يرحمك الله. فقال لهم
الكسائي: تفهموا عن الحائك؟ تقول إذا نسبت الرجل، إلى الذئب: قد استذأب
الرجل، فلو قلت: استذاب - بغير همز - لكنت إنما نسبته إلى الهزال،
تقول: قد استذاب الرجل إذا استذاب شحمه - بغير همز - وإذا نسبته إلى
الحوت تقول: قد استحات الرجل، أي كثر أكله، لأن الحوت يأكل كثيراً، لا
يجوز فيه الهمز، فلتلك العلة همز الذئب ولم يهمز الحوت، وفيه معنى آخر:
لا تسقط الهمزة من مفرده ولا من جمعه، وأنشدهم:
أيها الذئب وابنه وأبوه ... أنت عندي من أذأب الضاريات
قال: فسمي الكسائي من ذلك اليوم.
أخبرنا أبو منصور، أخبرنا أحمد الخطيب، حدثنا الحسين بن محمد أخو
الخلال، حدثنا الصاحب إسماعيل بن عباد، أخبرنا عبد الله بن محمد
الأيجي، أخبرنا محمد بن الحسن الأزدي، حدثنا أبو حاتم السجستاني قال:
وفد علينا عامل من أهل الكوفة لم أر فِي عمال السلطان بالبصرة أبرع
منه، فدخلت مسلماً عليه، فقال لي: يا سجستاني، مَنْ علماؤكم بالبصرة؟
قلت: الزيادي أعلمنا بعلم الأصمعي، والمازني أعلمنا بالنحو، وهلال
الرأي أفقهنا، والشاذكوني أعلمنا بالحديث، وأنا رحمك الله انسب إلى علم
القرآن، وابن الكلبي من أكتبنا للشروط. قال: فقال لكاتبه: إذا كان غد
فاجمعهم. قال: فجمعنا فقال: أيكم أبو عثمان المازني؟ قال أبو عثمان: ها
أنا ذا يرحمك الله. قال: هل يجزي في كفارة الظهار عتق عبد أعور؟ قال
المازني: لست صاحب فقه، أنا صاحب عربية. فقال: يا زيادي، كيف يكتب بين
رجل وامرأة خالعها زوجها على الثلث من صداقها. قال: ليس هذا من علمي،
هذا من علم هلال الرأي. قال: يا هلال، كم أسند ابن عون عن الحسن؟ قال
هذا ليس من علمي، هذا من علم الشاذكوني. قال: يا شاذكوني " يثنون
صدورهم " قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم أبي حاتم. قال: يا أبا
حاتم، كيف تكتب إلى أمير المؤمنين كتاباً تصف فيه خصاصة أهل البصرة وما
أصابهم في الثرمة، وتسأله لهم النَظر والنظرة؟ قال: لست - رحمك الله -
صاحب بلاغة وكتابة، أنا صاحب قرآن. فقال: ما أقبح الرجل يتعاطى العلم
خمسين سنة لا يعرف إلا فناً واحداً، حتى إذا سئل عن غيره لم يجل فيه
ولم يمر، ولكن عالمنا بالكوفة الكسائي لو سئل عن هذا كله أجاب.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد
الأصفهاني، حدثنا جعفر الخالدي، حدَّثنا ابن مسروق، حدَّثنا سلمة بن
عاصم قال: قال الكسائي: صليت بهارون الرشيد فاعجبتني قراءتي، فغلطت في
آية ما غلط فيها صبي قط، أردت أن أقول: لعلهم يرجعون فقلت: لعلهم
يرجعين، فواللّه ما اجترأ هارون أن، يقول لي أخطأت، ولكنه لما سلمت قال
لي: يا كسائي، أي لغة هذه؟ قلت: يا أمير المؤمنين، قد يعثر الجواد.
فقال: أما هذا فنعم.
أخبرنا
عبد الرحمن، أخبرنا أبو بكر بن علي، أخبرنا هلال بن الحسن، أخبرنا ابن
الجراح، أخبرنا أبو بكر بن الأنباري قال: قال لي الفراء: لقيت الكسائي
يوماً فرأيته كالباكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: هذا الملك يحيى بن خالد
يوجه إليّ فيحضرني فيسألني عن الشيء، فإن أبطأت في الجواب لحقني منه
عيب، وإن بادرت لم آمن الزلل. قال: فقلت - ممتحناً له - : يا أبا
الحسن، مَنْ يعترض عليك قل ما شئت، فأنت الكسائي. فأخذ لسانه بيده
فقال: قطعه اللّه إن قلت ما لا أعلم.
أخبرنا القزاز أخبرنا الخطيب، أخبرنا أحمد بن عبد الله الثابتي، أخبرنا
أحمد بن موسى القرشي، أخبرنا محمد بن يحيى الصولي، حدَّثنا عون بن محمد
الكندي، حدثنا سلمة بن عاصم قال: حلفت أن لا أكلم عامياً إلا بما
يوافقه ويشبه كلامه، فوقفت على نجار فقلت: بكم هذان البابان؟ فقال:
بسَلْحِتان يا مصفعان.
توفي الكسائي في هذه السنة. هكذا ذكر ابن عرفة، وابن كامل القاضي. وذكر
ابن الأنباري أنه مات في سنة اثنتين وثمانين هو ومحمد بن الحسن،
فدفنهما الرشيد، قال: وبلغ الكسائي سبعين سنة.
أخبرنا القزاز، أخبرنا الخطيب، أخبرنا علي بن أحمد بن عمر المقرىء،
أخبرنا أبو بكر ابن مقسم، حدثنا ابن فضلان، حدثنا الكسائي الصغير،
حدثنا أبو مسحل قال: رأيت الكسائي في النوم كأن وجهه البدر فقلت له: ما
فعل الله بك؟ قال: غفر لي بالقرآن، فقلت: ما فعل حمزة الزيات. قال: ذاك
في عليين ما نراه إلا كما نرى الكوكب الدري.
محمد بن الحسن بن فرقد، أبو عبد اللّه الشيباني مولاهم، صاحب أبي
حنيفة.
أصله دمشقي من قرية هناك، قدم أبوه العراق فولد محمد بواسط في سنة
اثنتين وثلاثين، ونشأ بالكوفة وسمع العلم بها من أبي حنيفة، ومسعر،
والثوري، وعمر بن ذر، ومالك بن مغول، وكتب عن مالك بن أنس رضي الله
عنهما، والأوزاعي، وأبي يوسف القاضي.
سكن بغداد وحدَّث بها، وغلب عليه الرأي، وبلغ فيه الغاية. وروى عنه:
الشافعي، وأبو عبيد وجماعة.
وخرج إلى الرقة، والرشيد بها، فولاه قضاء الرقة، ثم عزله فقدم بغداد،
فلما خرج الرشيد إلى الري خرج معه، فمات بالري. وكان يقول: ترك أبي
ثلاثين ألف درهم، فأنفقت خمسة عشر ألفاً على النحو والشعر، وخمسة عشر
ألفاً على الحديث والفقه.
وكان يقول لأهله: لا تسألوني حاجة من حوائج الدنيا تشغلوا قلبي، وخذوا
ما تحتاجون إليه من وكيلي، فإنه أقل لِهمّي، وأفرغ لقلبي.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي الحافظ، أخبرنا رضوان بن محمد
الدينوري قال: سمعت الحسين بن جعفر العنزي يقول: سمعت أبا بكر بن
المنذر يقول: سمعت المزني يقول: سمعت الشافعي يقول: ما رأيت سميناً أخف
روحاً من محمد بن الحسن، وما رأيت أفصح منه، كنت إذا رأيته يقرأ كأن
القرآن أنزل بلغته. وفي رواية عن الشافعي: أنه قال: ما رأيت أعقل من
محمد بن الحسن، وحملت عنه وقر بختي كتباً.
وقال رجل للشافعي: في أي مسألة خالفك الفقهاء. فقال الشافعي: وهل رأيت
فقيهاً قط، اللهم إلا أن يكون محمد بن الحسن، فإنه كان يملأ العين
والقلب.
قال الطحاوي: وكان الشافعي قد طلب من محمد بن الحسن كتاب السير فلم
يجبه إلى الإعارة، فكتب إليه:
قل للذي لم تر ... عين من رآه مثله
حتى كأن من رآه ... قد رأى من قبله
العلم ينهى أهله ... أن يمنعوه أهله
لعله يبذله ... لأهله لعله
فوجه به إليه في الحال هدية لا عارية.
وقال إبراهيم الحربي: قلت لأحمد بن حنبل: هذه المسائل الدقاق من أين
لك؟ قال: من كتب محمد بن الحسن.
قال أحمد: وكان يذهب مذهب جهم.
وكذلك قال أبو زرعة: كان محمد بن الحسن جهمياً.
قال نوح بن ميمون: دعاني محمد بن الحسن إلى القول بخلق القرآن، فأبيت
عليه.
أخبرنا أبو منصور، أخبرنا أبو بكر الحافظ، أخبرنا أحمد بن محمد بن غالب
قال: سألت الدارقطني عن محمد بن الحسن فقال: قال يحيى بن معين: كذَاب.
وقال فيه أحمد نحو هذا. وعندي لا يستحق الترك.
وقال علي بن المديني: محمد بن الحسن صدوق.
توفي محمد بن الحسن بالري في صحبة الرشيد سنة تسع وثمانين ومائة، وهو
ابن ثمان وخمسين سنة.
قال أبو
عمر الزاهد: سمعت أحمد بن يحيى يقول: توفي الكسائي ومحمد بن الحسن في
يوم واحد، فقال الرشيد: دفنت اليوم اللغة والفقه.
قال أبو عبد اللّه محمد بن يوسف بن درست: مات محمد بن الحسن والكسائي
في يوم واحد، ومات معروف الكرخي في يوم واحد وأبو نواس، ومات ابن دريد
وأبو هاشم بن علي الجبائي في يوم واحد، ومات الشبلي، وعلي بن عيسى
الوزير في يوم واحد، ودفنا جميعاً بالخيزرانية ومات محمد بن داود
الأصفهاني ويوسف بن يعقوب القاضي في يوم واحد، ومات القاضيان أبو حسان
الزيادي - وكان على قضاء الشرقية - والحسن بن الجعد - وكان على مدينة
المنصور - في يوم واحد، ومات أبو العتاهية والعباس بن الأحنف وإبراهيم
الموصلي في يوم واحد.
يحيى بن يمان، أبو زكريا العجلي.
كوفي، سمع الثوري، وروى عنه: يحيى بن معين، والحسن بن عرفة وكان صالحاً
صدوقاً، كثير الحفظ، لكنه نسي فصار يغلط.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا علي بن محمد بن
محمد المعدل، أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، حدثنا الحسن بن عمر قال:
سمعت بشراً يقول: كنت جالساً بين يدي يحيى بن يمان. قال: فكنت أعجب من
ثيابه، وكان يعجب من ثيابي، وذكر كثرة رقاع في جبة يحيى بن يمان. قال
بشر: فمرّ إنسان عليه بزة فقال: ثيابك أحسن من ثيابي. قال بشر: أراد أن
يقويني.
توفي يحيى بن يمان في هذه السنة. وقيل: في سنة ثمان، وكان قد فلج.
ثم دخلت
سنة تسعين ومائة
فمن الحوادث فيها: خروج رافع بن الليث بن نصر بن سيار بمسمرقند مخالفاً
لهارون، وخلعه إياه، ونزعه يده من طاعته.
وكان سبب ذلك: أن يحيى بن الأشعثَ بن يحيى الطائي تزوَّج بنتاً لعمه
أبي النعمان، وكانت ذات يسار، فأقام بمدينة السلام وتركها بسَمَرقند،
فلما طال مقامه بها. وبلغهما أنه قد اتخذ أمهاتِ أولاد، التمست سبباً
للتخلص منه، وبلغ رافعاً خبرُها، فطمع فيها وفي مالها، فدسَّ إليها
مَنْ قال لها: إنه لا سبيل لها، إلى التخلص من صاحبها إلا أن تشرك
باللّه، وتحضر لذلك قوما عدولاً، وتكشف شعرها بين أيديهم ثم تتوب، فتحل
للأزواج، ففعلت ذلك وتزوجها رافع. وبلغ ذلك يحيى بن الأشعث، فرفع ذلك
إلى الرشيد، فكتب إلى علىِ بن عيسى يأمره أن يفرّق بينهما، وأن يجلد
رافعاً الحدِّ، ويقيّده ويطيف به في مدينة سَمَرْقَنْد مقيداً على
حمار، حتى يكون عظةً لمن يراه، فدرأ عنه سليمان بن حميد الحد، وحمَله
على حمار مقيداً حتى طلقها، ثم حبسه، فهرب من الحبْس ليلاً، فلحق بعليّ
بن عيسى ببلخ، فطلب الأمان فلم يجبه علي إليه، وهمّ بضرب عنقه، فكلّمه
فيه ابنه عيسى بن علي، فأذن له في الانصراف إلى سمَرْقند، فوثب بسليمان
بن حميد عامل علي بن عيسي، فقتله، فوجه عليّ بن عيسى ابنه، فمال الناس
إلى سباع بن مسعدة، فرأسوه عليهم، فوثب على رافع فقيَّده، فوثب بسباعٍ،
فقيدوه ورأسوا رافعاً وبايعوه، وطابقه مَنْ وراء النهر، ووافاه عيسى بن
علي، فلقيه رافع فهزمه، فأخذ عليّ ابن عيسى في فرض الرجال، والتأهب
للحرب.
وفي هذه السنة: قدم الرشيد من الري، فأتى الرقة، فبدأ بأم جعفر فظل
عندها، وأمر لها من الغد بستة آلاف ألف درهم، وتخوت من الوشي، وسلال من
الزعفران، وطرائف مما أهداه إليه علي بن عيسى بن ماهان.
أخبرنا محمد بن ناصر، أخبرنا أبو الغنائم بن الرسي، أخبرنا الشريف أبو
عبد اللّه محمد بن علي العلوي وأبو الفرج محمد بن أحمد بن علان الشاهد
قالا: أخبرنا القاضي أبو عبد اللّه محمد بن عبد الله النهرواني قال:
حدثني محمد بن الحسن السكوني، حدَّثنا أبو الحسن أحمد بن سعيد الدمشقي
قال: حدَّثني الزبير بن بكار قال: حدَّثني عمي مصعب بن عبد اللّه قال:
كان عبيد الله بن ظبيان قاضي الرقة، وكان الرشيد إذ ذاك بها، فجاء إليه
رجل، فاستعدى إليه من عيسى بن جعفر، فكتب إليه ابن ظبيان: أما بعد،
أبقى اللّه الأمير وحفظه وأتم نعمه عليه، أتاني رجل فذكر أنه فلان بن
فلان، وأن له على الأمير أبقاه اللّه خمسمائة ألف درهم، فإن رأى الأمير
أبقاه الله أن يحضر هو مجلس الحكم، أو يوكل وكيلاً يناظر خصمه فعل.
