المنتظم
الجزء العاشر
ثم دخلت
سنة أربعة وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها: مخالفة أهل حمص عاملهم إسحاق بن سليمان، وكان محمد
ولأه إياها، فلما خالفوه انتقل إلى سلمْيَة، فصرفه محمد عنهم، وولى
عليهم مكانه عبد الله بن سعيد الحرشيّ، فقتل عدة من وجوههم، وضرب
مدينتهم من نواحيها بالنار، فسألوه الأمان فأجابهم وسكنوا ثم هاجوا،
فضرب أيضاً أعناق عدة منهم. وفيها: عزل محمد أخاه القاسم عن جميع ما
كان أبوه هارون ولاه من عمل الشام وقنسرين والعواصم، وولى مكانه خزيمة
بن خازم، وأمره بالمقام بمدينه السلام. وفيها: بدأ الفساد بين الأمين
والمأمون؟ وكان السيب فى ذلك: أن الفضل بن الربيع، فكر بعد مقدمه
العراق على محمد، منصرفاً عن طوس، وناكثاً للعهود التي كان الرشيد
أخذها عليه لابنه عبد الله، فعلم أن الخلافة إن أفضت يوماً إلى المأمون
وهو حي لم يُبْق عليه؟ فسعى في إغراء محمد به، وحثه على خلعه، وصرْف
ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى؟ ولم يكن ذلك من رأي محمد ولا عزمه،
بل كان عزمه الوفاء بما ضمن ؟ فلم يزل الفضل يُصغّر عنده شأن المأمون،
وُيزل له خلعه، وأدخل معه في ذلك علي بن عيسى بن ماهان والسندي
وغيرهما، فأزاله عن رأيه.
فأوًل ما بدأ به محمد عن رأي الفضل بن الربيع فيما دبر من ذلك، أن كتب
إلى جميع العمال في الأمصار بالدعاء لابنه موسى بالإمرة بعد الدعاء له
وللمأمون والقاسم بن الرشيد، فلما بلغ ذلك إلى المأمون وعرف عزل القاسم
وإقدامه على التدبيرعلى خلعه قطع البريد عن محمد، وأسقط اسمه من الطرز
والضرب.
وكان رافع
بن الليث بن نصر بن سيّار لما انتهى إليه من الخبر عن المأمون وحسن
سيرته في أهل عمله وإحسانه إليهم، بعث في طلب الأمان لنفسه، فسارع إلى
ذلك هرثمة، وخرج رافع فلحق بالمأمون، وهرثمة بعدُ مقيم بسمرقند، فأكرم
المأمون رافعاً، ولما دخل رافع في الأمان استأذن هرثمة المأمون في
القدوم عليه، فعبر نهر بلخ بعسكره والنهر جامد، فتلقاه الناس، وولاه
المأمون الحرس، فأنكر ذلك كله محمد، فبدأ بالتدبير على المأمون، فكان
أول ما دبرعليه أنه كتب للعباس بن عبد اللّه بن مالك - وهو عامل
المأمون على الري يأمره أن يبعث إليه بغرائب غروس الري - مريداً بذلك
امتحانه - فبعث إليه ما أمره به، وكتم ذلك عن المأمون وذي الرياستين،
فبلغ المأمون، فعزل العباس، ثم وجه محمد إلى المأمون رسلاً ثلاثة:
العباس بن موسى بن عيسى، وصالح صاحب المصلى، ومحمد بن عيسى بن نهيك،
وكتب إليه كتباً معهم يسأله تقديم موسى على نفسه، ويذكر أنه قد سمّاه:
الناطق بالحق، وكان ذلك بمشورة علي بن عيسى بن ماهان، فرد المأمون ذلك،
وسمي المأمون في ذلك اليوم: الإمام.
وكان سبب هذه التسمية: ما جاءه من خلع محمد له، ثم ضمن ذو الرياستين
للعباس ولاية الموسم وما شاء من أموال مصر، فما برح حتى أخذ منه البيعة
للمأمون، وكان يكتب إليهم الأخبار، ويشير عليهم بالرأي، ورجعت الرسل
إلى الأمين وأخبروه بامتناعه، وألحَّ الفضل بن الربيع وعلي بن موسى على
محمد في البيعة لابنه، وخلع المأمون، وكان الأمين يشاور في خلع المأمون
فينهاه القواد، وقال له خزيمة بن خازم: لا تجرىء القواد على الخلع
فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهحك - فبايع لابنه موسى،
وأحضنه علي بن عيسى، وولاه العراق. وكان أول ما أخذ له البيعة بشر بن
السميدع، وكان واليَاَ على بلد، ثم أخذها صاحب مكة وصاحب المدينة على
خواصّ من الناس قليل، دون العامة ونهى الفضل بن الربيع عن ذكر عبد الله
والقاسم، والدعاء لهما على شيء من المنابر، ودس لذكرعبد الله والوقيعة
فيه. ووجه إلى مكة كتاباً مع رسول من حَجبَة البيت في أخذ الكتابين
اللذين كان هارون اكتتبهما، وجعلهما في الكعبة، فقدم بهما عليه، وتكلم
في ذلك بقية الحجبة، فلم يحفل بهم، فلما أتاه بهما أجازه بجائزة عظيمة
ومرقهما. وكان محمد قد كتب إلى المأمون قبل مكاشفة المأمون إياه
بالخلاف يسأله أن يتجافى له عن كور من كور خراسان سمَاها له، وأن يوجّه
العمال إليها من قبله، وأن يحتمل توجيه رجل من قبله يوليه البريد ليكتب
إليه بخبره، فاشتد ذلك على المأمون، وشاورفي ذلك الفضل بن سهل وأخاه
الحسن، ثم كتب إليه: قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسألني التجافي عن
مواضع سمَاها مما أثبته الرشيد في العقد، وجعل أمره إليً، ولو لم يكن
ذلك مثبتاً بالعهود والمواثيق المأخوذة، ثم كنت على الحال التي أنا
عليها من إشراف عدوٍّ مخوف الشوكة، وجنود لا تستتبع طاعتها إلا
بالأموال، لكان في ذلك نظر أمير المؤمنين لعامته، وما يحبّ من لمِّ
أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيراً من عنايته، وأن يستصلحه ببذل
كثيرمن ماله؟ فكيف بمسألة ما أوجبه الحق، ووكد به مأخوذ العهد.
وكان المأمون قد وتجه حارسه إلى الحد، فلا يجوزرسول من العراق حتى
يوجهوه مع ثقات من الأمناء، ولا يستعلم خبراً ولا يؤثر أثراً فحصن أهل
خراسان من أن يُستمالوا برغبة ورهبة، أو يحملوا على مخالفة. ثم وضع على
مراصد الطرق ثقات من الحراس لا يجوز عليهم إلا من لا يدخل الظنة في
أمره، فيسلم ممن يدخل موغلاً في هيئة السابلة والطارئة. وفتئشَت الكتب.
فوجه محمد جماعة ليناظروا في منعه ما قد سأل، وإنما وجهوا ليعْلَم أنهم
قد عاينوا وسمعوا، ثم يلتمس منهم أن يبدلوا أو يحرفوا، فيكون عليهم حجة
وذريعة لما التمس. فلما صاروا إلى حدَ الري وجدوا تدبيراً مؤيداً،
وعَقْداً مستحكماً، وأخذتهم الأحراس من جوانبهم. وكُتب بخبرهم من
مكانهم، فجاء الإذن في حملهم فحملوا محروسين لا خبر يصل اليهم، ولا خبر
يخرج منهم؟ وقد كانوا على نية بذل الأموال والولايات للمفارقين، فوجدوا
ذلك ممنوعأ، فوصلوا ومعهم كتاب الأمين وفيه:
أما بعد،
فإن الرشيد وإن كان أفردك بالطَرْف، وضم إليك من الكور ما ضم، تأييداً
لأمرك، فإن ذلك لا يوجب لك فضلة المال عن كفايتك، والحق في الفضول أن
تكون مردودة في أهلها، فكتبت تلطّ دون ذلك بما إن تم أمرُك عليه صيرنا
الحقُّ إلى مطالبتك.
فكتب المأمون: بلغني كتاب أمير المؤمنين، ولم يكتب فيما جُهل فأسأل عن
وجهه، ولم يسأل ما يوجبه حق فتلزمني الحجة بترك إجابته، فلا تبعثني يا
ابن أبي على مخالفتك، وأنا مُذعِن بطاعتك. فلما وصل الكتاب تغيظ
الأمين، وكتب: أما بعد، فقد بلغني كتابك غامطاً لنعمة الله عليك،
متعرضاً لِحراق نار لا قِبَل لك بها، فأعلمني رأيك.
فقال المأمون لذي الرئاستين: إن ولدي وأهلي ومالي الذي أفرده الرشيد لي
بحضرة محمد - وهومائة ألف ألف - وأنا إليها محتاج، فما ترى؟ فقال فو
الرئاستين: بك حاجة إِلى مالك وأهلك، فإن منعك صار إلى خلع عهده، وحملك
على محاربته، وأنا أكره أن تكون أنت المستفتح باب الفرقة.
قال: فاكتب إليه: أما بعد، فإن نظر أميرالمؤمنين للعامة نظر من لا
يقتصر على إعطاء النصَفة من نفسه حتى يتجاوزها إليهم ببرة وصلته؟ فإذا
كان للعامة، فأحْر بأن يكون ذلك بصنوه، وقد علم أمير المؤمنين حالاً
أنا عليها من ثغور حللت بين لهواتها، وأخبار لا تزال تنكث رأيها، وقلة
الخراج قِبَلي، والأهل والمال والولد قِبَل أمير المؤمنين، وما للأهل -
وإن كانوا في كفاية أمير المؤمين فكان لهم والداً - بُدّ من النزوع إلى
كنفي، وقد وجهت لحمل العيال وحمل المال، فرأى أمير المؤمنين في إجازة
فلان إلي لرقة في حمل ذلك. والسلام.
فكتب الأمين: أما المال فمن مال الله، وأمير المؤمنين يستظهر لدينه،
وبه إلى ذلك حاجة في تحصين أمور المسلمين، فكان أولى به، وأما الأهل
فلم أر من حملهم ما رأيت من تعريضهم للتشتيت، فإن رأيت ذلك وجهتهم مع
الثقة. فلما وصل الكتاب قال ذو الرئاستين: الرأي حسم ما يوجب الفرقة،
فإن تطلع إليها فقد تعرض لله بالمخالفة وتعرضت بالتأييد والمعونة.
ودس الفضل بن سهل أقواماً يكاتبونه بالأخبار اختارهم لذلك، وكان أوَّل
ما دبر الفضل أن أقام الأجناد، وأشخص طاهر بن الحسين، فورد الري،
فنزلها ووجّه الأمين عصمة بن أحمد بن سالم إلى من بهمدان أن يكون في
ألف رجل، وولاه حرب كُوَر الجبل، وأمره أن يقيم بهمدان، وأن يوجه
مقدمته إلى ساوة، وجعل الفضل بن الربيع وعلي بن عيسى يحثان محمداً على
خلع المأمون وفي هذه السنة في ربيع الأول: عقد الأمين لابنه موسى على
جميع ما استخلف عليه، وجعل لأصاحب، أمره كله علي بن عيسى بن ماهان،
وعلى شرطته محمد بن عيسى بن نهيك، وعلى حرسه عثمان بن عيسى بن نهيك،
وعلى خراجه عبد الله بن عبيدة، وعلى ديوان رسائله علي بن صالح. وفيها:
وثب الروم على ميخائيل، فهرب وترهب، وكان ملكه سنتين، وملَّك الروم
عليهم ليون. وحج بالناس في هذه السنة داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن
علي بن عبد اللهّ بن عباس، وهو كان الوالي على مكه والمدينة. وقيل: حج
بهم علي بن الرشيد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
سلم بن سالم، أبو محمد وقيل: أبو عبد الرحمن البلخي. قدم بغداد، وحدَّث
عن إبراهيم بن طهمان، و الثوري. روى عنه: الحسن بن عرفة.
وكان مذكوراً بالعبادة والزهد، مكث أربعين سنة لم ير له فراش، ولم ير
مفطراً إلا يوم فطر أو أضحى، وما رفع رأسه إلى السماء أكثر من أربعين
سنة. وكان داعيَاَ في الإرجاء، وكان صارماً في الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، فدخل بغداد، فشنع على الرشيد، فأخذه وحبسه وقيده باثني عشر
قيدأ فشنع عليه أبو معاوية الضرير حتَى بقيت أربعة، وكان يدعو في حبسه
ويقول: اللهم لا تجعل موتي في حبسه، ولا تمتني حتى ألقى أهلي. فمات
الرشيد فخلت عنه زبيدة، فخرج إلى الحج فوافى أهله بمكة قدموا حجاجاً،
فمرض فاشتهى البرد، فجمعوا له، فأكل ومات. وذلك في ذي الحجة من هذه
السنة.
وقد اتفق المحدثون على تضعيف رواياته.
عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت بن محمد الثقفي البصري
ولد سنة
ثمان ومائة - وقيل: سنة عشر - وسمع أيوباً السجستاني، ويحيى بن سعيد
الأنصاري، وخالداً الحداد وغيرهم. روى عنه: الشافعي، واُحمد، وابن
راهويه، ويحيى، وغيرهم. وكان ثقة، إلا أنه اختلط في اخر عمره. أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد ابن علي بن ثابت، أخبرنا يحيى بن علي
بن الطيب الدسكري قال: سمعت أبا محمد الحسن بن أحمد بن سعيد بن عصمة
يقول: سمعت الفضيل بن العباس الهروي يقول: سمعت عاصماً المروزي يقول:
سمعت عمرو بن علي يقول: كانت غلة عبد الوهاب بن عبد المجيد في كل سنة
ما بين أربعين ألفاَ إلى خمسين ألفاً، فكان إذا أتت عليه السنة ينفقها
على أصحاب الحديث، فلم يبق منها توفي عبد الوهاب في هذه السنة، وهو ابن
أربع وثمانين سنة.
أبو نصر الجهيني المصاب. أنبأنا ابن ناصر الحافظ، أنبأنا المبارك بن
عبد الجبار، أنبأنا أحمد بن علي بن ثابت، أنبأنا أبو الحسن بن رزقويه،
أنبأنا عثمان بن أحمد الدقاق، أنبأنا العباس بن مسروق، أنبأنا أبو عبد
الرحمن محمد بن عبد الرحمن الأشهلي قال: سمعت محمد بن إسماعيل بن أبي
فديك قال: كان عندنا رجل يكنى أبا نصر من جهينة، ذاهب العقل، في غير ما
الناس فيه، لا يتكلم حتى يُكَلم، وكان يجلس مع أهل الصفة في آخر مسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا سئل عن شيء أجاب فيه جواباً
حسناً مغرباً، فأتيته يوماً وهو في مؤخر المسجد مع أهل الصفة، منكساً
رأسه، واضعاً جبهته بين ركبتيه، فجلست إلى جنبه، فحركته فانتبه فزعاً،
فأعطيته شيئاً كان معي، فأخذه فقال: قد صادف منا حاجة، فقلت له: يا أبا
نصر، ما الشرف؟ قال: حمل ما ناب العشيرة، أدناها وأقصاها، والقبول من
محسنها، والتجاوز عن مسيئها. قلت له: فما السخاء؟ قال: جهد مقل. قلت:
فما البخل؟ قال: أف، وحول وجهه عني. قلت: تجيبني؟ قال: أجبتك.
وقدم علينا هارون الرشيد فأخلي له المسجد، فوقف على قبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم وعلى منبره، وفي موقف جبريل عليه السلام، واعتنق
اسطوانة النبوة، ثم قال: قفوا بي على أهل الصفة. فلما أتاهم حُرك أبو
نصر وقيل: هو أمير المؤمنين. فرفع رأسه وقال: أيها الرجل، إنه ليس بين
عباد الله وأمة نبيه ورعيتك وبين الله خلق غيرك، وإن الله سائلك عنهم،
فأعد للمسألة جواباً، وقد قال عمر بن الخطاب: لو ضاعت سخلة على شاطئ
الفرات لخاف عمر أن يسأله الله عنها. فبكى هارون وقال: يا أبا نصر، إن
رعيتي غير رعية عمر، ودهري غير دهر عمر. فقال له: هذا والله غير مغن
عنك، فانظر لنفسك، فإنك وعمر تُسألان عما خولكما الله. فدعى هارون بصرة
فيها ثلاثمائة دينار، فقال: ادفعوها إلى أبي نصر، فقال أبو نصر: ما أنا
إلا رجل من أهل الصفة، فادفعوها إلى فلان يفرقها عليهم ويجعلني كرجل
منهم.
وكان أبو نصر يخرج كل يوم جمعة صلاة الغداة، فيدخل السوق مما يلي
الثنية، فلا يزال يقف على مربعة مربعة ويقول: أيها الناس، اتقوا يوماً
لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة، إن
العبد إذا مات صحبه أهله وماله وعمله، فإذا وضع في قبره رجع أهله وماله
وبقي عمله، فاختاروا لأنفسكم ما يؤنسكم في قبوركم رحمكم اللهّ. فلا
يزال يعمل ذلك في. مربعة مربعة حتى يأتي مصلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ثم يصلي الجمعة، فلا يخرج من المسجد حتى يصلي العشاء الآخرة.
ثم دخلت
سنة خمس وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها: إن الأمين أمر بإسقاط الدراهم والدنانيير التي ضربت
لأخيه بخراسان في سنة أربع وتسعين، وسبب ذلك: أن المأمون أمر أن لا
يثبت فيها اسم محمد، فكانت لا تجوز حيناً.
وفيها: نهى عن الدعاء على المنابر في عمله كله للمأمون والقاسم، وأمر
بالدعاء لنفسه، ثم لابنه موسى، وذلك في صفر من هذه السنة، وكان موسى
طفلاً صغيراً، وذلك عن رأي الفضل بن الربيع، فبلغ ذلك المأمون، فسُمَي
بإمام المؤمنين، وكوتب بذلك.
ولما عزم محمد على خلع المأمون قال له الفضل: ألا تعذر إليه يا أمير
المؤمنين، لعله يسلم الأمر في عافية، فتكتب إليه كتاباً فتسأله الصفح
عما في يديه. فقال له إسماعيل بن صبيح: هذا تقوية إليهم، ولكن اكتب
إليه فأعلمه حبك لقربه.
فكتب
إليه: إني أحب قربك التعاونني. فكتب إليه: إن مكاني أعود على أمير
المؤمنين. ثم دعى الفضل فقال: ما ترى؟ قال: أن تمسك موضعك قال: كيف. مع
مخالفة محمد والمال والجند معه، والملوك حولي كلهم عدو لي. قال: تصلح
ما بيني وبينهم، فلما عرف الأمين أنه لا يأتيه وجًه إليه عصمة بن حماد،
وأمره بقطع الميرة عن خُراسان.
وفيها: عقد الأمين لعلي بن عيسى بن ماهان، وذلك يوم الأربعاء لليلة خلت
من ربيع الآخر على كور الجبل كلها: نهاوند، وهمدان، وقمّ، وأصفهان،
حربها وخراجها، وضم إليه جماعة من القواد، وأمر له بمائتي ألف دينار،
ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطى الجند مالاً عظيماً، وأمر له من السيوف
المحلاة بألفي سيف، وستة آلاف ثوب للخلع، وأحضر الأمين أهل بيته
ومواليه وقواده المقصورة بالشماسية يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى
الآخرة، فصلى الجمعة، ودخل وجلس لهم ابنه موسىِ في المحراب ومعه الفضل
بن الربيع وجميع مَنْ حضرة فقرأ علىِ جماعتهم كتاباَ من الأمين يعلمهم
رأيه فيهم، وحقه عليهم، وما سبق له من البيعة منفرداً، بها، ولزوم ذلك
لهم، وما أحدث المأمون من التسمي بالإمام، والدعاء إلى نفسه، وقطع
البريد، وقطع ذكره من دار الطرز، وأن ما أحدث من ذلك ليس له.
ثم تكلم الفضل وقال: لا حق لأحد في الخلافة، إلا لأمير المؤمنين محمد،
ولم بجعل الله لعبد اللّه ولا لغيره في ذلك حظاً، وأن الأمير موسى قد
أمر لكم من صلب ماله ثلاثة آلاف ألف درهم تقسم بينكم يا أهل خراسان.
وفيها: شخص علي بن عيسى إلى الري لحرب المأمون، فكان خروجه عشية الجمعة
لأربع عشرة خلت من جمادى الآخرة، وخرج فيما بين صلاة الجمعة إلى صلاة
العصر إلى معسكره في زهاء من أربعين ألفاً.
ولما أراد الخروج ودع أم جعفر فقالت له: يا علي، إن أمير المؤمنين وإن
كان ولدي فإني على عبد الله مشفقة، فاعرف لعبد الله حق إخوته، ولا
تُبجه بالكلام ولا تفتشره افتشار العبيد، وإن شتمك فاحتمله، ثم دفعت
إليه قيداً من فضة فقالت: إن صار في يدك فقيده به.
فشخص ومعه الأمين إلى النهروان يوم الأحد لست بقين من جمادى الآخرة
فعرض الجند، وعاد إلى مدينة السلام، وأقام علي بن عيسى بالنهروان ثلاثة
أيام، ثم شخص إلى ما وجّه له مسرعاً، حتى نزل همدان، فولى عليها عبد
الله بن حميد بن قحطبة، وكان الأمين قد كتب إلى عصمة بن حماد يأمره
بالانصراف في خاصة أصحابه وضم بقية العسكر وما فيه من الأموال إلى علي
بن عيسى، وكتب إلى أبي دلف القاسم بن علي بالانضمام إليه فيمن معه من
أصحابه، وشخص علي بن عيسى من همدان يريد الري، فكان يسأل عن خراسان
فيقال له إن طاهراً مقيم بالري، فيضحك فيقول لم وما طاهر!؟ هل هو إلا
شوكة بين أعضائي. فلقيه طاهر في نحو أربعة آلاف، فلما رأى طاهر جمع علي
بن عيسى قال: هذا ما لا طاقة لنا به، ولكن نجعلها خارجية نقصد القلب.
فحملوا فجرى القتال، فقتل علي بن عيسى وألقي في بئر، وهزم عسكره وأخذ
منهم سبعمائة ألف درهم.
وكتب طاهر إلى ذي الرئاستين: أطال الله بقاءك، وكبت أعداءك، وجعل من
يشنؤك فداءك، كتبت إليك ورأس علي بن عيسى بين يدي، وخاتمه في إصبعي،
والحمد لله رب العالمين.
فدخل على المأمون فبشره، فأيد طاهراً بالرجال، وسماه ذا اليمينين، وأمر
بإحضار أهل بيته، والقواد، ووجوه الناس، فدخلوا فسلموا عليه بالخلافة،
وأعلن يومئذ بخلع الأمين.
ثم ورد برأس علي بن عيسى يوم الثلاثاء، فطيف به خراسان، وبلغ الخبر إلى
الأمين، فندم على نكثه وغدره، ومشى القواد بعضهم إلى بعض، وذلك يوم
الخميس للنصف من شوال، فقالوا: إن علياً قد قتل، ولا شك أن محمداً
يحتاج إلى الرجال فاطلبوا الجوائز والأرزاق، فلعلنا نصيب في هذه الحالة
ما يصلحنا، فأصبحوا يكبرا ويطلبون الأرزاق.
وبلغ الخبر عبد اللّه بن خازم، فركب إليهم في أصحابه، فتراموا بالنشاب
والحجارة، وسمع محمد التكبير والضجيج، فقال: ما الخبر؟ فأعلموه، فقال:
مروا ابن خازم فلينصرف عنهم.
ثم أمر
لهم بأرزاق أربعة شهور، ورفع من كان دون الثمانين إلى الثمانين، وأمر
للقواد بالصلات، وبعث إلى نوفل خادم المأمون، فأخذ منه ستة آلاف ألف
درهم التي كان الرشيد وصل المأمون بها، وقبض ضياعه وغلاته وأمواله،
وولى عليها عمالاً من قبله، ووجه عبد الرحمن بن جبلة من الأنبار بالقوة
والعدة في عشرين ألفاً، فنزل همدان لحرب طاهر، وولاه ما بين حلوان إلى
ما غلب عليه من أرض خراسان، فمر حتى نزل همدان، وضبط طرقها، وحصر
سورها، وسد ثلمها واستعد للقاء طاهر. ثم التقوا فاقتتلوا قتالاً
شديداً، ثم هزمهم طاهر فحصرهم في مدينة همدان، وقطع عنهم الميرة،
فطلبوا الأمان، فأمنهم، ثم قتل عبد الرحمن بن جبلة.
وكان السبب أنه لما أمنه طاهر أقام يريه أنه مسالم له، راض بعهده، ثم
اغتره وأصحابه، فهجم بأصحابه عليهم، فوضعوا فيهم السيف، فثاروا إليهم،
فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم أصحاب عبد الرحمن، وترجل هو وجماعة من
أصحابه فقاتل حتى قُتل.
وفي هذه السنة: طرد طاهر عمال محمد عن قزوين وسائر كور الجبل.
وفيها: ظهر السفيانيِ بالشام، واسمه علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد
بن معاوية، فدعا لنفسه، وذلك في ذي الحجة. وطرد عنها سليمان بن أبي
جعفر بعد أن حصره بدمشق - وكان عامل محمد عليها - ثم أفلت منه بعد
اليأس، فوجه إليه محمد بن الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، فلم يصل
إليه، وأقام بالرقة.
وحج بالناس في هذه السنة داود بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد
اللّه بن عباس، وهو كان العامل على مكة والمدينة من قبل محمد، وكان على
الكوفة العباس بن موسى الهادي، وعلى البصرة منصور بن المهدي، وبخراسان
المأمون.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسحاق بن يوسف بن محمد بن محمد الأزرق الواسطي. سمع الأعمش، والجريري،
والثوري، وغيرهم.
روى عنه: أحمد ويحيى. وكان من الثقات المأمونين، ومن عباد الله
الصالحين. أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أبو بكر بن علي
بن ثابت، أخبرنا أبو نصر محمد بن عبد الله بن الحسن المقرئ، أخبرنا أبو
حفص عمر بن محمد بن علي الزيات، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله
بن أيوب المخرمي قال: سمعت. الحسن بن حماد سجادة يقول: بلغني أن أم
إسحاق الأزرق قالت له: يا بني، إن بالكوفة رجلاً يستخف بأصحاب الحديث،
وأنت على الحج فأسألك بحقي عليك أن لا تسمع منه شيئاً. قال إسحاق:
فدخلت الكوفة فإذا الأعمش قاعد وحده، فوقفت على باب المسجد، فقلت: أمي
والأعمش!! وقال النبي لله صلى الله عليه وسلم: " طلب العلم فريضة على
كل مسلم " . فدخلت المسجد، فسلمت، فقلت: يا أبا محمد، حدٌثني فإني رجل.
غريب. قال: من أين أنت؟ قلت: من واسط. قال: ما اسمك؟ قلت: إسحاق بن
يوسف الأزرق. قال: فلا حييت ولا حييت أمك، أليس حرجت أن لا تسمع مني
شيئاً؟ قلت: يا أبا محمد، ليس كل ما بلغك يكون حقاً. قال: لأحدثنك
بحديث ما حدثته أحداً قبلك. فحدثني عن ابن أبي أوفى قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الخوارج كلاب أهل النار " .
توفى إسحاق بواسط في هذه السنة.
بكَار بن عبد اللّه بن مصعب بن ثابت بن عبد اللّه بن الزبير. يقال:
بكار، وإنما هو: أبو بكر. كان مدرة قريش شرفاً وبياناً ولساناً وجاهاً
وحسن أثر، وكان الرشيد معجباً به، فاستعمله على المدينة، وأقام عامله
عليها اثنتي عشرة سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يوماً، وأخرج على يده لأهل
المدينة ثلاث أعطيات مقدارها ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، كل عطاء
أربعمائة ألف دينار.
وكان الرشيد إذا كتب إليه كتب: من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى
أبي بكر بن عبد الله.
وكان عماله وجوه أهل المدينة فقهاً وعلماً ومروءةً وشرفاً. وكان
جواداً، فقلّ بيت بالمدينة لم يدخله صنيعه. توفي في ربيع الأول من هذه
السنة.
أبو نواس الحسن بن هانئ بن جناح بن عبد الله بن الجَراح، أبو علي.
الشاعر المعروف بأي نواس.
ويقال له: الحكمي، وفي ذلك قولان: أحدهما: أنه نسبة إلى جده الأعلى
الحكم بن سعد العشيرة والثاني: أنه مولى الجراح.
ولد بالأهواز، ونشأ بالبصرة، وقرأ القرآن على يعقوب الحضرمي، واختلف
إلى أبي زيد النحوي، وكتب عنه الغريب والألفاظ، وحفظ عن أبي عبيدة أيام
الناس، ونظر في نحو سيبويه.
قال
الجاحظ: ما رأيت أحداً كان أعلم باللغة من أبي نواس، ولا أفصح لهجة مع
حلاوة ومجانبة الاستكراه.
وسمع الحديث من: حماد بن زيد، وعبد الواحد بن زيد، ومعمر بن سليمان،
وغيرهم. وأسند الحديث.
أخبرنا محمد بن عبد الملك بن خيرون قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
قال: أخبرنا هلال بن محمد بن جعفر الحفار، أخبرنا إسماعيل بن علي
الخزاعي، أخبرنا محمد بن إبراهيم بن كثير الصوفي، أخبرنا أبو نواس
الحسن بن هانئ، حدَّثنا حماد بن سلمة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك
رضي اللهّ عنه قال: لا يموتن أحدكم حتى يحسن ظنه بالله من الخير.
قال ابن كثير: ودخلنا على أبي نواس نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقال
له عيسى بن موسى الهاشمي: يا أبا علي، أنت في آخر يوم من أيام الدنيا
وأول يوم من أيام الآخرة، وبينك وبين الله هنات، فتب إلى الله. قال أبو
نواس: أسندوني. فلما استوى جالساً قال: إياي يخوّف بالله وقد حدّثني
حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " لكل نبي شفاعة، وإني اختبأت شفاعتي لأهل
الكبائر من أمتي يوم القيامة " أفترى لا أكون منهم؟.
قال أبو عبيدة: كان أبو نواس للمُحْدَثينَ مثل امرئ القيس للمتقدمين.
وقال أبو نواس: ما قلت من الشعر شيئاً حتى رويت لستين امرأة من العرب
منهن الخنساء وليلى، فما ظنك بالرجال!
وله مدائح في الخلفاء
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرني أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الغفار قال: أخبرنا محمد بن
الحسن بن الفضل بن المأمون، حدثنا أبو بكر بن القاسم الأنباري، حدَثنا
عبد الله بن خلف، حدّثني عبد الله بن سفيان، حدثني عبد الله الخزاعي،
عن ابن مبادر الشاعر قال: دخل سليمان بن المنصور على محمد الأمين فرفع
إليه أن أبا نواس هجاه، وأنه زنديق حلال. الدم، وأنشده من أشعاره
المنكرة أبياتاً، فقال له: يا عم اقتله بعد قوله:
أهدي الثناء إلى الأمين محمد ... ما بعده بتجارة متربص
صدق الثناء على الأمين محمد ... ومن الثناء تكذب وتخرص
قد ينص القمر المنير إذا استوى ... هذا ونور محمد لا ينقص
وإذا بنو المنصور عُد حصاؤهم ... فمحمد يا قوتها المتخلص
فغضب سليمان وقال: لو شكوت من عبد الله ما شكوت من هذا الكافر لوجب أن
تعاقبه، فكيف منه. فقال: يا عم كيف أعمل بقوله:
قد أصبح الملك بالمنى ظفرا ... كأنما كان عاشقاً قدرا
حسبك وجه الأمين من قمر ... إذا طوى الليل دونك القمرا
خليفة يعتني بأمته ... وإن أتته ذنوبها غمرا
حتى لو استطاع من تحننّه ... دافع عنها القضاء والقدرا
فازداد سليمان غضباً فقال: يا عم، كيف أعمل بقوله:
يا كثير النوح في الدمن ... لا عليها بل على السكَن
سنصلى الله عليه وسلم العشاق واحدة ... فإذا أحببت فاستبن
ظن بي من قد كلفت به ... فهو يجفوني على الظنن
بات لا يعنيه ما لقيت ... عين ممنوع من الوسن
رشأ لولا ملاحتُهُ ... خلت الدنيا من الفتن
تضحك الدنيا إلى ملك ... قام بالآثار والسنن
يا أمين الله عش أبداً ... دم على الأيام والزمن
أنت تبقى والفناء لنا ... فإذا أفنيتنا فكن
قال: فانقطع سليمان عن الركوب، فأمر الأمين بحبس أبي نواس، فلما طال
حبسه كتب إليه:
تذكر أمين الله والعهد يذكر ... مقامي وإنشاديك والناس حُضر
ونثري عليك الدر يا در هاشم ... فيا من رأى دراً على الدر َينثر
أبوك الذي لم يملك الأرض مثله ... وعمك موسى عدله المتخير
وجداك مهدي الهدى وشقيقه ... أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر
وما مثل
منصوريك منصور هاشم ... ومنصور قحطان إذا عُد مفخر
فمن ذا الذي يرمي بسهميك في العلى ... وعبد مناف والداك وحمير
تحسنت الدنيا بحسن خليفة ... هو الصبح إلاً أنًه الدهر مسفر
يشير إليه الجود من وجناته ... وينظر من أعطافه حين ينظر
مضت لي شهور مذ حبست ثلاثة ... كأني قد أذنبت ما ليس يغفر
فإن لم كن أذنبت فيم عقوبتي ... وإن كنت ذا ذنبٍ فعفوك أكبر
فلما قرأ محمد الأبيات قال: أخرجوه وأجيزوه، ولو غضب ولد المنصور كلهم.
قال المصنف: كان أبو نواس قد غلب عليه حب اللعب واللهو وفعل المعاصي،
ولا أؤثر أن أذكر أفعاله المذمومة، لأني قد ذكرت عنه التوبة في آخر
عمره، وإنما كان لعبه في أول العمر.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا هبة
الله بن الحسن الطبري، أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران، حدثنا الحسين بن
إسماعيل المحاملي، حدثنا علي بن الأعرابي قال: قال أبو العتاهية: لقيت
أبا نواس في المسجد الجامع فعذلته. فقلت له: أما آن لك أن ترعوي، أما
آن لك أن تنزجر!؟ فرفع رأسه إلي وهو يقول:
أتراني يا عتاهي ... تاركاً تلك الملاهي؟
أتراني مفسداً بالن ... سك عند القوم جاهي؟
قال: فلما ألححت عليه بالعذل أنشأ يقول:
لن ترجع الأنفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر
قال: فودت أني قلت هذا البيت بكل شيء قلته.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت، أخبرنا علي بن محمد المعدل،
أخبرنا عثمان بن محمد الدقاق، حدثنا محمد بن أحمد بن البراء، أخبرنا
علي بن محمد بن زكريا قال: دخلت على أبي نواس وهو يكيد بنفسه، فقال لي:
أتكتب؟ قلت: نعم. فأنشأ يقول:
دب فيَ الفناء سُفلاً وعلوا ... وأراني أموت عضواً فعضوا
ذهبت شِرتي بحدة نفسي ... فتذكرت طاعة الله نضوا
ليس من ساعة مضَتْ بيَ إلا ... نقَّصتني بمرها بيَ حذوا
لهف نفسي على ليال وأيا ... م تَمَلَّيْتُهُنَّ لعباً ولهوا
قد أسَأنَا كل الإسَاءَة يا ... رَبّ فصفْحاً عنَّا إلهي وعفوا
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي، حدثني عبيد الله بن أبي الفتح،
حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدَثنا عبيد الله بن عبد الرحمن السكري، حدَثنا
عبد الله بن أبي سعد، حدٌثنا إبراهيم بن إسماعيل ابن أخي أبي نواس،
حدثني جعفر الصائغ قال: لما احتضر أبو نواس قال: اكتبوا هذه الأبيات
على قبري:
وعظتك أجداث صُمُتْ ... ونعتك أزمنة خُفُتْ
وتكلمت عن أوجه ... تبلى وعن صور سُبتْ
وأرتك قبرك في القبو ... ر وأنت حيٌ لم تَمُتْ
توفي أبو نواس سنة خمس وتسعين ومائة. وقيل: سنة ست. وقيل: سنة ثمان.
وكان عمره تسعاً وخمسين سنة. ودفن بمقابر الشونيزي في تل اليهود.
أخبرنا القزاز، أنبأنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا علي بن محمد المعدل،
أخبرنا عثمان بن أحمد، أخبرنا أحمد بن البراء، أخبرنا عمر بن مدرك،
حدّثني محمد بن يحيى، عن محمد بن نافع قال: كان أبو نواس لي صديقاً،
فوقعت بيني وبينه هجرة في آخر عمره، ثم بلغني وفاته فتضاعف علي الحُزن،
فبينا أنا بين النائم واليقظان إذا أنا به، فقلت: أبو نواس؟ قال: لات
حين كنيته. قلت: الحسن بن هانئ؟ قال: نعم. قلت: ما فعل الله بك؟ قال:
غفر لي بأبيات قلتها هي تحت، ثني وسادتي. فأتيت أهله، فلما أحسُّوا بي
أجهشوا بالبكاء. فقلت لهم: هل قال أخي شعراً قبل موته؟ قالوا: لا نعلم
إلا أنه دعا بدواة وقرطاس وكتب شيئاً لا ندري ما هو. قلت: إيذنوا لي
أدخل قال: فدخلت إلى مرقده، فإذا ثيابه لم تحرك بعد، فرفعت وسادة فلم
أر شيئاً، ثم رفعت أخرى فإذا برقعة فيها مكتوب:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يدعو ويرجو المجرمُ؟
أدعوك رب كما أمرت تضرعاً ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
ماليِ
إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل عفوك، ثم إني مسلم
محمد بن خازم، أبو معاوية التميمي مولى سعد بن زيد مناة.
ولد سنة ثلاث عشرة ومائة، وعمي بعد أربع سنين، ولازم الأعمش عشرين سنة،
وكان أثبت أصحابه، وكان يُقَدَم على الثوري وشعبة، وكان حافظاً للقرآن
ثقة، لكنه كان يرى رأي المرجئة.
وروى عنه: أحمد ويحيى، وخلق كثير.
وروى عن خلق كثير، إلا أنه كان يضبط حديث الأعمش ضبطاً جيداً، ويضطرب
في غيره.
حدًثنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن ثابت، أخبرنا أبو رزق،
أخبرنا جعفر بن محمد الخالدي، حدَثنا الحسين بن محمد بن الحسين الكوفي،
حدّثني جعفر بن محمد بن الهذيل، حدّثني إبراهيم الصيني قال: سمعت أبا
معاوية يقول: حججت مع جَدَي أبي وأمي وأنا غلام، فرآني أعرابي فقال
لجدي: ما يكون هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال: ليس بابنك. قال: ابن
ابنتَي. قال: ليكونن له شأن، وليطأن برجليه هاتين بسط الملوك، قال:
فلما قدم الرشيد بعث إلي، فلما دخلت عليه ذكرت حديث الأعرابي، فأقبلت
التمس برجلي البسط فقال: يا أبا معاوية، لِمَ تلتمس البساط برجليك؟
فحدثته الحديث، فأعجب به. قال: وحركني شيء فقلت: يا أمير المؤمنين
أحتاج إلى الخلاء. فقال للأمين والمأمون: خذا بيد عمكما فأرياه الموضع.
فأخذا بيدي فأدخلاني إلى الموضع، فشممت منه رائحة طيبة، فقالا لي: يا
أبا معاوية، هذا الموضع، فشأنك، فقضيت حاجتي.
قال الخطيب: عن محمد بن فضيل: مات أبو معاويهّ سنة خمس وتسعين ومائة في
آخر صفر أو في أول ربيع الأول.
قال المصنف: وكذلك ذكر أبو موسى المدائني وغيره أنه مات في هذه السنة.
وقد روينا عن ابن نمير أنه مات في سنة أربع والأول أكثر.
الوليد بن مسلم الدمشقي، أبو العباس. روى عن الليث بن سعد، والفضل بن
فضالة، وابن لهيعة، وغيرهم.
وروى عنه: ابن وهب.
وتوفي عند انصرافه من الحج في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ست وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها: أن محمداً وجه إلى المأمون أحمد بن مزيد في عشرين
ألفَاً، وعبد الله بن حميد بن قحطبة في عشرين ألفاً، وأمرهما أن يدافعا
طاهراً عن حلوان، وكان قد نزلها، فنزل بخانقَين، فكان طاهر يبعث العيون
إلى عسكريهما، فيأتونهم بالأراجيف، ويحتال في وقوع الاختلاف بينهم حتى
اختلفوا، وانتقض أمرهم، وقاتل بعضهم بعضَاً، فرجعوا من خانقين من غير
أن يلقوا طاهراً، وأقام طاهر بحلوان، فأتاه هرثمة بن أعين بكتاب
المأمون والفضل بن سهل يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكور إليه،
والتوجه إلى الأهواز. فسلم ذلك إليه ومضى إلى الأهواز وأقام هرثمة
بحلوان.
وفي هذه السنة: رفع المأمون منزلة الفضل بن سهل وقدره، وذلك أنه لما
قتل عليِ بن عيسى وعبد الرحمن بن جبلة وبشره الفضل بذلك عقد له في رجب
من هذه السنة على المشرق طولاً وعرضاً، وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف
درهم، وسماه ذا الرئاستين، وكان على سيفه مكتوب من جانب: رئاسة الحرب،
ومن جانب: رئاسة التدبير.
وفيها: ولى محمد بن هارون بن عبد الملك بن صالحٍ بن علي الشام، وأمره
بالخروج إليها، وفرض له من رجالها جنوداً يقاتل بهم طاهراً وهرثمة،
فسار حتى بلغ الرقة، فأقام بها، وأنفذ كتبه ورسله إلى رؤساء أجناد
الشام ووجوه الجزيرة، فقدموا عليه، فأجازهم، وخلع عليهم، وحملهم، ثم
جرى بين الجند خصومات، فاقتتلوا وتفرقوا.
وفي هذه السنة: خُلع محمد بن هارون، وأخذت عليه البيعة للمأمون ببغداد،
وحُبس في قصر أبي جعفر مع أم جعفر بنت جعفر بن المنصور.
وسبب ذلك: أن عبد الملك بن صالح لما جمع الناس، ثم تفرقوا مات بالرقة،
فرد الجند الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان إلى بغداد، وكان ذلك في رجب،
فبعث إليه في الليل محمد بن هارون، فقال للرسول: والله ما أنا بمعبّر
ولا مسامر ولا مضحك ولا وليت له عملاً، فأي شيء يريد مني في هذه
الساعة؟ إذا أصبحت غدوت إليه إن شاء الله.
فأصبح
الحسين، فوافى باب الجسر، واجتمع إليه الناس، فأمر بإغلاق الباب الذي
يخرج منه إلى قصر عبيد الله بن علي، وباب سوق يحيى، وقال: إن خلافة
الله لا تجوز بالبطر، وإن محمداً يريد أن يوتغ أديانكم، وينكث بيعتكم،
وبالله إن طالت به مدة ليرجعن وبال ذلك عليكم، فاقطعوا أثره قبل أن
يقطع آثاركم، فو الله ما ينصره منكم ناصر إلاَ خُذل.
ثم أمر الناس بعبور الجسر، فعبروا حتى صاروا إلى سكة باب خراسان،
واجتمع أهل الأرْباض مما يلي باب الشام، وتسرّعت خيول من خيول محمد إلى
الحسين، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم كشفهم الحسين، فخلع الحسين بن علي
محمداً يوم الأحد لإحدى عشرة من رجب سنة ست وتسعين. وأخذ البيعة لعبد
الله المأمون من غد يوم الاثنين إلى الليل، وغدا العباس بن موسى بن
عيسى الهاشمي إلى محمد، فوثب به، ودخل عليه وأخرجه من قصر الخلد إلى
قصر أبي جعفر، فحبسه هناك، ثم وثب على أم جعفر، فأمرها بالخروج من
قصرها إلى قصر أبي جعفر فأبت، فقنعها بالسوط وسبَّها، ثم أدخلت المدينة
مع ابنها، فلما أصبح الناس من الغد طلبوا من الحسين بن علي الأرزاق،
وهاج الناس بعضهم في بعض، وقام محمد بن أبي خالد بباب الشام وقال:
والله ما أدري بأي سبب يتأمّر الحسين بن علي علينا، ويتولى هذا الأمر
دوننا، وما هو بأكبرنا سناً، ولا أكرمنا حسباً، وإني أولكم أنقض عهده،
وأظهر التغيُّر عليه، فمن كان رأيه معي فليعتزل معي.
وقام أسد الحربي فقال: هذا يوم له ما بعده، إنكم قد نمتم وطال نومكم
فقدم عليكم غيركم، وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسره، وأذهب بذكر فكّه
وإطلاقه.
وجاء شيخ كبير فقال: أقطع محمد أرزاقكم؟ قالوا: لا. قال: فهل قصَّر
بأحد من رؤسائكم؟ قالوا: لا. قال: فما بالكم خذلتموه! انهضوا إلى
خليفتكم فادفعوا عنه. فنهضوا فقاتَلوا الحسين بن علي وأصحابه قتالاً
شديداً، وأسر الحسين ودخل أسد الحربي على محمد، فكسر قيوده، وأقعده في
مجلس الخلافة، فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الجند ولا عليهم سلاح،
فأمرهم فأخفوا من السلاحِ الذي في الخزائن حاجتهم، ووعدهم ومنَّاهم،
وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحاً كثيراً ومتاعاً، وأتى الحسين بن علي
فلامه محمد على خلافه، وقال: ألم أقدّم أباك على الناس، وأوليه أعنة
الخيل، وأملأ يده بالأموال! قال: بلى: قال: فبم استحققت منك أن تخلع
طاعتي، وتندب الناس إلى قتالي. قال: الثقة بعفو أمير المؤمنين وحسن
الظن به. قال: فإن أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، وولاّك الطلب بثأر
أبيك، ومن قُتل من أهل بيتك.
ثم دعا له بخلعة فخلعها عليه، وولاه ما وراء بابه، وحمله على مراكب،
وأمره بالمسير إلى حلوان، فخرج فوقف على باب الجسر حتى إذا خف الناس
قطع الجسر وهرب في نفر من مواليه، فناس محمد في الناس فركبوا في طلبه،
فأدركوه.
فلما بصر بالخيل نزل فصلى ركعتين وتحرم، ثم لقيهم فحمل عليهم حملات في
كلها يهزمهم ويقتل فيهم. ثم إِن فرسه عثر به فسقط، وابتدره الناس
فقتلوه وأخفوا رأسه. وذلك في نصف رجب في طريق النهرين، وفي الليلة التي
قتل فيها الحسين بن علي هرب الفضل بن الربيع، وجددت البيعة لمحمد يوم
الجمعة لست عشرة ليلة خلت من رجب.
وفيها: توجَّه طاهر بن الحسين إلى الأهواز، فخرج عاملها محمد بن يزيد
المهلبي يحميها فقتل، وأقام طاهر بالأهواز، وأنفذ عماله إلى كورها.
وولي اليمامة والبحرين وعمان، ثم أخذ على طريق البر متوجهاً إلى واسط،
فدخلها وهرب عاملها، ووجه قائداً من قواده إلى الكوفة وعليها العباس بن
موسى الهادي، فلما بلغ العباس الخبر خلع محمداً، وكتب بطاعته إلى طاهر
وبيعته، وكتب منصور بن المهدي وهو عامل البصرة إلى طاهر بطاعته، فنزل
حتى طرنايا، وأمر بجسر فعقد، وأنفذت كتبه بالتولية إلى العمال، وبايع
المطلب بن عبد الله بن مالك بالموصل للمأمون، فكان خلعهم في رجب، فلما
كتبوا بخلعهم محمداً أقرهم المأمون على أعمالهم، وولى داود بن عيسى بن
موسى بن محمد على مكة والمدينة، ويزيد بن جرير البجلي اليمن، ووجه
الحارث بن هشام إلى قصر ابن هبيرة.
وفيها:
أخذ طاهر المدائن من أصحاب محمد، ثم صار إلى صرصر، فعقد جسراً، ولما
بلغ محمداً أن الحارث وهشاماً خلفاه وجه محمد بن سليمان العابد ومحمد
بن حماد البربري، وأمرهما أن يبيتاهما، فبلغ الخبر إليهما، فوجه طاهر
إليهما مدداً، فاقتتلوا، فهرب محمد بن سليمان حتى صار إلى قرية شاهي،
وعبر الفرات، وأخذ علي البرية إلى الأنبار، ورجع محمد بن حماد إلى
بغداد.
وفيها: خلع داود بن عيسى عامل مكة والمدينة محمداً، وبايع للمأمون،
وأخذ البيعة على الناس، وكتب بذلك إلى طاهر بن الحسين والمأمون، وكان
السبب في ذلك: أنه لما أخذ الكتابان من الكعبة جمع داود بن عيسى حجبة
الكعبة والقرشيين والفقهاء ومن كان شهد ما في الكتابين، فقال لهم: قد
علمتم ما أخذ علينا الرشيد من العهد والميثاق عند بيت الله الحرام،
لنكونن مع المظلوم على الظالم، وقد رأيتم أن محمداً بدأ بالظلم والغدر
والنكث والخلع وخلع أخويه، وبايع لطفل رضيع لم يفطم، واستخرج الشرطين
من الكعبة عاصياً ظالماً فحرقهما بالنار، وقد رأيت خلعه وأن أبايع
للمأمون إذ كان مظلوماً.
فقال له أهل مكة: رأينا تبع لرأيك. فوعدهم صلاة الظهر، وأرسل في فجاج
مكة صائحاً يصيح: الصلاة جامعة، وذلك يوم الخميس لسبع وعشرين ليلة خلت
من رجب، فخرج فصلى بالناس الظهر، وقد وضع له المنبر بين الركن والمقام،
فجلس عليه، وحمد الله تعالى وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال: يا أهل مكة، أنتم الأصل، وإلى قبلكم يأتم المسلمون، وقد علمتم ما
أخذ عليكم الرشيد، وقد علمنا أن محمداً بدأ بالظلم والبغي، وقد حل لنا
ولكم خلعه وأشهدكم أني خلعت محمد بن هارون من الخلافة كما خلعت قلنسوتي
هذه من رأسي. ثم خلعها فرمى بها إلى بعض الخدم تحته، وأتي بقلنسوة
فلبسها، ثم قال: قد بايعت لعبد الله المأمون، ألا فقوموا فبايعوه.
فبقوا أياماً يبايعونه.
وكتب إلى ابنه سليمان بن داود بن عيسى وهو خليفته على المدينة يأمره
يفعل كذلك، فلما رجع جواب البيعة من المدينة إلى داود رحل إلى المأمون
فأعلمه بذلك، فسًر المأمون وتيمَن ببركة مكة والمدينة، وكتب لداود
عهداً على مكة والمدينة وأعمالها، وزيد ولاية عكّ، وكتب له إلى الري
بمعونة خمسمائة ألف درهم، وخلع أهل اليمن محمداً وبايعوا للمأمون، ثم
عقد محمد في رجب وشعبان نحواً من أربعمائة لواء لقوَّاد شتى، وأفر على
جميعهم علي بن محمد بن عيسى بن نهيك، وأمرهم بالسير إلى هرثمة بن أعين،
فساروا فالتقوا في رمضان، فهزمهم هرثمة، وأسر علي بن محمد، فبعث به إلى
المأمون، ونزل هرثمة النهروان.
وفيها: استأمن إلى محمد جماعة من جند طاهر، ففرق فيهم مالاً كثيراً،
وشغب الجند على طاهر، وكان السبب في ذلك: أن طاهراً أقام بصرصر، وشمَر
لمحاربة محمد وأهل بغداد، فكان لا يأتيه جيش إلا هزمه، فاشتد على
أصحابه ما كان محمد يعطي من الأموال، ودس محمد إلى رؤوساء الجند الكتب
بالأطماع، فخرج من عسكر طاهر نحو من خمسة آلاف رجل من أهل خراسان ومت
التف إليهم من الجند، فَسُرَّ بهم محمد، ووعدهم ومنَّاهم، فمكثوا
شهراً، وقوي أصحابه بالمال، فخرجوا إلى طاهر، ثم ولوا منهزمين، وبلغ
الخبر محمداً، فأخرج المال، وفرق الصلات، فراسلهم طاهر، ووعدهم
واستمالهم، فشغبوا على محمد يوم الأربعاء لست خلون من ذي الحجة.
ثم قدم طاهر فنزل البستان الذي على باب الأنبار يوم الثلاثاء لاثنتي
عشرة ليلة من ذي الحجة، وكثر لأصحابه العطاء، وأضعف للقواد، ونقب أصحاب
السجون وخرجوا، وفتن الناس، وغلب أهل الفساد، وقاتل الأخ أخاه.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى من قبل طاهر، ودعا
للمأمون الخلافة، فهو أول موسم دعي له بالخلافة بمكة والمدينة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
بقية بن الوليد بن صائد بن كعب أبو محمد الكلاعي البصري ولد سنة عشر
ومائة، وسمع من خلق كثير. وروى عنه: شعبة، وحماد بن زيد، وابن المبارك،
ويزيد بن هارون.
وفي أحاديثه مناكير، إلا أن أكثرها عن المجاهيل.
قال ابن المبارك: كان ثقة صدوقاً، لكنه كان يكتب عن من أقبل وأدبر.
وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق ويتقى حديثه عن مشيخته الذين لا يُعرفون،
وله أحاديث مناكير جداً.
توفي بقية في هذه السنة. وقيل: في سنة سبع وتسعين ومائة.
حفص بن
غياث بن طلق، أبو عمر الكوفي. سمع عبيد اللّه بن عمر العمري، وهشام بن
عروة، وإسماعيل بن أبي خالد، وأبا إسحاق الشيباني، وسليمان الأعمش،
وجعفر بن محمد بن علي، وليث بن أبي سليم، وداود بن أبي هند، والحسن بن
عبد اللّه، وأشعث بن عبد الملك، وأشعث بن سوار، وابن جريج، ومسعر بن
كدام، والثوري.
روى عنه: ابنه عمر، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وعفان بن مسلم، وأحمد بن
حنبل، وابن معين، وابن المدني، وأبو خيثمة، والحسن بن عرفة، وابن
راهويه، وعامة الكوفيين.
وولي حفص القضاء ببغداد وحدّث بها، ثم عزل وولي قضاء الكوفة.
أخبرنا
أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أنبأنا القاضي
أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري، وأبو الحسن أحمد بن عمر بن روح
النهرواني - قال طاهر حدَثنا، وقال أحمد أنبأنا - المعافى بن زكريا
الجريري، حدثنا محمد بن مخلد بن جعفر العطار، حدثني أبو علي بن علان،
حدّثني يحيى بن الليث قال: باع رجل من أهل خراسان جمالاً بثلاثين ألف
درهم من مرزبان المجوسي وكيل أم جعفر فمطله بثمنها وحبسه، فطال ذلك على
الرجل، فأتى بعض أصحاب حفص بن غياث فشاوره، فقال: اذهب إليه فقل له
أعطني ألف درهم وأحيل عليك بالمال الباقي، وأخرج إلى خراسان، فإن فعل
هكذا فالقني حتى أشير عليك. ففعل الرجل وأتى مرزبان فأعطاه ألف درهم،
فرجع إلى الرجل فأخبره فقال: عد إليه فقل له: إذا ركبت غداً فطريقك على
القاضي تحضر وأوكل رجلاً يقبض المال واخرج، فإذا جلس إلى القاضي فادّع
عليه ما بقي لك من المال، فإذا أقر حبسه حفص وأخذت مالك. فرجع إلى
مرزبان فسأله فقال: انتظرني بباب القاضي. فلما ركب من الغد وثب إليه
الرجل فقال: إن رأيت أن تنزل إلى القاضي حتى أوكل بقبض المال وأخرج،
فنزل مرزبان فتقدما إلى حفص، بن غياث، فقال الرجل: أيد اللّه القاضي لي
على هذا الرجل تسعة وعشرون ألف درهم، فقال حفص: ما تقول يا مجوسي؟ قال:
صدق أصلح الله القاضي. قال: ما تقول يا رجل، قد أقر لك؟ قال يعطيني
مالي. قال حفص للمجوسي: ما تقول؟ فقال: هذا المال على السيدة. قال: أنت
أحمق، تقر ثم تقول على السيدة، ما تقول يا رجل!؟ فقال: إن أعطاني مالي
وإلا حبسته. قال: ما تقول يا مجوسي. قال: المال على السيدة، قال حفص:
خذوا بيدي إلى الحبس. فلما حبس بلغ الخبر أم جعفر، فغضبت وبعثت إلى
السندي وجّه إليّ مرزبان فأخرجه، وبلغ حفص الخبر فقال: أحبس أنا ويخرج
السندي؟ لا جلست مجلسي هذا أو يرد مرزبان إلى الحبس. فجاء السندي إلى
أم جعفر فقال: الله اللّه في، إنه حفص بن غياث، وأخاف من أمير المؤمنين
أن يقول لي: بأمر مَنْ أخرجته؟ ردّيه إلى الحبس وأنا أكلم حفصاً في
أمره، فأجابته فرجع مرزبان إلى الحبس، فقالت أم جعفر لهارون: قاضيك هذا
أحمق، حبس وكيلي، فمره لا ينظر في هذا الحكم، وتُولي أمره إلى أبي
يوسف. فأمر له بالكتاب، وبلغ حفصاً الخبر فقال للرجل: أحضر لي شهوداً
حتى أسجل لك على المجوسي بالمال فجلس حفص، فسجل على المجوسي، وورد كتاب
هارون مع خادم له، فقال: هذا كتاب أمير المؤمنين. فقال: انظر ما يقال
لك، فلما فرغ حفص من السجل أخذ الكتاب من الخادم فقرأه فقال: اقرأ على
أمير المؤمنين السلام وأخبره أن كتابه ورد، وقد أنفذ الحكم، فقال
الخادم: قد والله عرفت ما صنعت، ما أردت أن تأخذ كتاب أمير المؤمنين
حتى تفرغ مما تريد، والله لأخبرن أمير المؤمنين بما فعلت. فقال حفص: قل
له ما أحببت. فجاء الخادم، فأخبر هارون، فضحك وقال للحاجب: مر لحفص بن
غياث بثلاثين ألف درهم. فركب يحيى بن خالد واستقبل حفصاً منصرفاً من
مجلس القضاء، فقال: أيها القاضي، قد سررت أمير المؤمنين اليوم، وأمر لك
بثلاثين ألف درهم، فما كان السبب في هذا؟ قال: تمم الله نعم أمير
المؤمنين، وأحسن حفظه وكلاءته، ما زدت على ما أفعل كل يوم. قال: ما
أعلم إلا أني سجلت على مرزبان المجوسي بما وجب عليه، فقال: فمن هذا
سُرَّ أمير المؤمنين. قال حفص: الحمد للهّ كثيراً. فقالت أم جعفر
لهارون: لا أنا ولا أنت، إلا أن تعزل حفصاً. فأبى عليها، ثم ألحت عليه
فعزله عن الشرقية، وولاه قضاء الكوفة، فمكث عليها ثلاث عشرة سنة، وكان
أبو يوسف لما ولي حفص قال لأصحابه: تعالوا نكتب نوادر حفص، فلما وردت
أحكامه وقضاياه على أبي يوسف قال له أصحابه: أين النواعر التي تكتبها؟
قال: ويحكم إن حفصاً أراد الله فوفقه الله.
أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا أحمد بن علي قال: قرأت على الحسن بن أبي
بكر، عن أحمد بن كامل القاضي قال: سمعت محمد بن عثمان يقول: حدثني أبي
قال: سمعت عمر بن حفص يقول: لما حضرت أبي الوفاة أغمي عليه، فبكيت عند
رأسه، فأفاق فقال: ما يبكيك؟ قلت: أبكي لفراقك، ولما دخلت فيه من هذا
الأمر - يعني القضاء - قال: لا تبك، فإني ما حللت سراويلي على حرام قط،
ولا جلس بين يدي خصمان فباليت على من توجه الحكم منها.
أنبأنا
أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت، أخبرنا أبو سعد ظفر بن
الفرح الخفاف، حدَثنا أحمد بن محمد بن يوسف العلاف، أخبرنا الحسين بن
يحيى بن عباس قال: وجدت في كتاب أخي علي بن يحيى، أخبرنا العباس بن أبي
طالب، أخبرنا الحسن بن علي، حدّثني يحيى بن آدم، عن حفص بن غياث قال:
ولدت أم محمد بن أبي إسماعيل أربع بنين في بطن، قال: فرأيتهم كلهم قد
نيفوا على الثمانين.
أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي
البيع أخبرنا العباس بن أحمد بن موسى أخبرنا أبو علي الطوماري قال:
حدّثني عبيد بن غنام قال: حدّثني أبي قال: مرض حفص خمسة عشر يوماً فدفع
إليّ مائة درهم فقال: امض بها إلى العامل وقل له: هذه رزق خمسة عشر
يوماً لم أحكم فيها بين المسلمين لا حظ لي فيها.
توفي حفص بن غياث سنة ست وتسعين ومائة. كذا قال الفلاس، ومحمد بن
المثنى.
وقال خليفة بن خياط، ومحمد بن سعد: سنة أربع وتسعين.
وقال عبيد اللّه بن الصباح: سنة تسع وتسعين.
وقال سلم بن جنادة: سنة خمس وتسعين.
عبد اللّه بن مرزوق، أبو محمد الزاهد زعم أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي
أنه كان وزير الرشيد، فخرج من ذلك وتخلى من ماله وتزهد، وكان كثير
البكاء، شديد الحزن.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، حدَّثنا أبو بكر بن محمد بن هبة الله الطبري،
أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا ابن صفوان، أخبرنا عبد اللّه بن
محمد القرشي قال: حدّثني محمد بن إدريس قال: حدَّثنا عبد اللّه بن
السري قال: حدّثني سلامة قاضي عبد الله بن مرزوق في مرضه، حدَثنا سلامة
قال: قال عبد الله بن مرزوق: يا سلامة، إن لي إليك حاجة. قلت: وما هي.
قال: تحملني فتطرحني على تلك المزبلة لعلي أموت عليها، فيرى مكاني
فيرحمني.
محمد بن زين بن سليم، أبو الشيص الشاعر. انقطع إلى عقبة بن جعفر بن
الأشعث الخزاعي، وكان أميراً على الرقة، فمدحه في، أكثر شعره، وكان أبو
الشيص سريع الخاطر، الشعر عليه أهون من شرب الماء.
روى أبو بكر الأنباري، عن أبيه، عن أحمد بن عبيد قال: اجتمع مسلم بن
الوليد، وأبو نواس، وأبو الشيص، ودعبل في مجلس، فقالوا: لينشد كل منكم
أجود ما قال من الشعر، فقال رجل كان معهم: اسمعوا مني أخبركم بما ينشد
كل منكم قبل أن ينشد. قالوا: هات. فقال لمسلم: أما أنت فكأني بك قد
أنشدت:
إذا ما علت منّا ذؤابة واحدٍ ... وإن كان ذا حلم دعته إلى الجهل
هل العيش إلا أن تروح مع الصّبى ... وتغدو صريع الكأس والأعين النجل
قال: وبهذا البيت لقب " صريع الغواني " لقبه به الرشيد. فقال له مسلم:
صدقت.
ثم أقبل على أبي نواس فقال له: وكأني بك قد أنشدت:
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند ... واشرب على الورد من حمراء كالورد
تسقيك من عينها خمراً ومن يدها ... خمراً فما لك من سكرين من بدِّ
فقال له: صدقت.
ثم أقبل على دعبل فقال له: كأني بك وقد أنشدت:
أين الشباب وأيَّةً سلكا ... لا أين يُطْلَبُ ضَل بل هلكا
لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكا
فقال له: صدقت، ثم أقبل على أبي الشيص فقال له: كأني بك قد أنشدت:
لا تنكري صدي ولا إعراضي ... ليس المقل عن الزمان براضي
فقال له: لا، ما أردت أن، أنشد هذا، وليس هذا بأجود شيء قلته. قالوا:
فأنشدنا ما بدا لك. فأنشدهم:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حباً لذكرك فليلمني اللوَّم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظّي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً ... يا مَنْ أهون عليك ممن أكرم
فقال أبو نواس: أحسنت والله وجودت.
وعمي أبو الشيص في آخر عمره.
معاذ بن معاذ، أبو المثنى البصري العنبري. ولد سنة تسع عشرة ومائة،
وسمع سليمان التيمي، وشعبة، والثوري، وغيرهم.
روى عنه: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة، وغيرهم. وولي قضاء
البصرة، وكان من الأثبات في الحديث.
وقال أحمد
بن حنبل: ما رأيت أحداً إلا وقد تعلق عليه شيء من الحديث إلا معاذ
العنبري، فإنهم ما قدروا أن يتعلقوا عليه في شيء من الحديث مع شغله
بالقضاء.
توفي معاذ بالبصرة في ربيع الآخر من هذه السنة، وهو ابن سبع وسبعين
سنة.
هاشم بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد اللّه بن عبد الرحمن
بن أبي بكر الصديق يكنى: أبا بكر. مدبغي، كان من ساكني الكوفة، فقدم
قاضيَاً على مصر من قبل الأمين في جمادى الآخرة سنة أربع وتسعين، وكان
يذهب مذهب أبي حنيفة.
توفي في محرم هذه السنة.
ثم دخلت
سنة سبع وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها: أن القاسم بن الرشيد، ومنصور بن المهدي خرجا من
العراق، فلحقا بالمأمون، فوجه المأمون القاسم إلى جرجان.
وفيها: حاصر طاهر وهرثمة وزهير بن المسيب محمد بن هارون ببغداد.
وصفة ما جرى: أن زهير بن المسيب نزل قصراً بكلواذى، ونصب المجانيق
والعرادات، وحفر الخنادق، وجعل يخرج في الأيام عند اشتغال الجند بحرب
طاهر، فيرمي بالعرادات مَنْ أقبل وأدبر، ويعشر أموال التجار، وبلغ من
الناس كل مبلغ، فشكوا ذلك إلى طاهر، وبِلغ هرثمة ذلك فأمده بالجنود،
وسكت الناس، ونزل هرثمة نهر بين، وجعل عليه حائطاً وخندقَاً وأعد
المجانيق والعرادات، وأنزل عبد الله بن الوضاح الشماسية، ونزل طاهر
البستان بباب الأنبار، فانزعج لذلك الأمين، ونفد ما كان عنده، فأمر
ببيع ما في الخزائن من الأمتعة، وضرب آنية الذهب والفضة دنانير ودراهم،
وكان فيمن استأمن إلى طاهر: سعيد بن مالك بن قادم مولى ناجية، فولاه
ناحية البغيِّين والأسواق هنالك، وشاطئ دجلة، ووكل بطريق دار الرقيق
وباب الشام واحداً بعد واحد، وكثر الخراب والهدم حتى درست محاسن بغداد،
وأرسل طاهر إلى الأرباض من طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليها، فكل
ناحية أجابه أهلها خندق عليهم، ووضع مسالحه، ومن أبى قاتله وأحرق
منزله، فذلت الأجناد وتواكلت عن القتال، وبقي أهل السجون والأوباش
والرعاع والطرّارين، وكان حاتم بن الصقر قد أباحهم النهب. وخرج من
أصحاب طاهر رجل من أصحاب النجدة والبأس، فنظر إلى قوم عراة لا سلاح
معهم، فقال لأصحابه: ما يقابلنا إلا من أرى استهانة بهم. فقالوا: نعم،
هؤلاء هم الآفة. فقال: أفٍّ لكم حين تنكصون عن هؤلاء، ولا عُدّة لهم.
فأوتر قوسه وتقدم، فقصده أحدهم وفي يده باريّة مُقَيَّرة، وتحت إبطه
مخلاة فيها حجارة، فجعل الخراساني كلما رمى بسهم استتر منه العيَّار،
فيأخذه من باريته فيجعله في موضع من البارية قد هيأه لذلك كالجعبة
ويصيح: دانق، أي هذا ثمن النشابة. فأنفذ الخراساني سهامه، ثم حمل على
العيار ليضربه بالسيف، فأخرج العيار حجراً من مخلاته فجعله في مقلاع
ورماه، فما أخطأ عينه، ثم ثناه بآخر فكاد يصرعه عن فرسه، فكرّ راجعاً
وهو يقول: ليس هؤلاء بإنس، فحدَّث طاهراً بهذا فضحك وأعفاه من القتال
وقال في هذا بعض شعراء بغداد:
خَرَّجَتْ هذه الحروبُ رجالاً ... لا لقَحْطانِهَا ولا لنَزَارِ
معشراً في جواشِنِ الصُوفِ يغدو ... ن إلى الحرْب كالأسود الضَّواري
وعليهمْ مغافرُ الخوص تُجزي ... هم عن البيِض والتَراس البوارِي
ليس يدرونَ ما الفرارُ إذا الأبْ ... طالُ عافوا من القَنا بالفرارِ
واحدٌ منهمُ يَشُدُّ على أل ... فَينِ عُرْيانٌ مالَهُ من إزارِ
ويقول الفتى إذ طَعن الطع ... نةَ: خذها مِن الْفَتَى العيَّار
كم شريف قد أخملَتهُ وكم قد ... رفَعتْ من مُقامر طَرّارِ
ولم يزل طاهر يصاير محمداً وجنده حتى مل أهل بغداد، فاستأمر إلى طاهر
خلق من أصحاب محمد وقواده، فلما استأمن محمد بن عيسى صاحب شرطة محمد
استأمن محمد.
وفي هذه السنة: منع طاهر الملاحين وغيرهم من إدخال شيء إلى بغداد إلا
من كان في عسكره منهم ووضع الرصد عليهم بسبب ذلك.
وكان
السبب في فعله هذا: أن أصحابه نيل منهم بالجراح، فأمر بالهدم والإحراق،
فهدم دور من خالفه ما بين دجلة ودار الرقيق وباب الشام وباب الكوفة،
إلى الصراة وأرجاء أبي جعفر وربض حميد ونهر كرخايا والكناسة، وجعل يحوي
كل ناحية ويخندق عليها، فلما رأى أنهم لا يحفلون بالقتل والهدم والحرق
أمر بمنع التجار أن يجوزوا بشيء من الدقيق وغيره من المنافع، فغلت
الأسعار، واشتد الحصار وفرح من خرج، وتأسف من أقام.
ثم كانت بعد وقعات منها: وقعة بالكناسة، باشرها طاهر بنفسه، قتل فيها
خلق كثير من أصحاب محمد.
ومنها وقعة بدرب الحجارة، كانت على أصحاب طاهر، قتل فيها خلق كثير.
ومنها: وقعة بباب الشماسية، أسر فيها هرثمة، وكان هرثمة ينزل نهر بين،
وعليه حائط وخندق، وقد أعد المجانيق والعرادات، وقد أنزل عبيد الله بن
الوضاح الشماسية، وكان يخرج أحياناً فيقف بباب خراسان ساعة، ثم ينصرف،
وكان حاتم بن الصقر من أصحاب محمد، وكان قد واعد أصحابه العُراة
العيارين أن يوافوا عبد الله بن الوضاح ليلاً، فمضوا إليه مفاجأة،
وأوقعوا به وقعة أزالوه عن موضعه، فانهزم، وبلغ هرثمة الخبر، فأقبل
لنصرته، فأسر هرثمة، فضرب بعض أصحابه يد مَنْ أسره فقطعها، فتخلص،
فانهزم. وبلغ خبره أهل عسكره، فخرجوا هاربين نحو حلوان، ثم قام بنصرة
طاهر، فرجع إلى مكانه، وهرب عبد الله بن خازم بن خزيمة من بغداد إلى
المدائن في السفن بعياله وولده، فأقام بها، ولم يحضر القتال. وقيل: بل
كاتبه طاهر وحذّره قبض ضياعه واستئصاله، فحذره من الفتنة وسلم.
وتضايق على محمد أمره، ونفد ما كان عنده، وطلب الناس الأرزاق، فقال:
وددت أن اللّه قتل الفريقين جميعاً، هؤلاء يريدون مالي وأولئك يريدون
نفسي. وضعف أمره، وأيقن بالهلاك.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بتوجيه طاهر إياه على
الموسم بأمر المأمون بذلك.
وكان عامل مكة في هذه السنة: داود بن عيسى.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
شعيب بن حرب، أبو صالح المديني. سمع شعبة، والثوري، وزهير بن معاوية.
وروى عنه: أحمد بن حنبل وغيره. وكان من الثقات العلماء العُباد الآمرين
بالمعروف، المدققين في طلب الحلال.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت، أخبرنا البرقاني
قال: قرأت على أبي حفص الزيات، حدثكم أحمد بن الحسين الصوفي قال: سمعت
أبا حمدون المقرئ، واسمه: طيب بن إسماعيل يقول: ذهبنا إلى المدائن إلى
شعيب بن حرب، كان قاعداً على شط دجلة، وكان قد بنى كوخاً وخبز له
مُعلق، وإنما كان جلداً وعظماً، قال: فقال: أرى ها هنا بعد لحماً،
والله لا علم في دورنا به حتى أدخل إلى القبر وأنا عظام تقعقع، أريد
السمن للدود والحيات؟ قال: فبلغ أحمد بن حنبل قوله فقال: شعيب بن حرب
حمل على نفسه في الورع.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، أخبرنا رزق اللّه، أخبرنا أحمد بن محمد
بن يوسف، أخبرنا ابن صوفان، أخبرنا ابن أبي الدنيا، أخبرنا إبراهيم بن
عبد الملك قال: جاء رجل إلى شعيب بن حرب وهو بمكة فقال: ما جاء بك.
قال: جئت أؤنسك. قال: جئت تؤنسني وأنا أعالج الوحدة منذ أربعين سنة.
قال ابن أبي الدنيا: وحدّثني الحسن بن الصباحِ قال: سمعت شعيب بن حرب
يقول: لا تجلس إلا مع أحد رجلين: رجل يعلمك خيراً فتقبل منه، أو رجل
تعلمه خيراً فيقبل منك. والثالث اهرب منه.
أخبرنا ابن ناصر، أخبرنا عبد القادر بن محمد، أخبرنا أبو بكر بن علي
الخياط، أخبرنا ابن أبي الفوارس، أخبرنا أحمد بن جعفر بن سلم، أخبرنا
أحمد بن محمد بن عبد الخالق، أخبرنا المروزي قال: سمعت عبد الوهاب
يقول: كان ها هنا قوم خرجوا إلى المدائن إلى شعيب بن حرب، فما رجعوا
إلى دورهم، ولقد أقام بعضهم لم يستقِ الماء، وكان شعيب يقول لبعضهم
الذي يستقي الماء: لو رآك سفيان لقرت عينه.
قال المصنف رحمه الله: كان شعيب قد اعتزل الناس وأقام بالمدائن يتعبد،
ثم خرج إلى مكة، فتوفي بها بعلة البطن في هذه السنة. وقيل في سنة تسع
وتسعين.
عبيد بن وهب بن مسلم، أبو محمد، مولى لقريش. ولد في ذي القعدة سنة خمس
وعشرين ومائة، وطلب العلم وهو ابن سبع عشرة سنة.
أخبرنا
أبو القاسم، أخبرنا حمد بن أحمد، أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني، أخبرنا
أبي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني
قال: دخل ابن وهب الحمام فسمع قارئاً يقرأ: " وإذ يتحاجّون في النار "
فسقط مغشياً عليه، فغسلت عنه النورة وهو لا يعقل.
أخبرنا زاهر بن طاهر، أنبأنا أحمد بن الحسين البيهقي، أخبرنا أبو عبد
الله محمد بن عبد اللّه الحاكم قال: سمعت أبا إسحاق المزكي يقول: سمعت
محمد بن المسيب يقول: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: كتب الخليفة إلى
عبد الله بن وهب في قضاء مصر، فجنن نفسه ولزم البيت، فاطلع عليه رشدين
بن سعد من السطح فقال: يا أبا محمد، ألا تخرج للناس فتحكم بينهم كما
أمر الله ورسوله، قد جننت نفسك، ولزمت البيت. فال: إني ها هنا انتهى
عقلك، ألم تعلم أن القضاة يحشرون يوم القيامة مع السلاطين ويحشر
العلماء مع الأنبياء!؟.
توفي عبد اللّه بمصر في شعبان هذه السنة.
عبد الرحمن بن مسهر بن عمر وقيل: عمير أبو الهيثم الكوفي حدَّث عن هشام
بن عروة وغيره. وهو قاضي جَبُّل.
أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني الأزهري
قال: أخبرني ابن عروة وغيره، أخبرنا عبيد اللّه بن عثمان بن يحيى،
أخبرنا الحسين الأصفهاني قال: أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدّثني محمد
بن يزيد الضرير قال: حدّثني عبد الرحمن بن مسهر قال: ولاني أبو يوسف
القاضي القضاء بجَبُّل، وبلغني أن الرشيد ينحدر إلى البصرة، فسألت أهل
جبُّل أن يثنوا عليَّ، فوعدوني أن يفعلوا ذلك إذا انحدر، فلما قرب منا
سألتهم الحضور، فلم يفعلوا وتفرقوا، فلما آيسوني من أنفسهم سرحت لحيتي
وخرجت له، فوقفت فوافى وأبو يوسف معه في الحراقة، فقلت: يا أمير
المؤمنين، نعم القاضي قاضي جبل، قد عدل فينا وفعل وصنع، وجعلت أثني على
نفسيِ، ورآني أبو يوسف فطأطأ رأسه وضحك، فمَال له الرشيد: مم ضحكت؟
فقال: المُثني على القاضي هو القاضي. فضحك هارون حتى فحص برجليه وقال:
هذا شيخ سخيف سفلة فاعزله، فعزلني. فلما رجع جعلت أختلف إليه وأسأله أن
يوليني قضاء ناحية أخرى، فلم يفعل. فحدثت الناس عن مجالد، عن الشعبي أن
كنية الدجال: أبو يوسف، وبلغه ذلك، فقال: هذه بتلك، فحسبك وصر إلي حتى
أوليك ناحية أخرى. ففعل، وأمسكت عنه.
قال يحيى: عبد الرحمن بن مسهر ليس بشيء.
وقال النسائي: هو متروك الحديث.
عثمان بن سعيد، أبو سعيد، الملقب: وَرْش. روى عن نافع القراءة، وهو من
أعلام أصحابه، توفي في هذه السنة.
وكيع بن الجراح بن عدي بن فرس بن جمحة، أبو سفيان الرؤاسي الكوفي. ولد
سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل سنة ثمان.
وسمع إسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، والأعمش، وابن عون، وابن
جريج والأوزاعي، وسفيان وخلقاً كثيراً.
وحدَث وهو ابن ثلاث وثلاثين، فروى عنه ابن المبارك، وقتيبة، وأحمد،
ويحيى. وأحضره الرشيد ليوليه القضاء فامتنع.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا
الجوهري، أخبرنا علي بن محمد بن لؤلؤ، حدثنا محمد بن سويد الزيات،
أخبرنا أبو يحيى الناقد، أخبرنا محمد بن خلف التيمي قال: سمعت وكيعاً
يقول: أتيت الأعمش فقلت: حدّثني: فقال لي: ما اسمك؟ قلت: وكيع. فقال:
اسم نبيل، وما أحسب إلا سيكون لك نبأ، أين تنزل من الكوفة؟ قلت: في بني
رؤاس. قال: أين من منزل الجراح بن مليح؟ قلت: ذاك أبي، وكان أبي على
بيت المال. قال: اذهب فجئني بعطائي وتعال حتى أحدثك بخمسة أحاديث. قال:
فجئت أبي فأخبرته، فقال: خذ نصف العطاء واذهب به، فإذا حدثك بالخمسة
فخذ النصف الآخر فاذهب به حتى تكون عشرة. قال: فأتيته بنصف عطائه،
فأخذه فوضعه في كفه، ثم سكت، فقلت حدثني. فقالت: اكتب. فأملى عليً
حديثين. قال: قلت: وعدتني خمسة. قال: فأين الدراهم كلها. أحسب أن أباك
أمرك بهذا، ولم يعلم أن الأعمش قد شهد الوقائع، اذهب وجئ بتمامها كلها
وتعال أحدثك خمسة أحاديث. قال: فجئته فحدثني بخمسة. قال: فكان إذا كان
كل شهر جئته بعطائه فحدثني بخمسة أحاديث.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا الأزهري، حدّثنا عبيد
اللّه بن عثمان الزيات، حدَثنا علي بن محمد المصري قال: حدثني عبد
الرحمن بن حاتم المراعي قال: حدثني أسد بن عفير قال: حدّثنيِ رجل من
أهل هذا الشأن من أهل المروة والأدب قال: جاء رجل إلى وكيع فقال له:
إني أمتُ إليك بحرمة. قال: وما حرمتك؟ قال: كنت تكتَب من محبرتي في
مجلس الأعمش. قال: فوثب وكيع فأخرج له من منزله صرة فيها دنانير وقال:
أعذرني، فإني ما أملك غيرها.
حدَثنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني
إبراهيم بن عمر البرمكي، حدَّثنا عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان،
أخبرنا محمد بن أيوب بن المعافى قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: سمعت
أحمد بن حنبل ذكر لِوماً وكيعاً فقال: ما رأت عيني مثله قط، يحفظ
الحديث جيداً، ويذاكر بالفقه فيحسن، مع ورع واجتهاد، ولا يتكلم في أحد.
أخبرنا أبو منصور بن خيرون، أخبرنا إسماعيل بن مسعدة، أخبرنا حمزة بن،
يوسف، أخبرنا أبو أحمد بن عدي قال: قال يحيى بن معين، حدّثنا قتيبة،
حدَثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لما مات لم يدفن حتى ربا بطنه وانتشرت خنصراه. قال
قتيبة: حدث بهذا الحديث وكيع وهو بمكة، وكانت سنة حج فيها الرشيد
فقدموه إليه، فدعا الرشيد سفيان بن عيينة، وعبد المجيد بن عبد العزيز
بن أبي رواد، فأما عبد المجيد فقال: يجب أن يقتل هذا، فإنه لم يرو هذا
إلا وفي قلبه غش للنبي صلى الله عليه وسلم.
فسأل الرشيد سفيان بن عيينة فقال: لا يجب عليه القتل رجل سمع حديثاً
فرواه، لا يجب عليه القتل، إن المدينة شديدة الحر، توفي النبي صلى الله
عليه وسلم يوم الاثنين، فنزل إلى قبره ليلة الأربعاء لأن القوم كانوا
في صلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم، واختلفت قريش الأنصار، فمن ذلك
تغيّر.
قال قتيبة: فكان وكيع إذا ذكر له فعل عبد المجيد قال: ذلك رجلٌ جاهل،
سمع حديثاً لم يعرف وجهه، فتكلم بما تكلم.
توفي وكيع بفيد في هذه السنة وهو ابن ست وستين سنة.
ثم دخلت
سنة ثمان وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها: استئمان خزيمة بن خازم إلى طاهر بن الحسين، ومفارقته
محمداً. وسبب ذلك: أن طاهراً كتب إلى خزيمة، فشاور مَنْ يثق به،
فقالوا: نرى والله أن هذا الرجل أخذ بقفا صاحبنا عن قليل، فاحتل لنفسك
ولنا. فكتب إلى طاهر بطاعته، وكتب طاهر بن محمد بن علي بن عيسى بن
ماهان بمثل ذلك، فلما كان ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرم وثب
خزيمة ومحمد بن علي بن عيسى بن ماهان على جسر دجلة فقطعاه، وركبا
أعلامهما عليه، وخلعا محمداً ودعوا للمأمون، وغدا طاهر يوم الخميس على
المدينة الشرقية وأرباضها والكرخ وأسواقها، وهدم قنطرتي الصراة العتيقة
والحديثة، واشتد عندهما القتال، وباشر طاهر القتال بنفسه، فهزم أصحاب
محمد ودخل قسراً، وأمر مناديه فنادى: الأمان لمن لزم منزله. ووضع بقصر
الوضاح وسوق الكرخ والأطراف قواداً وجنداً، وقصدوا مدينة أبي جعفر
فأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد ورمى، فخرج محمد بأمه وولده مما كان
يصل إليه من حجارة المنجنيق إلى مدينة أبي جعفر، وتفرق عنه عامة أصحابه
وخصيانه وجواريه إلى السكك والطرق لا يلوي أحد منهم على أحد، وتفرق
الغوغاء والسفلة، وأمر ببسطه ومجالسه أن تحرق فأحرقت.
وفي هذه السنة: قتل محمد بن هارون، وذلك أنه لما تيقن محمد أنه لا عدة
له للحصار، وخاف أن يُظفر به وبأصحابه صار إليه حاتم بن الصقر، ومحمد
بن إبراهيم بن الأغلب الإفريقي وقواده، فقالوا: قد آلت حالك وحالنا إلى
ما ترى، وقد رأينا رأياً نعرضه عليك فانظر فيه، فإنا نرجو أن يكون
صواباً. قال: ما هو. قالوا: قد تفرق عنك الناس، وأحاط بك عدوك من كل
جانب، وقد بقي من خيلك معك ألف فرس، فنرى أن تختار مَنْ قد عرفناه
بمحبتك من الأبناء مع ألف رجل، ونخرج ليلاً من هذه الأبواب حتى نلحق
بالجزيرة والشام، فتفرض الفروض، وتجبي الخراج، وتصير في مملكة واسعة،
ويسارع إليك الناس. فقال: نعم ما رأيتم. واعتزم على ذلك.
فخرج
الخبر إلى طاهر، فكتب إلى سليمان بن أبي جعفر، وإلى محمد بن عيسى بن
نهيك، وإلى السندي بن شاهك: والله لئن لم ترعوه عن هذا الرأي لا تركت
لكم ضيعة إلا قبضتها، ولا يكون لي ضيعة إلا أنفسكم. فدخلوا على محمد
فقالوا: قد بلغنا الذي عزمت عليه، ولسنا نأمن الذين تخرج معهم أن
يأخذوك أسيراً ويأخذوا رأسك، فيتقربوا بك.
فأضرب عما كان عزم عليه، ومال إلى طلب الأمان، فلما اشتد الحصار عليه
فارقه سليمان بن أبي جعفر، وإبراهيم بن المهدي، ومحمد بن عيسى بن نهيك،
ولحقوا جميعاً بعسكر المأمون، وقال له السندي: بادر بنا إلى هرثمة،
واخرج ليَلاً، فغضب طاهر، وأراد أن يخرج إليه. فقيل له يخرج إلى هرثمة
لأنه يأنس به، ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة. فقيل لطاهر: هذا مكر
منه، وإن الخاتَم والقضيب والبردة تحمل معه إلى هرثمة.
فاغتاظ وكمن حول القصر كميناً بالسلاح، وذلك ليلة الأحد لخمس مضين من
المحرم سنة ثمان وأربعين ومائة، وذلك لخمس وعشرين من أيلول.
فلما أراد الخروج استسقى ماءً، فلم يوجد له، فدعا بولديه فضمهما إليه
وقبلهما وقال: استودعكما الله. وجعل يمسح دموعه، ولبس ثياب الخلافة،
وركب يريد هرثمة، وبين يديه شمعة. فلما انتهى إلى دار الحرس قال
لخاثمه: اسقني من جباب الحرس. فناوله كوزاً، فعافه لزهوكته، فلم يشرب
منه، فلما أن سار في الحراقة خرج طاهر وأصحابه فرموا الخراقة بالسهام
والحجارة فانكبت الحراقة، فغرق محمد ومَنْ كان فيها، فشق محمد ثيابه
وسبح حتى عبر، فصار إلى بستان موسى، فعرفه محمد بن حميد الطاهري، فصاح
بأصحابه، فنزلوا فأخذوه، فبادر محمد الماء، فأخذوا بساقيه، ثم حمل على
برذون وألقي عليه إزار من أزُر الجند غير مفتول، وحمل إلى منزل إبراهيم
بن جعفر البلخي، وكان بباب الكوفة، وأردف رجل خلفه ليلاً يسفط كما
يُفعل بالأسير. وقيل إنه عرض على الذين أخذوه مائة حبة، كل حبة قيمتها
مائة ألف، فأبوا أن يتركوه، وجاء الخبر بذلك إلى طاهر بن الحسين، فدعا
مولى له يقال له: قريش الدنداني، فأمره بقتل محمد، فلما انتصف الليل
فتح الدار قوم من العجم، بأيديهم السيوف مسللة، فلما رآهم قام قائماً
وقال: " إن لله وإنا إليه راجعون " ذهبت والله نفسي في سبيل الله، أما
من حيلة، أما من مغيث!؟ فلما وصلوا إليه أحجموا عن الإقدام، وجعل بعضهم
يقول لبعض: تقدم. فأخذ محمد بيده. ساعة وجعل يقول: ويحكم، إني ابن عم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن هارون، وأخو المأمون، الله الله في
دمي. فدخل عليه رجل يقال له: حميرويه - غلام لقريش الدنداني - فضربه
بالسيف ضربة وقعت على مقدم رأسه، وضرب وجهه بالوسادة التي كانت في يده،
ودخل جماعة، فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته، وركبوه فذبحوه ذبحاً من
قفاه، وأخذوا رأسه، فمضوا به إلى طاهر، وتركوا جثته، فنصب طاهر الرأس
على رمح على برج حائط البستان الذي يلي باب الأنبار، وفتح باب الأنبار،
وتلى: " قل اللهم مالك الملك " .
وخرج من أهل بغداد من لا يحصى عدده ينظر إليه، ثم بعث برأسه إلى
المأمون مع الرداء والقضيب والبردة، فأمر له بألف ألف دينار، فأدخل ذو
الرياسيتين الرأس بيده على ترس إلى المأمون، فلما رآه سجد، وأعطى طاهر
بعد قتل محمد الناس كلهم الأمان، وهدأ الناس، ودخل طاهر المدينة يوم
الجمعة، فصلى بالناس وخطبهم، وحض على الطاعة ولزوم الجماعة، وانصرف إلى
معسكره.
وفي هذه السنة: وثب الجند بعد مقتل محمد بخمسة أيام بطاهر، وشهرو
السلاح، ونادوا: يا منصور. فهرب منهم طاهر، وتغيب أياماً حتى أصلح
أمرهم.
وكان السبب أنه لم يكن عنده مال، فضاق به الأمر فهرب، وانتهب بعض
متاعه، مضى إلى عقرقوف، وتهيأ لقتالهم بمن معه من القواد، فأتوه
واعتذروا، وأحالوا على السفهاء والأحداث، وسألوه الصفح عنهم، فأمر لهم
برزق أربعة أشهر، وكان قد أمر حفظ أبواب المدينة، وباب القصر على أم
جعفر، وموسى، وعبد اللهّ ابني محمد، ثم أمر بتحويل زبيدة وموسى وعبد
اللهّ معها من قصر أبي جعفر إلى الخُلد، فحُوّلوا ليلة جمعة لاثنتي
عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول، ثم أمر بحمل موسى وعبد اللهّ إلى عمهما.
وفي هذه
السنة: ورد كتاب المأمون بعد قتل محمد على طاهر وهرثمة بخلع القاسم بن
هارون، فأظهرا ذلك، ووجها كتبهما به، وقرئ الكتاب بخلعه يوم الجمعة
لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأوّل.
وفي هذه السنة بويم للمأمون البيعة العامة.
باب ذكر خلافة المأمون
واسمه: عبد اللهّ بن هارون الرشيد، وكان يكنى أبا العباس في أيام
الرشيد، وكان في خلافته تكَنَى بأبي جعفر تفاؤلاً بكنية المنصور
والرشيد في طول العمر.
ولد ليلة استخلف الرشيد في ربيع الأول سنة سبعين، وكان أبيض، أقنى،
أعين، جميلاً، طويل اللحية، قد وخطه الشيب، ضيّق الجبهة، بخده خال أسود
يعلوه صفرة، ساقاه دون سائر جسده صفراوين كأنهما طليا بالزعفران،
وأمُّه أمة اسمها مراجل، ماتَ بعد ولادته بقليل، فسلمه الرشيد إلى سعيد
الجوهري، وكان من زمن صغره فطناً ذكيَاً.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب قال: أخبرني الأزهري قال: حدّثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال:
قال أبو محمد اليزيدي: كنت أؤدب المأمون وهو في حجر سعيد الجوهري. قال:
فأتيته يوماً وهو في داخل، فوجهت إليه بعض خدمه يعلمه بمكاني، فأبطأ
عليَّ، ثم وجهت آخر فأبطأ علي، فقلت لسعيد: إن هذا الفتى ربما تشاغل
بالبطالة وتأخر. فقال: أجل، ومع هذا إذا فارقك عزم على خدمه، ولقوا منه
أذى شديداً، فقومه بالأدب، فلما خرج أمرت بحمله فضربته سبع درر. قال:
فإنه ليدلك عينه من البكاء إذ قيل: هذا جعفر بن يحيىِ قد أقبل، فأخذ
منديلاً فمسح عينيه، وجمع ثيابه، وقام إلى فراشه، فقعد عليه متربعاً
وقال: ليدخل. فدخل، فقمت إلى المجلس، وخفت أن يشكوني إليه، فألقى منه
ما أكره، فأقبل عليه بوجهه وحدثه حتى أضحكه، وضحك إليه، فلما هَم
بالحركة دعى بدابته، وأمر غلمانه فسعوا بين يديه، ثم سأل عني، فجئت
فقال: خذ علي ما بقي من جزئي، فقلت: أيها الأمير، أطال الله بقاءك، لقد
خفت أن تشكوني إلى جعفر بن يحيى، ولو فعلت ذلك لتنكر لي. فقال: أتراني
يا أبا محمد كنت أطلع الرشيد على هذا، فكيف بجعفر بن يحيى حتى أطلعه
أني أحتاج إلى أدب، أدَبْ يغفر الله لك بُعد ظنك، خذ في أمرك، فقد خطر
ببالك ما لا تراه أبداً، ولو عدت كل يوم مائة مرة.
وروى الطالقاني قال: قال الرشيد لأبي معاوية الضرير وهشيم: إني أسمع من
ابني هذا - يعني المأمون - كلاماً لست أدري أمن تلقين القيم عليه هو أم
من قريحة؟ فادخلا إليه، فناظراه وأسمعا منه، وأخبراني بما تقفان عليه.
فدخلا عليه وهو في أثواب صباه، فقالا له: إن أمير المؤمنين أمرنا
بالدخول عليك ومناظرتك، فأي العلوم أحب إليك. قال: أمتعها لي. قالا:
وما أمتعها لك. قال: أثبتها عن ثقة، وأقربها من أفهام مستمعيها. فقال
له هشيم: جئناك لنعلمك فتعلمنا. ثم أخبرا الرشيد فقالا: إن هذا شيء
أوله لحقيق أن يرجى آخره، ثم أعتق عنه مائة عبد وأمة، وألزمها خدمته.
وبلغنا أن أم جعفر عاتبت الرشيد على تقريبه المأمون دون ابنها محمد،
فدعا خادماً بحضرتها، وقال له: وجه إلى عبد الله ومحمد خادمين حصيفين
يقولان لكل واحد منهما على الخلوة: ما يفعل به إذا أفضت الخلافة إليه؟.
فأما محمد فقال للخادم الذي مضى إليه: أقطعك وأوليك وأبلغ لك. وأما
المأمون فرمى الخادم بالدواة وقال: يا ابن اللخناء تسلني ما أفعل بك
بموت أمير المؤمنين؟ بل نكون جميعاً فداء له. فرجع بالخبر كل منهما.
فقال لأم جعفر: كيف ترين ما أقدم ابنك إلا متابعة لرأيك وتركاً للجزع،
وقد كان المأمون يعنى بالعلم قبل ولايته كثيراً حتى جعل لنفسه مجلس
نظر.
أخبرنا
ابن ناصر قال أخبرنا أبو الحسين بن أيوب قال: أخبرنا أبو علي بن شاذان
قال: أخبرنا أبو علي الطوماري قال: أخبرنا أبو الحسين بن الفهم قال:
حدًثنا يحيى بن أكثم قال: كان المأمون قبل تقلده الخلافة يجلس للنظر،
فدخل يهودي حسن الوجه، طيب الرائحة، حسن الثوب، فتكلم فأحسن الكلام،
فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال له: إسرائيلي؟ قال: نعم. قال: أسلم
حتى أفعل لك وأصنع. فقال: ديني ودين آبائي فلا تكشفني. فتركه، فلما كان
بعد سنة جاءنا وهو مسلم، فتكلم في الفقه، فأحسن الكلام، فلما تقوض
المجلس دعاه المأمون فقال: ألست صاحبنا؟ قال: نعم. قال: أي شيء دعاك
إلى الإسلام، وقد كنت عرضته عليك فأبيت. قال: إِني أحسن الخط، فمضيت
فكتبت ثلاث نسخ من التوراة، فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة، فبعتها،
فاشتُريت. قال: وكتبت ثلاث نسخ من الإنجيل، فزدت فيها ونقصت فأدخلتها
إلى البيعة فاشتريت مني. قال: وعمدت إلى القرآن فكتبت ثلاث نسخ فزدت
فيها ونقصت، وأدخلتها إلى الوراقين، فكلما تصفحوها قرأوا الزيادة
والنقصان ورموا بها، فعلمت أن هذا الكتاب محفوظ، فكان سبب إسلامي.
قال يحيى بن أكثم: فحججت فرأيت سفيان بن عيينة فحدثته بهذا الحديث فقال
لي: مصداق هذا في كتاب الله عز وجل. قلت: في أي موضع؟ قال: في قوله عز
وجل في التوراة والإنجيل: " بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه
شهداء " فجعل حفظه إليهم فضاع. وقال الله عز وجل: " إنا نحن نزلنا
الذكر وإنا له لحافظون " فحفظه الله تعالى علينا فلم يضع.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الحصين بن أبي بكر
قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الشافعي قال: حدثنا عمر بن حفص السدوسي
قال: حدَّثنا محمد بن يزيد قال: استخلف المأمون في المحرم سنة ثمان
وتسعين أو مائة، وقد سُلّم عليه بالخلافة قبل ذلك ببلاد خُراسان نحو
سنتين، وخلع أهل خراسان وغيرها محمد بن هارون.
فصل
ولما استوثق الأمر للمأمون ولى الحسن بن سهل كل ما افتتحه طاهر بن
الحسين من كور الجبال وفارس والأهواز والكوفة والبصرة والحجاز واليمن،
وكتب المأمون إلى طاهر بتسليم جميع ما في يده من الأعمال في البلدان
إلى خلفاء الحسن بن سهل، وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب، فقدم
علي بن سعيد الوراق خليفة الحسن بن سهل على خراجها، فدافع طاهر علياً
بتسليم الخراج إليه حتى وَفى الجند أرزاقهم، ثم سلم إليه العمل.
ذكر طرف من أخبار المأمون وسيرته كان المأمون يحفظ القرآن، وقد سمع
الحديث من مالك بن أنس، وحماد بن زيد، وهشيم، وغيرهم، وكان له حظ من
علوم كثيرة، وأسند الحديث.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرني
الخلال قال: حدَثنا عبد الله بن أحمد بن يعقوب قال: حدَثنا أحمد بن عبد
الله الوكيل قال: حدًثنا القاسم بن محمد بن عباد قال: سمعت أبي يقول:
لم يحفظ القرآن من الخلفاء إلا عثمان والمأمون، وكان المأمون يقرأ
القرآن كثيراً، فروى عنه نحو الرئاستين أنه ختم في رمضان ثلاثة وثلاثين
ختمة، وكان يحفظ الحديثَ ويرويه.
أنبأنا محمد بن ناصر قال: أنبأنا عبد اللّه بن أحمد السمرقندي قال:
أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الكتاني قال: أنبأنا أبو حامد محمد بن عبد
الله النيسابوري قال: حدَّثنا أبو الحسن السليطي قال: حدثنا أبو العباس
عيسى بن محمد بن عيسى المروزي قال: حدَثنا محمد بن قدامة السلمي صاحب
ابن شميل، حدَّثنا أبو حذيفة البخاري قال: سمعت المأمون أمير المؤمنين
يحدًث عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" مولى القوم منهم " وقال مرة: " مولى القوم من أنفسهم " .
قال محمد بن قدامة: بلغ المأمون أن أبا حذيفة حدث بهذا الحديث عنه،
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
أنبأنا
زاهر بن طاهر قال: أنبأنا أحمد بن الحسين البيهقي قال: أخبرنا الحاكم
أبو عبد الله محمد بن عبد الله، قال: حدثني أبو علي منصور بن عبد الله
بن خالد المروزي قال: حدًثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن حمدوية
قال: حدثنا إبراهيم بن يونس بن مروان الضبي قال: حدثني نصر بن منصور
الطفاوي قال: حدثنا أبو عمر الحوضي قال: لما دخل المأمون مصر قام إليه
فرج الأسود مولاه، فقال: يا أمير المؤمنين، الحمد لله الذي كفاك أمر
عدوك، ودان لك العراقان والشامان ومصر وخراسان، وأنت ابن عم رسول الله
صلى الله عليه وسلم والعالم به. فقال: ويحك يا فرج، قد بقيت لي خلة.
قلت: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: جلوسي في عسكر، ومستمل يجيء فيقول:
من ذكرت رضي الله عنك؟ فأقول: حدَثنا الحمادان: حماد بن سلمة وحماد بن
زيد قالا: حدَثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " من عال ابنتين أو أختين أو ثلاثة حتى يمتن أو يموت
عنهن كان معي في الجنة كهاتين " فأومأ حماد بن سلمة بالوسطى والإبهام.
قال الحاكم: وسمعت أبا الحسين محمد بن محمد بن يعقوب الحافظ يقول: سمعت
أبا العباس محمد بن إسحاق يقول: سمعت محمد بن سهل يقول: كنت بالمصيصة
وبها المأمون أمير المؤمنين، فأذن يوماً للناس فقام إليه شاب وبيده
محبرة، فقال: يا أمير المؤمنين، صاحب حديث منقطع به فقال له المأمون:
أي شيء تحفظ من باب كذا؟ فلم يذكر الفتى شيئاً، فما زال المأمون يقول:
حدَّثنا هشيم، وحدًثنا أبو الأحوص، وحدثنا وكيع، حتى ذكر الباب، ثم
قال: وإيش تحفظ في باب كذا؟ فلم يذكر الفتى شيئاً، فما زال المأمون
يقول: حدَّثنا حجاج بن محمد، وحدَثنا فلان وفلان، حتى ذكر الباب، ثم
التفت إلى الفضل فقال: أحدهم يطلب الحديث ثلاثة أيام ثم يقول أنا من
أصحاب الحديث، أعطوه ثلاثة آلاف درهم.
أخبرنا هبة الله بن أحمد الحرسي قال: أخبرنا إبراهيم عن عمر البرمكي
قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد بن خلف قال: أخبرنا أحمد
بن علي الطبري قال: حدثنا محمد بن داود قال: حدثنا محمد بن عون قال:
سمعت ابن عيينة يقول: جمع أمير المؤمنين العلماء وجلس للناس، فجاءت
امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين، مات أخي وخلف ستمائة دينار، أعطوني
ديناراً واحداً وقالوا: هذا نصيبك. قال: فحسب المأمون ثم قال: هكذا
نصيبك رحمك الله، فقالت العلماء: كيف علمت يا أمير المؤمنين؟ فقال لها:
هذا الرجل خلف أربع بنات. قالت: نعم. قال: فلهما الثلثان أربعمائة وخلف
والدة فلها السدس مائة، وخلف زوجة فلها الثمن خمسة وسبعون ديناراً،
بالله لك اثنا عشر أخاً. قالت: نعم. قال: أصابهم ديناران ديناران،
وأصابك دينار.
أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا محفوظ بن أحمد الفقيه قال: أخبرنا أبو علي
محمد بن الحسين الجازري قال: حدَّثنا المعافى بن زكريا قال: أخبرنا
محمد بن يحيى الصولي قال: حدَثنا الحسين بن يحيى الكاتب قال: حدُّثنيِ
مَنْ سمع قحْطَبة بن حميد بن قحطبة يقول: حضرت المأمون يناظر محمد بن
القاسم النوشجاني يقول في شيء ومحمد يفضي له ويصدقه. فقال له المأمون:
أراك تنقاد لي إلى ما ترى أنه يسرني قبل وجوب الحجة عليك، ولو شئت أن
أقيس الأمور بفضل بيان، وطول لسان، وأبهة الخلافة، وسطوة الرئاسة
لصُدقت وإن كنت كاذباً، وصُوبت، وإن كنت مخطئَاً وعُدلت، وإن كنت
جائراً، ولكن لا أرضى إلا بإزالة الشبهة، وغلبة الحجة، وإن شر الملوك
عقلاً وأسخفهم رأياً من رضي بقولهم: صدق الأمير.
قال: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا القاضي أبو العلا الواسطي قال: حدثنا علي بن عمر الحافظ قال:
حدثنا الكوكبي قال: حدَّثنا أبو عكرمة الضبي قال: حدثني ابن الأعرابي
قال: بعث إلي المأمون فصرت إليه وهو في بستان يحيى بن أكثم، فرأيتهما
موليين، فجلست، فلما أقبلا قمت فسلمت عليه بالخلافة، فسمعته يقول
ليحيى: يا أبا محمد، ما أحسن أدبه، رآنا موليين فجلس، ثم رآنا مقبلين
فقام ثم ردّ السلام وقال: يا محمد، أخبرني عن أحسن ما قيل في الشراب
فقلت: يا أمير المؤمنين، قوله:
تريك القذى من دون وهى دونه ... إذا ذاقها مَنْ ذاقها يتمنطق
فقال: أشعر منه الذي يقول: - يعني أبا نواس
فتمشَّتْ
في مفاصِلِهم ... كتمشّي البُرْءِ في السقم
فعلت في البيت إذ مزجت ... مثل فعل الصبح في الظلم
واهتدى ساري الظلام بها ... كاهتداءِ السَّفْر بالعلم
فقلت: فائدة يا أمير المؤمنين. فقال: أخبرني عن قول هند بنت عتبة:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
مَنْ طارق هذا؟ قال: فنظرت في نسبها فلم أجده. فقلت: يا أمير المؤمنين،
ما أعرف في نسبها! فقال: إنما أرادت النجم، فانتسبت إليه لحسنها، من
قول الله عز وجل: " والسماء والطارق " . فقلتَ: فائدتان يا أمير
المؤمنين قال: أنا بؤبؤ هذا الأمر أو أنت بؤبؤه. ثم دفع إليَّ بعنبرة
وكان يقلبها في يده، فبعتها بخمسة آلاف درهم.
حدَثنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرني
الأزهري قال: حدَّثنا محمد بن جامع قال: حدَثنا أبو عمر الزاهد قال:
حدَّثنا المبرد قال: حدَثني عمارة بن عقيل قال: قال لي ابن أبي حفصة
الشاعر: أعلمت أن أمير المؤمنين لا يبصر الشعر!؟ فقلت: ومَنْ يكون أفرس
مَنه!؟ والله إنا لننشد أول البيت فيسبق إلى آخره من غير أن يكون سمعه.
قال: إني أنشدته شيئاً أجدت فيه، فلم أره تحرك له، فأسمعه:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلاً ... بالدين والناس بالدنيا مشاغيل
فقلت: ما زدته على أن جعلته عجوزاً في محرابها في يدها سبحة، فمن يقوم
بأمر الدنيا إذا كان مشغولاً عنها، وهو المطوق بها؟ ألا قلت كما قال
جرير لعمر بن عبد العزيز:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: حدَثنا أحمد بن علي قال: أخبرنا يحيى بن
الحسن بن المنذر قال: حدَثنا إسماعيل بن سعيد المعدل قال: حدَثنا أبو
بكر بن دريد قال: حدَثنا الحسن بن خضر قال: سمعت ابن أبي دؤاد يقول:
أدخل رجل من الخوارج على المأمون فقال: ما حملك على خلافنا؟ قال: آية
في كتاب اللّه عز وجل. قال: وما هي؟ قال: قوله: " ومن لم يحكم بما أنزل
اللّه فأولئك هم الكافرون " قال له المأمون: ألك علم بأنها منزلة؟ قال:
نعم. قال: وما دليلك؟ قال: إجماع الأمة. قال: فكما رضيت بإجماعهم في
التنزيل فارضَ بإجماعهم في التأويل. قال: صدقت، السلام عليك يا أمير
المؤمنين.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني الحسن
بن محمد الخلال قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران قال: حدَّثنا محمد
بن الحسن بن محمد الموصلي قال: حدَثنا عبد الله بن محمود المروزي قال:
سمعت يحيى بني أكثم يقول: ما رأيت أكمل آلة من المأمون. وجعل يحدث
بأشياء استحسنها من كان في مجلسه. ثم قال: كنت عنده ليلة أذاكره
وأحدثه، ثم نام وانتبه وقال: يا يحيى، انظر أيش عند جلي. فنظرت فلم أر
شيئَاً. فقال: شمعة، فتبادر الفراشون. فقال؟ انظروا، فنظروا، فإذا تحت
فراشه حية بطوله، فقتلوها، فقلت: قد انضاف إلى كمال أمير المؤمنين علم
الغيب. فقال: معاذ الله، ولكن هتف بي هاتف الساعة وأنا نائم:
يا راقد الليل انتبه ... إن الخطوب لها سرى
ثقة الفتى بزمانه ... ثقة محللة العرى
فانتبهت، فعلمت أن قد حدث أمر إما قريب، وإما بعيد. فتأملت ما قرب فكان
ما رأيت.
أنبأنا محمد بن ناصر الحافظ قال: أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد الفقيه
قال: أخبرنا ابن دودان قال: أخبرنا المرزباني قال: أخبرنا ابن دريد، عن
أبي العيناء قال: قصد أعرابي المأمون فوقف على بابه سنة لا يصل إليه،
فصاح الأعرابي يوماً: نصيحة، نصيحة. قال: فأدخل على المأمون فقال له:
يا أعرابي، ما نصيحتك؟ قال: يا أمير المؤمنين، رأيت البارحة رؤيا، وقد
أحببت أن تفسرها لي. فتبسم المأمون وقال: ما الرؤيا؟ فأنشأ يقول:
إني رأُيتك في منامي سيدي ... يا ابن الإمام على الجواد السابق
وكسوتني حللاً طرائف حسنها ... يزهو لديَ مع الكميت الفائق
فقال المأمون: ادفعوا إلى الأعرابي خلعة وفرساً كميتاً بسرجه ولجامه.
فلما دفع إليه قال: يا أمير المؤمنين:
وأجزتني بخريطة مملوءة ... ذهبَاً وأخرى باللجين الفائق
فقال
المأمون: يدفع إليه ألف دينار، وألف درهم، فقبض ذلك وأنشأ يقول:
وأجزتني بخريدة روميةٍ ... حسناء تشفع بالغلام الفائق
فقال المأمون: يدفع إليه ذلك، ثم قال: يا أعرابي، إياك أن ترى مثل هذه،
فربما لم تجد مَنْ يفسرها لك.
أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزار قال: أنبأنا أبو القاسم التنوخي قال:
حدَثنا أبو بكر أحمد بن عبد الله الدوري قال: حدّثَنَا أبو جعفر محمد
بن حمزة بن أحمد الهاشمي قال: حدَّثني محمد بن أبي جمعة النحاس، عن عمر
بن أبي سليمان بن عبد اللّه بن علي بن عبد الله بن العباس قال: كنت
يوماً بين يدي المأمون، فجعل لا يمر عليه غلام من غلمانه إلا أعتقه،
وعلى رأسه غلام نظيف، نظيف الثياب، وكنت أحب أن يعتقه فيمن يعتق، فلما
تنحى الغلام قلت: يا أمير المؤمنين، رأيتك لا يمر أحد من غلمانك إلا
أعتقته وعلى رأسك غلام من صفته وحاله، وكنت أحب أن تعتقه. فقال: حدثني
أبي، عن آبائه يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "
طينة المُعتَق من طينة المُعتِق " والذي رأيته على رأسي حجام، فكرهت أن
يكون من طينتنا حجام.
أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا ابن المبارك عبد الجبار قال: أخبرنا
الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال: حدَثنا المقدمي، عن الحارث بن محمد
قال: أخبرني بعض أصحابنا قال: بكّر أحمد بن أبي خالد يقرأ على المأمون
قصصاً، فجاع، فمرت به قصة فيها فلان بن فلان اليزيدي، فقرأ: الثريدي.
فقال المأمون: يا غلام، صحفة مملوءة ثريداً لأبي العباس، فإنه أصبح
جائعاً. فاستحيى وقال: ما أنا بجائع، ولكن صاحب القصة أحمق، نقط على
الياء ثلاث نقط. فقال: ما أنفع جمعه لك. فأحضرت الصحفة مملوءة ثريداً
وعراقاً وودكاً، فخجل أحمد، فقال له المأمون: بحياتي لما ملت إليها
فأكلت. فعدل فأكل حتى اكتفى وغسل يده، وعاود القراءة، ومرت قصة فلان بن
فلان الحمصي، فقرأ: الخبيصي فقال المأمون: يا غلام، جام مملوءٌ خبيصاً
لأبي العباس، فإن طعامه كان مبتوراً. فاستحيى وقال: يا سيدي، صاحب
القصة أحمق، فتح الميم فصارت سنتين. فقال: لولا حمقه وحمق صاحبه مت
اليوم جوعاً، فأتي بجام مملوء خبيصاً، فخجل، فقال المأمون: بحياتي إلا
ملت نحوه فأكلت. فأكل وغسل يده، وعاود القراءة، فما أسقط حرفاً حتى
انقضى المجلس.
وقال محمد بن الجهم: دعاني المأمون فقال: أنشدني بيت مدح نادر.
فأنشدته:
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجُودِ
فقال: قد وليتك همذان، فأنشدني بيت هجاء نادر فأنشدته:
قبحت مناظره فحين خبرتْه ... حسنت مناظره لقبح المخبر
فقال: قد وليتك الدينور، فأنشدني بيت مرثية نادر، فأنشدته:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوّه ... فطيب تراب القبر دل على القبر
فقال: قد وليتك نهاوند، فأنشدني بيت غزل. فأنشدته:
حُب مُجد وحبيب يلعب ... والقلب ما بينهما يذهب
ومن كلام المأمون: أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا أبو المعالي أحمد
بن محمد البخاري قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو
الحسن بن زرقويه قال: أخبرنا أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل بن توتة
قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف قال: حدَثنا أحمد بن زهير قال: حدَثنا
علي بن محمد القرشي قال: حدَثني ابن هشام قال: قال لي المأمون: يا علي،
الملوك تحتمل لأصحابها كل شيء خلا ثلاث خصال. قلت: وما هن يا أمير
المؤمنين؟ قال: القدح في الملك، وإفشاء السر، والتعرض للحرمة.
وبلغنا أن
المأمون جمع ولده يوماً فقال: يا بني، ليعلم الكبير منكم إنما عظم قدره
بصغار عظموه، وقويت قوته بضعاف أطاعوه، وشرفت منزلته بعوام اتضعوا له،
فلا يدعوَنًه تفخيم المفخم منهم إياه إلى تصغيره، وتعزيز أمره إلى
تذليله، ولا تستأثرُنَ بعائده ورفق دونه، ولا يولعن بتسميته عمداً كما
سمتَ الأعاجم ولياً وأخاً، فإن الشيء الذي قوامه من أجزاء خسيسة،
ومعانٍ مذمومة، فهو أيضاً خسيس مذموم، وكل أمر من أولئك جزء من عدده،
وعماد من عماد أمره، فإذا انحلت أجزاؤه، وزالت دعائمه مال العماد،
وتهدم الكل، وقد قيل إن مَنْ ملك أحراراً كان أشرف ممن ملك عبيداً
مستكرهين، يا بني، ارجعوا فيما اشتبه عليكم من التدبير إلى آراء
الحَزَمَة المجرّبيِن، فإنهم مرآتكم يرونكم ما لا ترون، قد صحبوا
الدهور، وكفوكم الأمور بالتجارب، وقد قيل: إن مَنْ جرعك مُر التبري
أشفق عليك ممن أوجرك حلق النقم، ومَنْ خوفك لتأمن أبر ممن أمنك لتخاف.
وقال: الإخوان ثلاث طبقات، فأخ كالغذاء الذي تحتاج إليه في كل يوم وفي
كل وقت، وهو الأخ العاقل الأديب، وأجْ كالدواء تحتاج إليه عند الداء،
وهو الأخ الأريب الذي يصادق المودة، وأخ كالداء الذي لا يحتاج إليه،
وهو الأحمق.
وكان المأمون يقول: أعظم الناس سلطاناً مَنْ تسلط على نفسه فوليها
بمحكم التدبير وملك هواه فحمله على محاسن الأمور، وأشرب معرفة الحق
فانقاد للواجب، فوقف عند الشبهة حتى استوضح مقر الصواب فتوخاه ورزق
عظيم الصبر فهان عليه هجوم النوائب تأميلاً لما بعدها من عواقب
الرغائب، وأعطي فضيلة التثبت، فحبس عزب لسانه، ومما ينبغي الاحتياط فيه
اختيار الكفاة من الأعوان، وإنزالهم منازلهم، والانتصار بهم على ما
يطيقونه. وأنشد:
من كان راعيه ديناً في حُلوبته ... فهو الذي نفسه في أمره ظلما
ترجو كفايته والغدر عادته ... ومن ولايته يستجني الندما
وقيل للمأمون: أي المجالس أحسن؟ قال: ما نظر فيه إلى الناس.
وبعث المأمون رجلاً ليسبق الحاج، فجاء بعد جماعة وكتب إلى المأمون رقعة
ليسأله فيها شيئَاً، وكتب عليها: سابق الحاج. فنقط المأمون تحت الباء
نقطة أخرى وردها إليه.
ورفع رجل صوته في مجلسه اسمه عبد الصمد، فقال:
لا ترفعن الصوت يا عبد الصمد ... إن الصواب في الأسَد الأشَد
أخبرنا زاهر بن طاهر قال: أنبأنا أبو عثمان الصابوني وأبو بكر البيهقي
قالا: أنبأنا أبو عبد الله الحاكم قال: حدّثني عبيد الله بن محمد بن
عبد الرحمن الضبي قال: حدَّثنا الحسن بن محمد الكاتب قال: ذكر بشر بن
الوليد القاضي المأمون فقال: كان والله الملك حقاً، ما رأيت خليفة كان
الكذب عليه أشد منه على المأمون، وكان يحتمل كل آفة تكون في الإنسان
ولا يحتمل الكذب. قال لي يوماً: صف لي أبا يوسف القاضي، فإني لم أره
ولم استكثر منه. فوصفته له، فاستحسن صفته وقال: وددت أن مثل هذا يحضرنا
فنتجمل به. ثم قال: ما شيء من الخلافة إلا وأنا أحسن أن أدبره، وأبلغ
منه حيث أريد، وأقوى عليه، إلا أمر أصحابك - يعني: القضاة - فواللّه
لقد اجتهدت وما ظنك بشيء يتحرج منه علي بن هشام، ويتوقى سوء عاقبته،
ويتكالب عليه الفقهاء وأهل التصنع والرياء. فقلت: يا أمير المؤمنين،
والله ما أدري ما أقصد فأجيب بحبسه. فقال: لكني أدريه، ولا والله ما
تجيبني فيه بجواب مقنع أبداً. ثم ابتدأ فقال: ولينا رجلاً - أشرت به
علينا - قضاء الأبلة، وأجرينا عليه ألف درهم، ولا له ضيعة ولا عقار ولا
مال، فرجع صاحب الخبر بالناحية أن نفقته في الشهر أربعة آلاف درهم، فمن
أين هذه الثلاثة آلاف درهم!؟ وولينا رجلاً - أشار به محمد بن سماعة -
دمشق، وأجرينا عليه ألفي درهم في الشهر، فأقام بها أربعة عشر شهراً،
ووجهنا مَنْ يتتبع أمواله ويرجع إلينا بخبره، فصح عنه أنه يملك قيمة
ثلاثة عشر ألف دينار من دابة وبغل وخادم وجارية وغير ذلك.
وولينا رجلاً - أشار به غيركما - نهاوند، فأقام بعد عشرين شهراً من
دخول يده في العمل سبعين بحينا وعشرين بحينا، وفي منزله أربعة خدم
خصيان قيمتهم ألف وخمسمائة في دينار، وذلك سوى نتاج فكر اتخذه. هات ما
عندك من الجواب.
قلت:
والله يا أمير المؤمنين ما عندي جواب. فقال: ألم أعلمك أنه لا جواب
عندك!؟ وأكثر من هذا أنه ترغَّب لي علي بن هشام في رجل أوليته القضاء،
فأعلمني أنه وجده، فسرني والله، وسُري عني، ورجوت أن يكون بحيث أحب،
فأمرته بإحضاره، فغدا عليً فسألته عن الرجل، فذكر أنه لم يجده على
الصفة التي يحب، فسألته عن السبب في ذلك بعد وصفه الأول، فوصف أن الذي
وصفه لي علي بن مقاتل، وأنه كان عنده من أهل العفاف والستر، فانصرف
علي، ولم يحضره، ووجه إليه وهو لا يشك أنه يظهر كراهة لما أردناه عليه،
ويستعفي تصنعاً، فخبره بما أردناه له، فوثب إلى رأسه فقبَّله، فقضى أنه
لا خير عنده، لأنه لو كان من أهل الخير لعِّدَ الذي دعا إليه إحدى
المصائب والرزايا، فقلت له: جزاك الله عن إمامك ونفسك خير ما جزى امرأ
عن إمامه ونفسه ودينه.
