المنتظم
الجزء الحادي عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
ثم دخلت
سنة سبع عشرة ومائتين
فمن الحوادث فيها ورود المأمون إلى مصر في المحرم، فأتي بعبدوس الفهري
فضرب عنقه وانصرف إلى الشام.
وفيها: قتل المأمون علي بن هشام، وأخاه حسيناً بأدنة في جمادى الأولى.
وكان السبب: أن المأمون ولى علي بن هشام كور الجبال، فرفع إليه قتله
الرجال، وأخذه الأموال، فوجه إليه عجيفاً، فأراد أن يقتل عجيفاً، ويلحق
ببايك، فظفر به عجيف، فقدم به على المأمون فقتله وأخاه، وبعث برأس علي
بن هشام إلى بغداد وخراسان، فطيف به، ثم رد إلى الشام والجزيرة فطيف به
كورة كورة، وقدم به دمشق في ذي الحجة، ثم ذهب به إلى مصر، ثم ألقي في
البحر.
وفي هذه السنة: دخل المأمون أرض الروم، فأناخ على لؤلؤة مائة يوم، ثم
رحل عنها وخلف عليها عجيفاً، فاختدعه أهلها، فأسروه، فمكث أسيراً في
أيديهم ثمانية أيام، ثم أخرجوه، وصار توفيل إلى لؤلؤة فأحاط بعجيف،
فصرف المأمون الجنود إليه، فارتحل توفيل قبل موافاتهم، وخرج أهل لؤلؤة
إلى عجيف بأمان.
وفيها: كتب توفيل إلى المأمون يسأله الصلح.
وفيها: وقع حريق عظيم بالبصرة.
فروى محمد بن عمار قال: كنت في هذا الحريق، فإذا رجل قد جاء فقال: أنا
فلان بن فلان تعرفوني، ولي في نهر كذا وكذا كذا وكذا جريباً وفي نهر
كذا وكذا كذا وكذا جريباً، وقد جعلت لمن يجيئني بابنتي عشرة أجربة من
أي نهر شاء.
قال: فإذا
رجل قد وثب فبل كساء، ثم ألقاه عليه، وغدا في النار، فقال الرجل: إنا
لله، أما ابنتي فقد ذهبت وأحرقت هذا الرجل، إذ قيل: هو ذاك، هو ذاك،
وهو على الدرجة. فإذا هو قد بل كساء في البيت، وأدخل بنت الرجل جوفه،
ثم احتملها حتى دخل النار، فقطعها وألقاها، فعمد الرجل فألقى عليها
ثوبه واحتملها، وغشي على الرجل الذي كان قد جاء بها. قال: فجاء الأب
وقد أفاق الرجل، فقال: اختر من أي نهر شئت. فقال: لا حاجة لي فيها،
قال: فلم يزل به وهو يأبى، إلى أن قال: لو ذهبت للطمع لاحترقت واحترقت
ابنتك. ولم يقبل ذلك منه.
وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن تيم، أبو إسحاق مولى شرحبيل بن حسنة. كان كاتباً في ديوان
الخراج، ثم لي خراج مصر، توفي في هذه السنة.
إبراهيم بن الجراح بن صبيح مولى بني تميم. وهو من أهل مروروذ سكن
الكوفة، وولي قضاء مصر، وعزل سنة إحدى عشرة ومائتين. وروي عن يحيى بن
عقبة بن العيزار أنه كان يقول بخلق القرآن. وتوفي بمصر في هذه السنة.
الخليل بن أبي نافع المزني الموصلي نزل بغداد. أخبرنا أبو منصور القزاز
قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا أبو الفرج محمد بن إدريس
الموصلي - في كتابه إلي - قال: حدثنا أبو منصور المظفر بن محمد الطوسي
حدثنا أبو زكريا بن يزيد بن محمد بن إياس الأزدي في الطبقة الرابعة من
علماء أهل الموصل، قال: ومنهم الخليل بن أبي نافع المزني، كان من
العباد، وكتب الحديث، واختار الصمت والعزلة، وكان قد اتخذ لوحاً يكتب
فيه كل ما يتكلم به، ويحصيه فيه آخر النهار فيجده بضع عشرة كلمة.
وتوفي ببغداد في هذه السنة.
داود بن مهران، أبو سليمان الدباغ. سمع عبد العزيز بن أبي رواد، وسفيان
بن عبد الله. روى عنه عباس الدوري. وقال يعقوب بن شيبة: كان شيخاً
صدوقاً ثقة. توفي في شوال هذه السنة.
سريج بن النعمان بن مروان، أبو الحسن اللؤلؤي. خراساني الأصل، بغدادي
الدار. سمع حماد بن سلمة، وفليح بن سليمان. وصالحاً المري، وسفيان بن
عيينة. وروى عنه أحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، والدوري، وأبو زرعة، وأبو
حاتم. وكان ثقة، وكان منزله بعسكر المهدي.
وتوفي في يوم الأضحى من هذه السنة.
عمرو بن مسعدة بن سعيد بن صول، أبو الفضل. كان أحد كتاب المأمون، وكان
له منزلان ببغداد، أحدهما بحضرة طاق الحراني والحراني هو: إبراهيم بن
ذكوان - ومنزل آخر فوق الجسر، وهو المعروف بساباط عمرو بن مسعدة.
توفي بأذنة في هذه السنة، ورفع إلى المأمون أنه خلف ثمانين ألف ألف
درهم، فوقع: " هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا، فبارك الله
لولده فيه " .
ولعمرو بن مسعدة حكايات ظريفة: أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز قال:
أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه: أن عمرو بن مسعدة قال: كنت مع
المأمون عند قدومه من بلاد الروم، حتى إذا نزل الرقة قال: يا عمرو، أو
ما ترى الرخجي قد احتوى على الأهوار، وجمع الأموال وطمع فيها، وكتبي
تصل إليه في حملها، وهو يتعلل ويتربص بي الدوائر؟ ! فقلت: أنا أكفي
أمير المؤمنين هذا، وأنقذ من يضطره إلى حمل ما عليه. فقال: ما يقنعني
هذا. قلت: فيأمر أمير المؤمنين بأمره. قال: تخرج إليه بنفسك حتى تصفده
بالحديد وتحمله إلى بغداد، وتقبض على جميع ما في يديه من أموالنا،
وتنظر في العمل، وترتب فيه عمالاً.
فقلت: السمع والطاعة. فلما كان من الغد، دخلت إليه فاستعجلني، فانحدرت
في زلال أريد البصرة، واستكثرت من الثلج لشدة الحر، فلما صرت بين
جرجرايا وجيل سمعت صائحاً من الشاطئ يصيح: يا ملاح، فرفعت سجف الزلال،
فإذا شيخ كبير السن، حاسر، حافي القدمين، خلق القميص.
فقلت
للغلام: أجبه فأجابه، فقال: يا غلام، أنا شيخ كبير السن، على هذه
الصورة التي ترى، وقد أحرقتني الشمس وكادت تتلفني، وأريد جيل، فاحملوني
معكم، فإن الله يأجركم. فشتمه الملاح وانتهره، فأدركتني عليه رقة، فقلت
للغلام: خذوه معنا. فحملناه، فتقدمت بدفع قميص ومنديل إليه فغسل وجهه
واستراح، وحضر وقت الغداء. فقلت للغلام: هاته يأكل معنا. فجاء فأكل
معنا أكل أديب، إلا أن الجوع قد بين عليه، فلما أكلت قلت: يا شيخ، أي
شيء صناعتك؟ قال: حائك، فتناومت عليه، ومددت رجلي. فقال: وأنت أعزك
الله، أي شيء صناعتك؟ فأكبرت ذلك وقلت: أنا جنيت على نفسي، أتراه لا
يرى زلالي وغلماني ونعمتي، وأن مثلي لا يقال له هذا، ثم قلت: ليس إلا
الزهد بهذا، فقلت: كاتب. فقال لي: أصلحك الله، إن الكتاب خمسة، فأيهم
أنت؟ فسمعت كلمة أكبرتها، وكنت متكئاً فجلست، ثم قلت: فصل الخمسة.
قال: نعم، كاتب خراج: يحتاج أن يكون عالماً بالشروط، والطسوق، والحساب،
والمساحة، والبثوق، والفتوق، والرتوق.
وكاتب أحكام: يحتاج أن يكون عالماً بالحلال والحرام، والاختلاف،
والأصول، والفروع.
وكاتب معونة: يحتاج أن يكون عالماً بالقصاص، والحدود، والجراحات.
وكاتب جيش: يحتاج أن يكون عالماً بحلي الرجال، وسمات الدواب، ومداراة
الأولياء، وشيء من العلم بالنسب، والحساب.
وكاتب رسائل: يحتاج أن يكون عالماً بالصدور والفصول، والإطالة،
والإيجاز، وحسن الخط، والبلاغة.
قلت له: فإني كاتب رسائل: فقال: أصلحك الله، لو أن رجلاً من إخوانك
تزوجت أمه، وأردت أن تكاتبه مهنئاً له، كيف تكاتبه؟ ففكرت في الحال فلم
يخطر ببالي شيء، فقلت: اعفني. فقال: قد فعلت. فقلت: ما أرى للتهنئة
وجهاً، قال: فتكتب إليه تعزية. ففكرت، فلم يخطر ببالي أيضاً شيء، فقلت:
اعفني. قال: قد فعلت، ولكن لست بكاتب رسائل. قلت: فأنا كاتب خراج. قال:
لو أن أمير المؤمنين ولاك ناحية، وأمرك فيها بالعدل واستيفاء حق
السلطان، فتظلم بعضهم من مساحتك، وأحضرتهم للنظر بينهم وبين رعيتك،
فحلف المساح بالله لقد أنصفوا، وحلفت الرعية بالله لقد ظلموا، فقالت
الرعية: قف معنا على مسحه، فخرجت لتقف، فوقفوك على قراح كذا وكذا -
لشيء وصفه - كيف تكتب؟ قلت: لا أدري، قال: فلست بكاتب خراج فما زال
يذكر في حق كل كاتب حاله، فلا أعلمها إلى أن قلت: فاشرح أنت. فشرح
الكل، فقلت: يا شيخ، أليس زعمت أنك حائك. فقال: أنا حائك كلام ولست
بحائك نساجة، ثم أنشأ يقول:
ما مر بي شر ولا نعيم ... إلا ولي فيهما نصيب
قد ذقت حلواً وذقت مراً ... كذاك عيسى الفتى ضروب
نوائب الدهر أدبتني ... وإنما يوعظ الأديب
فقلت: فما الذي أرى بك من سوء الحال؟ فقال: أنا رجل دامت عطلتي، فخرجت
أطلب البصرة فقطع علي الطريق، فتركت كما ترى، فمشيت على وجهي فلما رأيت
الزلال، استغثت بك. قلت: فإني قد خرجت إلى تصرف جليل أحتاج فيه إلى
جماعة مثلك، وقد أمرت لك عاجلاً بخلعة حسنة وخمسة آلاف درهم تصلح بها
من أمرك، وتنفذ منها إلى عيالك، وتصير معي إلى عملي فأوليك أجله. قال:
أحسن الله جزاك، إذاً تجدني بحيث ما يسرك، فانحدر معي فجعلته المناظر
للرخجي والمحاسب له، فقام بذلك أحسن قيام، فحسنت حاله معي، وعادت
نعمته.
أنبأنا أبو بكر بن عبد الباقي، عن أبي القاسم التنوخي، عن أبيه، عن
أشياخ له: أن عمرو بن مسعدة كان مصعداً من واسط إلى بغداد في حر شديد،
وهو في زلال، فناداه رجل: يا صاحب الزلال بنعمة الله عليك ألا نظرت إلى
فكشفت سجف الزلال فإذا شيخ ضعيف حاسر، فقال: قد ترى ما أنا فيه، ولست
أجد من يحملني، فابتغ الأجر في، وتقدم إلى ملاحيك يطرحوني بين مجاذيفهم
إلى أن أبلغ بلداً يطرحوني فيه.
فقال عمرو بن مسعدة: خذوه، فأخذوه، وقد كاد يموت من الشمس والمشي، فقال
له: يا شيخ، ما قضيتك، وما قصتك؟ قال: قصة طويلة. وبكى، قال: فسكنته ثم
قلت: حدثني.
فقال: أنا
رجل كانت لله عز وجل علي نعمة، وكنت صيرفياً، فابتعت جارية بخمسمائة
دينار، فشغفت بها، وكنت لا أقدر أفارقها ساعة، فإذا خرجت إلى الدكان
أخذني الهيمان حتى أعود إليها، فدام ذلك علي حتى تعطل كسبي، وأنفقت من
رأس المال، حتى لم يبق منه قليل ولا كثير، وحملت الجارية، فأخذها
الطلق، فقالت: يا هذا، أموت فاحتل علي بما تبتاع به عسلاً ودقيقاً
وسرجاً وإلا مت. فبكيت وجزعت، وخرجت على وجهي، وجئت لأغرق نفسي في
دجلة، فخفت العقاب، فخرجت على وجهي إلى النهروان، وما زلت أمشي من قرية
إلى قرية، حتى بلغت خراسان، فصادفت من عرفني وتصرفت في صناعتي، ورزقني
الله مالاً عظيماً، وكتبت ستة وستين كتاباً لأعرف خبر منزلي فلم يعد لي
جواب، فلم أشك أن الجارية ماتت، وتراخت السنون، حتى حصل معي ما قيمته
عشرون ألف دينار، فقلت: قد صارت لي نعمة، فلو رجعت إلى وطني، فابتعت
بالمال كله متاعاً من خراسان، وأقبلت أريد العراق، فخرج على القافلة
اللصوص فأخذوا ما فيها ونجوت بثيابي، وعدت فقيراً كما خرجت من بغداد،
فدخلت الأهواز متحيراً، فكسفت خبري لبعض أهلها، فأعطاني ما كملت به إلى
واسط، وفقدت نفقتي، فمشيت إلى هذا الموضع، وقد كدت أتلف، فاستغثت بك،
ولي مذ فارقت بغداد ثمان وعشرون سنة.
قال: فعجبت من محبته، ورققت له، وقلت: إذا صرنا إلى بغداد فصر إلي،
فإني أتقدم بتصريفك فيما يصلح لمثلك، فدعى لي ودخلنا إلى بغداد، ومضت
مدة فنسيته فيها، فبينا أنا يوماً قد ركبت أريد دار المأمون، إذ أنا
بالشيخ على بابي راكباً بغلاً فارهاً بمركب ثقيل، وغلام أسود بين يديه،
وثياب رفيعة فرحبت به، فقلت: ما الخبر؟ قال: طويل. قلت: عد إلي. فلما
كان من الغد جاءني.
فقلت: عرفني خبرك، فقد سررت بحسن حالك.
فقال: إني
لما صعدت من زلالك قصدت داري، فوجدت حائطها الذي على الطريق كما خلفته،
غير أن باب الدار مجلو نظيف، وعليه بواب وبغال مع شاكرية، فقلت: إنا
لله ماتت جاريتي، وتملك الدار بعض الجيران، فباعها على رجل من أصحاب
السلطان، ثم تقدمت إلى بقال كنت أعرفه في المحلة، فإذا في دكانه غلام
حدث، فقلت: من تكون من فلان البقال؟ قال: ابنه. قلت: ومتى مات أبوك؟
قال: مذ عشرين سنة. قلت: لمن هذه الدار؟ قال: لابن داية أمير المؤمنين،
وهو الآن جهبذه وصاحب بيت ماله. قلت: بمن يعرف؟ قال: بابن فلان
الصيرفي. فأسماني قلت: هذه الدار من باعها عليه؟ قال: هذه دار أبيه.
قلت: فهل يعيش أبوه؟ قال: لا. قلت: أفتعرف من حديثهم شيئاً؟ قال: نعم،
حدثني أبي أن هذا الرجل كان صيرفياً جليلاً فافتقر، وأن أم هذا الصبي
ضربها الطلق، فخرج أبوه يطلب لها شيئاً، ففقد وهلك قال لي أبي: فجاءني
رسول أم هذا تستغيث بي، فقمت لها بحوائج الولادة، ودفعت إليها عشرة
دراهم فأنفقتها، حتى قيل: قد ولد لأمير المؤمنين الرشيد مولود ذكر، وقد
عرض عليه جميع الدايات فلم يقبل لثدي أحد منهن، وقد طلب له الحرائر
فجاءوا بغير واحدة، فما أخذ بثدي واحدة منهم، وهو في طلب مرضع، فأرشدت
الذي طلب الداية إلى أم هذا، فحملت إلى دار أم أمير المؤمنين الرشيد،
فحين وضع فم الصبي على ثديها قبله فأرضعته، وكان الصبي المأمون، وصارت
عندهم في حالة جليلة، ووصل إليها منهم خير عظيم، ثم خرج المأمون إلى
خراسان، فخرجت هذه المرأة وابنها هذا معه، ولم نعرف من أخبارهم شيئاً
إلا من قريب، لما عاد المأمون وعادت حاشيته، رأينا هذا قد جاء رجلاً
وأنا لم أكن رأيت هذا قط قبل هذا، فقيل: هذا ابن فلان الصيرفي وابن
داية أمير المؤمنين، فبنى هذه الدار وسواها، قلت: أفعندك علم من أمه؟
أحية هي أم ميتة؟ قال: حية تمضي إلى دار الخليفة أياماً وتكون عند
ابنها أياماً وهي الآن ها هنا. فحمدت الله عز وجل على هذه الحالة، وجئت
فدخلت الدار مع الناس، فرأيت الصحن في نهاية العمارة والحسن، وفيه مجلس
كبير مفروش بفرش فاخر، وفي صدره شاب وبين يديه كتاب وجهابذة وحساب، وفي
صفاف الدار جهابذة بين أيديهم الأموال والتخوت والشواهين يقضون ويقبضون
وبصرت بالفتى فرأيت شبهي فيه، فعلم أنه ابني، فجلست في غمار الناس إلى
أن لم يبق في المجلس غيري، فأقبل علي فقال: يا شيخ، هل من حاجة تقولها؟
قلت: نعم ولكنها أمر لا يجوز أن يسمعه غيرك. فأومأ إلى غلمان كانوا
قياماً حوله فانصرفوا، وقال: قل قلت: أنا أبوك. فلما سمع ذلك تغير وجهه
ولم يكلمني بحرف، ووثب مسرعاً وتركني في مكاني، فلم أشعر إلا بخادم قد
جاءني فقال لي: قم يا سيدي، فقمت أمشي معه إلى أن بلغنا إلى ستارة
منصوبة في دار لطيفة وكرسي بين يديها والفتى جالس خلف الستارة على كرسي
آخر، فقال: اجلس أيها الشيخ. فجلست على الكرسي، ودخل الخادم، فإذا
بحركة خلف الستارة، فقلت: أظنك تريد تختبر صدق قولي من جهة فلانة.
وذكرت اسم جاريتي أمه، فإذا بالستارة قد هتكت والجارية قد خرجت إلي
فجعلت تقبلني وتبكي وتقول: مولاي والله. قال: فرأيت الصبي قد تسور وبهت
وتحير، فقلت للجارية: ويحك ما خبرك؟ قالت: دع خبري، ففي مشاهدتك لما
تفضل الله به كفاية إلى أن أخبرك، وقل لي ما كان من خبرك أنت؟ قال:
فقصصت عليها خبري من يوم خروجي إلى يوم ذلك، وقصة ما كان قصه علي ابن
البقال وأشرح كل ذلك بحضرة من الفتى ومسمع منه، فلما استوفى الكلام خرج
وتركني في مكاني، فإذا بالخادم، فقال: تعال يا مولاي يسألك ولدك أن
تخرج إليه. قال: فخرجت، فلما رآني من بعد قام قائماً على رجليه، وقال:
المعذرة إلى الله وإليك يا أبت من تقصيري في حقك، فإنه فاجأني ما لم
أكن أظن مثله يكون، والآن فهذه النعمة لك، وأنا ولدك وأمير المؤمنين
يجهد بي منذ دهر طويل أن أدع الجهبذة، وأتوفر على خدمته، فلم أفعل
طلباً للتمسك بصناعتي، والآن فأنا أسأله أن يرد إليه عملي وأخدمه أنا
في غيره، قم عاجلاً فأصلح أمرك. فأدخلت إلى الحمام وتنظفت وجاءني بخلعة
فلبستها، وخرجت إلى حجرة والديه فجلست فيها، ثم أنه أدخلني على أمير
المؤمنين وحدثه حديثي، فأمر له بخلعة فهي هذه، ورد إلي العمل الذي كان
إلى ابني، وأجرى لي من الرزق كذا وكذا، وقلدني أعمالاً هي من أجل عمله،
فجئتك أشكرك
على ما
عاملتني به من الجميل، وأعرفك تجدد النعمة.على ما عاملتني به من
الجميل، وأعرفك تجدد النعمة.
قال عمرو: فلما أسمي لي الفتى عرفته، وعلمت أنه ابن داية أمير
المؤمنين.
ثم دخلت
سنة ثمان عشرة ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن المأمون أمر بتفريغ الرافقة لينزلها حشمه، فضج من
ذلك أهلها، فأعفاهم. والرافقة: رقة الشام.
وفيها: وجه المأمون ابنه العباس إلى أرض الروم في أول يوم من جمادى،
وأمره بنزول الطوانة، وبنائها، وكان قد وجه الفعلة فابتدأ في بنائها
وفرضها ميلاً في ميل، وجعل لها أربعة أبواب، وبنى على كل باب حصناً.
وفي هذه السنة: كتب المأمون إلى إسحق بن إبراهيم في امتحان القضاة،
وأمر بإشخاص جماعة منهم إليه بالرقة، وكان هذا أول كتاب كتب في ذلك،
ونسخة كتابه إليه: أما بعد؛ فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم
الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم عليه، ومواريث النبوة التي
ورثهم، وأثر العلم الذي استودعهم، والعمل بالحق في رعيتهم والتشمير
لطاعة الله فيهم، والله يسأل أمير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد
وصريمته، والإقساط فيما ولاه الله من رعيته برحمته ومنته، وقد عرف أمير
المؤمنين أن السواد الأعظم من حشو الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له
ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته ولا استضاء بنور العلم
وبرهانه في جميع الأقطار والآفاق، أهل جهالة بالله، وعمى عنه، وضلالة
عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به، ونكوب عن واضحات أعلامه، وواجب
سبيله، وقصور أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفونه كنه معرفته، ويفرقوا
بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم، ونقص عقولهم وجفائهم عن التفكير
والتذكير، وذلك أنهم ساووا بين الله عز وجل وبين ما أنزل من القرآن،
فاطبقوا مجتمعين، واتفقوا غير متعاجمين، على أنه قديم أول لم يخلقه
الله ويحدثه ويخترعه، وقد قال تعالى في محكم كتابه: الذي جعله لما في
الصدور شفاء، وللمؤمنين رحمة وهدى: " إنا جعلناه قرآناً عربياً " فكل
ما جعله الله فقد خلقه.
وقال: " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور " .
وقال عز وجل: " كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق " فأخبر أنه قصص
لأمور تلا به متقدمها.
وقال: " آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " وكل محكم
مفصل فله محكم ومفصل، والله محكم كتابه ومفصله؛ فهو خالقه ومبتدعه.
ثم هم الذين جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فدعوا إلى قولهم ونسبوا
أنفسهم إلى السنة في كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته، ومبطل قولهم،
ومكذب دعواهم، ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة، وأن من
سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة، فاستطالوا بذلك وغروا الجهال حتى مال
قوم من أهل السمت الكاذب، والتخشع لغير الله، والتعسف لغير الدين إلى
موفقتهم عليه، ومواطأتهم على آرائهم تزيناً بذلك عندهم وتصنعاً للرياسة
والعدالة فيهم، فتركوا الحق إلى الباطل، واتخذوا دين الله وليجة إلى
ضلالتهم. وقد أخذ الله عليهم في الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق
أولئك الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم " أفلا يتدبرون القرآن أم على
قلوب أقفالها " .
فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة، ورؤوس الضلالة، المنقوصون من
التوحيد حظاً، والمبخوسون من الإيمان نصيباً، وأوعية الجهالة، وأعلام
الكذب، ولسان إبليس الناطق في أوليائه.
فاجمع من بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك،
وابدأ بامتحانهم فيما يقولون، واكشفهم عما يعتقدون في خلق الله
وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيما
قلده الله، واستحفظه من أمور رعيته بمن لا يوثق بدينه، وخلوص توحيده
ويقينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل
الهدى، فمرهم بمساءلة من يحضرهم من الشهود عن علمهم في القرآن، وترك
إثبات شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث والامتناع من توقيعها عنده،
واكتب لأمير المؤمنين بما يأتيك من قضاة عملك في مسألتهم؛ والأمر لهم
بمثل ذلك؛ ثم تفقد أحوالهم حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل
البصائر في الدين والإخلاص في التوحيد، واكتب إلى أمير المؤمنين بما
يكون منك في ذلك إن شاء الله.
وكتب في شهر ربيع الأول سنة ثمان عشرة ومائتين.
وكتب
المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في إشخاص سبعة نفر، منهم: محمد بن سعد
كاتب الواقدي، وأبو مسلم مستملي يزيد بن هارون، ويحيى بن معين، وزهير
بن حرب أبو خيثمة، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن مسعود، وأحمد
الدورقي؛ فأشخصوا إليه، فامتحنهم وسألهم جميعاً عن خلق القرآن، فأجابوا
جميعاً أن القرآن مخلوق، فأشخصهم إلى مدينة السلام، وأحضرهم إسحاق بن
إبراهيم داره فشهر أمرهم وقولهم بحضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث،
وأقروا بمثل ما أجابوا به المأمون، فخلى سبيلهم، وذلك بأمر المأمون.
ثم كتب المأمون بعد ذلك لإسحاق بن إبراهيم: أما بعد؛ فإن حق الله على
خلفائه في أرضه، وأمنائه على عباده، الذين ارتضاهم لإقامة دينه، وحملهم
رعاية خلقه وإمضاء حكمه وسننه، الائتمام بعدله في بريته أن يجهدوا لله
أنفسهم، وينصحوا له فيما استحفظهم وقلدهم، ويدلوا عليه - تبارك وتعالى
- بفضل العلم الذي أودعهم، والمعرفة التي جعلها فيهم، ويهدوا إليه من
زاغ عنه، ويردوا من أدبر عن أمره، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله
وحده وحسبه الله، وكفى، ومما تبينه أمير المؤمنين برويته، وطالعه
بفكره، فتبين عظيم خطره، وجليل ما يرجع في الدين من ضرره ما ينال
المسلمين من القول في القرآن، فقد تزين في عقول أقوام أنه ليس بمخلوق،
فضاهوا قول النصارى في عيسى إنه ليس بمخلوق والله تعالى يقول: " إنا
جعلناه قرآناً عربياً " وتأويل ذلك: إنا خلقناه، كما قال: " وجعل منها
زوجها " .
وقال: " وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً " " وجعلنا من الماء
كل شيء حي " .
وقال: " في لوح محفوظ " فدل على إحاطة اللوح بالقرآن، ولا يحاط إلا
بمخلوق.
وقال: " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " .
وقال: " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " فجعل له أولاً
وآخراً، فدل على أنه محدود مخلوق.