ودفع
الكتاب إلى الرجل، فأتى باب عيسى فدفع الكتاب إلى حاجبه، فأوصله إليه،
فقال له: قل له: كل هذا الكتاب. فرجع إلى القاضي فأخبره، فكتب إليه:
أبقاك الله وحفظك، وأمتع بك، حضر رجل يقال له فلان بن فلان، ذكر أن له
عليك خمسمائة ألف درهم، فصر معه إلى مجلس الحكم أو وكيلك إن شاء الله.
ووجَّه الكتاب مع عونين من أعوانه، فحضرا باب عيسى، ودفعا الكتاب إليه،
فغضب ورمى به، فانطلقا فأخبراه، فكتب إليه: حفظك الله وأبقاك، وأمتع
بك، لا بد أن تصير أنت وخصمك إلى مجلس الحكم، فإن أبيت أنهيت أمرك إلى
أمير المؤمنين.
ثم وجّه الكتاب مع رجلين من أصحابه، فقعدا على باب عيسى حتى خرج، فقاما
إليه ودفعا إليه كتاب القاضي، فلم يقرأه، ورمى به، فأبلغاه فختم قمطره
وانصرف، وقعد في بيته، وبلغ الخبر إلى الرشيد، فدعاه فسأله عن أمره،
فأخبره بالقصة حرفاً حرفاً، فقال لإبراهيم بن عثمان: صر إلى باب عيسى
بن جعفر واختم أبوابه كلها، ولا يخرجن أحد منها، ولا يدخل إليه أحد،
حتى يخرج إلى الرجل حقه، أو يصير معه إلى مجلس الحكم.
فأحاط إبراهيم بداره خمسين فارساً، وغلَّقت أبوابه، فظن ابن عيسى أنه
قد حدث بالرشيد أمر في قتله، ولم يعلم ما سبب ذلك، وجعل يكلم الأعوان
من خلف الباب، وارتفع الصياح من منزله بصراخ النساء، فأمرهن أن يسكتن،
وقال لبعض غلمان إبراهيم: ادع ليِ أبا إسحاق لأكلمه، فأعلموه ما قال،
فجاء حتى صار إلى الباب فقال له عيسى: ما حالنا؟ فأخبره بخبر ابن
ظبيان، فأمر أن يحضر خمسمائة ألف درهم من ساعته، وتدفع إلى الرجل، فجاء
إبراهيم إلى الرشيد. فأخبره، فقال: إذا قبض الرجل ماله أفتح عليه
أبوابه.
وفي هذه السنة: غزا الرشيد الصائفة - وهي بلاد الروم - في رجب، واستخلف
المأمون بالرقة، وفوّض إليه الأمور، وكتب إلى الآفاق بالسمع والطاعة،
ودفع إليه خاتم المنصور يتيَمن به، وهو خاتم الخاصة، ونقشه: " الله
ثقتي آمنت به " وفيها: أسلم الفضل بن سهل على يد المأمون.
وفيها: خرجت الروم إلى عين زَرْبة، وكنيسة السّوْداء، فأغارت وأسرت،
فاستنقذ أهل المصيصة ما أخذوا.
وفيها: فتح الرشيد هرقلة.
وكان من خبر غزاة الرشيد أن الروم كانوا ملّكوا امرأة لم يكن بقي في
زمانها من أهل المملكة غيرها، فكانت تكتب إلى المهدي والهادي والرشيد
بالتبجيل والتعظيم، وتهدي لهم، حتى بلغ ابنها، فجاءه الملك دونها، وعاث
وأفسد، وتغير على الرشيد، فخافت على ملك الروم أن يذهب، لعلمها بسطوة
الرشيد، فسملت عيني ابنها، فبطل ملكه، وعاد إليها، فعظم ذلك عند أهل
مملكتها وأبغضوها، فخرج عليها نقفور - وكان كاتبها - فأعانوه وعضدوه،
وقام بأمر الملك، وكتب إلى الرشيد: من نقفور ملك الروم إلى الرشيد ملك
العرب، أما بعد: فإن هذه المرأة كانت وضعتك وأباك وأخاك موضع الملوك،
وإني واضعك بغير ذلك الموضع، وعامل على تطرق بلادك، والهجوم على
أمصارك، أو تؤدي إلي ما كانت المرأة تؤدي إليك، والسلام.
فلما ورد الكتاب على الرشيد كتب جواب كتابه يقول: بسم الله الرحمن
الرحيم، من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، جوابك
عندي ما تراه عياناً، لا ما تسمعه.
وقد ذكرنا أنهم تكاتبوا نحو هذا في سنة سبع وثمانين، فمشى الرشيد إلى
بلاد الروم في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألفاً من المرتزقة سوى الأتباع،
فدخل بلاد الروم، فجعل يقتل ويسبي ويغنم ويعفي الآثار ويخرب الحصون،
حتى نزل على هرقلة، وهي أوثق حصن وأمنعه، فتحصن أهلها، وكان لها خندق
يطيف بها، فلما ألح عليهم الرشيد بالسهام والمجانيق والعرادات، ففتح
الباب يوماً رجل منهم وخرج في أكمل زي وسلاح، فنادى: هل من مبارز؟ قد
طالت مرافقتكم إيانا، فليبرز إلي منكم رجلان، ثم لم يزل يزيد حتى بلغ
عشرين، فلم يجبه أحد، فدخل وأغلق الباب، وكان الرشيد نائماً، فلم يعلم
بخبره إلا بعد انتباهه، فغضب ولام خدمه إذ لم يعلموه فقيل له: إن
الامتناع عنه سيغريه ويطغيه، وهو يخرج في غِدِ فيطلب مثل ما طلب، فطالت
على الرشيد ليلته انتظاراً له، فإذا هو بالباب قد فتح، وخرج طالباً
للبراز، فجعل يدعي أنه يثبت لعشرين، فقال الرشيد: من له؟ فابتدر جماعة
من القواد كهزيمة وخزيمة، فعزم
على إخراج
المطوعة بعضهم، فضج المطوعة، فإذا بعشرين منهم، فقال قائلهم: يا أمير
المؤمنين، قوادك مشهورون بالبأس، ومتى خرج واحد منهم فقتل هذا العلج لم
يكبر ذلك، وإن قتله العلج كانت وَصْمَةً على العسكر قبيحة، ونحن عامة
لا يرتفع لأحد منا صوت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يخلينا نختار رجلاً
من العامة فنخرجه إليه، فإن ظفر علم أهل الحصن أن أمير المؤمنين ظفر
بأعرفهم على يد رجل من العامة ليس ممن يؤمن قتله، ولا يؤثر، وإن قتل
الرجل كان شهيداً ولم يؤثر دماً. فقال الرشيد: قد استصوبت رأيكم،
فاختاروا رجلاً منكم، فاختاروا رجلاً يقال له: ابن الجزري، وكان
معروفاً بالبأس والنجدة، فقال له الرشيد: أتخرج؟ قال: نعم، واستعين
باللّه.
فقال: اعطوه فرساً ورمحاً وسيفَاً وترساً. فقال: يا أمير المؤمنين، أنا
بفرسي أوثق، ورمحي بيدي أشد، ولكن قد قبلت السيف والترس فلبس سلاحه
واستدناه الرشيد وودعه وأتبعه الدعاء، وخرج معه عشرون من المطوعة، فلما
انقض في الوادي قال لهم العلج وهو يعدّهم واحداً واحداً، إنما الشرط
عشرون وقد زدتم رجَلاً، ولكن لا بأس. فنادوه: ليس يخرج إليك إلا رجل
واحد. فلما فصل منهم ابن الجزري تلقاه الرجل الرومي وقد أشرف أكثر
الناس من الحصن يتأملون صاحبهم والقرن، حتى ظُنَ أنه لم يبق أحد في
الحصن إلا أشرف، فقال الرومي: أتصدقني عما استخبرك. قال: نعم، قال: أنت
بالله ابن الجزري، قال: اللهم نعم. فكفَّر له، ثم أخذا في شأنهما
فاطعنا حتى طال الأمر بينهما، وكان الفرسان يقومان ولم نجد من واحد
منهما صاحبه، ثم تجالدا بالسيوف، وجعل ابن الجزري يضرب الضربة التي يرى
أنه قد بلغ فيها، فيتقيها الرومي، وكان ترسه حديداً، فيسمع لذلك صوت
منكر، ويضربه الرومي ضرب مغدر، لأن ترس ابن الجزري كان درقة، فلما يئس
كل واحد منهما من صاحبه انهزم ابن الجزري، فدخلت المسلمين كآبة لم
يكتئبوا مثلها قط، وعطعط المشركون، ثم اتبعه العلج، فالتفت ابن الجزري،
فرمى العلج بوهق فوقع في عنقه، وركض إليه فاستلبه عن فرسه، ثم عطف
عليه، فما وصل إلى الأرض حتى فارقه رأسه، فكبر المسلمون وانخذل
المشركون، وبادروا الباب يغلقونه. وإنما كانت هزيمة ابن الجزري حيلة
منه.
واتصل الخبر بالرشيد فقال للقوَّاد: اجعلوا النار في المجانيق، فتهافت
السور، ففتحوا الباب مستأمنين، وصبت الأموال على ابن الجزري وقوّد، فلم
يقبل النقود، وسأل أن يعفى ويترك بمكانه من الثغر، فلم يزل به طول
عمره.
وكان فتح هرقلة في شوال، وأخربها وسبى من أهلها ستة عشر ألفَاً،
فأقدمهم الرافقة، فتولى بيعهم أبو البختري القاضي.
ووجه الرشيد داود بن عيسى بن موسى سائحاً في أرض الرقة في سبعين
ألفَاً.
وافتتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة ودَيْسة.
وافتتح يزيد بن مخلد الصّفْصاف، ومقلونية.
وولي حُمَيد بن مَعيوف ساحل بحر الشام إلى مِصْر، فبلغ حُميد قبرس،
فهدم وحرق وسبى من أهلها ستة عشر ألفاً، وأقدمهم الرّافقة، فتولّى
بيعهم أبو البختريّ القاضي.
وبعث نقفور بالخراج والجزية عن رأسه، وولي عهده وبطارقته وسائر أهل
بلده خمسين ألف دينار، منها عن رأسه أربعة دنانير، وعن رأس ولده
دينارين.
وكتب نقفور مع بطريقين من عظماء بطارقته في جارية من سبي هرقلة كتاباً
نسخته: لعبد اللّه هارون أمير المؤمنين، من نقفور ملك الروم، سلام
عليك، أما بعد: أيها الملك، إنّ لي حاجة لا تضرّك في دينك ولا دنياك،
هيّنة يسيرة، أن، تهب لابني جارية من بنات أهل هرقلة كنت خطَبتُها على
ابني، فإن رأيت أن تسعفني في حاجتي فعلت، والسلام عليك ورحمة اللّه
وبركاته.
واستهداه
أيضاً طيباً وسُرادقاً، فأمر الرشيد بطلب الجارية، فاحضرَت وزُيِّنَتْ
واجْلِسَتْ على فراش في مضربه الذي كان نازلاً فيه، وسلمت الجارية
والمضرب بما فيه من الآنية والمتاع إلى رسول نقفور، وبعث إليه بما سأل
من العطر، وبعث إليه من التمور والزّبيب والأخبصة والترياق، فسلَّم ذلك
إليه رسول الرشيد، فأعطاه نقْفور وقرْ برذون دراهم كان مبلغه خمسين ألف
درهم، ومائة ثوب ديباج، ومائتي ثوب بُزْيون، واثني عشر بازياً، وأربعة
أكلب من كلاب الصّيد، وثلاث براذين، وكان نقفور اشترط ألا يخرّب ذا
الكلاع، ولا حمله، ولا حصن سنان، واشترط الرّشَيد عليه ألا يعمّر
هرقلة، وعلى أن يحمل نقفور ثلثماثة ألف دينار، فقال أبو العتاهية في
ذلك:
إمام الهدى أصبحت بالدين معنيّا ... وأصبحت تسقي كل مستمطر ريّا
لك اسمان شُقا من رشاد ومن هدى ... فأنت الذي تدعى رشيداً ومهديَّا
إذا ما سخطت الشيء كان مسخطاً ... وإن ترض شيئاً كان في الناس مرضيٌا
بسطت لنا شرقاً وغرباً يد العُلا ... فأوسعت شرقياً وأوسعت غربيّا
ووشَيْتَ وجه الأرض بالجود والندى ... فأصبح وجه الأرض بالجود موشيا
وأنت أمير المؤمنين فتى التقى ... نشرت من الإحسان ما كان مَطْوِيَّا
تحلَّيت للدنيا وللدين بالرضا ... فأصبح نقفور لهارون ذميّاً
وفيها: خرج خارجيّ من عبد القيس يقال له سيف بن بكر، فوجه إليه الرشيد
محمد بن يزيد بن مزيد فقتله بعين النُّورَة.
وفيها: نقض أهل قُبرس العَهد، فغزاهم معيوف وسبى أهلها.
وفيها: حج بالناس عيسى بن موسى الهادي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أسد بن عمرو بن عامر، أبو المنذر البجلي الكوفي صاحب أبي حنيفة.
تفقه وسمع من حجاج بن أرطأة، روى عنه: أحمد بن حنبل وغيره كان قد ولي
القضاء ببغداد وبواسط، فأنكر من بصره شيئاً، فرد القَمْطر واعتزل عن
القضاء. وثقه يحيى، وقال أحمد: كان صدوقاً. وضعفه علي، والبخارىِ،
وتوفي في هذه السنة.
حكام بن سلم الكناني الرازي، أبو عبد الرحمن. سمع من إسماعيل بن خالد،
والزبير بن عدي، وحميد الطويل، والثوري. روى عنه: يحيى بن معين، وأبو
معمر الهذلي. وكان ثقة.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت، أخبرنا الحسن بن أبي
بكر، أخبرنا محمد بن أحمد الصوَّاف، حدَّثنا عبد اللّه بن أحمد قال:
حدِّثنا أبو معمر قال: حدثنا حكام الرازي، حدَّثنا جراح الكندي، عن أبي
إسحاق، عن البراء قال: لقد رأيت ثلثمائة من أهل بدر، ما فيهم أحد إلا
وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتوى.
توفي حكام بمكة في هذه السنة قبل أن يحج.
سعدون المجنون. أخبرنا محمد بن أبي القاسم، أخبرنا أحمد بن أحمد،
أخبرنا أحمد بن عبد اللّه الأصفهاني، حدثنا عثمان بن محمد العثماني
قال: قرىء على أبي الحسن أحمد بن محمد بن عيسى وأنا حاضرٌ قال: سمعت
يوسف يقول: قال الفتح بن شخرف: كان سعدون صاحب محبة للّه، صام ستين سنة
حتى خف دماغه، فسمَاه الناس مجنوناً لتردد قوله في المحبة، فغاب عنَا
زماناً، فبينا أنا قائم على حلقة ذي النون رأيت عليه جبة صوف، وعليها
مكتوب: لا تباع ولا تشترى فسمع كلام ذي النون، فصرخ وأنشأ يقول:
ولا خير في شكوى إلى غير مشتكى ... ولا بد من شكوى إذا لم يكن صبر
أنبأنا محمد بن عبد الملك بن خيرون، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت،
أخبرنا رضوان بن محمد بن الدينوري، حدَّثنا أحمد بن علي بن لال، حدثنا
مكي بن بندار الزنجاني حدَّثنا أبو علي الحسين بن عبد الله البلاذري،
حدثنا عبد العزيز بن قرة قال: قال الأصمعي: مررت بسعدون فإذا هو جالس
عند رأس شيخ سكران يذب عنه. فقلت: سعدون، مالي أراك جالساً عند رأس هذا
الشيخ. فقال: إنه مجنون، فقلت له: أنت المجنون أو هو؟ قال: لا بل هو.