قال بشر: فبهت ولم أجر بكلمة، فقال لي: ولكن إذا أردت العفيف النظيف
التقي النقي الطاهر الزكي - يعني الحسين - وهو بحالته التي فارقنا
عليها، والله ما غيَّر ولا بدَل. أما يحيى بن أكثم فما ندري ما عيبه!؟
أما ظاهره فأعف خلق الله. فقلت: والله يا أمير المؤمنين ما لك في
الخلفاء شبيه إلا عمر بن الخطاب، فإنه كان يفحص عن عماله وعن دقيق
أسرار حكامه فحصاً شافيَاً، وكان لا يخفى عليه ما يفيده كل امرئ منهم
وما ينفق، وكل من نأى عنه كمن دنا منه في بحثه وتنقيره. فقال: يا بشر،
إن أهمّ الأمور كلها إليً أمور الحكام، إذ كنا قد ألزمناهم النظر في
الدماء والأموال والفروج والأحكام، ووددت أن يتأتى مائة قاض مرضيين،
وأني أجوع يوماً وأشبع يوماً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو
عمر الحسن بن عثمان الواعظ قال: حدَّثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال:
حدّثني أحمد بن الحسن الكسائي قال: حدَثنا سليمان بن الفضل النهرواني
قال: حدَّثني يحيى بن أكثم قال: بت ليلة عند المأمون فعطشت في جوف
الليل، فقمت لأشرب ماء، فرآني المأمون فقال: ما لك ليس تنام يا يحيى؟
قلت: يا أمير المؤمنين، أنا والله عطشان. فقال: ارجع إلى موضعك. فقام
والله إلى البرادة فجاءني بكوز، فقام على رأسي فقال: اشرب يا يحيى.
فقلت: يا أمير المؤمنين، فهلا وصيف أو وصيفة فقال: إنهم نيام. قلت:
فأنا كنت أقوم أشرب فقال لي: لؤم بالرجل أن يستخدم ضيفه. ثم قال: يا
يحيى قلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: ألا أحدثك. قلت: بلى يا أمير
المؤمنين. فقال: حدّثني الرشيد قال: حدثني المهدي قال: حدثني المنصور،
عن أبيه، عن ابن عباس قال: حدّثني جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سيد القوم خادمهم " .
حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الجوهري
قال: أخبرنا محمد بن عمران المرزباني قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن
عيسى المكي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد، عن يحيى بن أكثم قال:
ما رأيت أكرمِ من المأمون، بتّ عنده ليلة فعطش، فكره أن يصيح بالغلمان،
فرأيته قد قام قليلاً قليلاً إلى البرادة وبينه وبينها بُعد، فشرب
ورجع.
قال يحيى بن أكثم: ثم بت عنده ونحن بالشام، فأخذ المأمون سعال، فرأيته
يسد فاه بكم قميصه حتى لا أنتبه. ثم حملني آخر الليل النوم، فكان له
وقت يستاك فيه، فكره أن ينبهني، فلما ضاق الوقت عليه تحركت. فقال: الله
أكبر يا غلمان، نعل أبي محمد.
قال يحيى: وكنت أمشي معه يوماً في ميدان البستان والشمس عليً وهو في
الظل، فلما رجعنا قال لي: كن الآن في الظل. فأبيت عليه، فقال: أول
العدل أن يعدل الملك في بطانته ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ الطبقة
السفلى.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا محمد
بن علي المقرئ قال: أخبرنا محمد بن عبد الله النيسابوري قال: سمعت أبا
بكر بن داود بن سليمان الزاهد يقول: سمعت محمد بن عبد الرحمن الشامي
يقول: سمعت أبا الصلت عبد السلام يقول: حبسني المأمون ليلة، فكنا نتحدث
حتى ذهب من الليل ما ذهب، وطفئ السراج ونام القيّم الذي كان يصلح
السراج، فدعاه فلم يجبه - وكان نائماً - فقلت: يا أمير المؤمنين أصلحه.
فقال: لا، فأصلحه هو. ثم انتبه الغلام، فظننت أنه يعاقبه، فسمعته يقول:
ربما أكون في المتوضأ فيشتموني ولا يدرون أني أسمع فاعف عنهم.
أخبرنا
أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا الجوهري
قال: أخبرنا محمد بن العباس قال: حدَثنا الصولي قال: حدثنا عون بن محمد
قال: حدَثنا عبد الله بن البواب قال: كان المأمون يحلم حتى يغيظنا،
وانه في بعض الأوقات جلس يستاك على دجلة من وراء ستر ونحن قيام بين
يديه، فمر ملاَح وهو يقول بأعلا صوته: أتظنون أن هذا المأمون ينبل في
عيني وقد قتل أخاه!؟ قال: فوالله ما زاد على أن تبسم وقال: ما الحيلة
عندكم حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل!؟.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن ثابت
قال: أخبرنا علي بن أبي علي المعدل قال: حدَثنا أبو بكر بن عبد الرحيم
المازني قال: حدًثنا الحسين بن القيم الكوكبي قال: حدَثنا أبو الفضل
الربعي قال: لما وُلد أبو جعفر بن المأمون دخل المهنئون على المأمون
فهنأوه بصنوف التهاني، وكان فيمن دخل عليه العباس بن الأحنف، فمثل
قائماً بين يديه، ثم أنشأ يقول:
مَد لك اللهّ الحياة مدَّاً ... حتى يريك ابنك هذا جدِّا
ثم يفدّى مثل ما تفَدّى ... كأنه أنت إذا تبدَّا
أشبه منك قامةً وقدَاً ... مؤزراً بمجده مُردى
فأمر له بعشرة آلاف درهم.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا جعفر بن أحمد قال: أخبرنا
عبد العزيز بن الحسن الضراب قال: حدًثنا أبي قال: حدَثنا أحمد بن مروان
قال: حدًثنا الحسن بن علي الربعي قال: حدَّثني قحطبة بن حميد بن الحسن
بن قحطبة قال: كنت واقفاً على رأس المأمون يوماً وقد قعد للمظالم،
فأطال الجلوس حتى زالت الشمس وإذا امرأة قد أقبلت تعثر في ذيلها حتى
وقفت على طرف البساط، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله
وبركاته. فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم، فأقبل يحيى عليها فقال:
تكلمي. فقالت: يا أمير المؤمنين، قد حيل بيني وبين ضيعتي، وليس لي ناصر
إلا الله. فقال لها يحيى بن أكثم: إن الوقت قد فات، ولكن عودي يوم
الخميس. قال: فرجعت، فلما كان يوم الخميس قال المأمون: أول من يُدعى
المرأه المظلومة. فدعا بها. فقال: أين خصمك. قالت: واقف على رأسك يا
أمير المؤمنين، قد حيل بيني وبينه. وأومأت إلى العباس ابنه. فقال لأحمد
بن أبي خالد: خذ بيده وأقعده معها. ففعل، فتناظرا ساعة حتى علا صوتهما
عليه فقال لها أحمد بن أبي خالد: إنك تناظرين الأمير أعزه الله بحضرة
أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، فأخفضي عليك. فقال له المأمون: دعها يا
أحمد، فإن الحق أنطقها، والباطل أخرسه. فلم تزل تناظره حتى حكم لها
المأمون عليه، وأمر برد ضيعتها، وأمر ابن أبي خالد أن يدفع لها عشرة
آلاف درهم.
وروى الصولي: أنه رُفع إلى المأمون أن خادمه رشد الأسود يسرق طساسه
وأباريقه، وكان على وضوئه، فعاتبه في ذلك فقال: رزقي يقصر عني، فأضعفه
له. ثم فقد بعد ذلك طستا وإبريقاً، فقال: بعني ويحك الشيء إذا أخذته.
قال: فاشتر مني هذا الطست وهذا الإبريق. قال: بكم؟ قال: بخمسة دنانير.
فقال: ادفعوا له خمسة دنانير. فقال له رشد: بقي والله هذان ما بقي
الزمان، فقال له المأمون: قد رأيت المعاملة، فكل من تعلم أنه يسرق مني
شيئاً فقل له يبيعنيه.
وقال المأمون: أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف أن لا أؤجر عليه، ولو
علم الناس مقدار محبتي للعفو لتقربوا إليً بالذنوب.
وفي هذه السنة: كتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان.
وفيها: خرج خارجي يقال له الهِرْش في ذي الحجة يدعو بزعمه إلى الرضى من
آل محمد، ومعه جماعة من سفلة الناس، وجمع كثيراً من الأعراب فأتى
النيل، فجبى الأموال، وأغار على التجار، وانتهب القرى، وساق المواشي.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
سفيان بن عيينة بن أبي عمران بن محمد مولى لبني هاشم بن رؤبة. وقيل:
مولى محمد بن مزاحم الهلالي. ولد بالكوفة سنة سبع ومائة، وكان أبوه من
عمال خالد القسري، فلما عزل خالد عن العراق وولي يوسف بن عمر طلب عمال
خالد فهربوا منه، وهرب عيينة فسكن مكة. وكان لسفيان تسعة أخوة، حدَث
منهم أربعة: محمد، وآدم، وعمران، وإبراهيم، وكان سفيان مقدماً على
الكلّ.
وقال أبو
أحمد محمد بن أحمد النيسابوري الحافظ: كان بنو عيينة عشرة خزازين، حدّث
منهم خمسة - فذكرهم - وأخوال بني عيينة: بنو بني المتَّئد، حدّث منهم
يوسف ويعقوب ونعيم بن يعقوب بن المتئد، وأدرك سفيان ستة وثمانين نفساً
من التابعين. وروى عنه من الكبار الأعمش، والثوري، وشعبة، وابن
المبارك، ووكيع، وابن مهدي، والشافعي، وأحمد، ويحيى، وكتب عن سفيان بن
عيينة وهو ابن خمسة وثلاثين سنة قبل موت الأعمش بخمس سنين، وحدث في
مجلس الأعمش.
أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا محمد بن ميمون قال: أخبرنا عبد العزيز
بن أحمد النصيبي قال: حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الليث الدينوري
قال: حدًثني الليث بن عبيد الله قال: حدّثني أبو الميمون محمد بن عبد
الله قال: حدثنا زكريا بن يحيى بن عبيد العطار قال: حدَثنا إبراهيم بن
ازداد الرافقي قال: قال لي سفيان بن عيينة: لما بلغت خمس عشرة سنة
دعاني أبي فقال لي: يا سفيان، قد انقطعت عنك شرائع الصب من الخير،
فاحتفظ من الخير تكن من أهله، لا يغرنك مَنْ اغتر بالله فمدحك بما تعلم
خلافه منك، فإنه ما من أحد يقول في أحد من الخير إذا رضي إلا وهو يقول
فيه من الشر مثليك إذا سخط، فاستأنس بالوحدة من جلساء السوء، ولا تنقل
أحسن ظني بك إلى غير ذلك، ولن يسعد بالعلماء إلا مَنْ أطاعهم. قال
سفيان: فجعلت وصية أبي قبلة أميل معها ولا أميل عنها.
أنبأنا علي بن محمد بن أبي عمر، عن أبي طاهر أحمد بن الحسن الباقلاوي،
عن أبي العلاء محمد بن علي بن يعقوب، عن عبد الله بن موسى السلامي قال:
سمعت عمار بن علي اللوزي يقول: سمعت أحمد بن النضر الهلالي يقول: سمعت
أبي يقول: كنت في مجلس سفيان بن عيينة، فنظر إلى صبي دخل المسجد
فتهاونوا به لصغر سنه، فقال سفيان: " كذلك كنتم من قبل فمنَّ اللّه
عليكم " ثم قال: يا نصر، لو رأيتني ولي عشر سنين طولي خمسة أشبار،
ووجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي
بمقدار، ونعلي كآذان الفار، اختلف إليّ علماء الأمصار، مثل الزهري
وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي
كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا دخلت المجلس قالوا: أوسعوا للشيخ، ثم
تبسم ابن عيينة وضحك.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن حبيب قال: أخبرنا علي بن أبي صادق قال:
أخبرنا ابن باكويه قال: حدَّثنا عبد الواحد بن بكر قال: حدَّثني القاسم
بن الحسن السامري قال: حدّثني العباس بن يوسف الشِّكْلي قال: حدَثنا
بشر بن مطر قال: كنا على باب سفيان بن عيينة فجاءت طائفة فدخلوا،
وطائفة أخرى فدخلوا، فصحنا وقلنا: يجيء أصحاب الدراهم والدنانير
فيدخلون ونحن الفقراء وأبناء السبيل نمنع الدخول!؟ فخرج إلينا وهو يبكي
فقال لنا: أصبتم مقالاً، فقولوا هل رأيتم صاحب عيال أفلح؟ ثم قال:
أعلمكم أني كنت أوتيت فهم القرآن، فلما أخذت مال أبي جعفر منعت.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أحمد بن شهريار قال: أخبرنا سليمان بن أحمد
الطبراني قال: حدًثنا أبو بكر بن أحمد بن عبد الله الطرسوسي قال: سمعت
حامد بن يحيى البلخي يقول: سمعت سفيان بن عيينة يقول: رأيت كأني أسناني
كلها سقطت، فذكرت ذلك للزهري فقال: يموت أصحابك وتبقى أنت وحدك. فمات
أصحابي وبقيت.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا علي بن
الحسن بن محمد الدقاق قال: حدَثنا محمد بن إسماعيل الوراق قال: حدَّثنا
ابن صاعد قال: حدَثنا أبو بكر الأثرم قال: سمعت أحمد بن حنبل - وذكر
سفيان بن عيينة - قال: ما رأينا مثله.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا علي بن محمد
المعدًل قال: أخبرنا ابن صفوان قال: أخبرنا ابن أبي الدنيا قال: أخبرنا
محمد بن سعد قال: أخبرني الحسن بن عمران بن عيينة أن سفيان قال له بجمع
آخر حجة حجها: قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة، أقول في كل سنة: اللهم
لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وقد استحييت من الله من كثرة ما
أسأله ذلك.
فرجع فتوفي في السنة الداخلة.
قال ابن سعد: وقال الواقدي: أخبرني سفيان أنه وُلد سنة سبع ومائة، ومات
أول يوم من رجب سنة ثمان وتسعين ومائة، ودفن بالحجون وقيل: في آخر يوم
من جمادى الآخرة.
عبد
الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن أبو سعيد العنبري ولد سنة خمس
وثلاثين ومائة. سمع سفيان الثوري، ومالكاً، وشعبة، والحمادين، وخلقاً
كثيراً.
روى عنه: ابن المبارك، وابن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى، وغيرهم.
وكان من كبار العلماء، وأحد المذكورين بالحفظ والفقه، وكان شديد الحب
لحفظ الحديث.
فأخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرنا
حمزة بن محمد بن طاهر قال: أخبرنا الوليد بن بكر الأندلسي قال: حدَّثنا
علي بن أحمد بن زكريا الهاشمي قال: حدَثنا صالح بن أحمد بن عبد الله
العجلي قال: حدَثني أبي وذكر عبد الرحمن بن مهدي - قال: قال له رجل:
أيما أحب إليك يغفر الله لك ذنباً، أو تحفظ حديثاً؟ قال: أحفظ حديثاً.
وقال أحمد بن حنبل: إذا حدّث عبد الرحمن عن رجل فهو حجة.
وقال ابن المديني: كان عبد الرحمن أعلم الناس، ولو أني أخذت فخُلَفتُ
بين الركن والمقام لحلفت بالله أني لم أر أحداً قط أعلم بالحديث من عبد
الرحمن بن مهدي.
وقال محمد بن يحيى: ما رأيت في يد عبد الرحمن كتاباً قط، وكل ما سمعته
منه سمعته حفظاً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن ثابت قال: أخبرني محمد
بن عبد الملك القرشي قال: حدثنا علي بن عمر الحافظ قال: أخبرنا أبو عبد
الله أحمد بن علي بن العلاء قال: أخبرنا أبو إسحاق إسماعيل بن الصلت بن
أبي مريم قال: حدَّثنا علي بن المديني قال: كان عبد الرحمن بن مهدي
يختم في كل ليلتين، وكان ورده في كل ليلة نصف القرآن.
قال ابن المديني: توفي عبد الرحمن سنة ثمان وتسعين، وهو ابن ثلاث وستين
سنه.
عمرو بن الهيثم بن قطن بن كعب أبو قطن القطعي البصري قدم بغداد وحدّث
بها عن شعبة، وهشام الدستوائي. وروى عنه أحمد، ويحيى، وقال: هو ثقة.
وتوفي في شعبان هذه السنة.
محمد الأمين قال مؤلف الكتاب: قد ذكرنا كيفية قتله في الحوادث، وقتل
لست بقين من المحرم سنة ثمان وأربعين ومائة، وكان عمره ثلاثة وثلاثين.
وقيل: ثمانية وعشرين. وكانت خلافته مع زمان الفتنة أربع سنين وثمانية
أشهر وخمسة أيام. وقيل: وسبعة أشهر وثمانية أيام. وقيل: وستة أشهر
وأربعة وعشرين يوماً.
وكان قد تزوج لبابة بنت المهدي، ولم يدخل بها فقالت حين قتل ترثيه:
أبكيك لا للنعيم والأنس ... بل للمعالي والرمح والفرس
أبكي على هالك فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس
وقيل: إن هذا لابنه عيسى وكانت مملكة بمحمد.
محمد بن مناذر الشاعر يكنى أبا ذريح. وقيل: أبا جعفر. وقيل: أبا عبد
الله. كان مولى سليمان القهرماني، وكان سليمان مولى عبيد الله بن أبي
بكرة. سمع محمداً، وشعبة، وسفيان بن عيينة وغيرهم. وكان شاعراً فصيحاً،
ومدح المهدي، وكان عالماً باللغة. قال الثوري: سألت أبا عبيدة عن اليوم
الثاني من النحر، ما كانت العرب تسميه؟ فقال: لا أعلم، فلقيت ابن مناذر
فأخبرته فقال: أسقط مثل هذا على أبي عبيدة، وهي أربعة أيام متواليات،
كلها على حرف الراء، الأول: يوم النَّحر، والثاني: يوم الفر، والثالث:
يوم النفر، و الرابع: يوم الصدر. فلقيت أبا عبيدة فحدثته، فكتبه عني عن
محمد بن مناذر. وكان محمد بن مناذر يتعبد ويتنسك، ويلازم المسجد، ثم
هوى عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي فتهتك، وعدل عن التنسك، وأظهر
الخلاعة، وكان عبد المجيد من أحسن الناس وجهاً وأدباً ولباساً، وكان
يحب ابن مناذر أيضاً فتزوج عبد المجيد امرأة، وأولم عليها شهراً، يجتمع
عنده أهل البصرة، فصعد ذات يوم إلى السطح فرأى طنباً من أطناب الستارة
قد انحل، فأكب عليه يشده، فتردى على رأسه ومات من سقطته، فما رأيت
مصيبة أعظم من مصيبته، ورثاه ابن مناذر فقال:
إن عبد المجيد يوم تولى ... هدَّ ركناً ما كان بالمهدود
ما درى نعشه ولا حاملوه ... ما على النعش من عفاف وجود
قال يحيى بن معين: كان ابن مناذر صاحب شعر، لا صاحب حديث، وكان يتعشق
ابن عبد الوهاب، ويقول فيه الشعر، وتشبب بنساء ثقيف فطردوه من البصرة،
فخرج إلى مكة، فكان يرسل العقارب في المسجد الحرام حتى يلسعن الناس
ويصب المداد بالليل في المواضع التي يتوضأ الناس منها حتى تسود وجوههم
لا يروي عنه رجل فيه خير.
يحيى بن
سعيد بن فروخ، أبو سعيد القطان الأحول. ولد سنة عشر ومائة. سمع هشام بن
عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والأعمش، وسفيان، وغيرهم.
روى عنه: ابن مهدى، وعفان، وأحمد، وعلي، ويحيى، وغيرهم.
وقال علي: لم أر أحداً أثبت من يحيى بن سعيد، ولا أعلم بالرجال. وقال
أحمد: ما رأت عيناي مثله، لا والله ما أدركنا مثله، ما كان أضبطه وأشد
تفقده.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: قرأت
على الحسن بن أبي بكر، عن أحمد بن كامل القاضي قال: حدَثني الحسن بن
الحباب قال: حدَّثنا سليمان بن الأشعث قال: سمعت يحيى بن معين يقول:
أقام يحيى بن سعيد عشرين سنة يختم القرآن في كل ليلة، ولم يفته المسجد
أربعين سنة، وما رؤي يطلب جماعة قط.
توفي يِحيى بن سعيد في صفر هذه السنة.
ثم دخلت
سنة تسع وتسعين ومائة
فمن الحوادث فيها: قدوم الحسن بن سهل بغداد من عند المأمون، وإليه
الحرب والخراج، فلما قدمها فرق عماله في الكور والبلدان.
وفيها: شخص طاهر إلى الرقة في جمادى ومعه عيسى بن محمد بن أبي خالد،
وشخص هرثمة إلى خراسان، وخرج أزهر بن زهير بن المسيب إلى الهرش فقتله
في المحرم.
وفيها: خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن
ابن الحسن بنَ علي بن أبي طالب يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة
يدعو إلى الرضى من آل محمد، والعمل بالكتاب والسنة، وهو الذي يقال له
ابن طباطبا. وكان القيم بأمره في الحرب وتدبيرها وجيوشها أبو السرايا،
واسمه السري بن منصور، وكان يذكر أنه من ولد هانئ بن قبيصة.
وكان سبب خروج هذا الرجل صرف المأمون طاهر بن الحسين عما كان إليه من
أعمال البلدان التي افتتحها، وتوجيهه ذلك إلى الحسن بن سهل، فلما فعل
ذلك تحدث الناس أن الفضل قد غلب على المأمون، وأنه يبرم الأمور على
هواه، ويستبد بالرأي دونه، فغضب لذلك بالعراق مَنْ بها من بني هاشم
ووجوه الناس، وأنفوا من غلبة الفضل على المأمون، واجترءوا على الحسن بن
سهل بذلك، وهاجت الفتن في الأمصار، وكان أول من خرج بالكوفة ابن
طباطبا، وكان أبو السرايا من رجال هرثمة، فمطله برزقه فغضب ومضى إلى
الكوفة، وبايع محمد بن إبراهيم، وأخذ الكوفة، واستوثق له أهلها
بالطاعة، وأقام محمد بالكوفة، وأتاه الناس من النواحيِ والأعراب.
فلما بلغ الخبر إلى الحسن بن سهل ذلك عنف سليمان بن المنصور، وكان عامل
الكوفة من قبل الحسن بن سهل، ووجه زهير بن المسيِب في عشرة آلاف، فلقوه
فهزموه، واستباحوا عسكره، وأخذوا ما كان معه من مال وسلاح ودواب وغير
ذلك، وكان هذا اليوم الأربعاء سلخ جمادى الآخرة، فلما كان من الغد مات
محمد بن إبراهيم، فجاءةً، فيقال إن أبا السرايا سمه.
وكان السبب فيِ ذلك: أنه لما جاز ما فيِ عسكر ابن زهير منع منه أبا
السرايا، فعلم أنه لا أمر له معه، فسمّه وأقام أبو السرايا مكانه
غلاماً حدثاً يقال له: محمد بن محمد بن زيد بن علي بن أبي طالب، وكان
أبو السرايا هو الذي ينفَذ الأمور، ويولي مَنْ يرى، ويعزل من يريد.
ورجع زهير إلى قصر ابن هبيرة، فوجّه الحسن عبدوس بن محمد بن أبيِ خالد
فيِ أربعة آلاف، فتوجه إليه أبو السرايا فواقعه يوم الأحد لثلاث عشرة
بقيت من رجب، فقتله وأسر هارون بن أبي خالد، واستباح عسكره بين قتيل
وأسير، فلم يفلت منهم أحد، وانتشر الطالبيون في البلاد، وضرب أبو
السرايا الدراهم بالكوفة، ونقش حولها: " إن الله يحب الذين يقاتلون في
سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص " .
ولما بلغ زهير قتل أبي السرايا عبدوساً وهو بالقصر، انحاز بمن معه إلى
نهر الملك.
ثم إن أبا
السرايا أقبل حتى نزل قصر ابن هبيرة بأصحابه، وكانت طلائعه تأتي
كُوثَى، ونهر الملك، ووجّه أبو السرايا جيوشاً إلى البصرة وواسط،
فدخلوها، وكان بواسط ونواحيها عبد الله بن سعيد الحَرَشيّ والياً عليها
من قبل الحسن بن سهل، فواقعه جيش أبي السرايا قريباً من واسط فهزموه،
فانصرف راجعاً إلى بغداد وقد قُتل من أصحابه جماعة وأسر آخرون، فلما
رأى الحسن بن سهل أن أبا السرايا ومَنْ معه لا يلْقون له عسكراً إلا
هزموه ولا يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها، ولم يجد فيمن معه من القوَّاد
مَنْ يكفيه حربه، اضطر إلى هرثمة - وكان هرثمة حين قدم الحسن العراق
والياً عليها من قبل المأمون سلم له ما كان بيده بها من الأعمال، ثم
توجَّه إلى خراسان مغاضباً للحسن، فسار حتى نزل حلوان - فبعث إليه
الحسن السندي وصالحاً صاحب المصلى، فسأله الانصراف إلى بغداد لحرب أبي
السرايا، فامتنع فانصرفت الرسل إلى الحسن بإبائه، فأعاد عليه السندي
بكتب لطيفة، فأجاب، فانصرف إلى بغداد فقدمها في شعبان، وتهيأ للخروج
إلى الكوفة، فأمر الحسن بن سهل علي بن أبي سعيد أن يخرج إلى ناحية
المدائن وواسط والبصرة، فتهيأوا لذلك.
وبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة، فتوجّه إلى المدائن فدخلها
أصحابه في رمضان، وتقدم هو بنفسه وَمَنْ معه حتى نزل نهر صَرْصَر مما
يلي طريق الكوفة، وكان هرثمة لمّا احتبس قدومه على الحسن ببغداد أمر
منصور بن المهدي أن يخرج فيعسكر بالياسريّة إلى قدوم هرثمهَ، فخرج
فعسكر، فلما قدم هرثمة خرج فعسكر بين يدي المنصور، ثم مضى حتى عسكر
بنهر صَرْصَر بإزاء أبي السرايا والنهر، وكان علي بن أبي سعِد معسكراً
بكلواذا، فشخص يوم الثلاثاء بعد الفطر بيوم، ووجّه مقدمته إلى المدائن،
فقاتل بها أصحاب أبي السرايا، وأخذ علي بن أبي سعيد المدائن فقاتل بها
أصحاب أبي السرايا غداة الخميس إلى الليل، ثم غدوا على القتال، فانكشف
أصحاب أبي السرايا، وأخذ علي بن أبي سعيد المدائن، وبلغ الخبر أبا
السرايا من يومه، فلما كان ليلة السبت لخمس خلون من شوَّال رجع أبو
السرايا من نهر صَرْصَر إلى قصر ابن هبيرة، فنزل به، وأصبح هرثمة
متوجهاً في طلبه، فوجد جماعة كثيرة من أصحاب أبي السرايا فهزمهم
وقتلهم، وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل، فلما صار هرثمة إلى قصر ابن
هبيرة كانت بينه وبين أبي السرايا وقعة، وقتل فيها خلق كثير، فلما رأى
ذلك أبو السرايا انحاز إلى الكوفة، فوثب محمد بن محمد ومن معه من
الطالبيين على دور بني العباس ودور مواليهم وأتباعهم بالكوفة فانتهبوها
وهدموها وأحرقوها، وخربوا ضياعهم، وأخرجوهم من الكوفة، وعملوا في ذلك
عملاًَ قبيحاً، واستخرجوا الودائع التي كانت لهم عند الناس فأخذوها.
وبعث أبو السرايا إلى مكة - محسين بن حسن بن علي بن الحسين بن علي بن
أبي طالب، وبعث إلى المدينة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن
ابن علي بن أبي طالب ليأخذها، وكان الوالي على مكة والمدينة داود بن
عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.
فأما
المبعوث إلى المدينة فإنه دخلها، ولم يمنعه أحد. وأما المبعوث إلى مكة
فإنه لما مضى توقف هُنيْهة لمن فيها، وكان داود بن عيسى لما بلغه توجيه
أبي السرايا حسين بن حسن جمع موالي بني العباس والعبيد، وكان مسرور
الكبير الخادم قد حجَّ تلك السنة في مائتي فارس من أصحابه، وتعبأ لحرب
من يريد دخول مكة من الطالبيين، فقال لداود: أقم لي شخصك أو شخص بعض
ولدك، وأنا أكفيك قتالهم. فقال له داود: لا استحل القتال في الحرم،
والله لئن دخلوا من هذا الفجّ لأخرجن من هذا الفجّ. فانحاز داود من مكة
وقال لابنه: صلّ بأهل الموسم، وبتْ بمنىً، ثم الحقني وخشي مسرور أن
يقاتل فيميل عنه أكثر مَنْ جمع. فخرج إلى العراق، ودفع الناس لأنفسهم
من عرفة بغير إمام، حتى أتى مزدلفة، فصلى بهم المغرب والعشاء رجل من
عرض الناس من أهل مكة، وحسين بن حسن واقف يرهب أن يدخل مكة فيدفع عنها،
فخرج إليه قوم يميلون إلى الطالبيين فأخبروه أن الأماكن قد خلت من
السلطان، فدخل قبيل المغرب ومعه نحو من عشرة، فطافوا وسعوا، ومضوا إلى
عرفة بالليل، ثم رجع إلى مزدلفة فصلى بالناس الفجر، ودفع بالناس، وأقام
بمنى أيام الحج، فلم يزل مقيماً بها حتى انقضت سنة تسع وتسعين، وأقام
محمد بن سليمان الطالبي بالمدينة حتى انقضت سنته أيضاً.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسحاق بن سليمان أبو يحيى العبدي الكوفي مولى لعبد القيس.
سمع من مالك، والثوري، وغيرهما. روى عنه: قتيبة، وأبو كريب، وكان ثقة.
انتقل إلى الري فسكنها، ونسب إليها، وكان ثقة صالحاً ورعاً ظاهر
الخشوع، كثير البكاء، وقدم بغداد في هذه السنة فحدَث بها، فسمع أحمد بن
حنبل، ثم رجع إلى الري فمات بها.
أسباط بن محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن ميسرة أبو محمد القرشي مولى
السائب بن يزيد.
من أهل الكوفة، ولد سنة خمس ومائة. سمع أبا إسحاق الشيباني، والأعمش،
والثوري، وغيرهم روى عنه: قتيبة، وأحمد بن حنبل.
قال يحيى: هو ثقة، والكوفيون يضعفونه. وتوفي في هذه السنة. وقيل: أول
سنة مائتين.
الحكم بن عبد الله بن مسلمة بن عبد الرحمن بن مطيع البلخي حدَث عن هشام
بن حسان، وبكر بن حبيش، ومالك، وسفيان. روى عنه: أحمد بن منيع، وكان من
أهل الرأي. وولي قضاء بلخ.
قال يحيى: وهو ضعيف، وليس بشيء.
وقال أحمد بن حنبل - وقد سئل عنه - : لا ينبغي أن يروى عنه، خلوا عنه،
إنه قال: الجنة والنار خلقتا وستفنيان، وهذا كلام جهم، لا يروى عنه
شيء.
وقال أبو داود: تركوا حديثه، كان جهمياً، توفي في جمادى الأولى من هذه
السنة.
سليمان بن أبي جعفر المنصور، يكنى أبا أيوب. حدث عن أبيه، وإليه ينسب
درب سليمان ببغداد.
توفي في هذه السنة في صفر وهو ابن خمسين سنة.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال:
أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيوية قال: حدَثني
عبد الرحمن بن بشر قال: حدَثني محمد بن الحسن قال: حدّثتني أم إبراهيم
بن جميل قالت: حدَّثني عبيد الله الشروي قهرمان سليمان بن أبي جعفر
قال: دخل هارون الرشيد على سليمان بن أبي جعفر وكان عليلاً، فرأى جارية
تسمى ضعيفة، في غاية الحسن والجمال والشكل فوقعت بقلبه فقال هارون:
هبها لي. فقال: هي لك يا أمير المؤمنين. فلما أخذها مرض سليمان من شدة
حبه لها، فقال:
أشكو إلى ذي العرش ما ... لاقيت من أمر الخليفة
يسع البرية عدله ... ويريد ظلمي في ضعيفة
علق الفؤاد بحبها كالحبر ... يعلق بالصحيفة
قال: فبلغ ذلك هارون الرشيد، فردّها عليه.
شعيب بن الليث، أبو عبد الملك ولد سنة خمس وثلاثين ومائة. روى عن أبيه
وغيره. وتوفي في هذه السنة.
علي بن بكار، أبو الحسن البصري. كان فقيهاً متعبداً كثير البكاء.
أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا حمد بن أحمد قال: أخبرنا أبو نعيم
الأصبهاني قال: أخبرنا أبو أحمد بن حبان قال: حدَثنا أحمد بن روح قال:
حدثنا عبد الله بن حسن قال: سمعت موسى بن طريف يقول: كانت الجارية تفرش
لعلي بن بكار الفراش فيلمه بيده ويقول: والله إنك لطيب، والله إنك
لبارد، لا علوتك الليلة. فكان يصلي الغداة لوضوء العتمة.
قال
المؤلف: أسند علي عن هشام بن حسان، وأبي إسحاق الفزاري في آخرين، وصحب
إبراهيم بن أدهم.
وبلغنا عنه أنه طعن في بعض مغازيه، فخرجت أمعاؤه على قربوس سرجه،
فردّها إلى بطنه، وشدها بالعمامة، وقاتل حتى قتل ثلاثة عشر علجاً.
وتوفي بالمصيصة في هذه السنة.
عامر بن حمزة، مولى بني هاشم وهو من ولد عكرمة مولى ابن عباس. وقيل: هو
عمارة بن حمزة بن مالك بن يزيد بن عبد الله، مولى العباس بن عبد
المطلب.
كان أحد الكتاب البلغاء، وكان أتيه الناس حتى ضرب بنيهه المثل، فقيل:
أنيه من عمارة.
وكان جوَاداً، وإليه تنسب دار عمارة ببغداد أخبرنا القزاز قال: أخبرنا
الخطيب قال: أخبرنا الجوهري قال: حدًثنا محمد بن عمران بن موسى قال:
حدَثنا أحمد بن محمد بن عيسى المكي قال: حدًثنا محمد بن القاسم بن خلاد
قال: قال إبراهيم بن داود: استأذن قوم على عمارة بن حمزة ليشفعوا إليه
في برّ قوم أصابتهم حاجة، وكان قد قام من مجلسه فأخبره حاجبه بحاجتهم،
فأمر لهم بمائة ألف درهم، فاجتمعوا ليدخلوا عليه في الشكر له، فقال له
حاجبه، فقال: اقرئهم السلام وقل لهم إني رفعت عنكم ذلّ المسألة، فلا
أحملكم مؤونة الشكر.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن ثابت قال: أخبرنا سلامة
بن الحسين المقرئ قال: أخبرنا علي بن عمر الحافظ قال: أخبرنا القاضي
الحسين بن إسماعيل قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعيد قال: حدَّثنا هارون
بن محمد بن إسماعيل القرشي قال: أخبرنا عبد الله بن أيوب المكي قال:
بعث أبو أيوب المكي بعض ولده إلى عمارة بن حمزة، فأدخله الحاجب. قال:
ثم أدناني إلى ستر مسبل، فقال: ادخل. فدخلت فإذا هو مضطجع محول وجهه
إلى الحائط فقال لي الحاجب: سلّم. فسلمتَ، فلم يرد عليَّ. فقال الحاجب
اذكر حاجتك فقلت: لعله نائم قال: لا أذكر حاجتك، فقلت له: جعلني الله
فداك أخوك يقرئك السلام ويذكر ديناً ويقول: بهظني وستر وجهي، ولولاه
لكنت مكان رسولي تسأل أمير المؤمنين قضاءه. فقال: وكم دين أبيك؟ قلت:
ثلاثمائة ألف. فقال: وفي مثل هذا أكلم أمير المؤمنين!؟ يا غلام احملها
معه. وما التفت إليَ ولا كلمني بغير هذا.
قال ابن سعيد: وحدَثنا إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان
الهاشمي قال: حدَّثني محمد بن سلامة قال: حدَثنا الفضل بن الربيع قال:
كان أبي يأمرني بملازمة عمارة بن حمزة قال: فاعتل عمارة، وكان المهدي
سيئ الرأي فيه فقال له أبي يوماً: يا أمير المؤمنين، مولاك عمارة عليل،
وقد أفضى الأمر منه إلى بيع فرشه وكسوته، فقال: غفلت عنه وما كنت أظن
أنه بلغ هذه الحال، احمل إليه خمسمائة ألف درهم يا ربيع وأعلمه أن له
عندي بعدها ما يحب. قال: فحملها أبي من ساعته وقال: اذهب بها إلى عمك
وقل له: أخوك يقرئك السلام ويقول: أذكرت أمير المؤمنين أمرك، فاعتذر من
غفلته عنك، وأمر لك بهذه الدراهم وقال: لك عندي بعدها ما تحب. قال:
فأتيته ووجهه إلى الحائط، فسلمت، فقال لي: مَنْ أنت؟ فقلت: ابن أخيك
الفضل بن الربيع. فقال: مرحباً بك. فأبلغته الرسالة، فقال: قد كان طال
لزومك لنا وقد كنا نحب أن نكافئك على ذلك، ولم يمكنا قبل هذا الوقت
انصرف بها، فهي لك قال: فهبته إن أرد عليه، فتركت البغال على بابه
وانصرفت إلى أبي فأعلمته الخبر فقال: يا بني، خذها بارك الله لك، عمارة
ليس ممن يرادّ، فكانت أول مال ملكته.
هشام بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج أبو طالب
التُجيْبِيّ سمع مالك بن أنس، وجالس ابن وهب، وكان كريماً جوَّاداً.
وولي إمرة برقة من أرض مصر، وولي شرطة فسطاط مصر.
وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة.
يوسف بن أسباط، أبو محمد. من قرية يقال لها: سيح. كان يقول: إن أسباط
يقول: أشتهي أن، أموت، وما ملكي. درهم ولا على عظمي لحم، ولا علي دين.
فرزق ذلك، فأعد في مرضه شيئاً بعشرة دراهم، فعزل منها درهماً لحنوطه،
وأنفق الباقي ومات.
أخبرنا
عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن أحمد السراج قال:
أخبرنا عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل الضراب قال: أخبرنا أبي قال:
أخبرنا أحمد بن مروان المالكي قال: حدَثنا إبراهيم بن ديزيل قال: سمعت
الربيع بن نافع يقول سمعت من يوسف بن أسباط حرفاً في الورع ما سمعت
أحسن منه. قلت له يوماً وقد اتخذ كواير نحل: لو اتخذت حماماً. فقال:
النحل أحبُ إليَ من الحمام، الحمام يدخل الغريب فيهم، والنحل لا تدخل
الغريب فيها، فمن ذاك اتخذت النحل.
ثم دخلت
سنة مائتين
فمن الحوادث فيها: أنه في أول المحرم بعدما تفرّق الحاج من مكة جلس
حسين بن حسن الأفطس خلف المقام على نُمرقة مثنيَّة، وأمر بالكعبة فجردت
من الثياب حتى بقيت حجارة مجردة، ثم كساها ثوبين من قَز، كان أبو
السرايا وجههما معه عليهما مكتوب: مما أمر به الأصفر بن الأصفر أبو
السرايا داعية آل محمد، لكسوة بيت الله الحرام، وأن يطرح عنه كُسوة
الظلمة من ولد العباس ليطهره من كُسوتهم، وكتب في سنة تسع وتسعين
ومائة.
ثم أمر حسين بالكسوة التي كانت على الكعبة فقسمت بين أصحابه العلويين
وأتباعهم، وعمد إلى ما في خزانة الكعبة من مال فأخذه، ولم يسمع بأحد
عنده وديعة لأحد من ولد العباس وأتباعهم إلا هجم عليه في داره، فإن وجد
من ذلك شيئاً أخذه، وإذا لم يجد شيئاً حبسه وعذبه حتى يفتدي نفسه.
وهرب كثير من الناس، فهدم دورهم، وجعلوا يحكون الذهب الرقيق الذي في
رؤوس أساطين المسجد الحرام، فيخرج من الأسطوانة بعد التعب الشديد قدر
مثقال، وقلعوا شباك زمزم فبيع بالثمن.
ومن الحوادث في هذه السنة: هرب أبي السرايا من الكوفة، ودخول هرثمة
إليها، وكانت هزيمته بمن معه من الطالبيين ليلة الأحد لأربع عشرة بقيت
من المحرم سنة مائتين حتى أتوا القادسية، ودخل منصور بن المهدي وهرتمة
الكوفة صبيحة تلك الليلة، وأمنوا أهلها، ولم يعرضوا لأحد منهم، فأقاموا
بها يومهم إلى العصر، ثم رجعوا إلى معسكرهم، وخلفوا بها رجلاً منهم
يقال له: غسَّان بن أبي الفرج.
ثم إن أبا السرايا خرج من القادسية هو ومن معه، حتى أتوا ناحية واسط،
وكان بواسط علي بن أبي سعيد وأصحابه، وكانت البصرة بيد العلويين بعد،
فجاء أبو السرايا حتى عبر دجلة أسفل واسط، فوجد مالاً كان قد حُمل من
الأهواز، فأخذه، ثم مضى إلى السوس، فنزل بمن معه، فأقام أربعة أيام،
وخرق على أصحابه مالاً. فلما كان في اليوم الرابع أتاهم الحسن بن علي
الباذغيسي، فأرسل إليهم: اذهبوا حيث شئتم، فلا حاجة لي في قتالكم، وإذا
خرجتم من عملي فلست أتبعكم. فأبى أبو السرايا إلا قتاله، فقاتلهم
فهزمهم الحسن، واستباح عسكرهم وهرب أبو السرايا، فلحق، فأتي به الحسن
بن سهل فضرب عنقه يوم الخميس لعشر خلون من ربيع الأول، وطيف برأسه في
المعسكر، وبُعث بجسده إِلى بغداد، فصلب بصفين على الجسرين، فكان من زمن
خروجه إلى وقت مقتله عشرة أشهر، والذي كان بالبصرة من الطالبيين زيد بن
موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب الذي يقال له: زيد
النار - وإنما قيل له ذلك لكثرة ما حرق من دور بني العباس وأتباعهم
بالبصرة - فتوجّه إليه علي بن سعيد فأخذه أسيراً فحبسه، وقيل: إنه طلب
منه الأمان فأمنه.
وفي هذه السنة: خرج إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي باليمن،
وذلك أنه كان بمكة، فلما بلغه خبر أبي السرايا والطالبيين بالعراق خرج
باليمن في جماعة من أهل بيته، ووالي اليمن المقيم بها من قبل المأمون
إسحاق بن موسى العلوي وقربه من صنعاء، وخرج منصرفاً عن اليمن بعسكره
وخلى اليمن لإبراهيم بن موسى، وكره قتاله، وذهب نحو مكة، فلما أراد
دخولها منعه من بها من العلويين، وكان يقال: لإبراهيم بن موسى الجزار
لكثرة من قتل باليمن من الناس وسبى، وأخذ من الأموال.
وفي هذه السنة: وجه بعض ولد عقيل بن أبي طالب من اليمن في جند كثيف
ليحج بالناس، فحورب العقيلي وهزم، ولم يقدر على دخول مكة، ومرت به
قافلة من الحاج والتجار، وفيها كسوة الكعبة وطيبها، فانتهب ذلك، وكان
على الموسم أبو إسحاق بن الرشيد، فبعث إليه من قتل من أصحابه وهرب
الباقون.
وفيها:
بويع لمحمد بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، وذلك
أن حسين بن حسن الذي حكينا عنه ما فعل بمكة عن أمر أبي السرايا لما
تغير الناس له لسوء سيرته، وبلغه أن أبا السرايا قد قتل، وأنه قد طرد
من كان بالكوفة والبصرة وكور العراق من الطالبيين، ورجعت الولاية بها
لولد العباس، اجتمعوا إلى محمد بن جعفر بن محمد بن علي - وكان شيخاً
محبباً في الناس، حسن السيرة، يروي العلم والناس يكتبون عنه، ويظهر
زهداً وسمتاً - فقالوا له: قد نعلم حالك في الناس، فأبْرِزْ شخصك نبايع
لك بالخلافة، فإنك إن فعلت ذلك لم يختلف عليك اثنان، فأبى عليهم، فلم
يزل ابنه به وحسين بن حسن الأفطس، حتى غلباه على رأيه، فأجابهم،
فأقاموه بعد صلاة الجمعة لثلاث خلون من ربيع الآخر، فبايعوه بالخلافة،
وحشروا إليه الناس من أهل مكة والمجاورين، فبايعوه طوعاً وكرهاً، فأقام
كذلك أشهراً، وليس له من الأمر سوى الاسم.
ثم أقبل إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي من اليمن، فاجتمع العلويون إلى
محمد بن جعفر، فقالوا له: هذا إسحاق بن موسى قد أقبل في الخيل والرحل،
وقد رأينا أن نخندق على مكة ونحاربه. فقاتلوه أياماً، ثم كره إسحاق
الفتال فرجع، ثم ردّ عليهم، وكانت الهزيمة على محمد بن جعفر وأصحابه،
فطلب محمد الأمان حتى يخرج من مكة فأمنوه.
ودخل إسحاق في جمادى الآخرة، وتفرق الطالبيون كل قوم فيِ ناحية، ومضى
محمد بن جعفر بجمع الجموع، وجاء إلى والي المدينة فخاصمه، فهزم محمد،
وفقئت عينه، وقتل من أصحابه خلق كثير.
ثم رده قوم من الولاة إلى مكة، وضمنوا له الأمان، فرقا المنبر بمكة
وقال: إنه بلغني أن المأمون مات، فدعاني الناس إلى أن يبايعوا لي، وقد
صح عندي أنه حي وأنا استغفر الله مما دعوتكم إليه من البيعة، وقد خلعت
نفسي من البيعة. خرج به عيسى بن يزيد إلى الحسن بن سهل، فبعث به الحسن
إلى المأمون.
وفي هذه السنة: خالف علي بن أبي سعيد الحسن بن سهل، فبعث المأمون بسراج
الخادم وقال له: إن وضع يده في يد الحسن أو يشخص إلينا، وإلا فأضرب
عنقه. فشخص إلى المأمون.
وفيها: خرج هرثمة إلى المأمون، وكان قد أتته كتب المأمون أن يلي الشام
والحجاز. فأبى، وقال: لا أرجع حتى ألقى أمير المؤمنين، إدلالاً منه،
لما كان يعرف من نصيحته له ولآبائه، وأراد أن يِلقى المأمون فيعرفه ما
يدبر عليه الفضل بن سهل، وما يكتم عنه من الأخبار، وأن لا يدع المأمون
حتى يرده إلى بغداد دار الخلافة وملك بني العباس، فعلم الفضل ما يريد،
فقال للمأمون إن هرثمة قد أنغَل عليك العباد والبلاد، وظاهر عليك
عدوّك، وعادى وليك، ودس أبا السرايا، ولو شاء هرثمة لم يفعل أبو
السرايا ما فعل، وقد كتب إليه أمير المؤمنين عدة كتب: أن يمضي إلى
الشام والحجاز، فأبى وقد جاء إلى أمير المؤمنين غاضباً، وأبطأ هرثمة في
السير، فلما قدم ضرب الطبل لكي يعلم المأمون بقدومه، فقال المأمون: ما
هذا؟ فقالوا: هرثمة قد أقبل يبرق ويرعد، وظن هرثمة أن قوله المقبول،
فلما دخل قال له المأمون: مالأت أهل الكوفة والعلويين، وداهنت ودسست
إلى أبي السرايا حتى خرج وعمل ما عمل، وقد كان رجلاً من أصحابك، ولو
أردت أن تأخذه لأخذته فذهب هرثمة ليعتذر، فلم يسمع منه، وأمر به فوجئ
على أنفه، وديس في بطنه، وسحب على وجهه من بين يديه، وقد تقدم الفضل بن
سهل إلى الأعوان بالغلظة عليه والتشديد، حتى حبس، فمكث في الحبس
أياماً، ثم دس إليه مَنْ قتله، وقالوا مات.
وفيها:
وقع شغب ببغداد بين الجند والحسن بن سهل، وذلك أن الحسن بعث إلى علي بن
هشام وهو والي بغداد من قبله: أن امطل الجند أرزاقهم، ومنِّهم ولا
تعطهم. وكان الجند قد قالوا: لا نرضى حتى تطرد الحسن بن سهل وعماله عن
بغداد. فطردوهم، وصيروا إسحاق بن المهدي خليفة للمأمون ببغداد، وجاء
علي بن هشام فقاتل الجند أياماً على قنطرة الصراة والأرحاء، ثم وعدهم
أن يعطيهم رزق ستة أشهر إذا أَدركت الغلة، فسألوه أن يعجل لكل رجل منهم
خمسين درهماً لينفقوها في رمضان، ففعل، فبينا هم كذلك خرج عليهم زيد بن
موسى بن جعفر الذي كان بالبصرة، المعروف بزيد النار، وذلك أنه كان
محبوساً عند علي بن أبي سعيد، فأفلت من الحبس وخرج بناحية الأنبار،
ومعه أخو أبي السرايا في ذي القعدة سنة مائتين، فبعثوا إليه، فأخذ
وأتوا به علي بن هشام، فلم يلبث إلا جمعة حتى هرب.
وفيها: أحصي ولد العباس فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفاً ما بين ذكر وأنثى.
وفيها: قتلت الروم ملكها أليون، وكان قد ملك عليهم سبع سنين وستة أشهر،
وملكوا عليهم ميخائيل مرة ثانية.
وفيها: قَتَل المأمون يحيى بن عامر بن إسماعيل، وذلك أن يحيى أغلظ له،
فقال له: أمير الكافرين، فقتل بين يديه في ذي القعدة.
وحج بالناس في هذه السنة أبو إسحاق ابن الرشيدُ.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أيوب بن المتوكل المقرئ. من أهل البصرة، سمع عبد الرحمن بن مهدي وغيره
روى عنه: علي بن المديني ويحيى، وكان من القراء.
توفي في هذه السنة أبان بن عبد الحميد بن إسحاق بن غفير مولى بني رقاش.
من أهل البصرة، شاعر مطبوع مقدم، قدم بغداد واتصل بالبرامكة، وانقطع
إليهم، وعمل لهم كتاب كليلة ودمنة شعراً. وله قصائد ومدائح في الرشيد
والفضل بن يحيى، ويقال إِن كل كلام نقل إلى شعر فالكلام أفصح منه إلا
هذا الكتاب.
أخبرنا أبو منصور القزار قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: قرأت على
الجوهري، عن أبي عبد الله المرزباني قال: أخبرني محمد بن يحيى قال:
حدَثنا القاسم بن إسماعيل قال: حدثني محمد بن صالح الهاشمي، قال: حدثني
ابن لعبد الحميد اللاحقي قال: أحب يحيى بن خالد أن يحفظ كتاب كليلة
ودمنة فاشتد عليه ذلك فقال له أبان بن عبد الحميد: أنا أجعله شعراً
ليخف على الوزير حفظه. فنقله إلى قصيدة، عملها مزدوجة عدد أبياتها
أربعة عشر ألف بيت في ثلاثة أشهر، فأعطاه يحيى عشرة آلاف دينار، وأعطاه
الفضل خمسة آلاف دينار. وقال له جعفر بن يحيى: ألا ترضى أن أكون راويتك
لها! ولم يعطه شيئاً. قال: فتصدق بثلث المال الذي أخذه. وكان أبان حسن
السيرة، حافظاً للقرآن، عالماً بالفقه. وقال عند وفاته: أنا أرجو الله
وأسأله رحمته ما مضت عليَ ليلة قط لم أصل فيها تطوعاً كثيراً.
وأول قصيدته هذه:
هذا كتاب أدبٍ ومحنه ... وهو الذي يُدْعى كليل دمنه
معروف بن الفيرزان، أبو محفوظ، ويعرف بالكرخي. نسبة إلى كرخ بغداد، كان
أهله نصارى، وكان صبياً في المكتب يقول معلمهم: أب وابن. فيصيح: أحدٌ
أحدٌ.
وأسلم، وروى عن بكر بن حبيس، والربيع بن صبيح وغيرهما، وكان من كبار
الزاهدين في الدنيا، والعارفين لله، المحبين له، وكان له كرامات.
وذكر مرة عند أحمد فقيل: هو قليل العلم فقال: وهل يُراد من العلم إلا
ما وصل إليه معروف!؟ وكان سفيان بن عيينة يقول: لا يزال أهل بغداد بخير
ما بقي فيهم معروف.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب قال: أخبرنا الحسن بن عثمان قال: أخبرنا ابن مالك القطيعي قال:
حدَّثنا العباس بن يوسف قال: حدًثني سعيد بن عثمان قال: سمعت محمد بن
منصور يقول: مضيت يوماً إلى معروف الكرخي ثم عدت إليه من الغد، فرأيت
في وجهه أثر شجة، فهبت أن أسأله عنها، وكان عنده رجل أجرأ مني عليه
فقال له: كنا عندك البارحة ومعنا محمد بن منصور، فلم نر في وجهك هذا
الأثر. فقال له معروف: خذ فيما تنتفع به. فقال له: أسألك بحق الله.
فانتفض معروف ثم قال له: وما حاجتك إلى هذا!؟ مضيت البارحة إلى بيت
الله الحرام، ثم صرت إلى زمزم، فشربت منها، فزلت رجلي، فنطح الباب
وجهي، فهذا الذي ترى من ذلك.
أخبرنا
أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب قال: أخبرني أحمد
بن علي التوزي قال: حدَثنا الحسين بن الحسن بن العباس قال: حدثني أبو
محمد الحسن بن عثمان بن عبد اللهّ البزار قال: حدَثني أبو بكر بن
الزيات قال: سمعت ابن شيرويه يقول: كنت أجالس معروفاً الكرخي كثيراً،
فلما كان ذات يوم رأيت وجهه قد خلا، فقلت له: يا أبا محفوظ، بلغني أنك
تمشي على الماء. فقال لي: ما مشيت قط على الماء، ولكن إذا هممت بالعبور
جمع لي طرفاها فأتخطاها.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو
محمد الخلال قال: حدَّثنا عبد الواحد بن علي الفامي قال: أخبرنا عبد
الله بن سليمان الوراق قال: حدَّثنا محمد بن أبي هارون قال: حدَثنا
محمد بن المبارك قال: حدَّثنا محمد بن صبيح قال: مرّ معروف على سقاء
يسقي الماء وهو يقول: رحم اللهّ من شرب. فشرب - وكان صائماً - فقال:
لعل الله أن يستجيب له.
قال المؤلف: توفي معروف في سنة مائتين ويقال: في سنة أربع ومائتين
والأول أصح. وقد جمعت أخباره في كتاب مفرد، فلم أطل هاهنا بالتكرار.
وهب بن وهب بن كثير بن عبد الله بن زمعة بن عبد المطلب بن أسد بن عبد
العزى أبو البختري القرشي حدَّث عن هشام بن عروة، وجعفر بن محمد، وابن
جريج، وانتقل عن المدينة إلى بغداد، فولاه الرشيد القضاء بعسكر المهدي،
ثم عزله فولاه مدينة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وجعل إليه صلاتها
وقضاءها وحربها. وكان جواداً، يعتذر إلى مَنْ يعطيه وإن كثر عطاؤه.
فقال مادحه:
هلا فعلت هداك المليك فينا كفعل أبي البختري
تتبع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقل عن المكثر
إلا أنه كان يضع الحديث ويسهر الليل في وضعه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا القاضي أبو الطيب الطبري قال: أخبرنا المعافى بن زكريا قال:
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا محمد بن الحسين
بن مسعود الزرقي قال: حدثنا عثمان بن عثمان قال: حدثنا أبو سعيد
العقيلي قال: لما قدم الرشيد المدينة أعظم أن يترقأ منبر النبي صلى
الله عليه وسلم في قباء أسود ومنطقة فقال أبو البختري حدثنا جعفر بن
محمد، عن أبيه قال: نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه قباء
ومنطقة مخنجراً فيها بخنجر، فقال المعافى التيمي هذه الأبيات:
ويل وعول لأبي البختري ... إذا توافى الناس في المحشر
من قوله الزور وإعلانه ... بالكذب في الناس على جعفر
والله ما خليت ساعة ... للفقه في بدو ولا محضر
ولا رآه الناس في دهره ... يمر بين القبر والمنبر
قاتل الله أبا وهب لقد ... أعلن بالزور وبالمنكر
يزعم أن المصطفى أحمداَ ... أتاه جبريل التقي البري
عليه خف وقباء أسود ... مخنجراً في الحقو بالخنجر
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا التنوخي قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر قال: حدثني عمر بن
الحسن الأشناني قال: حدثنا جعفر الطيالسي، عن يحيى بن معين: أنه وقف
على حلقة أبي البختريَ، فإذا هو يحدث بهذا الحديث: عن جعفر بن محمد، عن
أبيه، عن جابر. فقال له: كذبت يا عدوَ الله على رسول الله صلى الله
عليه وسلم. قال: فأخذني الشرط، فقلت: هذا يزعم أن رسول رب العالمين نزل
على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه قباء. قال: فقالوا لي: هذا قاضٍ
كذاب فأفرجوا عني.
توفي أبو البختري ببغداد في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة إحدى ومائتين
فمن الحوادث فيها: مراودة أهل بغداد منصور بن المهدي على الخلافة،
فأبى، فراودوه على الإمرة عليهم على أن يدعو للمأمون بالخلافة. وقالوا:
لا نرضى بالمجوسي ابن المجوسي يعنون الحسن بن سهل - فأجابهم المنصور
لذلك.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
الجوهري قال: أخبرنا عليِ بن عمر الحافظ قال: أخبرنا عبد الله بن إسحاق
بن إبراهيم قال: حدثنا الحارث بن محمد قال: حدثنا محمد بن سعد قال:
عسكر منصور بن المهدي في سنة إحدى ومائتين بكلواذى وسمي المرتضى، ودُعي
له على المنابر، وسلم عليه بالخلافة فأبى ذلك وقال: أنا خليفة أمير
المؤمنين المأمون حتى يقدم أو يولي من يحب. وعزل سعد بن إبراهيم عن
الجانب الشرقي، وولاه قتيبة بن زياد، وأقر محمد بن سماعة على قضاء
الجانب الغربي.
وفي هذه السنة: تجرَّدت المطوّعة للإنكار على الفساق ببغداد، وكان
رئيسهم خالد المريوش، وسهل بن سلامة.
وكان السبب في ذلك: أن فساق الجند والشطار أذوا الناس أذىً شديداً،
وأظهروا الفسق وقطع الطريق، وأخذوا النساء والغلمان علانية من الطرق،
وكانوا يجتمعون فيأتون الرجل، فيأخذون ابنه، فيذهبون به، فلا يقدر على
المنع منهم، وكانوا يجتمعون فيأتون القرى، فيأخذون ما قدروا عليه، ولا
سلطان يمنعهم ولا سلطان يعثر بهم، وخرجوا في آخر أمرهم إلى قطربل
فانتهبوها علانية، وجاءوا بما أخذوه يبيعونه علانية، وجاء أهلها
فاستعدَوا السلطان فلم يعدِهم، وكان ذلك في آخر شعبان، فلما رأى الناس
ذلك، قام صُلحاء كل رَبَض ودرْب ومشى بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما يكون
في الحرب الواحد الفاسق والفاسقان إلى العشرة، فأنتم أكثر منهم وقد
غلبوكم، فلو اجتمعتم لمنعتم هؤلاء الفساق. فقام رجل من ناحية طريق
الأنبار يقال له: خالد الدريوش، فدعا جيرانه، وأهل محلته إلى معاونته
على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأجابوه، فشد على مَنْ يليه من
الفساق والشطار فمنعهم وحبسهم ورفعهم إلى السلطان لأنه كان لا يرى أن
يُغَيِّر على السلطان شيئاً، ثم قام من بعده بيومين أو ثلاثة رجل يقال
له: سهل بن سلامة الأنصاري من أهل خُراسان، ويكنى: أبا حاتم، فدعا
الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بكتاب الله وسُنَّة
نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلّق مصحفاً في عنقه، ثم بدأ بأهل محلته
وجيرانه، فأمرهم ونهاهم فقبلوا منه، ثم دعا الناس جميعاً إلى ذلك وجعل
لنفسه ديواناً يثبتَ فيه اسم من أتاه يبايعه على ذلك، لقتال من خالفه،
فأتاه خلق كثير فبايعوه، إلا أن خالد الدريوش خالفه فقال: أنا لا أغير
على السلطان شيئاً ولا أقاتله. قال سهل: أنا أقاتل كل من خالف الكتاب
والسنة، كائناً مَنْ كان، سلطاناً أو غير سلطان، فمن بايعني على ذلك
قبلته، ومن خالفني قاتلته.