وقد عظم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثلم في دينهم، وسهلوا السبيل
لعدو الإسلام، واعترفوا بالتبديل والإلحاد على أنفسهم، حتى وصفوا خلق
الله وأفعاله بالصفة التي هي لله عز وجل وحده، وشبهوه به والاشتباه
أولى بخلقه، وليس يرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة حظاً في
الدين، ولا نصيباً من الإيمان واليقين ولا يرى أن يحل أحداً منهم محل
الثقة في أمانة، ولا عدالة ولا شهادة، ولا تولية لشيء من أمر الرعية،
وإن ظهر قصد بعضهم، وعرف بالسداد مسدد فيهم؛ فإن الفروع مردودة إلى
أصولها، ومحمولة في الحمد والذم عليها؛ ومن كان جاهلاً بأمر دينه الذي
أمره الله به من وحدانيته فهو بما سواه أعظم جهلاً، وعن الرشد في غيره
أعمى وأضل سبيلاً.
فاقرأ على جعفر بن عيسى وعبد الرحمن بن إسحاق القاضي كتاب أمير
المؤمنين إليك، وأنصصهما عن علمهما في القرآن، وأعلمهما أن أمير
المؤمنين لا يستعين على شيء من أمور المسلمين إلا بمن وثق بإخلاصه
وتوحيده، وأنه لا توحيد لمن لا يقر بأن القرآن مخلوق فإن قالا بقول
أمير المؤمنين في ذلك، فتقدم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما
بالشهادات على الحقوق، ونصهم عن قولهم في القرآن؛ فمن لم يقل منهم إنه
مخلوق أبطلا شهادته، ولم يقطعا حكماً بقوله؛ وإن ثبت عفافه في أمره.
وافعل ذلك بمن في سائر عملك من القضاة، وأشرف عليهم إشرافاً يمنع
المرتاب من إغفال دينه واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك إن
شاء الله.
فأحضر
إسحاق بن إبراهيم جماعة من الفقهاء والحكماء والمحدثين، وأحضر أبا حسان
الزيادي وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن أبي مقاتل، والفضل بن غانم،
والذيال بن الهيثم، وسجادة، والقواريري، والإمام أحمد بن حنبل، وقتيبة،
وسعدويه الواسطي، وعلي بن الجعد، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وابن علية،
ويحيى بن عبد الرحمن العمري، وأبا نصر التمار، وأبا معمر القطيعي،
ومحمد بن حاتم بن ميمون، ومحمد بن نوح في آخرين، فأدخلوا جميعاً على
إسحاق، فقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين مرتين حتى فهموه، ثم قال لبشر بن
الوليد: ما تقول في القرآن؟ فقال: أقول القرآن كلام الله. فقال: لم
أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء. قال: القرآن شيء؟
قال: هو شيء. قال: فمخلوق؟ قال: ليس بخالق. قال: ما أسألك عن هذا،
أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك. فأخذ إسحاق رقعة كانت بين يديه
فقرأها عليه: أشهد أن لا إله إلا الله، لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء،
ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه، فقال:
نعم. فقال للكاتب: اكتب ما قال.
ثم قال لعلي بن أبي مقاتل: ما تقول يا علي؟ فقال: قد أسمعت كلامي لأمير
المؤمنين في هذا غير مرة، فامتحنه بالرقعة فأقر بما فيها، فقال له:
القرآن مخلوق؟ فقال: القرآن كلام الله. قال: لم أسألك عن هذا. قال: هو
كلام الله وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعناه وأطعنا. فقال للكاتب:
اكتب مقالته.
ثم قال للذيال نحواً من مقالته لعلي بن أبي مقاتل، فقال له مثل ذلك.
ثم قال لأبي حسان الزيادي: ما عندك؟ وقرأ عليه الرقعة، فأقر بما فيها،
فقال له: القرآن مخلوق؟ فقال له: القرآن كلام الله، والله خالق كل شيء،
وما دون الله مخلوق، وإن أمير المؤمنين إمامنا، وقد سمع ما لم نسمع،
وإن أمرنا ائتمرنا، وإن دعانا أجبنا. فقال له: القرآن مخلوق هو؟ فأعاد
أبو حسان مقالته، وقال: مرني أئتمر. فقال: ما أمرني أن آمركم، وإنما
أمرني أن أمتحنكم.
ثم دعا أحمد بن حنبل، فقال له: ما تقول في القرآن؟ قال: القرآن كلام
الله. قال: مخلوق هو؟ قال: هو كلام الله لا أزيد. فامتحنه بما في
الرقعة، فلما أتى على " ليس كمثله شيء " قال أحمد: " ليس كمثله شيء وهو
السميع البصير " .
ثم امتحن الباقين، وكتب مقالتهم، وبعث بها إلى المأمون، فمكث القوم
تسعة أيام، ثم ورد كتاب المأمون في جواب الباقين، وكتب مقالاتهم في
جواب ما كتبه إسحاق، وكان في الكتاب: أما بعد؛ فقد بلغ أمير المؤمنين
جواب كتابه الذي كان كتب إليك، فيما ذهب إليه متصنعة أهل القبلة،
وملتمسو الرئاسة فيما ليسوا له بأهل من القول في القرآن، ومسألتك إياهم
عن اعتقادهم، وأمرك من لم يقل منهم إنه مخلوق بالإمساك عن التحديث
والفتوى، وبث الكتاب إلى القضاة في نواحي عملك بالقدوم عليك لتمتحنهم:
فأما بشر بن الوليد؛ فأنصصه عن قوله في القرآن، فإن تاب منها فأمسك
عنه، وإن دفع عن أن يكون القرآن مخلوقاً فاضرب عنقه، وابعث برأسه إلى
أمير المؤمنين.
وأما علي بن أبي مقاتل؛ فقل له: ألست المكلم لأمير المؤمنين بما كلمته
به من قولك له: أنت تحلل وتحرم.
وأما الذيال؛ فأعلمه أنه كان في الطعام الذي كان يسرقه بالأنبار ما
يشغله عن غيره.
وأما أحمد بن زيد وقوله إنه لا يحسن الجواب في القرآن فسيحسنه إذا أخذه
التأديب، فإن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك.
وأما أحمد بن حنبل: فأعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف مقالته، واستدل على
آفته.
وأما الفضل بن غانم؛ فأعلمه أنه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان فيه
بمصر، وما اكتسب من الأموال.
وأما الزيادي؛ فأعلمه أنه كان منتحلاً، ولا أول دعي في الإسلام خولف
فيه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جديراً أن يسلك مسلكه.
وأما أبو نصر التمار؛ فإن أمير المؤمنين شبه خساسة عقله بخساسة متجره.
وجعل يذكر لكل واحد منهم عيباً، وقال: من لم يرجع عن شركه ممن سميت
لأمير المؤمنين ولم يقل القرآن مخلوق فاحملهم جميعاً موثقين إلى عسكر
أمير المؤمنين لينصهم أمير المؤمنين، فإن لم يرجعوا احملهم على السيف.
فأجاب
القوم كلهم إلا أربعة: أحمد بن حنبل، وسجادة، والقواريري، ومحمد بن
نوح، فأمر بهم إسحاق فشدوا في الحديد؛ فلما كان من الغد دعاهم، فأعاد
عليهم المحنة، فأجابه سجادة، فأمر بإطلاقه، وأصر الآخرون، فلما كان بعد
غد دعاهم فأجاب القواريري فأطلقه، وأمر أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح
فشدا جميعاً في الحديد، ووجها إلى طرسوس، وكتب معهما كتاباً بإشخاصهما،
فلما صارا إلى الرقة تلقتهم وفاة المأمون، فردوا إلى إسحاق بن إبراهيم
بمدينة السلام، فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم، ثم رخص لهم بعد ذلك في
الخروج.
وكان المأمون قد أمر ابنه العباس وإسحاق بن طاهر أنه إن حدث به حدث
الموت في مرضه فالخليفة من بعده أبو إسحاق بن الرشيد، فكتب بذلك، فكتب
أبو إسحاق في عشية إصابة المأمون إلى العمال: من أبي إسحاق أخي أمير
المؤمنين والخليفة بعد أمير المؤمنين محمد.
وصلى يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب إسحاق بن يحيى بن معاذ في
مسجد دمشق فقال في خطبته بعد دعائه لأمير المؤمنين: وأصلح الأمير أخا
أمير المؤمنين والخليفة من بعده أبا إسحاق الرشيد.
وفي هذه السنة: توفي المأمون وبويع للمعتصم.
باب خلافة المعتصم
واسمه محمد بن هارون الرشيد ويكنى أبا إسحاق، وأمه أم ولد من مولودات
الكوفة، تسمى ماردة، لم تدرك خلافته، وكانت أحظى النساء عند الرشيد.
وكان أبيض أصهب اللحية طويلها، مربوعاً مشرب اللون، حسن العينين، وهو
يسمى الثماني.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت،
أخبرنا ابن رزق، أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، أخبرنا أحمد بن البراء
قال: المعتصم بالله، أبو إسحاق محمد بن الرشيد، ولد بالخلد في سنة
ثمانين ومائة، في الشهر الثامن، وهو ثامن الخلفاء، والثامن من ولد
العباس، وفتح ثمانية فتوح، وولد له ثمانية بنين، وثماني بنات، ومات
بالخاقاني من سر من رأى، وكان عمره ثمانياً وأربعين سنة، وخلافته ثماني
سنين، وثمانية أشهر ويومين. وقال أبو بكر الصولي: وثمانية أيام. وخلف
من العين ثمانية آلاف ألف دينار ومثلها ورقاً، وتوفي لثمان بقين من
ربيع الأول، وفتوحه المشهورة ثمانية.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني
عبد الله بن أبي الفتح، أخبرنا أحمد بن إبراهيم، أخبرنا إبراهيم بن
محمد بن عرفة قال: وكان المعتصم ثامن الخلفاء من بني العباس، وثامن
أمراء المؤمنين من بني عبد المطلب، وملك ثماني سنين وثمانية أشهر، وفتح
ثمانية فتوح: بلاد بابك على يد الأفشين، وفتح عمورية بنفسه، والزط
بعجيف، وبحر البصرة، وقلعة الأحراف، وأعراب ديار ربيعة، والشاري، وفتح
مصر، وقتل ثمانية أعداء: بابك، ومازيار، وباطس، ورئيس الزنادقة،
والأفشين، وعجيفاً، وقارن وقائد الرافضة.
وينبغي أن يكون ثامن بني عبد المطلب؛ لأنه هو: المعتصم بن الرشيد بن
المهدي بن المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد
المطلب.
وحكى أبو بكر الصولي: أنه لم تجتمع الملوك بباب أحد قط اجتماعها بباب
المعتصم، ولا ظفر ملك كظفره، أسر بابك ملك أذربيجان، والمازيار ملك
طبرستان، وباطس ملك عمورية والأفشين ملك أشروسنة، وعجيفاً - وهو ملك -
وصار إلى بابه ملك فرغانة، وملك اسيشاب، وملك طخارستان، وملك أصبهان،
وملك الصغد، وملك كابل وباطيس ورئيس الزنادقة، والأفشين وعجيفاً،
وقارن، وقائد الرافضة.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو منصور بن باي
بن جعفر الجيلي، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران، قال: حدثني محمد
بن يحيى، حدثنا محمد بن سعيد الأصم، حدثنا إبراهيم بن محمد بن إسماعيل
الهاشمي قال: كان مع المعتصم غلام يتعلم معه في الكتاب، فمات الغلام،
فقال له الرشيد: يا محمد، مات غلامك. قال: نعم يا سيدي، واستراح من
الكتاب! قال الرشيد: وإن الكتاب ليبلغ منك هذا المبلغ؟ دعوه إلى حيث
انتهى، لا تعلموه شيئاً، وكان يكتب كتاباً ضعيفاً، ويقرأ قراءة ضعيفة.
ذكر بيعته
لما احتضر
المأمون ببلاد الروم، كان معه ولده العباس وأخوه المعتصم، فأراد الناس
أن يبايعوا العباس، فأتى وسلم الأمر إلى المعتصم، وكان الجند قد شنعوا
لأجله، وطلبوا الخلافة له، فبايع المعتصم، وخرج إلى الجند، فقال: ما
هذا الحب البارد! قد بايعت لعمي، وسلمت الخلافة إليه فسكن الجند وبايع
الناس وقبل إبراهيم بن المهدي يد المعتصم، وكان المعتصم قبل يده قبل
ذلك، ولا يعلم خليفة قبل يد خليفة ثم قبل الآخر يده غيرهما، وكانت
المبايعة يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة، ثم
خاف المعتصم من اختلاف الجند عليه، فأسرع إلى بغداد فدخلها في مستهل
رمضان.
ذكر طرف من أخباره وسيرته أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد
بن علي بن ثابت قال: أخبرني الحسن بن علي الصيمري، أخبرنا محمد بن
عمران بن موسى قال: أخبرني علي بن هارون قال: أخبرني عبيد الله بن أبي
طاهر، عن أبيه قال: ذكر ابن أبي دؤاد المعتصم يوماً فأسهب في ذكره،
وأكثر من وصفه، وأطنب في فضله، وذكر من سعة أخلاقه وكرم أعراقه، ولين
جانبه، وكرم جميل عشيرته، قال: وقال لي يوماً وقد كنا بعمورية: ما تقول
يا أبا عبد الله في البسر؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، نحن ببلاد الروم
والبسر بالعراق، قال: وقد وجهت إلى مدينة السلام فجاءوني بكباستين، وقد
علمت أنك تشتهيه، ثم قال: يا إيتاخ، هات إحدى الكباستين. فجاء بكباسة
بسر، فمد ذراعه وقبض عليها بيده، وقال: كل بحياتي عليك من يدي. فقلت:
جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين، بل بعضها، فآكل كما أريد. قال: لا
والله إلا من يدي. فوالله ما زال حاسراً ذراعه، وماداً يده وأنا أجتني
من العذق حتى رمى به خالياً ما فيه بسرة. قال: وكنت كثيراً ما أزامله
في سفره ذلك إلى أن قلت له يوماً: يا أمير المؤمنين، لو زاملك بعض
مواليك وبطانتك واسترحت مني إليهم مرة، ومنهم إلي أخرى، فإن ذلك أنشط
لقلبك، وأطيب لنفسك وأرشد لراحتك؟ قال: فإن سيما الدمشقي يزاملني
اليوم، فمن يزاملك أنت؟ قلت: الحسن بن يونس. قال: فأنت وذاك. قال:
فدعوت بالحسن فزاملني، وتهيأ أن ركب بغلاً، فاختار أن يكون منفرداً،
قال: وجعل يسير بسير بعيري، فإذا أراد أن يكلمني رفع رأسه، وإذا أردت
أن أكلمه خفضت رأسي، فانتهينا إلى واد لم نعرف غور مائه، وقد خلفنا
العسكر وراءنا فقال لرحالي: مكانك حتى أتقدم فأعرف غور الماء، وأطلب
قلته، واتبع أنت مسيري. قال: وتقدم رجل فدخل الوادي، وجعل يطلب قلة
الماء وتبعه المعتصم، فمرة ينحرف عن يمينه وأخرى عن شماله، وتارة يمضي
لسننه ونتبع أثره حتى قطعنا الوادي.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: أخبرني
الصيمري قال: أخبرنا محمد بن عمران قال: حدثنا علي بن عبد الله قال:
أخبرني الحسن بن علي العباسي، عن علي بن الحسين الإسكافي قال: قال لنا
ابن أبي دؤاد: كان المعتصم يخرج ساعده إلي، ويقول: يا أبا عبد الله، عض
ساعدي بأكثر قوتك. فأقول: والله يا أمير المؤمنين ما تطيب نفسي بذلك.
فيقول افعل فإنه لا يضرني. فأروم ذلك، فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة
فضلاً عن الأسنان وانصرف يوماً من دار المأمون إلى داره، وكان شارع
الميدان منتظماً بالخيم فيها الجند، فمر المعتصم بامرأة تبكي وتقول:
ابني ابني. وإذا بعض الجند قد أخذ ابنها. فدعاه المعتصم وأمره أن يرد
ابنها عليها، فأبى، فاستدناه فدنى منه، فقبض عليه بيده، فسمع صوت
عظامه، ثم أطلقه من يده فسقط وأمر بإخراج الصبي إلى أمه.
وقد بلغنا أن امرأة مسلمة ببلاد الروم أسرت في حرب جرت بينهم وبين
المسلمين، فجعلت تنادي: وامعتصماه. فلما بلغه ذلك قال على فوره: لبيك
لبيك. وتقدم فركب من ساعته وهو يقول: لبيك لبيك. فلحقه الناس حتى دخل
أرض الروم، وأنقذ المرأة ونكأ في الروم.
قال الفضل بن مران: لم يكن في المعتصم أن يلتذ بتزيين البناء وكان
غايته فيه إحكام، ولم يكن بالنفقة في شيء أسمح منه بالنفقة في الحرب.
وفي هذه السنة: أمر المعتصم بهدم ما كان المأمون بناه بطوانة، وحمل ما
كان بها من السلاح والآلة وغير ذلك مما قدر على حمله، وإحراق ما لم
يقدر على حمله، وأمر بصرف من كان المأمون أسكن ذلك من الناس إلى
بلادهم.
وفيها:
دخل جماعة من أهل همذان، وأصبهان، وماسبذان، ومهرجان قذف في دين
الخرمية، وتجمعوا فعسكروا في عمل همذان، فوجه المعتصم إليهم عسكراً،
وكان آخر عسكر وجهه إليهم مع إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وعقد له على
الجبال في شوال فشخص إليهم في ذي القعدة، وقرئ كتابه بالفتح يوم
التروية، وقتل في عمل همذان ستين ألفاً وهرب باقيهم إلى بلاد الروم.
وحج بالناس في هذه السنة: صالح بن العباس بن محمد، وضحى أهل مكة يوم
الجمعة، وأهل بغداد يوم السبت.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، أبو إسحاق المعروف بابن علية.
كان أحد المتكلمين القائلين بخلق القرآن. أخبرنا أبو منصور القزاز قال:
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا عمرو بن إبراهيم،
ومحمد بن عبد الملك قالا: أخبرنا عياش بن الحسن، حدثنا الزعفراني قال:
أخبرني زكريا بن يحيى قال: أخبرني شباب بن درست قال: سمعت يعقوب بن
سفيان الفارسي يقول: خرج إبراهيم بن إسماعيل بن علية ليلة من مسجد مصر
وقد صلى العتمة وهو في زقاق القناديل ومعه رجل، فقال له الرجل: إني
قرأت البارحة سورة الأنعام، فرأيت بعضها ينقض بعضاً. فقال له إبراهيم
بن إسماعيل ما لم تر أكثر.
توفي إبراهيم ببغداد ليلة عرفة من هذه السنة بمصر، وهو ابن سبع وستين
سنة.
إبراهيم بن أبي زرعة وهب الله، ابن راشد المؤذن يكنى أبا إسحاق. كان
إمام مسجد الجامع بالفسطاط، توفي في هذه السنة.
بشر بن آدم، أبو عبد الله الضرير. ولد سنة خمسين ومائة، سمع أبا عبد
الله حماد بن سلمة، وغيره، روى عنه: ابن راهويه، والدوري، والحربي.
وقال أبو حاتم الرازي: هو صدوق.
وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة.
بشر بن غياث بن أبي كريمة، أبو عبد الرحمن المعروف بالمريسي. كان شيخاً
فقيراً فقيهاً، دميم النظر، وسخ الثياب، يشبه اليهود كان يسكن في الدرب
المعروف به، ويسمى درب المريسي، وهو بين نهر الدجاج ونهر البزازين، سمع
الفقه من أبي يوسف القاضي، إلا أنه اشتغل بالكلام، وجرد القول بخلق
القرآن. وقد روى من الحديث شيئاً يسيراً عن حماد بن سلمة وسفيان بن
عيينة.
وكان أبو زرعة الرازي يقول: بشر بن غياث زنديق. وقال يزيد بن هارون: هو
كافر حلال الدم يقتل.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا
حمد بن أحمد بن أبي طاهر، أخبرنا أبو بكر النجاد، حدثنا عبد الله بن
أحمد بن حنبل قال: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: حدثني محمد بن
نوح قال: سمعت هارون أمير المؤمنين يقول: بلغني أن بشر المريسي يزعم أن
القرآن مخلوق، لله علي إن أظفرني به لأقتلنه قتلة ما قتلها أحد قط.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرني
محمد بن أحمد بن يعقوب أخبرنا محمد بن نعيم الضبي قال: سمعت أبا جعفر
محمد بن صالح يقول: سمعت أبا سليمان داود بن الحسين يقول: سمعت إسحاق
بن إبراهيم الحنظلي يقول: دخل حميد الطوسي على أمير المؤمنين وعنده بشر
المريسي، فقال حميد: يا أمير المؤمنين، هذا سيد الفقهاء، هذا قد رفع
عذاب القبر ومسألة منكر ونكير، والميزان، والصراط، انظر هل يقدر أن
يرفع الموت؟ ثم نظر إلى بشر وقال: لو رفعت الموت كنت سيد الفقهاء حقاً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت
قال: أخبرني الحسن بن محمد الخلال قال: حدثنا محمد بن العباس الخزاز
قال: أخبرنا الحسين بن علي بن الحسين الأسدي، حدثنا الفضل بن يوسف بن
يعقوب بن القضباني، حدثنا محمد بن يوسف العباسي قال: وحدثني محمد بن
علي بن ظبيان القاضي قال: قال لي بشر المريسي: القول في القرآن قول من
خالفني أنه غير مخلوق. قلت: فارجع عنه، قال: أرجع عنه وقد قلته منذ
أربعين سنة، ووضعت فيه الكتب، واحتججت فيه بالحجج.
أخبرنا
أبو منصور عبد الرحمن القزاز أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت،
أخبرنا محمد بن عبد الملك القرشي قال: أخبرنا عباس بن الحسن البندار
حدثنا محمد بن الحسين الزعفراني قال: أخبرني زكريا بن يحيى، حدثنا محمد
بن إسماعيل قال: سمعت الحسين بن علي الكرابيسي قال: جاءت أم بشر
المريسي إلى الشافعي رضي الله عنه فقالت: يا أبا عبد الله، أرى ابني
يهابك ويحبك، وإذا ذكرت عنده أجلك، فلو نهيته عن هذا الرأي الذي هو فيه
فقد عاداه الناس عليه، ويتكلم في شيء يواليه الناس ويحبونه؟ فقال لها
الشافعي: أفعل. فشهدت الشافعي وقد دخل عليه بشر، فقال له الشافعي:
أخبرني عما تدعو إليه أكتاب ناطق أم فرض مفترض، أم سنة قائمة، أو وجوب
عن السلف البحث فيه والسؤال عنه؟ فقال بشر: ليس فيه كتاب ناطق، ولا فرض
مفترض، ولا سنة قائمة، ولا وجوب عن السلف البحث فيه والسؤال عنه، إلا
أنه لا يسعنا خلافه. فقال الشافعي: أقررت على نفسك بالخطأ، فأين أنت عن
الكلام في الفقه والأخبار، يواليك الناس عليه وتترك هذا؟ قال: لنا نهمة
فيه فلما خرج بشر قال الشافعي: لا يفلح.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرنا الحسن بن
محمد الخلال، حدثنا يوسف بن عمر القواس، حدثنا أحمد بن عيسى بن السكين
قال: سمعت أبا يعقوب إسحاق بن إبراهيم يقول: مررت في الطريق، فإذا بشر
المريسي والناس عليه مجتمعون، فمر يهودي، فأنا سمعته يقول: لا يفسد
عليكم كتابكم كما أفسد أبوه علينا التوراة. يعني: أن أباه يهودياً.
توفي بشر في ذي الحجة من هذه السنة. وقيل: في سنة تسع عشرة، وكان
الصبيان يتعادون بين يدي الجنازة ويقولون: من يكتب إلى مالك، من يكتب
إلى مالك؟ أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثنا
القاضي أبو محمد بن الحسن بن الحسين بن رامين، حدثنا أبو محمد عبد
الرحمن بن محمد الجرجاني، أخبرنا عمران بن موسى، أخبرنا الحسن بن محمد
بن الأزهر قال: سمعت عثمان بن سعيد الرازي قال: حدثنا الثقة من أصحابنا
قال: لما مات بشر المريسي لم يشهد جنازته من أهل العلم السنة أحد إلا
عبيد الشونيزي، فلما رجع من جنازة المريسي لاموه، فقال: أنظروني حتى
أخبركم: ما شهدت جنازة رجوت فيها من الأجر ما رجوت في هذه، قمت في
الصف، فقلت: اللهم إن عبدك هذا كان لا يؤمن برؤيتك في الآخرة، اللهم
فاحجبه عن النظر إلى وجهك يوم ينظر إليك المؤمنون، اللهم عبدك هذا كان
لا يؤمن بعذاب القبر، اللهم فعذبه اليوم في قبره عذاباً لم تعذبه أحداً
من العالمين. اللهم عبدك هذا كان ينكر الميزان، اللهم فخفف ميزانه يوم
القيامة، اللهم عبدك هذا كان ينكر الشفاعة اللهم ولا تشفع فيه أحداً من
خلقك يوم القيامة، قال: فسكتوا عنه وضحكوا.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا علي بن محمد
المعدل، أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، حدثنا الحسن بن عمرو المروزي
قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: جاء موت هذا الذي يقال له المريسي وأنا
في السوق، فلولا أنه كان موضع شهرة لكان موضع شكر وسجود، والحمد لله
الذي أماته هكذا.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الحسين بن علي
الطناجيري حدثنا محمد بن علي بن سويد، حدثنا عثمان بن إسماعيل السكري
قال: سمعت أبي يقول: سمعت أحمد بن الدورقي يقول: مات رجل من جيراننا
شاب فرأيته في النوم وقد شاب، فقلت له: ما قصتك؟ قال: دفن بشر في
مقبرتنا فزفرت جهنم زفرة شاب منها كل من في المقبرة.
وقد ذكرنا في أخبار زبيدة مثله.
عبد الله أمير المؤمنين المأمون بن الرشيد. كان سبب مرضه أنه أكل رطباً
فحم، وكان سبب وفاته، وصار به مادة في حلقه، وكانت كلما بلغت فتحت فبطت
قبل أن تبلغ وقت تمامها فمات.
كان في وصيته: أنه لا إله إلا الله، وإني مقر مذنب، ثم انظروا ما كنت
فيه من عز الخلافة هل أغنى ذلك شيئاً إذ جاء أمر الله، لا والله، ولكن
أضعف علي به الحساب، فيا ليت عبد الله بن هارون لم يكن بشراً، بل ليته
لم يكن خلقاً! يا أبا إسحاق، ادن مني، واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك
في القرآن، واعمل في الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله الخائف من
عقابه ولا تغتر بالله وبمهلته فكان قد نزل بك الموت ولا تغفل عن أمر
الرعية.
فلما اشتد
الأمر به دعا أبا إسحاق فقال: يا أبا إسحاق، عليك عهد الله وميثاقه،
وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، لتعملن بحق الله في عباده، ولتؤثرن
طاعة الله على معصيته. قال: نعم، قال: فأقر عبد الله بن طاهر على عمله،
وإسحاق بن إبراهيم، فأشركه في ذلك، فإنه أهل له. وأهل بيتك، فالطف بهم،
وبنو عملك من ولد علي بن أبي طالب، فأحسن صحبتهم، ولا تغفل عن صلتهم.