قلت: من أين قلت ذلك؟ قال: لأني صليت الظهر والعصر جماعة وهو لم يصل
جماعة ولا فرادى. قلت: فهل قلت في ذلك شيئأ؟ فقال:
تركت النبيذ لأهل النبيذ ... وأصبحت أشرب ماءً قراحا
لأن النبيذ يذل العزيز ... ويكسو سواد، الوجوه الصباحا
فإن كان
ذا جائزاً للشباب ... فما العذر فيه إذا الشيب لاحا
فقلت له: صدقت. وانصرفت.
عبد اللّه بن عمر بن غانم، أبو عبد الرحمن الرُّعَينيُّ. ولد سنة ثمان
وعشرين ومائة، ورحل في طلب العلم. وروى عن مالك وغيره.
وهو أحد الثقات الأثبات. ولي القضاء بإفريقية، وتوفي في ربيع الآخر من
هذه السنة.
عبد الواحد بن واصل، أبو عبيدة الحداد، مولى سدوس.
سمع سعيد بن أبي عروبة، وشعبة، وهو بصري سكن بغداد وحدَّث بها، فروى
عنه أحمد وغيره، ويحيى، وأبو خيثمة، وكان ثقة من المثبتين.
توفي في هذه السنة.
عبيدة بن حميد بن صهيب، أبو عبد الرحمن التيمي. ولد سنة سبع ومائة،
وسمع منصور بن المعتمر، والأعمش. وروى عنه: أحمد بن حنبل، وكان كوفياً،
فسكن بغداد إلى أن توفي بها في هذه السنة. وكان مؤدباً للأمين، وكان
أحمد يثني عليه.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني الأزهري،
حدَّثنا محمد بن العباس، حدَّثنا أحمد بن معروف، حدَّثنا الحسين بن
الفهم، أخبرنا محمد بن سعد قال: عبيدة بن حميد كان ثقة صالحاً، صالح
الحديث، صاحب نحو وعربية، وقراءة للقرآن، وكان من أهل الكوفة، فقدم
بغداد أيام هارون الرشيد، فصيره مع ابنه محمد، فلم يزل معه حتى مات.
عطاء بن مسلم، أبو مخلد الخفاف الحلبي قدم بغداد وحدث عن الأعمش.
قال يحيى، وأبو داود: كان ثقة.
حدثنا القزاز، أخبرنا الخطيب، أخبرنا أبو حازم عمر بن أحمد بن إبراهيم
العبدوي، أخبرنا محمد بن أحمد الغطريف العبدي، حدثنا محمد بن مخلد،
حدثنا محمد بن الحسن بن نافع، حدَّثنا محمد بن أبي سكينة قال: دخلت على
عطاء بن مسلم أعوده، فما لبثت أن قمت، فقال: جزاك الله خيراً من عائد،
لكن عيسى بن صالح لا جزاه الله خيراً، عادني فما برح حتى بلت في ثيابي.
توفي عطاء في رمضان هذه السنة.
يحيى بن خالد بن برمك، أبو علي. كان المهدي قد ضم إليه هارون الرشيد
وجعله في حجره، فلما استخلف هارون عرف ليحيى حقه، وكان يعظمه، وإذا
ذكره يقول: قال أبي. وجعل إصدار الأمور وإيرادها إليه، إلى أن نكب
البرامكة، فغضب عليه، وخلده في الحبس إلى أن مات فيه وكان له الكلام
الحسن، والكرم الواسع، فمن كلامه: حاجب الرجل عامله على عرضه.
وقال: من بلغ رتبة تاه بها أخبر أن محله دونها.
وقال: يدل على كرم الرجل سودان غلمانه.
وقال لابنه: خذ من كل طرفاً، فإن من جهل شيئاً عاد.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا الحسن بن محمد
الخلال، حدثنا أحمد بن محمد بن عمران، أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى
النديم قال: قال يحيى بن خالد: ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها:
الهدية، والكتاب، والرسول. وكان يقول لولده: اكتبوا أحسن ما تسمعون،
واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون.
قال ابن عمران: وحدَّثنا أبو عبد اللهّ الحكيم قال: حدثني ميمون بن
هارون قال: حدَّثني، علي بن عيسى قال: كان يحيى بن خالد يقول: إذا
أقبلت الدنيا فأنفق فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت فأنفق فإنها لا تبقى.
أخبرنا القزاز، أخبرنا الخطيب، أخبرنا أبو الحسن محمد بن عبد الواحد
القزاز، أخبرنا أبو سعيد السيرافي، حدثنا محمد بن أبي الأزهر، حدَّثنا
الزبير بن بكار قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: كانت صِلات يحيى بن
خالد إذا ركب لمن تعرض له بمائتي درهم، فركب ذات يوم، فعرض له أديب
شاعر فقال:
ياسمي الحصور يحيى أتيحت ... لك من فضل ربنا جنتان
كل من مر في الطريق عليكم ... فله من نوالكم مائتان
مائتا درهم لمثلي قليل ... هي منكم للقابس العجلان
قال يحيى: صدقت. وأمر بحمله إلى داره، فلما رجع من دار الخليفة سأله عن
حاله، فذكر أنه تزوج، وأخذ بواحدة من ثلاث، إما أن تؤدي المهر وهو
أربعة آلاف درهم، وإما أن يطلق، وإما أن يقيم جاريَاً للمرأة، ما
يكفيها إلى أن يتهيأ له نقلها، فأمر له يحيى بأربعة آلاف للمهر، وأربعة
آلاف لثمن منزل، وأربعة آلاف لما يحتاج إليه المنزل، وأربعة آلاف
للبنية، وأربعة آلاف يستظهر بها، فأخذ عشرين ألف درهم.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي الحافظ، أخبرنا أحمد بن عمر
النهرواني، أخبرنا المعافى، حدَّثنا محمد بن أحمد بن أبي الثلج،
حدَّثنا حسين بن فهم قال: قال ابن الموصلي: حدَّثني أبي قال:، أتيت
يحيى بن خالد بن برمك، فشكوت إليه ضيقة، فقال: ويحك! ما أصنِع بك؟ ليس
عندنا في هذا الوقت شيء، ولكن ها هنا أمر أدلك عليه، فكن فيه رجلاً، قد
جاءني خليفة صاحب مصر يسألني أن أستهدي صاحبه شيئَاً، وقد أبيت ذلك،
فألح عليّ وقد بلغني أنك أعطيت بجاريتك فلانة آلاف دنانير، فهو ذا
أستهديه إياها وأخبره أنها قد أعجبتني، فإياك أن تنقصها من ثلاثين ألف
دينار، وانظر كيف يكون. قال: فوالله ما شعرت إلا بالرجل قد وافاني
فساومني بالجارية. فقلت: لا أنقصها من ثلاثين ألف دينار، فلم يزل
يساومني حتى بذل لي عشرين ألف دينار، فلما سمعتها ضعف قلبي عن ردها،
فبعتها وقبضت العشرين ألفاً، وصرت إلى يحيى بن خالد، فقال لي: كيف صنعت
في بيع جاريتك. فأخبرته وقلت: والله ما ملكت نفسي أن أجبت إلى العشرين
ألفاً حين سمعتها. فقال: إنك لخسيس، وهذا خليفة فارس قد جاءني في مثل
هذا، فخذ جاريتك، فإذا ساومك بها فلا تنقصها من خمسين ألف دينار، فإنه
لا بد أن يشتريها منك بذلك.
قال: فجاءني الرجل فأسمت عليه خمسين ألف دينار، فلم يزل يساومني حتى
أعطاني ثلاثين ألف دينار، فضعف قلبي عن ردها، ولم أصدق بها، فأوجبتها
له بها، ثم صرت إلى يحيى بن خالد، فقال لي: بكم بعت الجارية. فأخبرته،
فقال: ويحك! أما تؤدبك الأولى عن الثانية. قلت: والله ضعف قلبي عن رد
شيء، لم أطمع فيه. فقال: هذه جاريتك فخذها إليك. قال: جارية أفدت بها
خمسين ألف دينار، ثم أملكها، أشهدك أنها حرة، وأني قد تزوجتها.
أخبرنا أبو، منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب: وبلغنا أن
الرشيد بعث صالحاً صاحب المصلى إلى منصور بن زياد يقول له: قد وجب عليك
عشرة آلاف درهم، فاحملها إلي اليوم، فإن فعل إلى ما قبل غروب الشمس،
وإلا فخذ رأسه، وائتني به، ولا تراجعني. قال صالح: فخرجت إلى منصور
فعرفته، فقال: ذهبت واللّه نفسي، والله ما أتمكن من ثلثمائة ألف درهم
فضلاً عن عشرة آلاف ألف. قال له صالح: خذ فيما هو أعود عليك من هذا
القول. فقال له: تحملني إلى أهلي حتى أوصي. فلما دخل إليهم ارتفع صياح
الحريم والجواري، فقال لصالح: امض بنا إلى يحيى بن خالد، لعل الله أن
يأتي بالفرج على يده. فمضى معه، فدخل على يحيى وهو يبكي فقال: ما لك.
فقص عليه القصة، فأطرق متفكراً ثم دعى جارية فقال: كم عندك من المال.
قالت: خمسة آلاف ألف درهم. فقال: أعديها. ثم وجه إلى الفضل فقال له: يا
بني، كنت عرفتني أنك تريد أن تشتري ضيعة بألفي ألف درهم، وقد وجدت لك
ضيعة تغل السكر، وتبقى الدهر فأنفذها إليَّ. فأنفذها وأرسل إلى جعفر،
فقال: يا بني أبعث إليَّ بألف ألف درهم لحق لزمني. فبعث إليه، ففكر
ساعة ثم قال لخادم على رأسه: ابعث إلى دنانير وقل لها هات العقد الذي
وهبه لك أمير المؤمنين فأهديه. فقال: هذا عقد أمير المؤمنين بمائة
وعشرين ألف دينار. فوهبه لدنانير، وقد قومناه عليك بألفي ألف درهم ليتم
المال، فخل عن صاحبنا. فأخذت ذلك، ورددت منصوراً معي، فلما صرنا إلى
الباب تمثل منصور:
فما بقيا عليَّ تركتماني ... ولكن خفتما صرد النبال
قال صالح: فقلت في نفسي ما أحد أكرم من يحيى، ولا أردأ طبعاً من هذا
النبطي، إذ لم يشكر من أحيا نفسه. وصرت إلى الرشيد فعرفته ما جرى إلا
إنشاد البيت، خوفاً عليه أن يقتله. فقال الرشيد: قد علمت أنه لا يسلم
إلا بأهل هذا البيت، فاقبض المال، واردد العقد، فما كنت لأهب هبة ثم
أرتجعها.
قال صالح: وحملني غيظي من منصور أن عرفت يحيى ما أنشد، فأقبل يحيى
يتحمل له بالغدر ويقول: إن الخائف لا يُتقى له لب، وربما نطق بما لا
يعتقد، فقلت: واللّه لا أدري من أي فعليك أعجب، من فعلك معه، أومن
اعتذارك عنه، لكني أعلم أن الزمان لا يأتي بمثلك أبداً.
وكان يحيى
بن خالد يجري على سفيان بن عيينة كل شهر ألف درهم، فسمع سفيان يقول في
سجوده: اللهم إن يحيى كفاني أمر دنياي فاكفه بهم آخرته. فلما مات يحيى
رآه بعض إخوانه في النوم، فقال له: ما فعل اللّه بك. قال: غفر لي بدعوة
سفيان. أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أحمد بن أبي جعفر
الأخرم، أخبرنا أبو علي عيسى بن محمد بن أحمد الطوماري، حدَّثنا المبرد
قال: حدَّثني محمد بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك قال: قال أبي
لأبيه: يحيى بن خالد بن برمك - وهم في القيود ولبس الصوف والحبس - : يا
أبت، بعد الأمر والنهي والأموال العظيمة أصارنا الدهر إلى القيود ولبس
الصوف والحبس؟ فقال له أبوه: يا بني، دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها
ولم يغفل الله عنها، ثم أنشأ يقول:
رب قوم قد غدوا في نعمةٍ ... زمناً والدهر ريان غدق
سكت الدهر زماناً عنهم ... ثم أبكاهم دماً حين نطق
توفي يحيى في حبس الرشيد بالرافقة لثلاث خلون من محرم هذه السنة وهو
ابن سبعين، وصلى عليه ابنه الفضل، ودفن على شاطىء الفرات في ربض هرثمة،
ووجد في جيبه رقعة حين مات، مكتوب فيها بخطه: قد تقدم الخصم والمدعى
عليه بالأثر، والقاضي هو الحكم العدل الذي لا يجور ولا يحتاج إلى
بيّنة.
فحملت الرقعة إلى الرشيد، فلم يزل يبكي يومه، وبقي أياماً يتبين الأسى
في وجهه.
ثم دخلت
سنة إحدى وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها: خروج خارجي يقال له: ثروان بن سيف، وكان يتنقَّل فيِ
السواد، فوجه إليه طوق بن مالك فهزمه وجرحه، وقتل عامة أصحابه وهرب
مجروحاً.
وفيها: خرج أبو النداء بالشام، فوجه الرشيد في طلبه يحيى بن معاذ، وعقد
له على الشام.
وفيها: ظفر حماد بهيصم اليمانيّ.
وفيها: غلظ أمر رافع بن الليتَ بسَمَرْقَنْد، وكتب إليه أهل نسف يعطونه
الطاعة، ويسألونه أن يبعث إليهم مَنْ يعينهم على قتل عيسى بن علي،
فوجَّه قائداً من قواده، فقتل عيسى بن علي في ذي القعدة.
وفيها: غزا يزيد بن مخلد الهبيريّ أرض الروم في عشرة آلاف، فأخذ الروم
عليه المضيق فقتلوه في خمسين من أصحابه، وسلم الباقون.
وفيها: ولى الرشيد حمويه الخادم بريد خراسان، وولى غزو الصائفة هرثمة
بن أعْين، وضمّ إليه ثلاثين ألفاً من جند خراسان، ومعه مسرور الخادم،
إليه النفقات وجميع الأمور، خلا الرئاسة، ومضى الرشيد إلى درب الحدث،
فرتَب هناك عبد الله بن مالك، ورتب سعيد بن سلم مقيماً بها، فأغارت
الروم عليها، وأصابوا من المسلمين وانصرفوا وسعيد بن سلم مقيم، بها،
وبعث محمد بن يزيد بن مزيد إلى طرطوس، وأقام الرشيد بحرب الحدث ثلاثة
أيام من شهر رمضان، ثم انصرف إلى الرقة وأقام.