وقام سهل بذلك يوم الخميس لأربع خلون من رمضان، وقوتل من قبل السلطان،
قاتله عيسى بن محمد بن أبي خالد، فقاتل فضرب ضربة بالسيف، فرجع إلى
منزله، ثم اعتذر إليه عيسى أن يعود إلى الأمر بالمعروف، فعاد.
وفي هذه السنة: جعل المأمون علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن
الحسين ولي عهد المسلمين والخليفة من بعده، وسمَاه الرضيّ من آل محمد
صلى الله عليه وسلم وأمر جنده أن يطرح السواد ولبس ثياب الخضرة، وكتب
بذلك إلى الآفاق، وذلك يوم الاثنين لليلتين خلتا من رمضان هذه السنة.
فكتب الحسن بن سهل إلى عيسى بن محمد يخبره أن أمير المؤمنين قد جعل علي
بن موسى الرضي ولي عهده، وذلك أنه نظر في بني العباس وبني علي فلم يجد
أحداً أفضل ولا أورع ولا أعلم منه، وأنه سمَاه الرضي من آل محمد صلى
الله عليه وسلم، وأمر أن يطرح السواد ولبس الخضرة، وأن يأمر مَنْ
قِبَله من الجند والقواد وبني هاشم بالبيعة له، ويأخذهم بلبس الخضرة في
أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم، ويأخذ أهل بغداد جميعاً بذلك، فوصل الكتاب
إلى عيسى يوم الثلاثاء لخمس بقين من ذي الحجة، فدعا أهل بغداد إلى ذلك،
فاختلفوا، فقال قوم: نبايع، وقال قوم: لا نخرج الأمر من ولد العباس،
وإنما هذا دسيس من قبل الفضل بن سهل، وغضب ولد العباس من ذلك، واجتمع
بعض إلى بعض، وتكلموا فيه وقالوا: نولي بعضنا ونخلع المأمون. وكان
المتكلم في هذا والمختلف فيه والمتقلد له: إبراهيم ومنصور بن المهدي.
ذِكرُ العَهْدِ الَّذي كتبه المأمون بخطّه
لعلي ابن موسى الرَّضيّ عليهما السلام
بسم اللهّ الرحمن الرحيم. هذا كتاب كتبه عبد اللهّ بن هارون الرشيد
أمير المؤمنين بيده لعلي بن موسى بن جعفر ولي عهده.
أما بعد:
فإن الله اصطفى الإسلام ديناً، واصطفى له عباده رسلاً دالين عليه،
وهادين إليه، يبشر أولهم بآخرهم، ويصدق تاليهم ماضيهم، حتى انتهت نبوة
الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، ودروس من
العلم، وانقطاع من الوحي، واقتراب من الساعة، فختم الله به النبيين،
وجعله شاهداً لهم، ومهيمناً عليهم، وأنزل عليه كتابه العزيز الذي " لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " بما أحل
وحرم، ووعد وأوعد، وحذر وأنذر، ليكون له الحجة البالغة على خلقه، "
ليهلك من هلك عن بيِّنة، ويحيى من حيا عن بيّنة، وإن الله لسميع عليم "
. فبلّغ عن الله رسالته، ودعا إلى سبيله بما أمره به من الحكمة
والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ثم الجهاد والغلظة حتى قبضه
اللّه إليه، واختار له ما عنده صلى الله عليه وسلم، فلما انقضت النبوة،
وختم الله بمحمد الوحي والرسالة، جعل قوام الدين ونظام أمر المسلمين
بالخلافة، وإتمامها وعزها، والقيام بحق الله فيها بالطاعة التي بها
تقام فرائض الله وحدوده وشرائع الإسلام وسننه، ويجاهد بها عدوه، فعلى
خلفاء الله طاعته فيما استخلفهم، واسترعاهم من لمر دينه وعباده، وعلى
المسلمين طاعة خلفائهم ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله، وأمن السبل،
وحقن الدماء، وإصلاح ذات البين، وجمع الألفة، وفي خلاف ذلك اضطراب أمر
المسلمين، واختلاف ملتهم، وقهر دينهم، واستعلاء عدوهم، وتفرق الكلمة،
وخسران الدنيا والآخرة، فحق على من استخلفه في أرضه، وائتمنه على خلقه
أن يجهد لله نفسه، ويؤثر على ما فيه رضى الله وطاعته، ويعمل لما الله
واقفه عليه، وسائله عنه، ويحكم بالحق، ويعمل بالعدل فيما حمله الله
وقدمه، فإن الله عز وجل يقول لنبيه داود عليه السلام: " يا داود إنا
جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق " وقال تعالى: " فوربك
لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون " .
وبلغنا أن
عمر بن الخطاب قال: لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات لتخوفت أن يسألني الله
عنها، وأيم الله إن المسؤول عن خاصة نفسه على عمله فيما بين الله وبينه
ليعرض أمر كبير على خطر عظيم، فكيف بالمسؤول عن رعاية الأمة، وبالله
الثقة، وإليه المفزع والرغبة في التوفيق والعصمة والتسديد والهداية إلى
ما فيه ثبوت الحجة، والفوز من الله، والرضوان والرحمة، وأنظر الأئمة
لنفسه وأنصحهم لله في دينه وعباده، وخلافته في أرضه من عمل بطاعته
ودينه وسُنَّة نبيه عليه السلام في مدة، أيامه وبعدها، فأجهد رأيه
ونظره فيمن يوليه عهده، ويختاره لإمارة المسلمين ورعايتهم بعده، وينصبه
علماً لهم، ومفزعاً في جمع ألفتهم، ولمّ شعثهم، وحقن دمائهم، والأمن
بإذن الله من فرقتهم، وفساد ذات بينهم، واختلافهم، ورفع نزغ الشيطان
وكيده عنهم، وإن الله عز وجل جعل العهد بعد الخلافة من تمام أمر
الإسلام وكماله وعزه وصلاح أهله، وأنهم خلفاؤه من توكيده لمن يختارونه
لهم من بعدهم ما عظمت به النعمة، وسلمت فيه العاقبة، وينقض اللهّ بذلك
الشقاق والعداوة، والسعي في الفرقة، والتربص للفتنة، ولم يزل أمير
المؤمنين مذ أفضت إليه الخلافة، فاختبر بشاعة مذاقها، وثقل محملها،
وشحة مؤونتها، وما يجب على من تقلدها من ارتباط طاعة الله ومراقبته
فيما حمله فيها وأنصب بدنه، وأسهر عينه، وأطال فكره فيما فيه عز الدين،
وقمع المشركين، وصلاح الأمة، ونشر العدل، وإقامة الكتاب والسنة، ومنع
ذلك من الخفض، والدعة، ومهنأ العيش، علماً بما الله سائله عنه، ومحبته
أن يلقى الله مناصحاً في دينه وعباده، ومختاراً لولاية عهده ورعاية
الأمة من بعده أفضل ما يقدر عليه في دينه وورعه، وأرجاهم للقيام بأمر
الله وحقه، مناجياً لله بالاستخارة في ذلك، ومسألته إلهامه ما فيه رضاه
وطاعته في آناء ليله ونهاره، معملاً في طلبه، والتماسه في أهل بيته من
ولد كبد الله بن العباس وعلي بن أبي طالب، فكره ونظره، مقتصراً فيمن
علم حاله، ومذهبه منهم على الحق علماً بالغاً في المسألة فيمن خفي عليه
أمره، وجهده وطاقته، حتى استقضى أمورهم معرفة، وابتلى أخبارهم مشاهدة
وكشف ما عندهم مساءلة، فكانت خيرته بعد استخارته لله، وإجهاد نفسه في
قضاء حقه في عباده من البيتين جميعاً: علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن
علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، لما رأى من فضله البارع، وعلمه
الناصع، وورعه الظاهر، وزهده الخالص، وتخليه من الدنيا، ومسلمته من
الناس، فقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطئة، والألسن متفقة،
والكلمة فيه جامعة، وما لم يزل يعرفه به، من الفضل، يافعاً وناشئَاً،
وحدثاً ومكتهلاً، فعقد له العهد والولاية من بعده، واثقاً بخيرة الله
في ذلك، إذ علم الله من فعله إيثاراً له وللدين، ونظراً للمسلمين،
وطلباً للسلامة، وثبات الحجة، والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه
لرب العالمين، ودعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته وقوٌاده
وجنده، فبايعوه مسارعين مسرورين عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله
على الهوى في ولده وغيرهم ممن هو أشبك رحماً، وأقرب قرابة، وسمّاه
الرّضيّ، إذ كان رضا عند أمير المؤمنين، فبايعوه معشر بيتَ أمير
المؤمنين، ومن بالمدينة المحروسة من قواده وجنده وعامة المسلمين لأمير
المؤمنين والرضي من بعده على اسم الله وبركته وحسن قّضائه لدينه
وعباده، بيعة مبسوطة إليها أيديكم، منشرحة لها صدروكم، عالمين ما أراد
أمير المؤمنين بها، وأثر طاعة الله، والنظر لنفسه ولكم فيها، شاكرين
لله على ما ألهم أمير المؤمنين من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على
رشدكم وصلاحكم، راجين عائدة الله في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم
شعثكم، وسد ثغوركم، وقوة دينكم، وقمع عدوكم، واستقامة أموركم، فسارعوا
إلى طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين، فإنه الأمر إن سارعتم إليه، وحمدتم
الله عليه، عرفتم الحظ فيه إن شاء الله، وكتب بيده لسبع خلون من شهر
رمضان المعظم قدره سنة إحدى ومائتين.
وكتب الرضي عليه السلام كلمات منها أنه كتب عند قوله: اختار من البيتين
جميعاً علي بن موسى بن جعفر، كتب تحته: وصلتك رحمٌ وجزيت خيراً.
وكتب تحت مدحه إياه بقوله: وورعه وزهده: أثنى الله عليك فأجمل، وأجْزَل
لك الثواب فأكمل.
وكتب تحت
قوله: فعقد له العهد بعده: بل جعلت فداك.
وكتب تحت قوله: وسمَّاه الرّضي: رضي الله عنك وأرضاك وأحسن في
الدارينجزاك.
ثم كتب الرضي على ظهر العهد ما نسخته
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، الفعّال لما يريد، لا
معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور،
وصلواته على نبيه وعلى آله الطيبين الطاهرين.
أقول وأنا علي بن موسى بن جعفر إن أمير المؤمنين عضده الله بالسداد،
ووفقه للرشاد عرف من حقنا ما جهله غيره، فوصل أرحاماً قطعت، وأمَنَ
أنفساً فزعت، بل أحياها وقد تلفت، وأغناها وقد افتقرت، مبتغياً رضا رب
العالمين، لا يرضى جزاء من غيره، وسيجزي الله الشاكرين، ولا يضيع أجر
المحسنين، وإنه جعل إليَّ عهده والإمرة الكبرى إن بقيت من بعده، فمن حل
عقدة أمرها، وفصم عروة أحب إيثاقها، فقد أباح حريمه وأحل محرمه، إِذ
كان بذلك زارياً على الإمام، منتهكاً حرمة الإسلام وقد جعلت لله على
نفسي إن استرعاني أمير المؤمنين وقَلدني خلافته العمل فيهم عامة، وفي
بني العباس بن عبد المطلب خاصة، بطاعته وسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وأن لا أسفك دماً حراماً، ولا أبيح فرجاً ولا مالاً إلا ما سفكته
حدوده، وأباحته فرائضه، وأن أتخيّر الكفاة جهدي وطاقتي، وقد جعلت بذلك
على نفسي عهداً مؤكداً، يسألني الله عنه، فإنه عز وجل يقول: " وأوفوا
بالعهد إن العهد كان مسؤولاً " فإن حدتُ أو غيرت أو بدلت كنت للتغيير
مستحقاً، وللنكال متعرضَاً، فأعوذ بالله من سخطه وإليه أرغب في التوفيق
لطاعته والحول بيني وبين معصيته في عافيته لي وللمسلمين. وقد امتثلت
أمر أمير المؤمنين، وآثرت رضاه، والله يعصمني وإياه، وأشهدت الله على
نفسي، وكفى بالله شهيداً.
وكتبت خطي بحضرة أمير المؤمنين، أطال الله بقاءَه، والفضل بن سهل،
ويحيى بن أكثم، وعبد الله بن طاهر، وثمامة بن أشرس، وبشر بن المعتمر،
وحماد بن النعمان. في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين.
نُسْخَةُ الشَهادَاتِ
رسم أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه وكبت أعداءه - قراءة مضمون هذه
الصحيفة، ظهرها وبطنها بحرم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين
الروضة والمنبر، على رؤوس الأشهاد، وبمرأىً ومسمعٍ من وجوه بني هاشم
وسائر الأولياء والأجناد، بما أوجب أمير المؤمنين الحجة به على سائر
المسلمين، وأبطل الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين، " وما كان
اللّه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه " . وكتب الفضل بن سهل بحضرة
أمير المؤمنين في التاريخ المذكور: عبد الله بن طاهر بن الحسين أثبت
شهادته في تاريخه.
شهد يحيى بن أكثم على مضمون هذا المكتوب، ظهره وبطنه، وهو يسأل الله عز
وجل أن يعرف أمير المؤمنين وكافة المسلمين بركات هذا العهد، والميثاق،
وكتب بخطه في التاريخ المبيّن.
شهد حماد بن النعمان على مضمون ظهره وبطنه، وكتب بيده في تاريخه. بشر
بن المعتمر يشهد بذلك، وكتب بيده في التاريخ.
ثمامة بن أشرس. حضر وكتب خطه.
قال هبة الله بن الفضل بن صاعد الكاتب: هذا العهد، رأيته بخط المأمون،
ابتاعه خالي يحيى بن صاعد بمائتي دينار، وحمله إلى سيف الدولة صدقة بن
منصور، وكان فيه خطوط جماعة من الكتاب، مثل: الصولي عبد الله بن
العباس، والوزير المغربي.
وفي هذه السنة: بويع لإبراهيم بن المهدي. وكان السبب ما ذكرناه، وهو أن
المأمون لما بايع لعلي بن موسى الرضي نفر العباسيون وأظهروا أنهم خلعوا
المأمون، وبايعوا لإبراهيم بن المهدي، ومن بعده إسحاق بن موسى بن
المهدي، وضمنوا للجند أشياء يعطونهم، وأمروا رجلاً يقول يوم الجمعة حين
يؤقت المؤذن: إنا نريد أن ندعو للمأمون، ومن بعده لإبراهيم يكون خليفة،
ودسُّوا قوماً فقالوا: إذا قام من يتكلم بهذا فقوموا وقولوا: لا نرضى
إلا أن تبايعوا لإبراهيم، ومن بعده لإسحاق وتخلعوا المأمون، فلمّا قام
مَنْ تكلم بهذا وأجيب بهذا، لم يصلّوا في ذلك اليوم الجمعة، ولا خطب
أحد، وصلَى الناس أربع ركعات، وذلك في يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي
الحجة.
وفي هذه السنة: افتتح عبد الله بن خُرْداذْبه والي طبرستان بلاداً من
بلاد الديلم، وزادها في بلاد الإسلام، وافتتح جبال طبرستان.
وفيها:
تحرك بابك الحرمي في الجاويذَانيّة أصحاب جاويذان بن سهل، وادعى أن
رُوح جاويذان صاحب البذّ دخلت فيه، وأخذ في العيْث والفساد.
وفيها: أصاب أهل خُراسان والري وأصبهان مجاعة، وعزَ الطعام، ووقع
الموت. وحج بالناس في هذه السنة إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد
بن علي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر.
الحسين بن الحسن بن عطية بن سعد بن جنادة أبو عبد الله العوفي من أهل
الكوفة، ولي ببغداد قضاء الشرقية بعد حفص بن غياث، ثم نقل إلى قضاء
عسكر المهدي في خلافة الرشيد أياماً، ثم عزله. وحدث عن أبيه، وعن
الأعمش، ومسعر.
روى عنه: عمر بن شبة وغيره، وكان ضعيفاً في الحديث، ويُصحف إذا روى،
وكانت لحيته تبلغ إلى ركبته.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن ثابت قال: أخبرنا علي
بن القاسم بن الحسن الشاهد قال: حدثنا علي بن إسحاق المادرائي قال:
حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال: وحدثني بعض أصحابنا قال: جاءت امرأة
إلى العوفي قاضي هارون، ومعها صبي ورجل فقالت: هذا زوجي، وهذا ابني
منه، فقال له: هذه امرأتك. قال: نعم، قال: وهذا الولد منك؟ قال: أصلح
الله القاضي، أنا خصي، قال: فألزمه الولد فأخذ الصبي فوضعه على رقبته
وانصرف، فاستقبله صديق له خصي والصبي على عنقه، فقال: مَنْ هذا الصبي؟
فقال: القاضي، يفرق أولاد الزنا على الناس.
توفي العوفي في هذه السنة.
سعد بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أبو إسحاق
الزهري سمع أباه وغيره، روى عنه: أحمد بن حنبل، وخلف بن سالم، وكان
صدوقاً ثقة، ولي القضاء بواسط في خلافة هارون، ثم ولي قضاء العسكر
للمهدي ببغداد، ثم عزل فلحق بالحسن بن سهل، وهو بفم الصلح فولاه قضاء
عسكره.
وتوفي بالمبارك في هذه السنة وهو ابن ثلاث وستين سنة.
عبد الله بن الفرج، أبو محمد القنطري. كان أحد العُبَّاد، وكان بشر
الحافي يوده ويزوره.
روى عنه: البرجلاني، وعلي بن الموفق.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا العتيقي قال: حدثنا
محمد بن العباس قال: حدثنا العباس بن العباس الجوهري قال: حدثنا عبد
الله بن عمرو قال: حدثنا محمد بن بيان المكي قال: حدثني صاعد قال: لما
مات عبد الله بن الفرج حضرت جنازته، فلمّا واريته رأيته في الليل في
النوم جالساً على شفير قبره، ومعه صحيفة ينظر فيها فقلت له: ما فعل
الله بك قال: غفر لي ولكل من شيع جنازتي قال: قلت له: أنا كنت معهم
قال: هو ذا اسمك في الصحيفة.
علي بن عاصم بن صهيب أبو الحسن مولى قريبة بنت محمد بن أبي بكر الصديق.
من أهل واسط، ولد سنة ثمان ومائة، وقيل: سنة خمس ومائة، وسكن بغداد
وحدث بها عن حصين بن عبد الرحمن ومحمد بن سوقة، وداود بن أبي هند
وإسماعيل بن أبي خالد وابن جريج وحميد الطويل، روى عنه: أحمد بن حنبل،
وغيره، إلا انهم قالوا: كان يخطئ فضعّفوه بذلك.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
قال: أخبرنا مسعود بن ناصر بن أبي زيد السكري قال: حدثنا أبو الفضل
محمد بن الفضيل المزكي قال: حدثنا أبو نصر أحمد بن الحسين المرواني
قال: سمعت زنجوية بن محمد اللًباد يقول: سمعت عبد الله بن كثير البكري
يقول: سمعت أحمد بن أعين يقول: سمعت علي بن عاصم يقول: دفع إليَ أبي
مائة ألف درهم وقال: اذهب فلا أرى وجهك إلا بمائة ألف حديث.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال: أخبرنا الخطيب قال أخبرنا أبو الوليد
الحسن بن محمد الدربندي قال: حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن سليمان
الحافظ قال: حدثنا أحمد بن سهل بن حمدويه قال: سمعت أبا نصر بن الليث
بن حبرويه يقول: سمعت يحيى بن جعفر يقول: كان يجتمع عند علي بن عاصم
أكثر من ثلاثين ألفاً، وكان يجلس على سطح، وكان له ثلاثة مستملين.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال حدثني
الحسن بن علي المقرئ قال: حدثني أبو عمر بن مهدي قال: أخبرنا محمد بن
أحمد بن يعقوب قال: حدثني جدي قال: حدثني يوسف بن يعقوب الصفار قال:
سمعت عاصم بن علي بن عاصم يقول: قال: أخبرنا أبي أنه صام ثمانين شهر
رمضان ومات وهو ابن أربع وتسعين سنة.
ثم دخلت
سنة اثنتين ومائتين
فمن الحوادث فيها:
أن أهل
بغداد خلعوا المأمون، وبايعوا لإبراهيم بن المهدي بالخلافة، وسمّوه
المُبارك وفي وقت فعلهم هذا قولان: أحدهما أنه أول يوم من المحرم
والثاني لخمس خلون منه. وصعد إبراهيم المنبر فكان أول من بايعه عبيد
الله بن محمد الهاشمي، ثم منصور بن المهدي، ثم سائر الناس، ثم بنو هاشم
ثم القواد، وكان المتولّي لأخذ البيعة المطلب بن عبد الله بن مالك،
وكان الذي سعى في ذلك وقام به: السندي، وصالح صاحب المصلى، ومنجاب،
ونصير الوصيف وسائر الموالي إلا أن الذين سميناهم كانوا الرؤساء
والقادة، وإنما فعلوا ذلك غضباً على المأمون حين أراد إخراج الخلافة من
ولد العباس إلى ولد علي، ولترك لباس آبائه من السواد ولبس الخُضرة.
ولمَا فرغ من البيعة وعد الجند أن يعطيهم أرزاقاً لستة أشهر، فدافعهم
بها، فلمَّا رأوا ذلك شنعوا عليه، فأعطى كل رجل منهم مائتي درهم، وكتب
لبعضهم إلى السواد بقيمة ما لهم من الحنطة، فخرجوا في قَبْضها، فلم
يمرّوا بشيء إلا نهبوه وأخذوا النصيبين جميعاً: نصيب أهل البلاد ونصيب
السلطان، وغلب إبراهيم مع أهل بغداد على أهل الكوفة والسواد كله، وعسكر
بالمدائن، وولّى الجانب الشرقيّ من بغداد العباس، والجانب الغربيّ
إسحاق بن موسى الهادي.
وأمر أن يُستتاب المريسي.
أخبرنا أبو منصور قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا علي بن أبي
علي قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر قال: هاجت العامة على بشر
المريسي فسألوا إبراهيم بن المهدي أن يستتيبه، وأمر إبراهيم قتيبة بن
زياد القاضي أن يُحضره مسجد الرصافة.
فحدثني محمد بن أحمد بن إسحاق، عن محمد بن خلف قال: سمعت محمد بن عبد
الرحمن الصيرفي يقول: شهدت المسجد الجامع بالرصافة وقد اجتمع الناس،
وجلس قتيبة بن زياد، وأقيم بشر المريسي على صندوق من صناديق المصاحف
عند باب الخدم، وقام المستمليان أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس مستملي
ابن عيينة، وهارون بن موسى مستملي يزيد بن هارون يذكران: أن أمير
المؤمنين إبراهيم بن المهدي أمر قاضيه قتيبة بن زياد أن يستتيب بشر بن
غياث المريسي عن أشياء عمّدها منها: ذكر القرآن وغيره، وأنه تائب، فرفع
بشر صوته يقول: معاذ اللّه، إني لست بتائب، فكثر الناس عليه حتى كادوا
يقتلونه وأدخل إلى باب الخدم، وتفرّق الناس.
وفي هذه السنة: خرج مهدي بن عُلوان الحروري فوجه إليه إبراهيم بن
المهدي أبا إسحاق بن الرشيد في جماعة من القواد فهزم مهدياً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
قال: أخبرنا عبد الله بن عمر بن أحمد الواعظ قال: أخبرنا أبي قال: قال
إسماعيل بن علي: وبايع أهل بغداد لأبي إسحاق إبراهيم بن المهدي ببغداد
في داره المنسوبة إليه في ناحية سوق العطش وسموه المبارك، ويقال:
سُمِّي المرضي، وذلك يوم الجمعة لخمس خلون من المحرم سنة اثنتين
ومائتين وأمه أم ولد يقال لها: شكلة وبها يعرف، فغلب على الكوفة
والسواد، وخطب له على المنابر وعسكر بالمدائن، ثم رجع إلى بغداد، فأقام
بها، والحسن بن سهل مقيم في حدود واسط خليفة للمأمون، والمأمون ببلاد
خُراسان، فلم يزل إبراهيم مقيماً ببغداد على أمره يدعى بأمير المؤمنين،
ويُخطب له على منبري بغداد، وما غلب عليه من السواد والكوفة، ثم رحل
المأمون متوجهاً إلى العراق، وقد توفي علي بن موسى الرضي، فلما أشرف
المأمون على العراق، وقرب من بغداد، ضعف أمر إبراهيم بن المهدي، وقصرت
يده، وتفرَّق الناس عنه، فلم يزل على ذلك إلى أن حضر الأضحى من سنة
ثلاث ومائتين.
وفي هذه السنة: وثب أخو أبي السرايا بالكوفة فبيض، واجتمعت إليه جماعه،
فلقيه غَسّان بن الفرج في رجب، فقتله وبعث برأسه إلى إبراهيم بن
المهدي.
وفيها:
ظفر إبراهيم بن المهدي بسهل بن سلامة المطوعي، فحبسه وعاقبه، وقد ذكر
عن سهل أنه كان يأمر بالمعروف، واجتمع إليه عامة أهل بغداد، وكان كل
مَنْ أجابه يثني على بابه بُرجاً بجصّ وآجرّ، وينصب عليه السلاح
والمصحف، حتى بلغوا قرب باب الشام، وكان سهل يذكر الولاة بأقبح أعمالهم
ويقول: الفساق. فقاتله أصحاب إبراهيم بن المهدي، وخذله العوام حتى أخذ،
فأتى به إسحاق بن الهادي فقال له: حرضت علينا الناس وعبت أمرنا. فقال:
إنما كنت أدعو إلى العمل بالكتاب والسُّنَّة. فقالوا له: اخرج فقل إنما
الذي كنت أدعو إليه باطل: فخرج فقال: إن الذي كنت أدعو إليه من الكتاب
والسنة أنا أدعو إليه اليوم. فوجئ عنقه وضربوه وقُيِّد وحُبس وخُفي
أمره.
وفي هذه السنة: شخص المأمون من مرو يريد العراق.
وكان سبب ذلك: أنه أخبر بالقتال والفتن منذ قتل الأمين، وأن أهل بيته
قد غضبوا لمبايعة علي بن موسى وأنهم قد بايعوا لإبراهيم بن المهدي،
وكان الفضل بن سهل يكتمه هذه الأحوال، فلما أخبر بها وبان أن هرثمة
إنما جاء لنصحه، وأنه إن لم يتدارك الأمر خرجت الخلافة من يده، وأن
طاهر بن الحسين لمَّا وطأ له الخلافة أخرج من الأمر وصُيِّر في زاوية
في الرقة، وأنه لو كان ببغداد لم يجترئ أحد على ما اجترأ عليه، وإنك لو
خرجت عاد إليك بنو هاشم كلهم وأطاعوا، ولم يخبروا بهذا حتى أخذوا خطة
بالأمان من الفضل بن سهل، لأنه كان لا يظهره على شيء من هذا فلما تحقق
الأمر عنده، وأمر بالرحيل إلى بغداد، علم الفضل بن سهل ببعض أمورهم،
فتعنتهم فضرب بعضهم بالسياط، وحبس بعضهم، ثم ارتحل من مرو، فلما دخل
سرخس دخل أربعة نفر على الفضل بن سهل وهو في الحمام، فقتلوه وهربوا،
فطلبهم المأمون فقتلهم، وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل، وأعلمه ما دخل
عليه من المصيبه بقتل الفضل بن سهل، وأنه صيَّره مكانه، ووصل الخبر
بذلك إلى الحسن في رمضان، وجعل المطلب يدعو في السر للمأمون، وخلع
إبراهيم، فأجابه منصور، وخزيمة، وقوّاد كثير، وعلم إبراهيم فبعث إلى
المطلب، ومنصور، وخزيمة فاعتلوا عليه، ونهب ألفاً من دار المطلب.
وفي هذه السنة: تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل، إلا أنه دخل بها
في سنة عشر، وسنذكر هناك خبرها.
وفي هذه السنة: زوج المأمون علي بن موسى الرضي ابنته أم حبيب، وزوّج
محمد بن علي بن موسى ابنته أم الفضل.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال:
أجاز لي أبو نصر أحمد بن محمد بن حسنون النرسي وحدثنيه ثقة من أصحابنا
عنه قال: أخبرنا إبراهيم بن حامد بن شباب الأصبهاني قال: أخبرنا أحمد
بن يحيى قال: سمعت يحيى بن أكثم يقول: لما أراد المأمون أن يزوج ابنته
من الرضي، قال لي يا يحيى تكلم. قال: فأجللته أن أقول له: أنكحت؟ فقلت:
يا أمير المؤمنين، أنت الحاكم الأكبر وأنت أولى بالكلام، فقال: الحمد
لله الذي تصاغرت الأمور بمشيئته، ولا إله إلا اللّه إقراراً بربوبيته
وصلى الله على سيدنا محمد عند ذكره، أما بعد: فإن الله جعل النكاح الذي
رضيه سبباً للمناسبة ألا وإني قد زوَّجت ابنتي من علي بن موسى الرضي،
وأمهرتها عنه أربعمائة درهم.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد ودعا لأخيه
بعد المأمون ولاية العهد، ومضى إبراهيم بن موسى إلى اليمن، وكان قد غلب
عليها حمدويه بن علي بن موسى بن ماهان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الفضل بن سهل بن عبد الله أبو العباس الملقب ذا الرئاستين كان من أولاد
ملوك المجوس، وأسلم أبوه سهل في أيام الرشيد، واتصل بيحيى بن خالد
البرمكي، واتصل الفضل والحسن ابنا سهل بالفضل وجعفر بن يحيى بن خالد،
فضمّ جعفر بن يحيى الفضل بن سهل إلى المأمون وهو ولي عهد، وقيل: إن
الفضل لما أراد أن يُسلم كره أن يُسلم على يد الرشيد والمأمون، فصار
وحده إلى الجامع يوم الجمعة، فاغتسل ولبس ثيابه، ورجع مسلماً، وغلب على
المأمون لخلاله الجميلة من الكرم والوفاء والبلاغة والكتابة، فلما
استخلف المأمون فوَض إليه أموره كلها، وسماه ذا الرئاستين لتدبيره أمر
السيف والقلم.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو
علي الحسن بن محمد بن عمر النرسي قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن المكتفي
بالله قال: حدثنا ابن الأنباري قال: قال رجل للفضل بن سهل اسكتني عن
وصفك تساوي أفعالك في السؤدد وحيًرني فيها كثرة عددها، فليس لي إلى
ذكرها جميعها سبيل، وإذا أردت وصف واحدة اعترضت أختها إذ كانت الأولى
ليست بأحق في الذكر، فلست أصفها إلا بإظهار العجز عن وصفها.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو
بشر محمد بن أبي السري الوكيل قال: حدثنا أبو عبيد الله محمد بن عمران
المرزباني قال: أخبرني الصولي قال: أنشدنا ثعلب قال: أنشدنا إبراهيم بن
العباس الصولي لنفسه في الفضل بن سهل:
لفضل بن سهل يد ... تقاصر عنها المثل
فبسطتها للغنى ... وسطوتها للأجل
وباطنها للندى ... وظاهرها للقبل
فأخذه ابن الرومي فقال للقاسم بن عبيد الله:
أَصبحت بين خصاصة وتجمل ... والمرء بينهما يموت هزيلا
فامدد إليّ يداً تعود بطنها ... بذل النوال وظهرها التقبيلا
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن علي بن
ثابت قال: أخبرني أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الواحد المنكدري قال:
حدثني أبو أحمد بن عبيد الله بن محمد بن أحمد المنقري قال: أخبرنا
الصولي قال: أخبرنا القاسم بن إسماعيل قال: حدثني إبراهيم بن العباس
الصولي قال: اعتل الفضل بن سهل ذو الرئاستين علة بخْراسان ثم برأ، فجلس
للناس فهنأوه بالعافية وتصرفوا في الكلام، فلما فرغوا أقبل على الناس
فقال: إن في العلل لنعماً ينبغي للعقلاء أن يعرفوها بمحيص الذنوب،
وتعرض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، وإذكار بالنعمة في حال الصحة،
واستدعاء للتوبة وحضّ على الصدقة، فنسي الناس ما تكلموا به وانصرفوا
بكلام الفضل.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرني
الحسن بن أبي بكر قال: كتب إلي محمد بن إبراهيم أن أحمد بن حمدان
أخبرهم قال: حدثنا أحمد بن يونس الضبي قال: حدثنا أبو حسان الزيادي
قال: سنة اثنتين ومائتين فيها قتل ذو الرئاستين الفضل بن سهل يوم
الخميس لليلتين خلتا من شعبان بسرخس في الحمام، اغتاله نفر، فدخلوا
عليه فقتلوه، فقتل به المأمون عبد العزيز بن عمران الطائي، ومؤنس بن
عمران البصري، وخلف بن عمرو البصري، وعلي بن أبي سعيد، وسراجاً الخادم.
قال المصنف رحمه الله: وفي رواية أخرى: أنه لما رحل المأمون من مرو
ووصل إلى سرْخس، شد أربع نفر من خواص المأمون وهم غالب المسعودي،
وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفق الصقلي على الفضل بن سهل وهو فيِ
الحمام فقتلوه وهربوا، وذلك في يوم الجمعة لليلتيِن خلتا من شعبان هذه
السنه، فجعل المأمون لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار، فجاء بهم العباس بن
القاسم، فقالوا للمأمون: أنت أمرتنا بقتله فأمر بهم فضربت أعناقهم.
وذكر الجاحظ أن عمر الفضل كان إحدى وأربعين سنة وخمسة أشهر.
يحيى بن المبارك بن المغيرة أبو محمد العدوي المعروف باليزيدي صاحب أبي
عمرو بن العلاء.
حدَّث عن أبي عمرو وابن جريج، وأخذ عن الخليل من اللغة أمراً عظيماً،
وجلس يوماً إلى جانبه، فقال له: احسبني ضيقتَ عليك؟ فقال الخليل: ما
ضاق شيء عن صاحبين، والدنيا ما تَسَع متباغضين.
وإنما قيل له: اليزيدي، لأنه كان منقطعاً إلى يزيد بن منصور الحميري
يؤدب ولده، فنسب إليه.
ثم اتصل بالرشيد فجعل المأمون في حجره، وكان يكلم الأمين والمأمون وهما
صبيان بكلام بقصيدته تعلم الفصاحة: فأكلا يوماً كمأة فتحمَرا، فقال
لهما اليزيدي: فلأ كلأكما كمأكما لا دوا أن دوالا سلا.
وكان الرشيد قد وكل بهما خادماً يؤدي إليه ما يجري منهما، فمضى إلى
الرشيد وقال له: إنه اليوم علمهما كلام الزنجية، فدعاه فقال: أحسنت
الزنجية قط، قال: كذا عرفني الخادم. فقال الخادم: بلى، قد كان ذلك وقت
أكل الكمأة، فقال اليزيدي: إنما قلت كذا ليتفصَّحا، وأنا أفعل مثل هذا
كثيراً. فقال الرشيد: لا تلم الخادم، فلولا التقدمة لظننته أنا
بالزنجية.
وكان
اليزيدي أحد القراء الفصحاء الشعراء، عالماً بلغات العرب، ثقة، وكان
يجلس في أيام الرشيد مع الكسائي ببغداد في مسجد واحد يقرئان الناس،
وكان الكسائي يؤدّب الأمين، واليزيدي يؤدب المأمون فأقر الرشيد الكسائي
أن يأخذ على الأمين بحرف حمزة، وأمر اليزيدي أن يعلم المأمون حرف أبي
عمرو.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرنا محمد بن
عبد الواحد البزاز، قال: أخبرنا أبو سعيد السيرافي، قال: أخبرنا محمد
بن أبي الأزهر، قال: أخبرنا الزبير بن بكار قال: أنشدني: إسحاق بن أبي
إبراهيم، قال: أنشدني أبو محمد اليزيدي:
إذا نكبات الدهر لم تعظ الفتى ... وتفرغ منه، لم تعظه عواذلُهْ
ومن لم يؤدبه أبوه وأمه ... تؤدبه رُوعُ الردى وزلازلُهْ
فدع عنك ما لا تستطيع ولا تطع ... هواك ولا يُغلب بحقك باطلْه
توفي اليزيدي في هذه السنة.
أبو إسحاق المولاي. من أهل الريّ، كان يُقال إنه من الأبدال، وله
كرامات.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا الخطيب، قال: أخبرنا ابن رزق، إجازة، حدثنا
جعفر الجلدي، قال: حدثنا ابن منصور قال: سمعت محمد بن منصور يقول: جئت
مرة إلى معروف الكرخي، فغضَّ أنامله وقال: هاه، لو لحقت أبا إسحاق
الدولابي كان ها هنا الساعة يسلم عليَّ، فذهبت أقوم، فقال لي: اجلس،
لعله قد بلغ منزله بالريّ.
توفي أبو إسحاق الدولابي في هذه السنة، رحمة الله عليه.
ثم دخلت
سنة ثلاث ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن المأمون شخص من سرخس حتى صار إلى طوس، فأقام عند
قبر أبيه أياماً، ثم إن علي بن موسى بن جعفر أكل عنباً فأكثر منه فمات
فجأة، وذلك في آخر صفر فصلى عليه المأمون وأمر بدفنه عند قبر أبيه
الرشيد، وكتب في شهر ربيع الأول إلى الحسن بن سهل يعلمه بوفاته، ويعلمه
ما دخل عليه من الغم به، وكتب إلى بني العباس والموالي وأهل بغداد
يعلمهم موت علي، وإنهم إنما نقموا بيعته من بعده، ويسألهم الدخول في
طاعته فكتبوا إليه بأغلظ كتاب.
ورحل المأمون من طوس يريد بغداد، فلما صار إلى الري أسقط من وظيفتها
ألف ألف درهم.
وفي هذه السنة: غلبت السوداء على الحسن بن سهل فتغير بذلك المرض عقله
حتى قُيد، وكتب بذلك قوًاد الحسن إلى المأمون، فكتب أن يكون على عسكره
دينار بن عبد الله.
وفيها: ضرب إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد بن أبي خالد، وحبسه.
وسبب ذلك: أنه كان يكاتب حُميداً والحسن، ويظهر لإبراهيم الطاعة، فإذا
قال له إبراهيم: تهيأ للخروج لقتال حُميد، اعتلّ بأن الجند يريحون
أرزاقهم، وتارة يقول: حتى تدرك الغلة، فلما توثق فيما بينه وبين الحسن
وحميد فارقهم على أن يدفع إليهم إبراهيم يوم الجمعة لانسلاخ شوال، فبلغ
ذلك إبراهيم، فأخذ الحفر، وبعث إليه ليأتي، فاعتل، فأعاد الرسول فأمر
به، فضُرب وحُبس، وأخذ جماعة من قواده فحبسهم وحبس أم ولده وصبيانه،
فنهض أهل بيت عيسى وأصحابه فحرضوا الناس على إبراهيم، فشدوا على عامل
إبراهيم فطردوه، وطردوا جميع عماله، فلما كان يوم الجمعة صلوا أربع
ركعات بغير خطبة، فأخرج إبراهيم عيسى من الحبس، وسأله المدافعة عنه
فأبى، وأخرج إبراهيم أصحابه ليقاتلوا، فهزمهم حُميد، فلما رثى إبراهيم
هذه الحال اختفى في ليلة الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة، وبعث
المطلب إلى حميد يعلمه أنه قد أحاط بدار إبراهيم، فإن كان يريده
فليأته، فأتوا فلم يجدوه في الدار.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثنا عبيد
الله بن عمر الواعظ قال: حدثنا أبيِ قال: قال إسماعيل بن علي لما حضر
الأضحى من سنة ثلاث ومائتين: ركب إبراهيم في زي الخلافة، فصلّى بالناس
صلاة الأضحى، ومضى من يومه إلى داره المعروفة، فلم يزل فيها إلى آخر
النهار، ثم خرج منها بالليل، فاستتر وانقضى أمره، وكانت مدته منذ بويع
له بمدينة السلام إلى أن استتر سنة وأحد عشر شهراً وخمسة أيام، ثم ظفر
به المأمون، فعفى عنه، فلم يزل ظاهراً مكرماً إلى أن توفي.
وفي هذه السنة: انكسفت الشمس لليلة بقيت من ذي الحجة حتى ذهب ضوؤها،
وغاب أكثر من ثلثيها، فلم تزل كذلك حتى قرب الظهر ثم انجلت.
وصار المأمون إلى همذان في ذي الحجة في آخرها.
وحج
بالناس في هذه السنة: سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن أي طيبة بن عيسى بن سليمان بن دينار الدارمي حدث عن مالك بن
أنس، وولاه المأمون قضاء جرجان، ثم ولاه قضاء قومس، فأقام بها يقضي حتى
توفي في هذه السنة.
حسين بن علي أبو عبد الله الجعفي: كان عالماً عابداً، قال أحمد بن
حنبل: ما رأيت بالكوفة أفضل من حسين الجعفي كان يشبه بالرهبان.
أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد بن يوسف قال: أخبرنا
إبراهيم بن عمر البرمكي قال: أنبأنا عبد العزيز بن جعفر قال: أخبرنا
أبو بكر الخلال قال: حدثني محمد بن عبيد الرحبي قال: سمعت أبا بكر بن
سماعة يقول: كنا عند ابن أبي عمر العدني بمكة، فسمعناه يقول: قدم علينا
هارون قدمة إلى هذا المسجد، فأخبرني الخادم الذي كان معه قال: كنت معه
ومعه جعفر بن يحيى، فخرجنا جميعاً حتى صرنا إلى الثنية فقال لي: سل عن
حسين بن علي الجعفي فلقيت رجلاً، فقلت له: حسين بن علي الجعفي؟ فقال:
هو ذا يطلع عليك راكباً حماراً وخلفه أسود يقود أحمالاً له، فإذا هو قد
طلع، فقلت: هو ذا يا أمير المؤمنين، فلما حاذاه قام إليه، فقبل يده أو
قال رجله - فقال له جعفر: أتدري من المسلم عليك يا شيخ؟ هو أمير
المؤمنين هارون، فالتفت إليه حسين فقال له: أنت يا حسن الوجه مسؤول عن
هذا الخلق كلهم. فقعد يبكي وأتانا آت ونحن عند ابن عيينة، فقال لسفيان
قدم حسين بن علي، الجعفي، فقام إليه يتلقاه وخرجنا معه، فلما صار في
الطريق إلى باب بني شيبة لقيه فضيل بن عياض فقال له: أين تريد يا أبا
محمد؟ فقال: قدم حسين الجعفي فأردت لقاءه، فقال: أنا معك، فخرجا يمشيان
جميعاً ونحن خلفهما، فلما صرنا في أصحاب اللؤلؤ إذا حسين راكب حماراً،
فتقدم إليه فضيل فقبًل رجله، وتقدم سفيان فقبّل يده أو قبل سفيان رجله
وفضيل يده، فقال له فضيل: بأبي رجل تعلمت القرآن على يديه أو علمني
الله القرآن على يديه. ثم دخل المسجد فطاف بالكعبة، وجاء إلى الأسطوانة
الحمراء فقعد عندها، فأكب الناس عليه.
توفي الجعفي في هذه السنة.
الحسين بن الوليد، أبو عبد الله القرشي، النيسابوري. سمع ابن جريج،
وابن أبي ذئب، ومالك بن أنس وابن لهيعة، والثوري، والحمادين.
روى عنه: أحمد بن حنبل، وابن راهويه، ويحيى بن يحيى، وكان ثقة فقيهاً
قارئاً للقرآن، قرأ على الكسائي، وكان يغزو الترك في كل ثلاث سنين ويحج
في كل خمس وكان له مال، وكان سخياً، وكان يقول: مَنْ تعشى عندي فقد
أكرمني.
توفي في هذه السنة، وقيل في التي قبلها.
خزيمة بن خازم النهشلي القائد. كان له تقدم ومنزلة عند الخلفاء، ودرب
خزيمة ببغداد ينسب إليه، وقد أسند الحديث عن ابن أبي ذئب. توفي في
شعبان هذه السنة بعد أن عمي.
زيد بن الحباب بن الريان أبو الحسن التيمي العكلي الكوفي سمع مالك بن
مغول، وسفيان الثوري، وشعبة، ومالك بن أنس، وابن أبي ذئب. روى عنه:
يزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، وقال فيه: كان صاحب حديث كيساً صدوقاً،
وقد رحل إلى مصر وخُراسان في الحديث، وما كان أصبره على الفقر. توفي في
هذه السنة.
عمرو بن شعيب أبو داود الجفري، وجفر موضع. أخبرنا ابن ناصر قال: أنبأنا
الحسن بن أحمد قال: أخبرنا أبو محمد الخلال قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن
محمد بن غالب قال: قرأت على أبي بكر محمد بن أحمد بن جعفر القاضي،
حدثكم محمد بن العباس المستملي قال: حدثنا أبو بكر المروزي قال: سمعت
أحمد بن حنبل يقول: رأيت أبا داود الجفري وعليه جبة مخرقة قد خرج القطن
منها يصلي بين المغرب والعشاء وهو يترجج من الجوع، وبلغني عن عباس
الدوري قال: لو رأيت أبا داود لرأيت رجلاً كأنه أطلع على النار فرأى ما
فيها. أسند أبو داود عن الثوري وغيره. وتوفي في هذه السنة.
علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
عليهم السلام أبو الحسن الرضي
سمع أباه،
وعمومته، وغيرهم، وكان يفتي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
ابن نيف وعشرين سنة، وكان المأمون قد أمر بإشخاصه من المدينة، فلما قدم
نيسابور أخرج، وهو في عمارية على بغلة شهباء فخرج علماء البلد في طلبه
مثل يحيى بن يحيى، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن رافع، وأحمد بن حرب،
وغيرهم. فأقام بها مدة، والمأمون بمرو إلى أن أمر بإخراجه إليه، وجعله
ولي عهده على ما سبق ذكره، فلما رأوا أن الخلافة قد خرجت إلى أولاد علي
بن أبي طالب رضي الله عنه سقوا عَلي بن موسى.
فتوفي بطوس في قرية يقال لها سناباذ في رمضان هذه السنة.
فقال الصولي: ومدحه أبو نواس فقال:
قيل لي أنت واحد الناس في كُلْ ... ل كلام من المُقال بَدِيهِ
لك في جوهر الكلام بديعٌ ... يثمر الدُر في يدي مُجتنيه
فعلى من تركت مدح ابن موسى ... والخصال التي تجمعن فيه
قلت لا أهتدي لمدح إمام ... كان جبريل خادماً لأبيه
محمد بن بكر، أبو عثمان، وقيل أبو عبد الله البصري البرساني وبرسان من
الأزد.
سمع ابن جريج، وسعيد بن أبي عروبة، وشعبة. وقم بغداد وحدَث بها فروى
عنه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهما. وقال يحيى: كان ثقة ظريفاً.
وتوفي بالبصرة في ذي الحجة من هذه السنة وقيل: في سنة أربع.
محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر
ويعرف بالديباج لُقَب به لحُسن وجهه، وهو أخو إسحاق وموسى وعلي بن
جعفر.
حَدث عن أبيه، وروى عنه جماعة وكان محمد قد خرج بمكة في أيام المأمون،
ودعى إلى نفسه فبايعه أهل الحجاز وتهامة بالخلافة يوم الجمعة لثلاث
خلون من ربيع الآخر سنة مائتين، فلم يزل يسلم عليه بالخلافة منذ بويع
إلى يوم الثلاثاء خامس جمادى الأول.
فحج بالناس المعتصم، وبعث إليه مَنْ حاربه وقبض عليه، وأورده بغداد في
صحبته، والمأمون إذ ذاك بخراسان، فوجَّه به إليه، فعفا عنه، ولم يمكث
إلا يسيراً حتى توفي عنده، فقيل إنه جامع وافتصد ودخل الحمام في يوم
واحد، فكان سبب موته.
أخبرنا عبد الرحمن، القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا الحسن بن أبي بكر قال: أخبرنا أبو الحسن بن محمد بن يحيى بن
الحسن العلوي قال: حدثنا جدي قال: كان محمد بن جعفر شجاعاً عاقلاً
فاضلاً، وكان يصوم يوماً. ويفطر يوماً، وكانت زوجته خديجة ابنة عبد
الله بن الحسين تقول: ما خرج من عندنا في ثوب قط فرجع حتى يكسوه.
قال أبو محمد: وحدثنا جدي قال: حدثنا داود بن المبارك قال: توفي محمد
بن جعفر بخراسان مع المأمون، فركب المأمون لشهوده حتى دخل به القبر فلم
يزل فيه حتى بنى عليه، ثم خرج فقام على القبر فدعا له عبد اللهّ وقال:
يا أمير المؤمنين، إنك قد تعبت فلو ركبت فقال له المأمون: هذه رحم قطعت
من مائتيِ سنة.
مصعب بن المقدام، أبو عبد الله الخثعمي الكوفي. سمع مسعراً، وسفيان
الثوري، روى عنه: أبو كريب، وابن راهويه، وكان ثقة صدوقاً.
توفي في هذه السنة.
النضر بن شميل، أبو الحسن المازني المروزي. سكن مرو، وسمع من ابن عون،
وعوف، وشعبة، وغيرهم. وكان راوية للشعر، وله المعرفة بالنحو واللغة
وأيام الناس.
توفي بخراسان في هذه السنة.
أخبرنا
ابن ناصر قال: أخبرنا أبو الغنائم محمد بن علي بن ميمون قال: أخبرنا
عبد الله بن محمد العلوي وأبو الفرج محمد بن أحمد بن علان الشاهد قالا:
أخبرنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله الهرواني قال: وحدثني أبو
القاسم الحسن بن محمد السكوني قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن سعيد
الدمشقي قال: وحدثني الزبير بن بكار قال: حدثني النضر بن شميل قال:
دخلت على المأمون بمرو وعلي أطمار ممر عمله فقال لي: يا نضر تدخل على
أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب، فقلت: يا أمير المؤمنين إن حر مرو لا
يدفع إلا بمثل هذه الأخلاق فقال: لا ولكنك متقشف، فتجارينا الحديث،
فقال المأمون: حدثني هشيم بن بشير، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " إذا تزوج الرجل المرأة
لدينها وجمالها كان ذلك سداد من عوز " قلت: صدق فوك عن هشيم يا أمير
المؤمنين، حدثني عوف الأعرابي عن الحسن أن النبي صلى لله عليه وسلم
قال: " إذا تزوج الرجل إلى المرأة لدينها وجمالها كان في ذلك سداد من
عوز " . وكان المأمون متكئاً فاستوى المأمون جالساً وقال: السداد لحن
يا نضر، قلت: نعم ها هنا، وإنما لحن هشيم وكان لحانة، فقال: ما الفرق
بينهما؟ قلت: السداد: القصد في الدين والسبيل. والسداد: البلغة، وكلما
سددت به شيئاً فهو سداد قال: فتعرف العرب ذلك، قلت: نعم، هذا العرجي من
ولد عثمان بن عفان يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... اليوم كريهه وسداد ثغر
قال: فأطرق المأمون ملياً ثم قال: قبح الله من لا أدب له، ثم قال:
أنشدني يا نضر أخلب بيت للعرب، قلت: قول ابن بيض يا أمير المؤمنين في
الحكمّ بن مروان:
تقول لي والعيون هاجعة ... أقم علينا يوماً فلم أقم
أي الوجوه انتجعت قلتَ لها ... وأي وجه إلا إلى الحكم
متى يقل حاجبا سرادقه ... هذا ابن بيض بالباب يبتسم
قد كنت أسلمت فيك مقتبلاً ... فهات ادخل أعطى سلمي
قال المأمون لله درك لكأنما شق لك عن قلبي أنشدني أنصف بيت قالته
العرب، قلت قول ابن أبي عروبة المديني:
إني وإن كان ابن عمي غائباً ... لمزاحم من خلفه وورائه
ومفيده نصري وإن كان أمرأً ... متزحزحاً في أرضه وسمائه
وأكون واري سره فأصونه ... حتى يحن عليَّ وقت أدائه
وإذا الحوادث أجحفت بسوامه ... قربت صحيحهما إلى جريان
وإذا دعى باسمي لأركب مركباً ... صعباً قعدت له على سيسائه
وإذا أتى من وجهه بطريقه ... لم أطلع مما وراء خبائه
وإذا ارتدى ثوباً جميلاً لم أقل ... يا ليت أن علي فضل ردائه
قال: أحسنت يا نضر، أنشدني الآن أقنع بيت للعرب، فأنشدته قول ابن عبدل:
إني امرؤ لم أزل وذاك من ال ... له أديب أعلّم الأدبا
أقيم بالدار ما أطمأنت بي الدْ ... دَارُ وإن كنت نازحاً طربا
لا أجتري خلة الصديق ولا ... أنفع نفسي شيئاً إذا ذهبا
أطلب ما يطلب الكرام من الر ... زق بنفسي وأجمل الطلبا
وأحلبُ الترة الصفي ولا ... أجهد أخلاف غيرها حلبا
إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبته في صنيعه رغبا
والعبد لا يطلب الفلاة ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا
مثل الحمار الموقع السوء لا ... يحسن مشياً إلا إذا ضُربا
ولم أجد عروة الخلائق إل ... لا الدين إذ اخترت والحسبا
قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد لعيس رجلاً ولا قتبا
ويحرم الرزق ذو المطية وال ... رحل ومن لا يزال مغتربا
قال: أحسنت ما شئت يا نضر فعندك ضد هذا، قلت: نعم أحسن منه قال: هات،
فأنشدته:
يد المعروف غيم حيث كانت ... تحملها كفور أو شكور
قال:
أحسنت يا نضر، فكتب شيئاً لا أدري ما هو، ثم قال: كيف تقول: أفعل من
التراب؟ قلتَ: أترب قال: والطين، قلت: أطين، قال: والكتاب ماذا؟ قلت:
مترب ومطين. قال هذه أحسن من الأولى، وكتب لي بخمسين ألف درهم، ثم أمر
الخادم أن يأتي به الفضل بن سهل ومضيت معه فلما قرأ الكتاب، قال: لحنت
أمير المؤمنين يا نضرم قلت: كلا ولكن هشيماً لحانة. فأمر لي بثلاثين
ألف درهم، فخرجت إلى منزلي بثمانين ألف درهم.
ثم دخلت
سنة أربع ومائتين
فمن الحوادث فيها: قدوم المأمون العراق وانقطاع مواد الفتن من بغداد.
وكان المأمون لمَا توجّه إلى العراق خلف غسان بن عباد، فولى أحمد بن
أسد الساماني فرغانة وأخاه نوح بن أسد سمرقند، وأخاه يحيى بن أسد:
الشاس وأشروسنة، وأخاهم إلياس بن أسد هراة، وهؤلاء أولاد أسد بن سامان،
وكان سامان من أصحاب أبي مسلم لما ظهر بخُراسان، ثم توفي وخلف ابنه
أسداً، ثم توفي فخلف هؤلاء وكان أحمد أحسنهم سيرة، وكان المأمون في
سفره قد أقام بجرجان شهراً، ثم قدم الري، فأقام أياماً، ثم جعل يسير
فيقيم اليوم واليومين، فقال له أحمد بن أبي خالد: يا أمير المؤمنين،
نقدم بغداد وليس معنا سوى خمسين ألف درهم: فكيف حالنا إن هاج أمر!؟
فقال المأمون: إنما نقدم على ظالم فلا يتوقع إلا عفونا، ومظلوم فيتوقع،
إنصافنا فمن كمان لا ظالماً ولا مظلوماً فبيته يِسعه.
فلما وصل إلى النهروان وذلك يوم السبت أقام ثمانية أيام فخرج إليه أهل
بيتِه والقواد ووجوه الناس، وكان قد كتب إلى طاهر بن الحسين أن يوافيه،
بالنهروان، فلقيه بها ثم دخل بغداد يوم السبت لأربع عشرة ليلة، خلت من
صفر سنة أربع ومائتين بعد ارتفاع النهار، ولباسه ولباس أصحابه قلانسهم
وأعلامهم كلها الخضرة، ولبس أهل بغداد وبنو هاشم كلهم الخضرة وكانوا
يخرقون كل شيء يرونه من السواد، فلما قدم نزل الرصافة، وأمر طاهراً
بنزول الخيزرانية مع أصحابه، ثم تحول ونزل قصره على شاطئ دجلة، وقيل:
بل أقام بالرصافة حتى بنى منازل على شاطئ دجلة عند قصره الأول في بستان
موسى، وأمر القواد بالإقامة في العسكر فكانوا يختلفون إلى دار المأمون
كل يوم، فلما مضت ثمانية أيام تكلم بنو هاشم وولده العباس خاصة،
وقالوا: يا أميرِ المؤمنين، تركت لباس أهل بيتك. وكان المأمون قد أمر
طاهر بن الحسين أن يسأله حوائجه، فكان أول ما سأله أن يطرح لباس الخضرة
ويرجع إلى لباس السواد وزيِ دولة الآباء، فلما رأى كراهية الناس
للخضرة، دعا بسواد فلبسه، ودعى بخلعة سواد فألبسها طاهراً، ثم دعا
قواده فألبسهم أقبية وقلانس سوداً وطرح لباس الخضرة، وذلك يوم السبت
لسبع بقين من صفر، فلم يلبس الخضرة ببغداد إلا ثمانية أَيام.
وروى الصولي: أن زينب بنت سليمان بن علي كلمت المأمون في ترك لباس
الخُضرة، والإضراب عما فعل من تولية أولاد علي عليه السلام فقال لها:
إن أبا بكر تولى فما ولى أحداً من بني هاشم، ثم عمر كذلك، ثم عثمان،
فأقبل على بني عبد شمس وترك غيرهم، ثم ولي علي بن أبي طالب، فولي عبد
الله بن العباس البصرة، وعبيد الله اليمن ومعبداً مكة، وقثماً البحرين
ما ترك منا أحداً إلا ولاه، وكانت هذه في أعناقنا فكافئيه بما فعل قال:
وقال المأمون:
ألام على شكر الوصي أبي الحسن ... وذلك عندي من عجائب ذا الزمن
خليفة خير الناس والأول الذي ... أعان رسول الله في السرِّ والعلن
ولولاه ما عدت لهاشم إمرة ... وكانت على الأيام تعصى وتمتهن
فولى بني العباس ما اختص غيرهم ... ومن منه أولى بالتكرم والمنن
فأوضح عبد اللهّ بالبصرة الهدى ... وفاض عبيد الله جوداً على اليمن
وقسم عمال الخلافة بينهم ... فلا زلت مربوطاً بذا الشكر مرتهن
أخبرنا
أبو، منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب
قال: أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري قال: أخبرنا المعافى بن
زكريا قال: أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال: أخبرنا محمد بن زكريا
الغلابي قال: أخبرنا أبو سهل الرازي، قال: لمَّا دخل المأمون بغداد
تلقاه أهلها فقال له رجل من الموالي: يا أمير المؤمنين، بارك الله لك
في مقدمك، وزاد في نعمك وشكرك عن رعيتك فقد فُقت مَنْ قبلك، وأتعبت
مَنْ بعدك، وآيست أن يعتاض عنك، لأنه لم يكن مثلك، ولا عُلم شبهك أما
فيمن مضى فلا يعرفونه، وأما فيمن بقي لا يرتجونه فهم بين دعاء لك،
وثناء عليك، وتمسك بك، أخصب لهم جنابك، واحلولى لهم ثوابك وكرمت
مقدرتك، وحسنت أثرتك، فجبرت الفقير وفككت الأسير، فأنت كما قال الشاعر:
ما زلت في البذل للنوالوإطلاق لعان بحرمه علق حتى حتى البراء أنهمعندك
أمسوا في القيد والحلق
فقال له المأمون: مثلك يعيب مَنْ لا يصطنعه، ويعز مَنْ يجهل قدره،
فاعذرني في سالفك، فإنك ستجدنا في مستأنفك.
أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا ثابت بن بندار قال: أخبرنا عبد الوهاب بن
علي الملحمي قال: حدثنا المعافى بن زكريا قال: حدثنا الحسين بن القاسم
الكركي قال: حدثني أبو جعفر محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني حسن
بن الربيع، عن أبيه، ربيع بن حباب مولى الرشيد قال: لما دخل المأمون
بغداد دخلت عليه زبيدة أم جعفر فقالت: الحمد لله الذي لقبك بخلافة قد
هنئت بها عنك قبل أن أراك ولئن كنت فقدت ابناً خليفة لقد اعتضت ابناً
خليفة وما خسر من اعتاض مثلك، وما ثكلت أم ملأت يدها منك، وأنا أسأل
الله أجراً على ما أخذ وإمتاعاً بما وهب. فقال المأمون: ما تلد النساء
مثل هذه، ماذا أبقت في هذا الكلام لبلغاء الرجال.
وروى الصولي: أنه لما قدم المأمون بغداد من خُراسان كتبت إليه أم جعفر
بشعر عمله بعض شعرائها وهو:
لخير إمام قام من خير عنصر ... وأفضل راق كان أعواد منبر
ووارث علم الأولين وملكهم ... وللملك المأمون من أم جعفر
كتبت وعيني تستهل دموعها ... إليك ابن عمي من جفوني ومحجري
أصبت بأدنى الناس منك قرابة ... ومن هولي زوج فعيل تصبري
أبى طاهر لا طهر الله طاهراً ... فما طاهر في فعله بمطهر
فأبرزني مكشوفة الوجه حاسراً ... وأنهب أموالي وأحرق أذري
وعز على هارون ما قد لقيته ... وما مرّ بي من ناقص الخلق أعور
لّذكر أمير المؤمنين قرابتي ... فديتك من ذي قربة متذكر
فإن يك ما أسدي لأمر امرته ... صبرت لأمرهن قدير مقدر
وإن تكن الأخرى فغير مدافع ... إليك أمير المؤمنين فغبر
فلما قرأ الأبيات بكى وقال: أنا والله طالب بثأر أخي، قتل الله
قتَلَتَهُ وكتب إليها في ظهر رقعتها:
يعز عليَّ ما لا قيت فيه ... وأنت الأم خير الأمهات
ولم أرض الذي فعلوا إليه ... من القتل المخالف والشتات
أمرت بأخذ هذا الأمر منه ... وقبض يديه عن تلك الهنات
وإني مثله لك فاعلميه ... على ما كان ما بقيت حياتي
وثأري بعد ثأر الله فيه ... سيذهب بالجبابرة العتاة
بنى لك جعفر بيتاً منيعاً ... وشيده بأعلى المكرمات
أمير المؤمنين ورثت حقاً ... وأنت أميرة للمؤمنات
ثم عبر إليها فعزاها، وأكثر البكاء معها، فقالت: يا أمير المؤمنين: إن
دواء دائي وباب مسألتي في غدائك اليوم عندي، فأقام وقعد، فأخرجت إليه
من جواري محمد من تغنيه وسألته أن يأخذ منهن مَنْ يرتضيه، فغنت واحدة:
همُ قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غمرت يوماً بكسرى مرازبه
فوثب مغضباً، فقالت زبيدة: يا أمير المؤمنين، حرمني الله أجره إن كنت
علمتها أو دسست إليها فصدقها وعجب من ذلك.
وفي هذه السنة: أمر المأمون بمقاسمة أهل السواد على الخمس، وكانوا
يقاسمون على النصف.
وفيها:
ولى المأمون أبا عيسى بن الرشيد البصرة، وولى عبيد الله بن الحسن بن
عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب الحرمين، وهو الذي حج بالناس
في هذه السنة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أشهب بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم، أبو عمر العامري. ولد سنة
أربعين ومائة، وكان أحد فقهاء مصر، وذوي رأيها.
توفي في شعبان هذه السنة.
قال محمد بن عاصم المغافري: رأيت في المنام قائلاً يقول: يا محمد
فأجبته، فقال:
ذهب الذين يقال عند فراقهم ... ليت البلاد بأهلها تتصدع
وكان أشهب مريضاً، فقلت: ما أخوفني أن يموت أشهب. فمات من مرضه ذلك.
بهلول بن حسان بن سنان، أبو الهيثم التنوخي. من أهل الأنبار، سمع
ببغداد، والبصرة، والكوفة، ومكة، والمدينة، وحدًث عن شيبان بن عبد
الرحمن، وورقاء بن عمر، والفرج بن فضالة وإسماعيل بن عياش، وسعيد بن
أبي عروبة، وشعبة، وحماد بن سلمة، وهشيم، وغيرهم وكذا حدَث عن مالك،
وابن عيينة.
أخبرنا أبو منصور، القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب قال:
حدثني علي بن أبي علي، عن أحمد بن يوسف الأزرق قال: أخبرني عمي البهلول
بن إسحاق بن البهلول قال: كان جدي البهلول بن حسان قد طلب الأخبار،
واللغة، والشعر، وأيام الناس، والتفسير، والسير، فأكثر من ذلك.
ثم تزهد إلى أن مات بالأنبار سنة أربع ومائتين.
الحسن بن زياد، أبو علي اللؤلؤي. أحد أصحاب أبي حنيفة، حدَث عنه فروى
عنه ابن سماعة، ومحمد بن شجاع البلخي، وولي القضاء بعد حفص بن غياث،
وكان إذا جاءه خصمان لم يدر كيف يحكم، فإذا ذهبا عرف الحكم ولم يوفق في
القضاء، وكان يحكى عنه قلة دين.
قال يحيى بن معين: هو كذًاب خبيث، وقال أبو ثور: ما رأيت أكذب منه، قال
الدارقطني: متروك توفي في هذه السنة.
سليمان بن داود بن الجارود أبو الوليد الطيالي مولى قريش وأصله فارسي،
سكن البصرة، وحدَث عن شعبة والثوري، وخلق كثير، وروى عنه: أحمد بن
حنبل، وعلي بن المديني، وجماعة.
وكان حافظاً مكثراً ثبتاً، كتبوا عنه أربعين ألف حديث، وليس معه كتاب.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا حمزة
بن محمد بن طاهر قال: أخبرنا الوليد بن بكر قال: أخبرنا علي بن أحمد بن
زكريا قال: أخبرنا أبو مسلم صالح بن أحمد العجلي قال: حدثني أبي قال:
أبو داود الطيالسي بصري ثقة، وكان كثير الحفظ، وكان قد شرب البلاذر هو
وعبد الرحمن بن مهدي، فجذم أبو داود، وبرص عبد الرحمن فحفظ أبو داود
أربعين ألف حديث، وحفظ عبد الرحمن عشرة آلاف حديث.
توفي أبو داود في صفر هذه السنة، وقيل في ربيع الأول وهو ابن اثنتين
وسبعين سنة. وقيل: في سنة ثلاث.
لهيعة بن عيسى بن لهيعة، أبو عقبة الحضرمي. يروي عن عمه عبد الله بن
لهيعة، وكان قاضي مصر.
توفي في ذي القعدة من هذه السنة.
محمد بن عبيد بن أبي أمية واسمه عبد الرحمن، ويكنى محمد أبا عبد الله
الإيادي الطنافسي الكوفي.
وُلد سنة سبع وعشرين ومائة، وسمع هشام بن عروة، ومحمد بن إسحاق،
والأعمش، وغيرهم. نزل بغداد دهراً، ثم رجع إلى الكوفة، فمات بها في هذه
السنة وقيل: في سنة خمس. وقيل: في سنة ثلاث.
حدث عنه أحمد بن حنبل، وابن معين، وابن راهويه، وخلق كثير.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا أحمد بن محمد بن غالب قال: سمعت أبا الحسن الدارقطني يقول:
يعلى، ومحمد، وعمر، وإدريس، وإبراهيم بنو عبيد كلهم ثقات، وإبراهيم ثقة
أو أبوهم ثقة.
الإمام الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع
بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي
بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، أبو عبد الله.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: سمعت
القاضي أبا الطيب الطبري يقول: شافع بن السائب الذي ينسب إليه الشافعي
رضي الله عنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع، وأسلم أبوه
السائب يوم بدر، فإنه كان صاحب راية بني هاشم، فأسر وفدى نفسه، ثم أسلم
فقيل له: لِمَ لَمْ تُسلم قبل أن تفتدى. فقال: ما كنتَ لأحرم المؤمنين
طعماً لهم في.
قال
القاضي: وقد وصف بعض أهل العلم بالنسب الشافعي فقال: شقيق رسول الله
صلى الله عليه وسلم في نسبه، وشريكه في حسبه، لم ينل رسول الله صلى
الله عليه وسلم طهارة في مولده، وفضيلة في آبائه إلا وهو قسيمه فيها
إلى أن افترقا من عبد مناف، فزوج المطلب ابنه هاشماً الشفا بنت هاشم بن
عبد مناف، فولدت له عبد يزيد جد الشافعي، وكان يقال لعبد يزيد المحض لا
قذى فيه، فقد ولد الشافعي الهاشمان: هاشم بن المطلب، وهاشم بن عبد
مناف. والشافعي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، لأن
المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشفا بنت هاشم أخت عبد
المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أم الشافعي فهي أزدية،
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأزد جرثومة العرب " .
ولد بغزة من بلاد الشام، وقيل: باليمن، ونشأ بمكة وكتب العلم بها
وبمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان خفيف العارضين يخضب بالحناء،
وقدم بغداد مرتين وحدث بها، وسُمي فيها ناصر الحديث، وخرج إلى مصر
فنزلها إلى حين وفاته.
وسمع من مالك بن أنس، وإبراهيم بن سعد، وسفيان بن عيينة، وعبد العزيز
الدراوردي، ومسلم بن خالد الزنجي، وخلق كثير.
وروى عنه أحمد بن حنبل وغيره من الأكابر.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا ابن
رزق قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد بن شيظم قال: أخبرنا نصر بن مكي
قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: قال لي محمد بن إدريس
الشافعي: وُلدت بغزة سنة خمس، وحُملت إلى مكة وأنا ابن سنتين.
قال: وأخبرني غيره، عن الشافعي قال: لم يكن لي مال وكنت أطلب العلم في
الحداثة، أذهب إلى الدواوين أستوهب الظهور، أكتب فيها.
وفي رواية عن الشافعي أنه قال: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت
الموطأ، وأنا ابن عشر سنين، وما أفتيت حتى حفظت عشرة آلاف حديث، وكان
الشافعي في أول أمره قليل التلاوة للقرآن لاشتغاله بالعلم ثم أكثر آخر
عمره من القراءة. فروى عنه الربيع أنه كان يختم في كل ليلة ختمة، وإذا
كان رمضان ختم ستين ختمة، وكان حسن الصوت، إذا سمعه الناس يتلو اشتد
بكاؤهم، كان أولى أمره ينام ثلث الليل، ويصلي ثلث الليل، ويطلب العلم
ثلث الليل، ثم صار يُحيي الليل، وأفتى وله خمس عشرة سنة.
كذلك أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت،
الخطيب قال: أخبرنا أبو الطيب الطبري قال: أخبرنا علي بن إبراهيم
البيضاوي قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود قال: سمعت
الربيع بن سليمان يقول: كان الشافعي يفتي وله خمس عشرة سنة، وكان يحيي
الليل إلى أن مات.
وذكر أبو بكر بن بدران المعروف بخالويه في كتاب فضائل الشافعي: عن
الربيع: أن الشافعي كان عند مالك وعنده سفيان بن عيينة والزنجي فأقبل
رجلان، فقال أحدهما: أنا الربيع القماري وقد بعت هذا قمرياً، وحلفت له
بالطلاق أنه لا يهدأ من الصياح، فلما كان بعد ساعة أتاني فقال: قد سكت
فُرد عليَ دراهمي، وقد حنثت، فقال مالك: بانت منك امرأتك. فمر الشافعي،
فقال للبائع: أردت أنه لا يهدأ أبداً وأن كلامه أكثر من سكوته؟ فقال:
قد علمت أنه ينام ويأكل ويشرب، وإنما أردت كلامه أكثر من سكوته، فقال:
ردّ عليك امرأتك فأخبر مالكاً، فقال للشافعي: من أين. قلت؟ فقال: حديث
فاطمة بنت قيس قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن معاوية وأبا جهم
خطباني فقال: إن معاوية صعلوك، وإن أبا جهم لا يضع عصاه عن عاتقه. وقد
كان ينام ويستريح، وإنما خرج كلامه على الأغلب، فعجب مالك فقال الزنجي:
أفت فقد آن لك أن تُفتي. وهو ابن خمس عشرة سنة.
أخبرنا علي بن عبيد الله قال: أنبأنا أبو محمد التميمي، عن عبد الرحمن
السلمي قال: سمعت أحمد بن الحسين الأصفهاني يقول: سمعت عبد الله بن
محمد بن بشر يقول: سمعت عبد الله بن محمد بن هارون يقول: قال محمد بن
إدريس الشافعي بمكة سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله وسنه نبيه صلى
الله عليه وسلم، فقال له رجل. ما تقول في المحرم قتل زنبوراً، فقال:
قال الله تعالى: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " .
حدثنا
سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر
" .
وحدثنا سفيان عن مسعر، عن قيس بن مسلم، عن روق بن شهاب، عن عمر: أنه
أمر بقتل الزنبور.
أخبرنا يحيى بن علي قال: أخبرنا أبو بكر الخياط، قال: أخبرنا الحسن بن
الحسين بن حمكان قال: أخبرنا أبو بكر النقاش قال: حدثنا أبو نعيم
الأستراباذي قال: حدثنا الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: أشد
الأعمال ثلاثة: الجود من قلة والورع في خلوة وكلمة الحق عند من يرجى
ويخاف.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد قال: أخبرنا حمد بن أحمد قال أخبرنا أبو نعيم
الأصفهاني قال: حدثنا أبو محمد بن حيان قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن
الحسن قال: حدثنا الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: لوددت أن الخلق
يعلمون مني ولا يُنسب إليَّ منه شيء. وسمعته يقول: طلب العلم أفضل من
صلاة النافلة.
وفي رواية أخرى عنه: ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ بل أحب أن يوفق
ويسدد، وما ناظرت أحداً إلا ولم أبال بين. الله الحق على لساني أو
لسانه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا ابن بكير قال: حدثنا الحسين بن أحمد الصوفي قال: حدثنا أبو بكر
عبد الله بن محمد ابن زياد قال: سمعت المزني يقول: سمعت الشافعي يقول:
مَنْ تعلم القرآن عظمت قيمته، ومَنْ نظر في الفقه نبل مقداره، ومَنْ
تعلم اللغة رق طبعه، ومن تعلّم الحساب جزل رأيه، ومَنْ كتب الحديث قويت
حجته، ومَنْ لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد قال: أخبرنا حمد بن أحمد قال: أخبرنا أبو نعيم
الأصبهاني قال: حدثنا محمد بن إبراهيم قال: سمعت محمد بن عبد الرحيم بن
عبد الله يحكى عن المزني قال: دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها،
فقلت كيف أصبحت قال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، وكأس
المنية شارباً، ولسوء أعمالي ملاقياً، وعلى الله تعالى وارداً، فلا
أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها، ثم بكى،
وأنشأ يقول:
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منةً وتكرّما
أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا حمد بن أحمد قال: أخبرنا أبو نعيم قال:
حدثنا عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن قال: حدثنا ابن أبي حاتم قال:
حدثنا الربيع قال: توفي الشافعي ليلة الجمعة بعد العشاء الآخرة آخر يوم
من رجب، ودفناه يوم الجمعة، فانصرفنا فرأينا هلال شعبان.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا
إسماعيل بن علي الأستراباذي قال: سمعت طاهر بن محمد البكري يقول: حدثنا
الحسن بن حبيب الدمشقي قال: سمعت الربيع بن سليمان يقول: رأيت الشافعي
بعد وفاته في المنام فقلت: يا أبا عبد الله، ما صنع الله بك؟ قال:
أجلسني على كرسي من ذهب، ونثر علي اللؤلؤ الرطب.
أخبرنا أبو ظفر بإسناد له، عن أبي بيان الأصفهاني يقول: رأيت النبي صلى
الله عليه وسلم في النوم، فقلت: يا رسول الله، محمد بن إدريس الشافعي
ابن عمك، هل نفعته بشيء؟ أو خصصته بشيء؟ قال: نعم، سألت الله تعالى أن
لا يحاسبه، فقلت: بماذا يا رسول الله؟ قال: إنه كان يصلي عليً صلاة لم
يصل بمثل تلك الصلاة أحد، فقلت: وما تلك الصلاة. قال: كان يصلي علي
اللهم صل على محمد كلما ذكره الذاكرون، وصل على محمد كلما غفل عنه
الغافلون.
كان أحمد بن حنبل كثير الثناء على الشافعي، قال أبو سعيد القرماني: قال
أحمد بن حنبل: إن الله يقيض للناس في رأس كل مائة سنة ما يعلمهم السنن،
وينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب. فنظرنا فإذا في المائة
عمر بن عبد العزيز في رأس المائتين الشافعي.
وفي رواية: عن أحمد قال: ما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو إلى
الشافعي وأستغفر له، وقال له ابنه عبد الله: يا أبه، أي رجل كان
الشافعي؟ فإني أسمعك تكثر من الدعاء له، قال: يا بني، كان كالشمس
للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو منهما من عوض.
وقال أحمد
لإسحاق بن راهويه: تعالى حتى أذهب بك إلى مَنْ لم تر عيناك مثله، فذهب
به إلى الشافعي.
وقال صالح بن أحمد: مشى أبي مع بغلة الشافعي، فبعث إليه يحيى بن معين
ما رضيت إلا أن تمشي مع بغلته، فقال: يا أبا زكريا، لو مشيت من الجانب
الآخر كان أنفع لك.
وقال أبو داود: ما رأيت أحمد يميل إلى أحد ميله إلى الشافعي.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بإسناد له، عن نهشل بن كثير، عن أبيه قال:
دخل الشافعي يوماً إلى بعض حجر هارون الرشيد استأذن له عليه فأقعده
الخادم عند أبي عبد الصمد مؤدب أولاد الرشيد، قال له: يا أبا عبد الله،
هؤلاء أولاد أمير المؤمنين وهذا مؤدبهم، فلو أوصيته، فأقبل على أبي عبد
الصمد، فقال له: ليكن أول ما نبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين
إصلاحك نفسك، فإن أعينهم مغفورة بعينك، فالحسن عندهم ما تستحسنه،
والقبيح عندهم ما تستقبحه، علمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه،
ولا تتركهم فيهجروه، ثم زدهم من الشعر أعفَه ومن الحديث أشرفه، ولا
تخرجنهم من علم إلى غيره حتى يتقنوه، فإن ازدحام الكلام في المسمع مصعد
للفهم.
هشام بن محمد بن السائب بن بشر، أبو المنذر الكلبي. صاحب سمر ونسب،
حدًث عن أبيه، روى عنه ابنه، وخليفة بن خياط، ومحمد بن سعد، وهو من أهل
الكوفة، قدم بغداد، وحدَث بها.
وكان أحمد يقول: ومن يحدّث عنه إنما هو صاحب سمر ونسب، ما ظننت أن
أحداً حدثني عنه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الحسن
بن أبي طالب قال: أخبرنا عبيد الله بن أحمد بن علي المقرئ قال: حدثنا
علي بن محمد بن الجهم الكاتب قال: أخبرنا أبو العباس بن الفضل قال:
وحدثني محمد بن أبي السرى قال: قال لي هشام الكلبي: حفظت ما لم يحفظه
أحد، ونسبت ما لم ينسبه أحد، كان لي عم يعاتبني على حفظ القرآن، فدخلت
بيتاً وحلفت أن لا أخرج منه حتى أحفظ القرآن، فحفظته في ثلاثة أيام،
ونظرت يوماً في المرآة فقبضت على لحيتي لآخذ ما زاد القبضة، فأخذت ما
فوق القبضة.
توفي هشام في هذه السنة. وقيل: سنة ست.
ثم دخلت
سنة خمس ومائتين
فمن الحوادث فيها: تولية المأمون طاهر بن الحسين من مدينة السلام إلى
أقصى عمل المشرق. ودخل طاهر عليه يوماً فبكى المأمون فقال له طاهر: لمَ
تبكي؟ لا أبكى الله عينك، والله لقد دانت لك البلاد وأذعن لك العباد،
فصرت إلى المحبة في كل أمرك. فقال: أبكي لأمر ذكره ذلّ، وستره حزن، ولن
يخلو أحد من شجو، فلما خرج طاهر أنفذ إلى حسين الخادم مائتي ألف درهم،
وإلى كاتبه محمد بن هارون مائة ألف درهم، وسأله أن يسأل المأمون لِمَ
بكى. فلما تغمى المأمون قال: يا حسين، اسقني ماء. قال: لا واللهّ لا
أسقيك حتى تقول لي لِمَ بكيت حين دخل عليك طاهر. قال: يا حسين، وكيف
عُنِيتَ بهذا حتى سألت عنه!؟ قال لغمي بذلك قال: يا حسين، أمر إن خرجٍ
من رأسك قتلتك قال: يا سيدي، ومتى أخرجت لك سراً؟ قال: إني ذكرت محمداً
أخي وما ناله من الذل، فخنقتني العبرة فاسترحت إلى الإفاضة، ولن يفوت
طاهر منِّي ما يكره. قال: فأخبر حسين طاهراً بذلك، فركب طاهر إلى أحمد
بن أبي خالد فقال له: إن الثناء منّي ليس برخيص، وإنّ المعروف عندي ليس
بضائع فغَيبني عن عينه، فقال له: سأفعل وبكٌرْ علي غداً. وركب ابن أبي
خالد إلى المأمون، فلما دخل قال ما نمت البارحة. قال: ولم يحك؟ قال:
لأنك ولّيت غسان بن عباد خُراسان، وهو ومَنْ معه أكَلةُ رأس فأخاف أن
يخرج عليه خارج من الترك فتصطلحه.
قال: فمن ترى. قال: طاهر بن الحسين فعقد له فشخص يوم الجمعة لليلة بقيت
من ذي القعدة من سنة خمس.
وفي هذه السنة: ولى المأمون يحيى بن معاذ الجزيرة لما قدم عليه.
وولى عيسى بن محمد بن أبي خالد بلاد أرمينية، وأذربيجان، ومحاربة بابك.
وولى بشر بن داود مصر على أن يحمل إليه في كل سنة ألف ألف درهم. وولى
عيسى بن يزيد الجلوذي محاربة الزّط. وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله
بن الحسن والي الحرمين وقد تقدم ذكره.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن عبد الله، أبو إسحاق الخفاف مولى بخيت.
حدث عن عمران بن عبد الله بن بكير. توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة.
إبراهيم بن إسحق بن إبراهيم بن إسحق بن عبد الرحمن
أبو إسحاق
القارئ جمع له بمصر القضاء والقصص، وكان رجلاً صالحاً، حدَث عن سعيد بن
عفير.
وتوفي في جمادى الآخرة من هذه السنة.
داود بن يزيد عامل السند. توفي في هذه السنة.
روح بن عبادة بن العلاء بن حسان، أبو محمد القيسي. سمع عبد الله بن
عوف، وسعيد بن أبي عروبة، وابن جريج، والأوزاعي، ومالك بن أنس،
والثوريِ، وشعبة، والحمادين.
كان من أهل البصرة، ثم قدم بغداد فحدث بها، فروى عنه أحمد، وعلى، وابن
رَاهَويه، والحسن بن عرفة، وغيرهم، ثم انصرف إلى البصرة فماتَ بها في
هذه السنة. وكان كثير الحديث، وصنًف الكتب في الأحكام والسنن، وجمع
التفسير، وكان ثقة.
السري بن الحكم، عامل مصر: توفي بها في هذه السنة.
شجاع بن مخلد أبو الفضل البغوي. ولد سنة خمس ومائة سكن بغداد وحدث بها
عن هشيم، وابن علية، وابن عيينة، ووكيع، وأبي عاصم الفضل.
روى عنه: إبراهيم الحربي، والبغوي، وقال يحيى: هو ثقة.
توفي في هذه السنة، ودفن في مقبرة باب التين.
شجاع بن الوليد بن قيس، أبو بدر السكوني الكوفي. سكن بغداد، وحدّث عن
عطاء بن السائب، والأعمش، وغيرهم.
روى عنه: يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وابن المديني، وغيرهم، وكان
ثقة.
وقال سفيان الثوري: ليس بالكوفة أعبد من شجاع بن الوليد.
توفي في هذه السنة. وقيل: سنة أربع. وقيل: سنة ثلاث.
عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام أبو محمد الدارمي السمرقندي
ولد سنة إحدى وثمانين ومائة. وسمع بخُراسان من عثمان بن جبلة، ومحمد بن
سلام، وطبقتهما.
وبالعراق من عبيد الله بن موسى، وأبي نعيم، وروح وعبدان وطبقتهم. وبمصر
من سعيد بن أبي مريم، وأبي صالح، وطبقتهما. وبالحجاز من الحميدي، وابن
أبي أبيس، وطبقتهما.
وبالشام من محمد بن يوسف الفريابي، وأبي اليمان، وأبي مسهر، وطبقتهم.
روى عنه: محمد بن يحيى الذهلي، وأبو زرعة الرازي، وأبو حاتم، ومسلم بن
حجاج في الصحيح، وكان أحمد بن حنبل يثني عليه ويقول: ذلك السيد عرض علي
الكفر فلم يقبل، وعرضت عليه الدنيا - يعني القضاء فلم يقبل، فألح عليه
السلطان في القضاء. فجلس فقضى قضية واحدة ثم استعفى، وكان رحمه الله
على غاية من الفضل والديانة، والرواية، والزهد، والعفاف. وله مصنفات
كثيرة من التفسير وغيره، وله المسند حدثنا به أبو الوقت.
وتوفي في يوم التروية أو يوم عرفة من هذه السنة.
عبد الرحمن بن أحمد بن عطية أبو سليمان الداراني من أهل داريا. وهي
ضيعة إلى جانب دمشق. جالس سفيان الثوري، وغيره، وكان من كبار الصالحين.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال أخبرنا
علي بن محمد بن عبد الله المعدل قال أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق قال:
حدثنا إسحق بن إبراهيم بن أبي حسان الأنماطيِ قال حدَّثنا أحمد بن أبي
الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول سمعت أبا جعفر يبكي في
خطبته يوم الجمعة فاستقلني الغضب وحضرتني نيَّة أن أقوم فأعظه بما أعرف
من فعله إذا نزل. قال: فتفكرت أن أقوم إلى خلفه فأعظه والناس جلوس
يرمقوني بأبصارهم فيعرض لي فيأمر بي فأقتل على غير تصحيح، فجلست وسكت.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا
القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد الحربي قال أخبرنا أحمد بن
سليمان النجاد قال حدثنا أبو إسحق إبراهيم الأنماطي قال حدثنا أحمد بن
أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول: لولا الليل ما أحببت البقاء في
الدنيا ولا أحب البقاء في الدنيا لتشقيق الأنهار ولا لغرس الأشجار.
مات أبو سليمان في هذه السنة وقيل: في سنة خمس عشرة، ولا يصح.
نمير الكوفي المجنون.
أخبرنا
محمد بن ناصر الحافظ، قال أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار قال أخبرنا
أبو محمد الجوهري قال حدَّثنا أبو عبد الله المرزباني قال أخبرنا محمد
بن مخلد العطار قال: حدثنا العباس بن محمد بن عبد الرحمن الأشهلي قال:
حدثني أبي، عن ابن نُمَير قال: كان لي ابن أخت سمًته أختي باسم أبي
نُمير، وكان من فتًاك أهل الكوفة، وكان قد سمع سماعاً حسناً، وكان حسن
الطهور، حسن الصلاة، يراعي الشمس للزوال، فعرض له فذهب عقله، وكان لا
يأويه سقف بيت، إذا كان النهار فهو في الجبانة، وإذا كان الليل ففي
السطح قائماً على رجليه في البرد والمطر والريح، فنزل يوماً يريد
المقابر، فقلت: يا نمير، تنام؟ قال: لا. قلت: أي شيء، العلة التي تمنعك
من النوم؟ قال: هذا البلاء الذي تراه قلت: يا نمير، أما تخاف الله عز
وجل؟ قال: بلى. وقال: أليس أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل
فالأمثل!؟ قال: قلت له؟ أنت أعلم مني، قال: كلام مضى. قال: وصعدت إليه
ليلة باردة وهو قائم على السطح، وأمه قائمة تبكي. فقلت يا نمير بقي منك
شيء لم ننكره؟ قال: نعم. قلت: ما هو؟ قال: حب الله عز وجل، وحب رسوله
صلى الله عليه وسلم. قال: وصعدت إليه ليلة في رمضان فقلت له: يا نمير،
لم أفطر. قال ولمَ؟. قلت: أحب أن تراك أختي تأكل معي قال: أفعل. قال:
فأصعد إلينا السطح طعام. فجعل يأكل معي حتى فرغت وفرغ، فلما أردت أن
أقوم رحمته من أن يراني مولياً وهو في الظلمة والريح. فبكيت فقال: ويحك
رحمك الله. قلت له: كيف أنزل إلى الكن والضوء وأدعك في الظلمة والبرد
فغضب وقال: إن لي رباً هو أرحم بيِ منك وأعلم بما يصلحني، فدعه يصرفني
كيف شاء فإني لا أتهمه في قضائه. فقلت له: لئن كنت في ظلمة الليل فإن
جدك في ظلمة اللحد أريد أن أعزيه وأطيب نفسه. فقال لي: أجُعِلَ روح رجل
صالح مثل روح رجل متلون. ثم قال لي: أتاني البارحة أبي وأبوك عبد الله
بن نمير، فوقف، ثم أشار إلى موضع كان أبي يصلي فيه فقال لي: يا نمير
أما أنك ستأتينا يوم الجمعة شهيداً. قال: فدعوت أمه فصعدت إلي
فأخبرتها، بما قال، فقالت: والله ما جربت عليه كذباً ولا هذا مما يتحدث
به، ولا قال إلا حقاً، وقال هذه المقالة عشية الأربعاء فجعلنا نتعجب
ونقول غداً الخميس وبعد غد الجمعة فهبه مرض غداً ومات بعد غد، فأين
الشهادة؟ فلما كان ليلة الجمعة في وسط الليل سمعنا هذه، فإذا هو قد هاج
به ما كان يهيج فبادر الحرجة فزلت قدمه، فسقط منها، فاندقت عَنقَه
فحفرت له إلى جنب أبي ودفنته وانكببت على قبر أبي فقلت: يا أبي قد أتاك
نمير وجاورك، فوالله ما قلت هذه المقالة إلا لما كان في قلبي من الغم،
ثم انصرفت، فلما كان الليل رأيت أبي في النوم كأنه قد دخل عليَ من باب
البيت فقال لي: يا بني، جزاك الله خيراً الذي جاورتني بنمير، اعلم أنه
منذ أتيتنا به إلى أن جئتك تزوج بالحور.
ثم دخلت
سنة ست ومائتين
فمن الحوادث فيها المَد الذي غرق منه السواد وكَسْكر وقطيعة أم جعفر،
وقطيعة العباس فذهبت غلات كثيرة، وامتلأت الآبار، وفسد الزرع، ووقع
الجراد واليرقان.
وفيها: ولى المأمون عبد الله بن طاهر الرقة لحرب نصر بن شَبَث، ومُضَر،
وذلك أن المأمون دعا عبد الله بن طاهر في رمضان سنة ست - وقيل: سنة
خمس، وقيل: سنة سبع - فقال: يا عبد الله، إني أستخير الله عز وجل منذ
شهر، وأرجو أن يخير الله لي، وقد رأيت الرجل يصف ابنه ليطريه لرأيه
فيه، وليرفعه، ورأيتك فوق ما قال أبوك فيك، وقد مات يحيى بن معاذ،
واستخلف الله أحمد بن، يحيى، وليس بشيء، وقد رأيت توليتك مُضر ومحاربة
نصر بن شبث، فقال: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين، وأرجو أن يجعل الله
عز وجل لأمير المؤمنين الخيرة وللمسلمين.
فعقد له وخرج إلى مصر بعد خروج أبيه إلى خراسان.
أخبرنا
محمد بن ناصر، قال أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، أخبرنا أبو الحسن
محمد بن عبد الواحد بن محمد قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيوية قال: أخبرنا
أبو محمد عبد الله بن الرحمن السكري قال: حدَثنا أبو عبد الله، بن عمرو
بن عبد الرحمن البلخي قال: حدَثني عبد الله بن يحيى بن فرقد قال:
حدَّثني محمد بن الفضل بن محمد بن منصور قال: لما افتتح عبد الله بن
طاهر مُضْر ونحن معه سوَّغه المأمون خراجها سنة، فصعد المنبر، فلم ينزل
حتى أجاز بها كلها ثلاثة آلاف دينار أو نحوها، فقبل أن ينزل أتاه معلى
الطائي، وقد أعلموه بما صنع عبد الله بن طاهر بالناس في الجوائز، فوقف
بين يديه تحت المنبر فقال: أصلح الله الأمير - وكان واجداً عليه - :
أنا معلى الطائي، ما كان من جفاء وغلظة، فلا يغلظ علي قلبك، أصلح الله
الأمير، وأنا الذي أقول:
يا أعظم الناس عفواً عند مقدرة ... وأظلم الناس عند الجود بالمال
لو أصبح النيل يجري ماؤه ذهباً ... لما أشرت إلى خزن بمثقال
يغني بما فيه رق الحمد تملكه ... وليس شيء أعاض الحمد بالغالي
تفك باليسر كف العسر من زمن ... إذا استطال على قوم بإقلال
لم يخل كفك من جود لمحتبط ... أو مرهف قاتل من رأس قتال
وما تبث رحيل الخيل في بلد ... إلا عصفن بأرزاق وآجال
هل من سبيل إلى إذن فقد ظمئت ... نفسي إليك فما تروى على حال
إن كنت منك على بالٍ منيت به ... فإن شكرك من حمدي على بال
إن ما زلت مقتضباً لو لا مجاهرة ... من ألسن خضن في صبري بأقوال
قال: فضحك عبد الله، وسُر بما كان منه، فقال: يا أبا الشمر بالله
أقرضني عشرة آلاف دينار، فوالله ما أصبحت أملكها، فأقرضه إياها، فدفعها
إليه.
وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بن الحسن، وهو والي الحرمين.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسحاق بن بشر بن محمد بن عبد الله بن سالم أبو حذيفة البخاري مولى بني
هاشم. ولد ببلخ، واستوطن بخارى فنسب إليها، وهو صاحب كتاب المبتدأ،
وكتاب الفتوح. حدث عن ابن إسحاق، وابن جريج، وابن أبي عروبة، وجويبر،
ومقاتل بن سليمان، أو مالك، والثوري، وجماعة من العلماء بأحاديث باطلة.
وكان يروي عن أقوام قد ماتوا قبل أن يُولد، فلم يلتفت المحدثون إلى
روايته. وتوفي في رجب هذه السنة ببخارى.
بهيم العجلي، يكنى أبا بكر. يروي عن أبي إسحاق الفزاري. كان زاهداً في
الدنيا كثير التعبد، غزير البكاء، عليه أثر الحزن والكآبة.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار
قال: أخبرنا علي بن أحمد الملطي قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال:
أخبرنا الحسين بن صفوان قال: حدثنا عبد الله بن محمد القرشي قال: حدثني
محمد بن الحسين قال: حدثني عبيد الله بن محمد بن حفص قال: حدثنا معاذ
بن. زياد قال: اتخذت عبادان سكنها قوم نساك فيهم، رجل يقال له: بهيم،
وكان رجلاً حزيناً، يزفر الزفرة فيُسمع زفيره.
قال محمد: وحدَثني مخول قال: جاءني بهيم يوماً فقال لي: تعلم رجلاً من
إخوانك وجيرانك يريد الحج، ترضاه يرافقني؟ قلت: نعم، فذهبت به إلى رجل
من الحي، له صلاح ودين، فجمعت بينهما وتواطأ على المرافقة. ثم انطلق
بهيم إلى أهله، فلما كان بعد، أتاني الرجل فقال: يا هذا، أحب أن تزوي
عني صاحبك ويطلب رفيقاً غيري. فقلت: ويحك، ولمَ؟ فوالله ما أعلم
بالكوفة له نظير في حسن الخُلق والاحتمال. ولقد ركبت معه البحر فلم أر
إلا خيراً. فقال: ويحك، حدَثت أنه طويل البكاء، ولا يكاد يفتر، فهذا
يُنغَص علينا العيش في سفرنا كله. قال: قلت: ويحك، إنما يكون البكاء
أحياناً عند التذكرة، يرق القلب فيبكي الرجل، أو ما تبكي
أنت
أحياناً؟ قال: بلى، ولكن قد بلغني عنه أمر عظيم جداً من كثرة بكائه.
قال: قلت: اصحبه فلعلك أن تنتفع به. قال: أستخير الله فلما كان اليوم
الذي أرادا أن يخرجا فيه جيء بالإبل، ووطئ لهما، فجلس بهيم في ظل حائط،
فوضع يده تحت لحيته، وجعلت دموعه تسيل على خديه، ثم على لحيته، ثم على
صدره، حتى والله رأيت دموعه على الأرض. قال: يقول لي صاحبي: يا مخول،
قد ابتدأ صاحبك، ليس هذا لي برفيق. قال: قلت: أرفق، فلعله ذكر عياله
ومفارقته إياهم فرق. فسمعنا بهيم فقال: والله يا أخي ما هو ذاك، ولكنى
ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة. قال: وعلا صوته بالنحيب. قال: يقول لي
صاحبي، والله ما هي بأول عداوتك لي وبغضك إياي، أنا مالي ولبهيم، وإنما
كان ينبغي أن ترافق بين بهيم وبين داود الطائي وسلام أبي الأحوص، حتى
يبكي بعضهم إلى بعض، يشفون أو يموتون جميعاً قال: فلم أزل أرفق به.
قلت: ويحك، لعلها خير سفرة سافرتها. قال: وكان كثير الحج، رجلاً
صالحاً، إلا أنه كان تاجراً موسراً مقبلاً على شأنه، ولم يكن صاحب حزن
ولا بكاء.
قال: فقال لي: قد وقعت مرتي هذه، ولعلها أن تكون خيّرة. قال: وكل هذا
الكلام لا يعلم به بهيم، ولو علم بشيء منه ما صحبه. قال: فخرجا جميعاً
حتى حجا ورجعا، ما يدري كل واحد منهما أن له أخاً غير صاحبه، فلما جئت
أُسلم على جاري قال لي: جزاك الله يا أخي عني خيراً ما ظننت أن في هذا
الخلق مثل أبي بكر، كان والله يتفضل عليَّ في النفقة وهو معدم وأنا
موسر، ويتفضل علي في الخدمة وأنا شاب قوي وهو شيخ ضعيف، ويطبخ لي وأنا
مفطر وهو صائم.
قال: فقلت له،: كيف كان أمرك معه في الذي تكرهه من طول بكائه قال: ألفت
والله ذلك البكاء وسر قلبي حتى كنت أساعده عليه حتى يتأذى بنا أهل
الرفقة. قال: ثم والله ألفوا ذلك، فجعلوا إذا سمعونا نبكي وبكوا، وجعل
بعضهم يقول لبعض: ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منا والمصير واحد.
قال: فجعلوا والله يبكون ونبكي قال: ثم خرجت من عنده فأتيت بهيماً،
فسلّمت عليه وقلت: كيف رأيت صاحبك؟ قال: خير صاحب، كثير الذكر لله عز
وجل، طويل التلاوة للقرآن، سريع الدمعة، محتمل لهفوات الرفيق، جزاك
الله عني خيراً.
جارود بن يزيد أخو الضحاك النيسابوري. حدث عن بهز بن حكيم، وعمر بن ذر.
روى عنه الحسن بن عرفة، وقد ضعفوه. توفي في هذه السنة.
حجاج بن محمد أبو محمد الأعور مولى سليمان بن مجالد، مولى أبي جعفر
المنصور. ترمذي الأصل. سمع ابن جريج، وابن أبي ذئب، وشعبة، وحمزة
الزيات، والليث بن سعد. روى عنه أحمد بن حنبل، ويحيى، وابن أبي خيثمة،
وكان ضابطاً ثقة، إلا أنه تغير في آخر عمره، وكان قد تحول إلى المصيصة
بولده وعياله، فأقام بها سنين، ثم قدم بغداد فتوفي بها.
داود بن المحبر بن قحذم بن سليمان بن ذكوان، أبو سليمان الطائي البصري.
نزل بغداد، وحدث بها عن شعبة، وحماد بن سلمة، وصالح المري، ومقاتل بن
سليمان، إسماعيل بن عياش، وغيرهم.
روي عنه: البرجلاني وغيره.
كان يحيى بن معين يثني عليه ويقول: هو ثقة، وإنما صحب قوماً من
المعتزلة فأفسدوه.
وقال أحمد بن حنبل: هو شبه لا شيء وكذلك قال البخاري: هو شبه لا شيء،
لا يدري ما الحديث.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: حدَثني محمد
بن علي الصوري قال: سمعت عبد الغني بن سعيد الحافظ يقول: قال لنا أبو
الحسن علي بن عمر: كتاب العقل وضعه أربعة، أو لهم ميسرة بن عبد ربه، ثم
سرقه منه داود بن المحبر، وركًبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة، وسرقه عبد
العزيز بن أبي رجاء وركًبه بأسانيد أخرى، ثم سرقه سليمان بن عيسى
السجزي فركبه بأسانيد أخرى. أو كما قال الدارقطني.
توفي داود ببغداد في جمادى الأولى من هذه السنة.
شبابة بن سوار، أبو عمرو الفزاري، مولاهم. أصله من خُراسَان، نزل
المدائن، وحدَث بها وببغداد عن شعبة، وجرير بن عثمان، وابن أبي ذئب،
والليث.
وروى عنه: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة.
واسم أبيه مروان، وإنما غلب عليه سوار، وكان شبابة كثير الحديث. وكان
أحمد بن حنبل يحمل عليه. وكان مرجئاً، لكنه رجع عن ذلك. وتوفي بمكة في
هذه السنة.
أبو جعفر، محمد بن جعفر المدائني.
سمع ورقاء
بن عمر، وشعبة، وغيرهما. وروى عنه أحمد بن حنبل، وعباس الدوري في
آخرين. وقال أحمد وأبو داود: وليس به بأس. وتوفي في هذه السنة.
يزيد بن هارون بن زاذي بن ثابت، أبو خالد السلمي. من أهل واسط، ولد سنة
ثماني عشرة ومائة، وسمع يحيى بن سعيد الأنصاري، وسليمان التميمي،
وعاصماً الأحوال، وحميداً الطويل، وخلقاً كثيراً.
وكان ثقة ثبتاً حافظاً، حدث ببغداد فحرر مجلسه تسعين ألفا.
قال علي بن المديني: لم أر أحفظ من يزيد بن هارون بن زاذي بن ثابت.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي
قال: أخبرنا الأزهري قال: حدَثنا عبد الرحمن بن عمر الخلال قال: حدَثنا
محمد بن أحمد بن يعقوب قال: حدًثنا جدي قال: سمعت أحمد بن أبي الطيب
يقول سمعت يزيد بن هارون، وقيل له إن هارون المستملي يريد أن يدخل عليك
- يعني في حديثك - فتحفظ منه، فبينما هو كذلك إذ دخل هارون فسمع يزيد
نغمته، فقال: يا هارون، بلغني أنك تريد أن تدخل علي في حديثي، فأجهد
جهدك لا أرعى الله عليك إن أرعيت، أحفظ ثلاثة وعشرين ألف حديث ولا بغي،
لا أقامني الله إن كنت لا أقوم بحديثي.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني الخلال
قال: حدَّثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: أخبرنا الحسين بن محمد بن
عفير قال: قال أبو جعفر أحمد بن سنان: ما رأيت عالماً قط أحسن صلاة من
يزيد بن هارون، يقوم كأنه اسطوانة، كان يصلي بين المغرب والعشاء، وبين
الظهر والعصر، ولم يكن يفتر من صلاة الليل والنهار هو وهشيم جميعاً
معروفين بطول الصلاة بالليل والنهار.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي أقال: أخبرنا،
العتيقي قال: أخبرنا أبو مسلم محمد بن أحمد بن علي الكاتب قال: أخبرنا
الحسن بن حبيب بن عبد الملك قال: سمعت أبا جعفر محمد بن إسماعيل الصائغ
يقول: قال رجل ليزيد بن هارون: كم حزبك من الليل. قال: وأنام من الليل
شيئاً؟ إذاً لا أنام الله عيني.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا علي بن أحمد الرزاز قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن يحيى
النيسابوري قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن الأزهر قال: سمعت الحسن بن
عرفة يقول: رأيت يزيد بن لم هارون بواسط وهو من أحسن الناس عينين، ثم
رأيته بعين واحدة، ثم رأيته وقد ذهبت عيناه، فقلت: يا أبا خالد، ما
فعلت العينان الجميلتان. فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال:
أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحيزي وأبو سعيد الصيرفي قالا:
حدَّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم قال: حدَثنا يحيى بن أبي طالب
قال: أخبرني الحسن بن شاذان الواسطي قال: حدَّثنيِ ابن عرعرة قال:
حدَّثني ابن أكثم قال: قال لنا المأمون: لو لا مكان يزيد بن هارون
لأظهرت أن القرآن مخلوق فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين، ومَنْ يزيد
حتى يتقى؟ قال: ويحك، إني أخاف أن يرد علي، فيختلف الناس وتكون فتنة،
وأنا أكره الفتنة. فقال له الرجل: فأنا أخبر لك ذلك منه. فقال له: نعم
قال: فخرج إلى واسط، فجاء إلى يزيد بن هارون، فدخل عليه المسجد، وجلس
إليه فقال له: يا أبا خالد، إن أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك
إني أريد أن أظهر أن القرآن مخلوق. فقال: كذبت على أمير المؤمنين، أمير
المؤمنين لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه، فإن كنت صادقاً فعُد غداً
إلى المجلس، فإذا اجتمع الناس فقل، قال: فلما كان الغد اجتمع الناس
فقام، فقال: يا أبا خالد، رضي الله عنك، إن أمير المؤمنين يقرئك السلام
ويقول لك: إني أريد أن أظهر أن القرآن مخلوق، فما عندك في ذلك؟ قال:
كذبت في ذلك على أمير المؤمنين، أمير المؤمنين لا يحمل الناس على ما لا
يعرفونه وما لم يقل له أحد قال: فقدم فقال: يا أمير المؤمنين، كنت أنت
أعلم. قال: وكان من القصة كيت وكيت. فقال له: ويحك، تلعب بك.
توفي يزيد بواسط غرة ربيع الآخر من هذه السنة.
أخبرنا
عبد الرحمن من محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الحسين بن عبد
الله بن أحمد بن أبي علاثة حدثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: حدَثنا
أبو محمد السكري قال: حدَّثنا يحيى بن إسحاق بن إبراهيم بن سافري قال:
حدَثني أبو نافع ابن بنت يزيد بن هارون قال: كنت عند أحمد بن حنبل
وعنده رجلان، فقال أحدهما: يا أبا عبد الله، رأيت يزيد بن هارون في
المنام فقلت له: يا أبا خالد، ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وشفعني
وعاتبني. فقلت له: غفر لك وشفعك، قد عرفت، ففيم عاتبك؟ قال: قال لي: يا
يزيد، أتحدث عن جرير بن عثمان. قال: قلت: يا رب، ما علمت إلا خيراً.
قال: يا يزيد، إنه كان يبغض أبا الحسن علي بن أبي طالب. قال: وقال
الآخر: وأنا واللهّ رأيت يزيد بن هارون في المنام. فقلت له: هل أتاك
منكر ونكير. قال: إي والله، وسألاني من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فقلت:
ألمثليِ يقال هذا. وأنا كنت أعلم الناس بهذا في الدنيا فقالا لي: صدقت،
فنم نومة العروس لا بأس عليك.
ثم دخلت
سنة سبع ومائتين
فمن الحوادث فيها: خروج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر
بن علي بن أبي طالب ببلاد عك من اليمن يدعو إلى الرضى من آل محمد، وكان
سبب خروجه أن العمال باليمن أساءوا السيرة، فبويع عبد الرحمن، فلما بلغ
ذلك المأمون وجَّه إليه دينار بن عبد الله في عسكر كثيف، وكتب معه
بأمانه، فحضر دينار الموسم، فلما فرغ من الحج سار إلى اليمن، فأتى عبد
الرحمن فبعث إليه أمانه من المأمون، فقبل ودخل في الأمان، ووضع يده في
يد دينار، فخرج به إلى المأمون، فمنع عند ذلك الطالبيين من الدخول
عليه، وأمر بأخذهم بلبس السواد. وذلك في يوم الخميس لليلة بقيت من ذي
القعدة.
وفيها: توفي طاهر بن الحسين، فولي ولده طلحة بن طاهر، فأقام والياً على
خراسان سبع سنين بعد موت أبيه، ثم توفي فولي عبد الله بن طاهر خراسان
مع الشام، وكان يتولى حرب بابك، فأقام بالدينور، وبعث بالجيوش، فوجَّه
المأمون إلى عبد الله بيحيى بن أكثم يعزيه عن أخيه ويهنئه بولاية
خراسان، وولى علي بن هشام حرب بابك.
وقد قيل إنه إنما ولى عبد الله بعد موت أبيه دون طلحة، وأن عبد الله
وجه أخاه طلحة إلى خراسان.
أخبرنا زاهر بن طاهر قال: أخبرنا أحمد بن الحسين البيهقي قال: أخبرنا
أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم قال: سمعت علي أبن أحمد، بن أسد
الأديب يقول: حدَثني غير واحد من مشايخنا بالعراق يسندونه إلى عبد الله
بن طاهر: أنه كتب من خراسان إلى أمير المؤمنين المأمون: بسم الله
الرحمن الرحيم. بعدت داري عن ظل أمير المؤمنين وإن كنت كيف تصرفت في
الأمور لا أتفيأ إلا به، وقد اشتد إلى حضرة أمير المؤمنين شوقي لأتشرف
بخدمته، وأتجمل بمجلسه، وأتزين بخطابه، وأُنقّح عقلي بحسن آدابه، فلا
شيء آثر عندي قربه، وإن كنت في سعة من عيش وهبه الله لي به، فإن رأى
أمير المؤمنين أن يأذن لي، في ورود حضرته لأجحد عهداً بالمنعم علي،
وأتهنأ بنعمة أسداها إليَّ فعل محسناً إن شاء الله.
فلما قرأ المأمون كتابه، وقع فيه: قربك يا أبا العباس إليَ حبيب، وأنت
مني حيث كنت قريب وإنما بعدت دارك نظراً لك، وسمواً بك، ورغبة فيك،
فاتبع قول الشاعر:
رأيت دنوّ الدار ليس بنافع ... إذا كان ما بين القلوب بعيدا
وفي هذه السنة: ولي موسى بن جعفر طبرستان، والرومان، ودوباوند. وغلا
السعر ببغداد حتى بلغ القفيز من الحنطة أربعين درهماً. وحج بالناس في
هذه السنة أبو عيسى بن الرشيد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
حذيفة بن قتادة المرعشي. صحب الثوري، وتوفي في هذه السنة.
أخبرنا عمر بن ظفر، أخبرنا جعفر بن أحمد، أخبرنا عبد العزيز بن علي
أخبرنا ابن جهضم، حدثنا الحسن بن إسحاق، حدَّثنا محمد بن المسيب،
حدَثنا عبد الله بن حنبق قال: قال حذيفة المرعشي: إياكم وهدايا الفُجار
والسفهاء، فإنكم إن قبلتموها ظنوا بكم أنكم قد، رضيتم فعلهم.
زيد بن محمد بن عبيد أبو عبد الله الخزاعي الدمشقي سمع مالك بن أنس،
روى عنه: ابن عوف وأحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، وكان ثقة مأموناً.
وتوفي في هذه السنة بدمشق.
عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح عبد الله بن مالك الخزاعي
ويعرف
بقراد. سمع شعبة، وعكرمة بن عمار، والليث بن سعد روى عنه أحمد بن حنبل.
وكان ثقة. توفي في هذه السنة.
عمر بن حبيب العدوي من بني عدي بن مناة. من أهل البصرة. حدَث عن داود
بن أبي هند، وخالد الحذاء، وسليمان التيمي، وهشام بن عروة. روى عنه
محمد بن عبيد الله المنادي. وكان قد قدم بغداد، وولي بها قضاء الشرقية،
وولي قضاء البصرة أيضاً. أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز
قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرني الأزهري قال: حدَثنا عبد الله
بن محمد بن حمدان العكبري قال: حدَثنا أبو بكر بن محمد بن القاسم
النحوي، حدَّثنا أبو العباس محمد بن يونس الكديمي، حدثنا يزيد بن مرة
الدارع، حدَّثنا عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس هارون الرشيد، فجرت مسألة
فتنازعها الخصوم وعلت أصواتهم، واحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم، فدفع بعضهم الحديث، وزادت المدافعة والخصام
حتى قال قائلون منهم: لا يُحمل هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فإن أبا هريرة متهم فيما يرويه، وصرَّحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد
قد نحا نحوهم، ونصر قولهم، فقلت: إن الحديث صحيح النقل وأبو هريرة صحيح
النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صدوق فيما يرويه عن نبي الله
وغيره. فنظر إلي الرشيد نظر مغضب، فقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي،
فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب فدخل إليَّ، فقال: أجب أمير
المؤمنين إجابة مقتول، وتحنًط وتكفَن فقلت: اللهم إنك تعلم أني دافعت
عن صاحب نبيك، وأجللت نبيك صلى الله عليه وسلم، أن يُطعن في أصحابه،
فسلمني منه. فأُدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي، حاسر عن ذراعيه،
بيده السيف وبين يديه النطع، فلما بصرني قال لي: يا عمر بن حبيب، ما
تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي، بمثل ما تلقيتني به. فقلت: يا أمير
المؤمنين، إن الذي قلته وجادلت علي فيه إزراء على رسول اللّه صلى الله
عليه وسلم على ما جاء به، إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة،
والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله
مردود غير مقبول. فرجع إلى نفسه، ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك
الله. وأمر لي بعشرة آلاف درهم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد
بن علي بن ثابت قال: حدَثني عبد العزيز بن أبي طاهر الصوفي، أخبرنا
تمام بن محمد الرازي قال: حدَّثني أبي قال: أخبرني أبو الحسين علي بن
محمد بن أبي حسان الزيادي قال: حدًثنا أبو زيد الحارث بن أحمد العبدي
قال: حدَثني الحسين بن شداد قال: كان عمر بن حبيب على قضاء الرصافة
لهارون الرشيد، فاستعدى إليه رجل على عبد الصمد بن علي فأعداه عليه،
فأبى عبد الصمد أن يحضر مجلس الحكم، فختم عمر بن حبيب قمطره وقعد في
بيته. فرفع ذلك إلى هارون، فأرسل إليه، فقال: ما منعك أن تجلس للقضاء؟
فقال: أعدي على رجل فلم يحضر مجلسي. قال: ومن هو؟ قال: عبد الصمد بن
علي. فقال هارون: والله لا يأتي مجلسك إلا حافياً قال: وكان عبد الصمد
شيخاً كبيراً قال: فبسطت له اللبود من باب قصره إلى مسجد الرصافة، فجعل
يمشي ويقول: أتعبني أمير المؤمنين، أتعبني أمير المؤمنين. فلما صار إلى
مجلس عمر بن حبيب أراد أن يساويه في المجلس، فصاح به، عمر وقال: اجلس
مع خصمك. قال: فتوجه الحكم على عبد الصمد فحكم عليه، وسجل به. فقال له
عبد الصمد: لقد حكمت عليَّ بحكم لا يجاوز شحمة أذنك فقال له عمر: أما
إني قد طوقتك بطوق لا يفكه عنك الحدادون. قم.
قال الخطيب: كذا ذكر في هذا الحديث، أنه كان على الرصافة. والمحفوظ أنه
كان على الشرقية.
توفي عمر في هذه السنة بعد رجوعه إلى البصرة.
طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق بن أسعد بن زادان أبو طلحة الخزاعي
والي
خراسان. بعثه المأمون إلى بغداد لمحاربة الأمين، وظفر به طاهر وقتله،
ولقبه المأمون ذا اليمين. وحدَّث عن ابن المبارك وغيره. وكان جواداً
وقَع يوماً بصلات أحصيت ألف ألف وسبعمائة ألف. أنبأنا محمد بن ناصر
الحافظ، عن أبي محمد السراج قال: أخبرنا علي بن محمد بن عبد الواحد،
حدَّثنا المعافى بن زكريا حدَّثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدَثنا عبد
الله بن بيان، حدَثنا أبو جعفر مولى بني هاشم قال: بينا طاهر بن الحسين
في حراقته يوماً وقد أدنيتَ إلى الشط لتخرج، إذ عرض له مقدس الخلوفي
الشاعر فقال له: أيها الأمير، أريد أن تسمع مني أبياتاً. فقال: قل.
فأنشأ يقول:
عجبت لحراقة ابن الحسين ... كيف تعوم ولا تغرق
وبحران من تحتها واحدٌ ... وآخر من فوقها مطبق
وأعجب من ذاك عيدانها ... وقد مسها كيف لا تورق
فقال: أعطوه ثلاثة آلاف دينار. وقال: زدنا حتى نزيدك. فقال: حسبي.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الجوهري
قال: أخبرنا محمد بن العباس قال: حدًثنا أبو القاسم علان الوزان قال:
حدَثني أبو الحسن الجاماسي قال: قال رجل بخراسان: قال لي صديق لي: رأيت
رجلاً بمرو في يوم جمعة بحال سيئة، ثم رأيته في الجمعة الأخرى على
برذون، فقلت له: ما الخبر؟ فقال: أنا على باب طاهر بن الحسين منذ ثلاث
سنين ألتمس الوصول إليه فيتعفر عليَّ ذلك حتى قال لي بعض أصحابه يوماً:
إن الأمير قد، يركب اليوم في الميدان يلعب بالصوالجة. فقلت: اليوم أصل
إليه. فصرت إلى الميدان فرأيت الوصول إليه متعذراً، وإذا فرجة في
بستان، فالتمست الوصول إلى الميدان، فلما سمعت الحركة وصوت الصوالجة
ألقيت نفسي من الثلمة، فنظر إليَّ فقال: مَنْ أنت؟ فقلت: أنا بالله وبك
أيها الأمير، إياك قصدت، ومنك أطلب وقد قلت بيتي شعر فقال: هاتهما.
وأقبل ميكال إليّ فزجره عني، فأنشدته:
أصبحت بين خصاصة وتجمل ... والمرء بينهما يموت هزيلاً
فامدد إلي يداً تعود بطنها ... بذل النوال وظهرها التقبيلا
فأمر لي بعشرة آلاف درهم وقال: هذه ديتك ولو كان ميكال أدركك لقتلك،
وهذه عشرة آلاف لعيالك، امضِ لشأنك، ثم قال: سدوا هذه الثلمة، لا يدخل
إلينا منها وقد ذكرنا أن المأمون كان إذا ذكر أخاه الأمين وما فعل به
طاهر جرت دموعه، وأن طاهراً أعلم بذلك وطلب البعد عن الخليفة واحتال
لذلك فولاه خراسان، فخرج، فلما كان بعد مدة من مقدمه خراسان قطع الدعاء
للمأمون على المنبر يوم الجمعة، فقال له عون بن مجاشع صاحب البريد: ما
دعوت في هذه الجمعة لأمير المؤمنين فقال له: سهو وقع، فلا تكتب به، ثم
فعل ذلك في الجمعة الثانية والثالثة. فقال له عون: إن كتب التجارة لا
تنقطع عن بغداد، وإن اتصل هذا بأمير المؤمنين من غيرنا لم نأمن أن يكون
ذلك سبب زوال نعمتي فقال: اكتب بما أحببت. فكتب بالخبر إلى المأمون.