وتوفي في يوم الخميس وقت الظهر، على نهر البدندون لاثنتي عشرة ليلة
بقيت من رجب بعد العصر من هذه السنة.
فلما توفي صلى عليه أبو إسحاق المعتصم، وحمله ابنه العباس وأخوه محمد
بن الرشيد إلى طرسوس، فدفناه في دار كانت لخاقان خادم الرشيد، وكان
عمره سبعاً وأربعين سنة، وقيل: ثمان وأربعين سنة، وكانت خلافته عشري
سنة، وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوماً، وكان له ثمان عشر ذكراً، وتسع
بنات.
واستأذنت المعتصم حظية كانت للمأمون اسمها تزيف أن تزور قبره، فأذن لها
فضربت فسطاطاً وجعلت تبكي وتنوح بشعر لها وهو:
يا ملكاً لست بناسيه ... نعى إلي العيش ناعيه
والله ما كنت أري أنني ... أقوم في الباكين أبكيه
والله لو يقبل فيه الفداء ... لكنت بالمهجة أفديه
عاذلتي في جزعي أقصري ... قد علق الدهر بما فيه
فما بقي أحد في العسكر إلا بكى.
عبد الملك بن هشام بن أيوب أبو محمد الذهلي البصري النحوي يروي مغازي
ابن إسحاق، عن زياد بن عبد الله البكائي عنه، وكان ثقة.
توفي بمصر في ربيع الآخر من هذه السنة.
عبد الأعلى بن مسهر، أبو مسهر الدمشقي الغساني. ولد سنة أربعين ومائة،
وسمع مالك بن أنس وغيره، وكان ثقة، عالماً بالمغازي وأيام الناس، حمله
المأمون إلى بغداد أيام المحنة.
قال أبو داود السجستاني: رحم الله أبا مسهر، لقد كان من الإسلام بمكان،
حمل على المحنة، وحمل على السيف، فمد رأسه وجرد السيف، فأبى أن يجيب،
فلما رأوا ذلك حمله إلى السجن، وسمعت أحمد بن حنبل يقول: رحم الله أبا
مسهر لقد كان من الإسلام بمكان، ما كان أثبته.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثني
الأزهري، حدثنا محمد بن العباس، أخبرنا أحمد بن معروف الخشاب أخبرنا
الحسين بن الفهم، حدثنا محمد بن سعد قال: شخص أبو مسهر من دمشق إلى عبد
الله بن هارون وهو بالرقة، فسأله عن القرآن فقال: كلام الله وأبى أن
يقول مخلوق، فدعى له بالسيف والنطع ليضرب عنقه، فلما رأى ذلك قال:
مخلوق، فتركه من القتل وقال: أما إنك لو قلت ذلك قبل أن أدعو لك بالسيف
لقبلت منك ورددتك إلى بلادك وأهلك، ولكنك تخرج الآن فتقول: قلت ذلك
فرقاً من القتل، أشخصوه إلى بغداد، فاحبسوه بها حتى يموت. فأشخص من
الرقة إلى بغداد في شهر ربيع الآخر من سنة ثمان عشرة ومائتين، فحبس فلم
يثبت إلا يسيراً حتى مات في غرة رجب سنة ثماني عشرة.
قال المصنف: ودفن بباب التين، وهو ابن تسع وسبعين سنة.
علي الجرجرائي. كان ينزل جبل لبنان. أخبرنا محمد بن أبي القاسم قال:
أخبرنا رزق الله بن عبد الوهاب، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: سمعت
عبد الواحد بن علي يقول سمعت القاسم بن القاسم يقول: بلغني أن بشراً
الحافي يقول: لقيت علياً الجرجرائي بجبل لبنان على عين ماء، قال: فلما
أبصرني قال: بذنب مني لقيت اليوم إنسياً، فعدوت خلفه، وقلت: أوصني
فالتفت إلي وقال: أمستوص أنت؟ عانق الفقر، وعاشر الصبر، وعاد الهوى،
وعاف الشهوات، واجعل بيتك أخلى من لحدك يوم تنقل إليه على هذا طاب
المسير إلى الله عز وجل.
محمد بن أبي الخصيب الأنطاكي. سمع مالك بن أنس، وابن لهيعة، وغيرهما.
روى عنه: عباس الدوري، وإبراهيم الحربي، وغيرهما. وكان ثقة.
وتوفي في بغداد في هذه السنة.
محمد بن نوح بن ميمون بن عبد الحميد العجلي. كن أحد المشتهرين بالسنة
والدين والثقة. وكان المأمون قد كتب وهو بالرقة إلى إسحاق بن إبراهيم
صاحب الشرطة أن يحمل أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح إليه بسبب المحنة،
فأخرجا من بغداد على بعير متزاملين، فمرض محمد بن نوح في طريقه، ومات
في هذه السنة.
فأخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا ابن رزق
أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، حدثنا حنبل بن إسحاق قال: سمعت أبا عبد
الله - يعني أحمد بن حنبل - يقول: ما رأيت أحداً على حداثة سنه وقلة
علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، وإني لأرجو أن يكون الله قد ختم
له بخير، قال لي ذات يوم وأنا معه جلوس: يا أبا عبد الله لست مثلي أنت
رجل يقتدى بك، وقد مد هذا الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك، فاتق الله،
واثبت لأمر الله. ونحو هذا، فانظر هذا الكلام، فعجبت منه من موعظته لي
وتقويته إياي، فصار في بعض الطريق فمات، فصليت عليه ودفنته. أظنه قال:
بعانة. فانظر بماذا ختم له.
معاوية بن عبد الله بن أبي يحيى الأسواني أبو سفيان مولى بني أمية روى
عن مالك، والليث، وابن لهيعة، وكان ثقة، وكانت القضاة تقبله.
توفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة تسع عشرة ومائتين
فمن الحوادث فيها: خروج محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن الحسين بن علي
بن أبي طالب بالطالقان من خراسان يدعو إلى الرضا من آل محمد واجتمع
إليه بها ناس كثير وكانت بينه وبين قواد عبد الله بن طاهر وقعات بناحية
الطالقان وجبالها، فهزم هو وأصحابه، فخرج هارباً يريد بعض كور خراسان
وكانوا قد كاتبوه، فدل العامل عليه، فأخذه واستوثق منه، وبعث به إلى
عبد الله بن طاهر، فبعث به إلى المعتصم، فقدم به عليه يوم الاثنين
لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر، فحبس عند مسرور الكبير الخادم في
محبس ضيق يكون طوله ثلاث أذرع في ذراعين، فمكث فيه ثلاثة أيام ثم حول
إلى موضع أوسع من ذلك، وأجري عليه طعام، ووكل به قوم يحفظونه؛ فلما
كانت ليلة الفطر واشتغل الناس بالعيد هرب من الحبس، وذلك أنه دلي إليه
حبل من أعلى البيت من كوة يدخل منها الضوء، فعلق به، فذهب، فلم يعرف له
خبر.
وفي هذه السنة: قدم إسحاق بن إبراهيم من الجبل، فدخل بغداد يوم الأحد
لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى، ومعه الأسرى من الخرمية
والمستأمنة، وكان قد قتل منهم في المحاربة مائة ألف.
وفيها: وجه المعتصم عجيف بن عنبسة في جمادى الآخرة لحرب الزط الذين
كانوا قد عاثوا في طريق البصرة، وقطعوا الطريق، واحتملوا الغلات من
البيادر بكسكر وما يليها من البصرة، وأخافوا السبيل، فرتب الخيل في كل
سكة من سكك البرد تركض بالأخبار، فكان الخبر يخرج من عند عجيف فيصير
إلى المعتصم في يومه، وحصرهم عجيف من كل وجه وحاربهم وأسر منهم
خمسمائة، وقتل في المعركة ثلثمائة، وبعث بالرؤوس إلى المعتصم، وأقام
بإزاء الزط خمسة عشر شهراً يقاتلهم منها تسعة أشهر، وكان في خمسة عشر
ألفاً، فظفر منهم بخلق كثير، وخرجوا إليه بالأمان على دمائهم وأموالهم
فحملهم إلى بغداد.
وفي هذه السنة: كانت ظلمة شديدة بين الظهر والعصر. وفي رمضان من هذه
السنة امتحن المعتصم أحمد بن حنبل فضربه بين يديه بعد أن حبسه مدة،
ووطن أحمد نفسه على القتل، فقيل له: إن عرضت على القتل تجيب قال: لا.
ولقيه خالد الحداد فشجعه، وقال له: إني ضربت في غير الله فصبرت، فاصبر
أنت إن ضربت في الله عز وجل، وكان خالد يضرب المثل بصبره، فقال له
المتوكل: ما بلغ من جلدك؟ فقال: أملئ لي جراب عقارب، ثم أدخل يدي فيه،
وإنه ليؤلمني ما يؤلمك، وأجد لآخر سوط من الألم ما أجد لأول سوط، ولو
وضعت في فمي خرقة وأنا أضرب لاحترقت من حرارة ما يخرج من جوفي، ولكني
وطنت نفسي على الصبر، فقال له الفتح: ويحك مع هذا اللسان والعقل، ما
يدعوك إلى ما أنت فيه من الباطل؟ قال: أحب الرئاسة، فقال المتوكل: ونحن
خليفة، فقال له رجل: يا خالد، ما أنتم لحوم ودماء فيؤلمكم الضرب؟ قال:
بلى، يؤلمنا ولكن معنا عزيمة صبر ليست معكم. وقال داود بن علي: لما قدم
بخالد اشتهيت أن أراه، فمضيت إليه فوجدته جالساً غير ممكن لذهاب لحم
إليتيه من الضرب، وإذا حوله فتيان، فجعلوا يقولون ضرب فلان وفعل فلان،
فقال: لم تتحدثون عن غيركم، افعلوا أنتم حتى يتحدث عنكم.
قصة ضرب الإمام أحمد رضي الله عنه
أخبرنا
محمد بن أبي منصور قال: أخبرنا أبو الحسن بن أحمد الفقيه، أنبأنا عبيد
الله بن أحمد، أخبرنا أبو بكر أحمد بن عبيد الله الكاتب، حدثنا أبو علي
الحسن بن محمد بن عثمان القسري قال: حدثني داود بن عرفة قال: حدثنا
ميمون بن الأصبع قال: كنت ببغداد فسمعت ضجة، فقلت: ما هذا؟ قالوا: أحمد
بن حنبل يمتحن، فدخلت فلما ضرب سوطاً، قال: بسم الله، فلما ضرب الثاني
قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما ضرب الثالث قال: القرآن كلام الله
غير مخلوق، فلما ضرب الرابع قال: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، فضرب
تسعاً وعشرين سوطاً وكانت تكة أحمد حاشية ثوب فانقطعت فنزل السراويل
إلى عانته فرمى أحمد بطرفه إلى السماء، وحرك شفتيه، فما كان بأسرع من
أن بقي السراويل كأن لم نزل، فدخلت إليه بعد سبعة أيام، فقلت: يا أبا
عبد الله، رأيتك تحرك شفتيك، فأي شيء قلت؟ قال: قلت: اللهم إني أسألك
باسمك الذي ملأت به العرش، إن كنت تعلم أني على الصواب فلا تهتك لي
ستراً.
وفي رواية أخرى: أنه ضرب ثمانية عشر سوطاً. وفي رواية: ثمانين سوطاً.
ولما بالغوا في ضربه ولم يجب أظهروا أنه قد عفي عنه وترك.
أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا عبيد
الله بن عمر بن شاهين قال: حدثنا أبي قال: سمعت عثمان بن عبد ربه يقول:
سمعت إبراهيم الحربي يقول: أحل أحمد بن حنبل من حضر ضربه وكل من شايع
فيه والمعتصم، وقال: لولا أن ابن أبي داود داعية لأحللته.
وحج بالناس في هذه السنة: صالح بن العباس بن محمد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
جعفر بن عيسى بن عبد الله بن الحسن بن أبي الحسن البصري ويعرف بالحسني.
ولي القضاء بالجانب الشرقي من بغداد في أيام المأمون والمعتصم، وحدث عن
حماد بن زيد، وجعفر بن سليمان، وغيرهما، وقال أبو زرعة الرازي: ولي
القضاء الري، وهو صدوق. وقال أبو حاتم الرازي: جهمي ضعيف.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت،
أخبرنا علي بن الحسن أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر قال: شخص المأمون عن
مدينة السلام فيما أخبرني به محمد بن جرير إجازة يعني إلى بلد الروم
ومعه يحيى بن أكثم يوم السبت لثلاث بقين من المحرم سنة خمس عشرة
ومائتين، فاستخلف يحيى بن أكثم على الجانب الشرقي جعفر بن عيسى البصري
الحسني، ثم أشخص المأمون الحسني إليه، فاستخلف مكانه هارون بن عبد الله
الزهري، ثم عزل الزهري وأعاد الحسني.
توفي الحسني وهو قاضي المعتصم في رمضان هذه السنة، وأوصى أن يدفن في
مقابر الأنصار، فدفن هنالك، وصلى عليه أبو علي ابن هارون الرشيد.
صالح بن نصر بن مالك بن الهيثم، أبو الفضل الخزاعي. وهو أخو أحمد بن
نصر الشهيد. سمع ابن أبي ذئب، وشعبة، وشريك بن عبد الله، وإسماعيل بن
عياش، روى عنه: خالد بن خداش، والدوري، وأحمد بن أبي خثيمة، وكان ثقة.
توفي ببغداد في هذه السنة.
عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة أبو محمد. كان ثقة فاضلاً خيراً كثير
المال، حدث بمصر. وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة.
علي بن عبيدة، أبو الحسن الكاتب، المعروف بالريحاني. له أدب وفصاحة
وبلاغة، وحسن عبارة، وله كتب في الحكم والأمثال، رأيت منها جملة، وكان
له اختصاص بالمأمون. وحكى أبو بكر الخطيب أنه كان يرمى بالزندقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا
الجوهري، أخبرنا محمد بن عمران بن موسى حدثنا عبيد الله بن محمد بن أبي
سعيد، حدثنا أحمد بن أبي طاهر، حدثنا علي بن عبيدة الريحاني قال: التقى
أخوان متوادان، فقال أحدهما لصاحبه: كيف ودك لي؟ قال: حبك متوشح
بفؤادي، وذكرك سمير سهادي، فقال الآخر: أما أنا فأحب أن أوجز في وصفي،
ما أحب أن يقع على سواك طرفي.
غسان بن المفضل، أبو معاوية الغلابي البصري. سكن بغداد، وحدث بها عن:
سفيان بن عيينة، روى عنه: ابنه المفضل، وكان ثقة من عقلاء الناس، دخل
على المأمون فاستعقله.
وتوفي في هذه السنة.
الفضل بن دكين، أبو نعيم ودكين: لقب، واسمه عمرو بن حماد بن زهير بن
درهم، مولى طلحة بن عبيد الله التيمي.
ولد سنة
ثلاثين ومائة، وأبو نعيم كوفي، كان شريكاً لعبد السلام بن حرب في دكان
واحد يبيعان الملاء. وسمع أبو نعيم من الأعمش، ومسعر، وزكريا بن أبي
زائدة، وابن أبي ليلى، والثوري، ومالك، وشعبة في آخرين.
وقال: كتبت عن نيف ومائة شيخ ممن كتب عنه سفيان، وسمع منه ابن المبارك،
وروى عنه أحمد بن حنبل، والبخاري، وأبو زرعة، وغيرهم، وكان ثقة. وامتحن
بالكوفة أيام المحنة، فأحضره واليها وسأله عن القرآن، فقال: أدركت
الكوفة وبها أكثر من سبعمائة شيخ الأعمش فمن دونه يقولون القرآن كلام
الله، وعنقي أهون عندي من زري هذا.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: لقيت أبا نعيم أيام المحنة بالكوفة فقال:
لقيت ثلاثمائة شيخ كلهم يقولون القرآن كلام الله ليس بمخلوق.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي أخبرنا أبو الفتح
بن أبي الفوارس قال: سمعت أحمد بن يعقوب يقول: سمعت عبد الله بن الصلت
يقول: كنت عند أبي نعيم، فجاءه ابنه يبكي، فقال له: ما لك، فقال: الناس
يقولون إنك متشيع، فأنشأ يقول:
وما زال كتمانيك حتى كأنني ... يرجع جواب السائلي عنك أعجم
لأسلم من قول الوشاة وتسلمي ... سلمت وهل حي على الناس يسلم
قال المصنف: وفي رواية أخرى أنه سئل: أتتشيع؟ فقال: سمعت الحسن بن صالح
يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: حب علي عبادة، وأفضل العبادة ما كتم.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: قرأت على
علي بن أبي علي البصري، عن علي بن الحسن الجراحي قال: حدثنا أحمد بن
محمد بن الجراح قال: سمعت أحمد بن منصور يقول: خرجت مع أحمد بن حنبل
ويحيى بن معين إلى عبد الرزاق خادماً لها، فلما عدنا إلى الكوفة قال
يحيى بن معين لأحمد بن حنبل: أريد أختبر أبا نعيم، فقال له أحمد: لا
تزد، الرجل ثقة. فقال يحيى بن معين: لا بد لي. فأخذ ورقة وكتب فيها
ثلاثين حديثاً من حديث أبي نعيم وجعل على رأس كل عشرة منها حديثاً ليس
من حديثه، ثم جاءا إلى أبي نعيم فدقا عليه الباب، فخرج فجلس على دكان
طين حذاء بابه، فأخذ أحمد بن حنبل فأجلسه عن يمينه، وأخذ يحيى بن معين
فأجلسه عن يساره، ثم جلست أسفل الدكان، فأخرج يحيى بن معين الطبق، فقرأ
عليه عشرة أحاديث، وأبو نعيم ساكت، ثم قرأ الحديث الحادي عشر، فقال له
أبو نعيم: ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثاني وأبو نعيم
ساكت فقرأ الحديث الثاني، فقال أبو نعيم: ليس من حديثي فاضرب عليه ثم
قرأ العشر الثالث، وقرأ الحديث الثالث فتغير أبو نعيم وانقلبت عيناه
وأقبل على يحيى بن معين فقال له: أما هذا - وذراع أحمد في يده - فأورع
من أن يعمل هذا، وأما هذا - يريدني - فأقل من أن يفعل مثل هذا، ولكن
هذا من فعلك يا فاعل، ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين، فرمى به من
الدكان وقام فدخل داره، فقال أحمد ليحيى: ألم أمنعك من الرجل وأقل لك
إنه ثبت؟ ! فقال: والله لرفسته لي أحب إلي من سفري.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن ثابت، أخبرنا عبد
الباقي بن عبد الكريم المؤدب، أخبرنا عبد الرحمن بن عمر الخلال، حدثنا
محمد بن أحمد بن يعقوب، حدثنا جدي، قال: حدثنا بعض أصحابنا: أن أبا
نعيم خرج عليهم في شهر ربيع الأول من سنة سبع عشرة ومائتين، يوماً
بالكوفة، فجاء ابن لمحاضر بن المورع، فقال له أبو نعيم: إني رأيت أباك
البارحة في النوم فكأنه أعطاني درهمين ونصفاً، فما تؤولون هذا؟ فقلنا:
خيراً رأيت فقال: أما أنا فقد أولتهما أني أعيش يومين ونصفاً، أو شهرين
ونصفاً، أو سنتين ونصفاً، ثم ألحق بأبيك.
فتوفي بالكوفة ليلة الثلاثاء لانسلاخ شعبان سنة تسع عشرة ومائتين.
قالوا: وذلك بعد هذه الرؤيا بثلاثين شهراً تامة، وقيل: توفي سنة ثمان
عشرة.
محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الملك أبو عبد الله الرقاشي سمع مالك
بن أنس، وحماد بن زيد في آخرين، وروى عنه: البرجلاني، ومحمد بن إسماعيل
البخاري، وأبو حاتم الرازي، وكان متقناً ثقة، وكان يصلي في اليوم
والليلة أربعمائة ركعة.
ثم دخلت
سنة عشرين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن المعتصم مضى إلى سر من رأى، فابتنى بها، وكان سبب
ذلك كثرة عسكره، وضيق بغداد عنه، وتأذي الناس به.
ومن
الحوادث: دخول عجيف بالزط بغداد، وقهره إياهم، حتى طلبوا منه الأمان،
فآمنهم، فخرجوا إليه في ذي الحجة سنة تسع عشرة على أنهم آمنون على
دمائهم وأموالهم، وكانت عدتهم سبعة وعشرين ألفاً؛ المقاتلة منهم اثنا
عشر ألف رجل، فجعلهم عجيف في السفن، وأقبل بهم حتى نزل الزعفرانية،
فأعطى صاحبه دينارين دينارين، وأقام بها يوماً، ثم عبأهم في زواريقهم
على هيئتهم في الحرب، معهم البوقات، حتى دخل بهم بغداد يوم عاشوراء سنة
عشرين، والمعتصم بالشماسية في سفينة، فمر به الزط على تعبئتهم ينفخون
بالبوقات؛ فكان أولهم بالقفص، وآخرهم بحذاء الشماسية، فأقاموا في سفنهم
ثلاثة أيام، ثم عبر بهم إلى الجانب الشرقي، فدفعوا إلى بشر بن السميدع،
فذهب بهم إلى خانقين، ثم نقلوا من الثغر إلى عين زربة، فأغارت عليهم
الروم بعد مدة فاجتاحوهم، فلم يفلت منهم أحد.
وفي هذه السنة: عقد المعتصم للأفشين على الجبال، وحرب بابك، وذلك يوم
الخميس لليلتين خلتا من جمادى الآخرة، فعسكر ببغداد، ثم صار إلى برزند.
ذكر خبر بابك
روي عن رجل من الصعاليك يقال له مطران، قال: بابك ابني فقيل له: كيف؟
قال: كانت أمه تخدمني وتغسل ثيابي، فوقعت يوماً عليها، ثم غبنا عنها،
ثم قدمنا، فإذا هي تطلبني، فقلت: حين ملأت بطني تركتني فقلت لها: والله
لئن ذكرتيني لأقتلنك. فسكتت، فهو والله ابني.
وذكر بعض المؤرخين أن أم بابك كانت عجوزاً فقيرة في قرية من قرى
الأدعان فشغف بها رجل من النبط في السواد يقال له عبد الله بن محمد بن
منبه فحملت منه، وقتل الرجل، وبابك حمل، فوضعته وجعلت تكتسب له، إلى أن
بلغ، وصار أجيراً لأهل قريته على سرحهم بطعامه وكسوته، وكان في تلك
الجبال من الخرمية قوم وعليهم رئيسان يتكافحان، يقال لأحدهما جاوندان
والآخر عمران، فمر جاوندان بقرية بابك، فتفرس فيه الجلادة، فاستأجره من
أمه، وحمله إلى ناحيته فمالت إليه امرأته وعشقته، فأفشت إليه أسرار
زوجها، وأطلعته على دفائنه، فلم يلبث إلا قليلاً حتى وقعت بين جاوندان
وعمران حرب، فأصابت جاوندان جراحة فمات منها، فزعمت امرأة جاوندان أنه
قد استخلف بابك على أمره، فصدقوها، فجمع بابك أصحابه وأمرهم أن يقوموا
بالليل، وأن يقتلوا من لقوا من رجل أو صبي، فأصبح الناس قتلى، لا يدرون
من قتلهم، ثم انضوى إليه الذعار وقطاع الطريق وأرباب الزيغ، حتى اجتمع
إليه جمع كثير، واحتوى على مدن وقرى، وقتل، ومثل، وحرق، وانهمك في
الفساد، وكان يستبيح المحظورات، وكان من رؤساء الباطنية.
وكان ظهور بابك في سنة إحدى ومائتين، بناحية أذربيجان، وهزم من جيوش
السلطان وقواده خلقاً كثيراً، وبقي عشرين سنة على ذلك، فقتل مائتي ألف
وخمسة وخمسين ألف وخمسمائة إنسان. وكان إذا علم عند أحد بنتاً جميلة،
أو أختاً طلبها منه، فإن بعثها إليه وإلا بيته وأخذها، فاستنقذ من يده
لما أخذه المسلمون سبعة آلاف وستمائة إنسان.
ولما ولي المعتصم، بعث إليه أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل، وأمره
أن يبني الحصون التي خربها بابك فيما بين زنجان وأردبيل، ويجعل فيها
الرجال مسالح لحفظ الطريق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل، فتوجه أبو سعيد
لذلك، وبنى الحصون، فوجه بابك سرية له في بعض غاراته، وجعل أميرهم
رجلاً يقال له: معاوية، فخرج فأغار على بعض النواحي ورجع منصرفاً، فبلغ
ذلك أبا سعيد محمد بن يوسف، فجمع الناس، وخرج إليه، فعرض له في بعض
الطريق، فواقعه، فقتل من أصحابه جماعة، وأسر منهم جماعة، واستنقذ ما
كان حواه، فهذه أول هزيمة كانت على أصحاب بابك، وبعث أبو سعيد الأسرى
والرؤوس إلى المعتصم.
ثم كانت أخرى لمحمد بن البعيث، وكان في قلعة حصينة، وكان مصالحاً لبابك
إذا توجهت سراياه نزلت به، فأضافهم، فوجه بابك رجلاً يقال له: عصمة في
سرية، فنزل بابن البعيث، فأقام له الضيافة على العادة، وبعث إلى عصمة
أن يصعد إليه في خاصته ووجوه أصحابه، فصعد فغداهم وسقاهم حتى أسكرهم،
ثم وثب على عصمة فاستوثق منه، وقتل من كان معه من أصحابه، وأمره أن
يسمي رجلاً رجلاً من أصحابه باسمه، فكان يدعى الرجل باسمه فيصعد؛ فيضرب
عنقه، حتى علم الباقون فهربوا، ووجه بعصمة إلى المعتصم، فلم يزل
محبوساً إلى أيام الواثق.
فندب
المعتصم الأفشين للقاء بابك، وعقد له على الجبال كلها، ووصف له كل يوم
يركب فيه عشرة آلاف درهم صلة، ويوماً لا يركب خمسة آلاف درهم، سوى
الأرزاق والأنزال والمعاون وما يتصل إليه من أعمال الجبال، وأجازه عند
خروجه بألف ألف درهم فقاومه الأفشين سنة، وانهزم من بين يديه غير مرة،
ولما وصل الأفشين إلى برزند عسكر بها، ورم الحصون ما بين برزند،
وأردبيل، وأنزل محمد بن يوسف بموضع يقال له خش، واحتفر حوله خندقاً،
وكان إذا وقع بجاسوس لبابك أضعف له ما يعطيه بابك، ويقول له: كن
جاسوساً لنا.
فوجه المعتصم مع بغا الكبير بمال إلى الأفشين لجنده وللنفقات، فبلغ
الخبر إلى بابك، فتهيأ ليقطع الطريق عليه ويأخذ المال، فعرف الأفشين،
فكتب إلى بغا بأن يقيم بأردبيل حتى يأتيه رأيه، وركب الأفشين في سر،
فجاء وبابك قاعد على غفلة، وأصحابه قد تفرقوا، فاشتبكت الحرب، فلم يفلت
من رجال بابك أحد، وأفلت هو في نفر يسير إلى موقان، ورجع الأفشين إلى
معسكره ببرزند، ثم بعث إلى البذ فجاءه في الليل عسكر فيه رجالة، فرحل
بهم من موقان حتى دخل البذ، وهي مدينة بابك.