وأمر الرشيد بهم كنائس الثغور، وكتب إلى السندي بن شاهك يأمره بذلك
ويأخذ أهل الذمة من مدينة السلام بمخالفة هيئتهم هيئة المسلمين في
لباسهم وركوبهم.
وفيها: عزل الرشيد علي بن عيسى بن ماهان عن خُراسان وولاها هرثمة،
واستصفى أمواله فبلغت ثمانين ألف ألف.
وفيها: وقع الثلج بمدينة السلام، وكان مقداره أربعة أصابع مفرجة.
وفيها: حج بالناس الفضل بن العباس بن محمد بن علي، وكان والي مكة.
ولم يكن للمسلمين بعد هذه السنة صائفة إلى سنة خمس عشرة ومائتين.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
البختري بن محمد البختري، أبو صالح اللخمي المعدل. حدث عن كامل بن
طلحة. روى عنه: الطبراني. وقال الدارقطني: لا بأس به. توفي في هذه
السنة.
خالد بن حيان، أبو يزيد الخراز الرقي.
سمع جعفر بن برقان، وفرات بن سلمان. روى عنه: أحمد بن حنبل، ويحيى بن
معين، وقال: هو ثقة. وكان شديد التحفظ في الضبط والتوقي، نزل الرقة
فتوفي بها في ذي القعدة من هذه السنة.
عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، أبو عمرو الهمداني الكوفي رأى جده
أبا إسحاق، إلا أنه لم يسمع منه، وسمع إسماعيل بن أبي خالد، وهشا م بن
عروة، والأعمش، والأوزاعي، وشعبة، ومالك بن أنس، وابن إسحاق. روى عنه:
القعنبي، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وابن راهويه، وكان ثقة
ثبتاً، وانتقل عن الكوفة إلى بعض ثغور الشام فسكنها.
قال أحمد بن حنبل: كنا نخبر أن عيسى كان سنة في الغزو، وسنة في الحج،
وقد كان قدم بغداد، فأمر له بمال فلم يقبله.
أخبرنا
أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت، أخبرنا أحمد بن سليمان بن
علي المقرىء، أخبرنا محمد بن أحمد بن فارس، أخبرنا علي بن حسين النديم،
أخبرنا الحسين بن عمر الثقفي، حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي، حدثنا
عمر بن أبي الرطيل، عن أبي بلال الأشعري، عن جعفر بن يحيى بن خالد قال:
ما رأينا مثل عيسى بن يونس، أرسلنا إليه فأتانا بالرَقة، فاعتل قبل أن
يرجع، فقلنا له: يا أبا عمر، قد أمر لك بعشرة آلاف. فقال: هيه، فقلت:
هي خمسون ألفاً. فقال لي: لا حاجة لي فيها. فقلت: ولم؟ أما والله
لاهنيتكها، هي واللّه مائة ألف. قال: لا واللّه لا يتحدث أهل العلم أني
أكلت للسنة ثمنَاً، ألا كان هذا قبل أن ترسلوا إلي. فأما على الحديث فو
الله لا شربة ماء ولا أهليلجة!.
توفي في هذه السنة بالحدث. وقيل: في سنة إحدى وثمانين. وقيل: سبع
وثمانين وقيل: ثمان وثمانين.
مخلد بن الحسين، أبو محمد. كان من أهل البصرة، ونزل المصيصة، وتوفي بها
في هذه السنة، وقد أسند عن هشام بن حسان.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، أخبرنا حمد بن أحمد، أخبرنا أبو نعيم
الأصفهاني، أخبرنا عبد اللّه بن محمد بن جعفر، حدَّثنا أحمد بن الحسين
الحداد، حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدَّثنا عبد اللهّ بن عبد
اللّه قال: قال مخلد بن الحسين: ما تكلمت بكلمة أريد أن أعتذر عنها منذ
خمسين سنة.
ثم دخلت
سنة اثنتين وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها: شخوص هرثمة إلى خراسان والياً عليها، فأخذ علي بن
عيسى وقيَّده، وأخذ ماله ومال أولاده وأصحابه، وأقامه للناس ليرد
المظالم.
وفيها: ولي ثابت بن نصر بن مالك الثغور، وغزا فافتتح مطمورة، وكان
الفداء بين المسلمين والروم.
وفيها: خرجت الخُرمية في الجبل وناحية أذربيجان، فوجَّه إليهم عبد
اللّه بن مالك بن الهيثم الخزاعي، فأسر منهم وقتل وسبى ذراريهم، وقدم
بهم بغداد فبيعوا، وكان قد غزاهم قبله خزيمة بن خازم.
وفيها: وافى الرشيد من الرقة في السفن مدينة السلام، يريد الشخوص إلى
خُراسان لحرب رافع، وكان مصيره بغداد يوم الخميس لخمس خلون من ربيع
الآخر، واستخلف بالرقة ابنه القاسم، وضم إليه خزيمة بن خازم، ثم شخص من
مدينة السلام عشية الاثنين لخمس خلون من شعبان بعد صلاة العصر من
الخيزرانية، فبات في بستان أبي جعفر، وسار من غد إلى النهروان، فعسكر
هناك، ورد حماداً البربري إلى أعماله، واستخلف ابنه محمداً بمدينة
السلام، وخرج وهو مريض.
وفيها: أمر الرشيد بنقض جامع المنصور وبنيانه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا
إبراهيم بن مخلد، أخبرنا إسماعيل بن علي الحبطي قال: وهم مسجد أبي
جعفر، وزيد في نواحيه، وجدد بناؤه، وأحكم، وكان الابتداء فيه في سنة
اثنتين وتسعين، والفراغ منه في سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وفيها: قدم يحيى بن معاذ بأبي النَداء على الرشيد وهو بالرقة، فقتله
وقتل الهيصم اليماني.
وفيها: تحرك ثرْوان الحَروري، وقتل عامل السلطان بطف البصرة.
وفيها: حج بالناس الفضل بن العباس بن محمد بن علي، وكان والي مكة.
وقيل: بل حج بهم العباس بن عبد الله بن جعفر بن المنصور.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأعيان
إسماعيل بن جامع بن إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن وداعة، أبو
القاسم. كان يحفظ القرآن - فيما ذكر الأصفهاني - إلا أنه اشتهر
بالغناء.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنطاكي، أخبرنا أبو الحسن بن الطيوري،
أخبرنا أبو محمد الجوهري، أخبرنا أبو عمرو بن حيوية، أخبرنا محمد بن
خلف بن المرزبان، حدثنا حماد بن إسحاق قال: أخبرني أبي قال: قال ابن
جامع: كان أبي ينهاني عن الغناء ويعذبني عليه، ويضيق عليّ، فهربت منه
إلى أخوالي، وكانوا ينزلون بحران، فأنزلوني في مشرعة على نهر، فإني
أشرف منها على نهر إذ طلعت سوداء معها قربة، فنزلت إلى المشرعة، فجلست
و وضعت قربتها، واندفعت تغني:
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عسل مني وتبدل علقما
فردي مصاب القلب أنت قتلته ... ولاتتركيه هائم القلب مغرما
قال:
فاستفزني ما لا قوام لي به، ورجوت أن ترده فلم تفعل، وأخذت القربة
ونهضت، فنزلت أعدو خلفها، وقلت: يا جارية. فوقفت، فقلت لها: بأبي أنت
وأمي، ردي الصوت. قالت: ما أشغلني عنك. قلت: بماذا؟ قالت: علي خراج كل
يوم درهمين. فأعطيتها درهمين، فوضعت القربة وجلست تغنيه حتى أخذته
وانصرفت، فلهوت يومي به، وبت فأصبحت وما أذكر منه حرفاً واحداً، وإذا
أنا بالسوداء قد طلعت، ففعلت كفعلها الأول، إلا أنها تغنت غير ذاك
الصوت، فنهضت وعدوت في أثرها وقلت: الصوت قد ذهب عني نغمته. فأبت أن
تعيده إلا بدرهمين، فأعطيتها، فأعادته فذكرته، فقلت: حسبك. فقالت: كأنك
تكاثر فيه بأربعة دراهم؟ كأني والله بك وقد أصبت فيه أربعة آلاف دينار.
قال ابن جامع: فبينا أنا أغني الرشيِد وبين يديه أكيسة أربعة، وفي كل
واحد ألف دينار، قال: مَنْ أطربني فله كيس، وعن لي والله الصوت.
فغنيته، فرمى إليَ بكيس، ثم قال لي: أعد. فأعدت، فرمى إلي بكيس آخر، ثم
قال لي: أعد. فأعدت، فرمى إلي بكيس، فتبسمت فقال لي: مم تضحك؟ فقلت: يا
أمير المؤمنين، لهذا الصوت حديث عجيب. فحدثته الحديث، فضحك ورمى إلي
بالكيس الرابع، وقال: لا تكذب السوداء. ورجعت بأربعة آلاف دينار.
وقد روى نحو هذه الحكاية أبو الفرج علي بن عيسى الأصفهاني: أن ابن جامع
قال: انتقلت من مكة إلى المدينة لشدة لحقتني، فأصبحت يوماً وما أملك
إلا ثلاثة دراهم، فهي في كمي، إذا بجارية في يدها جرة تريد الركي، تسعى
بين يدي، وترنم بصوت شجي:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصر الليل، عندنا
وذاك لأن النوم يغشى عيونهم ... سِرَاعاً ولا يغشى لنا النوم أعينا
إذا ما دنا الليل المضر بذي الهوى ... جزعنا وهم يستبشسرون إذا دنا
فلو أنهم كانوا يلاقون مثل ما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
قال: فأخذ الغناء بقلبي ولم يدر لي منه حرف فقلت: يا جارية، ما أدري
أوجهك أحسن أم غناؤك، فلو شئت أعدت. قالت: حباً وكرامة، ثم أسندت ظهرها
إلى جدار ثم انبعثت تغنيه، فما دار لي منه حرف، فقلت: لو تفضلت مرة
أخرى. فغضبت وكلحت وقالت: ما أعجب أحدكم يجيء إلى الجارية عليها
الضريبة فيشغلها فضربت يدي إلى الدراهم الثلاثة فدفعتها إليها،
فأخذتها، وقالت: تريد أن تأخذ مني صوتاً أحسبك تأخذ به ألف دينار وألف
دينار وألف دينار. ثم غنت ففهمته ثم سافرت إلى بغداد، فآل الأمر إلى أن
غنيت الرشيد بهذا الصوت، فرمى إلي ثلاثة أكياس، فتبسمت فأخبرته خبر
الجارية.
أخبرني بعض آهل الأدب قال: كان إسماعيل بن جامع قد تزوج بالحجاز جارية
سوداء مولاة لقوم، يقال لها مريم، فلما صار من الرشيد بالموضع الذي صار
به اشتاق إلى السوداء، فقال يذكر الموضع الذي كان يألفها فيه ويجتمعان
فيه:
هل ليلة بقفا الصحصاح عائدة ... من قبة ذات أشراح وأزرار
تسمو مجامرها بالمندلي كما ... تسمو بحباته أفراح أعصار
المسك يبدو إلينا من غلائلها ... والعنبر الورد تذكيه على النار
ومريم بين أتراب منعمة ... طوراً وطوراً تغنيني بأوتار
فقال الرشيد: ويلك! مَنْ مريمك هذه التي وصفتها صورة الحور العين. قال
زوجتي. ثم وصفها كلاماً أكثر مما وصفها شعراً، فأرسل الرشيد من الحجاز
حتى حملت، فإذا هي سوداء طمطمانية، ذات مشافر، فقال له: ويلك! هذه مريم
التي ملأت الدنيا بذكرها، عليك وعليها لعنة اللّه. فقال: يا سيدي، إن
عمر بن أبي ربيعة يقول:
فتضاحكن وقد قلن لها ... حسن في كل عين ماتود
بكر بن النطاح، أبو وائل الحنفي، الشاعر.
بصري سكن بغداد في زمن الرشيد، وكان يعاشر أبا العتاهية وأصحابه. وكان
أبو هفان يقول: أشعر أهل الغزل من المحدثين أربعة، أولهم بكر بن
النطاح.
أخبرنا
القزاز أخبرنا الخطيب، أخبرنا علي بن طلحة المقرىء، أخبرنا أحمد بن
محمد بن عمران، حدثنا محمد بن يحيى النديم، حدَّثنا عثمان بن محمد
الكندي، حدثنا، النضر بن حديد قال: كنا في مجلس فيه أبو العتاهية،
والعباس بن الأحنف، وبكر بن النطاح، ومنصور النميري، والعتابي، فقالوا
لمنصور: أنشدنا، فأنشد مدائح الرشيد، فقال أبو العتاهية لابن الأحنف -
أعني العباس - : طرفنا بمدحك،. فأنشد أبياته:
تعلمت أسباب الرضا خوف عَتْبه ... وعلمهُ حبي له، كيف يغضب
ولي غير وجه قد عرفت مكانَه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب؟
فقال أبو العتاهية: الجُيُوب من هذا الشعر على خطر، ولا سيما إن سنح
بين حلق ووتر، فقال بكر: قد حضرني شيء في هذا، فأنشد:
أرانا مَعْشرالشعراءِ قوماً ... بألسننا تَنعَمَتِ القلوبُ
إذا انبعثت قرائحنا أتينا ... بألفاظ تُشَق لها الجيوبُ
فقال العتابي:
ولاسِيمَا إذا ماهَيَّجَتْها ... بَنَانٌ قد تجيب وتستَجيب
قال النضر: فما زلت معهم في سرور. وبلغ إسحاق الموصلي خبرنا فقال:
اجتماع هؤلاء ظرف الدهر.
قال المبرد: سمعت الحسن بن رجاء يقول: حضرت بكر بن النطاح ومعه جماعة
من الشعراء، وهم يتناشدون، فلما فرغوا من طوالهم أنشدهم:
ما ضرها لو كتبتْ بالرِّضا ... فجفّ جَفْنُ العينِ أو أغمَضَا
شفاعة مردودة عندَهَا ... في عاشق تَنْدَمُ لو قد قَضَى
يانَفْسُ صبراً واعلمي أن ما ... نأمَلُ منها مثل ماقد مَضى
لم تمهن الأجفانُ من قاتِلٍ ... بلحظة إلا لأن أمْرَضا
قال: فابتدروه يقبلون رأسه.
ولما مات ابن النطاح رثاه أبو العتاهية فقال:
مات ابن نطَاح أبو وائل ... بكرٌ فأمسى الشعر قد بانا
بهلول المجنون.
كانت له كلمات حسان، ولقي الرشيد في سنة ثمان وثمانين وهو يريد الحج،
فوعظه موعظة بليغة. وقد ذكرناها هناك. وكان بهلول يأوي المقابر.
عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن بن الأسود، أبو محمد الأودي،
الكوفي.
ولد سنة خمس عشرة ومائة. وقيل: سنة عشرين. والأول أصح.
سمع الأعمش، وأبا إسحاق الشيباني، وابن جريج، ومالك بن أنس، وشعبة،
وسفيان الثوري. وروى عنه: ابن المبارك، وأحمد بن حنبل، ويحيى، وغيرهم.