قلما وصل كتابه دعا أحمد بن أبي خالد وقال له: إنه لم يذهب علي احتيالك
في أمر طاهر وتمويهك له، وأنا أعطي الله عهداً إن لم يشخص حتى توافيني
به كما أخرجته من قبضتي، وتصلح ما أفسدته علي من أمر ملكي ليدمين
عقباك، فشخص أحمد وجعل يتلوم في الطريق ويقول لأصحاب البريد: اكتبوا
بأخبار عله أحدها، فلما وصل إلى الري لقيته الأخبار بوفاة طاهر، ولقيه
ولده طلحة فقال له: لا تريني وجهك، فإن أباك عرضني للغضب. قال: قد مضى
لسبيله، وأنا أحلف لك على الإخلاص. فكتب أحمد بالخبر، فلما بلغت وفاته
المأمون قال: لليدين وانعمِ: الحمد لله الذي قدمه وأخرنا. وكان قد
أخذته حمى وحرارة، فوجدوه في فراشه ميتاً. وتوفي في جمادى الآخرة من
هذه السنة بمرو.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني عبيد
الله بن أبي الفتح قال: حدَّثنا محمد بن جعفر الأديب، قال أخبرنا أبو
القاسم السكوني قال: أنشدني جعفر بن الحسين لبعض المحدثين يرثي طاهر بن
الحسين.
فلئن كان للمنية رهناً ... إن أفعاله لرهن الحياة
ولقد أوجب الزكاة على قو ... م وقد كان عيشهم بالزكاة
محمد بن أبي رجاء الخراساني. من أصحاب أبي يوسف القاضي. ولي القضاء
ببغداد أيام المأمون وتوفي في جمادى الآخرة من هذه السنة.
محمد بن
عبد الله بن عبد الأعلى بن عبد الله، أبو يحيى الأسدي ويعرف بابن كناسة
لقب أبيه عبد الله. ومحمد هو: ابن أخت إبراهيم بن أدهم. وكان عالماً
بالشعر والعربية وأيام الناس، ورد بغداد، وحدَّث بها عن هشام بن عروة،
والأعمش وغيرهما. روى عنه: أحمد بن حنبل وغيره. وقال يحيى وابن
المديني: ابن كناسة ثقة.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أحمد بن روح
الهمداني قال: أخبرنا المعافى زكريا قال: أخبرنا محمد بن القاسم
الأنباري قال: حدَثنا محمد بن المرزبان قال: حدثنا عبد الله بن محمد
قال: رأى رجل محمد بن كناسة يحمل بيده بطن شاة فقال له أعطني أحمله لك
فقال:
لا ينقص الكامل من كماله ... ما جر من نفع إلى عياله.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني الأزهري قال:
حدَّثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: حدَثنا إبراهيم بن محمد النحوي
قال: حدَّثني الفضل الربيعي قال: حدَثنا حماد بن إبراهيم، عن أبيه قال:
أتيت محمد بن كناسة لأكتب عنه، فكثر عليه أصحاب الحديث، فضجر بهم
وتجهمهم، فلما انصرفوا عنه دنوت منه، فهش إلي واستبشر بي، وبسط وجهه،
فقلت له: لقد تعجبت من تفاوت حاليتك!؟ فقال لي: أضجرني هؤلاء بسوء
أدبهم، فلما جئتني أنت انبسطتَ إليك وقد حضرني في المعنى بيتان وهما:
فيّ انقباض وحشمة فإذا ... صادفت أهل الوقار والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم
فقلت: لوددت إن هذين البيتين لي بنصف ما أملك فقال: قد وفر الله عليك
مالك، ما سمعهما أحد ولا قلتهما إلا الساعة. فقلت له: كيف لي بعلم نفسي
أنهما ليسا لي.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن الحسين
القطان، أخبرنا جعفر الخلدي، أخبرنا محمد بن عبد الله الحضرمي قال:
توفي محمد بن كناسة سنة سبع ومائتين.
وقال ابن قانع: سنة تسع. والأول أصح.
محمد بن عمر بن واقد أبو عبد الله الواقدي المديني. ولد سنة ثلاثين
ومائة. وسمع ابن أبي ذئب، ومعمر بن راشد، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري،
وخلقاً كثيراً.
وقدم بغداد وولي قضاء الجانب الشرقي، وله الكتب المصنفة في المغازي،
والسيرة، والأحداث والحديث، والفقه. وكان كريماً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا
سلامة بن الحسين المقرئ، أخبرنا الدارقطني، أخبرنا محمد بن القاسم
الأنباري قال: حدَّثني أبي قال: حدَّثنا أبو عكرمة الضبي، قال: حدثنا
يحيى بن محمد العنبري، قال: قال الواقدي كنت حنَّاطاً بالمدينة في يدي
مائة ألف درهم للناس أضارب بها، فتلفت الدارهم في يدي، فشخصت إلى
العراق فقصدت يحيى بن خالد، فجلست في دهليزه، وآنست بالخدم والحجاب،
وسألتهم أن يوصلوني إِليه، فقالوا: إذا قدُمِّ الطعام إليه لم يُحجب
عنه أحد، ونحن ندخلك عليه ذلك الوقت. فلما حضر طعامه أدخلوني فأجلسوني
معه على المائدة، فسألني: مَنْ أنت، وما قصتك؟ فأخبرته، فلما رُفع
الطعام وغسلنا أيدينا دنوت منه لأقبّل رأسه، فاشمأز من ذلك، فلما صرت
إلى الموضع الذي يركب منه لحقنيِ خادم معه كيس فيه ألف دينار فقال:
الوزير يقرأ عليك السلام ويقول لك: استعن بها على أمرك، وعُد إلينا في
غد. فأخذته وعدت في اليوم الثاني، فجلست معه على المائدة، فأنشأ يسألني
كما سألني في اليوم الأول، فلما، رفع الطعام دنوت منه لأقبل رأسه.
فاشمأز
مني، فلما صرت إلى الموضع الذي يركب منه لحقني الخادم ومعه كيس فيه ألف
دينار، فقال: الوزير يقرأ عليك السلام ويقول لك: استعن بهذا على أمرك
وعد إلينا في غد فأخذته وانصرفت، وعدت إليه في اليوم الثالث، فأعطيت
مثلما أعطيت في اليوم الأول والثاني، فلما كان في اليوم الرابع أعطيت
الكيس كما أعطيت قبل ذلك وتركني بعد ذلك أقبل رأسه وقال: منعتك ذلك
لأنه لم يكن وصل إليك من معروفي ما يوجب هذا، والآن قد لحقك بعض النفع
مني، يا غلام، أعطه الدار الفلانية، يا غلام، افرشها، الفرش الفلاني،
يا غلام، أعطه مائتي ألف درهم يقضي دينه بمائة ألف، ويصلح شأنه بمائة
ألف. ثم قال لي: الزمني وكن في داري. فقلت: أعز الله الوزير، لو أذنت
لي بالشخوص إلى المدينة لأقضي للناس أموالهم ثم أعود إلى حضرتك كان ذلك
أرفق بي. فقال: قد فعلت. وأمر بتجهيزي فشخصت إلى المدينة، فقضيت ديني،
ثم رجعت إليه، فلم أزل في ناحيته قال أبو عكرمة: وأخبرنا سليمان بن أبي
شيخ قال: أخبرنا الواقدي قال: ضقت مره وأنا مع يحيى بن خالد، وجاء عيد،
وجاءتني الجارية فقالت لي: قد حضر العيد وليس عندنا من آلته شيء، فمضيت
إلى صديق لي من التجار، فعرفته حاجتي إلى القرض، فأخرج لي كيساً
مختوماً فيه ألف ومائتا درهم، فأخذته و انصرفت إلى منزلي، فلما استقررت
فيه جاءني صديق لي هاشمي، وشكا إليَ تأخر غلته وحاجته إلى القرض، فدخلت
إلى زوجتي فأخبرتها فقالت: على أي شيء عزمت؟ قلت: على أن أقاسمه الكيس.
قالتَ: ما صنعت شيئاً أتيت رجلاً سوقة فأعطاك ألفاً ومائتي درهم، وجاءك
رجل له من رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم ماسة تعطيه نصف ما أعطاك
السوقة، ما هذا شيئاً، أعطه الكيس كله فأخرجت الكيس كله فدفعته إليه
ومضى صديقي التاجر إلى الهاشمي وكان صديقاً له، فسأله القرض، فأخرج
الهاشمي إليه الكيس، فلما رأى خاتمه عرفه وانصرف إليَّ فأخبرني بالأمر،
وجاءني رسول يحيى بن خالد فركبت إليه فأخبرته خبر الكيس، فقال: يا
غلام، هات تلك الدنانير، فجاءه بعشرة آلاف دينار. فقال: خذ ألفي دينار
لك، وألفين لصديقك التاجر، وألفين للهاشمي، وأربعة آلاف لزوجتك فإنها
أكرمكم.
وقال الواقدي: صار إليَ من السلطان ستمائة ألف درهم ما وجبت علي فيها
زكاة.
قال عباس الدوري: ومات الواقدي وما له كفن، فبعث المأمون بأكفانه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا الحسين بن محمد بن جعفر الرافعي قال: أخبرنا القاضي أبو بكر بن
كامل قال: حدَّثني محمد بن موسى الترمذي قال: قال المأمون للواقدي:
أريد أن تصلي الجمعة غداً بالناس. قال: فامتنع فقال: لا بد من ذلك.
فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أحفظ سورة الجمعة. قال: فأنا أحفظك
قال: فافعل فأقبل المأمون يلقنه سورة الجمعة حتى بلغ النصف منها، فإذا
حفظ ابتدأ بالنصف الثاني، فإذا حفظ النصف الثاني نسي الأول، فتعب
المأمون ونعس، فقال لعلي بن صالح: يا علي حَفَظه أنت. قال علي: ففعلت،
ونام المأمون، فجعلت أحفظه النصف الأول فيحفظه فإذا حفظته الثاني نسي
الأول، فاستيقظ المأمون، فقال لي: ما فعلت؟ فأخبرته فقال: هذا رجل يحفظ
التأويل ولا يحفظ التنزيل، اذهب فصل بهم واقرأ أي سورة شئت.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو
عبد الله أحمد بن محمد بن دوست، حدًثنا أبو الحسن علي بن محمد قال:
أخبرنا أبو زيد عبد الرحمن بن حاتم المرادي قال: حدَثنا هارون بن عبد
الله الزهري القاضي قال: كتب الواقدي رقعة إلى المأمون يذكر فيها غلبة
الدين وغمه بذلك، فوقع المأمون على ظهرها: فيك خلتان: السخاء والحياء،
فأما السخاء فهو الذي أطلق ما ملكت، وأما الحياء فهو الذي منعك من
إطلاعنا على ما أنت عليه، وقد أمرنا لك بكذا وكذا، فإن كنا أصبنا
إرادتك في بسط يدك، فإن خزائن الله مفتوحة، وأنت كنت حدَّثتني وأنت على
قضاء الرشيد عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن أنس بن مالك، أن رسول
الله !صلى الله عليه وسلم قال للزبير: يا زبير، إن باب الرزق مفتوح
بباب العرش، يُنزل الله عز وجل إلى العباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم،
فمن قلل قُفَلَ له، ومَنْ كثر كثر له.
قال الواقدي: وكنت قد أنسيت الحديث، فكان تذكيره إياي أحب إلي من
جائزته.
قال هارون
القاضي: بلغني أن الجائزة كانت مائة ألف وكان الحديث أحب إليه من
المائة ألف أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال:
أخبرني الحسن بن أبي طالب، أخبرنا محمد بن العباس، حدَثنا أبو الحسين
بن المغيرة قال: حدَّثني أبو جعفر أحمد بن محمد الضبعي قال: حدَثني
إسماعيل بن مجمع قال: سمعت الواقدي يقول: ما أدركت رجلاً من أبناء
الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا سألته: هل سمعت أحداً من أهلك
يخبرك عن مشهده وأين قُتل، فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع حتى أعاينه
ولقد مضيتَ إلى المريسيع، فنظرت إليها، وما علمت غزاة إلا مضيت إلى
الموضع أعاينه.
قال الضبعي: وحدَثني محمد بن خلاد قال: سمعت محمد بن سلام الجمحي يقول:
محمد بن عمر الواقدي عالم دهره.
وقال يعقوب بن شيبة: انتقل الواقدي فحمل كتبه على عشرين ومائة وقر.
وقال غيره: كان له ستمائة قمطر كتب، وكان الواقدي يقول: حفظي أكثر من
كتبي.
وقال: الدراوردي: ذاك أمير المؤمنين في الحديث.
وقال مصعب الزبيري: هو ثقة مأمون، والله ما رأينا مثله قط وكذلك قال
يزيد بن هارون: الواقدي ثقة. وكذلك قال أبو عبيد. وقال مجاهد بن موسى:
ما كتبت عن أحد قط أحفظ منه.
وقال عباس العنبري: الواقدي أحب إلي من عبد الرزاق كان إبراهيم الحربي
معجباً به، يقول: الواقدي آمن الناس على أهل الإسلام، وأعلم الناس بأمر
الإسلام أوفقه أبو عبيد من كتب الواقدي، ومَنْ قال إن مسائل مالك وابن
أبي ذئب تؤخذ عمن هو أوثق من الواقدي فلا يُصدق.
قال المصنف رحمه الله: وقد قدح فيه جماعة.
كان علي بن المديني يقول: الواقدي ضعيف، لا يُروى عنه.
وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، ولا نكتب حديثه.
وقال أحمد بن حنبل: هو كذاب، جعلت كتبه ظهائر للكتب منذ حين.
وقال الشافعي: كتب الواقدي كذب.
وقال بندار: ما رأيت أكذب شفتين من الواقدي.
وقال البخاري والنسائي: هو متروك الحديث.
وقال أبو زرعة: ترك الناس حديثه.
وقد ذكر إبراهيم الحربي: سبب طعن أحمد فيه واعتذر عنه.
فأخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الحافظ
قال: أخبرني إبراهيم بن عمر البرمكي، حدَثنا عبيد الله بن محمد بن
حمدان، حدَثنا محمد بن أيوب قال: قال إبراهيم الحربي: سمعت أحمد ذكر
الواقدي فقال: ليس أنكر عليه شيئاً إلا جمعه الأسانيد ومجيئه بمتن واحد
على سياقة واحدة عن جماعة، وربما اختلفوا.
قال إبراهيم: ولم وقد فعل هذا ابن إسحاق، والزهري وحماد بن سلمة؟ قال
المصنف: لو كانت المحنة جمع الأسانيد لقرب الأمر، فإن الزهري قد جمع
رجالاً في حديث الإفك محمول على اختلاف اللفظ دون المعنى، وليس هذا يقع
في كل ما يجمع لم عليه، وإنما نقموا عليه ما هو أشد من هذا.
فروى إسحاق الكوسج عن أحمد أنه قال: الواقدي يقلب الأحاديث كأنه يجعل
ما لمعمر لابن أخي الزهري، أو ما لأبن أخي الزهري لمعمر.
وقال إسحاق بن راهويه: كان يفعل هذا، وكان ممن يضع الحديث.
وقال اللاحي: الواقدي متهم.
توفي الواقدي ليلة الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من هذه
السنة، ودفن في مقابر الخيزران وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
المظفر بن مدرك، أبو كامل الخراساني الأصل. سمع حماد بن سلمة. وروى عنه
أحمد بن حنبل. وقال يحيى: كنت آخذ منه صنعة الحديث ومعرفة الرجال، وكان
ثقة.
توفي في هذه السنة الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن، أبو عبد الرحمن
الطائي. حدَث عن هشام بن عروة، وابن إسحاق، وشعبة، وغيرهم. وكان أحسن
الناس وجهاً، وأنظفهم ثوباً، وأطيبهم ريحاً. فوجد له مائتا قميص،
ومائتا طيلسان، ومائة رداء، وخمسين عمامة، ومائة سروال.
ولم يكن عند المحدثين بثقة، وتوفي في هذه السنة، وقيل: في سنة ست.
هشام بن القاسم، أبو النضر الكتاني. خُراسَاني الأصل، سمع شعبة، وليث
بن سعد.
روى عنه: أحمد بن حنبل. وقيل: كان من الآمرين بالمعروف والناهين عن
المنكر.
وقال يحيى: كان ثقة.
توفي في هذه السنة، ودفن في مقابر عبد الله بن مالك بالجانب الشرقي.
يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور أبو زكريا الفراء مولى بني أسد.
من أهل
الكوفة. حدث عن قيس بن الربيع، ومندل بن علي، والكسائي، وأبي بكر بن
عياش، وسفيان بن عيينة وكان ثقة إماماً. قال ثعلب: لو لا الفراء ما
كانت عربية، لأنه خلصها وضبطها.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا
القاضي أبو العلاء الواسطي قال: أخبرنا محمد بن جعفر بن محمد بن هارون
التميمي، حدَثنا الحسن بن داود، حدثنا أبو جعفر عقدة، أخبرنا أبو بديل
الوضاحي قال: أمر أمير المؤمنين المأمون الفراء أن يؤلف ما جمع به أصول
النحو وما سمع من العرب، وأمر أن يفرد في حجرة من حجر الدار، ووكل به
جواري وخدماً يقمن بما يحتاج إليه حتى لا يتعلق قلبه، ولا تتشوق نفسه
إلى شيء حتى أنهم كانوا يؤذنونه بأوقات الصلاة، وصير له الوراقين،
وألزمه الأمناء والمنفقين، فكان يملي والوراقون يكتبون، حتى صنف الحدود
في سنين، وأمر المأمون بكتبه في الخزائن، فبعد أن فرغ من ذلك خرج إلى
الناس، وابتدأ يملي كتاب المعاني وكان ورَّاقاه: سلمة وأبا نصر. قال:
فأردنا أن نعد الناس الذين اجتمعوا لإملاء كتاب المعاني فلم يضبط. قال:
فعددنا القضاة فكانوا ثمانين قاضياً، فلم يزل يمليه حتى أتمه، وله
كتابان في المشكل، أحدهما أكبر من الآخر، قال: فلما فرغ من إملاء كتاب
المعاني خزنه الوراقون عن الناس ليكسبوا به، وقالوا: لا نخرجه إلى أحد
إلا مَنْ أراد أن ننسخه له على خمس أوراق بدرهم فشكى الناس ذلك، إلى
الفراء، فدعا الوراقين فقال لهم في ذلك، فقالوا: إنما صحبناك لننتفع بك
وكل ما صنفته فليس بالناس إليه من الحاجة ما بهم إلى هذا الكتاب، فدعنا
نعيش به. فقال: فقاربوهم تنتفعوا وينتفعوا، فأبوا عليه، فقال: سأريكم.
وقال للناس: إني ممل كتاب معان أتم شرحاً وأبسط قولاً من الذي أمليت.
فجلس يملي، فأملى الحمد في مائة ورقة، فجاء الوراقون إليه فقالوا: نحن
نبلغ للناس ما يحبون، فنسخوا كل عشرة أوراق بدرهم. قال: وكان المأمون
قد وكل الفراء يلقن ابنيه النحو، فلما كان يوماً أراد الفراء أن ينهض
إلى بعض حوائجه، فابتدرا إلى نعل الفراء يقدمانه له، فتنازعا أيهما
يقدمه، ثم اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما فرداً، فقدماها، وكان
المأمون له على كل شيء صاحب خبر، فرفع ذلك إليه في الخبر، فوجّه إلى
الفراء فاستدعاه، فلما دخل عليه قال له: مَنْ أعز الناس؟ قال: ما أعرف
أعز من أمير المؤمنين قال: بلى، من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا
عهد المسلمين، حتى رضي كل واحد منهما أن يقدم فرداً. قال: يا أمير
المؤمنين، لقد أردت منعهما من ذلك، ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا
إليها، أو أكسر نفوسهما عن شريفة حرصاً عليها. وقد يروى عن ابن عباس
أنه أمسك للحسن والحسين ركابيهما حين خرجا من عنده، فقال له بعض مَنْ
حضر: أتمسك لهذين الحديثين ركابيهما وأنت أشرف منهما. قال له: اسكَت يا
جاهل، لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل، وأنا ذو فضل فقال له
المأمون: لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لوماً وعتباً، وألزمتك ذنباً، وما
وضع ما فعلاه من شرفهما، بل رفع من قدرهما وبين عن جوهرهما، ولقد تبينت
لي مخيلة الفراسة بفعلهما، فليس يكبر الرجل وإن كان كبيراً عن ثلاث: عن
تواضعه لسلطانه، ولوالده، ولمعلمه العلم، ولقد عوضتهما عما فعلاه عشرين
ألف دينار، ولك عشرة آلاف درهم على حسن أدبك لهما.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا الأزهري قال: أخبرنا علي بن عمر الحافظ قال: حدَثنا أحمد بن
محمد بن سعيد، حدَثنا بيان بن يعقوب الرقومي قال: سمعت عبد اللهّ بن
الوليد صعوداً يقول: كان محمد بن الحسن الفقيه ابن خالة الفراء، وكان
الفراء يوماً عنده جالساً، فقال الفراء: قلّ رجل أمعن النظر في باب من
العلم فأراد غيره إلاَّ سهل عليه، فقال له محمد: يا أبا زكريا، فأنت
الآن قد أمعنت النظر في العربية فنسألك عن باب من الفقه؟ قال: هات على
بركة الله. قال: ما تقول في رجل صلى وسهى فسجد سجدتي السهو فسهى فيهما.
ففكر الفراء ساعة، ثم قال: لا شيء عليه قال له محمد: ولمَ. قال: لأن
التصغير عندنا لا تصغير له وإنما السجدتان إتمام الصلاة فليس للتمام
تمام، فقال محمد: ما ظننت أن آدمياً يلد مثلك.
توفيِ
الفراء ببغداد في هذه السنة. وقد بلغ ثلاثاً وستين سنة. وقيل: مات في
طريق مكة.
ثم دخلت
سنة ثمان ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن الحسن بن الحسين بن مصعب مضى من خُراسان إلى
كرمان ممتنعاً، فمضى إليه أحمد بن أبي خالد حتى أخذه، فقدم به على
المأمون فعفا عنه.
وفيها: ولى المأمون محمد بن عبد الرحمن المخزومي قضاء عسكر المهدي في
المحرم، ثم عزله في ربيع الأول وولى بشر بن الوليد الكندي.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أحمد بن على بن ثابت، أخبرنا
الأزهري، حدَّثنا علي بن عمر الحافظ، أخبرنا عبد الله بن إسحاق بن
إبراهيم، أخبرنا الحارث بن محمد، حدثنا محمد بن سعد قال: سنة ثمان
ومائتين فيها استعفى محمد بن سماعة القاضي من القضاء، فأعفي وأقره
المأمون في صحابته، وولى مكانه - القضاء بمدينة السلام إسماعيل بن حماد
بن أبي حنيفة وولى مكان إسماعيل حماداً على قضاء الشرقية والكرخ: عكرمة
بن طارق، ولبس خلعتين.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بن الرشيد.
وجاء سيل إلى مكة حتى نال الماء الحجر والباب، وهدم أكثر من ألف دار،
ومات ألف إنسان.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أسود بن عامر أبو عبد الرحمن المعروف بشاذان أصله من الشام، وسمع سفيان
الثوري، وشعبة، والحمادين، وابن المبارك وغيرهم. روى عنه: أحمد بن
حنبل، ووثقه. توفي ببغداد هذه السنة.
ثابت بن نصر بن الهيثم، الخزاعي كان يتولى إمارهَ الثغور. ويذكر عنه
فضل وصلاح وحُسن أثر فيما ولي.
توفي في هذه السنة بالمصيصة.
صالح بن عبد الكريم العابد حدث عن فضيل بن عياض، وابن عيينة. حدَّث عنه
البرجلاني.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، أخبرنا أبو طاهر
محمد بن أحمد بن أبي الصقر، أخبرنا عبد الرحمن بن عثمان الدمشقي، حدثنا
خيثمة بن سليمان الأطرابلسي، حدثنا أبو العباس النسائي قال: سمعت بعض
الأشياخ يقول: قال لي صالح بن عبد الكريم يوماً أيش في كمك يا أبا
يوسف؟ قلت: حديث قال: يا أصحاب الحديث، ما كان ينبغي أن يكون أحد أزهد
منكم، إنما تقلبون ديوان الموتى، لعل ليس بينك وبين النبي صلى الله
عليه وسلم في كتابك أحد إلا وقد مات.
عبد الله بن بكر بن حبيب أبو وهب الباهلي البصري سكن بغداد، وحدث بها
عن حميد الطويل، وحاتم بن أبي صغيرة، وسعيد بن أبي عروبة روى عنه أحمد
بن حنبل وأبو خيثمة، والحسن بن عرفة وكان ثقة صدوقاً توفي في محرمِ هذه
السنة.
عمر بن عبد العزيز، أبو حفص الشطرنجي. كان أبوه من موالي المنصور، ونشأ
أبو حفص في دار المهدي ومع أولاده، وتأدب، وكان محباً للشطرنج فلُقب
به، ثم انقطع إلى علية وكان يقول لها الأشعار فيما تريده وكان نديماً
مستحسناً ومؤنساً لطيفاً.
روى محمد بن المرزبان عن أبي العباس الكاتب قال: كان الرشيد يحب ماردة
جاريته، وكان قد خلفها بالرقة، فلما قدم بغداد اشتاقها فكتب إليها:
سلام على النازح المغترب ... تحية صب به مكتئب
سأستر والستر من شيمتي ... هوى من أحب بمن لا أحب
فلما ورد الكتاب أمرت أبا حفص الشطرنجي بإجابته عنها فأجاب:
أتاني كتابك يا سيدي ... وفيه العجائب كل العجب
أتزعم أنك لي عاشق ... وأنك بي مستهام وصب
فلو كان هذا كذا لم تكن ... لتتركني نهزة للكرب
وأنت ببغداد ترعى بها ... نبات اللذاذة مع من تحب
فيا مَنْ جفاني ولم أجفه ... ويا مَنْ شجاني بما في الكتب
كتابك قد زادني صبوة ... وأشعر قلبي بحر اللهب
فهبني نعم قد كتمت الهوى ... فكيف بكتمان دمع سَرب
ولو لا اتقاؤك يا سيدي ... لوافتك بي الناجيات النحب
فلما قرأ الرشيد كتابها أنفذ من وقته خادماً على البريد حتى حدروها إلى
بغداد في الفرات.
وروينا أن الرشيد غضب على علية، فأمرت أبا حفص الشطرنجي أن يقول شعراً
يعتذر فيه عنها فقال:
لو كان يمنع حسن العقل صاحبه ... من أن يكون له ذنب إلى أحد
كانت علية
أيدي الناس كلهم ... من أن تكافى بسوء آخر الأبد
ما لي إذا غبت لم أذكر بواحدة ... وإن سقمت وطال القسم لم اعد م
ا أعجب الشيء أرجوه فأكرمه ... قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي
فغنى بها الرشيد فأحضرها وقَبَل رأسها وقال: لا أغضب عليك أبداً.
وقال عبد الله بن الفضل بن الربيع: دخلت على أبي حفص الشطرنجي أعوده في
علته التي مات فيها، فأنشدني لنفسه:
نعى لك ظل الشباب المشيب ... ونادتك باسم سواك الخطوب
فكن مستعداً لداعي الفنا ... ء فإن الذي هو آت قريب
ألسنا نرى شهوات النفوس ... تفنى وتبقى علينا الذنوب
وقبلك داوى المريض الطبيب ... فعاش المريض ومات الطبيب
يخاف على نفسه مَنْ يتوب ... فكيف ترى حال مَنْ لا يتوب
الفضل بن الربيع بن يونس بن محمد بن أبي فروة واسم أبي فروة: كيسان،
وكنية الفضل: أبو العباس.
وكان حاجب الرشيد والأمين. وكان أبو العباس أبوه حاجب المنصور والمهدي.
وأسند الحديث عن حميد الطويل، ولما أفضت الخلافة إلى الأمين قدم الفضل
عليه من خراسان بالأموال والقضيب والخاتم، وكان في صحبة الرشيد إلى أن
مات الرشيد بطوس، فأكرمه الأمين وقربه وألقى إليه أن دبر الأمور، وعوًل
عليه في المهمات، وفَوَض إليه ما وراء بابه، فكان هو الذي يولي ويعزل
وتخلّى الأمين مستريحاً، واحتجب عن الناس فقال أبو نواس:
لعمرك ما غاب الأمين محمد ... عن الأمر يعنيه إذا شهد الفضل
ولو لا مواريث الخلافة أنها ... له دونه ما كان بينهما فضل و
وإن كانت الأخبار فيها تباين ... فقولهما قول وفعلهما فعل
أرى الفضل للدنيا وللدين جامعاً ... كما السهم فيه الفوق والريش والنصل
فلّما خُلع الأمين، وجاء المأمون إلى بغداد لمحاربته هرب الفضل بن
الربيع، فلما قتل الأمين نفى الفضل وطاهر بن الحسين ببغداد عنانه معه
وقال: إن هذا العنان ما ثني إلا لخليفة، فقال له طاهر: صدقت، فسل ما
شئت فقال: تكلم لي أمير المؤمنين فكلمه، فصفح عنه. وله في هربه قصة
طريفة.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر، أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن
أبيه قال: حدثني علي بن هشام الكاتب قال: حدثنا علي بن مقلة قال:
حدَّثني أبو عيسى بن سعيد الديناري، عن أبي أيوب سليمان بن وهب، عن ابن
طالوت كاتب ابن وهب قال: سمعت الفضل بن الربيع يقول: لما استترت عن
المأمون أخفيت نفسي عن عيالي وولدي، وكنت أستقل وحدي، فلما قرب المأمون
من بغداد زاد حذري وخوفي على نفسي فشددت في الاحتياط والتواري وأفضيت
إلى منزل بزاز كنت أعرفه بباب الطاق، وشدد المأمون في طلبي، فلم يعرف
لي خبراً، تذكرني يوماً واغتاظ وجد بإسحاق بن إبراهيم في طلبي وأغلظ
له، فخرج إسحاق من حضرته، فجد بأصحاب الشرط حتى أوقع ببعضهم المكاره،
ونادى في الجانبين بأن مَنْ جاء بي فله عشرة آلاف درهم وأقطاع بثلاثة
آلاف دينار كل سنة، وأن مَنْ وجدت عنده بعد النداء ضُرب خمسمائة سوط،
وهدمت داره، وأُخذ ماله، وحُبس طول عمره، فما شعرت إلا بصاحب الدار قد
دخل علي فأخبرني بخبر النداء، وقال: والله ما أقدر بعد هذا على سترك
ولا آمن زوجتي ولا جاريتي ولا غلامي، تشره نفوسهم إلى المال فيدلون
عليك فأهلك بهلاكك، فإن صفح الخليفة عنك، لم آمن أن تتهمني أنت أني في
دللت عليك، فيكون ذلك أقبح، وليس الرأي لي ولك إلا أن تخرج عني. فورد
علي أعظم مورد وقلت: إذا جاء الليل خرجت عنك فقال: ومَنْ يطيق الصبر
على هذا إلى الليل، فإن وجدت عندي قبل الليل فكيف يكون حالي؟ وهذا وقت
حار، وقد طال عهد الناس بك، فتنكر واخرج. فقلت: وكيف أتنكر؟ قال: تأخذ
أكثر لحيتك، وتغطي رأسك، وتلبس قميصاً ضيقاً. ففعلت ذلك، وخرجت في أول
أوقات العصر وأنا ميت جزعاً، فمشيت
في الشارع
حتى بلغت الجسر فوجدته خالياً فتوسطته، فإذا بفارس من الجند الذين
كانوا يتناوبون في داري أيام وزارتي قد قرب مني وعرفني فقال: طلبة أمير
المؤمنين والله وعدل إليّ ليقبض عليَ، فمن حلاوة النفس دفعته ودابته،
فوقع في بعض سفن البحر، وأسرع الناس لتخليصه وظنوا أنه قد زلق لنفسه
فزدت أنا المشي من غير عدو لئلا ينكر حالي، إلى أن عبرت الجسر، ودخلت
درب سليمان، فوجدت امرأة على باب دار مفتوح، فقلت لها: يا امرأة، أنا
خائف من القتل فأجيريني واحفظي دمي. قالت: أدخل فأومأت إلى غرفة
فصعدتها. فلما كان بعد ساعة إذا بالباب قد دق، فدخل زوجها فتأملته،
فإذا هو صاحبي على الجسر، وهو مشدود الرأس يتأوه من شجة لحقته، فسألته
المرأة عن خبره، فأخبرها بالقصة وقال لها: قد زمنت دابتي، وقد نفذت بها
تباع للحم، وقد فاتني الفتى وجعل يشتمني وهو لا يعلم أني في الدار،
فأقبلت المرأة ترقق به حتى يهدأ قالت: أحمد الله الذي حفظك ولم تكن
سبباً لسفك دمه. فلما اختلط الظلام صعدت المرأة إليً فقالت: أظنك صاحب
القصة مع هذا الرجل فقلت: نعم فقالت: قد سمعت ما عنده فاتق الله عز وجل
في نفسك. واخرج فدعوت لها وخرجت، فوجدت الحراس قد أغلقوا الدروب.
فتحيرت، ثم رأيت رجلاً يفتح باباً بمفتاح رومي. فقلت: هذا غريب أليس
عنده أحد، فدنوت منه، فقلت: استرني سترك اللهّ قال: ادخل فأقمت عنده
ليلتي، فخرج من الغد وعاد ومعه حمالان: على رأس أحدهما حصير، ومخدة،
وجرار، وكيزان، وغضائر جدد، وقدر جديحة، وعلى الآخر: خبز، وفاكهة،
ولحم، وثلج. فدخل فترك ذاك عندي وأغلق الباب، فنزلت وعدلته وقلت له: لم
تكلفت هذا؟ فقال: أنا رجل مزين، وأخاف أن تستقذرني، وقد أفردت هذا لك،
فاطبخ وأطعمني في غضارة أجيء بها من عندي، فأقمت عنده ثلاث ليال، وقلت
له في الرابعة: الضيافة ثلاث، وقد أحسنت، وأريد الخروج فقال: لا تفعل،
فإني وحيد ولست ممن يطرق بيته أحد ولا تحذر أن يفشو لك خبر من عندي
أبداً، فأقم إلى أن يفرج الله عنك. فأبيت، وخرجت فمشيت حتى بلغت باب
التين أريد عجوزاً من موالينا، فدققت عليها الباب، فخرجت فلما رأتني
بكت وحمدت الله تعالى على سلامتي، وأدخلتني الدار ثم بكرت وسعت بي، فما
شعرت إلا بإسحاق بخيله ورجله قد أحاط بالدار، فأخرجني حتى وقفني بين
يدي المأمون حافياً حاسراً، فلما بصرني المأمون سجد طويلاً ثم رفع
رأسه. فقال: يا فضل، تحري لِمَ سجدت؟ فقلت: شكراً للّه إذ أظفرك الله
بعدو دولتك والمغري بينك وبين أخيك. فقال: ما أردت هذا، ولكني سجدت
شكراً لله تعالى على أن أظفرني بك وألهمني من العفو عنك، حدثني بخبرك.
فشرحته من أوله إلى آخره فأمر بإحضار المرأة مولاتنا، وكانت في الدار
تنتظر الجائزة فقال لها: ما حملك على ما فعلت مع إنعامه وإنعام أهله
عليك؟ قالت: رغبت في المال قال: فهل لك من ولد أو زوج أو أخ؟ قالت: لا
فأمر بضربها مائتي سوط، وأن تخلد الحبس، ثم قال لإسحاق: أحضر الساعة
الجندي وامرأته والمزين فأحضروا، فسأل الجندي عن السبب الذي حمله على
فعله، فقال: الرغبة في المال. فقال: أنت أولى أن تكون حجاماً ليس يحسن
أن يكون مثلك من أوليائنا وأمر بأن يسلموه إلى المربين في الدار ويوكل
به من يسومه تعلم الحجامة، وأمر باستخدام زوجته في قهرمة دور حرمه.
وقال: هذه امرأة عاقلة دينة، وأمر بتسليم دار الجندي وقماشه إلى
المزين، وأن يجعل رزقه له، ويجعل جندياً مكانه. وأطلقني إلى داري فرجعت
آمناً مطمئناً وفي رواية أخرى: أن المأمون أمر لتلك المرأة التي أمرته
أن يخرج مخافة شر زوجها بثلاثين ألف درهم، فقالت: لست آخذ على فعل
فعلته له جزاء إلا منه. وردت المال. وتوفي الفضل في ذي القعدة من هذه
السنة.
كلثوم بن عمرو بن أيوب، العتابي. كان خطيباً شاعراً بليغاً، وكان
منقطعاً إلى البرامكة، فوصفوه للرشيد ووصلوه به، فبلغ عنده أكل؟ مبلغ،
ومدح الرشيد وغيره من الخلقاء، ثم كان يتجنب غشيان السلاطين، ويلبس
الصوف زهداً. ومن أشعاره في الزهد:
ألا قد نكس الدهر ... فأضحى حلوه مرا
وقد جربت من فيه ... فلم أحمدهمُ طرا
فألزم نفسك اليأس ... من الناس تعش حرا
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أبو علي محمد بن
الحسين الجازدي قال: حدَثنا المعافى بن زكريا، حدَّثنا عبد الله بن
منصور الحارثي، حدَّثنا أحمد بن أبي طاهر قال: حدَّثني أبو دعامة
الشاعر قال: كتب طوق بن مالك إلى العتابي يستزيره ويدعوه إلى أن يصل
القرابة بينه وبينه، فردّ عليه: إن قريبك مَنْ قرب منك خيره وإن عمك من
عمك نفعه، وإن عشيرتك من أحسن عشرتك، وإن أحب الناس إليك أجداهم
بالمنفعة عليك، ولذلك أقول:
ولقد بلوت الناس ثم سبرتهم ... وخبرت من وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرّب قاطعاً ... وإذا المودة أكبر الأنساب.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا العتيقي،
أخبرنا محمد بن العباس، أخبرنا علان بن أحمد، حدثنا قاسم الأنباري،
قال: قال أحمد بن يحيى: قيل للعتابي: إنك تلقى العامة ببشر وتقريب،
فقال: رفع ضغينة بأيسر مؤونة، واكتساب إخوان بأهون مبذول.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الحسن بن
الحسين النعالي قال: أخبرنا أبو الفرج الأصبهاني قال: أخبرني علي بن
سليمان، عن محمد بن يزيد قال: كتب المأمون في إشخاص كلثوم بن عمرو
العتابي فلما دخل عليه قال: يا كلثوم، بلغتني وفاتك فساءتني، ثم بلغتني
وفادتك فسرتني فقال: يا أمير المؤمنين، لو قسمت هاتان الكلمتان على أهل
الأرض لوسعتاهم فضلاً وإنعاماً، وقد خصصتني منهما بما لا يتسع له
أمنية، ولا ينبسط لسواه أمل، لأنه لا دين إلا بك ولا دنيا إلا معك.
قال: سلني ما شئت، قال: يدك بالعطاء أطلق من لساني بالسؤال فوصله صلات
سنية، بلغ به من التقديم والإكرام أعلى محل.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الحافظ، أخبرنا المبارك بن عبد الجبار،
أخبرنا أبو محمد الجوهري، أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني، أخبرنا
أبو بكر الأنباري، حدَثنا الحسن بن علي العنزي، حدَّثنا النضر العجلي
قال: كتب إليَ عبد الجبار بن كثير يقول: حدَثنا حسن الصوفي قال: قال لي
العتابي كلثوم بن عمرو: قدمت مرة على أبي عمار بوقر كتباً، فقال: ما
عليه؟ قلت: كتب. قال: والله ما ظننته إلا مالاً فعدلت إلى يعقوب بن
صالح، فدخلت عليه فأنشدته:
حسن ظني إليك أصلحك الله ... دعاني فلا عدمت الصلاحا
ودعاني إليك قول رسول الله ... ان قال مفصحاً إفصاحا
إن أردتم حوائجاً من أناس ... فتنقوا لها الوجوه الصباحا
فلعمري لقد تنقيت وجهاً ... ما به خاب مَنْ أراد النجاحا
فقال: ما حاجتك يا كلثوم؟ قلت: بدرتان، فقال: أعطوه بحرتين، فانصرفت
بهما إلى أبي وقلت: هذا بالكتب التي أنكرت.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا أحمد
بن علي بن حسين، المحتسب، أخبرنا المعافى بن زكريا، أخبرنا أبو بكر بن
دريد قال: قال مالك بن طوق للعتابي: رأيتك كلمت فلاناً فأقللت كلامك؟
قال: نعم، كان معي حيرة الداخل، وفكرة صاِحِب الحاجة، وذل المسألة،
وخوف الرد مع شدة الطمع.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا الحسن بن
الحسين النعالي، أخبرنا أبو الفرج الأصفهاني قال: ذكر أحمد بن أبي طاهر
بن عبد الله بن أبي سعيد: أن عبد الله بن سعيد بن زرارة حدًثه عن محمد
بن إبراهيم السيادي قال: لما قدم العتابي مدينة السلام على المأمون أذن
له، فدخل عليه وعنده إسحاق الموصلي، وكان العتابي شيخاً جليلاً، فسلًم
فردّ عليه فأدناه فقبَّل يده. ثم أمره بالجلوس، فجلس وأقبل عليه فسأله
عن حاله وهو يجاوبه بلسان طلق فاستظرف المأمون ذلك منه، وأقبل عليه
يداعبه ويمزح، فظن الشيخ أنه استخف به، فقال: يا أمير المؤمنين،
الإيناس قبل الإبشاش فاشتبه على المأمون قوله، فنظر إلى إسحاق
مستفهماً، فأومأ إليه بعينه، وغمزه حتى فهم، ثم قال: يا غلام، ألف
دينار. فأتي بذلك فوضعه بين يدي العتابي، وأخذوا في الحديث، ثم غمز
المأمون إسحاق عليه، فجعل العتابي لا يأخذ في شيء إلا عارضه فيه إسحاق،
فبقي العتابي متعجباً، ثم قال: يا أمير المؤمنين، أتأذن في مسألة هذا
الشيخ عن اسمه، قال: نعم سله. فقال لإسحاق: يا شيخ، مَنْ أنت، وما
اسمك؟ فقال: أنا من الناس، واسمي كل بصل فتبسم العتابي، ثم قال: أما
النسب فمعروف، وأما الاسم فمنكر فقال له إسحاق: إنما قل إنصافك، أتنكر
أن يكون اسمي كل بصل، واسمك كل ثوم، وما كلثوم في الأسماء أو ليس البصل
أطيب من الثوم؟ فقال له العتابي: لله درك، ما أرجحك أيأذن ليِ أمير
المؤمنين أن أصله بما وصلني به. فقال له المأمون: ذلك موفر عليك، ونأمر
له بمثله، فقال له إسحاق أما إذ أقررت بهذه فتوهمني تجدني. فقال له: ما
أظنك إلا إسحاق الموصلي الذي يتناهى إلينا خبره؟ قال: أنا حيث ظننت،
وأقبل عليه بالتحية والسلام، فقال له المأمون وقد طال الحديث بينهما -
أما إذا اتفقتما على المودة فانصرفا. فانصرف العتابي إلى منزل إسحاق
فأقام عنده.
وقد روينا أن العتابي دخل على عبد الله بن طاهر فأنشده:
حسن ظني وحسن ما عودني الله ... سواء منك الغداة أتى بي
أي شيء يكون أحسن من ... حسن يقين حدا إليك ركابي
فأمر له بصلة، ثم دخل عليه من الغد فأنشده:
ودك يكفيني في حاجتي ... ورويتي كافية عن سؤالي
وكيف أخشى الفقر ما عشت لي ... وإنما كفاك رأس مالي
فأمر له بجائزة، ثم دخل عليه في اليوم الثالث فأنشده:
بهجات الشباب يخلقها الدهر ... وثوب الثناء غض جديد
فاكسني ما يبيد أيدك الله ... فإني أكسوك ما لا يبيد
فأجازه وخلع عليه، وكان قد سعي بالعتابي إلى الرشيد وطلبه، (2) فأخفاه
جعفر بن يحيى وجعل يصلح قلب الرشيد عليه حتى آمنه فقال:
ما زلت في غمرات الموت منطرحاً ... قد ضاق عني فسيح الأرض من حيلي
فلم تزل دائباً تسعى بلطفك لي ... حتى اختلست حياتي من يد الأجل
القاسم بن الرشيد. سمَاه الرشيد المؤتمن، وخطب له بالخلافة بعد الأمين
والمأمون، وعقد فيما عقد له أن الأمر إذا صار إلى المأمون كان أمر
المؤمنين مفوضاً إليه، إن شاء أقره وإن شاء عزله واستبدل به من أراد من
أخوته وولده، فلما صار الأمر إلى المأمون خلعه المأمون في سنة ثمان
وتسعين، وكتب بخلعه إلى الآفاق وترك الدعاء له على المنابر.
وتوفي المؤتمن ببغداد فيِ صفر، هذه السنة، وله خمس وثلاثون سنة، وحضره
المأمون وصلى عليه.
محمد بن إسماعيل بن يوسف، أبو إسماعيل السلمي الترمذي سمع محمد بن عبد
الله الأنصاري، وأبا نعيم وقبيصة، وغيرهم، وكان ثقة فهماً متقناً
مشهوراً بمذاهب السًنة، سكن بغداد وحدَّث بها، فروى عنه: أبو بكر بن
أبي الدنيا، وابن صاعد، والمحاملي، وروى عنه: أبو عيسى الترمذي، وأبو
عبد الرحمن النسائي في كتابيهما. وقال أبو بكر الخلال: هو رجل ثقة كثير
العلم.
قال ابن المنادي: توفي بمدينتنا لأيام مضت من رمضان سنة ثمان ومائتين.
مسلم بن الوليد، أبو الوليد الأنصاري مولى أسعد بن زرارة الخزرجي.
شاعر قدم على الرشيد ومدحه، فسمَّاه صريع الغواني، لقوله:
هل العيش إلا أن تروح مع الصبا ... وتغدو صريع الكأس والأعين النجل
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، أخبرنا أبو بكر
التنوخي، أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني، حدثنا أبو بكر بن
الأنباري، حدثنا أبو الحسن البراء عن شيخ له قال: قال مسلم بن الوليد،
ثلاثة أبيات تناهى فيها وزاد على كل الشعراء: أمدح بيت، وأرثى بيت،
وأهجى بيت. وأما المدح: فقوله:
تجود بالنفس إذ ضنَ البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وأما الهجاء: فقوله:
قبحت مناظره فحين خبرته ... حسنت مناظره بقبح المخبر
وأما الرثاء، فقوله:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ... فطيب تراب القبر دل على القبر
وبلغنا أن أعرابياً دخل على ثعلب فقال له: أنت الذي يزعم الناس، أنك
أعلم الناس بالأدب. قال: كذا يزعمون قال: أنشدني أرق بيت قالته العرب
وأسلمه. فقال: قول جرير
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلتنا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللبّ حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنساناً
فقال: هذا شعر رث، قد لاكه السفهاء بألسنتها، هات غيره. فقال ثعلب:
أفدنا من عندك قال: قول مسلم بن الوليد صريع الغواني:
تبارز أبطال الوغى فتصدّهم ... وتقتلنا في السلم لحظ الكواعب
وليست سهام الحرب تفني نفوسنا ... ولكن سهام فوقت في الحواجب
فقال ثعلب اكتبوها على المحاجر ولو بالخناجر.
معاذ بن المثنى بن معاذ، أبو المثنى العنبري سكن بغداد، وحدث بها عن
مسدد، والقعنبي، روى عنه: صاعد بن مخلد، وكان ثقة.
توفي في ربيع الأول من هذه السنة، ودفن في مقابر باب الكوفة إلى جنب
الكديمي.
أبو معاوية الأسود، واسمه: اليمان. أخبرنا أبو بكر العامري قال: أخبرنا
ابن أبي صادق قال أخبرنا ابن باكويه قال: حدَثنا عبد العزيز بن الفضل،
حدًثنا محمد بن أحمد المروروذي، حدَّثنا عبد الله بن سليمان، حدًثنا
نصير بن الفرج قال: كان معاوية قد ذهب بصره، وكان إذا أراد أن يقرأ فتش
المصحف وفتحه فيرد الله عليه بصره، فإذا أطبق المصحف ذهب بصره.
أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا علي بن محمد العلاف، أخبرنا أبو الحسن
الحمامي، أخبرنا إسماعيل بن علي الخطابي، حدَثنا أبو علي الحسين بن
الفهم قال: سمعت يحيى بن معين يقول: رأيت أبا معاوية الأسود وهو يلتقط
الخرق من المزابل فيلفقها ويغسلها، فقيل له: يا أبا معاوية، إنك تكسى.
فقال: ما ضرهم ما أصابهم في الدنيا جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة.
يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أبو يوسف
الزهري سكن بغداد، وحدّث عن أبيه عن شعبة، روى عنه: أحمد، ويحيى، وعلي،
وأبو خيثمة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا الأزهري،
حدثنا محمد بن العباس، حدَّثنا أحمد بن معروف، حدًثنا الحسين بن فهم،
حدًثنا محمد بن سعد. قال: يعقوب بن إبراهيم بن سعد كان ثقة مأموناً،
تقدم على أخيه في الفضل والورع والحديث، ثم لم يزل ببغداد ثم خرج إلى
الحسن بن سهل - وهو بفم الصلح - فلم يزل معه حتى توفي هناك في شوال سنة
ثمان ومائتين، وكان أصغر من أخيه سعد بأربع سنين.
يونس بن محمد بن مسلم، أبو مسلم المؤدب. سمع الحمادين والليث. روى عنه:
أحمد، وعلي، وأبو خيثمة، وكان ثقة صدوقاً. توفي في صفر هذه السنة.
ثم دخلت
سنة تسع ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن عبد الله بن طاهر حاصر نصر بن شبث، وضيَّق عليه
حتى طلب الأمان، فكتب عبد اللهّ بن طاهر إلى المأمون يخبره فكتب له
كتاب أمان.
وفيها: ولى المأمون صدقة بن علي المعروف بزريق أرمينية، وأذربيجان،
ومحاربة بابك.
وفيها:
بويع لإبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي
بن عبد الله بن عباس، وهو يعرف بابن عائشة، وهي عائشة بنت سليمان بن
علي جدته أم أبيه، فولد عبد الوهاب ينتسبون إليها، وأختها لأبيها وأمها
زينب بنتَ سليمان بن علي، وكانت تحت محمد بن إبراهيم الإمام، فولده
منها ينتسبون إليها، فبويع لإبراهيم ابن عائشة سراً فيِ هذه السنة،
بايع له جماعة من قواد المأمون منهم: محمد بن إبراهيم الأفريقي، ومالك
بن شاهك، فسعي بهم وبه إلى المأمون. فحبسهم ثم أخربهم في السنة التي
تليها، فضرب أعناقهم وأمر بصلبهم، وكان ابن عائشة أول عباسي صُلب في
الإسلام، وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد بن علي، وكان
إذ ذاك والياً على مكة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن اِلِرشيد وقيل: اسمه صالح، ويكنى: أبا عيسى كان من أحسن اَلناس
وجهاً، وكان إذا عزم على الركوب جلس الناس لرؤيته أكثر مما يجلسون
لرؤية الخلفاء. وقال له الرشيد يوماً وهو صبي: ليت حسنك لعبد الله -
يعني المأمون - فقال له: على أن حظه منك لي. فعجب الرشيد من جوابه على
صباه. وكان المأمون قد أعده للخلافة بعده، وكان شديد الحب له، حتى كان
يقول: إنه ليسهل علي الموت وفقد الملك لمحبتي أن يلي أبو عيسى الأمر
بعدي لشدة محبتي إياه. فمات أبو عيسى في خلافة المأمون هذه السنة، وصلى
عليه المأمون ونزل قبره، وامتنع من الطعام أياماً.
قال أحمد بن أبي داود: دخلت على المأمون وقد توفي أخوه أبو عيسى - وكان
محباً له - وهو يبكي، فقعدت إلى جانب عمر بن مسعدة، وتمثلت قول الشاعر:
نقص من الدنيا ولذاتها ... نقص المنايا من بني هاشم
فلم يزل يبكي ثم مسح عينيه وتمثل:
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغص ... فحسبك مني ما تجن الجوانح
كأنْ لم يمت حي سواك ولم تقم ... على أحد إلا عليك النوائح
ثم التفت إلي فقال: هيه. قال أحمد: فتمثلت بقول عبدة بن الطيب:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من أوليته منك نعمة ... إذا زار عن سخط بلادك سلما
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
فبكى ساعة ثم التفت إلى عمرو بن مسعدة. فقال: هيه يا عمر. فقال:
بكّوا حذيفة لن تبكُوا مثله ... حتى تعود قبائل لم تخلق
قال: فإذا عريب وجوار معها، فسمعن ما يدور بيننا. فقالت: اجعلوا لي
معكم في القول نصيباً فقال المأمون: قولي: فقالت:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
كأن بني العباس يوم وفاته ... نجوم سماء خرمن بينها البدر
فبكى المأمون وبكينا، ثم قال المأمون: نوحي به. فناحت، وردَ عليها
الجواري، فبكى المأمون حتى كادت نفسه تذهب.
وكان سبب موته: أنه خرج إلى الصيد فوقع عن دابته فلم يسلم دماغه، فكان
يصرع في اليوم مرات، فكان سبب موته.
وفي رواية: أنه رأى هلال رمضان فقال:
دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ... ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر
فلو كان يعديني الإمام بقدره ... على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر
فأصابه عقيب هذا القول صرع، فكان يصرع في اليوم مرات إلى أن مات، ولم
يبلغ شهراً مثله.
بشر بن منصور السُلَيْمِي. روى عن الثوري. أخبرنا محمد بن أبي القاسم،
أخبرنا حمد بن أحمد الحداد، أخبرنا أحمد بن عبد الله الحافظ، أخبرنا
عبد الله بن محمد بن جعفر، أخبرنا أحمد بن الحسين، حدَثنا أحمد بن
إبراهيم الدورقي قال: حدَثني العباس بن الوليد قال: أتينا بشر بن منصور
بعد العصر فخرج إلينا وَكَأنه متغير، فقلت له: يا أبا محمد لعلنا
شغلناك عن شيء، فرد رداً ضعيفاً، ثم قال: ما أكتمكم - أو كلمة نحوها -
كنت أقرأ في المصحف فشغلتموني. ثم قال: ما أكاد ألقى أحداً فأرتج عليه
شيئاً.
الحسن بن موسى، أبو علي الأشيب.
سمع شعبة،
وحماد بن سلمة، روى عنه: أحمد، وأبو خيثمة. وكان أصله من خًراسان فأقام
ببغداد وحدًث بها، وولي القضاء بالموصل وحمص للرشيد، ثم قدم بغداد في
خلافة المأمون فولاه قضاء طبرستان، فتوجه إليها.
فتوفي في الري في هذه السنة.
قال يحيى بن معين: كان ثقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرنا
القاضي أبو العلاء الواسطي أخبرنا محمد بن العباس بن أحمد بن الفرات،
حدثنا علي بن محمد بن سعيد الموصلي، حدثنا أبو أيوب سليمان بن أيوب
الخياط، حدَّثنا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي قال: كان
بالموصل بيعة للنصارى قد خربت، فاجتمع النصارى إلى الحسن بن موسى
الأشيب وجمعوا له مائة ألف درهم على أن يحكم بها حتى تبنى، فقال:
ادفعوا المال إلى بعض الشهود. فلما حضروا الجامع قال للشهود: اشهدوا
علي بأني حكمت بأن لا تبنى هذه البيعة. فانصرف النصارى، ورد عليهم
مالهم، ولم يقبل منهم درهماً واحداً والبيعة خراب.
قال الخطيب: إنما فعل ذلك لثبوت البينة عنده أن البيعة محدثة بنيت في
الإسلام.
سعيد بن وهب، أبو عثمان مولى بني أسامة بن لؤي.
كان شاعراً من أهل البصرة، فأكثر القول في الغزل والخمر والمجون، وتصرف
مع البرامكة، وتقدم عندهم، ودخل على الفضل بن يحيى يوماً وقد جلس
للشعراء فجعلوا ينشدونه ويأمر لهم بالجوائز حتى لم يبق منهم أحد ثم
التفت إلى سعيد بن وهب كالمستنطق له. فقال له: أيها الوزير، إني ما كنت
استعددت لهذه الحال، ولكن قد حضرني بيتان أرجو أن ينوبا عن قصيدة فقال:
هاتهما، فرُبّ قليل أبلغ من كثير. فقال:
مدح الفضل نفسه بالفعال ... فعلا عن مديحنا بالمقال
أمروني بمدحه قلت كلا ... كبر الفضل عن مديح الرجال
فطرب الفضل وقال له: أحسنت والله وأجدت، ولئن قل القول وندر لقد اتسع
المعنى وكثر، ثم أمر له بمثل ما أعطى كل من أنشده يومئذ، وقال: لا خير
فيما يجيء بعد بيتيك وقام من المجلس، وخرج الناس لا يتناشدون إلا
البيتين، وكان لسعيد بن وهب عشرة بنين، وعشر بنات.
وحكي عنه من التحرم واللعب أشياء، ثم أنه تاب وتنسك وترك قول الشعر،
خرق جميع ما عنده منه وأحرقه، وصار كثير الصلاة وحج على قدميه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو
سعيد محمد بن موسى الصيرفي، حدثنا محمد بن عبد الله بن أحمد الصفار،
حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا قال: حدَّثني الحسين بن عبد
الرحمن قال: حج سعيد بن وهب ماشياً فبلغ منه وجهد، فقال:
قدَميَ اعتورا رمل الكثيب ... واطرقا الآجر من ماء القليب
رب يوم رحتمَا فيه على ... زهرة الدنيا وفي واد خصيب
وسماع حسن من حسنصخب المزهر كالظبي الرَّبيب فاحسبا ذاك بهذا وأجراوخذا
من كل فن بنصيب
إنما أمشي لأني مذنب ... فلعل الله يعفو عن ذنوبي
روينا أن أبا العتاهية كان صديقاً لسعيد بن وهب، فلما مات سعيد جاء رجل
فسار أبا العتاهية بشيء. فقال له: ما قال لك؟ قال لي: مات سعيد بن وهب،
رحم الله سعيد بن وهب:
يا أبا عثمان أبكيت عيني ... يا أبا عثمان أوجعت قلبي
قال: فعجب الناس من طبع أبي العتاهية حيث أراد أن يتكلم فجاء بالكلام
شعراً.
سعيد بن مسلم بن قتيبة بن مسلم بن عمرو بن الحصين، أبو محمد الباهلي
بصري
الأصل، سمع عبد الله بن عون وطبقته. وقد كان سكن خراسان، وولاه السلطان
بعض الأعمال بمرو. قدم بغداد وحدّث بها، روى عنه: ابن الأعرابي، وكان
عالماً بالحديث العربية، إلا أنه كان لا يبذل نفسه للناس أخبرنا عبد
الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني الأزهري
قال: أخبرنا علي بن عمر الحربي قال: أخبرنا حاتم بن الحسن الشاشي،
حدَّثنا علي بن خشرم قال: حدثني سعيد بن مسلم بن قتيبة قال: خرجت حاجاً
ومعي قباب وكنائس، فدخلنا البادية فتقدمت القباب والكنائس على حمير لي،
فمررت بأعرابي محتب على باب خيمة له، وإذا هو يرمق القباب والكنائس،
فسلمت عليه فقال: لمن هذه القباب والكنائس؟ قال: قلت: لرجل من باهلة
قال: تالله ما أظن الله يعطي الباهلي كل هذا، قال: فلما رأيت إزراءه
للباهلية دنوت منه فقلت: يا أعرابي، أتحب أن تكون لك هذه القباب
والكنائس وأنت رجل من باهلة؟ فقال: لا ها الله. فقلت: أتحب أن تكون
أمير المؤمنين وأنت رجل من باهلة؟ قال: لا ها لله. قال: قلت: أتحب أن
تكون من أهل الجنة وأنت رجل من باهلة؟ قال: بشرط، قلت: وما ذلك الشرط؟
قال: أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلي. قال: ومعي صرة دراهم، فرميت بها
إليه فأخذها وقال: لقد وافقت مني حاجة فلما ضمها إليه قلت له: أنا رجل
من باهلة، فرمى بها إليَ وقال: لا حاجة لي فيها. فقلت: خذها إليك يا
مسكين فقد ذكرت من نفسك الحاجة. فقال: لا أحب أن ألقى الله ولباهلي
عندي يد. فقدمت فدخلت على المأمون، فحدثته حديث الأعرابي، فضحك حتى
استلقى على قفاه وقال لي: يا أبا محمد، ما أصبرك. وأجازني بمائة ألف
درهم.