وفي هذه السنة: خرج المعتصم إلى القاطول، وذلك في ذي القعدة، واستخلف
الواثق ابنه ببغداد وكان السبب في ذلك: خوفه من جنوده، وكان قد قال
لأحمد بن أبي خالد: يا أحمد، اشتر لي بناحية سامراء موضعاً أبني فيه
مدينة، فإني أتخوف أن يصيح هؤلاء الحربية صيحة فيقتلوا غلماني، حتى
أكون فوقهم، فإن رابني منهم ريب أتيتهم في البر والبحر؛ حتى آتي عليهم،
وقال لي: خذ مائة ألف دينار. فقال: آخذ خمسة آلاف دينار، فكلما احتجت
إلى زيادة بعثت فاستزدت. قال: نعم. قال: فأتيت الموضع فاشتريت سامراء
بخمسمائة درهم من النصارى أصحاب الدير، واشتريت موضع البستان الخاقاني
بخمسة آلاف درهم، واشتريت عدة مواضع، حتى أحكمت ما أردت، ثم انحدرت
فأتيته بالصكاك، فعزم على الخروج إليها في سنة عشرين، فخرج حتى إذا
قاربها وقارب القاطول، ضربت له فيه القباب والمضارب، وضرب الناس
الأخبية، ثم لم يزل يتقدم وتضرب له القباب حتى وضع البناء بسامراء في
سنة إحدى وعشرين.
وسأل المعتصم مسروراً الخادم: أين كان الرشيد يتنزه إذا ضجر من المقام؟
فقال: بالقاطول، قد كان بنى هناك مدينة آثارها وسورها قائم؛ وقد كان
خاف من الجند أيضاً، فلما وثب أهل الشام بالشام وعصوا خرج الرشيد إلى
الرقة، فأقام بها، وبقيت مدينة القاطول لم تستتم.
وكان بالبصرة في هذه السنة طاعون، مات فيه خلق كثير، وكان لرجل سبع
بنين فماتوا في يوم واحد فعزي، فقال: سلم سلم.
وفي هذه السنة: غضب المعتصم على وزيره الفضل بن مروان، وأخذ منه ما
قيمته عشرة آلاف ألف دينار، وكان الفضل في أول أمره متصلاً برجل من
العمال يكتب له، وكان حسن الحظ، ثم صار مع كاتب للمعتصم يقال له يحيى
الجرمقاني، فلما مات الجرمقاني صار الفضل في موضعه، ثم ترقى إلى
الوزارة، وصارت الدواوين كلها تحت يده، وحل من المعتصم محلاً زائداً في
الحد، فحملته الدالة على أن كان المعتصم يأمره بإعطاء المغني والملهي
فلا ينفذ ذلك، فثقل على المعتصم، إلى أن أمر لرجل بشيء فلم يعطه الفضل،
فلما كان بعد مدة قال الرجل بالمداعبة للمعتصم: ما لك من الخلافة إلا
الاسم، وإنما الخليفة الفضل. قال: ولم؟ قال: لأن أمرك لا ينفذ تأمره
بإعطاء المغني والملهي فلا ينفذ ذلك، وأمرت لي بكذا منذ مدة فما أعطيت.
فتغير المعتصم للفضل، فصير أحمد بن عمار الخراساني زماماً عليه في
نفقات الخاصة، ونصر بن منصور بن بسام زماماً عليه في الخراج وجميع
الأعمال، وكان محمد بن عبد الملك الزيات يتولى عمل الفساطيط وآلة
الجمازات وكان يلبس الدراعة السوداء، فقال له الفضل: إنما أنت تاجر فما
لك والسواد.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر قال: أخبرنا علي بن المحسن، عن أبيه قال:
حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف، عن الأزرق قال: حدثني غير واحد من مشايخ
الكتاب: أن المعتصم قال: أريد صرف عبيد الله بن سليمان عن الوزارة منذ
دهر، فإذا فكرت في أني أصرفه ضاع من ارتفاعي فيما بين صرفه وولاية وزير
آخر خمسمائة ألف دينار فلم أصرفه، قال المحسن: هذا وإنما كان في يد
المعتصم قطعة من الدنيا بل قطعة يسيرة، عما كان في يد غيره من الخلفاء.
ويحقق هذا
الرأي ما بلغنا في أيام المعتصم أنه أنكر على الفضل بن مران شيئاً وهو
يتقلد ديوان الخراج، فأنفذ إليه محمد بن عبد الملك الزيات برسالة
قبيحة، وكانت بينهما عداوة، فجاء محمد حتى وقف على باب الديوان راكباً
لم ينزل وقال: قولوا له معي رسالة من أمير المؤمنين فليخرج إلي حتى
أؤديها إليه فجاء الغلمان فعرفوه وهو جالس يعمل، وفي حجره منديل ودواته
مفتوحة، والعمال بين يديه والكتاب، فترك ذلك وخرج وقال لمحمد: قل. قال:
وتبعه الناس في خروجه، فقال له محمد بين أيديهم وهو راكب ولم ينزل: إن
أمير المؤمنين يقول لك كيت وكيت، وانصرف ودخل الفضل ولم يبن عليه تغير
ولا اضطراب، وعاد فعمل، وركب في الليل إلى الخليفة فقال: يا أمير
المؤمنين، ديوان الخراج سلة خبزك، ومعاملي فيه مع من يطمع فيك، وفي
مالك، وباليسير تنخرق الهيبة، وقد جرى اليوم ما أذهب منك فيه خمس مائة
ألف دينار، قال: وما هو؟ قال: جاء محمد بن عبد الملك إلى باب الديوان
وبحضرتي العمال الذين عليهم الأموال، وخلفاء العمال الذين في النواحي،
وأنا أطالبهم، فلم ينزل إلي، وأخرجني إليه، وأدى إلي الرسالة ظاهراً
وهم يسمعون فعدت وقد تقاعدني من كان يريد الأداء، وكتب إلي العمال
بذلك، فتوقفوا عن حمل ما يريدون حمله، ووقع الإرجاف بصرفي، فوقف علي من
الارتفاع خمس مائة ألف دينار، وهي الآن كالتالف. فقال: ولم أدى الرسالة
ظاهراً وما أمرته بذلك؟ فقال: لما بيننا من العداوة. فقال له المعتصم:
امض لشأنك، فقد زال ما كان في نفسي عليك وسأبلغك فيه ما تحب.
قال المصنف: ثم إن المعتصم خرج إلى القاطول، فغضب على الفضل وأهل بيته
وأمرهم برفع ما جرى على أيديهم، وأخذ الفضل يعمل حسابه ثم حبسه وحبس
أصحابه، ثم نفاه إلى قرية في طريق الموصل يقال لها السن، وصير مكانه
محمد بن عبد الملك الزيات، فصار محمد وزيراً، وجرى على يديه عامة ما
بنى المعتصم بسامراء، ولم يزل في مرتبته، إلى أن استخلف المتوكل.
وحج بالناس في هذه السنة: صالح بن العباس بن محمد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
آدم بن أبي إياس واسم أبي إياس: ناهية. وقال البخاري: هو: آدم بن عبد
الرحمن بن محمد يكنى أبا الحسن.
مولى، أصله من خراسان، ونشأ ببغداد، ودخل إلى البلاد، وسمع من شعبة
والليث، وخلق كثير، وكان من العلماء الثقات الصالحين، واستوطن عسقلان.
وتوفي بها في هذه السنة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا
أحمد بن عبد الواحد حدثنا إسماعيل بن سعيد بن المعدل، حدثنا الحسين بن
القاسم الكوكبي قال: حدثني أبو علي المقدمي قال: لما حضرت آدم بن أبي
إياس الوفاة ختم القرآن وهو مسجى، ثم قال: بحبي لك إلا رفقت بي في هذا
المصرع، كنت أؤملك لهذا اليوم، كنت أرجوك لهذا، ثم قال: لا إله إلا
الله، ثم قضى.
خلف بن أيوب، أبو سعيد العامري البلخي. فقيه أهل بلخ وزاهدهم، أخذ
الفقه عن أبي يوسف، وابن أبي ليلى. والزهد عن إبراهيم بن أدهم.
وسمع الحديث من عوف بن أبي جميلة، وإسرائيل، ومعمر، وغيرهم، روى عنه:
أحمد، ويحيى، وأبو كريب.
أنبأنا
زاهر بن طاهر، أنبأنا أحمد بن الحسين البيهقي، أنبأنا أبو عبد الله
محمد بن عبد الله الحاكم قال: سمعت أبا بكر محمد بن عبد العزيز المذكر
يقول: سمعت أبا عمرو محمد بن علي الكندي يقول: سمعت مشايخنا يذكرون أن
السبب في إثبات ملك آل ساسان أن أسد بن نوح خرج إلى المعتصم، وكان أسد
حسن المنظر شجاعاً عالماً فصيحاً عاقلاً فتعجبوا من حسنه وجماله
وفصاحته. فقال له أمير المؤمنين: هل في بيتك أشجع منك؟ قال: لا. قال:
فهل في بيتك أعقل منك؟ قال: لا. فلم يعجب الخليفة ذلك منه، فدخل عليه
بعد ذلك فسأله مثل تلك المسألة، فأجابه بمثل ذلك الجواب، فلم يعجبه، ثم
إنه كرر عليه السؤال فأجابه بمثله، فقال: يا أمير المؤمنين، هلا قلت
ولم ذاك؟ قال: ويحك، ولم ذلك؟ قال: لأنه ليس في أهل بيتي أحد وطئ بساط
الخليفة وشاهد طلعته، وقابله بالمسألة التي قابلني بها ورضي خلقه وخلقه
غيري، فأنا أفضلهم إذاً فاستحسن أمير المؤمنين ذلك منه فتمكن موقعه
لديه، ثم إنه خيره بين أعمال كور خراسان فاختار منها ولاية بلخ
ونواحيها، فلما ورد بلخ بعهد أمير المؤمنين كان يتولى الخطبة بنفسه، ثم
إنه سأل عن علماء بلخ هل فيهم من لم يقصده. قالوا: نعم، خلف بن أيوب
أعلم أهل الناحية وأزهدهم وأورعهم وهو يتجنب السلطان، ولا سبيل إليه في
اختلافه إلى السلاطين، فاشتهى أسد بن نوح لقاءه، فوكل بعض أصحاب
الأخبار بخلف بن أيوب وقال: إذا كان يوم الجمعة فراقب خلفاً، فإذا خرج
من بيته، فبادر إلي وعرفني، فذهب صاحب الخبر فراقب خلف بن أيوب حتى خرج
من بيته يقصد الجمعة، فبادر وأخبره، فركب فلما استقبله نزل عن دابته
وقصد خلفاً فلما رآه خلف قد قصده قعد مكانه، وغطى وجهه بردائه، فقال:
السلام عليكم. فأجابه جواباً مشفياً، فسلم المرة الثانية، فأجاب ولم
يرفع رأسه، فرفع أسد بن نوح رأسه إلى السماء، ثم قال: اللهم إن هذا
العبد الصالح يبغضنا فيه، ونحن نحبه فيك، ثم ركب ومر، فأخبر بعد ذلك أن
خلف بن أيوب مرض فذهب إليه يعوده، فقال له: هل لك من حاجة؟ قال: نعم.
قال: وما هي؟ قال: حاجتي أن لا تعود إلي وإذا مرضت. قال: وهل غير ذلك؟
قال: إن مت فلا تصلي علي وعليك السواد، قال: فلما توفي خلف شهد أسد بن
نوح جنازته راجلاً، فلما بلغ المصلى نزع السواد وتقدم فصلى عليه، فسمع
صوتاً بالليل: بتواضعك وإجلالك لخلف بن أيوب ثبتت الدولة في عقبك، ولا
تنقطع أبداً.
وفي رواية أخرى: أن أسداً رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام كأنه
يقول له: يا أسد بن نوح، ثبت ملكك وملك بيتك بإجلالك لخلف بن أيوب.
سليمان بن داود بن داود بن علي بن عبد الله بن العباس، أبو أيوب
الهاشمي كان داود بن علي قد مات وابنه حمل، فلما ولد سموه باسمه داود،
وسمع سليمان عبد الرحمن بن أبي الزياد، وإبراهيم بن سعد، وسفيان بن
عيينة، وغيرهم. وروى عنه: أحمد بن حنبل، وإبراهيم الحربي، وكان ثقة.
قال الشافعي: ما رأيت أعقل من رجلين: أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود
الهاشمي.
وقال أحمد بن حنبل: لو قيل لي اختر للأمة رجلاً استخلفه عليهم استخلفت
سليمان بن داود الهاشمي.
توفي سليمان في هذه السنة. وقيل: في سنة تسع عشرة.
عفان بن مسلم أبو عثمان الصفار، البصري مولى عزرة بن ثابت الأنصاري.
ولد سنة أربع وثلاثين ومائة، وحدث عن شعبة، والحمادين، وخلق كثير. روى
عنه: أحمد، ويحيى، وابن المديني، وغيرهم، وكان إماماً ثقة، صاحب سنة
وورع، ضمن له عشرة آلاف دينار على أن يقف عن تعديل رجل، ولا يقول عدل
ولا غير عدل، فأبى وقال: لا أبطل حقاً من الحقوق. وابتلي في المحنة فلم
يجب.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب
قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى بن عبد العزيز، حدثنا أبو الفضل
صالح بن أحمد التميمي قال: سمعت القاسم بن أبي صالح يقول: سمعت إبراهيم
بن الحسين ديزيل يقول: لما دعي عفان للمحنة كنت آخذاً بلجام حماره فلما
حضر عرض عليه القول فامتنع أن يجيب، فقيل له: يحبس عطاؤك قال: وكان
يعطى في كل شهر ألف درهم فقال: " وفي السماء رزقكم وما توعدون " قال:
فلما رجع إلى داره عذله نساؤه ومن في داره، وكان في داره نحو أربعين
إنساناً، قال: فدق عليه داق الباب، فدخل رجل شبهته بسمان أو زيات، ومعه
كيس فيه ألف درهم، فقال: يا أبا عثمان ثبتك الله كما ثبت هذا الدين
وهذا لك في كل شهر.
توفي أبو عثمان في هذه السنة. وقيل: في سنة تسع عشرة، ولا يصح.
فتح الموصلي، أبو نصر. ورد بغداد زائراً لبشر الحافي. أخبرنا عبد
الرحمن بن ثابت قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو عمر
الحسن بن عثمان بن أحمد، أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا العباس
بن يوسف، حدثنا أبو جعفر البزاز، حدثنا أبو نصر ابن أخت بشر الحافي
قال: كنت يوماً واقفاً ببابنا، إذ أقبل رجل ثائر الرأس، ملتف بالعباء،
فقال لي: بشر في البيت؟ قلت: نعم، قال: ادخل فقل له فتح بالباب. فدخلت
فقلت: يا خال، شيخ في عباء قال لي: قل لبشر فتح بالباب، فخرج مسرعاً
فصافحه واعتنقه، فقال له الشيخ: يا أبا نصر، ذكرتك البارحة واشتقت إلى
لقائك قال: فدفع إلي درهماً، فقال: خذ بأربعة دوانيق خبزاً ويكون جيداً
وبدانقين تمراً، فقال الشيخ: قل له: يكون سهريزاً فجئته به. فقال
الشيخ: قل له يأكل معنا فقال: كل معنا فأكلت معهم، فلما أكلت أخذ ما
فضل في طرف العباء ومضى، فخرج خالي معه فشيعه إلى باب حرب، فلما رجع
قال لي: يا بني، تدري من هذا؟ قلت: لا. قال: هذا فتح الموصلي.
وفي رواية أخرى: أن بشراً قال: تدرون لم حمل باقي الطعام؟ قالوا: لا.
قال: إذا صح التوكل لم يضر الحمل.
وقد ذكرنا فتحاً الموصلي في سنة سبعين ومائة، وذاك آخر.
محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب، أبو جعفر رضوان الله عليهم. ولد سنة مائة وخمس وتسعين، وقدم من
المدينة إلى بغداد وافداً على المعتصم ومعه امرأته أم الفضل بنت
المأمون، وكان المأمون قد زوجه إياها وأعطاه مالاً عظيماً، وذلك أن
الرشيد كان يجري على علي بن موسى بن جعفر في كل سنة ثلثمائة ألف درهم
ولنزله عشرين ألف درهم في كل شهر، فقال المأمون لمحمد بن علي بن موسى
لأزيدك على مرتبة أبيك وجدك. فأجرى له ذلك، ووصله بألف ألف درهم. وقدم
بغداد فتوفي بها يوم الثلاثاء لخمس ليال خلون من ذي الحجة في هذه
السنة، وركب هارون بن المعتصم وصلى عليه، ثم حمل ودفن في مقابر قريش
عند جده موسى بن جعفر، وهو ابن خمس وعشرين سنة، وثلاثة أشهر، واثني عشر
يوماً، وحملت امرأته إلى قصر المعتصم فجعلت في جملة الحرم.
وبلغنا عن بعض العلويين أنه قال: كنت أهوى جارية بالمدينة، وتقصر يدي
عن ثمنها، فشكوت ذلك إلى محمد بن علي بن موسى الرضا، فبعث فاشتراها
سراً فلما بلغني أنها بيعت ولم أعلم أنه اشتراها زاد قلقي فأتيته
فأخبرته ببيعها فقال: من اشتراها؟ قلت: لا أعلم، قال: فهل لك في
الفرجة؟ قلت: نعم. فخرجنا إلى قصر له عنده ضيعة فيها نخل وشجر، وقد قدم
إليه فرشاً وطعاماً، فلما صرنا إلى الضيعة أخذ بيدي ودخلنا، ومنع
أصحابه من الدخول، وأقبل يقول لي: بيعت فلانة ولا تدري من اشتراها؟
فأقول: نعم وأبكي، حتى انتهى إلى بيت على بابه ستر، وفيه جارية جالسة
على فرض له قيمة، فتراجعت، فقال: والله لتدخلن، فدخلت، فإذا الجارية
التي كنت أحبها بعينها، فبهت وتحيرت، فقال: أفتعرفها؟ قلت: نعم، قال:
هي لك مع الفرش والقصر والضيعة والغلة والطعام، وأقم بحياتي معها،
وابلغ وطرك في التمتع بها، وخرج إلى أصحابه فقال: أما طعامنا فقد صار
لغيرنا فجددوا لنا طعاماً، ثم دعا الأكار فعوضه عن حقه من الغلة حتى
صارت لي تامة ثم مضى.
ثم دخلت
سنة إحدى وعشرين ومائتين
فمن الحوادث فيها: الوقعة بين بابك وبغا الكبير، فهزم بغا واستبيح
عسكره، ثم واقع الأفشين بابك فهزمه الأفشين.
وشرح
الحال: أن بغا لما تقدم بالمال الذي تقدم ذكره من عند المعتصم تجهز بغا
وحمل معه الزاد من غير أن يكون الأفشين أمره بذلك، فدخل قرية بابك،
فخرج عسكر بابك فقتل من عسكره وأسر، واستباح، وجاء الخبر إلى الأفشين،
فكتب إلى بغا إني في اليوم الفلاني أغزو بابك فاغزه أنت يومئذ لنجتمع
عليه، فهاجت ريح، فرجع بغا إلى عسكره ولقيه الأفشين فهزمه، وأخذ عسكره
وخيمه، ونزل في معسكره ثم بيت بابك الأفشين ونقص عسكره، ثم عاد إلى بغا
فبيته، فخرج بغا راجلاً حتى نجا، وفرق الأفشين الناس في مشاتيهم تلك
السنة، حتى جاء الربيع من السنة المقبلة.
وفي هذه السنة: قتل قائد لبابك يقال له طرخان استأذنه أن يشتو في قرية
له، فبعث إليه الأفشين من قتله وجاء برأسه.
وفيها: أتى أهل البصرة سيل من قبل البر، فغرق دوراً كثيرة، وزاد الماء
حتى خيف الغرق.
وفيها: انتقل المعتصم إلى سامراء بعسكره لأن بغداد ضاقت بهم، ونادى
الناس بالعسكر فسميت سامراء العسكر.
فمن نسب من المحدثين فقيل العسكري فإنهم يختلفون، فمنهم من ينسب إلى
عسكر سامراء، وفيهم كثرة.
ومنهم من ينسب إلى عسكر المهدي، منهم: محمد بن عبد الله أبو بكر أحد
فقهاء أصحاب الرأي كان يتولى القضاء بعسكر المهدي، وكان عاقلاً، إلا
أنه اشتهر بالاعتزال.
ومنهم من ينسب إلى عسكر مصر، منهم: محمد بن علي العسكري، مفتي مصر، كان
ثقة على مذهب الشافعي، وحدث بكتبه عن الربيع بن سليمان. وكذلك سليمان
بن داود بن سليمان أبو القاسم البزاز، حدث عن الربيع أيضاً. وقيل له:
العسكري.
ومنهم من ينسب إلى عسكر مكرم من بلاد خوزستان، وفيهم كثرة، ومكرم
باهلي، وهو أول من اختطها من العرب فتنسب البلدة إليه.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود بن عيسى، وهو والي مكة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن شماس، أبو إسحاق السمرقندي. حدث عن إسماعيل بن عياش، ومسلم
بن خالد الزنجي، وفضيل بن عياض، وابن المبارك، وغيرهم، روى عنه: أحمد
بن حنبل، وأبو خيثمة، وعباس الدوري. وكان ثقة ثبتاً صاحب سنة، وكان
ضخماً عظيم الهامة، فارساً شجاعاً بطلاً مبارزاً، عالماً فاضلاً، قتلته
الترك وهو جاء من ضيعته لم يشعر بهم، ولم يعرفوه، وذلك خارج سمرقند، في
محرم هذه السنة، وقيل: سنة عشرين.
إبراهيم بن سيار، أبو إسحاق البصري النظام. كان من كبار المتكلمين على
مذهب المعتزلة، وله في ذلك تصانيف، والجاحظ يحكي عنه كثيراً.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال:
أخبرني الحسن بن علي الصيمري قال: حدثنا محمد بن عمران المرزباني قال:
أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال: حدثني الجاحظ
قال: سمعت النظام يقول: العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإذا
أعطيته كلك فأنت من إعطائه لك البعض على خطر.
قال المرزباني: وكان لإبراهيم مذهب في ترقيق الشعر وتدقيق المعاني لم
يسبق إليه، ذهب فيه مذهب أهل الكلام المدققين، ومنه ما أنشدنيه عبد
الله بن يحيى العسكري:
وشادن ينطق بالطرف ... يقصر عنه منتهى الوصف
رق فلو بزت سرابيله ... علقه الجو من اللطف
يجرحه اللحظ بتكراره ... ويشتكي الإيماء بالطرف
أفديه من مغرى بما ساءني ... كأنه يعلم ما أخفي
عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز بن مسلم بن ميمون الكناني المكي سمع
سفيان بن عيينة والشافعي، وصحبه طويلاً وتفقه له، وخرج معه إلى اليمن،
وقدم بغداد في أيام المأمون، وجرى بينه وبين بشر المريسي مناظرات في
القرآن، وهو صاحب كتاب الحيدة وكان من أهل الفضل والعلم، وله مصنفات
عدة.
عيسى بن أبان بن صدقة بن موسى. سمع إبراهيم من هشيم وغيره، وصحب محمد
بن الحسن، وتفقه له، واستخلفه يحيى بن أكثم على القضاء بعسكر المهدي
حين خرج يحيى مع المأمون إلى فم الصلح، ثم تولى عيسى القضاء بالبصرة،
فلم يزل عليه حتى مات وكان سخياً جداً، وكان يقول: والله لو أتيت برجل
يفعل في ماله كفعلي، لحجرت عليه، ويذكر عنه أنه كان يذهب إلى القول
بخلق القرآن.
أخبرنا
أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا القاضي أبو
محمد الحسن بن الحسين بن رامين، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن جعفر
حدثنا محمد بن يحيى بن جعفر البزاز، حدثنا محمد بن الرومي، حدثنا محمد
بن داود بن دينار الفارسي، حدثنا محمد بن الخليل، حدثنا أبي - وكان
صاحب سفيان الثوري - قال: كنت بالبصرة فاختصم رجل مسلم ورجل يهودي عند
القاضي، وكان قاضيهم يومئذ عيسى بن أبان، وكان يرى رأي القوم، فوقعت
اليمين على المسلم، فقال له القاضي: قل والذي لا إله إلا هو، فقال له
اليهودي: حلفه بالخالق لا بالمخلوق، لأن لا إله إلا هو في القرآن،
وأنتم تزعمون أنه مخلوق، قال: فتحير عيسى عند ذلك. وقال: قوما حتى أنظر
في أمركما.
توفي عيسى في محرم هذه السنة بالبصرة.
عاصم بن علي بن عاصم بن صهيب مولى قريبة بنت محمد بن أبي بكر الصديق.
يكنى أبا الحسين، الواسطي.
حدث عن ابن أبي ذئب، وشعبة، والمسعودي، روى عنه: أحمد بن حنبل،
والبخاري في صحيحه، والحسن بن محمد الزعفراني، وقال يحيى بن معين: هو
سيد المسلمين، وعنه تضعيفه.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز أخبرنا أحمد بن علي الخطيب، أخبرنا أبو محمد
الخلال قال: ذكر أبو القاسم منصور بن جعفر بن ملاعب: أن إسماعيل بن علي
العاصمي حدثهم قال: حدثنا عمر بن حفص قال: وجه المعتصم بمن يحرز مجلس
عاصم بن علي في رحبة النخل التي في جامع الرصافة، وكان عاصم يجلس على
سطح المسقطات، وينتشر الناس في الرحبة وما يليها فيعظم الجمع جداً حتى
سمعته يوماً يقول: حدثنا الليث بن سعد، ويستعاد، فأعاد أربع عشرة مرة،
والناس لا يسمعون، قال: وكان هارون المستملي يركب نخلة معوجة ويستملي
عليها، فبلغ المعتصم كثرة الجمع، فأمره بحرزهم فوجه بقطاعي الغنم،
فحرزوا المجلس مائة ألف وعشرون ألفاً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا الأزهري،
أخبرنا علي بن محمد بن لؤلؤ، أخبرنا الهيثم الدوري، حدثنا محمد بن سويد
الطحان قال: كنا عند عاصم بن علي ومعنا أبو عبيد القاسم بن سلام،
وإبراهيم بن أبي الليث، وذكر جماعة، وأحمد بن حنبل يضرب ذلك اليوم،
فجعل عاصم يقول: ألا رجل يقوم معي، فنأتي هذا الرجل فنكلمه؟ فما يجيبه
أحد، قال: فقال إبراهيم بن أبي الليث: يا أبا الحسين، أنا أقوم معك.
فصاح: يا غلام، خفي. فقال له إبراهيم: يا أبا الحسين، أبلغ بناتي
فأوصيهن وأجدد بهن عهداً. قال: فظننا أنه ذهب يتكفن ويتحنط، ثم جاء
فقال عاصم: يا غلام، خفي فقال: يا أبا الحسين، إني ذهبت إلى بناتي
فبكين، قال: وجاء كتاب ابنتي عاصم من واسط، يا أبانا، إنه بلغنا أن هذا
الرجل أخذ أحمد بن حنبل وضربه بالسوط على أن يقول القرآن مخلوق، فاتق
الله ولا تجبه إن سألك، فوالله لئن يأتينا نعيك أحب إلينا من أن يأتينا
أنك قلت القرآن مخلوق.
توفي عاصم في رجب هذه السنة.