وأقدمه الرشيد إلى بغداد ليوليه قضاء الكوفة، فامتنع وعاد إلى الكوفة،
وأقام بها إلى أن مات في هذه السنة. وكان ثقة عالماً زاهداً ورعاً،
وكان أحمد بن حنبل يقول فيه: نسيج وحده.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا أبو علي محمد
بن الحسين النهرواي، حدثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا ابن مخلد،
حدَّثنا حماد بن المؤمل الكلبي قال: حدثني شيخ على باب بعض المحدثين
قال: سألت وكيعاً عن مقدمه هو وابن إدريس وحفص على الرشيد فقال لي: ما
سألني عن هذا أحد قبلك، قدمنا على هارون فأقعدنا بين السريرين فكان أول
مَنْ دعا به أنا، فقال: أهل بلدك طلبوا مني قاضياً، وسمّوك لي فيمن
سمّوا، وقد رأيت أن أشركك في أمانتي، وصالح ما أدخل فيه من أمر هذه
الأمة، فخذ عهدك أيها الرجل وامض. فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ
كبير، وإحدى عيني ذاهبة، والأخرى ضعيفة. فقال هارون: اللهم غفراً خذ
عهدك أيها الرجل وامض. فقلت: يا أمير المؤمنين، واللّه إن كنت صادقاً
إنه لينبغي أن تقبل مني، ولئن كنت كاذباً فما ينبغي أن تولي القضاء
كذاباً. فقال: اخرج. فخرجت، ودخل ابن إدريس، وكان هارون قد وسم له من
ابن إدريس وسم - يعني خشونة جانبه - فدخل، فسمعنا صوت ركبتيه على الأرض
حين برك، وما سمعناه يسلم إلا سلاماً خفياً، فقال له هارون: أتدري لِمَ
دعوتك. فقال له: لا. قال: إن أهل بلدك طلبوا مني قاضياً، وإنهم سمّوك
لي فيمن سمّوا، وقد رأيت أن أشركك في أمانتي، وأدخلك في صالح ما أدخل
فيه من أمر هذه الأمة، فخذ عهدك وامض. فقال له ابن إدريس: ليس أصلح
للقضاء. فنكت هارون بإصبعه وقال له: وددت أني لم أكن رأيتك. قال له ابن
إدريس: وأنا وددت أني لم أكن رأيتك. فخرج، ثم دخل حفص بن غياث. فقال له
كما قال لنا. فقبل عهده وخرج. فأتانا خادم معه ثلاثة أكياس في كل كيس
خمسة آلاف. فقال: إن أمير المؤمنين يقرئكم السلام ويقول لكم قد لزمتكم
في شخوصكم مؤونة فاستعينوا بهذه في سفركم. قال وكيع: فقلت له: أقرىء
المؤمنين السلام، وقل له قد وقعت مني بحيث يحب أمير المؤمنين، وأنا
عنها مستغن وفي رعية أمير المؤمنين من هو أحوج إليها مني، فإن رأى أمير
المؤمنين بصرفها إلى من أحب.
وأما ابن إدريس فصاح به: مر من هنا. وقبلها حفص، وخرجت الرقعة إلى ابن
إدريس من بيننا: عافانا الله وإياك، سألناك أن تدخل في أعمالنا فلم
تفعل، ووصلناك من أموالنا فلم تقبل، فإذا جاءك ابني المأمون فحدثه إن
شاء اللهّ. فقال للرسول: إذا جاءنا مع الجماعة حدثناه إن شاء الله. ثم
مضينا، فلما صرنا إلى الياسرية حضرت الصلاة، فنزلنا نتوضأ للصلاة. قال
وكيع: فنظرت إلى شرطي محموم نائم في الشمس، عليه سواده، فطرحت كسائي
عليه وقلت: تدفأ إلى أن نتوضأ. فجاء ابن إدريس فاستلبه ثم قال لي:
رحمته لا رحمك اللّه، في الدنيا أحد يرحم مثل ذا؟ ثم التفت إلى حفص
فقال له: يا حفص، قد علمت حين دخلت إلى سوق أسد، فخضبت لحيتك ودخلت
الحمام، أنك ستلي القضاء، لا واللهّ لا كلمتك حتى تموت. قال: فما كلمه
حتى مات.
أخبرنا
محمد بن ناصر، أخبرنا محفوظ بن أحمد، أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين
الجازري، أخبرنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا محمد بن القاسم الأنباري
قال: حدثني أبي، حدَّثنا موسى بن عبد الرحمن بن مسروق الكندي، حدثنا
ابن المنذر - وكان جاراً لعبد الله بن إدريس - قال: حج الرشيد ومعه
الأمين والمأمون، فدخل الكوفة، فقال لأبي يوسف: قل للمحدثين يأتونا
فيحدثونا. فلم يتخلف عنه من شيوخ أهل الكوفة إلا اثنان: عبد اللهّ بن
إدريس، وعيسى بن يونس، فركب الأمين والمأمون إلى عبد الله بن إدريس
فحدثهما بمائة حديث، فقال المأمون لعبد اللّه: يا عم، أتأذن لي أن
أعيدها عليك من حفظي. قال: افعل. فأعادها كما سمعها، وكان ابن إدريس من
أهل الحفظ يقول: لولا أني أخشى أن ينفلت مني القرآن لدونت العلم. فعجب
عبد اللهّ من حفظ المأمون. وقال المأمون: يا عم، إلى جانب مسجدك دار،
إن أردت اشتريناها ووسعنا بها المسجد. فقال: ما لي إلى هذا حاجة، قد
أجزى من كان قبلي وهو يجزيني. فنظر إلى قرح في ذراع الشيخ، فقال: إن
معنا أطباء وأدوية، أتأذن لي أن أجيئك بمن يعالجك؟ قال: لا، قد ظهر بي
مثل هذا وبرأ. فأمر له بمال فأبى أن يقبله. وصار إلى عيسى بن يونس
فحدثه، فأمر له المأمون بعشرة آلاف درهم، فأبى أن يقبلها، فظن أنه
استقلها، فأمر له بعشرين ألفَاً، فقال عيسى: والله ولا أهليلجة، ولا
شربة ماء على حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولو ملأت لي هذا
المسجد ذهباً إلى السقف. فانصرفا من عنده.
وعن حسين بن عمرو المنقري قال: لما نزل بابن إدريس الموت بكت ابنته،
فقال: لا تبكي، فقد ختمت في هذا البيت أربعة آلاف ختمة.
توفي ابن إدريس في هذه السنة.
علي بن ظبيان، أبو الحسن العبسي، الكوفي.
تقلد قضاء الشرقية، ثم ولي قضاء القضاة في أيام الرشيد. وكان يجلس في
المسجد الذي ينسب إلى الخلد فيقضي فيه. وحدث عن عبيد اللّه بن عمر
العمري، وإسماعيل بن أبي خالد، وعبد الملك بن أبي سليمان. روى عنه:
داود بن رشيد. وقد ضعفه بعض أصحاب الحديث. وقال بعضهم: لا بأس به.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت، أخبرنا علي بن
المحسن، أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، حدثنا علي بن محمد بن عبيد، عن
أحمد بن زهير، عن سليمان بن أبي شيخ، حدثنا عبيد بن ثابت قال: كتبت إلى
علي بن ظبيان وهو قاضي بغداد: بلغني أنك تجلس على بارية، وقد كان مَنْ
قبلك من القضاة يجلسون على الوطاء، ويتكئون. فكتب إلي: إني لا أستجيز
أن يجلس بين يدي رجلان حران مسلمان على بارية وأنا على وطاء، لست أجلس
إلا على ما يجلس عليه الخصوم. قال طلحة: علي بن ظبيان رجل جليل،
متواضع، دين، حسن العلم بالفقه، من أصحاب أبي حنيفة، وكان حسناً في باب
الحكم، تقلد قضاء الشرقية، ثم تقلد قضاء القضاة، ولاه الرشيد، وكان
يخرجه معه إذا خرج إلى المواضع. فتوفي بقرميسين سنة اثنتين وتسعين
ومائة.
العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة، أبو الفضل الشاعر.
كان من عرب خُراسان ومنشأة بغداد، وكان طريفاً مقبولاً حسن الشعر.
عن محمد بن يحيى قال: سمعت عبد اللّه بن المعتز يقول: لو قيل لي: ما
أحسن شعر تعرفه لقلت شعر العباس بن الأحنف:
قد سحب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرق الناس فيها قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالظن غيركمُ ... وصادق ليس يدري أنه صدقا
أخبرنا القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت، أخبرنا أبو الحسن محمد بن عبد
الواحد، أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني، حدثنا محمد بن القاسم
الأنباري، حدثنا أبي، حدَّثنا عبد الله بن أبي سعد، حدثنا عبد الله بن
الربيع قال: قال هارون الرشيد في الليل بيتاً وأراد أن يشفعه بآخر
فامتنع القول عليه، فقال: علي بالعباس بن الأحنف، فلما طُرِق ذعر وفزع
أهله، فلما وقف بين يدي الرشيد قال: وجّهت إليك لبيت قلته، ورمت أن
أشفعه بمثله فامتنع القول علي. فقال: يا أمير المؤمنين، دعني حتى ترجع
إلي نفسي، فإني تركت عيالي على حال من القلق عظيمة، ونالني من الخوف ما
يتجاوز الحد والوصف. فانتظر هنية، ثم أنشده:
جنان قد رأيناها ... ولم نر مثلها بشرا
فقال العباس:
يزيدك وجهها حسناً ... إذا ما زدته نظرا
فقال له الرشيد: زدني.
فقال العباس:
إذا ما
الليل مال علي ... ك بالظلماء واعتكرا
ودج فلم تر قمراً ... فأبرزها ترى القمرا
فقال له الرشيد: قد ذعرناك وأفزعنا عيالك، وأقل الواجب أن نعطيك دينك
فأمر له بعشرة آلاف درهم، وصرفه.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا عبيد اللّه بن عبد الرحمن
الزهري، حدَّثنا محمد بن القاسم الشطوي، حدثنا أحمد بن عبيد قال: سمعت
الأصمعي يقول: بينا أنا قاعد يوماً في مجلس بالبصرة، فإذا أنا بغلام
أحسن الناس وجهاً وثوباً، واقف على رأسي، فقال: إن مولاي يريد أن يوصي
إليك، فأخذ بيدي حتى أخرجني إلى الصحراء، فإذا بالعباس بن الأحنف ملقى
على فراشه، وإذا هو يجود بنفسه وهو يقول:
يا بعيد الدار عن وطنه ... مفرداً يبكي على شجنه
كلما جد النجيب به ... زادت الأسقام في بدنه
ثم أغمىِ عليه، فانتبه بصوت طائر على شجرة، وهو يقول:
ولقد زاد الفؤاد شجى ... هاتف يبكي على فننه
شاقه ماشاقني فبكى ... كلنا يبكي على سكنه
ثم أغمي عليه، وظنناها مثل الأولى، فحركته فإذا هو ميت.
توفي العباس بن الأحنف في قول إبراهيم بن العباس الصولىِ في هذه السنة.
وقال عمر بن شبة: توفي سنة ثمان وثمانين. وقال غيره: بقي بعد الرشيد.
عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور.
كان من وجوه بني هاشم وسراتهم، وولي إمارة البصرة، وخرج من بغداد يقصد
الرشيد، وهو إذ ذاك بخراسان، فأدركه أجله بالدسكرة من طريق حلوان،
فتوفي في هذه السنة.
الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي.
أخو جعفر، وُلد بالمدينة سنة سبع وأربعين ومائة، وأمه زبيدة بنت منين
بربرية، فأرضعته الخيزُران، وأرضعت زبيدة أمه الرشيد أياماً، فصارا
رضيعين، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة يمدحه:
كفى لك فضلاً أن أفضل حرة ... غذتك بثدي والخليفة واحدِ
لقد زِنْتَ يحيى في المشاهد كلها ... كما زان يحيى خالداً في المشاهد
قال مؤلف الكتاب رحمه اللّه: كان الفضل أجود من أخيه جعفر، وأندى راحة،
إلا أنه كان فيه كبرٌ شديد، وكان جعفر أطلق وجهاً، وأظهر بشراً، وكان
الناس يؤثرون لقاء جعفر على لقاء الفضل.
وهب الفضل لطباخه مائة ألف درهم، فعاتبه أخوه في هذا، فقال: إن هذا
صحبني وأنا لا أملك شيئاً، واجتهد في نصحي، وقد قال الشاعر:
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان عاونهم في المنزل الخشن
ووهب لبعض الأدباء عشرة آلاف دينار، فبكى الأديب، فقال: أتبكي
استقلالاً لها؟ قال: لا والله، ولكن أسفاً، كيف تواري الأرض مثلك.
وولى الرشيد الفضل أعمالاً جليلة. بخُراسان وغيرها، فلما غضب على
البرامكة وقتل جعفر خلد الفضل في الحبس مع أبيه يحيى، فلم يزالا
محبوسين حتى ماتا في حبسهما.
مات يحيى سنة تسعين، ومات الفضل سنة اثنتين وتسعين، قبل موت الرشيد
بشهور. وقيل: سنة ثلاث.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أبو القاسم الأزهري، أخبرنا
أحمد بن إبراهيم، حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة، حدثنا محمد بن الحسين
بن هشام، حدَّثنا علي بن الجهم، عن أبيه قال: لما أصبحت ذات يوم وأنا
في غاية الضيقة، ما أهتدي إلى دينار ولا درهم، ولا أملك إلا دابة أعجف،
وخادماً خلعاً، فطلبت الخادم فلم أجده، ثم جاء فقلت: أين كنت؟ فقال:
كنت في احتيال شيء لك، وعلف لدابتك، فوالله ما قدرت عليه. فقلت: اسرج
لي دابتي. فأسرجه، فركبت، فلما صرت في سوق يحيى إذا أنا بموكب عظيم،
وإذا الفضل بن يحيى، فلما بصرني قال: سر. فسرنا قليلاً، وحجز بيني
وبينه غلام يحمل طبقاً على باب، يصيح بجارية، فوقف الفضل طويلاً، ثم
قال: سر. ثم قال: أتدري ما سبب وقفتي. قلت: إن رأيت أن تعلمني. قال:
كانت لأختي جارية، وكنت أحبها حباً شديداً، واستحي من أختي أن أطلبها
منها، ففطنت أختي لذلك، فلما كان في هذا اليوم لبستها وزينتها، وبعثت
لها إلي، فما كان في عمري يوم أطيب من يومي هذا، فلما كان في هذا الوقت
جاءني رسول أمير المؤمنين فأزعجني، وقطع علي لذتي، فلما صرت إلى هذا
المكان دعا هذا الغلام صاحب الطبق باسم تلك الجارية، فارتدت لندائه،
ووقفت فقلت: أصابك ما أصاب أخا بني عامر حيث يقول:
وداع دعا
إذ نحن بالخيف من منى ... فهيَّج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائراً كان في صدري
فقال: اكتب لي هذين البيتين. فعدلت لأطلب ورقة أكتب له هذين البيتين
فيها فلم أجد، فرهنت خاتمي عند بقال، وأخذت ورقة، وكتبتهما فيها،
وأدركته بها، فقال لي: ارجع إلى منزلك. فرجعت، ونزلت، فقال لي الخادم:
اعطني خاتمك أرهنه. فقلت: رهنته. فما أمسيت حتى بعث إلي بثلاثين ألف
درهم جائزة، وعشرة آلاف درهم سلفاً لسنة من رزق أجراه لي.