عبد الله بن أيوب، أبو محمد، التيمي. من تيم اللات بن ثعلبة أحد شعراء
الدولة العباسية، مدح الأمين، فأمر له بمائتي ألف درهم، ومدح المأمون.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرني
علي بن أيوب التيمي، أخبرنا محمد بن عمران الكاتب قال: أخبرني الصولي
قال: حدَثني عبد الله بن الحسين قال: حدثني البختري، عن إبراهيم بن
الحسن بن سهل قال: كان المأمون يتعصب للأوائل من الشعراء ويقول: إنقضى
الشعر مع ملك بني أمية، وكان عمي الفضل بن سهل يقول له: الأوائل حجة
وأصول، وهؤلاء أحسن تفريعاً، إلى أن أنشده يوماً عبد الله بن أيوب
التيمي شعراً مدحه فيه فلما بلغ قوله:
ترى ظاهر المأمون أحسن ظاهر ... وأحسن منه ما أجنَ وأضمرا
يناجي له نفساً تريعِ بهمة ... إلى كل معروف وقلبا مطهرا
ويخشع إكباراً له كل ناظرٍ ... ويأبى لخوف الله أن يتكبرا
طويل نجاد السيف مضطر الحشا ... طواه طراد الخيل حتى تحسرا
رِفلُّ إذا ما السلم رفل ذيله ... وإن شمرت يوماً له الحرب شمرا
فقال للفضل: ما بعد هذا مدح.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو
الطيب الطبري قال: أخبرنا المعافى بن زكريا قال: حدًثنا عبد الله بن
منصور الحارثي قال: حدَثنا أبو إسحاق الطلحي قال: حدَثني عبد الله بن
القاسم قال: عشق التيمي جارية عند بعض النخاسين فشكا وجده بها إلى أبي
عيسى بن الرشيد فقال أبو عيسى للمأمون: يا أمير المؤمنين إن التيمي يجد
بجارية لبعض النخاسين وقد كتب إلي بيتين يسألني فيهما، فقال له: ما كتب
إليك فأنشده:
يا أبا عيسى إليك المشتكا ... وأخو الصبر إذا عيل بكى
ليس لي صبر على هجرانها ... وأعاف المشرب المشتركا
فأمر له بثلاثين ألف درهم فاشتراها.
عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط بن قيس، أبو محمد، وقيل: أبو عدي البصري
حدَث عن يونس بن يزيد، ومالك بن أنس، وشعبة. روى عنه: أحمد بن حنبل،
وابن راهويه، وعباس الدوري. وكان ثقة صالحاً ثبتاً.
توفي في هذه السنة وقيل: في سنة سبع. وقيل: سنة ثمان.
معمر بن المثنى، أبو عبيدة التيمي البصري النحوي العلامة ولد سنة عشر
ومائة في الليلة التي مات فيها الحسن البصري. وأسند الحديث عن هشام بن
عروة وغيره. وروى عنه: أبو عبيدة، وأبو عثمان المازني، وأبو حاتم،
وغيرهم. وكان ثقة أثنى عليه ابن المديني وصحح روايته وقال: ما يحكي عن
العرب إلا الشيء الصحيح.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني علي
بن أيوب قال: أخبرنا المرزباني قال: أخبرني الصولي قال: حدَّثنا محمد
بن الفضل بن الأسود، حدثنا علي بن محمد النوفلي قال: سمعت أبا عبيده
معمر بن المثنى يقول: أرسل إلي الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج
إليه فقدمت عليه فدخلت وهو في مجلس له طويل عريض فيه بساط واحد قد
ملأه، وفي صدره فرش عالية، لا يرتقى إليها إلا على كرسي - وهو جالس
عليها - فسلمت بالوزارة، فرد وضحك إلي واستدناني، حتى جلست وسألني
وبسطني وألطفني، وقال: أنشدني: فأنشدته من عيون أشعار أحفظها جاهلية
فقال: قد عرفت أكثر هذه، وأريد من صلح الشعر. فأنشدته، فطرب وضحك، وزاد
نشاطه، ثم دخل رجل في زي الكتاب له هيئة فأجلسه إلى جانبي، وقال له:
أتعرف هذا؟ قال: لا. قال: هذا أبو عبيدة علامة أهل البصرة، أقدمناه
لنستفيد من علمه، فدعا له الرجل وقرظه لفعله هذا. وقال لي: إني كنت
إليك لمشتاق، وقد كنت سئلت عن مسألة أفتأذن لي أن أعرفك إياها؟ قلت:
هات. قال: قوله تعالى: " طلعها كأنه رؤوس الشياطين " وإنما يقع الوعد
والإيعاد بما قد عرف مثله، وهذا لم يعرف. فقال: إنما كلم الله تعالى
العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قط، ولكنه لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به،
فاستحسن الفضل ذلك. واستحسنه السائل أيضاً واعتقدت من ذلك اليوم أن أضع
كتاباً في القرآن لمثل هذا وأشباهه، فلما رجعت عملت كتابي الذي سميته
المجاز.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ قال: أخبرني
علي بن أيوب قال: أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال: حدَثني عبد الله
بن جعفر، أخبرنا المبرد - أحسبه عن الثوري - قال: بلغ أبا عبيدة أن
الأصمعي يعيب عليه تأليفه كتاب المجاز في القرآن وأنه قال: يفسر كتاب
الله برأيه. قال: فسأل عن مجلس الأصمعي في أي يوم هو؟ فركب حماره في
ذلك اليوم ومر بحلقة الأصمعي فنزل عن حماره، وسلم عليه، وجلس عنده
وحادثه، ثم قال له: يا أبا سعيد، ما تقول في الخبز، أي شيء هو؟ قال: هو
هذا الذي نأكله ونخبزه، فقال له أبو عبيدة: قد فسرت كتاب الله برأيك،
فإن الله تعالى يقول: " أحمل فوق رأسي خبزاً " فقال الأصمعي: هذا شيء
بان لي فقلته، لم أفسره برأيي. فقال أبو عبيدة: والذي تعيب علينا كله
شيء، بان لنا فقلناه ولم نفسره برأينا. ثم قام فركب حماره وانصرف.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا حمزة بن
محمد بن طاهر الدقاق قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن الحسن بن الفضل بن
المأمون، أخبرنا أبو بكر بن الأنباري قال: حدَثني أبي، حدثنا الحسن بن
عليل العنزي قال: أخبرنا أبو عثمان المازني قال: سمعت أبا عبيدة يقول:
دخلت على الرشيد فقال لي: يا معمر، بلغني أن عندك كتاباً حسناً في صفة
الخيل أحب أن أسمعه منك، فقال الأصمعي: وما تصنع بالكتاب؟ تحضر فرساً
ونضع أيدينا على عضو عضو منه ونسميه ونذكر ما فيه، فقال الرشيد: يا
غلام، فرس. فأحضر فرس، فقام الأصمعي فوضع يده على عضو عضو ويقول: هذا
كذا، قال فيه الشاعر كذا، حتى انقضى قوله. فقال لي الرشيد: ما تقول
فيما قال؟ قلت: قد أصاب في بعص، وأخطأ في بعض، فالذي أصاب فيه مني
تعلمه، والذي أخطأ فيه لا أدري من أين أتى به.
توفي أبو عبيدة بالبصرة في هذه السنة. وقيل: سنة ثمان. وقيل: سنة إحدى
عشرة. وقيل: سنة ثلاث عشرة. وبلغ ثلاثاً وتسعين سنة.
ميخائيل صاحب الروم مات في هذه السنة، كان ملكه تسع سنين، وملّكت الروم
ابنه تيوفيل.
ثم دخلت
سنة عشر ومائتين
فمن الحوادث فيها:
وصول نصر
بن شبث إلى بغداد، وكان المأمون قد أرسله في زمن محاربته بالطف فأذعن،
فاشترط أن لا يطأ بساطه، فقال المأمون: لا والله حتى يطأ بساطي وما
باله ينفر مني؟! فقيل: لأجل جرمه، فقال: أتراه أعظم جرماً عندي من
الفضل بن الربيع، ومن عيسى بن أبي خالد؟! أما الفضل فأخذ قوادي وأموالي
وجنودي وسلاحي وجميع ما أوصى لي أبي به، فذهب به إلى محمد وتركني بمرو
وحيد فريداً، وأفسد عليَّ أخي حتى كان من أمره ما كان، وأما عيسى فطرد
خليفتي من مدينتي، وذهب بخراجي، وخرًب دياري، وأقعد إبراهيم خليفة.
فقيل له: أما الفضل فصنيعتكم ومولاكم، وأما عيسى فمن أهل دولتكم وله
ولسلفه سابقة، وأما نصر فلا يد له يحتمل لأجلها، ولا لسلفه، فقال: لا
أقلع عنه حتى يطأ بساطي، فحضره عبد الله بن طاهر حتى طلب الأمان وأقدمه
على المأمون في يوم الثلاثاء لسبع خلون من صفر فأنزله مدينة المنصور
ووكل به مَنْ يحفظه.
وفيها: ظهر المأمون على جماعة كانوا يسعون في البيعة لإبراهيم بن
المهدي، منهم: إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام، الذي
يقال له: ابن عائشة. ومحمد بن إبراهيم الأفريقي، ومالك بن شاهين، وفرج
البغراوي، فأمر بإبراهيم بن عائشة، فأقيم في الحبس ثلاثة أيام في
الشمس، ثم ضُرب بالسياط وحُبس، وضَرب مالك بن شاهين وأصحابه وحبسهم،
فرفع عليهم أهل السجن أنهم يريدون أن ينقبوا السجن، فركب المأمون بنفسه
فقتلهم وصلبهم على الجسر.
قال أبو بكر الصولي: ركب المأمون ليلاً إلى المطبق فقتل إبراهيم بن
محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام المعروف بابن عائشة وصلبه، وابن
عائشة هذا أول هاشمي صُلب من ولد العباس، وزيد بن علي بن الحسين أول
هاشمي صلب من ولد، علي بن أبي طالب، وقتل مع ابن عائشة: محمد بن
إبراهيم وثلاثة نفر، وكانوا أرادوا الوثوب بالمأمون، ثم أنزل ابن عائشة
فكفن وصلى عليه، ودُفن في مقابر قريش، ودفن الأفريقي في مقابر
الخيزران، ووجد لابن عائشة صناديق فيها كتب القواد وغيرهم إليه، فجلس
في المسجد وأحضر الصناديق وقال للناس: أنا أعلم أن فيكم البريء الذي لا
اسم له في هذه الصناديق، ومنكم الغائب والمستزيد، وإن نظرت فيها، لم
أصف لكم ولم تصفوا إليً، فتوبوا إلى الله. ثم أمر بإحراق الصناديق.
وفي هذه السنة: أخذ إبراهيم بن المهدي ليلة الأحد على الجسر لثلاث عشرة
بقيت من ربيع الآخر، وهو متنقب مع امرأتين في زيّ امرأة، أخذه حارس
أسود ليلاً، فقال: مَنْ أنتَنَ؟ وأين تردن في هذا الوقت؟ فأعطاه
إبراهيم خاتم ياقوت له قدر عظيم ليخلّيهن ولا يسألهن فلما نظر إلى
الخاتم استراب بهن وقال: هذا خاتم رجل له شأن، فرفعهن إلى صاحب
المسلحة، فأمر بهن أن يُسفرن، فامتنع إِبراهيم فجبذه صاحب المسلحة فبدت
لحيته، فرفعه إلى صاحب الجسر فعرفه، فذهب به إلى باب المأمون، فاحتفظ
به في الدار، فلما كانت غداة الأحد أقعد في دار المأمون لينظر إليه بنو
هاشم والقواد والجند، وصيروا المقنعة التي كان متنقباً بها في عنقه،
والملحفة في صدره ليراه الناس، ويعلموا كيف أخذ.
فلما كان يوم الخميس حوّله المأمون إِلى منزل أحمد بن أبي خالد، فحبسه
عنده، ثم أخرجه المأمون حيث خرج إلى الحسن بن سهل بواسط، فذكر أن الحسن
كلمه فيه، فرضي عنه وخلى سبيله، وصيًره عند أحمد بن أبي خالد، وصير معه
يحيى بن معاذ وخالد بن يزيد بن مرثد، يحفظانه إلا أنه موسَّع عليه،
عنده أمّه وعياله، ويركب إلى دار المأمون، وهؤلاء معه يحفظونه.
ولما دخل على المأمون قال له: هيه يا إبراهيم. فقال: يا أمير المؤمنين،
ولمن الثأر محكّم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن تناوله الاغترار
بما مُد له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله
فوق كل ذي ذنب، كما جعل كل ذي ذنب دونك، فإن تعاقب فبحقَك، وإن تعفُ
فبفضلك فقال: بل أعفو. فكبر ثمّ خر ساجداً.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا محمد بن
عبد الواحد، حدَّثنا محمد بن العباس الخزاز، حدَثنا أحمد بن محمد بن
عيسى المكي، حدَثنا محمد بن القاسم بن خلاد قال: لمَّا طال على إبراهيم
الاختفاء وضجر، كتب إلى المأمون: ولي الثأر محكم في القصاص والعفو أقرب
للتقوى، ومن تناوله الاغترار بما مُد له من أسباب الرجاء أمكن عادية
الدهر على نفسه، وقد جعل الله أمير المؤمنين فوق كل ذي عفو، كما جعل كل
ذي ذنب دونه، فإن عفى فبفضله، وإن عاقب فبحقه، فوقع المأمون في قصته
أمانه، وقال: القدرة تذهب الحفيظة، وكفى بالندم إنابة، وعفو الله أوسع
من كل شيء. ولما دخل إبراهيم على المأمون قال:
إن أكن مذنباً فحظي أخ ... طأت فدع عنك كثرة التأنيب
قل كما قال يوسف لبني يع ... قوب لما أتوه: لا تثريب
فقال: لا تثريب.
وفي رواية: دخل عليه فأنشده:
ديني إليك عظيم ... وأنت أعظم منه
فخذ بحقك وإلا ... فاصفح بحلمك عنه
إن لم أكن في فعالي ... من الكرام فكنه
ثم قال:
أذنبت ذنباً عظيماً ... وأنت للعفو أهل
فإن عفوت فمنٌ ... وإن جزيت فعدل
فرق له المأمون.، وأقبل على أخيه أبي إسحاق وابنه العباس والقواد،
فقال: ما ترون في أمره. فقال بعضهم: نضرب عنقه، وقال بعضهم: نقصص لحمه
إلى أن يتلف، وقال آخر: نقطع أطرافه، فقال المأمون لأحمد بن أبي خالد:
ما تقول يا أحمد؟ قال: يا أمير المؤمنين إن قتلته وجدت مثلك قد قتل
مثله كثيراً، وإن عفوت عنه لم تجد مثلك عفا عن مثله، فأيما أحب إليك أن
تفعل فعلاً تجد لك فيه شريكاً أو تنفرد فيه بالفضل. فأطرق طويلاً ثم
رفع رأسه فقال: أعد ما قلت يا أحمد. فأعاده فقال: بل ننفرد بالفضل ولا
رأي لنا في الشركة فكشف إبراهيم القناع عن رأسه وكبر تكبيرة عالية
وقال: عفا والله أمير المؤمنين. فقال: لا بأس عليك يا عم، وأمر بحبسه
في دار أحمد بن أبي خالد، فلما كان بعد شهر أحضره وقال: اعتذر من ذنبك،
فقال: ذنبي أجل من أن أتفوه فيه بعذر، وعفو أمير المؤمنين أعظم من أن
أنطق معه بشكر ولكن أقول:
يا خير من حملت يمانية به ... بعد الرسول لآيس أو طامع
وأبر مَنْ عَبَدَ الإله على التقى ... عينَاً وأقوله بحق صادع
تفديك نفسي أن تضيق بصالح ... والعفو منك بفضل حلم واسع
ملئت قلوب الناس منك خافة ... وتظل تكلأهم بقلب خاشع
وعفوت عمن لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشمافع
ورحمت أطفالاً كأفراخ القطا ... وحنين والدة بقلب جازع
الله يعلم ما أقول وإنها ... جهد الأميَّة من حنيف راكع
ما إن عصيتك والغواة تقودني ... أسنانها إلا بنيّة طائع
لم أدر أن لمثل جرمي غافراً ... فوقفت أنظر أي حتف صارعي
كم من يد لك لم تَحدثني بها ... نفسي إذا لاكت إلىّ مطامعي
إن أنت جدت بها علي تكن لها ... أهلاً وإن تمنع فأعدل مانع
إن الذي قسم المكارم حازها ... في صلب آدم للإمام السابع
فقال المأمون: ما أقول إلا كما قال يوسف لأخوته " لا تثريب عليكم اليوم
يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " وقد عفوت عنك، فاستأنف الطاعة
متجرداً عن الظنة يصْف عيشك. وأمر بإطلاقه، ورد ضيعته إليه فقال:
يشكره:
رددت مالي ولم تبخل علي به ... وقبل ردك مالي قد حقنت دمي
وأبت عنك وقد خولتني نعماً ... هما الحياتان من موت ومن عدم
فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمال حتى أسل النعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عارية رجعت ... إليك لو لم تعرها كنت لم تلم
وقام علمك بي واحتج عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متهم
فقال
المأمون: إن من الكلام كلاماً كالدرّ، وهذا منه، وأمر له بخلعة، وقال:
إن أبا إسحاق وأبا العباس أشارا علي بقتلك. فقال إبراهيم: ما قلت لهما
يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت إن قرابته قريبة ورحمه ماسة، وقد ابتدأناه
بأمر ينبغي أن نستنه، فإن نكث فالله مغير ما به، فقال إبراهيم: أما أن
يكونا نصحاك فقد لعمر الله فعلا، ولكن أبيت إلا ما أنت أهله، فدفعت ما
خفت بما رجوت فقال المأمون: مات حقدي بحياة عدوك وقد عفوت عنك، وأعظم
من عفوي أنني لم أجرعك مرارة الشافعين.
أنبأنا أبو بكر بن عبد الباقي قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن،
عن أبيه قال: أخبرني أبو الفرج الأصفهاني، حدَّثنا علي بن سليمان
الأخفش حدثني محمد بن يزيد المبرد، حدثنا الفضل بن مروان قال. لما دخل
إبراهيم بن المهدي على المأمون كلمه بكلام كان سعيد بن العاص كلم به
معاوية بن أبي سفيان في سخطة سخطها عليه، فاستعطفه به، وكان المأمون
يحفظ الكلام، فقال المأمون هيهات يا إبراهيم، هذا كلام سبقك به فحل بني
العاص وقارحهم سعيد بن العاص وخاطب به معاوية، فقال له إبراهيم: يا
أمير المؤمنين، وأنت أيضاً إن عفوت فقد سبقك فحل بني حرب وقارحهم إلى
العفو، فلا يكن حالي عندك في ذاك أبعد من حال سعيد من معاوية، فأنت
أشرف منه وأنا أشرف من سعيد، وأقرب إليك من سعيد إلى معاوية، وإن أعظم
الهجنة أن يسبق أمية هاشماً إلى مكرمة قال: صدقت يا عم، قد عفوت عنك.
وفي هذه السنة: بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل في رمضان، وكان
المأمون قد مضى إلى معسكر الحسن بن سهل بفم الصلح للبناء ببوران وكان
العباس بن المأمون قد تقدم أباه، فتلقاه الحسن خارج العسكر فثنى الحسن
رجله لينزل، فقال له العباس: بحق أمير المؤمنين لا تنزل. فاعتنقه الحسن
وهو راكب.
ووافى المأمون وقت العشاء، فلما كان في الليلة الثالثة دخل على بوران
وابتنى بها من ليلته، ونثرت عليه جدتها ألف درة كانت في صينية ذهب،
وأقام المأمون عند الحسن سبع عشر يوماً يعد له كل يوم ولجميع ما معه
جميع ما يحتاج إليه، وخلع الحسن على القواد على مراتبهم وحملهم ووصلهم،
وكان يبلغ النفقة خمسين ألف ألف درهم، وأمر المأمون غسان بن عباد أن
يدفع إلى الحسن عشرة آلاف ألف درهم من مال فارس، فحملت إليه ففرقها في
أصحابه وأقطعه فم الصلح، فلما انصرف المأمون شيعه الحسن، ثم رجع إلى فم
الصلح، وكان ذهاب المأمون ومقامه ورجوعه أربعين يوماً، ودخل إلى بغداد
يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال.
وقيل: خرج المأمون إلى الحسن لثمان خلون من رمضان، ورحل من فم الصلح
لثمان بقين من شوال سنة عشر ومائتين.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت
الحافظ قال: أخبرني أحمد بن محمد بن يعقوب الوزان قال: حدثني جدي محمد
بن عبيد الله بن الفضل قال: حدَثنا محمد بن يحيى الصولي، حدَثنا عون بن
محمد، حدَّثنا عبد الله بن أبي سهل قال: لما بنى المأمون ببوران بنت
الحسن فرش له يوم البناء حصير من ذهب مشفوف، ونثر عليه جوهر كثير، فجعل
بياض الجوهر يشرف على صفرة الذهب، وما مسه أحد، فوجَّه الحسن إلى
المأمون هذا النثار نحب أن نلتقطه، فقال المأمون لمَنْ حوله من بنات
الخلفاء: شرِّفْنَ أبا محمد، فمدت كل واحدة منهن يدها فأخذت درة، وبقي
باقي الدر يلوح على الحصير.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا الخطيب قال: وقيل إن الحسن نثر على المأمون
نثر ألف حبة جوهر، وأشعل بين يديه شمعة عنبر وزنها مائه رطل، ونثر على
القواد رقاعاً فيها أسماء ضياع، فمن وقعت بيده رقعة أشهد له الحسن
بالضيعة، وكان يجري مدة إقامة المأمون عنده على ستة وثلاثين ألف ملاح،
فلما أراد المأمون أن يصاعد أمر له بألف ألف دينار، وأقطعه فم الصلح.
وفي هذه
السنة: خرج عبد الله بن طاهر من الرقة إلى مصر، وذلك أنه لما بعث نصر
بن شيث العقيلي إلى المأمون كتب المأمون إليه يأمره بالمسير إلى مصر،
فخرج وكان هناك عبيد الله بن السري بن الحكم، فخرج يقاتل، فحمل أصحاب
عبد الله عليه فهزم، فتساقط عامة أصحابه في النهر ودخل الفسطاط
منهزماً، فأغلق على نفسه وأصحابه الباب، فحاصره ابن طاهر، فبعث إليه
ليلاً ألف وصيف وألف وصيفة، مع كل وصيف ألف دينار في كيس حرير فردّها،
وكتب إليه: لو قبلت هديتك ليلاً لقبلتها نهاراً " بل أنتم بهديَّتكُم
تَفْرَحُون ارجعْ إلَيْهِمْ فَلنَأتِينَهُمْ بجُنُود لا قِبلَ لهمْ
بِهَا " فحينئذ طلب الأمان، وخرج إليه.
وكتب إلى المأمون أن ابن طاهر لما فتح مصر في أسفل كتاب له.
أخي أنت ومولاه ... ومن أشكر نعماه
فما أحببت من شيء ... فإني الدهر أهواه
وما تكره من شيء ... فإني لست أرضاه
لك الله على ذاك ... لك الله لك الله
وفي هذه السنة: فتح ابن طاهر الإسكندرية.
وفيها: خلع أهل قُمّ السلطان، ومنعوا الخراج، فكان خراجهم ألفي ألف
درهم.
وسبب ذلك: أنهم استكثروا ما عليهم من الخراج، وكان المأمون لما اجتاز
بالري حين قصد بغداد حط عن أهل الري جملة من الخراج، فطمع هؤلاء في مثل
ذلك، فسألوه الحط عنهم، فلم يجب فامتنعوا من الأداء، فوجه إليهم
المأمون علي بن هشام، ثم أمده بعجيف بن عنبسة، فظفر بهم وهدم سور قمّ،
وجباها أربعة آلاف ألف ضعف ما تظلموا منه.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد وهو والي مكة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسحاق بن مرار، أبو عمرو الشيباني. صاحب العربية، سمع حديثاً كثيراً.
كوفي نزل بغداد، وحدّث بها، وروى عنه: أحمد بن حنبل، وكان يلازم مجلسه
ويسأله ويكتب أماليه، وروى عنه: أبو عبيدة وغيره، وكان عالماً باللغة،
ثقة فيما يحكيه خيراً فاضلاً، وجمع أشعار العرب ودونها. قال ابنه عمرو:
لما جمع أبي أشعار العرب كانت نيفَاً وثمانين قبيلة، وكان كلما عمل
منها قبيلة أو أخرجها إلى الناس كتب مصحفاً وجعله في مسجد الكوفة، حتى
كتب نيفاً وثمانين مصحفاً بخطه.
وقال أبو العباس ثعلب: كان مع أبي عمرو الشيباني من العلم والسماع عشرة
أضعاف ما كان مع أبي عبيدة، ولم يكن من أهل البصرة مثل أبي عبيدة في
السماع والعلم، دخل إلى البادية ومعه دستجتان حبراً، فما خرج حتى
أفناهما يكتب عن العرب، وعمر طويلاً حتى أناف على التسعين.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال:
حدَثنا علي بن المحسن التنوخي قال: أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني
قال: حدثنا أبو علي الكوكبي قال: حدَثنا إِبراهيم الحربي قال: حدَثنا
عمرو بن أبي عمرو الشيباني، عن أبيه: أنه كان يكثر من إنشاد هذا البيت:
لا تهني بعد إكرامك لي ... فشديد عادة مترعه
فقلت له: يا أبه، إنك تكثر إنشاد هذا البيت. قال: يا بني، أنا والله
أدعو به في صلاتي بالسحر.
قال حنبل بن إسحاق: توفيِ أبو عمرو الشيباني سنة عشر ومائتين يوم
الشعانين.
حميد بن عبد الحميد الطوسي. قال أبو بكر الصولي: كان خبازاً، قال له
رجل مرة: رأيت في منامي قصوراً أو بساتين فقلت: ما هذه؟ قالوا: الجنة،
أعدت لحميد الطوسي، فقال حميد: إن صدقت رؤياك فالحور. ثم أشد من ها هنا
يكثر.
أخبرنا ابن ناصر قال: أنبأنا علي بن أحمد البسري، عن أبي عبد الله بن
مطر قال: حدَّثنا أبو بكر بن الأنباري قال: أخبرنا أبو الحسن بن البراء
قال: حدَّثنا بعض أصحابنا قال: مات حميد الطوسي سنة عشر ومائتين، فإنا
لجلوس ننتظر إخراجه، إذ أشرفت علينا من القصر جارية، فأنشأت تقول:
من كان أصبح هذا اليوم مغتبطاً ... فما غبطنا به والله محمود
أو كان منتظراً للفطر سيًده ... فإن سيدنا في اللحد ملحود
قال: فقتلتنا واللهّ وأحزنتنا.
عبد الوهاب بن موسى بن عبد العزيز أبو العباس الزهري يروي عن مالك،
وابن عيينة. وولي الشرط في فسطاط مصر.
توفي في رمضان هذه السنة.
عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع أبو سعيد الأصمعي
سمع عبد
الله بنَ كون، وشعبة، والحمادين. وروى عنه: عبد الرحمن بن عبد الله
أخيه، وأبو عبيد، وأبو حاتم، والرياشي، وخلق كثير.
كان يعرف النحو واللغة، والغريب، والمًلح.
كان المبرد يقول: الأصمعي بحر في اللغة لا نعرف مثله فيها، وفى كثرة
الرواية، وكان دون أبي زيد في النحو.
وقيل لأبي يونس: قد أشخص الأصمعي إلى الرشيد فقال: هو بلبل يطربهم
بنغماته.
وكان أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين يثنيان على الأصمعي في السُّنة. وقال
يحيى: هوقة.
وقال الشافعي: ما رأيت بذلك العسكر أصدق لهجة من الأصمعي، أو ما غير
أحد بعبارة أحسن منه.
قال نصر بن علي: كان الأصمعي يتقي أن يفسر حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم، كما يتقي أن يفسر القرآن.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا أبو العلاء الواسطي قال: أخبرنا محمد بن جعفر التميميِ قال:
أخبرنا عبد الرحمن بن حامد البلخي قال: سمعت محمد بن سعد يقول: سمعت
عمر بن شبة يقول: سمعت الأصمعي يقول: أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني
الأزهري قال: حدثنا محمد بن الحسن بن المأمون الهاشمي قال: حدَثنا محمد
بن الأنباري قال: حدثنا محمد بن أحمد المقدمي قال: حدَّثنا أبو محمد
التميمي قال: حدَّثنا محمد بن عبد الرحمن مولى الأنصار، قال: حدَثنا
الأصمعي قال: أمر الرشيد بحملي إليه، فحملت، فأدخلني عليه الفضل بن
الربيع وهو منفرد، فسلمت، فاستدناني وأمرني بالجلوس فجلست، فقال لي: يا
عبد الملك وجهت إليك بسبب جاريتين أهديتا إليَّ، وقد أخذتا طرفاً من
الأدب، فأحببت أن تُبَوِّر ما عندهما، وأن تشير عليَ فيهما بما هو
الصواب عندك، ثم قال: ليُمْضَ إلى عاتكة، فيقال لها: أحضري الجاريتين،
فحضرت جاريتان ما رأيت مثلهما قط، فقلت لإحداهما: ما اسمك؟ قالت:
فلانة. قلت: ما عندك من العلم؟ قالت: ما أمر الله به في كتابه، ثم ما
ينظر الناس فيه من الأشعار والآداب والأخبار، فسألتها عن حرف من القرآن
فأجابتني كأنها تقرأ الجواب من كتاب، وسألتها عن النحو والعروض
والأخَبار، فما قصرت، فقلت: بارك الله فيك، فما قصرت في جوابي في كل فن
أخذت فيه، فإن كنت تقرضين شيئاً من الشعر فأنشدينا شيئاً، فاندفعتَ في
هذا الشعر:
يا غياث العباد في كل محل ... ما يريد العباد إلا رضاكا
لا ومن شرف الإمام وأعلى ... ما أطاع الإله عبد عصاكا
ومرت في الشعر إلى آخره. فقلت: يا أمير المؤمنين ما رأيت امرأة في مسك
رجل مثلها. وسألت الأخرى فوجدتها دونها ما تبلغ منزلتها. إلا أنها إن
وُوُظِبَ عليها لحقت. قال: يا عباسي، فقال الفضل: لبيك يا أمير
المؤمنين، فقال: ليردا إلى عاتكة، ويقال لها تصنع هذه التي وصفت
بالكمال لتحمل إلي الليلة. ثم قال لي: يا عبد الملك، أنا ضجر. وقد جلست
أحب أن أسمع حديثاً أتفرج به، فحدثني بشيء. فقلت: لأي الحديث يقصد أمير
المؤمنين. قال: لما شاهدت وسمعت من أعاجيب الناس، وطرائف أخبارهم.
فقلت: يا أمير المؤمنين صاحب لنا في بدْوِ بني فلان كنت أغشاه وأتحدث
إليه، وقد أتت عليه ست وتسعون سنة أصح الناس ذهناً وأجودهم عقلاً
وأكلاً، وأقواهم بدناً فغبرتُ عنه زماناً، ثم قصدته فوجدته ناحل البدن،
كاسف البال، متغير الحال، فقلت له ما شأنك؟ أأصابتك مصيبة؟ قال: لا.
قلت: أفمرض عراك؟ قال: لا. قلت: فما سبب هذا التغيير الذي أراه بك؟
قال: قصدت بعض القرابة في حي بني فلان فألفيت عندهم جارية قد لاثت
رأسها، وطلت بالورس ما بين قرنها إلى قدمها، عليها قميص وقناع مصبوغان،
وفي عنقها طبل توقع عليه وتنشد:
محاسنها سهامٌ للمنايا ... مُرَيَّشة بأنواع الخطوب
بَرَى ريبُ الزمان لهن سهماً ... تصيب بفضله مهج القلوب
فأجبتها:
ففي شفتي في موضع الطبل ترتقي ... كما قد أبحت الطبل في جيدك الحسن
هبيني عوداً أجوفاً تحت شَنَةٍ ... تمتَّع فيها بين نحرك والذقن
فلما سمعت الشعر مني نزعت الطبل فرمت به في وجهي، وبادرت إلى الخباء
فدخلت فلم أزل واقفاً حتى حميت الشمس على مفرق رأسي لا تخرج إليَّ ولا
ترجع إليّ جواباً. فقلت: أنا أمعها والله كما قال الشاعر:
فوالله يا
سلمى لقد طال موقفي ... على غير شيء يا سليمى أراقبه
فضحك الرشيد حتى استلقى. وقال: ويحك يا عبد الملك، ابن ست وتسعين سنة
يعشق؟ قلت: قد كان هذا يا أمير المؤمنين، فقال: يا عباسي، أعط عبد
الملك مائة ألف درهم وردّه إلى مدينة السلام، فانصرفت، فإذا خادم يحمل
شيئاً ومعه جارية تحمل شيئاً فقال: أنا رسول بنتك - يعني الجارية التي
وصفتها - وهذه جاريتها، وهي تقرأ عليك السلام وتقول لك: إن أمير
المؤمنين أمر لي بمال وثياب وهذا نصيبك منهما. فإذا المال ألف دينار،
وهي تقول: لن نخليك من المواصلة بالبر، فلم تزل تتعهدني بالبر الواسع
حتى كانت فتنة محمد، فانقطعت أخبارها عني. وأمر لي الفضل ابن الربيع من
ماله بعشرة آلاف درهم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
قال: أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين المازني قال: حدَّثنا المعافى بن
زكريا الجريري، قال: حدّثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدَثنا محمد
بن القاسم بن خلاد قال: قال الأصمعي: دخلت على جعفر بن يحيى بن خالد
يوماً فقال لي: يا أصمعي، هل لك من زوجة؟ قلت: لا، قال: فجارية؟ قلت:
جارية للمهنة. قال: هل لك أن أهبك جارية نظيفة، قلت: إني لمحتاج إلى
جارية فأمر بإخراج جارية في غاية الحسن والجمال والظرف، فقال لها: قد
وهبتك لهذا وقال: يا أصمعي خذها، فشكرته، فبكت الجارية، وقالت: يا
سيدي، تدفعني إلى هذا الشيخ مم ما أرى من سماجته وقبح منظره، وجزعت
جزعاً شديداً، فقال لي: يا أصمعي، هل لك أن أعوضك عنها ألف دينار، قلت
ما أكره ذلك فأمر لي بألف دينار، ودخلت الجارية، فقال لي: يا أصمعي إني
أنكرت على هذه الجارية أمراً، فأرددّ عقوبتها بك، ثم رحمتها منك، قلت:
أيها الأمير فهلا أعلمتني قبل ذلك، فإني لم آتك حتى سرحت لحيتَي،
وأصلحت عمتي، ولو عرفت الخبر لصبرت على هيئة خلقتي، فوالله لو رأتني
كذلك ما عاودت شيئاً تنكره منها أبداً ما بقيت.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد. قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا القاضي أبو
العلاء قال: أخبرنا محمد بن جعفر التميمي، حدَّثنا أبو القاسم السكوني
قال: حدَثنا أحمد بن أبي موسى قال: حدَثنا أبو العيناء قال: قال
الأصمعي: دخلت أنا وأبو عبيدة على الفضل بن الربيع. فقال: يا أصمعي كم
كتابك في الخيل؟ قال: قلت: جلد، قال: فاسأل أبا عبيدة عن ذلك، قال:
خمسون جلداً، فأمر بإحضار الكتابين، ثم أمر بإحضار فرس، فقال لأبي
عبيدة: اقرأ كتابك حرفاً حرفاً وضع يدك على موضع موضع. فقال أبو عبيدة:
ليس أنا بيطار، إنما ذا شيء أخذته وسمعته من العرب وألفته، فقال لي: يا
أصمعي، قم فضع يدك على موضع موَضع من الفرس، فقمت فحسرت عن ذراعي
وساقي، ثم وثبت فأخذت بأذن الفرس، ثم وضعت يدي على ناصيته، فجعلت أقبض
منها بشيء شيء وأقول: هذا كذا، وأنشد فيه حتى بلغت حافره، فأمر لي
بالفرس، فكنت إذا أردت أن أغيظ أبا عبيدة ركبت الفرس وأتيته. ونقلت من
خط أبي عبيد، عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال: حكى أبو الحسين
بن محمد بن بكير، عن أبيه قال: كنا يوماً عند الحسن بن سهل وبحضرته
جماعة من أهل العلم منهم الأصمعي، وأبو عبيدة، والهيثم بن عدي وخلق
كثير من الناس، وحاجب الحسن يعرض عليه الرقاع إلى أن وقع في خمسين
رقعة، فلما فرغ من ذلك أقبل علينا فقال: قد فعلنا في يومنا خيراً
كثيراً، ووقعنا في القصص بما فيه فرح لأهلها وصلاح، ونحن نرجو أن نكون
في ذلك مثابين فحدثونا في حق أنفسنا فجعلنا، نذاكره العلم، فتكلم أبو
عبيدة، والأصمعي وجرير بن حازم، والتج المجلس بالمذاكرة إلى أن بلغوا
إلى ذكر الحفاظ من أصحاب الحديث، فأخذوا في ذكر الزهري، والشعبي،
وقتادة، وسفيان. فقال أبو عبيدة: وما حاجتنا إلى ذكر هؤلاء، وما ندري
أصدق الخبر عنهم أم كذب، وبالحضرة رجل يزعم أنه ما أنسي شيئاً قط، وأنه
ما يحتاج أن يعيد نظره في دفتر، إنما هي نظرة، ثم يحفظ ما فيه فعرض
بالأصمعي، فقال الحسن: نعم والله يا أبا سعيد، إنك لتجيء من هذا بما
ينكر جداً، فقال الأصمعي: نعم، ما أحتاج أن أعيد النظر في دفتر، وما
أنسيت شيئاً قط، فقال الحسن: فنحن نجرب هذا القول بواحدة، يا غلام هات
الدفتر الفلاني، فإنه جامع لكثير مما أنشدناه وحدَثناه، فمضى الغلام
ليحضر الدفتر، فقال الأصمعي: فأنا أريك ما هو أعجب من هذا، أنا أعيد
القصص التي مرت وأسماء أهلها وتوقيعاتك فيها كلها، وامتحن ذلك بالنظر
إليها. قال: وقد كان الحسن قال: عارضت بتلك التوقيعات لأنها أثبتت في
دفتر الإثبات، فأكبر ذلك مَنْ حضر واستضحكوا، فاستدعى الحسن القصص
بأعيانها من الحاجب فردت بأسرها، فابتدأ الأصمعي فقال: القصة الأولى
لفلان الفلاني قصته كذا وكذا وقعت أعزك الله بكذا وكذا حتى أتى على هذا
السبيل على سبعة وأربعين قصة. فقال له الحسن: يا هذا، حسبك الساعة،
والله تقتلك الجماعة بأعينها، يا غلام، خمسين ألف درهم فأحضرت خمس بدر،
ثم قال: يا غلمان احملوها معه إلى منزله، فتبادر الغلمان لحملها، فقال:
تنعم بالحامل كما أنعمت بالمحمول، قال: نعم لك ولست تنتفع بهم وقد
اشتريتهما منك بعشرة آلاف درهم احمل يا غلام مع أبي سعيد ستين ألف
درهم، قال: فحملت والله معه وانصرف الباقون بالخيبة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو
نصر أحمد بن عبد الله قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن موسى القرشي قال:
أخبرنا محمد بن يحيى قال: حدثنا أحمد بن يزيد المهلبي، حدَّثنا حماد بن
إسحاق الموصلي، عن أبيه قال: سأل الرشيد عن بيت الراعي:
قتلوا ابن عفان الخليفة مُحْرَماً ... ودعا فلم أر مثله مخذولا
ما معنى محرماً؟ قال الكسائي: إحرام بالحج، فقال الأصمعي: والله ما كان
أحرم بالحج، ولا أراد الشاعر أنه أيضاً في شهر حرام، يقال: أحرم إذا
دخل فيه، كما يقال أشهر إذا دخل في الشهر، وأعام إذا دخل في العام.
فقال الكسائي: ما هو غير هذا؟ وإلا فما أراد؟ فقال الأصمعي: ما أراد
عدي بن زيد بقوله:
قتلوا كسرى بليل محرماً ... فتولى لم يمتع بكفن
أي إحرام لكسرى؟ فقال الرشيد: ما تطاق فما المعنى؟ قال: كل مَنْ لم يأت
شيئاً يوجب عليه، عقوبة فهو محرم لا يحل شيء منه، فقال الرشيد: ما تطاق
في الشعر يا أصمعي.
أخبرنا
الحافظان: عبد الوهاب بن المبارك ومحمد بن ناصر قالا: أنبأنا المبارك
بن عبد الجبار قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أنشدنا أبو عمرو بن
حيوية قال: أنشدنا أبو دريد قال: أنشدنا أبو حاتم قال: أنشدنا الأصمعي:
إذا جاء يوم صالحٌ فاقبلنَّه ... فأنت على يوم الشقاء قدير
فقال: أتدرون من أين أخذت هذا؟ أخذته من قول العيارين أكثر من الشحم،
فإنك على الجوع قادر.
أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن عبد القادر بن
يوسف قال أخبرنا أبو الحسين محمد بن علي بن صخر قال: حدَّثنا أبو
القاسم عمر بن محمد بن سيف، حدَّثنا محمد بن القاسم الأنباري قال:
حدَّثنا عبد الله بن بيان، عن الأصمعي قال: بينا أنا بالجبانة بالبصرة
في يوم صائف شديد حره، إذا أنا بجارية واضعة يدها على قبر وهي تقول
بصوت حزين من قلب قرح:
هل أخبر القبر سائليه ... أم قَر عيناً بزائريه
أم هل تراه أحاط علماً ... بالجسد المستكن فيه
لو يعلم القبر ما يواري ... تاه على كل من يليه
يا جبلاً كان لامتناع ... وركن عزٍّ لآمليه
ونخلة طلعُها نَضِيد ... يقرب من كف مجتنبيه
ويا مريضاً على فراش ... تؤذيه أيدي ممرضيه
ويا صبوراً على بلاءٍ ... كان به الله مبتليه
يا موت لو تقبل افتداءً ... كنت بنفسي سأفتديه
يا موت ماذا أردت مني ... خفقت ما كنت أتقيه
موتِّ رماني بفقد ألفي ... أذم دهري وأشتكيه
أمنكك اللّه كل روع ... وكل ما كنت تتقيه
قال الأصمعي: فدنوت منها، فقلت لها: يا جارية أعيدي عليّ لفظك، قالت:
أو سمعت ذلك مني؟ فأنشدتها شعرها عن آخره، فقامت تنفض ثيابها وهي تقول:
إن كان في عبادك أصمعي فهو هذا.
قال المازني: سمعت الأصمعي يقول: بينا أنا أطوف بالكعبة إذا رجل على
قفاه كارة وهو يطوف، فقلت له: أتطوف وعليك كارة، فقال: هذه والدتي التي
حملتني أريد أن أؤدي حقها، فقلت له: ألا أدلك على ما تؤدي به حقها،
قال: وما هو؟ قلت: تزوجها، قال: يا عدو الله، تستقبلني في. أمي بمثل
هذا؟ فرفعت يدها وصفعت قفا ابنها، وقالت: إذا قيل لك الحق تغضب؟!
أخبرنا القزاز قال أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الأزهري، قال:
أخبرنا محمد قال: أخبرنا محمد بن العباس قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد
الكندي قال: حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى قال: مات الأصمعي سنة عشر
ومائتين، وقد بلغ ثمانياً وثمانين سنة، وكانت وفاته بالبصرة.
قال محمد بن العباس: وحدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أحمد
بن أبي طاهر قال: حدثني محمد بن أبي العتاهية قال: لما بلغ أبي موت
الأصمعي جزع عليه ورثاه فقال:
لهفي على فقد الأصمعي لقد مضى ... حميداً له في كل مصلحة سهم
نقصت بشاشات المحاسن بعده ... وودعنا إذ ودع الأنس والعلم
وقد كان نجم العلم فينا حياته ... فلما انقضت أيامه أفلَ النجم
قال المصنف: وقد ذكر أبو العتاهية أنه مات سنة خمس عشرة. وقال الكديمي:
مات سنة سبع عشرة. والذي قاله أبو موسى أصح، ويدل عليه أن أبا العتاهية
رثاه، وأبو العتاهية مات سنة إحدى عشرة.
وبلغ الأصمعي ثمانياً وثمانين سنة، وكانت وفاته بالبصرة.
عُلًيةُ بنت المهدي أمها أم ولد اسمها مكنونة، اشتريت للمهدي بمائة ألف
درهم، فغلبت عليه، وكانت الخَيْزَران تقول: ما ملك أمَة أغلظ علي منها
فولدت له علية سنة ستين ومائة.
وكانت عُلَيَّة أجمل النساء وأطرفهن وأكملهن عقلاً وأدباً ونزاهة
وصيانة وظرفاً، وكان فيِ جبهتها سعة تشين، فاتخذت العصابة المكللة
بالجوهر لتستر به جبهتها، فهي أول من اتخذها).
وكانت
كثيرة الصلاة ملازمة للمحراب وقراءة القرآن، وكانت تتدين ولا تشرب
النبيذ، وقالت: ما حرم اللّه شيئاً إلا وقد جعل فيما أحلّ عوضاً منه،
فبماذا يحتج العاصي؟ وكانت تقول: اللهم لا تغفر لي حراماً أتيته ولا
عزماً على حرام عزمته، ولا استفزعني له إلا ذكرت نسبي من رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقصرت عنه، ولا أقول ما أقول في شعري إلا عبثاً، وكانت
تدخل على الرشيد فيكرمها ويأمرها بالجلوس معه على سريره فتأبى.
وكانت تحب أن تراسل بالأشعار مَنْ تختصه، فاختَصت خادماً يقال له طَلَ
من خدم الرشيد، فراسلته بالشعر، فلم تره أياماً فمشت على ميزاب حتى
رأته وقالت:
قد كان ما كُلفْتُه زمناً ... يا طَلُّ من وَجْدٍ بكم يكفي
حتى أتيتك زائراً عَجِلاً ... أمشي على حَتْفٍ إلى حَتفي
فحلف عليها الرشيد أن لا تكلم طلاً، ولا تسمي باسمه، فضمنت له ذلك
فاستمع عليها يوماً وهي تقرأ " فإن لم يصبها وابل فطل " فقالت: فالذي
نهى عنه أمير المؤمنين، فدخل عليها فقَبّل رأسها ووهب لها طلاً.
وتزوجها موسى بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ومن
أشعارها الرائقة:
أوقعت في قلبي الهوى ... ونجوت منه سالمة
وبدأتني بالوصل ثم ... قطعت وصلي ظالمة
ولها:
ليت سلمى تراني ... أو تنبى بشاني
كي تفك أسيراً ... متعب القلب عاتي
يا ديار الغواني ... الملاح الحسان
جادك الغيث منه ... بالغوادي الرواني
ولها:
اليأس بين جوانحي يتردد ... ودموع عيني تستهل وتفقد
إني لأطمع ثم أنهض بالمنى ... واليأس يجذبني إليه فأقعد
ولها:
شغف الفؤاد بجارة الجنب ... فظللت في حرب وفي كرب
يا جارتي أمسيت مالكة ... رقي وغالبتي على لبي
ولها:
فرِّجُوا كربي قليلاً ... فلقد صرت نحيلا
وافعلوا في أمر مشغو ... ف بكم فعلاً جميل
ولها:
صرمت أسماء حبلي فانصرم ... ظلمتنا كل من شاء ظلم
واستحلّت قتلنا عامدة ... وتجنت عللاَ لم تحترموا
ولها:
أصابني بعدك ضر الهوى ... واعتادني شوق وإقلاق
قد يعلم الله وحسبي به ... وردًدت الصبابة في فؤادي
فيا شوقي إلى بلد خليٍّ ... أني إلى وجهك مشتاق
ولها:
كتمت اسم الحبيب من العباد ... لعلي باسم من أهوىَ أنادي
ولها:
ليس يستحسن في وصف الهوى ... عاشق يحسن تأليف الحجج
بني الحب على الجور فلو ... أنصف المعشوق فيه لسمج
لا تعيبا من محب ذلة ... ذِلَّة العاشق مفتاح الفرج
ضم المأمون عُليَّة يوماً وجعل يقبّل رأسها، وكان وجهها مُغَطَّىً
فتأذَت بذلك وشرقت وسعلت، ثم حُمًتْ أياماً.
وماتت في هذه السنة عن خمسين سنة رحمها الله.
منصور بن سلمة بن عبد العزيز بن سلمة الخزاعي. سمع من مالك، والليث،
وروى عنه: أحمد بن حنبل، ويحيى، قال الدارقطني: هو أحد الثقات الحفاظ
الرفعاء الذين كانوا يسألون عن الرجال ويؤخذ بقوله فيهم. أخذ عنه أحمد،
ويحيى، وغيرهما علم ذلك.
توفي في هذه السنة بالمصيصة. وقيل: سنة تسع.
ثم دخلت
سنة إحدى عشرة ومائتين
فمن الحوادث فيها:
أن ابن
طاهر سُعي به إلى المأمون وقال رجل من إخوة المأمون للمأمون: يا أمير
المؤمنين، إن عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد أبي طالب، وكذا كان أبوه،
فأنكر ذلك المأمون، ثم عاد لمثل هذا القول، فدسّ إليه رجلاً وقال: امض
في هيئة القرّاء والنساك إلى مصر فادع جماعةً من كبرائها إلى القاسم بن
إبراهيم بن طباطبا، واذكر مناقبه وفضله، ثم صِرْ من بعد ذلك إلى بطانة
عبد الله بن طاهر، فادْعُه ورغبّه في استجابته له، وابحث عن دفين نيّته
بحثاً شافياً. ففعل الرجل، حتى إذا دعا جماعة من الرؤساء، قعد يوم ما
بباب عبد الله بن طاهر، وقد ركب إلى عبيد الله بن السري بعد صلحه
وأمانه، فلما انصرف قام إليه الرجل، فأخرج من كمه رقعة، فدفعها إليه،
فأخذها بيده، فما هو إلا أن دخل خُرج الحاجب إليه فأدخله، فقال له: قد
فهمت ما في رقعتك، فهات ما عندك فقال: ولي أمانك وذمة الله؟ قال: لك
ذلك، فأظهر ما أراد، ودعاه إلى القاسم، وأخبره بفضائله، فقال له عبد
الله أتنصف؟ قال: نعم قال: هل يجب شكر اللّه على العباد؟ قال: نعم،
قال: فهل يجب شكر بعضهم لبعض عند الإحسان؟ قال: نعم، قال: فتجيء إليً
وأنا على هذه الحال التي ترى لي خاتم في المشرق جائز وفي المغرب كذلك،
وفيما بينهما أمري مطاع، ثم ما التفتّ يميناً ولا شمالاً إلا رأيت نعمة
لرجل أنعمها علي، فتدعوني إلى الكفر بهذه النعم، وهذا الإحسان، وتقول:
اغدر بمن كان أولاً لهذا وآخراً واسْع في دمه، فسكت الرجل، فقال. له:
ارحل عن هذا البلد، فإني أخاف عليك، فلما آيس الرجل مما عنده، جاء إلى
المأمون، فأخبره، فاستبشر، وقال: ذاك غرس يدي وإلف أدبي وترْب تلقيحي
ولم يُظهر لأحد من ذلك شيئاً وفي هذه السنة: قدم عبد الله بن طاهر
مدينة السلام من المغرب، فتلقاه العباس ابن المأمون وأبو إسحاق المعتصم
وسائر الناس، وقدم معه بالمتغلبين على الشام كابن السرْج، وابن، أبي
الجمل، أو ابن أبي الصقر.
وفيها: أمر المأمون منادياً، فنادى: برئت الذمَّة ممن ذكر معاوية بخير
أو فضله على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحج بالناس في هذه السنة: صالح بن العباس وهو والي مكة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن رستم، أبو بكر الفقيه المروزي سمع من مالك، وسفيان، وشعبة،
وغيرهم. وروى عنه: أحمد بن حنبل، وقال يحيى: هو ثقة.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
أحمد بن علي بن يعقوب قال: حدثنا محمد بن نعيم الضبي قال: حدثنا أبو
العباس السياري قال: حدثنا عيسى بن محمد بن عيسى قال: حدثنا العباس بن
مصعب قال: كان إبراهيم بن رستم من أهل كرمان، ثم نزل مرو، ثم سكة
الدباغين، فاختلف إليه الناس، وعرض عليه القضاء فلم يقبل، وأتاه ذو
الرياستين فلم يتحرك له، فقال له أشكاب وكان رجلاً متكلماً: عجباً لك،
يأتيك وزير الخليفة فلا تقوم له، وتقوم من أجل هؤلاء الدباغين عندك
فقال رجل من أولئك المتفقهة: نحن من دباغي الدين الذي رفع إبراهيم بن
رستم حتى جاءه وزير الخليفة، فسكت أشكاب.
توفي إبراهيم بنيسابور في هذه السنة وقيل: في سنة عشرة.
إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان أبو إسحاق العنزي المعروف بأبي
العتاهية الشاعر ولد سنة ثلاثين ومائة، أصله من عين التمر، ومنشؤه
الكوفة، ثم سكن بغداد، وكان يقول في الغزل والمديح والهجاء، ثم تنسك
وصار قوله في الوعظ والزهد. وأبو العتاهية لقب.
قال أبو زكريا يحيى بن علي الزبيري: العتاهية من التعته وهو التحسن
والتزين، قال: وقد كان يتحسن في زمن شبابه، ومن أسباب ذلك:
ما أخبرنا
به أبو منصور القزاز قال أخبرنا الخطيب قال: أخبرني علي بن أيوب القمي
قال: حدثنا محمد بن عمران المرزباني قال: أخبرنا محمد بن يحيى قال:
حدثني محمد بن موسى البربري قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن علي
الهاشمي، عن أبي شعيب أحمد بن يزيد قال: قلت لأبي العتاهية، حدثني
بقصتك مع عتبة، فقال لي: أحدثك إنا قدمنا من الكوفة ثلاثة فتيان شباباً
أدباء، ليس لنا ببغداد من نقصده، فنزلنا غرفة بالقرب من الجسر، وكنا
نبكر فنجلس في المسجد الذي بباب الجسر في كل غداة، فمرت بنا يوماً
امرأة راكبة معها خدم سود، فقلنا: مَنْ هذه؟ قالوا: خالصة، فقال أحدنا:
قد عشقت خالصة وعمل فيها شعراً. فأعَنَّاهُ عليه، ثم لم نلبث أن مرت
أخرى راكبة معها خدم بيض، فقلنا: منْ هذه؟ قالوا: عتبة، فقلتَ: قد عشقت
عتبة فلم نزل كذلك في كل يوم إلى أن التأمت لنا أشعار كثيرة فدفع صاحبي
بشعره إلى خالصة، ودفعت أنا شعري إلى عتبة، وألححنا إلحاحاً شديداً
فمرة تقبل أشعارنا، ومرة نطرد، إلى أن جدَوا في طردنا فجلست عتبة يوماً
في أصحاب الجوهر، ومضيت فلبست ثياب راهب، ودفعت ثيابي إلى إنسان كان
معي، وسألتَ عن رجل كبير من أهل السوق، فدللت على شيخ صائغ، فجئت إليه
فقلت: إني رغبت في الإسلام على يد هذه المرأة، فقام معي وجمع جماعة من
أهل السوق وجاءها، فقال: إن الله ساق لك أجراً، هذا راهب قد رغب في
الإسلام على يديك، قالت: هاتوه، فدنوت منها، فقلت، أشهد أن لا إله إلا
الله وأن محمداً عبده ورسوله وقطعت الزنار، ودنوت فقبَّلت يدها، فلما
فعلت ذلك رفعت البرنس فعرفتني، فقالت: نحُّوه لعنه الله، فقالوا: لا
تلعنيه فقد أسلم، فقالت: إنما فعلت لقذره، فعرضوا عليَ كسوة، فقلت: ليس
بي حاجة هذه وإنما أردت أن أتشرف بولائها والحمد للهّ الذي مَنَ عليَّ
بحضوركم. وجلست فجعلوا يعلمونني الحمد، وصليت معهم العصر، وأنا في ذلك
بين يديها أنظر إليها لا تقدر لي على حيلة، فلما انصرفت لقيت خالصة
فشكت إليها فقالت: ليس يخلو هذان من أن يكونا عاشقين أو مستأكلين، فصح
عزمهما على امتحاننا بمال على أن ندع التعرض لهما، فإن قبلنا المال
فنحن مستأكلان، وإن لم نقبله فنحن عاشقان، فلما كان الغد مرت خالصة،
فعرض لها صاحبها، فقال له الخدم: اتبعنا فتبعهم، ثم مرت عتبة فقال لي
الخدم: اتبعنا فتبعتهم، فمضت بي إلى منزل خليط بزاز، فلما جلست، دعت
بي، فقالت لي: يا هذا، إنك شاب وأرى لك أدباً وأنا حرمة خليفة وقد
تأنيتك فإن أنت كففت وإلا أنهيت أمرك إلى أمير المؤمنين، ثم لم آمن
عليك، قلت: فافعليِ بأبي أنت وأمي أفإنك إن سفكت دمي أرحتني، فأسألك
بالله إلا فعلت ذلك، إذ لم يكن لي فيك نصيب، فأما الحبس والحياة ولا
أراك فأنت في حرج من ذلك، فقالت: لا تفعل يا هذا وابق على نفسك، وخذ
هذه الخمس مائة دينار واخرج من هذا البلد. فلما سمعت ذكر المال وليت
هارباً، فقالت: ردوه، فلم تزل تزدني فقلت: جعلت فداك، ما أصنع بعرض من،
الدنيا وأنا، لا أراك، وإنك لتبطئين يوماً واحداً عن الركوب فتضيق بي
الأرض بما رحبت. وفي تأبى إلا ذكر المال، حتى جعلت لي ألف دينار، سأبيت
وجاذبتها مجاذبة شديدة، وقلت: لو أعطيتْيني جميع ما يحويه الخليفة ما
كانت لي فيه حاجة، وأنا لا أراك وأقنع بالفقد بعد أن أجد السبيل إلى
رؤيتك. وخرجت فجئت الغرفة التي كنا ننزلها، فإذا صاحبي مورم الأذنين،
وقد امتحن بمثل ما امتحنت، فلما مَدَ يده إلى المال صفعوه، وحلفت خالصة
لئن رأته بعد ذلك اليوم لتودعنه الحبس، فاستشارني في المقام، فقلت.
اخرج وإياك إن تقدر عليك، ثم التقتا فأخبرت كل واحدة صاحبتها الخبر،
أحمدتني عتبة، وصح عندها أني محب محق، فلما كان بعد أيام دعتني عتبة
وقالت: بحياتي عليك إن كنت تعزها إلا أخذت ما يعطيك الخادم، فأصلح به
شأنك فقد غمني سوء حالك، فامتنعت، فقالت: ليس هذا مما تظن، ولكني لا
أحب أن أراك في هذا الزي، فقلت: لو أمكنني أن تريني في زيِ المهدي
لفعلت ذاك، فأقسمت عليّ، فأخذت الصرة، فإذا فيها ثلاثمائة دينار
فاكتسيت كسوة حسنة، واشتريت حماراً.
أخبرنا
القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو الطيب طاهر بن عبد
الله قال: أخبرنا المعافى بن زكريا قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم قال:
حدثني علي بن محمد بن أبي عمرو البكري قال: حدثني علي بن عثمان قال:
حدثني أشجع السلمي قال: أذن لنا المهدي وللشعراء في الدخول عليه،
فدخلنا، فأمرنا بالجلوس، فاتفق أن جلس إلى جنبي بشار، فسمع حساً، فقال:
يا أشجع: مَنْ هذا؟ فقلت: أبو العتاهية، فقال لي: أتراه ينشد في هذا
المحفل؟ فقلت: أحسبه سيفعل، فأمره المهدي أن ينشد، فأنشده: ألا ما
لسيدتي ما لها قال: فَنَخسني بمرفقه، ثم قال لي: ويحك، رأيت أجسر من
هذا ينشد مثل هذا الشعر في مثل هذا الموضع حتى بلغ إلى قوله:
أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحدٌ غيره ... لزُلزلت الأرض زلزالها
ولو لم تطعه بنات النفو ... س لما قبل اللهّ أعمالها.