محمود الوراق الشاعر، ابن الحسن الوراق. أكثر القول في الزهد والأدب،
روى عنه ابن أبي الدنيا، وابن مسروق، وكان نخاساً يبيع الرقيق.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا علي بن محمد بن عبد الله المعدل، أخبرنا أحمد بن محمد بن جعفر
الجوزي قال: قال أبو بكر بن أبي الدنيا: أنشدني محمود الوراق قوله:
رجعت إلى السفيه بفضل حلمي ... فكان الحلم عنه لي لجاما
وظن بي السفاه فلم يجدني ... أسافهه وقلت له سلاما
فقام يجر رجليه ذليلاً ... وقد كسب المذلة والملاما
وفضل الحلم أبلغ في سفيه ... وأحرى أن تنال به انتقاما
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا الجوهري،
أخبرنا محمد بن العباس حدثنا أبو الحسن علي بن موسى الرزاز، حدثنا قاسم
الأنباري قال: حدثني أبو بكر الطالقاني، عن أبيه. قال: كنت جالساً عند
محمود الوراق والناس يعزونه عن جاريته نشو، وقد كان أعطى، بها ألفاً من
الدنانير وإذا بعض المعزين يكرر ذكر فضلها عنده ليحزنه، ففطن له، فأنشأ
يقول:
ومنتصح يكرر ذكر نشو ... ليحدث لي بذكراها اكتئابا
أقول وعد ما كانت تساوي ... سيخلفها الذي خلق الحسابا
عطيته إذا
أعطى سروراً ... وإن أخذ الذي أعطى أثابا
فأي النعمتين أعم فضلاً ... وأكرم في عواقبها إيابا
أنعمته التي أهدت سروراُ ... أم الأخرى التي أهدت ثوابا
بل الأخرى التي نزلت بكره ... أحق بصبر من صبر احتسابا
أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا محمد بن علي بن ميمون، أخبرنا محمد بن
علي بن عبد الرحمن حدثنا جعفر بن محمد بن حاجب، حدثنا الحسين بن محمد
القزازي قال: أنشدني الحسن بن علي بن يزيع قال: أنشدني محمود الوراق
قال:
العمر ينقص والذنوب تزيد ... ويقال عثرته الفتى ويعود
أنى يطيق جحود ذنب موبق ... رجل جوارحه عليه شهود
والمرء يسأل عن سنيه فيشتهي ... تقليلها وعن الممات يحيد
هيهات لا غلط وليس بدافع ... للموت تقريب ولا تبعيد
أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا طراد بن محمد قال: أخبرنا أبو الحسين
بن بشوان قال: حدثنا أبو علي البرذعي قال: حدثنا عبد الله بن محمد
القرشي قال: سمعت محمود الوراق ينشد:
يمثل ذو اللب في نفسه ... مصيبته قبل أن تنزلا
فإن نزلت بغتة لم ترعه ... لما كان في نفسه مثلا
رأى الأمر يفضي إلى آخر ... فصير آخره أولا
وذو الجهل يأمن أيامه ... وينسى مصارع من قد خلا
فإن بدهته صروف الزمان ... ببعض مصائبه أعولا
ولو قدم الجرم في نفسه ... لعلمه الصبر حسن البلا
أخبرنا ابن ناصر، عن أبي القاسم بن البسري، عن أبي عبد الله بن بطة
قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال: حدثني أبي. قال: حدثنا ابن
الأعرابي عن محمود الوراق:
بقيت مالك ميراثاً لوارثه ... فليت شعري ما بقى لك المال
القوم بعدك في حال تسرهم ... فكيف بعدهم دارت بك الحال
مالت بهم عنك دنيا أقبلت بهم ... وأدبرت عنك والأيام أحوال
ملو البكاء فما يبكيك من أحد ... واستحكم القيل في الميراث والقال
أبو جعفر المخولي. سكن باب مخول من بغداد فنسب إليه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب، قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مخلد قال الخلدي: حدثنا
أحمد بن محمد بن مسروق قال: حدثنا محمد بن الحسين، وحدثني إسماعيل بن
إبراهيم الترجماني قال: سمعت أبا جعفر المخولي وكان عابداً عالماً
يقول: حرام على قلب صحب الدنيا أن يسكنه الورع الخفي، وحرام على نفس
عليها زبانية الناس أن تذوق حلاوة الآخرة، وحرام على كل عالم لم يعمل
بعلمه أن يتخذه المتقون إماماً.
ثم دخلت
سنة اثنتين وعشرين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن المعتصم وجه إلى الأفشين جعفر بن دينار مدداً له،
ثم أتبعه بإيتاخ، ووجه معه ثلاثين ألف ألف درهم عطاء للجند والنفقات،
وذلك بعد انقضاء الشتاء، فوقعت وقعة بين أصحاب الأفشين، وقائد بابك
يقال له: آذين.
وانقض ليلة السبت لست خلون من ربيع الآخر نجم لم ير أعظم منه حتى نودي
بالنفير في الرقة وكور الجزيرة والسابات.
وظهر في هذه السنة من الفأر ما لم يحط به الإحصاء، وأتى على غلات
الناس، ثم تفانى بوقوع الموت فيه.
وفي هذه السنة: فتحت البذ وهي مدينة بابك، ودخلها المسلمون،
فاستباحوها، وذلك في يوم الجمعة لعشر مضين من رمضان.
وشرح الحال: أن الأفشين لما عزم على الدنو من البذ جعل يزحف قليلاً حتى
ضج الناس فقالوا: كم نقعد ها هنا في المضيق، أقدم بنا، فإما لنا وإما
علينا، وهو مصابر، فأتاه رسول بابك ومعه قثاء وبطيخ وخيار، اعلم أنني
قد علمت أنك في جفاء بأكلك الكعك والسويق ثم جاءت الخرمية في ثلاثة
كراديس، وقد كمن لهم الأفشين في الأودية، فشد عليهم الخيل والرجالة،
فتسلقوا في الجبال، وبقي الأفشين مدة يتقدم كل يوم، فيقف بإزاء بابك،
ثم يرجع من غير قتال إلى أن عبأ لهم كميناً فجاءهم من فوقهم، وجاء بمن
معه فأخذ قوتهم، فأقبل بابك فقال: أريد الأمان من أمير المؤمنين على أن
أحمل عيالي وأذهب فاشتغل عنه بالحرب.
ودخل
المسلمون البلدة وأحرقوا وقتلوا وهزموا، فأفلت بابك في جماعة، فاستتر
في غيضة، وجاء كتاب المعتصم بالأمان لبابك، فقال الأفشين لولد بابك
وأصحابه: هذا ما لم أكن أرجوه من أمير المؤمنين لبابك، فمن يذهب به
إليه؟ فأخذه رجلان، وكتب معهما ولد بابك يقول له: صر إلى الأمان فهو
خير لك، فلما حملاه إليه قتل أحدهما وقال للآخر: اذهب إلى ابن الفاعلة
يعني ابنه، وقل له لو كنت ابني لكنت قد لحقت بي، ثم خرج من ذلك المكان،
وقد كمن له العسكر، فطلبوه فأفلت إلى جبال أرمينية، فلقيه رجل نصراني
يقال له سهل الأرمني أحد بطارقة أرمينية، فقال له: انزل عندي. فنزل
وكتب ذلك الرجل إلى الأفشين، ثم قال الرجل لبابك: أنت ها هنا مكانك
مغموم في جوف حصن، وها هنا واد طيب، فلو أخذنا معنا بازياً، وخرجنا
نتفرج على الصيد. فقال له بابك: إذا شئت فانفذ الغداة، وكتب الرجل يعلم
أصحاب الأفشين بذلك ويأمرهم بالبكور، فبكروا فوجدوه فأخذوه فحملوه إلى
الأفشين لعشر خلون من شوال.
وكان المعتصم قد جعل لمن جاء به حياً ألفي ألف ولمن جاء برأسه ألف ألف،
فكتب الأفشين إلى المعتصم يخبره أنه قد أسر بابك وأخاه، فكتب المعتصم
يأمره بالقدوم بهما عليه، فقال الأفشين لبابك: إني أريد أن أسافر بك،
فما الذي تشتهي من بلاد أذربيجان؟ فقال: أشتهي أن أنظر إلى مدينتي البذ
فوجه معه قوما إلى البذ، فدار فيه ونظر إلى القتلى والبيوت، ثم رد.
قال الصولي: ووصل المعتصم سهلاً النصراني بألفي ألف درهم، ووهب له
جوهراً كثيراً، وترك له خارج عشرين سنة.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
حسان بن عبد الله بن سهل، أبو علي الكندي. يروي عن الليث بن سعد وغيره،
وكان صدوقاً، حسن الحديث.
توفي بمصر في هذه السنة.
عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم، أبو صالح مولى جهينة. من أهل مصر.
وهو كاتب الليث بن سعد، ولد سنة تسع وثلاثين ومائة، وسمع من جماعة،
وروى عنه أئمة مثل أبي عبيدة، والبخاري، ومحمد بن يحيى الذهلي، وغيرهم،
وقد حدث عنه الليث بن سعد.
قال أحمد بن حنبل: كان عبد الله بن صالح متماسكاً في أول أمره، ثم فسد
بآخره، وليس هو بشيء، وروي عن يحيى أنه كان يوثقه.
وتوفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ثلاث وعشرين ومائتين
فمن الحوادث فيها: قدوم الأفشين على المعتصم ببابك وأخيه، وذلك في ليلة
الخميس لثلاث خلون من صفر في سامراء.
وكان
المعتصم يوجه كل يوم إلى الأفشين من حين فصل من برزند إلى أن وافى
سامراء فرساً وخلعة، وأن المعتصم لعنايته بأمر بابك وأخباره، ولفساد
الطريق بالثلج وغيره، جعل من سامراء إلى عقبة حلوان خيلاً مضمرة على
رأس كل فرسخ فرساً معه مجر مرتب؛ فكان يركض بالخبر ركضاً حتى يؤديه
واحد إلى واحد، وكانت خريطة الكتب تصل من عسكر الأفشين إلى سامراء في
أربعة أيام وأقل، فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون بن
المعتصم وأهل بيته، فلما دخل أنزل بابك في قصر، فجاء أحمد بن أبي دواد
متنكراً في الليل فأبصره وكلمه ورجع إلى المعتصم فوصفه له، فركب ودخل
إليه متنكراً، فتأمله وبابك لا يعرفه؛ فلما كان من الغد قعد له واصطف
الناس، وأراد المعتصم أن يشهره ويريه الناس، فقال: على أي شيء يحمل هذا
وكيف يشهر؟ فقال حزام: يا أمير المؤمنين، لا شيء أشهر من الفيل. فقال:
صدقت؛ فأمر بتهيئة الفيل فأدخل على أمير المؤمنين، وأحضر جزار ليقطع
يديه ورجليه، ثم أمر أن يحضر سياف بابك، فأمره أمير المؤمنين أن يقطع
يديه ورجليه فقطعهما فسقط، فأمر أمير المؤمنين بذبحه، ووجه برأسه إلى
خراسان، وصلب بدنه بسامراء عند العقبة، فموضع خشبته مشهور، وأمر بحمل
أخيه عبد الله إلى إسحاق بن إبراهيم خليفته بمدينة السلام، وأمره بضرب
عنقه، وأن يفعل به مثل ما فعل بأخيه، وصلبه؛ فقال للذي معه: اضرب لي
فالوذجة فعملت له، فأكل وامتلأ ثم قال: اسقيني نبيذاً، فأعطاه فشرب
أربعة أرطال، ثم قدم به على إسحاق فأمر بقطع يديه ورجليه، فلم ينطق ولم
يتكلم، وصلب في الجانب الشرقي بين الجسرين بمدينة السلام، وتوج المعتصم
الأفشين بتاج من الذهب، وألبسه وشاحين من الجوهر، ووصله بعشرين ألف ألف
درهم منها عشرة آلاف ألف صلة. وعشرة آلاف ألف يفرقها في عسكره، وعقد له
على السند، وأدخل عليه الشعراء يمدحونه، فأمر لهم بصلات، وذلك في يوم
الخميس لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر.
أخبرنا محمد بن طاهر قال: أنبأنا علي بن المحسن، عن أبيه: أن أخا بابك
الخرمي قال له لما أدخلا على المعتصم: يا بابك، إنك قد عملت عملاً لم
يعمله أحد، فاصبر الآن صبراً لم يصبره أحد، فقال له: سترى صبري. فلما
صار بحضرة المعتصم أمر بقطع أيديهما بحضرته، فبدئ ببابك فقطعت يمناه،
فلما جرى دمها مسه به وجهه كله، فقال المعتصم: سلوه لم فعل هذا؟ فسئل،
فقال: قولوا للخليفة: إنك أمرت بقطع أربعتي وفي نفسك - ولا شك - إنك لا
تكويها وتمنع دمي حتى ينزف إلى أن تضرب رقبتي، فخفت أن يخرج الدم مني
فيبقى في وجهي صفرة يقدر لأجلها من حضر، إني قد فزعت من الموت، وأنها
لذلك لا من خروج الدم، فغطيت وجهي لذلك حتى لا تبين الصفرة، فقال
المعتصم: لولا أن فعاله لا توجب العفو عنه لكان حقيقياً بالاستبقاء
لهذا الفضل، وأمر بإمضاء أمره فيه، فقطعت أربعته، ثم ضربت عنقه، وجعل
على بطنه حطب، وصب عليه النفط، وضرب بالنار، وفعل مثل ذلك بأخيه، فما
فيهما من صاح ولا تكلم.
وفي هذه السنة: أوقع توفيل بن ميخائيل صاحب الروم بأهل زبطرة، فأسرهم
وخرب بلدهم، ومضى من فوره إلى ملطية، فأغار على أهلها وعلى حصون من
حصون المسلمين، وسبى من المسلمات أكثر من ألف امرأة ومثل بمن صار في
يده من المسلمين، وسمل أعينهم، وقطع آذانهم وآنافهم.
وكان
السبب في ذلك تضييق الأفشين على بابك، فلما أشرف على الهلاك، وأيقن
بالعجز عن الحرب، كتب إلى توفيل ملك الروم يعلمه أن ملك الرعب قد وجه
عساكره إليه حتى وجه خياطه - يعني جعفر بن دينار - وطباخه - يعني -
إيتاخ - ولم يبق على بابه أحد؛ فإن أردت الخروج إليه فاعلم أنه ليس في
وجهك أحد يمنعك، وإنما كتب هذا ليتجرد ملك الروم لذلك فينكشف عنه بعض
ما هو فيه برجوع العسكر أو بعضهم، فخرج توفيل في مائة ألف، ومعه من
المحمرة الذين كانوا بالجبال، فلحقوا بالروم، ففرض لهم ملك الروم
وزودهم وصيرهم مقاتلة يستعين بهم، فدخل ملك الروم زبطرة وقتل الرجال
وسبى الذراري والنساء، فبلغ النفير إلى سامراء، وخرج أهل ثغور الشام
والجزيرة واستعظم المعتصم ذلك، فصاح في قصره النفير، ثم ركب دابته
وعسكر بغربي دجلة يوم الإثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى، ووجه عجيف
بن عنبسة في جماعة من القواد إلى زبطرة، إعانة لأهلها، فوجدوا ملك
الروم قد انصرف إلى بلاده بعدما فعل ما فعل، فوقفوا قليلاً؛ حتى تراجع
الناس إلى قراهم، واطمأنوا.
وقال المعتصم:
شفيت ببابك غل النفوس ... وأثلجت بالزط حر الصدور
وأحضر القضاة والشهود، وأشهدهم على نفسه أنه قد وقف جميع أمواله فجعل
ثلثها لمواليه وثلثها لولده، وثلثها للمساكين، ثم قال: أي بلاد الروم
أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان
الإسلام، وهي عين النصرانية، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية.
فخرج إلى بلاد الروم، وقيل: كان ذلك في سنة اثنتين وعشرين. وقيل: سنة
أربع وعشرين، وتجهز جهازاً لم يتجهز مثله خليفة قبله من السلاح والعدد
والآلة وحياض الأدم والحمير والبغال والروايا والقرب وآلة الحديد
والنفط، وجعل على مقدمته أشناس، ويتلوه محمد بن إبراهيم، وعلى ميمنته
إيتاخ، وعلى ميسرته جعفر بن دينار، وعلى القلب عجيف، فدخل بلاد الروم،
فأقام على سلوقية قريباً من البحر، وبعث الأفشين إلى سروج، فأمره
بالدخول من درب الحدث، سمى له يوماً أمره أن يكون دخوله فيه، وقدر
لعسكره وعسكر أشناس اليوم الذي يدخل فيه الأفشين، ودبر النزول على
أنقرة، فإذا فتحها الله تعالى صار إلى عمورية إذ لم يكن شيء مما يقصد
له من بلاد الروم أعظم من هاتين المدينتين ولا أحرى أن تجعل غايته التي
يؤمها.
وأمر المعتصم أشناس أن يدخل من درب طرسوس، وأمره بانتظاره بالصفاف،
فكان شخوص أشناس يوم الأربعاء لثمان بقيت من رجب، وقدم المعتصم وصيفاً
في أثر أشناس على مقدمات المعتصم ورحل المعتصم يوم الجمعة لست بقين من
رجب.
فتقدم أشناس والمعتصم من ورائه، بينهم مرحلة، ينزل هذا ويرحل هذا، ولم
يرد عليهم من الأفشين خبر، حتى صاروا من أنقرة على مسيرة ثلاث مراحل،
وضاق عسكر المعتصم ضيقاً شديداً من الماء والعلف، وكان أشناس قد أسر
عدة أسرى في طريقه، فأمر بهم، فضربت أعناقهم، وهرب أهل أنقرة وعظماؤها،
ونزل بها المعتصم وأشناس والأفشين، فأقاموا بها أياماً.
ثم صير العسكر ثلاثة عساكر: عسكر فيه أشناس في المسيرة، والأفشين في
الميمنة، والمعتصم في القلب، وبين كل عسكر وعسكر فرسخان، وأمر كل عسكر
منهم أن يكون له ميمنة وميسرة، وأن يحرقوا القرى ويخربوها، ويأخذوا من
لحقوا فيها من السبي، وإذا كان وقت النزول توافى كل أهل عسكر إلى
صاحبهم ورئيسهم، يفعلون ذلك فيما بين أنقرة إلى عمورية، وبينهم سبع
مراحل؛ حتى توافت العساكر بعمورية.
وكان أول
من وردها أشناس؛ وردها يوم الخميس ضحوة، فدار حولها دورة، ثم نزل بموضع
فيه ماء وحشيش، فلما طلعت الشمس ركب المعتصم فدار حولها دورة، ثم جاء
الأفشين في اليوم الثالث، فقسمها أمير المؤمنين بين القواد، فصير لكل
واحد منهم أبراجاً منها على قدر كثرة أصحابه وقلتهم، فصار لكل قائد ما
بين البرجين إلى عشرين برجاً وتحصن أهل عمورية، وكان أهل عمورية قد
أسروا رجلاً فتنصر وتزوج فيهم، وحبس نفسه، فلما رأى أمير المؤمنين ظهر،
وجاء إلى المعتصم وأعلمه أن موضعاً من المدينة حمل الوادي عليه من مطر
شديد جاءهم، فوقع السور من ذلك الموضع، وكتب ملك الروم إلى عامل عمورية
أن يبني ذلك الموضع، فوقع التواني حتى خرج الملك من القسطنطينية إلى
بعض المواضع، فتخوف الوالي أن يمر الملك على تلك الناحية فلا يراها
بنيت، فبنى وجه السور بالحجارة حجراً حجراً، وصيروا له من جانب المدينة
حشواً، ثم عقد فوقه الشرف كما كان، فوقف ذلك الرجل المعتصم على هذه
الناحية التي وصف، فأمر المعتصم فضرب مضربه في ذلك الموضع، ونصب
المجانيق على ذلك البناء، فانفرج السور من ذلك الموضع وسقط.
وكان المعتصم قد ساق غنماً كثيرة، فدبر أن يدفع إلى كل رجل من العسكر
شاة، فإذا أكلها حشى جلدها تراباً، ثم جاء به فطرحه في الخندق، وعمل
دبابات تسع كل واحدة عشرة من الرجال، فطرحت الجلود وطرح فوقها التراب،
وكان أول من بدأ بالحرب أشناس، وكانت الحرب في اليوم الثاني على
الأفشين وأصحابه، فأجادوا الحرب، وكان المعتصم واقفاً على دابته بإزاء
الثلمة، وأشناس وأفشين وخواص القواد معه؛ وكان باقي القواد الذين دون
الخاصة وقوفاً رجالة، فلما انتصف النهار انصرف المعتصم إلى مضربه
فتغدى،وانصرف القواد إلى مضاربهم يتغدون، فلما كان في اليوم الثالث
كانت الحرب على أصحاب أمير المؤمنين خاصة، والقيم بذلك إيتاخ، فقاتلوا
فأحسنوا، وكثرت في الروم الجراحات، فلما كان الليل مشى القائد الموكل
بالثلمة إلى الروم، فقال لهم: إن الحرب علي وعلى أصحابي، ولم يبق معي
أحد إلا قد خرج، فصيروا أصحابكم على الثلمة يرمون قليلاً، وإلا افتضحتم
وذهبت المدينة. فأبوا أن يمدوه بأحد، فقالوا: سلم السور من ناحيتنا،
ونحن ما نسألك أن تمدنا فشأنك بناحيتك. فعزم هو وأصحابه أن يخرجوا إلى
أمير المؤمنين، فيسألونه الأمان، ويسلموا إليه الحصن.
فلما أصبح وكل أصحابه بجنبي الثلمة، وخرج فقال: إني أريد أمير
المؤمنين، وأمر أصحابه أن لا يحاربوا حتى يعود إليهم، فخرج حتى وقف بين
يدي المعتصم، والناس يتقدمون إلى الثلمة، وقد أمسك الروم عن الحرب حتى
وصلوا إلى السور، والروم يقولون بأيديهم: لا تحيوا وهم يتقدمون، فدخل
الناس المدينة، وأخذت الروم السيوف، وأقبل الناس بالأسرى والسبي من كل
وجه حتى امتلأ العسكر، فقتل ثلاثين ألفاً وسبى مثلهم، وكان في سبيه
ستون بطريقاً، وطرح النار في عمورية من جميع نواحيها فأحرقها، وجاء
ببابها إلى العراق، وهو الباب المنصوب اليوم على دار الخليفة المجاور
لباب الجامع، ويسمى باب العامة.
وروى أبو
بكر الصولي قال: حدثنا الغلابي قال: حدثني يعقوب بن جعفر بن سليمان
قال: غزوت مع المعتصم عمورية فاحتاج الناس إلى ماء، فمد لهم المعتصم
حياضاً من أدم عشرة أميال، وساق الماء فيها إلى سور عمورية، فقام يوماً
على السور رجل منهم فصيح بالعربية، فشتم النبي صلى الله عليه وسلم
باسمه ونسبه، فاشتد ذلك على المسلمين، ولم تبلغه النشابة، قال يعقوب:
وكنت أرمي، فاعتمدته فأصبت نحره فهوى وكبر المسلمون، وسر المعتصم،
وقال: جيئوني بمن رمى هذا العلج. فأدخلوني عليه، فقال: من أنت؟ فانتسبت
له، فقال: الحمد لله الذي جعل ثواب هذا السهم لرجل من أهل بيتي، ثم
قال: بعني هذا الثواب، فقلت، يا أمير المؤمنين ليس الثواب مما يباع،
فقال: إني أرغبك، فأعطاني مائة ألف درهم إلى أن بلغ خمسمائة ألف درهم،
قلت: ما أبيعه بالدينار، لكن أشهد الله أني قد جعلت نصف ثوابه لك،
فقال: قد رضيت بهذا، أحسن الله جزاءك، في أي موضع تعلمت الرمي؟ فقلت:
بالبصرة في دار لي، فقال: بعينها، فقلت، هي وقف على من يتعلم الرمي،
وإن أحب أمير المؤمنين فهي له وكل ما أملك. فجزاني خيراً ووصلني بمائة
ألف درهم، وارتحل المعتصم منصرفاً إلى أرض طرسوس، وكانت إناخة المعتصم
على عمورية لست خلون من رمضان وقيل: بعد خمسة وخمسين يوماً.
وفي هذه السنة: حبس المعتصم العباس بن المأمون، وأمر بلعنه.
وكان السبب في ذلك: أن العباس دس رجلاً يقال له: الحارث السمرقندي،
وكان يأنس إلى القواد، فدار في العسكر حتى تألف له جماعة منهم، وبايعه
منهم خواص العسكر، وسمى لكل رجل من القواد رجلاً من أصحابه ووكله به،
وقال: إذا أمرنا فليثب كل رجل منكم على من ضمناه أن يقتله، فضمنوا له
ذلك، فوكل رجلاً ممن بايعه من خاصة الأفشين بالأفشين، ومن خاصة أشناس
بأشناس، ومن خاصة المعتصم بالمعتصم، فضمنوا ذلك جميعاً، فلما أرادوا أن
يدخلوا الدرب وهم يريدون أنقرة وعمورية، أشار عجيف على العباس أن يثب
على المعتصم في الدرب وهو في قلة من الناس، فيقتله ويرجع إلى بغداد،
فيفرح الناس بانصرافهم من الغزو، فأبى العباس وقال: لا أفسد هذه
الغزاة. حتى دخلوا بلاد الروم وافتتحوا عمورية، فقال عجيف للعباس: يا
نائم، كم تنام والرجل ممكن، دس قوماً ينتهبون هذا الحرثي، فإنه إذا
بلغه ذلك ركب في سرعة، فتأمر بقتله هناك، فأبى العباس، وقال: انتظر حتى
نصير في الدرب. ونمى حديث الحارث السمرقندي، فحمل إلى المعتصم، فأقر
وأخبر بخبر العباس ومن بايعه، فأطلقه المعتصم وخلع عليه، ودعا بالعباس
فأطلقه ومناه، وأوهمه أنه قد صفح عنه، فتغدى معه، ثم دعاه بالليل
فاستحلفه أن لا يكتمه شيئاً من أمره فشرح له قصته، وسمى له جمي من دب
في أمره، ثم دعا الحارث، فقص عليه مثل ما قص العباس فصفح عن الحارث،
ودفع العباس إلى الأفشين، وتتبع المعتصم أولئك القواد، فأخذوا جميعاً،
وكان منهم أحمد بن الخليل، فأمر به أن يحمل على بغل بإكاف بلا وطاء،
ويطرح في الشمس إذا نزل، ويطعم كل يوم رغيفاً واحداً، وكان منهم عجيف،
فدفع إلى إيتاخ، فعلق عليه حديداً كثيراً، فلما نزل العباس منبج - وكان
العباس جائعاً - سأل الطعام فقدم إليه، فأكل فلما طلب الماء منع وأدرج
في مسح، فمات فيه بمنبج، وكذلك عجيف قدم إليه الطعام ومنع الماء فمات،
وأهلك كل واحد من القوم بسبب ورود المعتصم سامراء سالماً، فسمي العباس
يومئذ اللعين.
ولما فتح المعتصم عمورية، قال محمد بن عبد الملك الزيات:
أقام الإمام منار الهدى ... وأخرس ناقوس عموريه
فقد أصبح الدين مستوسقاً ... وأضحت زياد الهدى واريه
ومن الحوادث: حصول جارية محمود الوراق في يد المعتصم بعد موت سيدها
محمود الوراق.