أخبرنا ابن ناصر الحافظ، أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، أخبرنا محمد بن
عبد الواحد بن محمد، أخبرنا جعفر، أخبرنا أبو عمرو بن حيوية، أخبرنا
أبو عبد اللّه الحكيمي، حدَّثنا أبو الفضل ميمون بن هارون، حدَّثني عبد
اللّه بن الحسين العلوي قال: أتيت الفضل بن يحيى فأجلسني معه وأكرمني،
فكلمته في دَيْني ليكلّم أمير المؤمنين في قضائه عني. قال: فكم دينك.
قلت: ثلثمائة ألف درهم. قال: نعم. فخرجت من عنده وأنا مغمور لضعف رده،
فمررت ببعض إخواني مستريحاً إليه، ثم صرت إلى منزلي، فوجدت المال قد
سبقني.
محمد بن أبي أمية بن عمرو، مولى بني أمية بن عبد شمس.
أصله من البصرة، وله إخوة وأقارب كلهم شعراء، وقد اختلطت أشعارهم،
واختلفت الروايات في أنسابهم، إلا أن محمد بن أمية أشهرهم ذكراً،
وأكثرهم شعراً، والباقون أشعارهم نزرة جداً. ومحمد بن أمية شاعر منهم،
اختلط شعره بشعر عمه، فلم يفرق أكثر الناس بينهما.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا
علي بن المحسن القاضي قال: حدَّثنا أبي، حدثنا أبو بكر الصولي، حدثنا
عون بن محمد الكندي قال: قال لي محمد بن أبي أمية الكاتب: كنت أنا وأخي
نكتب للعباس بن الفضل بن الربيع فجاءه أبو العتاهية مسلماً، فأمره
بالمقام عنده، فقال: على شريطة ينشدني كاتبك هذا من شعره - وأومأ إلي -
فقال: ذلك لك. وتغدينا، فقال: الشرط. فأمرني أن أنشده، فحضرت وقلت: ما
أجسر على ذلك، وما ذاك قدرتي. فقال: إن أنشدني وإلا قمت. فأنشدته:
رب قول منك لا أنساه لي ... واجب الشكر وإن لم يفعل
أقطع الدهر بظنٍ حَسَن ... وأجَلي غمرةً ماتنجلي
وأرى الأيام لا تدني الذي ... أرتجي منك وتدني أجلي
وإذا أمَّلت يوماً صالحاً ... عرض المقدور لي في أملي
فبكى أبو العتاهية أشد بكاء، ثم قال لي: زدني. فقال لي: زده. فأنشدته:
بنفسي من يناجيني ... ضميري بأمانيه
ومن يعرض عن ذكري ... كأني لست أعنيه
لقد أسرفت في الذل ... كما أسرفت في التيه
أما تعرف لي إحسا ... ن يوم فتجازيه
منصور بن سلمة بن الزبرقان. وقيل: منصور بن الزبرقان بن سلمة، أبو
الفضل، النميري الشاعر.
من أهل الجزيرة. قدم بغداد، ومدح الرشيد. وجد منصور يقال له: مطعم
الكبش الرخم، لأنه أطعم ناساً نزلوا به، ونحر لهم، ثم رفع رأسه فإذا هو
برخم تحملق حول أضيافه، فأمر أن يذبح لهن كبش ويرمي به بين أيديهن،
ففعل ذلك، فنزلن عليه، فمزَّقنَهُ، فسمّي: مطعم الكبش الرخم.
وفي ذلك يقول أبو بعجة النميري يمدح رجلاً منهم:
أبوك زعيم بني قاسط ... وخالك ذو الكبش يقري الرَّخم
وكان منصور شاعراً من شعراء الدولة العباسيّة، وهو تلميذ كلثوم بن عمرو
العتابي وراويته، وعنه أخذ. ووصفه العتابي للفضل بن يحيى حتى استصحبه،
ثم وصله بالرشيد، ثم جرت بعد ذلك بينه وبين العتابي وحشة فتهاجيا.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا الخطيب، أخبرنا الحسن بن الحسن
الثعالبي، أخبرنا أبو الفرج الأصفهاني قال: حدَّثني عمي، عن جدي قال:
قال النميري: كنت واقفاً على جسر بغداد أنا وعبيد اللّه بن هشام بن
عمرو التغلبي وقد وخطني الشيب يومئذ، وعبيد اللّه شاب حدث السن، فإذا
أنا بقصرية ظريفة، وقد وقفت، فجعلت أنظر إليها وهي تنظر إلى عبيد اللّه
بن هشام، ثم انصرفت، فقلت فيها:
لما رأيت سوام الشيب منتشراً ... في لمتي وعبيد اللّه لم يشب
سللت سهمين من عينيك فانتصلا ... على شبيبة ذي الأذيال والطرب
كذا
الغواني مراميهن قاصدة ... إلى الفروع معداة عن الخشب
شبَّه الشباب بالفرع الأخضر، والشيخ بالخشبة التي قد يبست، أو ساق
الشجرة الذي لا ورق له.
ثم أتم القصيدة يمدح بها يزيد بن مزيد، فأعطاه عشرة آلاف درهم.
يوسف بن يعقوب بن إبراهيم، القاضي.
سمع الحديث من يونس بن إسحاق السبيعي، والسري بن يحيى، ونظر في الرأي
وفقه، وولي القضاء بالجانب الغربي من بغداد في حياة أبيه، وصلى بالناس
الجمعة في مدينة المنصور بأمر الرشيد، ولم يزل على القضاء ببغداد إلى
أن توفي في رجب من هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ثلاث وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها: خروج الرشيد إلى ناحية خُراسان: أخبرنا محمد بن
ناصر، أخبرنا أبو المعالي، أخبرنا أحمد بن محمد البخاري، أخبرنا أبو
بكر أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا أبو الحسن بن رزقويه، أخبرنا أبو جعفر
بن برية، أخبرنا أبو بكر بن محمد بن خلف بن المرزبان قال: أخبرنا أحمد
بن محمد بن علي التيمي، عن أحمد بن صباح الطبري مولى عيسى بن جعفر
الهاشمي قال: حدَّثني أبي قال: شيعت الرشيد حين مضى إلى خُراسان فقال
لي وهو يريد أن يَأرِما: يا صباح، ما أحسبك تراني بعد هذا أبداً. فقلت:
أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تقول هذا، والله إني لأرجو أن يبقيك
الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مائة سنة. فتبسم وقال: يا صباح، أنا
والله ميت بعد قريب. فقلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، والله
إني أرى دماً ظاهراً، ولوناً ناصعاً، وشباباً زائداً، ومؤونة قوية،
وروحاً طيبة، فعمرك الله أكثر مما عمَر من ملك الأرض، وفتح لك ما فتح
على ذي القرنين، ولا أرى رعيتك فيك. قال: فالتفت إلى جميعة كانت من
ورائه، فقال: تنحوا عني. ثم قال: مل بنا نحو تلك الشجرة حتى أسرّ إليك
سراً. قال: فسرت معه منحرفاً عن الجادة نحواً من ثلثمائة ذراع، فكمن في
ظل حائط ثم قال: أمانة الله في عنقك أن لا، تخبر بما ألقي إليك أحداً.
فقلت: يا سيدي، هذه مخاطبة الأخ أخاه، وأنا عبد يخاطبني مولاي بمثل
هذا. فقال: واللّه لتقولن إني لا أقولها لأحد، وإنها أمانة حتى أؤديها
إليك عند الله. قال: فعلت. فكشف عن بطنه، فإذا حرير قد عصب به بطنه
وظهره، ثم حول إلى قفاه فأخذ ثيابه عن ظهره، فإذا قروح ونقابات قد
واراها بخرق وأدوية، وقال: منذ كم ترى هذا بي؟ قلت: لا أدري. قال: ظهرت
في أول سنة تسع وثمانين، والله ما أطلع عليها أحد من الناس إلا
بختيشوع، ورجاء، ومسرور، فأما ابن بختيشوع فإنه بلغني أنه أخبر به
المأمون، ووالله لئن بقيت لابن الفاعلة لأتركنه يهيم بطلب الخبز حتى
يشغله ذلك عن إذاعة السر. وأما مسرور فأخبر الأمين بعلتي، وما منهم أحد
إلا له علي حَيْنٌ، فأنى تصفوا لي حياة وأعز ولدي يحصي أنفاسي، ويستحب
علتي، ولقد بلغ من تبرمهم بي وبحياتي أني إذا أردت الركوب جاءوني
ببزدون قطوف، وليس إلا ليزيد في علتي، ويفسد علي جوارحي، فأكره أن أظهر
هذا لهم، فيستوحشوا مني، ومتى استوحشوا أظهروا من العداوة ما كان
باطناً، والعامة لهم أرجأ والخاصة إليهم أميل، وأنا كالخائف بينهم،
أصبح فلا أطمع في المساء، وأمسي ولا أطمع في الصباح.
فقلت يا سيدي، ما أحسن الجواب عن هذا، ولكن أقول: من أرادك بكيد فأراه
الله ذلك الكيد في نفسه، وأراه فيك ما يسوءه، وأطال بقاءك، وكبت أعداءك
حيث كانوا.
فقال: سمع اللّه دعاءك، انصرف فإن أشغالك ببغداد كثيرة. فودعته، وكان
آخر العهد به.
وروى أبو بكر الصولي قال: حدثنا محمد بن الفضل بن الأسود، حدثنا علي بن
محمد بن سليمان النوفلي قال: حدثني مسرور قال: دخلت على الرشيد وهو
يبكي عند خروجه إلى خراسان آخر خرجة، وفي يده قرطاس يقرأه فقال: يا
مسرور، كأني واللّه عنيت بما في هذا القرطاس. ثم رمى به مزيدة، فأخذته،
ووثب فدخل، فإذا فيه شعر لأبي العتاهية:
هل أنت معتبر بمن خربت ... منه غداة قضى دساكره
وبمن أذل الدهر مصرعه ... فتبرأت منه عساكره
وبمن خلت منه أسرته ... وبمن خلت منه منابره
أين الملوك وأين جندهم ... صاروا مصيراً أنت صائره
يا مؤثر
الدنيا بلذته ... والمستعد لمن يفاخره
نل مابدا لك أن تنال من الدن ... يا فإن الموت آخر
قال: فمات في سفرته تلك.
قال علماء السير: ودخل الرشيد جرجان، فوافته خرائن علي بن عيسى على ألف
بعير وخمسمائة بعير، ثم رحل من جرجان وهو مريض إلى طوس، فأقام بها إلى
أن تُوفِّيَ، واتهم هرثمة، فوجّه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين
ليلة إلى مرو، ومعه عبد الله بن مالك، ويحيى بن معاذ، وأسد بن يزيد في
آخرين. وكان بين هرثمة وأصحاب رافع فيها وقعة، ففتح فيها بخارى، وأسر
أخا رافع بشير بن الليث، فبعث به إلى الرشيد وهو بطوس، فدخل به عليه
وهو ينظر في المرآة ويقول: " إنا للّه وإنا إليه راجعون " . فنظر إليه
فقال: يا ابن اللّخناء، إني لأرجو ألا يفوتني رافع كما لم تَفُتْنِي
أنت. فقال: يا أمير المؤمنين، قد أظفرك اللّه، فافْعَل ما يحبّ الله،
ولعل الله أن يلين لك قلب رافع إذا رأى أنك قد مننت عليَّ! فغضب وقال:
واللّه لو لم يبق من أجَلي إلاَ أن أحرك شفتيً بكلمة لقلت: اقتلوه. ثم
دعا بقصاب فقال: لا تشحذ مُداك، دعها على حالها، وفصّل هذا الفاسق ابن
الفاسق. فجعله أشلاء، ثم أغمىِ عليه، وتفرق من حضره.
وفي هذه السنة: توفي الرشيد، وبويع الأمين.
باب ذكر خلافة الأمين
هو محمد بن هارون. ويكنى: أبا موسى، ويقال: أبا عبد الله. ولد برصافة
بغداد سنة إحدى وسبعين ومائة. أمه أم جعفر، واسمها: زبيدة بنت جعفر
الأكبر بن المنصور.
وكان أبيض، سبطاً، أنزع، صغير العِينين، أقنى، جميلاً، طويلاً، سميناً،
عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين. سمع الحديث الكثير، وأسند
الحديث.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرني الحسن بن أبي طالب، حدَّثنا أحمد بن محمد بن عمران، أخبرنا محمد
بن يحيى، حدثنا المغيرة بن محمد المهلبي قال: رأيت عند الحسين بن
الضحاك جماعة من بني هاشم، فسألوه عن الأمين وأدبه، فوصف أدباً كثيراً،
وقال: سمعته يقول: حدثني أبي، عن أبيه، عن المنصور، عن أبيه، عن علي بن
عبد الله بن عباس، عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "
من مات محرماً حشر ملبيا " .
ذكر بيعته توفي الرشيد بطوس، فبويع للأمين صبيحة الليلة التي مات فيها
الرشيد، تولى ذلك صالح بن الرشيد، وذلك يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة
بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة، وكتب حمويه مولى المهدي
صاحب البريد من طوس إلى سلام مولاه، وخليفته على البريد ليعلمه بوفاة
الرشيد، فدخل على الأمين فعزاه وهنأه بالخلافة.
وكان الأمين نازلاً ببغداد في الخلد، فتحوًل إلى قصر المنصور بالمدينة،
وأمر الناس بالحضور، فحضروا، فصعد المنبر، فحمد اللهّ، وأثنى عليه،
ونعى الرشيد إلى الناس، وعزى نفسه والناس، ووعدهم الخير وبسط الأمان
للأسود والأبيض. فبايعه جلة أهل بيته وخاصة مواليه وقواده، ثم دخل ووكل
ببيعته من بقي منهم سليمان بن المنصور، وأمر للجند بمدينة السلام برزق
سنتين، واتخذ الفضل بن الربيع وزيراً، وابنه العباس بن الفضل حاجباً،
وجعل إسماعيل بن صبيح كاتباً، وجعله على ديوان الرسائل والتوقيعات
والخاتم. وجعل عيسى بن علي بن ماهان على الشرطة، وقيل: عبد اللّه بن
حازم.