فقال بشار: انظر ويحك يا أشجع، انظر هل طار الخليفة عن فراشه، قال: لا
والله ما انصرف أحد من ذلك المجلس بجائزة غير أبي العتاهية.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال أخبرنا أحمد بن علي قال: أنبأنا أبو
يعلى أحمد بن عبد الواحد الوكيل قال: أنبأنا إسماعيل بن سعيد المعدل
قال: أخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: قال لي أبو عبد الله محمد
بن القاسم الكوكبي قال: أخبرني العتبي قال: رأيت مروان بن أبي حفصة
واقفاً بباب الجسر، كئيباً حزيناً آسفاً ينكت بسوطه في معرفة دابته،
فقيل له: يا أبا السمط، ما الذي نراه بك؟ قال: أخبركم بالعجب، مدحت
أمير المؤمنين فوصفت له ناقتي من خطامها إلى خفيها ووصفت، الفيافي من
اليمامة إلى بابه أرضاً أرضاً، ورملة رملة، حتى إذا، أشفيت منه على غنى
النفس والدهر جاء ابن بياعة العجاجير - يعني أبا العتاهية - فأنشده
بيتين فضعضع بهما شعري، وسوّاه بي في الجائزة، فقيل له: وما البيتان؟
فأنشد:
إن المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك سباسباً ورمالا
فإذا رحلن بنا رحلن بخفة ... وإذا رجعن بنا رجعن ثقالا
أخبرنا إسماعيل بن أحمد قال: أخبرنا أبو محمد أحمد بن علي بن أبي عثمان
قال: أخبرنا أبو الحسن بن الصلت قال: حدثنا أبو الحسن بن المنادي قال:
أنشدني أبو بكر يوسف بن يعقوب لأبي العتاهية:
كم يكون الشتاء ثم المصيف ... وربيع يمضي ويأتي خريف
وانتقال من الحرور إلى الظل ... وسيف الردى عِليك منيف
يا قليل البقاء في هذه الدار ... إلى كم يغركَ التسويف
عجباً لأمرئ يذل لذي دن ... يا ويكفيه كل يوم رغيف
أخبرنا عبد الوهاب وأخبرنا ابن ناصر قالا: أنبأنا ابن عبد الجبار قال:
أخبرنا الحسين بن النصيبي قال: حدثنا إسماعيل بن سويد قال: حدثنا أبو
بكر بن الأنباري قال: حدثنا أبو بكر بن خلفه قال: حدثنا أبو بكر الأموي
قال: قال الرشيد لأبي العتاهية: الناس يزعمون أنك زنديق، قال: يا سيدي،
كيف أكون زنديقاً، وأنا الذي أقول:
أيا عجباً كيف يعصي الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
وللهّ في كل تحريكة ... وفي كل تسكينة شاهد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا
أبو حنيفة المؤدب قال: حدثنا المعافى بن زكريا قال: حدثنا الحسين بن
القاسم الكوكبي قال: حدثنا عسل بن ذكوان قال: أخبرنا دماذ، بن ذكوان عن
حماد بن شقيق قال: قال أبو سلمة الغنوي: قلت لأبي العتاهية: ما الذي
صرفك عن قول الغزل إلى قول الزهد؟ قال: إذاً والله أخبرك، إني لما قلت:
الله بيني وبين مولاتي ... أهدت لي الصد والملامات
منحتهما مهجتي وخالصتي ... فكان هجرانها مكافاتي
هيمني حبها وصيَّرني ... أحدوثة في جميع جاراتي
رأيت في
المنام في تلك الليلة كأن آتياً أتاني فقال: ما أصبت أحداً تدخله بينك
وبين عتبة يحكم لك عليها بالمعصية إلا الله تعالى. فانتبهت مذعوراً
وتبت إلى الله تعالى من ساعتي من قول الغزل.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن
رزق قال: أخبرنا عثمان بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن البراء
قال: أنشدني أحمد بن علي بن مرزوق لأبي العتاهية وهو يكيد بنفسه:
يا نفس قد مثلت حا ... لي هذه لك منذ حين
وشككت أني ناصح ... لك فاستملت على الظنون
فتأملي ضعف الحرا ... ك وكَلَّه بعد السكون
وتيقني أن الذي ... بك من علامات المنون
توفي أبو العتاهية في جمادى الآخرة من هذه السنة ببغداد. وقيل: في سنة
ثلاث عشرة، وقبره على نهر عيسى قبالة قنطرة الزياتين.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: حدثني عبد
العزيز بن علي الوراق قال: سمعت عبد الله بن أحمد بن علي المقرئ يقول:
سمعت محمد بن، مخلد العطار يقول: سمعنا إسحاق بن، إبراهيم البغوي يقول:
قرأت على قبر أبي العتاهية:
أدن حتى تسمعي ... اسمعي ثم عي وعي
أنا رهن بمضجعي ... فاحذري مثل مصرعي
عشت تسعين حجة ... ثم فارقت مجمعيِ
ليس زاد سوى التقى ... فخذي منه أو دعي
أحمد بن أبي خالد، أبو العباس. وزير المأمون وكان ذا رأي وفطنة، إلا
أنه كانت له أخلاق وفظاظة، فقال له رجل: والله لقد أعطيت ما لم يعطه
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله لئن لم تخرج مما قلت
لأعاقبنك فقال قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " ولو كنت فظاً
غليظ القلب لانفضوا من حولك " وأنت فظ غليظ القلب، ولا ينفضون من حولك.
وروى إبراهيم بن العباس قال: كنت أكتب لأحمد بن أبي خالد، فدخلت عليه
يوماً فرأيته مطرقاً مفكراً مغموماً، فسألته عن خبره، فأخرج إليِ رقعة،
فإذا فيها إن حظية من أعز جواريه عليه، كان، يختلف عليها غيره، ويستشهد
على ذلك خادمين كانا ثقتين عنده، قال لي: دعوت الخادمين وسألتهما عن
ذلك، فأنكراه، فتهددتهما فأقاما على الإنكار فضربتهما، فاعترفا على
الجارية بكل ما كان في الرقعة وإني لم أذق أمس ولا اليوم شيئاً، وقد
هممت بقتل الجارية. قال: فوجدت مصحفاً بين يديه ففتحته، وكان أول ما
وقعت عيني عليه: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن
تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " الآية.
قال: فشككت أنا في صحة الحديث، وأريته ما خرج به الفأل، وقلت له: دعني
أتلطف في كشف هذا. فقال: افعل، فخلوت بأحد الخادمين ورفقت به وباحثته
عن الأمر، فقال: النار ولا العار، وذكر أن امرأة أحمد بن أبي خالد وجهت
إليه بكيس فيه ألف دينار وسألتَه الشهادة على الجارية وأمرته أن لا
يذكر شيئاً إلا بعد أن يوقع به المكروه لئلا يرتاب به، ويكون أثبت
للخبر، وأحضر الكيس مختوماً بخاتم المرأة، ودعوت الآخر فاعترف بمثل
ذلك، وأمرته أن لا يذكر شيئاً، فأكتب إلى أحمد بالبيان، فما وصل إليه
حتى وردت عليه رقعة الحرة تعلمه أن الرقعة الأولى من فعلها كانت غيرة
عليه من الجارية، وأن جميع ما فيها باطل، وأنها حملت الخادمين على ذلك،
وأنها تائبة إلى الله من هذا الفعل، فجاءته براءة الجارية من كل جهة،
فسُرّ بذلك وزال ما كان به، وأحسن إلى الجارية.
قال أبو بكر الصولي: مات أحمد بن أبي خالد وزير المأمون يوم الاثنين
لعشر خلون من ذي الحجة سنة إحدى عشرة ومائتين، فصلى عليه المأمون، فلما
دُلّيَ في قبره ترحم عليه وقال: كنت والله كما قال الشاعر:
أخو الجد إن جد الرجال وشمروا ... وذو باطل إن كان في القوم باطل
رويم بن يزيد، أبو الحسن المقرئ مولى العوام بن حوشب الشيباني.
كان يسكن نهر القلايين، وله هناك مسجد معروف به كان يقرئ فيه، حدَث عن
الليث بن سعد، روى عن محمد بن سعد كاتب الواقدي، وكان ثقة. توفي في هذه
السنة.
زياد بن يونس بن سعيد بن سلامة بن الحضرمي الإسكندراني
يكنى أبا
سلامة. روى عن مالك، والليث، وابن لهيعة، وقرأ على نافع، وكان طالباً
للعلم، وكان يُسمى سوسة العلم، وهو أحد الأثبات الثقات. توفي بمصر في
هذه لم السنة.
عبد الله بن صالح بن مسلم العجلي الكوفي المقرئ. ولد سنة إحدى وأربعين
ومائة وقرأ على حمزة الزيات، وسمع فضيل بن مرزوز ونصر بن معاوية. وثقه
يحيى، وأخرج عنه البخاري، وكان قاضياً بناحية شيراز. توفي في هذه السنة
وله ست وسبعون سنة.
علي بن الحسين بن واقد المررزي. كان واقد مولى عبد الله بن عامر بن
كريز، سمع علي أباه وأبا حمزة السكري وتوفي في هذه السنة.
موسى بن سليمان أبو سليمان، الجوزجاني. سمع ابن المبارك، وأبا يوسف،
ومحمد. وكان فقيهاً بصيراً بالرأي، يذهب مذهب أهل السُّنّة في القرآن
وكان نعم الرجل، قال أبو حاتم الرازي: كان صدوقَاً.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا الحسين بن علي الصيمري قال: أخبرنا عمر بن إبراهيم المقرئ قال:
حدثنا بكر بن أحمد قال: أخبرنا أحمد بن عطية قال: حدثنا إبراهيم بن
سعيد قال: أحضر المأمون موسى بن سليمان ومعلى الرازي، فبدأ بأبي سليمان
لسنه وشهرته بالورع، فعرض عليه القضاء، فقال: يا أمير المؤمنين، احفظ
حقوق الله في القضاء ولا تول على أمانتك مثلي، فإني والله غير مأمون
الغضب، ولا أرضى نفسي للهّ أن أحكم في عباده. قال: صدقت وقد أعفيناك.
معلى بن منصور، أبو يعلى الرازي. حدَّث عن مالك، والليث بن سعد، وشريك،
وغيرهم، روى عنه ابن المديني وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو خيثمة. وكان
ثقة فقيهاً، أخذ عن أبي يوسف القاضي، طلبوه للقضاء مراراً فأبى أخبرنا
أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد أبن علي، بن ثابت قال:
أخبرنا الصيمري قال: أخبرنا عمر بن إبراهيم المقرئ قال: حدثنا بكر بن
أحمد قال: حدثنا أحمد بن عطية قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد قال: أحضر
المأمون موسى بن سليمان ومعلى الرازي فعرض على موسى القضاء فامتنع،
فأقبل على معلى فقال له مثل ذلك، قال: لا أصلح، قال: ولم؟ قال: إني
رجل، أداين، فأبيت مطلوباً، وطالباً قال نأمر بقضاء دينك وتتقاضى
ديونك، فمَنْ أعطاك قبلنا منه ومَنْ لم يعطك عوضناك ما لك عليه، قال:
ففي شكوك في، الحكم، وفي ذلك تلف أموال الناس، قال: يحضر مجلسك أهل
الدين إخوانك، فما شككت فيه سألتهم عنه، وما صح عندك أمضيته. قال: يا
سبحان الله، أنا أرتاد رجلأ أوصي إليه من أربعين سنة ما أجد من أوصي
أليه فمن أين أجد من يعينني على حقوق الله الواجبة حتى ائتمنه على ذلك
فأعفاه.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرنا الحسن بن
علي الجوهري قال: حدَّثنا محمد بن العباس قال: حدَّثنا أبو بكر بن
الأنباري قال: حدَثنا عمار بن بكار القافلانيِ قال: حدَّثنا محمد بن
إسحاق والعباس بن محمد قالا: سمعنا يحيى بن معين يقول: كان المعلى بن
منصور الرازي يوماً يصلي فوقع على رأسه كور الزنابير، فما التفت ولا
انفتل حتى أتم صلاته، فنظروا فإذا رأسه قد صار هكذا من شدة الانتفاخ.
توفي معلى في هذه السنة وكان ينزل الكرخ في قطيعة الربيع.
ثم دخلت
سنة اثنتي عشرة ومائتين
فمن الحوادث فيها: توجيه المأمون محمد بن حميد الصوسي، لمحاربة بابك،
فمضى على طريق الموصل، وأخذ جماعة من المتغلبة بأذربيجان فبعث بهم إلى
المأمون.
وفيها: خلع أحمد بن محمد العمري المعروف بالأحمر العين باليمن.
وفيها: ولّى المأمون محمد بن عبد الحميد اليمن.
وفيها: أظهر المأمون القول بخلق القرآن، وأن علي بن أبي طالب أفضل
الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في شهر ربيع الأول.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة يكنى أبا حيان، وقيل أبا عبد الله حدث عن
أبيه، وعن مالك بن مغول وعنهما، وكان فقيهاً على مذهب جده، وتولى قضاء
الرصافة سنة أربع وتسعين بعد محمد بن عبد الله الأنصاري، فأقام مدة ثم
انصرف، وولي قضاء البصرة سنة عشر ومائتين لما عزل عنه يحيى بن أكثم،
وأقام به سنة، ثم عزل بعيسى بن أبان.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي، الخطيب قال: أخبرنا، أبو
الطيب الطبري قال: حدًثنا المعافى بن زكريا قال: حدًثنا، محمد بن أحمد
بن إبراهيم الحكمي قال: قال أبو عبد الله محمد بن القاسم: لما عزل
إسماعيل بن حماد عن البصرة شيعوه فقالوا: عففت عن أموالنا وعن دمائنا.
فقال: وعن أبنائكم يعرض بيحيى بن أكثم في اللواط.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي، الخطيب
قال: حدَّثنا الصيمري قال: حدَّثنا محمد بن عمران المرزباني قال:
أخبرنا محمد بن أحمد الكاتب قال: حدًثنا أبو العيناء قال: قال إسماعيل
بن حماد بن أبي حنيفة: ما ورد علي مثل امرأة تقدمت إليّ فقالت: أيها
القاضي، ابن عمي زوجني من هذا ولم أعلم، فلما علمت رددت، فقلت لها:
ومتى رددت؟ قالت: وقت علمت، قلت: ومتى علمت؟ قالت: وقت رددت. فما رأيت
مثلها.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال:
أخبرنا الرقاني قال: حدَّثني محمد بن أحمد بن محمد الآدمي قال: حدَثنا
محمد بن علي الايادي قال: حدَّثنا زكريا بن يحيى الساجي قال: حدَثني
أبو حاتم الرازي قال: حدَثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال: سمعت سعيد بن
موسى الباهلي يقول: سمعت إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة في دار المأمون
يقول: القرآن مخلوق وهو ديني ودين أبي وجدي.
توفي إسماعيل، في هذه السنة.
خلف بن الوليد، أبو جعفر الجوهري. سمع ابن أبي ذئب، وشعبة، وهشيماً.
وروى عنه: أحمد بن حنبل، وانتقل إلى مكة فنزلها.
قال يحيى بن معين: هو ثقة. توفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ثلاث عشرة ومائتين
فمن الحوادث فيها: موت طلحة بن طاهر بخراسان، فولَى المأمون أخاه أبا
إسحاق، الشام ومصر، وولى ابنه العباس بن المأمون الجزيرة والثغور
والعواصم، وأمر لهما ولعبد الله بن طاهر، لكل منهم بخمسمائة ألف دينار،
وولى غسان بن عباد السند.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن يوسف بن القاسم بن صبيح أبو جعفر الكاتب مولى بني عجل كان من
أفاضل كُتَّاب المأمون وأذكاهم، وأفطنهم وأجمعهم للمحاسن، وكان فصيحاً
مليح الخط يقول الشعر، وزر للمأمون بعد أحمد بن أبي خالد.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا علي بن محمد بن بشران قال: أخبرنا الحسين بن صفوان، حدثنا عبد
الله بن أبي الدنيا قال: أخبرنا الحسين بن عبد الرحمن قال: أشرف أحمد
بن يوسف وهو يموت علىِ بستان له على شاطئ دجلة، فجعل يتأمله ويتأمل
دجلة، ثم تنفس وقال متمثلاً:
ما أطيب العيش لو لا موت صاحبه ... ففيه ما شئت من عيب لعائبه
قال: فما أنزلناه حتى مات.
وكانت وفاته في هذه السنة.
أسد بن الفرات بن سنان، أبو عبد الله الفقيه. قاضي إفريقية مغربي صاحب
الكتب على مذهب مالك المعروفة بالأسدية. ولد سنة أربعين ومائة، وكان
عنده الموطأ عن مالك، وأقام بالكوفة، فكتب عن أهلها وكتب بالري عن جرير
بن عبد الله بن عبد الحميد.
وتوفي بصقلية في ربيع الآخر من هذه السنة. وهو محاصر بسرقوسة، وهو أمير
تلك السرية.
أسود بن سالم، أبو محمد العابد.
سمعِ حماد
بن زيد، وسفيان بن عيينة، وإسماعيل بن علية، وغيرهم، وكان ثقة ورعاً
فاضلاً. وكان بينه وبين معروف الكرخي مؤاخاة ومودة أخبرنا عبد الرحمن
بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثنا عبد الله بن أبي
الحسن بن محمد الخلال قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عمران. قال أخبرنا
أبو بكر بن مجاهد قال: حدثنا أبو عيسى الختلي قال: حدثنا أبو يوسف قال:
كنا عند أسود بن سالم وقد كان يستعمل من الماء شيئاً كثيراً ثم ترك ذاك
فجاء رجل فسأله عن ذلك فقال: هيهات ذهب ذاك، كنت ليلة باردة قد قمت في
السحر فأنا استعمل ما كنت أستعمله، فإذا هاتف هتف بي فقال: يا أسود ما
هذا يحيى بن سعيد الأنصاري حدثنا عن عن سعيد بن المسيب إذا جاوز الوضوء
ثلاثَاً لم ترتفع إلى السماء. قال: قلت: أجني؟ ويحك مَنْ تكون؟ قال: ما
هو إلا ما تسمع. فقلت: مَنْ أنت عافاك الله؟ قال: يحيى بن سعيد
الأنصاري قال: حدثنا عن سعيد بن المسيب إذا جاوز الوضوء ثلاثاً لم
ترتفع إلى السماء. قال: قلت: لا أعود لا أعود، فأنا اليوم يكفيني كف من
ماء.
أخبرنا منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو القاسم
بن عبد المنذر القاضي قال: حدثنا عبد الصمد بن علي الطوسي قال: حدثنا
أبو جعفر أحمد ين زياد قال: حدثني أحمد بن الحاكم الصاغاني قال: جاء
رجل إلى ابن حميد فقال: إني اغتبت أسود بن سالم، فأتيت في منامي فقيل
لي: تغتاب ولياً من أولياء الله لو ركب حائطاً ثم قال له سر لسار.
بشر بن أبي الأزهر القاضي النيسابوري واسم أبي الأزهر: يزيد، وكنية
بشر: أبو سهل. كان من أعيان فقهاء الكوفيين وزهادهم. سمع ابن المبارك،
وابن عيينة، وأبا معاوية، وغيرهم. وتفقه على أبي يوسف.
أخبرنا زاهر بن طاهر قال: أخبرنا أحمد بن الحسين البيهقي قال: أخبرنا
الحاكم أبو عبد الله النيسابوري، أخبرني محمد بن الحسن بن الحسين بن
منصور قال حدثنا أبي قال: حدثنا محمد بن عبد الوهاب قال: سمعت بشر بن
أبي الأزهر وسأله رجل عن مسألة فأخطأ فيها فقال: كنت هممت أن آتي
الطاهري - يعني عبد الله بن طاهر - فأسأله أن يأمر الحراس فينادوا في
البلد في الناس: مَنْ سأل بشر بن أبي الأزهر عن مسألة في النكاح فإنه
قد أخطأ فيها، فقال له رجل: أنا أعرف الرجل الذي سألك عن المسألة هو
فيِ مكان كذا وكذا. فأتى به فرجع عن قوله ذلك وبصره بالصواب. توفي في
رمضان في هذه السنة.
ثمامة بن أشرس أبو معين النميري. أحد المعتزلة البصريين، ورد بغداد،
واتصل بالرشيد وغيره من الخلفاء، وحكى عنه الجاحظ وغيره.
وروى أبو بكر الصولي قال: حدثني المقدمي قال: حدثنا الحارث بن أبي
أسامة قال: حدثني الوليد بن عباس قال: خرج ثمامة بن أشرس من منزله بعد
المغرب وهو سكران، فإذا هو بالمأمون قد ركب في نفر، فلما رأى ثمامة عدل
عن طريقه وبصر به المأمون فضرب كفل دابته وحاذاه، فوقف ثمامة، فقال له
المأمون: ثمامة، قال: إي واللهّ، قال: سكران أنت؟ قال: لا. قال:
أفتعرفني؟ قال: إي والله،. قال: مَنْ أنا؟ قال: لا أدري، فضحك المأمون
حتى انثنى عن دابته، قال: عليك لعائن الله، قال: تترى يا أمير
المؤمنين، فعاد في الضحك.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، بن ثابت
قال: أخبرنا الصيمري قال: حدثنا أبو عبيد الله المرزباني قال: أخبرني
الصولي قال: قال الجاحظ قال ثمامة: دخلتَ إلى صديق ليِ أعوده وتركت
حماري على الباب فخرجت، وإذا فوقه صبي، فقال: حفظته لك، قلت: لو ذهب
كان أعجب إلي قال: فاحسبه ذهب وهبه لي واربح شكري، فلم أدر ما أقول.
قال
المرزباني وأخبرني أبو بقر الجرجاني قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد
الحسن بن رجاء: أن الرشيد لما غضب على ثمامة دفعه إلى سلام الأبرش،
وأمره أن يضيق عليه، ويدخله بيتاً ويطبق عليه ويترك فيه ثقباً، ففعل
دون ذلك، وكان يدس إليه الطعام، فجلس سلام عشية يقرأ في المصحف فقرأ: "
ويل يومئذٍ للمكذبين " فقال له ثمامة: إنما هو للمكذبين، وجعل يشرحه
ويقول: المكذِّبون هم الرسل، والمكذبون هم الكفار، فقال: قد قيل لي إنك
زنديق ولم أقبل، ثم ضيق عليه الضيق! ثم رضي الرشيد عن ثمامة وجالسه.
فقال: أخبروني مَنْ أسوأ الناس حالاً فقال واحد شيئاً. قال ثمامة: فبلغ
القول إليَ، فقلت: عاقل يجري جيهم جاهل فتبينت الغضب في وجهه، فقلت: يا
أمير المؤمنين، ما أحسبني وقعت بحيث أردت؟ قال: لا والله فاشرح لي،
فحدثته بحديث سلام، فجعل يضحك حتى استلقى، وقال: صدقت والله، لقد كنت
أسوأ الناس حالاً.
قال أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي: قتل ثمامة بن أشرس النميري
وهو زعيم المعتزلة بين الصفا والمروة من أجل بدعة ومن أجل سعيه في دم
أبي أحمد الخزاعي، قتله بنو خزاعة.
عبد الله بن داود الهمذاني. تحوَّل من الكوفة فنزل الخربية بناحية
البصرة، وكان ثقة ناسكاً، سمع الأعمش وغيره.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: حدثني أبو
القاسم الأزهري قال: حدثنا عبد الله بن عثمان بن يحيى الدقاق قال:
حدثنا إسماعيل الحطبي قال: سمعت أبا مسلم إبراهيم بن عبد الله يقول:
كتبت الحديث وعبد الله بن داود حي، ولم أقصده لأني كنت في بيت عمتي
ولها بنون أكبر مني، فلم أرهم، فسألت عنهم، فقالوا: قد مضوا إلى عبد
اللهّ بن داود، فأبطأوا ثم جاءوا يذمونه، وقالوا: طلبناه في منزله فلم
نجده، وقالوا: هو في بُسَيْتِينَة له بالقرب فقصدناه، فإذا هو فيها
فسلمنا عليه وسألناه أن يحدثنا، فقال: متعت بكم أنا في شغل عن هذا هذه
البسيتينة لي فيها معاش وتحتاج أن تُسقى، وليس لي مَنْ يسقيها. فقلنا
نحن ندير الدولاب ونسقيها قال: فافعلوا، قال: فتسلحنا وأدرنا الدولاب
حتى سقينا البستان، ثم قلنا له: حدثنا الآن، قال: متعت بكم، ليس لي نية
في أن أحدثكم، وأنتم كان لكم نية تؤجرون عليها.
توفي الجرمي في شوال هذه السنة.
عبد الله بن سنان الهروي. نزيل البصرة، حدَث عن ابن المبارك والفضيل،
وسفيان بن عيينة.
روى عنه: ابن المديني، وابن خيثمة، وأبو زرعة. وقال أبو داود: هو ثقه.
توفي في هذه السنة.
علي بن جبلة بن مسلم أبو الحسن الشاعر، المعروف بالعَكوك الضرير وُلد
سنة ستين ومائة، وذهب بصره في الجدري، وهو ابن سبع سنين، مدح المأمون
وأبا دلف وندرت من شعره نوادر، وسارت عنه أمثال. روى عنه: الجاحظ.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرني علي بن أيوب الكاتب قال: أخبرنا محمد بن عمران المرزباني قال:
حدثني علي بن هارون قال: أخبرني أبي قال: من مختار شعر علي بن جبلة:
لو أن لي صبرها أو عندها جزعي ... لكنت أعلم ما آتي وما أدع
لا أحمل اللوم فيه والغرام بها ... ما حمل الله نفساً فوق ما تسع
إذا دعى باسمها داع فأسمعني ... كادت له شعبة من مهجتي تقع
ولما مدح أبا دلف بقصيدته التي أولها:
زاد زور الغَي عن صدره ... وارعوى واللهو من وطره
وأبت إلا البكاء له ... ضاحكات الشيب في شعره
جبل عزت مناكبه ... آمنت عدنان في ثغره
إنما الدنيا أبو دلف ... بين ناديه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره
يا دواء الأرض إن فسدت ... وبديل اليسر من عسره
كل من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره
مستعين منه مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره
ولما أنشد هذه القصيدة أمر له بمائة ألف درهم وبكى وقال: لم أقض حقه
والله لو أعطيته مائة ألف دينار ما كنت قاضيه حقه.
قال علي بن جبلة: وكنت لا أدخل على أبي دلف إِلا يلقاني ببر فلما أفرط
انقطعت عنه حياء منه، فبعث إلي أخاه يقول: لم هجرتنا؟ فكتبت إليه:
هجرتك لم
أهجرك من كفر نعمة ... وهل يرتجى نيل الزيادة بالكفر
ولكنني لما أتيتك زائراً ... فأفرطت في بري عجزت عن الشكر
من الآن لا آتيك إلا مسلماً ... أزورك في الشهرين يوماً وفي الشهر
فإن زدتني براً تزايدت جفوةً ... ولم تلقني طول الحياة إلى الحشر
فلما وصلت إليه كتب إلي:
ألا رُب ضيف طارق قد بسطته ... وآنسته قبل الضيافة بالبشر
أتاني يرجيني فما حال دونه ... ودون القرى من نائلي عنده ستري
وجدت له فضلاً علي بقصده ... إلي وبراً يستحق به شكري
فلم يَعْدُ أن أدنيته وابتدأته ... ببشر وإكرام وبر على بر
وزودته مالاً قليلاً بقاؤه ... وزودني مدحاً يدوم على الدهر
ثم وجه الأبيات مع وصيف يحمل كيساً فيه ألف دينار.
ومدح حميد الطوسي فبالغ في مدحه، فقيل له: ما بلغت في مدح أحد، ما بلغت
في مدح حميد فقال: وكيف لا أفعل؟ وأدنى ما وصل إلي منه أني أهديت إليه
قصيدة في يوم نيروز فسر بها وأمر أن يحمل إلي كلما أهدي له، فحمل إلي
ما قيمته مائة ألف درهم.
وقد روينا أن المأمون لما بلغه ما بلغ فيه علي، بن جبلة من مدح أبي دلف
طلبه فجيء به، فقال له: فضلت أبا دلف لم على العرب كلها، وأدخلت في ذلك
قريشاً وآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعترته، وأنا لا أستحل دمك
بهذا بل بكفرك في شعرك حيث تقول:
أنت الذي تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدهر من حال إلى حال
وما مددت مدى طرف إلى أحد ... إلا قضيت بأرزاق وآجال
ما يقدر على ذلك إِلا الله عز وجل سُلوا لسانه من قفاه ففُعل به ذلك.
والصحيح أنه هرب من المأمون فمات في تواريه بغداد في هذه السنة، ولم
يقدر عليه.
علي بن إسحاق، أبو الحسن السلمي ثم الداركاني. وهي قرية بمرو ينزلها
الحاج إذا خرجوا من مرو.
وكان من أصحاب ابن المبارك. وروى عنه أحمد بن حنبل. أو كان ثقة صدوقاً.
توفي في هذه السنة.
محمد بن سابق، أبو جعفر وقيل: أبو سعيد البزاز، مولى بني تميم. حدث عن
مالك بن مغول وغيره. روى عنه: أحمد بن حنبل وأبو خيثمة، وعباس الدوري
في آخرين، وقد اختلفوا فيه.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: أخبرني الصيمري قال:
حدثنا علي بن الحسن الداري قال: حدثنا محمد بن الحسين الزعفراني قال:
حدثنا أحمد بن زهير قال: سئل يحيى بن معين، عن محمد بن سابق فقال:
ضعيف.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا الخطيب قال: حدثنا هبة الله بن الحسن بن
منصور قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن القاسم قال: أخبرنا محمد بن
أحمد بن يعقوب قال: أخبرنا جدي قال: محمد بن سابق كان ثقة صدوقاً.
قال المصنف: وعلى هذا الأكثرون في توثيقه.
توفي في هذه السنة. وقيل: في سنة أربع عشرة.
محمد بن يوسف، أبو عبد الله الفريابي. روى عن سفيان، والأوزاعي،
ورائدة. وسكن قيسارية. وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة.
روى السري
بن معاذ أمير الري قال: كنت مع أبي وكان قائداً من قواد عبد الله بن
طاهر وأنا غلام فوجه عبد اللهّ بن طاهر إلى ناحية الشام فخرج أبي فكنت
معه، وكان قريباً من شهر رمضان، فقال عبد الله بن طاهر: ها هنا أحد من
العلماء نسأله عن الصيام والإفطار؟ فأنا على ظهر سفر، فقيل له: ها هنا
بالقرب منك محمد بن يوسف الفريابي، صاحب سفيان الثوري، قال: فضرب
بعسكره إلى باب داره. قال: وكان له حاجبان أحدهما عزير، والأخر ميكال،
وكانا على مقدمته، فتقدما إلى الباب، فأومأ إليهما عبد الله بن طاهر أن
يرفقا في قرع الباب، فقرعا ثم وقفا ملياً، فخرجت جارية. تخدم الفريابي،
فقالا لها: قولي للشيخ الأمير عبد الله بن طاهر بالباب، قال: فمضت، ثم
أطالت، ثم جاءت فقالت: يقول لكم الشيخ ما حاجته؟ قال: فتذمرا فأومأ
إليهما عبد الله بن طاهر أن اسكتا، فقال عبد الله بن طاهر: قولي للشيخ:
أنا على ظهر سفر، وقد أظلنا شهر رمضان، فما ترى في الصيام أو الإفطار؟
قال: فمضت، ثم رجت بعد هوي فقالت: يقول لكم الشيخ إن كنتم عنى سفر في
طاعة الله فأنتم مخيرون بين الصيام والإفطار، وإن كنتم على سفر في
معصية الله فلا تجمعوا بين العصيان والإفطار، فلما انصرفا نظر عبد الله
بن طاهر إلى عزير وميكال، فقال: هذا العزّ الذي نحن فيه.
ثم دخلت
سنة أربع عشرة ومائتين
فمن الحوادث فيها: خروج بلال الضبابي شارياً، فشخص المأمون إلى
العَلْث، ثم رجع إلى بغداد، ووجه ابنه عباساً في جماعة من القواد، فيهم
هارون بن أبي خالد، فقتله هارون.
وفيها: خرج عبد الله بن طاهر إلى الدينور، فبعث المأمون إليه إسحاق بن
إبراهيم، ويحيى بن أكثم يخيرانه بين خُراسان والجبال وأرمينية والجبال
وأذْربيجان، ومحاربة بابك، فاختار خراسان، فشخص إليها.
وفيها: ولي علي بن هشام الجبل، وقم، وأصبهان، وأذربيجان، وعُزل عكرمة
بن طارق عن قضاء الشرقية.
وحج بالناس في هذه السنة إسحاق بن العباس بن محمد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسحاق بن حسان أبو يعقوب الشاعر المعروف بالخريمي أصله من خُراسان من
أبناء السغد، واتصل بخريم بن عامر المري فنسب إليه، وقيل: بل كان
اتصاله بعثمان بن خريم وكان عثمان قائداً جليلاً وسيداً شريفاً فنسب
إليه.
وأبو خريم الموصوف بالناعم، وأما يعقوب فشاعر محسن وكان يتدين.
قال أبو حاتم السجستاني: هو أشعر المولدين. روى عنه الحافظ.
حدثنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال أخبرني
علي بن أيوب القمي قال: حدثنا محمد بن عمران الكاتب قال: أخبرنا الصولي
قال: أنشدني عون بن محمد لأبي يعقوب الخريمي:
باحت ببلواه جفُونُه ... وجرتْ بأدمعُهِ عيونه
لما رأى شيئاً علاه ... ولم يَحُن في الغد حينه
فعلا على فقد الشباب ... وفقد من يهوى أنينه
ما كان أنجح سعيه ... وشبابه فيه مُعينه
واللهويحسن بالفتى ... ما لم يكن شيب يشينه
الحسين بن محمد بن بهرام، أبو محمد التميمي المؤدب، مروروذي الأصل. كان
ببغداد، وحدث عن جماعة، وروى عنه: أحمد بن حنبل، وعباس الدوري، والحربي
وكان ثقة.
توفي في هذه السنة. وقيل: في سنة ثلاث عشرة.
محمد بن عبد الله بن قيس، أبو محرز الكناني. كان فاضلاً، ولي قضاء
إفريقية فامتنع، فأمر الأمير أن يُحمل بضيعته حتى يقعد في الجامع لينظر
بين الناس، فلما قعد، نظر بين الخصوم. سمع مالك بن أنس.
وتوفي في هذه السنة.
محمد بن حميد الطوسي. قتله بابك يوم السبت لخمس بقين من ربيع الأول،
وقتل جماعة كانوا معه في عسكره.
ثم دخلت
سنة خمس عشرة ومائتين
من الحوادث:
أن
المأمون شخص من بغداد لغزو الروم في يوم السبت لثلاث بقين من المحرم،
وكان ارتحاله من الشماسيّة إلى البرَدان يوم الخميس بعد صلاة الظهر لست
بقين من المحرم، واستخلف حين رَحَل عن بغداد عليها إسحاق بن إبراهيم بن
مصعب، وولاه مع ذلك السواد وحُلْوان وكُور دِجْلة، فلما صار المأمون
بتَكْريت قدم عليه محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن
الحسين بن عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، من المدينة في صفر، فأجازه،
وأمره أن يدخل بابنته أم الفَضْل، وكان زوَّجها منه، فأدخلت عليه في
دار أحمد بن يوسف التي على شاطئ دجلة، فأقام بها، فلما جاءت أيام الحج
خرج بأهله وعياله حتى أتى مكة، ثم أتى منزله بالمدينة، فأقام بها ثم
سلك المأمون طريق الموصل، حتى صار إلى منبج، ثم إلى دابق، ثم إلى
إنطاكية، ثم إلى المصّيصة، ثم خرج منها إلى طَرَسُوس، ثم دخل إلى بلاد
الروم، للنصف من جمادى الأولى، فافتتح حصناً فمن على أهله، ثم أقام على
حصن فتحه عنوة، وأمر بهدمه، وذلك يوم الأحد لأربع بقين من جمادى الأولى
ووجه أشناس إلى حصن، فأتاه برئيسه، ووجه عجيفاً إلى صاحب حصن سنان،
فسمع وأطاع وشخص المأمون إلى دمشق.
وولى علي بن هشام محاربة الخرمية، وندب عيسى بن يزيد الجلوذي في هذه
السنة إلى محاربة الزط، وهم أول مَنْ سكن البطائح، والبطائح هي مغيص
دجلة والفرات، وهما نهرا العراق، وكان الزط سبعة وعشرين ألفاً ومائتين،
منهم المقاتلة اثنا عشر ألفاً فلما استوطنوا البطائح قطعوا الطريق
ومنعوا المجتازين ما بين البصرة وواسط، فاستغاث الناس إلى المأمون،
فندب إليهم عيسى بن يزيد، فجرت بينهم وبينه وقائع، ولم يظفر منهم
بطائل، فاستظهروا عليه، وعادوا إلى ما كانوا عليه من الفساد، وقطع
الطريق، فندب المأمون غيره، فلم يظفر منهم بشيء.
أخبرتنا شهدة بنت أحمد قالت: أخبرنا جعفر بن أحمد السراج قال: حدثنا
أبو علي محمد بن الحسين الجازري قال: حدثنا المعافى بن زكريا قال:
حدثنا الحسين ابن القاسم الكوكبي قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك
النحوي قال: حدثنا يحيى بن أبي حماد، عن أبيه قال: وصفت للمأمون جارية
بكل ما توصف به امرأة من الكمال والجمال، فبعث في شرائها، فأتي بها،
فلما هَم ليلبس درعه ذكرها وخطرت بباله، فأمر فأخرجت إِليه، فلما نظر
إِليها أعجب بها وأعجبت به، فقالت: ما هذا؟ قال: أريد الخروج إلى بلاد
الروم. قالت: قتلتني والله يا سيدي، وحدرت دموعها على خدها كنظام
اللؤلؤ، وأنشدت تقول:
سأدعو دعوة المضطر رباً ... يثيب على الدعاء ويستجيب
لعل الله أن يكفيك حرباً ... ويجمعنا كما تهوى القلوب
فضمها المأمون إلى صدره، وأنشأ متمثلاً يقول:
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها ... وإذْ هي تدري الدمع منها الأنامل
صبيحة قالت في العتاب قتلتني ... وقتلي بما قالت هناك تحاول
ثم قال لخادمه: يا مسرور، احتفظ بها، وأكرم محلها، وأصلح لها كل ما
تحتاج إليه من المقاصير والخدم والجواري إلى وقت رجوعي، فلولا قول
الأخطل:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار
وخرج فلم يزل يتعاهدها، ويصلح لها ما أمر به، فاعتلت الجارية علة شديدة
أشفق عليها منها، وورد نعي المأمون، فلما بلغها ذلك تنفست الصعداء
وماتت. وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن
محمد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسحاق ابن عيسى بن نجيح أبو يعقوب المعروف بابن الطباع سمع مالك بن
أنس، وشريك بن عبد الله وغيرهما. روى عنه: أحمد بن حنبل وكان صدوقاً.
وانتقل في آخر عمره إلى أدنه، فأقام بها حتى توفي في ربيع الأول من هذه
السنة.
سعيد بن أوس بن ثابت، أبو زيد الأنصاري. كان عالماً بالنحو واللغة،
وحدَث عن شعبة، وأبي عمرو بن العلاء، روى عنه: أبو عبيدة وغيره، وكان
ثقة ثبتاً من أهل البصرة، وقدم بغداد.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا محمد
بن عبد الواحد بن علي البزاز قال: أخبرنا محمد بن عمران بن موسى الكاتب
قال: حدثني علي بن يحيى قال: حدَثنا محمد بن عباس قال: حدثنا عمي الفضل
بن محمد قال: حدثني أبو عثمان المازني قال: كنا عند أبي زيد، فجاء
الأصمعي فأكب على رأسه وجلس وقال: هذا عالمنا ومعلمنا منذ ثلاثين سنة
فبينا نحن على ذلك إذ دخل خلف الأحمر، فأكب على رأسه وجلس وقال: هذا
عالمنا ومعلمنا منذ عشر سنين.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد
بن أحمد بن محمد بن يعقوب قال: حدثني محمد بن عبيد الله بن الفضل بن
قفرجل، قال: حدثنا محمد بن يحيى النديم قال: حدثنا محمد بن يونس قال:
حدثنا روح بن عبادة قال؟ كنا عند شعبة فضجر من الحديث، فرمى بطرفه،
فرأى أبا زيد في أخريات الناس، فقال: يا أبا زيَد:
أستعجمت دارُ ميٍّ ما تكلمنا ... والدار لو كلمتنا ذات أخبار
إلي يا أبا زيد، فجعلا يتناشدان الأشعار. فقال بعض أصحاب الحديث لشعبة:
يا أبا بسطام، نقطع إليك ظهور الإبل لنسمع منك حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم فتدعنا وتقبل على الأشعار؟ قال: فرأيتَ شعبة قد غضب غضباً
شديداً، ثم قال: يا هؤلاء أنا أعلم بالأصلح لي أنا واللّه الذي لا إله
إلا هو أسلم مني في ذلك.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا محمد
بن عبد الواحد قال: أخبرنا محمد بن عمران الكاتب قال: حدثني محمد بن
أحمد الجوهري قال: حدثنا العنزي قال: سمعت المازني يقول: سمعت أبا زيد
النحوي يقول: وقفت على قصَاب وقد أخرج بطنين سمينينِ موفورين فعلقهما،
فقلت: بكم البطنان؟ فقال: بمصفعان يا مضرطان فغطيت رأسي وفرَرْتُ لئلا
يسمع الناس فيضحكوا. توفي أبو زيد في هذه السنة بالبصرة وله ثلاث
وتسعون سنة، وقيل: سنة أربع عشرة.
سهل بن محمود بن حليمة، أبو السري. حدَث عن سفيان بن عيينة، روى عن
عباس الدوري، وكان محدثاً ثقة ناسكاً. وتوفي في هذه السنة.
علي بن الحسن بن شقيق بن محمد بن دينار، أبو عبد الرحمن العبدي المروزي
قدم بغداد، وحدًث بها عن إبراهيم بن طهمان وإبراهيم بن سعد، وحماد بن
زيد، وشريك، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، وكان يحفظ كتب ابن
المبارك وشاركه في كثير من رجاله.
روى عنه: أحمد بن حنبل، ويحيى، وأبو خيثمة وكان جامعاً.
وتوفي بمرو في هذه السنة.
قبيصة بن عقبة، أبو عامر السوائي. من بني عامر بن صعصعة، سمع الثوري،
وحماد بن سلمة، روى عنه: أحمد ابن حنبل، وغيره وكان رجلاً صالحاً ثقة
كثير الحديث حافظاً.
تكلموا في سماعه عن سفيان الثوري، فقالوا: كان حينئذٍ صغيراً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو
منصور محمد بن عيسى البزاز قال: أخبرنا صالح بن أحمد بن محمد الحافظ
قال: سمعت القاسم بن أبي صالح يقول سمعت جعفر بن حمرويه يقول: كنا على
باب قبيصة ومعنا دلف أبو عبد العزيز ومعه الخدم، فصار إلى قبيصة، فدق
عليه الباب، فأبطأ قبيصة بالخروج فعاوده الخدم، وقيل: ابن ملك الجبل،
على الباب وأنت لا تخرج إليه؟ قال: فخرج وفي طرف إزاره كسر من الخبز
وقال: رجل قد رضي من الدنيا بهذا، فما يصنع بابن ملك الجبل، والله لا
حدثته. فلم يحدثه.
توفي قبيصة فيِ هذه السنة. وقيل: في سنة عشرين والأول أصح.
محمد بن عبد الله بن المثنى بن أنس بن مالك، أبو عبد الله الأنصاري ولد
سنة ثماني عشرة ومائة. سمع أباه وسليمان التيمي، وحميداً الطويل، ومالك
بن دينار، وغيرهم.
روى عنه: أبو الوليد الطيالسي، وقتيبة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، وكان
ثمة، وقد جالس في الفقه سوار بن عبد الله، وعبد الله بن حسن العنبري،
وعثمان البتي، وأبا يوسف، وزفر.
وولي قضاء البصرة أيام الرشيد، وقدم بغداد فولي بها القضاء والمظالم،
وحدث بها، ثم رجع إلى البصرة فمات بها في رجب هذه السنة وهو ابن سبع
وتسعين سنة، وقيل توفي سنة أربع عشرة.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
الأزهري قال: أخبرنا محمد بن العباس قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد
الكندي قال: أخبرنا أبو موسى محمد بن المثنى قال: سمعت محمد بن عبد
الله الأنصاري يقول: كان يأتي عليً قبل اليوم عشرة أيام لا أشرب فيها
الماء واليوم أشرب كل يومين، فقيل له: كنت تشرب اللبن؟ قال: اللبن مثل
الماء، قيل له: فعسل؟ قال: لا.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت،
أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن علي الدقاق وأبو الحسن علي بن أحمد بن
المؤدب قالا: حدثنا أحمد بن إسحاق النهاوندي، حدثنا الحسن بن عبد
الرحمن بن خلاد قال: حدثني عبد الله بن محمد بن أبان حدثنا القاسم بن
نصر المخرمي. حدثنا سليمان بن داود قال: وجَّه المأمون إلى محمد بن عبد
الله الأنصاري خمسين ألف درهم وأمره أن يقسمها بين الفقراء بالبصرة،
وكان هلال بن مسلم يتكلم على أصحابه، قال الأنصاري: وكنت أنا أتكلم على
أصحابي، فقال هلال: هي لي ولأصحابي، وقلت أنا: هي لي ولأصحابي.
فاختلفنا. فقلت لهلال: كيف تتشهد؟ فقال هلال: أو مثلي يُسال عن التشهد؟
فتشهد على حديث ابن مسعود، فقال الأنصاري مَنْ حَدًثك بهذا ومن أين ثبت
عندك؟ فبقي هلال لم يجبه، فقال الأنصاري: تصلي كل يوم وليلة خمس صلوات
وتردد فيها هذا الكلام وأنت لا تدري مَنْ رواه عن نبيك صلى الله عليه
وسلمِ؟ قد باعد الله بينك وبين الفقه، فقسمها الأنصاري في أصحابه.
مكي بن إبراهيم بن بشر بن فرقد أبو السكن البرجمي الحنظلي التميمي من
أهل بلخ، سمع بهز بن حكيم، وابن جريج، ومالك بن أنس، روى عنه: أحمد بن
حنبل، والقواريري، والبخاري والحسن بن عرفة، وغيرهم. وكان ثقة ثبتاً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا عبيد الله بن عمر الواعظ قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الله بن
عمرو العرمكي قال: سمعت عبد الصمد بن الفضل يقول: سمعت مكي يقول حججت
ستين حجة، وتزوجت ستين امرأة، وجاورت بالبيت عشر سنين، وكتبت عن سبعة
عشر نفساً من التابعين، ولو علمت أن الناس يحتاجون إلى ما كتبت ما كتبت
دون التابعين عن أحد.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني
الحسن بن محمد بن علي أبو الوليد، حدثنا محمد بن أحمد بن سليمان
الحافظ، حدثنا أبو نصر أحمد بن نصر بن أشكاب قال: سمعت الحسن بن أحمد
بن مالك الزعفراني يقول: سمعت عمر بن مدرك يقول: سمعت مكي بن إبراهيم
يقول: قطعت البادية من بلخ إلى مكة حاجاً خمسين مرة، ودفعت في كراء
بيوت مكة ألف دينار ومائتي دينار ونيفاً.
توفي مكي ببلخ في نصف شعبان من هذه السنة، وقد قارب المائة سنة.
الوليد بن أبان الكرابيسي. أحد المتكلمين، وهو أستاذ حسين الكرابيسي.
أخبرنا عبد الرحمن محمد القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن
ثابت الخطيب قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى بن عبد العزيز البزاز
قال: حدثنا صالح بن أحمد بن محمد الحافظ قال: أخبرنا أحمد بن عبيد بن
إبراهيم قال: حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث قال: سمعت أحمد بن
سنان يقول: كان الوليد الكرابيسي خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه:
تعلمون أن أحداً أعلم بالكلام مني؟ قالوا: لا، قال: فتتهموني؟ قالوا:
لا، قال: إِني أوصيكم، تقبلون؟ قالوا: نعم. قال: عليكم بما عليه أصحاب
الحديث، فإني رأيت الحق معهم، لست أعني الرؤساء ولكن هؤلاء الممزقين
ألم تر أحدهم يأتي إلى الرئيس منهم فيخطئه ويهجيه.
قال أبو بكر بن الأشعث: كان أعرف الناس بالكلام بعد حفص القرد
الكرابيسي وكان حسين الكرابيسي قد تعلم منه الكلام.
ثم دخلت
سنة ست عشرة ومائتين
فمن الحوادث فيها: رجوع المأمون إِلى أرض الروم، وفي سبب ذلك قولان:
أحدهما: أنه ورد عليه الخبر بقتل ملك الروم قوماً من أهل طرسوس،
والمصيصة زهاء ألف وستمائة، فرجع فدخل أرض الروم يوم الاثنين لإحدى
عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، فأقام بها إلى نصف شعبان.
والثانيِ:
أن تَوفيل بن ميخائيل كتب إليه، فبدأ بنفسه، فلم يقرأ الكتاب وخرج،
فوافته رسل توْفيل بأدَنة، ووجه خمسمائة رجل من أسرى المسلمين، فنزل
المأمون فيِ أرض الروم على حصن، فخرج على صلح، وصار إلى هرقلة، فخرج
على صلج، ووجه أخاه أبا إسحاق، ففتح ثلاثين حصنا ومطمورة، ووجٌه يحيى
بن أكثم، فأغار وقتل وحرق، وأصاب سبياً، ثم ارتحل المأمون إلى دمشق.
وفي هذه السنة: خرج عَبْدُوس الفِهْري فوثب بمَنْ تبعه على عمّال أبي
إسحاق بن الرشيد، فقتل بعضهم، وذلك في شعبان، فشخص المأمون من دمشق يوم
الأربعاء لأربع عشرة بقيت من ذي الحجة إلى مصر.
وفيها: كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير
إذا صلوا فكانوا إذا صلوا وكانوا إذا قضوا المكتوبة قاموا قياماً،
فكبروا ثلاث تكبيرات، وبدأوا بذلك في مسجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، بالمدينة، والرصافة يوم الجمعة لأربع عشرة لي بقيت من رمضان.
وفيها: غضب المأمون على عليّ بن هشام، فوجه إليه عنبسة بن عجيف، وأحمد
بن هشام وأمر بقبض أمواله، وسلاحه.
وفيها: هرب جعفر بن داود القمي إلى قم وخلع بها.
واختلفوا بمن حج بالناس في هذه السنة، فقيل سليمان بن عبد الله بن
سليمان ابن علي بن عبد اللهّ بن عباس وقيل: عبد الله بن عبيد الله بن
العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان المأمون ولاه اليمن،
وجعل إليه ولاية كلّ بلدة دخلها حتى يصل إلى اليمن، فخرج من دمشق حتى
قدم بغداد، فصلى بالناس ببغداد يوم الفطر وشخص منها يوم الاثنين لليلة
خلت من ذي القعدة، فأقام الحج للناس.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد
المطلب، أبو الحسن كان من وجوه بني هاشم وأفاضلهم، وكان طوالاً من
الرجال يخضب بالحناء.
وتوفي ببغداد في هذه السنة.
الحسن بن سوار، أبو العلاء البغوي. حدَث عن الليث والمبارك بن فضالة،
روى عنه: أحمد بن حنبل، وأبو حاتم الرازي، وكان ثقة. توفي بخراسان.
الحسين بن إبراهيم بن الحر، أبو علي يلقب: أشكاب. سمع حماد بن زيد
وشريك بن عبد الله، روى عنه: عباس الدوري، وكان ثقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرني الأزهري قال: حدثنا محمد بن العباس قال: أخبرنا أحمد بن معروف
قال: أخبرنا الحسين بن الفهم قال: حدثنا محمد بن سعد قال: الحسين بن
إبراهيم بن الحر من أبناء أهل خراسان من أهل نسا، وكان أبوه فيمن خرج
في دعوة آل العباس مع أسد بن عبد الرحمن الذي ظهر بنسا، وسوّد، وولي
أسد أصبهان سنة خمس وأربعين ومائة، ونشأ الحسين ببغداد، وطلب الحديث،
ولزم أبا يوسف القاضي، فاتصل بالوالي، ثم قعد عنهم، فلم يدخل في شيء من
القضاء ولا غيره، فلم يزل ببغداد، يؤتى في الحديث والفقه، إلى أن مات
سنة ست عشرة ومائتين في خلافة المأمون، وهو ابن إحدى وسبعين سنة.
زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور وتكنى أم جعفر وأمة العزيز وُلدت
في زمان المنصور، وكان يرقصها ويقول: أنت زبدة وأنت زبيدة، فغلب ذلك
الاسم عليها، وهي زوجة هارون الرشيد، وأم الأمين وليس في بنات هاشم
عباسية ولدت خليفة إلا هي، وكان الرشيد قد شكى إلى عبد الله بن مصعب
الزبيري أن زبيدة لا تحمل منه، فقال: أغرها فإن إبراهيم الخليل عليه
السلام، كانت عنده سارة فلم تحمل منه، فحملت هاجر، فغارت فحملت بإسحاق
عليه السلام، فغارت زبيدة من مراجل، فحملت بالأمين، وكانت معروفة
بالخير والأنفال على العلماء والفقر ولها آثار كثيرة في طريق مكة،
والمدينة، والحرمين، وساقت الماء من أميال غلغلته بين الحل والحرم،
ووقفت أموالها على عمارة الحرمين.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: عبد
العزيز بن علي الوراق قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عمران قال: حدثنا عبد
الله بن سليمان قال: حدثنا هارون بن سليمان قال: أخبرنا رجل من ثقيف
يقال محمد بن عبد الله قال: سمعت إسماعيل بن جعفر بن سليمان يقول: حجت
أم فبلغ إنفاقها في ستين يوماً: أربعة وخمسين ألف ألف دينار ورفع إليها
ودَ حساب النفقة فنهته في ذلك، وقالت له: ثواب الله بغير حساب.
وبلغنا أن
وكيل أم جعفر حبس رجلاَ كان ينظر في ضياعها، فأخذ من ارتفاعها مالاً
يبلغ مائتي ألف درهم، فبعث المحبوس إلى صديقين له يسألهما سؤال الوكيل
أمره، فلقيهما الفيض بن أبي صالح، فقال: إلى أين؟ قالا: نمضي إلى كذا
وكذا، فقال: أتحتاجان أن أساعدكما، قالا: نعم، فمضى معهما وكتب الوكيل
إلى أم جعفر يخبرها بالحال، فقالت: لا سبيل إلى إطلاقه حتى يؤدي ما
عليه، فعزما على النهوض، فقال الفيض: كأننا إنما جئنا لنؤكد حبس الرجل
أو أخذ الدواة وكتب إلى وكيله بأداء المال، فكتب وكيل أم جعفر إليها
بالحال، فوقَعت على ظهر رقعته: نحن أولى المكرمة من الفيض، فاردد إليه
حظه وسلم إليه الرجل.
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال:
أخبرنا أبو الطيب الطبري قال: حدثنا المعافى بن زكريا قال: حدثنا أحمد
بن جعفر بن موسى البرمكي وحدثني ميمون بن هارون قال: حدثني عبد الله بن
العباس بن الفضل بن الربيع، عن جده الفضل بن الربيع. قال: خرج أمير
المؤمنين الرشيد من عند زبيدة وقد تغدى عندها ونام وهو يضحك، فقلت: قد
سرني سرور أمير المؤمنين، فقال: ما أضحك، " إلا تعجباً من هذه المرأة،
أكلت عندها ونمت، فسمعت رنة، فقلت: ما هذه، قالوا: ثلاثمائة ألف دينار
وردت من مصر، فقالت: هبها لي يا ابن عم، فرفعتها إليها، فما برحت حتى
عربدت، وقالت: أي خير رأيت منك.
توفيت أم جعفر ببغداد في جمادى الأولى من هذه السنة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
قال: حدثني الحسين بن محمد الخلال قال: وجدت بخط أبي الفتح القواس
حدثنا صدقة ابن هبيرة الموصلي قال: حدثنا محمد بن عبد الله الواسطي
قال: قال عبد الله بن المبارك الزمن: رأيت زبيدة في المنام، فقلت: ما
فعل الله بك؟ فقالت: غفر لي بأول معول ضرب في طريق مكة، قلت: فما هذه
الصفرة في وجهك؟ قالت: دفن بين ظهرانينا رجل يقال له بشر المريسي زفرت
جهنم عليه زفرة اقشعر لها جسدي فهذه الصفرة من تلك الزفرة.
عبد الصمد بن النعمان، أبو محمد البزاز النسائي سكن بغداد، وحدَث بها
عن ابن أبي ذئب، وشعبة، وحمزة الزيات، وروى عنه: عباس الدوري، وكان
ثقة.
توفي في هذه السنة.
محمد بن الحجاج مولى العباس بن محمد الهاشمي.
يكنى أبا عبد الله. وقيل: أبا جعفر، ويعرف بالمصفر. روى عن شعبة
والدراوردي، ترك أحمد حديثه، وقال يحيى: ليس بثقة، وقال أبو زرعة: يروي
أباطيل عن شعبة والدراوردي.
قال المصنف: كان يتشيع. ومات في هذه السنة.
محمد بن عباد بن عباد بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي البصري
واسم أبي صفرة: ظالم بن سراق. كان محمد يتولى الصلاة والإمارة بالبصرة،
وقدم بغداد، فحدث عن أبيه، عن صالح المري، وهشيم.
روى عنه: إبراهيم الحربي، والكديمي وأبو العيناء، وغيرهم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب،
قال: أخبرنا أحمد بن أبي جعفر القطيعي قال: حدثنا محمد بن العباس
الخزاز قال: حدثنا أبو أيوب سليمان بن إسحاق قال: قال إبراهيم الحربي:
قدم علينا محمد بن عباد فذهبنا إليه فسمعنا منه ولم يكن بصيراً
بالحديث، حدثنا بحديث. فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بهره.
وغلط. إنما التزقت الباء بالقاف.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب قال: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا محمد بن عمران
المرزباني قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى المكي قال: حدثنا محمد بن
القاسم بن خلاد قال: قال المأمون لمحمد بن عباد أردت أن أوليك فمنعني
إسرافك في المال. فقال محمد: منع الموجود سوء ظن بالمعبود، فقال له
المأمون: لو شئت أبقيت على نفسك فإن الذي تنفقه بعيد الرجوع، فقال له:
يا أمير المؤمنين، من له مولى غني لا يفتقر، فاستحسن المأمون ذلك منه،
وقال للناس: مَنْ أراد أن يكرمني فليكرم ضيفي محمد بن عباد. فجاءت
الأموال إليه من كل ناحية، فما برح وعنده منها درهم، وقال: إن الكريم
لا تحنكه التجارب.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد قال: أخبرنا أحمد بن علي المحتسب
قال: حدثنا إسماعيل بن سعيد قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال: حدثني
أبي عن المغيرة بن محمد وغيره قال: قال المأمون لمحمد بن عباد: يا محمد
بلغني أنه لا يقدم أحد البصرة إلا دخل دار ضيافتك لتبل أن ينصرف من
حاجاته، فكيف تسع هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، منع الموجود سوء ظن
بالمعبود فاستحسنه منه، وأوصل إليه المأمون ما مبلغه ستة آلاف ألف
درهم.
ومات وعليه خمسون ألف دينار، وقال المأمون: يا محمد ما أكثر الطاعنين
على آل المهلب، فقال: يا أمير المؤمنين، همِ كما قال الشاعر:
إن الغرانيق تلقاها مُحَسًدَةَ ... ولا ترى للئام الناس حُسَّادَا
قال المغيرهَ: هذا الشعر من قصيدة مدح بها عمر بن لجَأ يزيد بن المهلب،
وأول القصيدة:
آل المهلب قوم إن نَسَبْتَهُمُ ... كانوا الأكارم آباءً وأجدادا
كم حاسدٍ لهمُ بغياً لفضلهمُ ... وما دنا من مساعيهم ولا كادا
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الحافظ
قال: أخبرنا علي بن محمد المعدل قال: أخبرنا ابن صفوان قال: حدثنا عبد
الله بن محمد بن أبي الدنيا قال: حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن قال: لما
احتضر محمد بن عباد بن المهلب، دخل عليه نفر من قومه كانوا يحسدونه،
فلما خرجوا قال متمثلاً:
تمنى رجال أن أموتَ فإن أمت ... فتِلْكَ سَبيلٌ لستُ فيها بأوْحدِ
فما عَيْشُ مَنْ يبغي خلافي بضائري ... وما موت من يمضي أمامي بمخلدي
ففل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأنْ قَدِ
أخبرنا القزاز، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرني أحمد بن علي بن عبد الله
الطبري قال: أخبرنا عبد الله بن محمد البزاز، حدثنا محمد بن يحيى
النديم، حدثنا الغلابي قال: قيل للعتبي: مات محمد بن عباد فقال:
نحن متنا بفقده ... وهو حي بمجدِهِ.
موسى بن داود، أبو عبد الله الضبي الحلفاني. كوفي الأصل، سكن بغداد،
وحدث بها عن مالك، وشعبة، والثوري، والليث، روى عنه: أحمد بن حنبل وكان
ثقة مأموناً مصنفاً، وولي قضاء الثغور، فحمد فيها. وتوفي في هذه السنة
بالمصيصة. |