أخبرنا
أبو منصور القزاز أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني الأزهري،
حدثنا محمد بن جعفر النجار، أخبرنا أبو محمد العتكي، حدثنا يموت بن
المزرع، عن الجاحظ قال: طلب المعتصم جارية كانت لمحمود الوراق، وكان
نخاساً، بسبعة آلاف دينار فامتنع محمود من بيعها، فلما مات محمود
اشتريت للمعتصم من ميراثه بسبعمائة دينار، فلما دخلت عليه، قال لها:
كيف رأيت تركتك حتى اشتريتك من سبعة آلاف دينار بسبعمائة؟ قالت: أجل،
إذا كان الخليفة ينتظر بشهواته المواريث، فإن سبعين ديناراً كثيرة في
ثمني فضلاً عن سبعمائة. فأخجلته.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
عجيف بن عنبسة. قائد كبير من القواد، قد ذكرنا في الحوادث أنه خامر على
الخليفة، فأخذ ومنع الماء حتى مات. وروي أنه قتل وطرح تحت حائط.
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، أنبأنا التنوخي، عن أبيه روى عن محمد بن
الفضل الجرجاني أنه تحدث في وزارته للمعتصم قال: كنت أتولى ضياع عجيف -
وهو أحد القواد - فرفع علي أنني جئت وأخربت الضياع، فأنفذ إلي، فأدخلت
عليه وهو يطوف في داره على ضياع فيها، فلما رآني شتمني وقال: أخربت
الضياع، ونهبت الارتفاع والله لأقتلنك، هاتوا السياف. فأحضرت ونحيت
للضرب، فلما رأيت ذلك ذهب عقلي وبلت على ساقي، فنظر كاتبه إلي فقال:
أعز الله الأمير، أنت مشتغل القلب بهذا البناء وضرب هذا أو قتله في
أيدينا ليس يفوت فتأمر بحبسه، وانظر في أمره، فإن كانت الرقعة صحيحة
فليس يفوتك عقابه، وإن كانت باطلة لم تستعجل الإثم وتنقطع عما أنت
بسبيله من المهم. فأمر بي إلى الحبس فمكثت أياماً، وقتل المعتصم
عجيفاً، فاتصل الخبر بكاتبه فأطلقني، فخرجت وما أهتدي إلى حبة فضة فما
فوقها، فقصدت صاحب الديوان بسر من رأى فسر بإطلاقي، وقلدني عملاً فنزلت
داراً، فرأيت مستحمها غير نظيف، فإذا تل فجلست أبول عليه، وخرج صاحب
الدار فقال لي: أتدري على أي شيء بلت؟ قلت: على تل تراب. فضحك وقال:
هذا رجل من قواد السلطان يعرف بعجيف سخط عليه، وحمله مقيداً، فلما صار
ها هنا قتل، وطرح في هذا المكان تحت حائط، فلما انصرف العسكر طرحنا
الحائط ليواريه من الكلاب، فهو والله تحت هذا التل التراب. قال: فعجبت
من بولي خوفاً منه ومن بولي على قبره.
أحمد بن الحكم أبو علي العبدي البغدادي. روى عن مالك بن أنس، وإبراهيم
بن سعد، وشريك بن عبد الله. قال الدارقطني: هو متروك الحديث. قال أبو
سعيد بن يونس: قدم مصر وتوفي بها في ذي القعدة من هذه السنة.
حسان بن غالب بن نجيح، أبو القاسم الرعيني. يروي عن مالك، والليث، وابن
لهيعة، وكان ثقة. توفي في رجب هذه السنة.
خالد بن خداش بن عجلان، أبو الهيثم المهلبي مولى آل المهلب بن أبي
صفرة. حدث عن مالك، وحماد بن زيد، وخلق كثير. روى عن أحمد بن حنبل،
وغيره. وكان ثقة صدوقاً. توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة، وكان يخضب
بالحناء.
عبد الله بن محمد بن حميد بن الأسود، أبو بكر البصري ابن أخت عبد
الرحمن بن مهدي. كان ضامن همذان، ويعرف بابن أبي الأسود، وأبو الأسود
هو حميد جده. سمع مالك بن أنس، وحماد بن زيد وأبا عوانة. روى عنه:
إبراهيم الحربي، وابن أبي الدنيا وكان حافظاً متقناً.
توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة.
العباس بن المأمون. قد ذكرنا في الحوادث أنه بويع في السر، وأراد قتل
المعتصم، وذكرنا كيفية هلاكه.
ثم دخلت
سنة أربع وعشرين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن المعتصم دفع خاتم الخلافة إلى ابنه هارون، وأقام
مقام الخلافة عنه واستكتب له سليمان بن محمد بن عبد الملك، وفيها أجرى
المعتصم الخيل، وكان يوماً مشهوداً.
وفيها تزوج الحسن بن أفشين أترجة بنت أشناس، ودخل بها في قصر المعتصم
في جمادى الآخرة ودخل قصرها وحضر عرسها المعتصم وعامة أهل سامراء،
وكانوا يغلفون العامة بالغالية من تغار.
وفي شوال: زلزلت مدينة فرغانة، فمات منها أكثر من خمسة عشر ألفاً.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن المهدي.
ويكنى أبا
إسحاق، وأمه أم ولد يقال لها: شكلة. ولد سنة ست وستين ومائة، وكان أسود
اللون، شديد السواد، عظيم الجثة، ولم ير في أولاد الخلفاء أفصح منه،
ولا أجود شعراً، وكان كريماً، بويع له بالخلافة من أيام المأمون في سنة
اثنتين ومائتين، وهو يومئذ ابن تسع وثلاثين سنة وشهرين وخمسة أيام، وقد
ذكرنا السبب، وأن المأمون بايع لعلي بن موسى الرضى بولاية العهد، فغضب
بنو العباس، وقالوا: لا نخرج الأمر من أيدينا، فبايعوا إبراهيم، فلما
قدم المأمون من خراسان استتر إبراهيم، فأقام في استتاره ست سنين وأربعة
أشهر وعشرة أيام، وكان ينتقل في المواضع، حتى نزل بقرب جبلة، ثم ظفر به
المأمون لثلاث عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر سنة عشر ومائتين.
وقد ذكرنا قصته معه، وعفوه عنه في حوادث تلك السنة، ولم يزل بعد أن عفا
عنه إلى أن توفي.
أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة قالت: أخبرنا أبو محمد بن السراج،
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن بندار الشيرازي، أخبرنا أحمد بن علي
بن لال قال: أخبرني أحمد بن علي بن حرب، عن بعض مشايخه قال: اختفى
إبراهيم بن المهدي زمن المأمون عند أخته علية، وكانت تكرمه غاية
الكرامة، وقد وكلت به جارية قد أدبتها وأنفقت عليها الأموال، وكانت
حاذقة راوية للشعر، وكانت قد طلبت منها مائة وخمسين ألف درهم، وكانت
تتولى خدمة إبراهيم، وتقوم على رأسه، فهويها، وكره طلبها من عمته، فلما
اشتد وجده بها، أخذ عوداً، وغنى بشعر له فيها، وهي واقفة على رأسه:
يا غزالاً لي إليه ... شافع من مقلتيه
والذي أجللت خدي ... ه فقبلت يديه
بأبي وجهك ما أك ... ثر حسادي عليه
أنا ضيف وجزاء الضي ... ف إحسان إليه
فسمعت الجارية الشعر، وفطنت لمعناه لرقتها وظرفها، وكانت مولاتها
تسألها عن حالها معه وحاله كل يوم، فأخبرتها في ذلك اليوم بما في قلبه
منها وبما سمعت منه من الشعر والغناء، فقالت لها مولاتها: اذهبي فقد
وهبتك له. فعادت إليه فلما رآها أعاد الصوت فأكبت عليه الجارية فقبلت
رأسه، فقال لها: كفي. فقالت: قد وهبتني مولاتي لك، وأنا الرسول، فقال:
أما الآن فنعم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا
الجوهري قال: أخبرنا محمد بن العباس قال: أنشدني عبيد الله بن أحمد
المروروذي قال: أنشدني إبراهيم بن المهدي:
قد شاب رأسي وراس الحرص لم يشب ... إن الحريص على الدنيا لفي تعب
قد ينبغي لي مع ما حزت من أدب ... أن لا أخوض في أمر ينقص بي
لو كان يصدقني دهري بفكرته ... ما اشتد غمي على الدنيا ولا نصبي
أسعى وأجهد فيما لست أدركه ... والموت يكدح في زندي وفي عصبي
بالله ربك كم بيت مررت به ... قد كان يغمر باللذات والطرب
طارت عباب المنايا في جوانبه ... فصارت بعدها للويل والحرب
فامسك عنانك لا تجمح به طلع ... فلا وعينك ما الأرزاق بالطلب
قد يرزق العبد لم يتعب رواحله ... ويحرم الرزق من لم يوف من طلب
مع أنني واجد في الناس واحدة ... الرزق والنول مقرونان في سبب
وخطة ليس فيها من بيان غنى ... الرزق أروع شيء عن ذوي الأدب
يا ثاقب الفهم كم أبصرت ذا حمق ... الزرق أعرى به من لازم الجرب
توفي إبراهيم بن المهدي في رمضان هذه السنة وصلى عليه المعتصم.
سليمان بن حرب أبو أيوب الأسدي الواشجي البصري. ولد سنة أربعين ومائة،
سمع شعبة وجرير بن حازم، والحمادين، وغيرهم. روى عنه يحيى بن سعيد
القطان، وأحمد بن حنبل، وابن راهويه، والبخاري، وغيرهم، وقرأ الفقه،
وكان لا يدلس.
قال أبو
حاتم الرازي: حضرت مجلسه ببغداد عند قصر المأمون، فبني له شبه منبر،
فصعد، وحضر حوله جماعة من القواد عليهم السواد، والمأمون فوق قصره قد
فتح باب القصر، وقد أرسل ستر يشف وهو خلفه، يكتب ما يملي، وحرز من حضر
أربعين ألف رجل، وكان لا يسأل عن حديث إلا حدث من حفظه، ولي قضاء مكة
في سنة أربع عشرة ومائتين، ثم عزل عنها في سنة تسع عشرة، فرجع إلى
البصرة، فلم يزل بها حتى توفي في ربيع الآخر من هذه السنة.
شيبان المصاب. أخبرنا عمر بن ظفر، أخبرنا جعفر بن أحمد السراج، أخبرنا
عبد العزيز بن علي الأرخي، أخبرنا علي بن عبد الله بن جهضم، حدثنا أحمد
بن محمد بن عيسى الرازي حدثنا أحمد بن سلمة قال: حدثنا سالم قال: بينما
أنا سائر مع ذي النون في جبل لبنان، إذ قال: مكانك يا سالم حتى أعود
إليك، فغاب في الجبل ثلاثة أيام، وأنا أتظره، فإذا هاجت علي النفس
أطعمتها من نبات الأرض وسقيتها من ماء الغدران، فلما كان بعد الثالث
رجع إلي متغير اللون، ذاهب العقل، فقلت له بعدما رجعت إليه نفسه: يا
أبا الفيض، أسبع عارضك؟ قال: لا، دعني من تخويف البشرية، إني دخلت
كهفاً من كهوف هذا الجبل، فرأيت رجلاً أبيض الرأس واللحية شعثاً أغبر،
نحيفاً نحيلاً، كأنما أخرج من قبره، ذا منظر مهول وهو يصلي، فسلمت عليه
بعدما سلم، فرد علي السلام وقال: الصلاة، فما زال راكعاً وساجداً حتى
صلى العصر واستند إلى حجر بحذاء المحراب يسبح ولا يكلمني، فبدأته
بالكلام وقلت له: رحمك الله توصني بشيء ادع الله عز وجل لي بدعوة.
فقال: يا بني، انسك الله بقربة، ثم سكت، فقلت: زدني. قال: يا بني من
آنسه بقربه أعطاه أربع خصال: عزاً من غير عشيرة، وعلماً من غير طلب،
وغنى من غير مال وأنساً من غير جماعة. ثم شهق شهقة فلم يفق إلا بعد
ثلاثة أيام حتى توهمت أنه ميت، فلما كان بعد ثلاثة أيام قام وتوضأ من
عين ماء إلى جنب الكهف، وقال لي: يا بني، كم فاتني من الفرائض؟ صلاة أو
صلاتان أو ثلاث؟ قلت: قد فاتتك صلاة ثلاثة أيام بلياليهن، فقال:
إن حب الحبيب هيج شوقي ... ثم حب الحبيب أذهل عقلي
وقد استوحشت من ملامة المخلوقين، وقد أنست بذكر رب العالمين، انصرف عني
بسلام، فقلت له: يرحمك الله وقفت عليك ثلاثة أيام رجاء الزيادة وبكيت.
فقال: أحبب مولاك ولا ترد بحبه بدلاً، فالمحبون لله تعالى هم تيجان
العباد، وعلم الزهاد، وهم أصفياء الله وأحباؤه. ثم صرخ صرخة عظيمة
فحركته، فإذا هو قد فارق الدنيا، فما كان إلا هنيئة، وإذا بجماعة من
العباد ينحدرون من الجبال حتى واروه تحت التراب، فسألت: ما اسم هذا
الشيخ؟ قالوا: شيبان المصاب. قال سالم: سألت أهل الشام عنه قالوا: كان
مجنوناً. قلت: تعرفون من كلامه شيئاً؟ قالوا: نعم كلمة وجيزة كان يغني
بها إذا ضجر:
إذا بك يا حبيبي ... لم أجن فبمن؟
قال سالم: فقلت: عمي والله عليكم.
عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر المقري المقعد البصري سمع عبد
الوارث بن سعيد، والدراوردي. روى عنه البخاري، وأبو حاتم الرازي،
والدوري.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب قال:
أخبرنا علي بن أبي علي البصري قال: أخبرنا محمد بن العباس الخزاز
وإسماعيل بن سعيد المعدل قالا: حدثنا ابن الأنباري قال: حدثنا عبد الله
بن بيان، أخبرنا الحسن بن عبد الرحمن الربعي، أخبرنا أبو محمد التوزي،
أخبرنا أبو معمر صاحب عبد الوارث قال: كان شعبة يحتقرني إذا ذكرت
شيئاً، فحدثنا عن أبي عون، عن ابن سيرين: أن كعب بن مالك قال:
قضينا من تهامة كل ريب ... بخيبر ثم أحمينا السيوفا
فسايلها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوساً أو ثقيفا
فلست لمالك إن لم يزركم ... بساحة داركم منا ألوفا
وتنتزع العروش عروش وج ... وتصبح داركم منكم خلوفا
فقلت له: وأي عروش كانت؟ ثم قال: مما هي، قلت: وينتزع العروش عروش وج،
وذلك من قول الله عز وجل: " خاوية على عروشها " قال: وكان بعد ذلك
يكرمني ويرفع مجلسي.
كان أبو معمر ثقة ثبتاً، لكنه كان يقول بالقدر. توفي في هذه السنة.
عبد الرحمن بن يونس بن هاشم أبو مسلم الرومي، مولى أبي جعفر المنصور
ولد سنة
أربع وستين ومائة، وكان يستملي على سفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون،
روى عنه: البخاري في صحيحه، والحربي، وابن أبي الدنيا، وقال: أبو حاتم
الرازي: صدوق.
وتوفي ببغداد في رجب هذه السنة.
علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف أبو الحسن المدائني مولى عبد
الرحمن بن سمرة القرشي. وهو بصري هي مولده ونشأ بها، وسكن المدائن، ثم
انتقل عنها إلى بغداد، فسكن بها إلى أن توفي في هذه السنة، وقيل في سنة
خمس وعشرين وله ثلاث وتسعون سنة، وكان عالماً بأيام الناس وأخبار العرب
والفتوح والمغازي، وله مصنفات.
وقد روى عنه الزبير بن بكار وغيره، وكان من الثقات، أهل الخير، يسرد
الصوم قبل موته ثلاثين سنة.
قال أبو قلابة: حدثت أبا عاصم النبيل بحديث فقال: عمن هذا؟ فقلت: ليس
له إسناد ولكن حدثنيه أبو الحسن المدائني، فقال: سبحان الله، أبو الحسن
إسناد.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا الصيمري،
حدثنا علي بن أيوب، أخبرنا محمد بن عمران المرزباني قال: قال أبو عمر
المطرز: سمعت أحمد بن يحيى النحوي يقول: من أراد أخبار الجاهلية فعليه
بكتب أبي عبيدة، ومن أراد أخبار الإسلام فعليه بكتب المدائني.
القاسم بن سلام، أبو عبيد. كان أبوه رومياً لرجل من أهل هراة، وبها ولد
أبو عبيد، ويحكى أن سلاماً خرج يوماً وأبو عبيد مع ابن مولاه في
الكتاب، فقال للمعلم: علمني القاسم فإنها كسبه.
طلب أبو عبيد العلم، وسمع الحديث من إسماعيل بن جعفر، وشريك، وهشيم،
وابن عيينة، ويزيد بن هارون، وخلق كثير، وروى اللغة عن البصريين
والكوفيين، عن أبي زيد، وأبي عبيدة، والأصمعي، واليزيدي، وعن أبي
عثمان، وأبي عمرو الشيباني، والكسائي، والأحوص، والأحمر، والفراء. وصنف
الكتاب في فنون الفقه والقراءات، والغريب، وغير ذلك. وكان مؤدباً لآل
هرثمة، وصار في ناحية عبد الله بن طاهر وكان ذا فضل ودين وجود، ومذهب
حسن.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أبو بكر بن علي بن ثابت،
أخبرنا القاضي أبو العلاء قال: قال أبو الحسن محمد بن جعفر التميمي:
كان طاهر بن الحسين حين مضى إلى خراسان نزل بمرو، فطلب رجلاً يحدثه
ليله، فقيل: ما ههنا إلا رجل مؤدب، فأدخل عليه أبو عبيد، فوجده أعلم
الناس بأيام الناس، والنحو، واللغة، والفقه، فقال له: من المظالم تركك
أنت بهذا البلد، فدفع إليه ألف دينار، وقال له: أنا متوجه إلى خراسان
إلى حرب، وليس أحب استصحابك شفقة عليك، فأنفق هذه إلى أن أعود إليك قال
أبو عبيد: صنفت غريب المصنف إلى أن عاد طاهر بن الحسين من خراسان فحمله
معه إلى سامراء.
قال التميمي: وحدثنا أبو علي النحوي، حدثنا الفسطاطي قال: كان أبو عبيد
مع ابن طاهر، فوجه إليه أبو دلف يستهديه أبا عبيدة مدة شهرين، فأنفذ
أبا عبيد إليه فأقام شهرين، فلما أراد الانصراف وصله أبو دلف بثلاثين
ألف درهم، فلم يقبلها وقال: أنا في جنبة رجل ما يحوجني إلى صلة أحد ولا
آخذ ما فيه علي نقص، فلما عاد إلى طاهر وصله بثلاثين ألف دينار بدل ما
وصله أبو دلف، فقال له: أيها الأمير قد قبلتها، ولكن أنت قد أغنيتني
بمعروفك وبرك وكفايتك عنها، وقد رأيت أن أشتري بها سلاحاً وخيلاً،
وأوجه بها إلى الثغور ليكون الثواب متوفراً على الأمير ففعل.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن
ثابت، حدثنا أبو القاسم الأزهري، حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا عبيد
الله بن عبد الرحمن السكري قال: قال أحمد بن يوسف - إما سمعته منه أو
حدثت به عنه - قال: لما عمل أبو عبيد كتاب غريب الحديث عرضه على عبد
الله بن طاهر فاستحسنه وقال: إن عقلاً بعث صاحبه على عمل مثل هذا
الكتاب لحقيق أن لا يحوج إلى طلب المعاش، فأجرى له عشرة آلاف درهم في
كل شهر.
وأول من سمع هذا الكتاب من أبي عبيد: يحيى بن معين، وابن المديني.
وكان الأصمعي يقول: لن يضيع الناس ما حيي أبو عبيد.
وقال إبراهيم الحربي: ما شبهت أبا عبيد إلا بجبل نفخ فيه روح.
وكان أبو عبيد يقسم الليل أثلاثاً فينام ثلثه، ويصلي ثلثه، ويضع الكتب
ثلثه.
وتولى قضاء طرسوس، ثم حج سنة تسع عشرة، ومات بمكة سنة أربع وعشرين،
وقيل في التي قبلها، وقد بلغ سبعاً وستين سنة.
ثم دخلت
سنة خمس وعشرين ومائتين
فمن
الحوادث فيها: أن المعتصم أجلس أشناس على كرسي وخلع عليه وتوجه ووشحه
في شهر ربيع الأول.
وفيها: خلع المعتصم على محمد بن عبد الملك الزيات ووسمه بالوزارة، ورفع
من قدره.
وفيها: غضب المعتصم على جعفر بن دينار من أجل وثوبه على من كان معه من
الشاكرية، وحبسه عند أشناس خمسين يوماً، وعزله عن اليمن وولاها إيتاخ،
ثم رضي عن جعفر ثم عزل الأفشين عن الحرس، ووليه إسحاق بن يحيى.
وفيها: غضب المعتصم على الأفشين، فحبسه لأنه رفع عنه أنه يريد قتل
المعتصم.
وذكر الصولي أن أحمد بن أبي دؤاد قال للمعتصم: إن الأفشين قد كاتب
المازيار، وكان خارجياً، فقال المعتصم: فكيف أعلم حقيقة ذلك؟ قال: تبعث
إلى كاتبه في الليل فتهدده، فإنه ضعيف القلب، وسيقر لك، ففعل وأعطاه
أماناً، فأقر له. قال له: فمن كتب الكتاب؟ قال: أنا. قال: فما فيه؟
قال: كتب إليه: لم يكن في العصر فير بابك وغيرك وغيري، فمشى بابك وقد
جاءك جيش، فإن هزمته كفيتك أنا الحضرة، وخلص لنا الدين الأبيض، قال:
فانصرف ولا تعلم أحداً بما جرى، فإن علم الأفشين بمجيئك إلي فقل: سألني
عن خدمك ومؤونتك وعيالك.
قال أحمد بن أبي دؤاد: فدخلت على المعتصم وهو يبكي، فأنكرت ذلك، فقال:
يا أبا عبد الله، رجل أنفقت عليه ألف ألف دينار، ووهبت له مثلها، يريد
قتلي، وقد تصدقت بعشرة آلاف ألف درهم، فخذها فأنفذها، وكان الكرخ قد
احترقت، حتى كان الرجل إذا قام من ضيعة الكرخ رأى أرقال السفن.
فقال أحمد بن أبي دؤاد: إن رأى أمير المؤمنين أن يجعل النصف من هذا
المال لأهل الحرمين والنصف الآخر لأهل الكرخ. قال: أفعل. وكتب المعتصم
إلى عبد الله بن طاهر أن يقبض على الحسن بن الأفشين وامرأته أترجة بنت
أشناس في يوم حده له، وقبض هو على الأفشين فيه وحبسه.
وفي مستهل جمادى الأولى: كانت رجفة بالأهواز عظيمة، تصدعت منها الجبال
وخصوصاً الجبل المطل على الأهواز؛ ودامت أربعة أيام بلياليها، وهرب أهل
البلدة إلى البر وإلى السفن، وسقطت فيها دور كثيرة، وسقط نصف الجامع،
ومكثت ستة عشر يوماً.
وفيها: أحرقت الكرخ فأسرعت النار في الأسواق، فوهب المعتصم للتجار
وأصحاب العقار خمسة آلاف ألف درهم جرت على يد ابن أبي دؤاد، وقدم بها
إلى بغداد، ففرقها.
وفيها: أحرق المعتصم غناماً المرتد.
وفيها: أسر مازيار فضرب خمسمائة سوط، فمات من يومه، وكان خلع بطبرستان
وصلب إلى جانب بابك بسامراء.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن مهدي بغدادي نزل المصيصة، فقيل له: المصيصي، حدث عن إبراهيم
بن سعد، وحماد بن زيد، وغيرهما. روى عنه: أحمد بن حنبل، وأبو داود،
وعباس الدوري. وكان ثقة.
وتوفي في هذه السنة.
إبراهيم بن أبي محمد يحيى بن المبارك بن المغيرة أبو إسحاق العدوي،
المعروف بابن اليزيدي البصري سكن بغداد، وله فضل وافر، وحظ من الأدب
الزائد، سمع من أبي زيد والأصمعي، وجالس المأمون، وكان شاعراً مجيداً،
وله كتاب مصنف يفتخر به اليزيديون، وهو ما اتفق لفظه واختلف معناه نحو
من سبعمائة ورقة، وذكر أنه بدأ بتصنيفه وهو ابن سبع عشرة سنة، ولم يزل
يعمله إلى أن أتت عليه ستون سنة، وله كتاب معادن القرآن وكتاب في بناء
الكعبة وأخبارها.
سعيد بن سليمان أبو عثمان الواسطي، المعروف بسعدويه البزار سكن بغداد،
وحدث بها عن الليث بن سعد، وزهير بن معاوية، وحماد بن سلمة وغيرهم. روى
عنه: يحيى بن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم، وكان ثقة مأموناً،
حج ستين حجة، إلا أنه كان يصحف، وامتحن فأجاب.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا محمد بن عبد
الواحد، أخبرنا الوليد بن بكر، حدثنا علي بن أحمد بن زكريا الهاشمي،
حدثنا أبو مسلم صالح بن أحمد العجلي قال: حدثني أبي قال: سعيد بن
سليمان ويعرف بسعدويه ثقة، قيل له بعدما انصرف من المحنة ما فعلتم؟
قال: كفرنا ورجعنا.
توفي سعدويه ببغداد في هذه السنة في ذي الحجة، وله مائة سنة.
صالح بن إسحاق بن عمرو الجرمي النحوي.
صاحب
الكتاب المختصر في النحو وإنما قيل له الجرمي لأنه كان ينزل في جرم
وقيل: بل كان مولى لجرم، وجرم من قبائل اليمن، وأخذ النحو عن الأخفش
وغيره، ولقي يونس بن حبيب ولم يلق سيبويه، وأخذ اللغة عن أبي عبيدة،
وأبي زيد، والأصمعي، وطبقتهم، وأسند الحديث عن يزيد بن زريع وغيره،
وكان حسن الاعتقاد، غزير العلم، وناظر الفراء فأفحم الفراء.
توفي في هذه السنة.
عبيد بن غاضرة بن فرقد، أبو عثمان العبدي. قدم مصر وحدث بها، وتوفي في
شوال هذه السنة.
علي بن رزين، أبو الحسن الخراساني. كان أستاذ أبي عبد الله المغربي.
أخبرنا عمر بن ظفر، قال: أخبرنا أبو جعفر بن أحمد بن عبد الواحد،
أخبرنا عبد العزيز بن علي، أخبرنا ابن جهضم، حدثنا أحمد بن محمد بن علي
بن هارون قال: سمعت إبراهيم بن شيبان قال: كان علي بن رزين قد شاع عنه
في الناس أنه يشرب في كل أربعة أشهر شربة ماء، فسأله رجل من أهل
قرميسين عن هذا، فقال: نعم، وأي شيء في هذا؟ ! سألت الله عز وجل أن
يكفيني مؤونة بطني فكفاني.
عاش علي بن رزين مائة وعشرين سنة. وتوفي في هذه السنة، ودفن على جبل
الطور.
القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل أبو دلف العجلي أمير الكرخ كان سمحاً
جواداً، وبطلاً شجاعاً، وأديباً شاعراً.
أخبرنا أبو منصور بن عبد الرحمن القزاز، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا
الأزهري، أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن الحسن، حدثنا أحمد بن مران المكي،
حدثنا المبرد، حدثنا أبو عبد الرحمن الثوري قال: استهدى المعتصم من أبي
دلف كلباً أبيض كان عنده فجعل في عنقه قلادة كيمخت أقصر، وكتب عليها:
أوصيك خيراً به فإن له ... خلائقاً لا أزال أحمدها
يدل ضيفي علي في ظلم الل ... يل إذا النار نام موقدها
قال الأزهري: وفي كتابي عن سهل الديباجي، حدثنا أحمد بن محمد بن الفضل
الأهوازي قال: أنشد بكر بن النطاح أبا دلف:
مثال أبي دلف أمة ... وخلق أبي دلف عسكر
وإن المنايا إلى الدارعين ... بعيني أبي دلف تنظر
قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم، فمضى فاشترى بها بستاناً بنهر الأبلة،
ثم عاد من قابل فأنشده:
بك ابتعت في نهر الأبلة جنة ... عليها قصير بالرخام مشيد
إلى لزقها أخت لها يعرضونها ... وعندك مال للهبات عتيد
فقال أبو دلف: بكم الأخرى؟ قال: بعشرة آلاف فقال: ادفعوها إليه، ثم قال
له: لا تجيني قابل، فتقول بلزقها أخرى، فإنك تعلم أن لزق أخرى إلى أخرى
اتصل إلى ما لا نهاية له.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت،
أخبرنا الحسن بن محمد الخليل، حدثنا أحمد بن إبراهيم البزار، أخبرنا
أحمد بن مران المالكي، حدثنا الحسن بن علي الربعي، حدثنا أبي قال: سمعت
العتابي يقول: اجتمعنا على باب أبي دلف جماعة، فكان يعدنا بأمواله من
الكرج وغيرها، فأتته الأموال، فبسطها على الأنطاع، وجلسنا حوله، ثم
اتكأ على قائم سيفه وأنشأ يقول:
ألا أيها الزوار لا يد عندكم ... أياديكم عندي أجل وأكبر
فإن كنتم أفردتموني بالرجاء ... فشكري لكم من شكركم لي أكثر
كفاني من مالي دلاص وسابح ... وأبيض من صافي الحديد مغفر
ثم أمر بنهب تلك الأموال، فأخذ كل واحد منا على قدر قوته.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت،
أخبرنا أحمد بن عمر بن روح، أخبرنا المعافى بن زكريا، حدثنا الحسين بن
القاسم الكوكبي، حدثنا أبو الفضل الربعي، عن أبيه قال: قال المأمون
يوماً - وهو مقطب - لأبي دلف: أنت الذي يقول فيك الشاعر:
إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره
فقال: يا أمير المؤمنين، شهادة زور، وقول غرور، وملق معتف، وطالب عرف،
وأصدق منه قول ابن أخت لي حيث يقول:
دعيني أجوب الأرض ألتمس الغنى ... فلا الكرج الدنيا ولا الناس قاسم
إذا كانت الأرزاق في كف قاسم ... فلا كانت الدنيا ولا كان قاسم
فضحك المأمون وسكن غضبه.
توفي أبو دلف ببغداد في هذه السنة.
أخبرنا
أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، أخبرنا الحسن بن
أبي طالب، حدثنا يوسف بن عمر القواس، حدثنا الحسين بن إسماعيل، حدثنا
عبد الله بن أبي سعد، حدثنا محمد بن سلمة البلخي، حدثنا محمد بن علي
القوهستاني حدثنا دلف بن أبي دلف قال: رأيت كأن آتياً أتاني بعد موت
أبي دلف فقال: أجب الأمير، فقمت معه، فأدخلني داراً وحشة، وعرة سود
الحيطان مقلعة السقوف والأبواب، ثم أصعدني درجاً فيها، ثم أدخلني غرفة
فإذا في حيطانها أثر النيران، وإذا في أرضها أثر الرماد، وإذا أبي
عريان واضع رأسه بين ركبتيه، فقال لي كالمستفهم: دلف؟ قلت: نعم، أصلح
الله الأمير. فأنشأ يقول:
أبلغن أهلنا ولا تخف عنهم ... ما لقينا في البرزخ الخناق
قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا ... فارحموا وحشتي وما قد ألاقي
أفهمت؟ قلت: نعم، فأنشأ يقول:
فلو كنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعد ذا عن كل شيء
انصرف، قال: فانتبهت.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب أخبرنا أبو يعلى
أحمد بن عبد الواحد الوكيل، أخبرنا محمد بن جعفر التميمي، أخبرنا
الصولي قال: تذاكرنا يوماً عند المبرد الحظوظ وأرزاق الناس من حيث لا
يحتسبون، فقال: هذا يقع كثيراً فمنه قول ابن أبي فنن في أبيات عملها
لمعنى أراده:
ما لي وما لك قد كلفتني شططاً ... حمل السلاح وقول الدارعين قف
أمن رجال المنايا خلتني رجلاً ... أمسى وأصبح مشتاقاً إلى التلف
تمشي المنون إلى غيري فأكرهها ... فكيف أمشي إليها بارز الكتف
أم هل حسبت سواد الليل شجعني ... أو أن قلبي في جنبي أبي دلف
فبلغ هذا الشعر أبا دلف فوجه إليه أربعة آلاف درهم جاءته على غفلة.
بلغني عن الفضل بن محمد بن أبي محمد اليزيدي وكان من العلماء الأدباء
الفضلاء، قال: كان لرجل حجازي جارية مغنية شاعرة، وكان مشغوفاً بها،
فأملق في بلده، فسافر بها طلباً للرزق، فقصد بغداد فسمع به جماعة من
أهلها فقصدوه للمعاشرة، فلم يحظ منهم بطائل، ورآهم يلاحظون الجارية
ويولعون بها، فقطعهم عنه، فاشتدت فاقته، فقصد أبا دلف العجلي بالكرج،
فمدحه ولم يكو شعره بالطائل بحيث يقتضي كثرة الجائزة، فاضطر إلى بيع
الجارية، فابتاعها منه أبو دلف بثلاثة آلاف دينار، وكساه ووصله وحمله،
فانصرف وهو باك حزين، فوصل إلى بغداد، وكان يحضر عندي دائماً ويشكو
شوقه إلى الجارية شكوى تؤلمني، فانصرف من عندي يوماً، ثم بعث إلي برقعة
يقول فيها: إنه وصل إلى منزله فوجد الجارية وقد أهداها له أبو دلف،
فتطلعت نفسي إلى معرفة الحال، فمضيت إليه فوجدت الجارية جالسة، وامرأة
كهلة وخادماً، فسألتها عن أمرها، فقالت: إني لما فارقت مولاي عظم
استيحاشي وحزني، حتى امتنعت من الطعام والنوم، فاستدعاني أبو دلف، وطيب
نفسي بكل وعد جميل، وسامني الغنى، فكنت إذا هممت بإجابته خنقتني
العبرة، فلم أستطع الكلام، وفعل ذلك دفعات، وأنا على حالي، فجفاني
وبقيت في حجرة أفردت لي، لا أرى إلا خادماً ربما كان برسم حفظي، وجارية
وكلت بخدمتي، وكنت قلت أبياتاً وعلقتها في رقعة، أنظر فيها وقت خلوتي،
وهي:
لو يعلم القاسم العجلي ما فعلا ... لعاد معتذراً أو مطرقاً خجلا
ماذا دعاه إلى هجر المروة في ... تفريق إلفين كانا في الهوى مثلا
فإن مولاي أصمته الخطوب بما ... لو مر بالطفل عاد الطفل مكتهلا
فباعني بيع مضطر وصيره ... فرط الندامة بعد البين مختبلا
وبت عادمة للصبر باكية ... كأنني مدنف قد شارف الأجلا
بين الضرائر أدعى بالغريبة إن ... هفوت لم ألق لي في الناس محتملا
فما تبدلت إلفاً بعد فرقته ... ولا تعوض مني غادر بدلا
فاتفق أنه
اجتاز بباب الحجرة، فدخل لينظر هل خف ما أجده، فجلس يعاتبني، ويرفق بي
ويومئ في كلامه إلى تهديدي، فوجدني على حالتي الأولى، ولاحظ الرقعة،
فأخذها فتأملها وقال: الآن يئست منك، وإن رددتك على مولاك فمن يرد
المال علي؟ قلت: قانصه يرده عليك أو ما بقي منه وهو الأكثر بلا شك
والله عز وجل يخلف عليك باقيه. فأطرق ساعة ثم قال: بل الله عز وجل يخلف
علي الأصل، وقد رددتك على مولاك، ووهبت لك ما بقي عنده من ثمنك لحسن
عهدك ورعايتك حق الصحبة، وما أفارق موضعي إلا وأنت على الطريق فاستتري
مني، فلست الآن في ملكي. فدخلت بيتاً في الحجرة، فاستدعى كرسياً فجلس
عليه، وأحضر هذه العجوز وهي قهرمانة داره، وهذا الخادم، وأوصاهما بحفظي
حتى يسلماني إلى صاحبي، وأزاح العلة في جميع ما احتجت إليه من النفقة
والكسوة والكراع، وحمل معي جميع ما كان جعله في داره من الأثاث والفرش،
وما فارق الكرسي إلا وقد خرجنا من بين يديه. فقلت: يا مولاي، قد حضرني
بيتان أسألك أن تأذن لي في إنشادهما. فأذن لي، فقلت:
لم يخلق الله خلقاً صيغ من كرم ... إلا أمير الندى المكنى أبا دلف
رثى لمحزونة بالبين مدنفة ... فردها طالباً أجراً على دنف
فدمعت عيناه وقال: أحسنت، وأمر لي بخلعة ومائة دينار، فحمل ذلك إلي
وسرت.
قال اليزيدي: فعجبت من ذلك، وكانت ليلة نوبتي في السمر عند المأمون،
فقلت له: يا أمير المؤمنين، عندي حديث مستطرف نادر، فقال: هات يا فضل.
فأعدت عليه الحديث عن آخره، فاستحسنه وعجب منه وقال: ما قصرت الجارية
في حفظ عهد من رباها، وما قصر القاسم في فعله، ونحتاج أن نقوي عزمه في
مثل هذا الفعل الجميل الذي هو معدود في مفاخر أيامنا، فإذا أصبحت فاغد
إلى أحمد بن أبي طاهر، وقل له: احتسب للقاسم العجلي بثلاثة آلاف دينار
من معاملاته وأنفذ له درزاً يقبض المال لذلك، واكتب أنت إليه وعرفه
انتهاء الحال إلينا وإحمادنا لما اعتمد ليزداد حرصاً على انتهاز الفرص
في مثل هذه المكرمة، فبادرت لما أمر به وتنجزت الدرز بالمال وجعلته درج
كتابي، وسلمته إلى صاحب الحرس لينفده على البريد، فلم تمض إلا أيام حتى
عاد جوابه يشكرني، ويقول: أما ثمن الجارية فوصل، واغتبطت بنعمة أمير
المؤمنين في تعويضي إلا أنه مال أخرجته من فضل إحسانه، وما أحب
ارتجاعه، لكني قبلته طاعة وحملت إليك منه ألفاً لقضاء حقك، وتقدمت
بتفريق الباقي منه على من بهذه الديار من بني هاشم، وأعلمتهم أن كتاب
أمير المؤمنين ورد بأنه انتهى إليه اختلال أحوالهم، فأمر بتعهدهم بذلك،
فأكثروا الشكر والدعاء.
قال اليزيدي: فأنهيت ذلك إلى أمير المؤمنين، فتهلل وجهه وقال: إنه
ليسرني أن يكون ممن اتسع حظه من خير أيامي جماعة منهم القاسم بن عيسى.
منصور بن عمار بن كثير، أبو السري الواعظ. من أهل خراسان. وقيل: من أهل
البصرة، سكن بغداد، وحدث بها عن ليث بن سعد، وابن لهيعة وغيرهما، روى
عنه: أبو بكر بن علي بن حزم.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، أخبرنا محمد بن
علي الصولي، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الأزدي، حدثنا عبد الواحد بن
محمد بن مسرور، حدثنا أبو سعيد بن يونس قال: منصور بن عمار يكنى أبا
السري، قدم مصر وجلس يقص على الناس، فسمع كلامه الليث بن سعد، فاستحسن
قصصه وفصاحته، فذكر أن الليث قال له: ما الذي أقدمك إلى بلدنا؟ قال:
طلبت أن أكسب بها ألف دينار فقال له الليث: فهي لك علي وصن كلامك هذا
الحسن، ولا تتبذل. فأقام بمصر في جملة الليث بن سعد في جرايته، إلى أن
خرج عن مصر فدفع إليه الليث بن سعد ألف دينار، ودفع إليه بنو الليث
أيضاً ألف دينار، فخرج وسكن بغداد وتوفي بها. وكان في قصصه وكلامه
شيئاً عجباً لم يقص على الناس مثله.
أخبرنا
أبو منصور، أخبرنا أبو بكر أخبرنا الأزهري، أنبأنا ابن بطة، أخبرنا
إبراهيم بن جعفر التستري قال: سمعت أبا الحسن علي بن الحسن الواعظ
يقول: سمعت أبا بكر الصيدلاني يقول: سمعت سليم بن منصور بن عمار يقول:
رأيت أبي منصوراً في المنام فقلت: ما فعل بك ربك؟ فقال: إن الرب قربني
وأدناني وقال لي: يا شيخ السوء، تدري لم غفرت لك؟ قال: فقلت: لا يا
إلهي، قال: إنك جلست للناس مجلساً فبكيتهم، فبكى فيهم عبد من عبادي لم
يبك من خشيتي قط. فغفرت له، ووهبت أهل المجلس كلهم له، ووهبتك فيمن
وهبت له.
أخبرنا محمد بن أبي القاسم، أنبأنا رزق الله بن عبد الوهاب عن أبي عبد
الرحمن السلمي قال: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا العباس القاضي
يقول: سمعت أبا الحسين يقول: رأيت منصور بن عمار في المنام، فقلت له،
ما فعل الله بك؟ قال: وقفت بين يديه فقال لي: أنت الذي كنت تزهد الناس
في الدنيا وترغب عنها، قلت: قد كان ذلك، ولكن ما اتخذت مجلساً إلا
وبدأت بالثناء عليك وثنيت بالصلاة على نبيك وثلثت بالنصيحة لعبادك.
فقال: صدق، ضعوا له كرسياً في سمائي فمجدني في سمائي بين ملائكتي كما
مجدتني في أرضي بين عبادي.
توفي منصور في هذه السنة ببغداد، وقبره ظاهر بمقبرة باب حرب قريباً من
بشر الحافي.
مخة أخت بشر الحافي. وكان لبشر ثلاث أخوات مخة، ومضغة وزبدة، والمشهور
بذكر الورع مخة.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن
ثابت قال: حدثني عبد العزيز بن أحمد الكتاني، حدثنا عبد الوهاب بن عبد
الله المزني قال: سمعت أبا بكر الأحنف يقول: سمعت عبد الله بن أحمد
يقول: جاءت مخة أخت بشر الحافي إلى أبي فقالت له: إني امرأة رأس مالي
دانقين، أشتري القطن فأغزله وأبيعه بنصف درهم وأتقوت بدانق من الجمعة
إلى الجمعة، فمر ابن طاهر الطائف ومعه مشعل، فوقف يكلم أصحاب المسالح
فاستغنمت ضوء المشعل فغزلت طاقات، ثم غاب عني المشعل فعلمت أن لله في
مطالبة، فخلصني خلصك الله، فقال لها: تخرجين الدانقين ثم تبقين بلا رأس
مال حتى يعوضك الله خيراً منه. قال عبد الله: فقلت لأبي يا أبه لو قلت
لها: لو أخرجت الغزل الذي فيه الطاقات، فقال: يا بني، سؤالها لا يحتمل
التأويل. ثم قال: من هذه؟ قلت: مخة أخت بشر الحافي فقال: من ها هنا
أتيت.
ثم دخلت
سنة ست وعشرين ومائتين
فمن الحوادث فيها: ما ذكر ابن حبيب الهاشمي في ليلة الاثنين النصف من
جمادى الآخرة مطر أهل تيماء مطراً وبرداً كالبيض، فقتل بها ثلثمائة
وسبعين إنساناً، وهدم دوراً، وسمع في ذلك صوت يقول: ارحم عبادك، اعف عن
عبادك، ونظروا إلى أثر قدم طولها ذراع بلا أصابع وعرضها شبرين، من
الخطوة إلى الخطوة خمسة أذرع أو ست، فاتبعوا الصوت، فجعلوا يسمعون
صوتاً ولا يرون شخصاً.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود بن عيسى.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الأفشين الأمير الكبير، واسمه حيدر بن ساووس. وقد سبقت أخباره، وأنه
اتهم بدين المجوسية، واتهم بأنه أراد قتل المعتصم، وأن ينقل الملك إلى
الأعاجم، وأن المعتصم غضب عليه، وحبسه وقيده، فبقي مدة ثم مات في هذه
السنة.
وقيل: بل قتله وصلبه بإزاء بابك، وذلك في شوال هذه السنة.
وقال أبو بكر الصولي: مات في الحبس، وصلب بعد ذلك بباب العامة في
شعبان، وأحضرت أصنام كانت حملت إليه من أشروسنة، فضربت بالنار، وطرح
الأفشين فيها، فأحرق وذري وذلك في شعبان.
عبد الجبار بن سعيد بن سليمان بن نوفل بن ماحق. ولي إمرة المدينة مرة
بعد مرة، وولي قضاءها للمأمون، وكان أجمل قرشي وأحسنه وجهاً، وأجوده
لساناً، وتوفي وهو شيخ قريش في هذه السنة. وكان قد بلغ ثلاثاً وثمانين
سنة، وكان آخر ولد سعيد لأنهم انقرضوا.
علي بن الحكم أبو الحسن المروزي. سمع أبا عوانة، وابن المبارك،
والمبارك بن فضالة، وغيرهم، روى عنه أحمد بن حنبل، والبخاري في الصحيح.
وتوفي في هذه السنة.
عنان. مولدة من مولدات اليمامة، وبها نشأت وتأدبت، واشتراها النطاف
ورباها، وكانت صفراء جميلة الوجه شكلة، سريعة البديهة في الشعر، تجاوب
فحول الشعراء، جاءها رجل فقال أجيزي:
وما زال يشكو الحب حتى حسبته ... تنفس من أحشائه أو تكلما
فقالت:
ويبكي
فأبكي رحمة لبكائه ... إذا ما بكى دمعاً بكيت له دما
وكان الرشيد قد طلبها من مولاها، فقال: لا أبيعها بأقل من مائة ألف،
فبعث الرشيد فأحضرها، ثم ردها، فتصدق الناطفي لما رجعت بثلاثين ألف
درهم، فلما مات مولاها أخرجت إلى السوق، فبلغ بها مسرور مائتي ألف
درهم، فزاد رجل واشتراها، وأخرجها إلى خراسان، فماتت هناك.
غسان بن الربيع بن منصور، أبو محمد الغساني الأزدي. من أهل الموصل، سمع
حماد بن سلمة، روى عنه أبو يعلى الموصلي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن
إبراهيم الحربي، وكان نبيلاً فاضلاً ورعاً.
توفي بالموصل في هذه السنة.
يحيى بن يحيى بن بكير بن عبد الرحمن أبو زكريا التميمي المنقري من ولد
قيس بن عاصم المنقري. وقال البخاري: ويقال: هو مولى بني منقر من بني
سعد.
سمع من مالك، والليث بن سعد، وابن لهيعة وغيرهم، وكان عالماً خيراً
ورعاً، وكان ابن راهويه يقول: ما رأيت مثل يحيى بن يحيى، وما رأى مثل
نفسه.
أنبأنا إسماعيل بن أحمد قال: أنبأنا أبو القاسم يوسف بن الحسن التفكري
قال: سمعت أبا علي الحسن بن علي بن بندار الريحاني يقول: كان يحيى بن
يحيى يحضر مجلس مالك، فانكسر قلمه، فناوله المأمون قلماً من ذهب - أو
مقلمة من ذهب - فلم يقبل، فقال له المأمون: ما اسمك؟ قال: يحيى بن يحيى
النيسابوري قال: تعرفني؟ قال: نعم، أنت المأمون ابن أمير المؤمنين،
قال: فكتب المأمون على ظهر جزوة: ناولت يحيى بن يحيى النيسابوري قلماً
في مجلس مالك فلم يقبله، فلما أفضت الخلافة إليه بعث إلى عامله
بنيسابور يأمره أن يولي يحيى بن يحيى القضاء، فبعث إليه يستدعيه، فقال
بعض الناس له: تمتنع من الحضور، وليته أذن للرسول، فأنفذ إليه كتاب
المأمون، فقرئ عليه، فامتنع من القضاء، فرد إليه ثانياً، وقال: إن أمير
المؤمنين يأمرك بشيء وأنت من رعيته، وتأبى عليه، فقال: قل لأمير
المؤمنين ناولتني قلماً وأنا شاب فلم أقبله، أفتجبرني الآن على القضاء
وأنا شيخ. فرفع الخبر إلى المأمون، فقال: قد علمت امتناعه، ولكن ول
القضاء رجلاً يختاره، فبعث إليه العامل في ذلك، فاختار رجلاً فولي
القضاء، ودخل على يحيى وعليه سواد فضم يحيى فرشاً كان جالساً عليه
كراهية أن يجمعه وإياه، فقال: أيها الشيخ، ألم تخترني؟ قال: إنما قلت
اختاروه، وما قلت لك تقلد القضاء.
أخبرنا زاهر بن طاهر قال: أخبرنا أحمد بن الحسين البيهقي، أخبرنا أبو
عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم قال: سمعت أبا سعيد بن أبي بكر بن
أبي عثمان يقول: سمعت فاطمة بنت إبراهيم بن عبد الله السعدية تقول:
سمعت فاطمة امرأة يحيى بن يحيى تقول: قام يحيى مرة لورده، فلما فرغ منه
قعد يقرأ، إذ سمعت جلبة فقال لي: تعرفوا ما هذه الجلبة؟ فنظرنا فإذا
العسكر والمشاعل وهم يقولون: الأمير عبد الله بن طاهر يزور أبا زكريا.
فعرفناه الخبر، وكان ابن طاهر يشتهي أن يراه، فما كان بأسرع من أن
استأذنوا عليه ففتحنا، فدخل الأمير عبد الله بن طاهر وحده، فلما قرب من
أبي زكريا وسلم، قام إليه والمصحف في يده، ثم رجع إلى قراءته حتى ختم
السورة التي كان افتتحها، ثم وضع المصحف، واعتذر إلى الأمير وقال: لم
أشتغل عنه تهاوناً بحقه، إنما كنت افتتحت سورة فختمتها، فقعد عبد الله
ساعة يحدثه، ثم قال له: ارفع إليا حوائجك، فقال: قد والله وقعت لي حاجة
في الوقت، فقال: مقضية ما كانت. فقال: قد كنت أسمع محاسن وجه الأمير
ولا أعاينها إلا ساعتي هذه، وحاجتي إليك أن لا ترتكب ما يحرق هذه
المحاسن بالنار. فأخذ الأمير عبد الله بن طاهر في البكاء حتى قام وهو
يبكي.
توفي يحيى بن يحيى في صفر هذه السنة وهو ابن أربع وثمانين سنة.
أنبأنا زاهر بن طاهر، قال: أنبأنا أبو بكر البيهقي، أنبأنا الحاكم أبو
عبد الله النيسابوري قال: سمعت أبا الحسن محمد بن الحسن السراج الزاهد
- وكان شديد العبادة - قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في
المنام كأنه قد أقبل، إلى أن وقف على قبر يحيى بن يحيى وتقدم، وصف خلفه
جماعة من أصحابه، فصلى عليه، ثم التفت إلى أصحابه فقال: هذا القبر
لأمان لأهل هذه المدينة.
وقد روى عن يحيى بن يحيى خمس طبقات من كبار العلماء.
فالطبقة
الأولى: إسحاق بن راهويه، ومحمد بن رافع، وعلي بن غنام، ومحمد بن أسلم،
ومحمد بن يحيى الذهلي، ونظراؤهم.
والطبقة الثانية: أحمد بن الأزهر العبدي، وإبراهيم بن عبد الله السعدي،
ويحيى بن محمد الذهلي ونظراؤهم.
والطبقة الثالثة: مسلم بن الحجاج، وسليمان بن داود، وإسماعيل بن قتيبة
السلمي، ونظراؤهم.
والطبقة الرابعة: زكريا بن داود الخفاف، وعصمة بن إبراهيم الزاهد،
وإبراهيم بن علي الذهلي، ونظراؤهم.
والطبقة الخامسة: إسماعيل بن الحجاج الميداني، ويحيى بن عبد الله بن
سليمان، والحسن بن معاذ، ونظراؤهم.
وقد روى عنه أئمة البلدان، منهم: إبراهيم بن إسماعيل العنبري إمام عصره
بطرسوس، ومحمد بن مشكان إمام عصره بسرخس، وعبد المجيد بن إبراهيم
القاضي إمام عصره ببوشنج، وعثمان بن سعيد الدرامي إمام عصره بهراة،
ومحمد بن الفضل البلخي إمام عصره ببلخ، ومحمد بن نصر المروروذي إمام
عصره بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل البخاري إمام عصره ببخارى، ومحمد بن
عبد الله بن أبي عرابة إمام عصره بالشاش، ومحمد بن إسحاق الشافعي إمام
عصره بأبيورد، وحميد بن زنجويه إمام عصره بنسا.
ثم دخلت
سنة سبع وعشرين ومائتين.
فمن الحوادث فيها: خروج أبي حرب المبرقع اليماني بفلسطين وخلافه
للسلطان.
وسبب ذلك: أن بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب عنها، وفيها إما
زوجته وإما أخته فمانعته فضربها، فلما رجع أبو حرب بكت وشكت ما فعل
بها، وأرته أثر الضرب، فأخذ سيفه ومشى إلى الجندي وهو غار؛ فضربه به
حتى قتله، ثم هرب وألبس وجهه برقعاً كي لا يعرف، فصار الرجل إلى جبل من
جبال الأردن، فطلبه السلطان، فلم يعرف له خبر، وكان يظهر بالنهار فيقعد
على الجبل الذي أوى إليه متبرقعاً، فيراه الرائي فيأتيه، فيذكره ويحرضه
على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويذكر السلطان ويعيبه، فاستجاب
له خلق من حراثي تلك الناحية وأهل القرى؛ وكان يزعم أنه أموي، فقال
الذين استجابوا له: هذا هو السفياني، فلما كثرت غاشيته وأتباعه دعا أهل
البيوتات من أهل تلك الناحية؛ فاستجاب له جماعة منهم حتى صاروا في زهاء
مائة ألف، فوجه إليه المعتصم جنداً عليهم رجاء بن أيوب فطاوله رجاء حتى
إذا جاء أوان عمارة الأرض، انصرف الحراثون، وبقي في نحو من ألف أو
ألفين فناجزه الحرب، وأسره وجاء به إلى المعتصم.