أخبرنا ابن ناصر، أنبأنا أحمد بن خلف، حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد
الله الحاكم، حدثنا أحمد بن كامل قال: حدثني عبد اللهّ بن إبراهيم
النحوي، حدَّثنا أبو هفان، حدثنا أحمد بن يوسف قال: دخل أبو نواس على
محمد الأمين فهنأه بالخلافة وعزاه بالرشيد في بيت، فأنشأ يقول:
جرت جوار بالسعد والنحس ... فنحن في وحشة وفي أنس
العين تبكي والسن ضاحكة ... فنحن في مأتم وفي عرس
يضحكها القائم الأمين ويب ... كيها وفاة الرشيد بالأمس
بدران: بدر أضحى ببغداد في ... الخلد وبحر بطوس في الرمس
ثم قدم
القادم بالبردة والقضيب والخاتم، فوصل لثلاث عشرة بقيت من جمادى
الآخرة، وقدم عليه حسين الخادم بالخزائن التي كانت مع الرشيد، وقدمت
زبيدة من الرافقة في آخر رجب بخزائن الرشيد، فتلقاها محمد بالأنبار،
وكان الأمين قد بعث مَنْ يأتيه بأخبار الرشيد في زمن علته كل يوم،
وأرسل بدر بن المعتمر فكتب معه كتباً، وجعلها في قوائم صناديق منقورة،
وألبسها جلود البقر، وقال: لا يظهرن أميرُ المؤمنين ولا أحد من في
عسكره على شيء من أمرك، وما توجهت فيه، ولا على مامعك، ولو قُتِلتَ حتى
يموت أميرُ المؤمنين فإذا مات فادفعْ إلى كل إنسان منهم كتابه.
فلما قدم بكر طوس بلغ هارون قدومه، فدعا به، فقال: ما أقدمك؟ قال:
بعثني محمد لأعلم خبرك وآتيه به. قال: فهل معك كتاب. قال: لا فأمر بما
معه ففتش، فلم يصيبوا شيئاً، فهدده بالضرب، فلم يقر بشيء، فأمر به،
فحُبس وقُيّد، فلما كان في الليلة التي مات فيها هارون أمر الفضل بن
الربيع أن يصير إلى محبس بكر بن المعتمر، فيقرره، فإن أقرّ وإلا ضُرب
عنقه.
وصار إلى هارون فغشي عليه غشية ظنوا أنها هي، وارتفعت الصيحة، فأرسل
بكر بن المعتمر برقعة منه إلى الفضل بن الربيع يسأله أن لا يعجلوا في
أمره، ويعلمه أن معه أشياء يحتاجون إليها، وكان بكر محبوساً عند حسين
الخادم، فلما توفي الرشيد دعاه الفضل بن الربيع فسأله عما عنده فأنكر
أن يكون عنده شيء وخشي على نفسه من أن يكون هارون حياً، حتى صح عنده
موت هارون، فأخبره أن عنده كتباً من أمير المؤمنين الأمين، وأنه لا
يجوز له إخراجها وهو على حاله في قيوده، فامتنع حسين الخادم من إطلاقه
حتى أطلقه الفضل فأتاهم بالكتب التي عنده، فكان في تلك الكتب: كتاب من
محمد إلى حسين الخادم بخطه، يأمره بتخلية بكر بن المعتمر وإطلاقه،
فدفعه إليه.
وكتاب إلى المأمون، فاحتبس كتاب المأمون لغيبته بمصر، وأرسلوا إلى صالح
بن الرشيد، فأتاهم، فدفعوا إليه كتاب الأمين، وكان في الكتاب إلى
المأمون: إذا وَرَد عليك كتابُ أخيك - أعافه الله من فقدك - فعز نفسك
بماعزاك الله به، واعلم أنً الله قد اختار لأمير المؤمنين أفضل
الدارين، وأجزل الحظين، فقم في أمرك قيام ذي الحزْم، والناظر لأخيه
وسلطانه، وعامة المسلمين، وإياك أنْ يغلب عليك الجزَع، فإنه يُحبط
الأجْر، ويُعقب الوِزر، وصلوات الله على أمير المؤمنين حيّاً وميّتاً،
وإنا للهّ وإنا إليه راجعون، ثم إنا لله وإنا إليه راجعون وخُذْ
البَيْعة على من قِبَلك من قوّادك وجندك، وخاصتك وعامتك، لأخيك ثم
لنفسك، ثم للقاسم ابن أمير المؤمنين، على الشرط التي جعلها لك أمير
المؤمنين صلوات الله عليه، فإنك مقلّد من ذلك ما قلدك الله وخليفته،
فاعلِمْ مَنْ قِبَلك رأيي في صلاحِهم، وسد خَلّتِهم، والتوسِعة عليهم،
فمن أنكرته عند بيعته، أو اتهمته على طاعته، فابعث إليَّ برأسه، وإياك
وإقالته، فإنَّ النار أولى به. واكتب إلى عمال ثغورك، وأمراء أجنادك
بما طرقك من المصيبة بأمير المؤمنين، وأعلمهم أنّ الله لم يرضَ الدنيا
ثواباً له حتى قبضه إلى رحمته وجنته، مغبوطاً محموداً. وَمُرْهم أن
يأخذوا البيعَة على أجنادهم وخواصهم وعوامّهم علىِ مثل ما أمرتُك به،
وأوعز إليهم في ضبط ثغورهم، والقوٌة على عدوّهم، وأعلمهم أني متفقد
أحوالهم، ولامٌّ شعثهم، وموسع عليهم، واعمل فيما تأمر به لمن حَضَرك أو
نأى عنك من أجنادك، على حسب ما ترى وتشاهد، فإن أخاك يعرف حسنَ
اختيارك، وصحّة رأيك، وبُعد نظرك، وهو يستحفظك الله، ويسأله أن يشدّ بك
عضده، ويجمع بك أمره، إنه لطيف لما يشاء.
وكتب بكر بن المعتمر بين يدي بإملائي في شوال سنة اثنتين وتسعين ومائة.
وكتب إلى صالح أخيه:
إذا ورد
عليك كتابي هذا عند وقوع ما قد سَبق من علم الله، ونفذ من قضائه في
خُلفائه وأوليائه، وجرتْ به سنته في الأنبياء والمرسلين والملائكة
المقربين، فقال تعالى: " كل شَيْء هَالِك إلا وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ
وَإلَيْهِ تُرْجَعون " فاحمد الله على ما صار إليه أمير المؤمنين من
عظيم ثوابه ومرافقة أوليائه، وصلى الله على أمير المؤمنين حياً وميتاً،
وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإياه نسأل أن يحسن الخلافة على أمة نبيه
صلى الله عليه وسلم، فقد كان لهم عصمًة وكهفاً، وبهم رؤوفاً رحيماً،
فشمّر في أمرك، وإياك أن تلقي بيديك، فإنَ أخاك قد اختارك لما استنهضك
له، وهو متفقد مواقع فعلك، فحقق ظنه، ونسأل الله التوفيق. وخذ البيعة
على من قِبَلك من ولد أمير المؤمنين، فإن السعادة واليُمْن في الأخذ
بعهده، والمضيّ على منهاجه. وأعْلِم مَنْ قِبَلك من الخاصّة والعامة
رأي في استصلاحهم، وردّ مظالمهم، وتفقد حالاتهم، وإدرار أرزاقهم
وأعطياتهم، فإن شغَب شاغب، أو نعَرَ ناعر، فاسطُ به سطوة تجعله
نَكالاً، واضمُم إلى الفضْل ابن الربيع ولَد أمير المؤمنين وحرمه
وأهله، وَمُرْه بالمسير معهم فيمن معه من جنده ورابطته، وصيِّر إلى عبد
اللّه بن مالك أمر العسكر وأحداثه فإنه ثقة على ما يلي، مقبول عند
العامة، ومُره بالجِد والتيقظ، وتجديد الحرم، وتقديم الحزم في أمره
كله، وأقِرّ حاتم بن هرثمة على ما هو عليه، ومُره بحراسة ما يحيط به من
قصور أمير المؤمنين، ومُرْ الخدم بإحضار روابطهم ممن يسد بهم وبأجنادهم
مواضع الخَلَل من عسكرك. والسلام.
ولما بلغ المأمون الخبر نعى الرشيد على المنبر، وشقّ ثوبه ونزل، وأمر
للناس بمال، وبايع لمحمد ولنفسه، وأعطى الجند رزق، اثني عشر شهراً.
ولما قرأ الذين وردت عليهم كتبُ محمد بطُوس من القواد والجند وأولاد
هارون، تشاوروا في اللحاق بمحمد، فقال الفضل بن الربيع: لا أدع ملكاً
حاضراً لآخر، ما ندري ما يكون من أمرِه. وأمرَ الناس بالرحيل ففعلوا
ذلك محبةً منهم للحوق بأهليهم ومنازلهم ببغداد، وتركوا العهود التي
كانت أخذت عليهم للمأمون، فانتهى الخبر بذلك من أمرهم إلى المأمون
بمَرْو، فجمع مَنْ معه من قواد أبيه، منهم: عبد الله بن مالك، ويحيى بن
معاذ، وشبيب بن حميد بن قحطبة، وذو الرياستين وهو عنده من أعظم الناس
قدراً، وأخصهم به، فأخبرهم وشاورهم، فأشاروا عليه أن يلحقهم في ألفيْ
فارس جَريدة، فيردهم، فدخل عليه ذو الرياستين فقال: إن فعلت ما أشاروا
عليك جعلت هؤلاء هدية إلى محمد، ولكن الرأي أن تكتب كتاباً، وتوجه
إليهم رسولاً، فتذكّرهم البيعة، وتسألهم الوفاء، وتحذرهم الحنث، وما
يلزمهم في ذلك في الدين والدنيا، فتستبرىء ما عند القوم. فكتب كتاباً،
ووجهه مع سهل بن صاعد، ونوفل الخادم، فلحقاهم بنيسابور قد رحلوا ثلاث
مراحل.
فقال الفضل بن الربيع: إنما أنا رجل واحد منهم. وشد على سهل عبد الرحمن
ابن جبلة بالرمح، وقال: قل لصاحبك: والله لو كنت حاضراً لوضعت الرمح في
فيك، هذا جوابي. ونال من المأمون، فرجعا بالخبر.
فقيل للمأمون: أعداء قد استرحتَ أمنهم، فابعث إلى الفقهاء فادعهم إلى
الحق والعمل به، وإحياء السنة.
ففعل، وحط عن خراسان ربع الخراج، وردّ المظالم، وأقام على ولايته،
وكاتب الأمين بالتعظيم منهم، وأهدى له هدايا كثيرة من فنون الطرف.
وأما الأمين فإنه تشاغل باللهو واللعب، وبنى ميداناً حول قصر المنصور
للصوالجة، وعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة: الأسد، والفيل، والعقاب،
والفرس، والحية. وأمر لبعض من أنشده بثلثمائة ألف دينار، وأوقر لشاعر
أنشده ثلاثة أبغل دراهم.
قال الصولي: حدثني أحمد بن يزيد المهلبي، عن أبيه قال: لما ولي الأمين
الخلافة استبطأ الناس جلوسه، وقالوا: تشاغل باللهو. فجلس، وأمضى
الأمور، وقال: أتراني لا أعرف الإصدار والإيراد، ولكن شرب كأس، وسم أس،
والاستلقاء من غير نعاس أحب إليَّ من مداراة الناس.
وفي هذه السنة: دخل هرثمة حائط سَمَرْقند، ولجأ رافع إلى المدينة
الداخلة، وراسل رافع الترك فوافوْه، فصار هرثمة هو ورافع والترك، ثم
انصرف هرثمة إلى الترك، وضعف رافع.
وفيها:
قُتل نِقفْورملك الروم في حرب بُرْحان، وكان ملكه سبع سنين، وملك بعده
ابنه استبراق - وكان مجروحاً - شهرين ومات، وملك ميخائيل خَتَنه على
أخته.
وأقر الأمين أخاه القاسم على ولايته التي ولاه الرشيد من عمل الجزيرة
وقِنَّسرين والثغور، ثم صرفه عن الجزيرة في هذه السنة، واستعمل عليها
خزيمة بن خازم.
وفي ذي القعدة: توفي إسماعيل بن علية، وكان على المظالم، فولى الأمين
مكانه محمد بن عبد اللّه الأنصاري على المظالم والقضاء ببغداد.
وفيها: حج بالناس داود بن عيسى بن موسى، وكان والي مكة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، أبو بشر الأسمي مولاهم، يعرف بابن علية.
من أهل البصرة، وأصله كوفي. سمع من أبي الساج الضبعي حديثاً واحداً.
وروى الكثير: عن عبد العزيز بن صهيب، وأيوب السجستاني، وابن عون،
وسليمان التيمي، وحميد الطويل، وغيرهم.
وحدّث عنه: ابن جريح، وشعبة، وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن مهدي،
وأحمد، ويحيى، وعلي، وغيرهم. وكان حافظاً، ثقة، مأموناً، ورعاً، تقياً،
وكان يقرأ في الليل ثلث القرآن.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي، حدثنا الجوهري، حدثنا
محمد بن العباس، أخبرنا أحمد بن معروف الخشاب حدثنا الحسين بن فهم،
حدثنا محمد بن سعد قال: إسماعيل بن إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، مولى
عبد الرحمن بن قطبة الأسدي - أسد خزيمة - وكان إبراهيم تاجراً من أهل
الكوفة، وكان يقدم البصرة بتجارته، فتزوج علية بنت حسان مولاة لبني
شيبان، وكانت امرأة نبيلة عاقلة، لها دار بالعوقه تعرف بها، وكان صالح
المري وغيره من وجوه البصرة وفقهائها يدخلون فتحادثهم وتسائلهم، فولدت
لإبراهيم إسماعيل سنة عشر ومائة، فنُسب إليها، وكان ابن إبراهيم ثقة
ثبتاً في الحديث حجة، وقد ولي صدقات البصرة، وولي ببغداد المظالم في
آخر خلافة هارون.
قال مؤلف الكتاب: وقد زعم علي بن حجر أن علية جدته لأمه.
وكان إسماعيل يقول: مَنْ قال ابن علية فقد اغتابني. إلا أن هذا شاع
فعرف وقال أحمد بن حنبل: فاتني مالك فأخلف الله علي سفيان بن عيينة،
وفاتني حماد بن زيد فأخلف الله علي إسماعيل بن علية.
وقال شعبة: ابن علية سيد المحدثين.
أنبأنا زاهر بن طاهر، حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، أخبرنا
أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم قال: سمعت أبا الفضل محمد بن
إبراهيم يقول: حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا عمرو بن زائدة قال: صحبت ابن
علية ثلاث عشرة سنة، ما رأيته تبسم فيه.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن علي بن ثابت، أخبرنا
القاضي أبو العلاء محمد بن علي الواسطي، أخبرنا أبو الفوارس إبراهيم بن
أحمد بن محمد الفارسي، حدَّثنا أبو الحسين يحيى بن محمد، حدثنا مسبح بن
حاتم قال: قال عبد الله بن محمد بن جعفر بن عائشة، حدثنا حماد بن سلمة،
وحماد بن زيد: أن عبد الله بن المبارك كان يتجر في البز، وكان يقول:
لولا خمسة ما تجرت. فقيل له: يا أبا محمد، مَنْ الخمسة؟ فقال: سفيان
الثوري، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، ومحمد بن السماك، وابن
علية. وكان يخرج إلى خُراسان فيتجر، فما ربح من شيء أخذ القوت للعيال
ونفقة الحج، والباقي يصل به إخوانه الخمسة. قال: فقدم سنة، فقيل له: قد
ولي ابن علية القضاء. فلم يأته ولم يصله بالصرة التي كان يصله بها في
كل سنة، فبلغ ابن علية أن ابن المبارك قد قدم، فركب إليه، فلم يرفع به
عبد اللّه رأساً، ولم يكلمه، فانصرف، فلما كان من الغد كتب إليه رقعة
فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. أسعدك الله بطاعته، وتولاك بحفظه، وحاطك
بحياطته، قد كنت منتظراً لبرك وصلتك: أتبرك بها، وجثتك أمس فلم تكلمني،
ورأيتك واجداً علي، فأي شيء رأيت مني حتى أعتذر إليك منه؟ فلما وردت
الرقعة على عبد اللّه دعا بالدواة والقرطاس وقالَ: يأبى هذا الرجل إلا
أن نشق له العصا، ثم كتب إليه:
يا جاعل الدين له بازياً ... يصطاد أموال المساكين
احتلتَ للدنيا ولذاتها ... بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنوناً بها بعدما ... كنت دواءً للمجانين
أين رواياتك في سردها ... عن ابن عون وابن سيرين
أين
رواياتك والقول في ... إتيان أبواب السلاطين
إن قلت أكرهت فذا باطل ... زل حمارُ العلم في الطين
فلما وقف ابن علية على الأبيات قام من مجلس القضاء، فوطىء بساط هارون،
وقال: يا أمير المؤمنين، الله الله ارحم شيبتي، فإني لا أصبر للخطأ.
فقال له هارون: لعل هذا المجنون قد أغرى بقلبك. فقال له: اللّه اللّه
أنقذك اللّه. فأعفاه من القضاء، فلما اتصل بعبد الله بن المبارك ذلك
وجّه إليه بالصرة.
توفي ابن علية في ذي القعدة من هذه السنة، ودفن في مقابر عبد اللّه بن
مالك.
محمد بن جعفر، أبو عبد اللّه البصري، يلقب: غندر. وهو مولى لهذيل.
بصري صاحب سعيد بن أبي عروبة، جالس شعبة نحواً من عشرين سنة، وسمع من
جماعة غيرهما، وكان إماماً ثقة، أخرج عنه في الصحيحين. وكان فيه سلامة
صدر. أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي، أخبرنا سعد اللّه بن علي بن أيوب،
أخبرنا عبد الصمد بن علي بن المأمون، أخبرنا أبو الفضل محمد بن الحسن
بن المأمون، حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال: حدثني محمد بن المرزبان
قال: حدثني أبو محمد المروزي، حدثنا عبد الله بن بشير، عن سليمان بن
أيوب صاحب البصري قال: قيل لغندور إن الناس يعظمون أمر السلامة التي
فيك، قال: يكذبون. قال: قلت: فحدثني منها بشيء صحيح. قال: صمت يوماً
فأكلت ثلاث مرات ناسياً، ثم ذكرت أني صائم، ثم نسيت، فثنيت، ثم ثلثت،
فأتممت صومي.
قال ابن المرزبان: وحدثنا عباس بن محمد، عن يحيى بن معين قال: اشترى
غندور يوماً سمكاً، وقال لأهله: اصلحوه. ونام، فأكل عياله السمك
ولطّخوا يده، فلما انتبه قال: قدموا السمك. قالوا: قد أكلت. قال: لا.
قالوا: فشم يدك. ففعل، فقال: صدقتم، ولكن ما شبعت.
قال البخاري في تاريخه: مات في ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وذكر ابن سعد في الطبقات أنه مات بالبصرة سنة أربع وتسعين.
قال مؤلف الكتاب: وقد اتفق في أسماء المحلفين أسماء جماعة: محمد بن
جعفر، فلقبوا: غندور تشبيهاً بهذا الرجل، فمنهم: محمد بن جعفر بن دران
بن سليمان، أبو الطيب. توفي سنة سبع وخمسين وثلثمائة. وسيأتي ذكره في
السنين.
ومنهم: محمد بن جعفر، أبو بكر الوراق. توفي سنة سبعين وثلثمائة.
ومنهم: محمد بن جعفر، أبو بكر القاضي، مولى فاتن المقتدري. روى عن
ميسرة بن عبد اللّه الخادم.
ومحمد بن جعفر. حدّث عن الحسن بن علي العمري. روى عن أحمد بن الفرج بن
حجاج.
كل هؤلاء يلقب، غندر، واسمه: محمد بن جعفر.
مروان بن معاوية بن الحارث بن عثمان بن أسماء بن خارجة بن عيينة بن حصن
الفزاري.
كوفي الأصل. سمع إسماعيل بن خالد، وعاصماً الأحول. وحميد الطويل،
والأعمش.
وقال: أتيت الأعمش فقال لي: قد قسم جدك أسماء قسماً، فنسي جاراً له، ثم
استحى أن يعطيه وقد بدأ بآخر قبله، فبعث عليه، وصب عليه المال صباً.
وكان مروان قد تحول إلى دمشق، فسكنها، وقدم بغداد، فحدث بها، فروى عنه
قتيبة، وأحمد بن حنبل، ويحيى، وأبو خيثمة، وابن راهويه. ثم عاد إلى
مكة. وكان ثقة، إلا أنه كان يروي عن ضعاف ويدلسهم.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا ابن الفضل، حدثنا عبد اللّه
بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان قال: سمعت مهديِ بن أبي مهدي قال: كان
في خلق الفزاري شراسة، وكان معيلاً شديد الحاجة، وكان الناس يبرونه،
فإذا بره الإنسان كان ما دام ذلك البر عنده في منزله يعرف فيه الانبساط
إلى الرجل. قال: فنظرت فلم أجد شيئاً أبقى في منزل الرجل من الخل، ولا
أرخص منه بمكة، فكنت أشتري جرة من خل فأهدي له، فأرى موقع ذلك منه،
فإذا فني أرى ذلك منه، فأسأل الجارية: أفني خلكم؟ فتقول: نعم. فأشتري
جرة، فأهديها له، فيعود إلى ما كان عليه، توفي بمكة قبل التروية بيوم
من هذه السنة.
هارون الرشيد، أمير المؤمنين، ابن المهدي.
كان
بالرقة، وكان جبرئيل بن بختيشوع يدخل عليه كل يوم، فإن أنكر شيئاً وصفه
له، فذكر له ما يصلح، فدخل عليه يوماً، فرآه مهتماً، فسأله عن حاله،
فقال: لرؤيا رأيتها أفزعتني. فقال: لعلها من بخارات رديئة، أو من
تهاويل السوداء: فقال: رأيت كأني جالس على سريري هذا، إذ مُدَتْ إليَّ
من تحتي ذراع أعرفها، وكف أعرفها، وفي الكف تربة حمراء، فقال لي قائل
أسمعه ولا أرى صفته: هذه التربة التي تدفن فيها. فقلت: أين هذه التربة؟
فقال: بطوس. وغابت اليد وانتبهت. فقال له الطبيب: أحسبك أخذت مضجعك
ففكرت في خُراسان وحروبها. فقال: قد كان ذلك. ومرت الأيام، ونسي، واتفق
خروجه إلى خراسان حين تحرك رافع الخارجي، فلما كان ببعض الطريق ابتدأت
به العلة، وما زالت تزيد حتى دخل إلى طوس، فمرض في بستان هناك، فبينا
هو في البستان وذكر تلك الرؤيا، فوثب متحاملاً يقوم ويسقط، فاجتمعوا
إليه، كل يقول: يا سيدي، ما جاء لك. فقال: يا جبريل، تذكر رؤياي
بالرقة، في طوس. ثم رفع رأسه إلى مسرور فقال: جئني من تربة هذا البستان
فمضى وأتى بالتربة في كفه حاسراً عن ذراعه، فلما نظر إليه قال: والله
هذه الذراع التي رأيتها في منامي، وهذا والله الكف بعينه، وهذه والله
التربة الحمراء ما خرمت شيئاً. وأقبل على البكاء والنحيب بعد هذا
الكلام ثلاثة أيام.
وفي رواية أخرى: أنه رأى في المنام أن امرأة وقفت عليه، وأخذت كف تراب
وقالت: هذه تربتك عن قليل. فأصبح فزعاً، فقدر رؤياه، فقال له أصحابه:
وما في هذا؟ قد يرى النائم أغلظ من هذا. فبينا هو يوماً يسير إذ نظر
إلى امرإة فقال: هذه والله المرأة التي رأيتها في منامي، ولقد رأيتها
بين ألف امرأة ما خفيت علي، ثم أمرها أن تأخذ كفاً من تراب فتناوله،
فضربت بيدها الأرض، وناولته، فقال: هذه واللهّ التربة التي رأيتها،
وهذه المرأة بعينها. وكان إذ مات هناك.
وروى الصولي قال: حدثني حسين بن يحيى قال: سمعت هبة الله بن إبراهيم بن
المهدي يحدث عنه أبيه قال: أحب الرشيد أن يعرف حقيقة علته، وعلم أن ابن
بختيشوع يكتمه، فواطأ إنساناً من أهل طوس وسأله أن يلاطف بختيشوع،
ففعل، ثم أعطى الرجل ماءه وقال له: إذهب به إلى ابن بختيشوع على أنه
ماء لمريض لك. ففعل الرجل ذلك، فلما رأى ابن بختيشوع الماء قال لبعض من
معه: كأنه والله ماء الرجل.
ففطن الذي جاء بالماء، فقال لابن بختيشوع: اتق الله في، فإن بيني وبين
هذا الرجل معاملات، فإن كان يعيش لم استقص عليه، وإن كان يموت فرغت مما
بيني وبينه فقال: تريد أن أصدقك؟ قال: نعم. قال: صاحب هذا الماء لا
يعيش إلا أياماً. فعاد الرسول وأخبر الرشيد بذلك. وعلم ابن بختيشوع
بالأمر، فاختفى إلى أن مات الرشيد، ولما قرب موت الرشيد جعل يقول:
إني بطوس مقيم ... مالي بطوس حميم
أرجو إلهي لما بي ... فإنه بي رحيم
لقد أتاني بطوس ... قضاؤه المحتوم
وقال: احفروا لي قبراً. فحفروا له في ذلك البستان. فقال: احملوني أنظر
إليه.
فحمل فنظر إليه، فجعل يقول: أغثني أغثني، وارحم عبرتي. ثم قال: قربوني
قليلاً. فقربوه، فنظر في القبر فقال: وسعوا عند الصدر قليلاً. ففعلوا،
وهو ينظر، وأنزل قوماً فختموا فيه القرآن، وقال: مدوا موضع الرجلين.
ففعلوا، وهو في محلة على شفير القبر، ثم شخص ببصره إلى السماء وقال: يا
من لا يموت، ارحم مَنْ يموت، يا من لا يزول ملكه، ارحم مَنْ قد زال
ملكه. ثم بكى بكاءً شديداً، وأنشد:
أنا مَيْتٌ وعز مَنْ لايموت ... قد تيقنت أنني سأموت
ليس مُلك يزيله الموت ملكاً ... إنما الملك مُلك مَنْ لايموت
وتوفي ليلة الأحد، وقيل: ليلة السبت نصف الليل، لغرة جمادى الأولى،
لثلاث خلون منه، من سنة ثلاث وتسعين، فكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة،
وشهرين، وثمانية عشر يوماً، وكان له سبع وأربعون سنة، وخمسة أشهر،
وخمسة أيام. وقيل: خمس وأربعون سنة. وقيل: ست وأربعون. وصلى عليه ابنه.
وتوفي وفي بيت المال تسعمائة ألف ألف ونيف. وذكر بعض المؤرخين أنه خلف
ما لم يخلفه أحد من الملوك من العين والورق والجوهر والدواب والأثاث،
ما بلغ قيمته سوى قيمة الضياع: مائة ألف ألف دينار.
ورثاه أبو الشيص فقال:
غربت في الشرق شمس ... فلها العينان تدمع
مارأينا قط شمساً ... غربت من حيث تطلع
أبو بكر بن عياش بن سالم بن الحناط، مولى واصل بن حيان الأسدي.
وقد اختلفوا في اسمه، فقيل: شعبة، وقيل: محمد، وقيل: مطرف، وقيل: رؤبة،
وقيل: سالم، وقيل: اسمه كنيته.
ولد سنة سبع وتسعين، وقيل: أربع وتسعين، وقيل: خمس وتسعين، وقيل: ست
وتسعين.
سمع أبا إسحاق السبيعي، وسليمان التيمي، والأعمش، وإسماعيل بن أبي
خالد، وهشام بن عروة، وغيرهم.
روى عنه: ابن المبارك، وابن مهدي، وحسين الجعفي، وأحمد بن حنبل، وعلى
بن المديني، وغيرهم، وكان ثقة متشدداً في السُّنَّة، إلا أنه ربما أخطأ
في الحديث.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا
البرقاني قال: قرأت على أبي القاسم النحاس، أخبرنا ابن أبي داود، حدثنا
إسحاق بن وهب قال: سمعت يزيد بن هارون وذُكر عنده أبو بكر بن عياش،
فقال: كان أبو بكر بن عيّاش خيراً فاضلاً، لم يضع جنبه على الأرض
أربعين سنة.
أخبرنا القزاز، أخبرنا الخطيب، أخبرنا القاضي أبو العلاء الواسطي،
أخبرنا محمد بن جعفر التميمي بالكوفة، أخبرنا أبو بكر الدارمي، حدثنا
الحسن بن يحيى بن أبان، عن ابن هشام الرفاعي قال: سمعت أبا بكر بن عياش
يقول: لي غرفة قد عجزت عن الصعود إليها وما يمنعني من النزول منها إلا
أني أختم فيها القرآن كل يوم وليلة ختمة ستون سنة.
أخبرنا القزاز، أخبرنا الخطيب، أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عمر -
الدوادي، حدثنا محمد بن العباس بن الفرات، حدثنا محمد بن عبد اللّه بن
إبراهيم، حدثنا أبو شيح الأصبهاني، حدثنا دلويه قال: سمعت، علياً -
يعني ابن محمد ابن أخت يعلى بن عبيد - يقول: مكث أبو بكر بن عياش عشرين
سنة وقد نزل الماء في إحدى عينيه ما يعلم به أهله.
وأخبرنا القزاز أخبرنا الخطيب، أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، أخبرنا
عثمان بن أحمد الدقاق، حدثنا محمد بن أحمد بن البراء، حدثنا، إسحاق بن
الحسين قال: كان أبو بكر بن عياش لما كبر يأخذ إفطاره، ثم يغمسه في
إناء في جر كان له في بيت مظلم، ويقول: يا ملائكتي، طالت صحبتي لكما،
فإن كان لكما عند اللّه شفاعة فاشفعا.
وتوفي أبو بكر بن عياش في هذه السنة، وقد جاز التسعين، وقد قيل أنه
جاز، ستاً وتسعين.
وأخبرنا القزاز، أخبرنا الخطيب، أخبرنا ابن بشر، أخبرنا ابن صفوان،
أخبرنا ابن أبي الدنيا، حدثنا محمد بن المثنى قال: سمعت إبراهيم بن
شماس قال: سمعت إِبراهيم بن أبي بكر بن عياش يقول: شهدت أبي عند الموت
فبكيت، فقال: يا بني، ما يبكيك. فما أتى أبوك فاحشة قط. |