وقيل كان خروج هذا في سنة ست وعشرين.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا الخطيب أبو بكر، أخبرنا الأزهري،
حدثنا علي بن عمر الحافظ، أخبرنا عبد الله بن إسحاق البغوي، أخبرنا
الحارث بن أبي أسامة قال: سنة سبع وعشرين ومائتين فيها وثب قوم يوم
الجمعة لثلاث بقين من جمادى الآخرة في مسجد الرصافة على رجلين من
الجهمية فضربوهما وأذلوهما، ثم مضوا إلى مسجد شعيب بن سهل القاضي
يريدون محو الكتاب كان كتبه على مسجده، يذكر فيه أن القرآن مخلوق،
فأشرف عليهم خادم شعيب، فرماهم بالنشاب، فوثبوا فأحرقوا باب شعيب،
وانتهب ناس منزله، وأرادوا نفسه، فهرب منهم.
وهو أول قاض حرق بابه ونهب منزله فيما بلغنا، وكان يقول: جهم بن صفوان
مبغضاً لأهل السنة، متحاملاً عليهم، منتقصاً لهم.
وفي هذه السنة: توفي المعتصم، وبويع الواثق.
باب ذكر خلافة الواثق
اسمه هارون بن المعتصم، ويكنى أبا جعفر، ولد بطريق مكة سنة تسعين
ومائة، وأمه أم ولد رومية تسمى قراطيس، وكان أبيض يعلوه صفرة، وقيل:
كان مشرباً بحمرة، جميلاً ربعة، حسن الجسم، قاتم العين، فيها نكتة
بياض.
بويع الواثق بسامراء يوم توفي المعتصم، وذلك يوم الأربعاء لثمان ليال
خلون من ربيع الأول سنة سبع وعشرين.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن أحمد بن علي، حدثنا
أحمد بن علي المقرئ، أخبرنا علي بن أبي قيس قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي
الدنيا قال: بويع هارون بن محمد في اليوم الذي توفي فيه أبوه المعتصم
بسامراء، وهو يومئذ ابن تسع وعشرين سنة، وورد رسوله بغداد يوم الجمعة
على إسحاق بن إبراهيم، فلم يظهر ذلك، ودعا للمعتصم على منبري بغداد وهو
ميت، فلما كان من الغد يوم السبت، أمر إسحاق بن إبراهيم الهاشمي
والقواد والناس بحضور دار أمير المؤمنين فحضروا، فقرأ كتابه على الناس
بنعي أبيه، وأخذ البيعة، فبايع الناس.
ذكر طرف من أخباره وسيرته
أنبأنا
أبو منصور عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت
قال: حدثني الحسن بن أبي طالب، حدثني أحمد بن محمد بن عروة حدثنا محمد
بن يحيى قال: حدثني علي بن محمد قال: سمعت خالي أحمد بن حمدون يقول:
دخل هارون بن زياد - مؤدب الواثق - على الواثق، فأكرمه وأظهر من بره ما
شهر به، فقيل له: من هذا يا أمير المؤمنين الذي فعلت به ما فعلت؟ قال:
هذا أول من فتق لساني بذكر الله، وأدناني من رحمة الله عز وجل.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي
بن ثابت قال: أخبرنا أبو منصور بن أبي جعفر الجيلي أخبرنا أحمد بن محمد
بن عمران قال: أخبرنا محمد بن يحيى قال: سمعت الحسين بن فهم يقول: سمعت
يحيى بن أكثم يقول: ما أحسن أحد إلى آل أبي طالب من خلفاء بني العباس،
ما أحسن إليهم الواثق، ما مات وفيهم فقير.
قال محمد بن يحيى: وحدثني عنه عبد الله بن المعتز، حدثنا عبد الله بن
هارون النحوي، عن محمد بن عطية قال: قال محمد بن المهتدي: كنت أمشي مع
الواثق في صحن داره فقال لي: يا محمد، ادع لي بدواة وقرطاس، فدعوت له،
فقال: اكتب. فكتبت:
تنح عن القبيح ولا ترده ... ومن أوليته حسناً فزده
ستكفى من عدوك كل كيد ... إذا كاد العدو ولم تكده
ثم قال: اكتب:
هي المقادير تجري في أعنتها ... فاصبر فليس لها صبر على حال
ثم فكر طويلاً، فلم يأته شيء آخر فقال: حسبك.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي
قال: أخبرني علي بن أيوب القمي أخبرنا أبو عبد الله المرزباني، أخبرني
محمد بن يحيى حدثنا علي بن محمد بن نصر بن سام، حدثني خالي أحمد بن
حمدون قال: كان بين الواثق وبين بعض جواريه شيء، فخرج كسلان، فلم أزل
أنا والفتح بن خاقان نحتال لنشاطه، فرآني أضاحك الفتح بن خاقان، فقال:
قاتل الله العباس بن الأحنف حيث يقول:
عدل من الله أبكاني وأضحككم ... فالحمد لله عدل كل ما صنعا
اليوم أبكي على قلبي وأندبه ... قلب ألح عليه الحب فانصدعا
للحب في كل عضو لي على حدة ... نوع تفرق عنه الصبر واجتمعا
فقال الفتح: أنت والله يا أمير المؤمنين في وضع التمثل موضعه أشعر منه
وأعلم وأظرف.
قال المصنف: كان الواثق قد أعاد الامتحان في القرآن، وحمله ابن أبي
دواد على التشدد في ذلك، وقد قيل إن الواثق تاب من القول بخلق القرآن
قبل موته، والله أعلم.
أخبرنا أبو منصور، أخبرنا أبو بكر، أخبرني عبيد الله بن أبي الفتح،
أخبرني أحمد بن إبراهيم بن الحسن، حدثنا إبراهيم بن الحسن بن محمد بن
عرفة، حدثني حامد بن العباس، عن رجل، عن المهتدي، أن الواثق مات وقد
تاب من القول بخلق القرآن.
وحج بالناس في هذه السنة جعفر بن المعتصم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان، أبو نصر،
المعروف بالحافي مروزي ولد بمرو، وسكن بغداد، وفاق أهل عصره في الورع
والزهد وحسن الطريقة، وسمع إبراهيم بن سعد، ومالك، وحماد بن زيد، وابن
المبارك، وخلقاً كثيراً، وشغله التعبد عن الرواية، فلم ينتصب لها.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال:
أخبرنا عبد العزيز بن علي قال: حدثنا علي بن عبد الله الهمداني، حدثنا
القاسم بن الحسن بن جرير، حدثنا محمد بن أبي عتاب، عن محمد بن المثنى
قال: قلت لأحمد بن حنبل: ما تقول في هذا الرجل؟ فقال: أي الرجال؟ فقلت:
بشر، قال: سألتني عن رابع سبعة من الأبدال، ما مثله عندي إلا مثل رجل
كرز رمحاً في الأرض، ثم قعد منه على السنان، فهل ترك لأحد موضعاً يقعد
فيه؟.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا
الأزهري قال: أخبرنا عبيد الله بن إبراهيم القزاز قال: حدثنا جعفر
الخالدي، حدثني أبو حامد بن خالد الحذاء قال: سمعت إبراهيم الحربي
يقول: ما أخرجت بغداد أتم عقلاً ولا أحفظ للسانه من بشر بن الحارث، كان
في كل شعرة منه عقل، وطئ الناس عقبه خمسين سنة، ما عرف له غيبة لمسلم،
لو قسم عقله على أهل بغداد صاروا عقلاء، وما نقص من عقله شيء.
أخبرنا
أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب أحمد قال: أخبرنا علي بن
محمد بن عبد الله المقرئ، أخبرنا أحمد بن جعفر بن محمد بن مسلم الختلي،
حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الخالق، حدثنا أبو بكر المروزي قال: سمعت
أبا عمران الوركاني يقول: تخرق إزار بشر، فقالت له أخته: يا أخي، قد
تخرق إزارك، وهذا البرد، فلو جئت بقطن حتى أغزل لك، قال: فكان يجيء
بالأستارين والثلاثة فقالت له: إن الغزل قد اجتمع، أفلا تسلم إزارك إن
أردت الساعة؟ فقال لها: هاتيه، فأخرجته إليه، فوزنه وأخرج ألواحه وجعل
يحسب الأساتير، فلما رآها قد زادت فيه قال: كما أفسدتيه فخذيه.
قال المروزي: وسمعت بعض القطانين يقول: أهدى إلي أستاذ لي رطباً وكان
بشر يقيل في دكاننا في الصيف، فقال له أستاذي: يا أبا نصر، هذا من وجه
طيب، فإن رأيت أن تأكله، قال: فجعل يمسه بيده، ثم ضرب بيده إلى لحيته،
وقال: ينبغي أن أستحي من الله، إني عند الناس تارك لهذا وآكله في السر.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن علي بن ثابت قال:
أخبرني عبد الله بن يحيى السكري، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أحمد
الصواف، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبو حفص عمر ابن
أخت بشر الحافي قال: حدثتني أمي قالت: جاء رجل إلى الباب فدقه فأجابه
بشر: من هذا؟ قال: أريد بشراً، فخرج إليه فقال له: حاجتك. قال: عافاك
الله، أنت بشر؟ قال: نعم، حاجتك، قال: إني رأيت رب العزة تعالى في
المنام وهو يقول: اذهب إلى بشر فقل له: يا بشر، لو سجدت على الجمر ما
أديت شكري فيما قد بثثت لك - أو نشرت لك - في الناس. فقال له: أنت رأيت
ذلك؟ قال: نعم رأيته مرتين، ليلتين متواليتين فقال: لا تخبر به أحداً،
ثم دخل وولى وجهه إلى القبلة، وجعل يبكي ويضطرب، وجعل يقول: اللهم إن
كنت شهرتني في الدنيا، ونوهت باسمي، ورفعتني فوق قدري على أن تفضحني في
القيامة، فعجل الآن عقوبتي، خذ مني بمقدار ما يقوى عليه بدني.
قال المصنف: وقد جمعت كتاباً فيه فضائل بشر الحافي وأخباره، فلهذا
اقتصرت على ما ذكرت ها هنا كراهية للإعادة والتطويل.
توفي بشر في هذه السنة عشية الأربعاء لعشر بقين من ربيع الأول من سنة
سبع وعشرين، قبل موت المعتصم بستة أيام، وقد بلغ من السن خمساً وستين
سنة.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، أخبرنا
القاضي أبو العلاء الواسطي، أخبرنا محمد بن يوسف بن يعقوب، حدثنا أبو
الفتح محمد بن أحمد النحوي قال: سمعت الحسين بن أحمد بن صدقة يقول:
سمعت أحمد بن زهير يقول: سمعت يحيى بن عبد الحميد الحماني يقول: رأيت
أبا نصر التمار، وعلي بن المديني في جنازة بشر بن الحارث يصيحان في
الجنازة: هذا شرف والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة، وذلك أن بشر بن
الحارث وقد أخرجت جنازته بعد صلاة الصبح، ولم يجعل في قبره إلا في
الليل، وكان نهاراً صائفاً، ولم يستقر في القبر إلى العتمة.
توفيل ملك الروم. ملك اثنتي عشرة سنة، وهلك في هذه السنة، وملكت بعده
امرأة اسمها بدور، وابنها ميخائيل بن توفيل صبي.
عريب ولدت في سنة إحدى وثلاثين ومائة، وكانت أمها تسمى فاطمة، وكانت
يتيمة، فتزوجها جعفر بن يحيى بن خالد، فأنكر عليه أبوه وقال له: أتتزوج
من لا يعرف له أب ولا أم، اشتر مكانها ألف جارية، فأخرجها وأسكنها
داراً في ناحية الأنبار سراً من أبيه، ووكل بها من يحفظها، وكان يتردد
إليها، فولدت عريب، وماتت أم عريب في حياة جعفر، فدفعها إلى امرأة
نصرانية وجعلها داية لها، فلما حدثت بالبرامكة تلك الحادثة باعتها من
سنبس النخاس، فباعها، فاشتراها الأمين وافتضها ولم يوف الثمن، حتى قتل،
فرجعت إلى سيدها، ثم اشترها المأمون، فمات الذي اشتريت منه عشقاً لها،
ثم بيعت في ميراث المأمون، فاشتراها المعتصم بمائة ألف وأعتقها فهي
مولاته، وكانوا إذا نظروا إلى قدمي عريب شبهوها بقدم جعفر بن يحيى،
وكانت عريب شاعرة، ومليحة الخط، وغاية في الجمال والظرف، ثم كانت مغنية
محسنة، صنعت ألف صوت، وكانت شديدة الفطنة والذكاء، كتبت إلى بعض الناس:
أردت، ولولا، ولعل. فكتب تحت أردت: ليت، وتحت لولا: ماذا، وتحت لعل:
أرجو، فقامت ومضت إليه.
توفيت عريب في هذه السنة.
قراطيس، أم الواثق.
خرجت إلى
الحج، فماتت بالحيرة، لأربع خلون من ذي القعدة، ودفنت بالكوفة في دار
داود بن عيسى.
محمد بن حيان، أبو الأحوص البغوي. حدث عن إسماعيل بن علية، وهشيم،
وغيرهما وروى عنه: أحمد بن حنبل وغيره، وآخر من روى عنه عبد الله بن
محمد البغوي، وكان ثقة.
توفي في هذه السنة في ذي الحجة.
محمد بن الصباح، أبو جعفر البزاز، ويعرف بالدولابي. سمع إبراهيم بن
سعد، وهشيم بن بشير، وغيرهما، روى عنه: أحمد بن حنبل ووثقه، ولم
يختلفوا في ذلك.
وتوفي يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من شهر الله المحرم من هذه
السنة، وقد جاوز السبعين.
محمد المعتصم بن الرشيد. كان بدو مرضه أنه احتجم أول يوم من المحرم من
هذه السنة، واعتل.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، أخبرنا الأزهري،
أخبرنا محمد بن العباس الخزاز، أخبرنا علان بن أحمد الرزاز، حدثنا علي
بن أحمد بن العباس، حدثنا أبو الحسن الطويل قال: سمعت عيسى بن أبان بن
صدقة، عن علي بن يحيى المنجم قال: لما استتم المعتصم عدة غلمانه
الأتراك بضعة عشر ألفاً، وعلق له خمسون ألف مخلاة على فرس، وبرذون،
وبغل، وذلل العدو بكل النواحي، أتته المنية، على غفلة، فقيل لي إنه قال
في حماه التي مات فيها: " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا
هم مبلسون " .
أخبرنا محمد بن ناصر، أخبرنا عبد المحسن بن محمد بن علي، أخبرنا أحمد
بن عمر بن روح النهرواني، أخبرنا المعافى بن زكريا، حدثنا الحسين بن
القاسم الكوكبي قال: سمعت القاسم بن زرزور يقول: حدثني زنام الزامر
قال: لما اعتل المعتصم علته التي مات فيها وجد يوماً إفاقة، فقال:
هيئوا لي الزلال حتى أركب فهيئ له، فركب وأنا معه، فمر بدجلة بإزاء
منازله فقال: يا زنام. قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: ازمر:
يا منزلاً لم تبل أطلاله ... حاشى لأطلالك أن تبلى
والعيش أولى ما بكاه الفتى ... لا بد للمحزون أن يسلى
لم أبك أطلالك لكنني ... بكيت عيشي فيك إذ ولى
قال: فزمرته وما زلت أردده وهو ينتحب ويبكي، إلى أن خرج من الزلال، ثم
توفي بعد خمسة أيام.
قال علماء السير: لما احتضر جعل يقول: ذهبت الحيل ولا حيلة، ولو علمت
أن عمري قصير هكذا ما فعلت.
توفي يوم الخميس لثمان عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، لساعتين مضتا من
النهار، وقيل: لأربع، ودفن بسامراء، فكانت خلافته ثمان سنين وثمانية
أشهر، وقيل: ويومين، وكان عمره ستاً وأربعين سنة وسبعة أشهر وثمانية
عشر يوماً. وقيل: سبعاً وأربعين وشهرين وثمانية عشر يوماً.
ثم دخلت
سنة ثمان وعشرين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن الواثق توج أشناس، وألبسه وشاحين بالجواهر وذلك
في رمضان.
وفيها: غلا السعر بطريق مكة، فبلغ رطل خبز بدرهم، وراوية ماء بأربعين
درهم، وأصاب الناس بالموقف حر شديد، ثم مطر شديد فيه برد، فأصابهم
الحر، ثم أضر بهم البرد، وذلك كله في ساعة، ومطروا بمنى مطراً شديداً
لم يروا مثله، وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة فقتلت عدة من
الحاج.
وحج بالناس في هذه السنة: محمد بن داود.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسحاق بن بشر بن مقاتل، أبو يعقوب الكاهلي. من أهل الكوفة، ويروي عن
مالك، وأبي معشر، وكامل أبي العلاء، وغيرهم أحاديث منكرة.
قال أبو بكر بن أبي شيبة: هو كذاب. وتوفي في هذه السنة.
بشار بن موسى، أبو عثمان العجلي الخفاف. بصري الأصل، حدث عن: أبي
عوانة، وشريك بن عبد الله، روى عنه: أحمد بن حنبل، وقال: كان صاحب سنة.
وقال ابن المديني: ما كان ببغداد أصلب منه في السنة. وكان يحسن القول
فيه.
فأما يحيى بن معين فإنه لم يوثقه. وقال الفلاس: هو ضعيف الحديث. وقال
البخاري: منكر الحديث.
قال ابن عدي: قول من وثقه أقرب إلى الصواب ممن ضعفه، وأرجو أنه لا بأس
به.
توفي في رمضان هذه السنة.
حاجب بن الوليد بن ميمون، أبو أحمد الأعور. سمع جعفر بن ميسرة، وبقية،
وغيرهما، وروى عنه: أبو بكر بن أبي الدنيا، والبغوي، وكان ثقة، توفي
ببغداد في رمضان هذه السنة وكان أعور.
حبيب بن أوس بن الحارث بن قيس، أبو تمام الطائي الشاعر.
ولد سنة
تسعين ومائة، شامي الأصل، كان بمصر في حداثته يسقي الماء في المسجد
الجامع، ثم جالس الأدباء، وأخذ عنهم، وكان فطناً، وكان يحب الشعر، فلم
يزل يعانيه حتى قال الشعر فأجاد، وبلغ المعتصم خبره، فحمله إليه وهو
بسامراء، فمدحه فأجازه وقدمه على الشعراء، وقدم بغداد وجالس بها
الأدباء، وكان ظريفاً، حسن الأخلاق، كريم النفس، فأقر له الشعراء
بالتقدم.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر علي بن ثابت،
أخبرنا أحمد بن عمر بن روح النهرواني قال: أخبرني المعافى بن زكريا،
حدثنا محمد بن محمود الخزاعي، حدثنا علي بن الجهم قال: كان الشعراء
يجتمعون كل جمعة في القبة المعروفة بهم من جامع المدينة، فيتناشدون
الشعر، ويعرض كل واحد منهم على صاحبه ما أحدث من القول بعد مفارقتهم في
الجمعة التي قبلها، فبينا أنا في جمعة من تلك الجمع، ودعبل، وأبو
الشيص. وابن أبي فنن، والناس يستمعون إنشاد بعضنا بعضاً، أبصرت شاباً
في أخريات الناس، جالساً في زي الأعراب وهيئتهم، فلما قطعنا الإنشاد
قال لنا: قد سمعت إنشادكم منذ اليوم فاسمعوا إنشادي، قلنا: هات،
فأنشدنا:
فحواك عين على نجواك يا مذل ... حتام لا يتقضى قولك الخطل
وإن أسمع من نشكو إليه جوى ... من كان أحسن شيء عنده العذل
ما أقبلت أوجه اللذات سافرة ... مذ أدبرت باللوى أيامنا الأول
إن شئت أن لا ترى صبر اليقين بها ... فانظر على أي حال أصبح الطلل
كأنما جاد مغناه فغيره ... دموعنا يوم بانوا وهي تنهمل
ولو ترانا وإياهم وموقفنا ... في موقف اليأس لاستهلالنا زجل
من حرقة أطلقتها فرقة أسرت ... قلباً ومن غزل في نحره عذل
ثم مر فيها حتى انتهى إلى قوله في مدح المعتصم:
تغاير الشعر فيه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل
ثم مر فيها إلى آخرها. قلنا له: زدنا. فأنشدنا:
ومن ألم بها فقال سلام ... كم حل عقدة صبره الإلمام
حتى أتى على آخرها وهو يمدح المأمون، فاستزدناه فأنشدنا قصيدته التي
أولها:
قدك اتئد أربيت في الغلواء ... كم تعذلون وأنتم سجرائي
حتى انتهى إلى آخرها، فقلنا له: لمن هذا الشعر؟ فقال: لمن أنشدكموه،
قلنا: ومن تكون؟ قال: أنا أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، فقال له أبو
الشيص: تزعم أن هذا الشعر لك تقول:
تغاير الشعر فيه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل
قال: نعم، لأني سهرت في مدح ملك، ولم أسهر في مدح سوقة، فقربناه حتى
صار معنا في موضعنا، ولم نزل نتهاداه بيننا وجعلناه كأحدنا، واشتد
إعجابنا به لدماثته وظرفه وكرمه، وحسن طبعه، وجودة شعره، وكان ذلك
اليوم أول يوم عرفناه فيه، ثم ترافعت حاله حتى كان من أمره ما كان.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، أخبرني
علي بن أيوب القمي، أخبرنا محمد بن عمران الكاتب قال: أخبرني الصولي
قال: حدثني الحسين بن إسحاق قال: قلت للبحتري: الناس يزعمون أنك أشعر
من أبي تمام، فقال: والله ما ينفعني هذا القول ولا يضير أبا تمام،
والله ما أكلت الخبز إلا به، ولوددت أن الأمر كما قالوا، ولكني والله
تابع له، لائذ به، أجد نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عن سمائه.
ومن شعر أبي تمام المستحسن:
يا طالباً مسعاتهم لينالها ... هيهات منك غبار ذاك الموكب
يعطي عطاء المحسن الخضل الندى ... عفواً ويعتذر اعتذار المذنب
سجر يطم على العفاة وإن تهج ... ريح السؤال بمدحه يغلولب
أولى المديح بأن يكون مهذباً ... ما كان منه في أغر مهذب
غربت خلائقه وأغرب شاعر ... فيه وأحسن مغرب في مغرب
لما كرمت نطقت فيك بمنطق ... حق فلم أنم ولم الحزب
وله:
فسواء أجابني غير داع ... ودعائي بالقاع غير مهيب
رب خفض تحت الثرى وعناء ... من عناء ونصرة من شحوب
لست أدلي بحرمة لي مزيداً ... في وداد منكم ولا في نصيب
غير أن
العليل ليس بمذمو ... م على شرح حاله للطبيب
لو رأينا التثويب خطة عجزها ... ما شفعنا الأذان بالتثويب
وله:
ستصبح العيس بي والليل عند فتى ... كثير ذكر الرضا في ساعة الغضب
صدفت عنه فلم تصدف مودته ... عني وعاوده ظني فلم يخب
كالغيث إن جئته وافاك ريقه ... وإن تحملت عنه كان في الطلب
كأنما هو في أخلافه أبداً ... وإن ثوى وحده في عسكر لجب
وله في أخرى:
وكأن قساً في عكاظ يخطب ... وكأن ليلى الأخيلية تندب
وكثير عزة يوم بين ينسب ... وابن المقفع في اليتيمة سهب
وله أيضاً:
أأيامنا ما كنت إلا مواهبا ... وكنت بإسعاف الحبيب حبائبا
سيغرب تجديد لعهدك في الهوى ... فما كنت في الأيام إلا غرائبا
كواعب زادت في ليال قصيرة ... تخيلن لي من حسنهن كواعبا
سلبن غطاء الحسن عن حر أوجه ... تظل للب السالبيها سوالبا
وجوه لو أن الأرض فيها كواكب ... توقد للساري لكن كواكبا
سلي هل عمرت النفر وهو سباسب ... وغادرت ربعي من ركابي سباسبا
وغربت حتى لم أجد ذكر مشرق ... وشرقت حتى قد نسيت المغاربا
خطوب إذا لاقيتهن رددنني ... جريحاً كأني قد لقيت الكتائبا
وقد يكهن السيف المسمى منية ... وقد يرجع المرء المظفر خائبا
وآفة ذا أن لا يصادف مضرباً ... وآفة ذا أن لا يصادف ضاربا
وملآن من ضعن كواه توقلي ... إلى الهمة العليا سناماً وغاربا
شهدت جسيمات العلى وهو غائب ... ولو كان أيضاً شاهداً كان غائبا
وكنت آمراً ألقى الزمان مسالماً ... تعاليت لا ألقاه إلا محاربا
ثوى ماله نهب المعالي فأوجبت ... عليه زكاة الجود ما ليس واجبا
وتحسن في عينيه إن جئت زائراً ... ويزداد حسناً كلما جئت طالبا
خدين العلى أبقى له البذل والتقى ... عواقب من عرف كفته العواقبا
تطول استشارات التجارب رايه ... إذا ما ذوو الرأي استشاروا التجاربا
وله أيضاً:
إذا أمه العافون ألفوا حياضه ... ملاء وألفوا ربعه غير محدب
أخو عرفات بذله بذل محسن ... إلينا ولكن عذره عذر مذنب
وله أيضاً:
بين البين فقدها قل ما ... تعرف قعدا للشمس حتى تعبا
كل داء يرجى الدواء له ... إلا القطيعين مسته وشيا
وله:
إذا المرء لم يستخلص الحزم نفسه ... فذروته للحادثات وغاربه
أعاذلتي ما أخشن الليل مركباً ... وأخشن منه في الملمات راكبه
ذريني وأهوال الزمان أنالها ... فأهواله العظمى تلتها رغائبه
ألم تعلمي أن الزماع على السرى ... أخو النجح عند النائبات وصاحبه
وله:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
وله:
وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد
محاسن أصناف المغنين جمة ... وما قصبات السبق إلا لمعبد
وله:
وأنجدتم من بعد إتهام داركم ... فيا دمع أنجدني على ساكني نجد
لعمري قد أخلقتم جدة البكا ... علي وجددتم به خلق الوجد
كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي ومتى ما لمته لمته وحدي
وأيضاً له:
نقل فؤادك
حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبداً لأول منزل
وله أيضاً:
هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله
تعود بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله
وله:
إذا آمل رجاه قرطس في المنى ... بأسهمه حتى لؤمل آمله
وله:
إذا أحسن الأقوام أن يتطاولوا ... بلا منة أحسنت أن تتطولا
تعظمت عن ذاك التعظم بينهم ... وأوصاك قل القدر أن لا تنبلا
وله:
أنت في حل فزدني سقما ... أفن صبري واجعل الدمع دما
ليس منا من شكا علته ... من شكى ظلم حبيب ظلما
وله أيضاً:
ذاك السؤال شجى في الخلق مقبوض ... من دونه شرق من خلفه حوض
مروءة ذهبت أثمارها شبه ... وهمية جوهر أثمارها عرض
وله أيضاً:
أرى ألفات قد كتبن على رأسي ... بأقلام شيب في مفارق قرطاس
فإن تسأليني من يخط حروفها ... فكف الليالي تستمد بأنفاسي
جرت في قلوب الغانيات لهبتني ... قشعريرة من يعدلن دانياس
وقد كنت أجري من حشاهن مرة ... مجاري جاري الماء في غصن الآس
فإن أمس من وصل الكواعب أيساً ... فاخرا مال العباد إلى اليأس
وله:
ليس الغبي بسيد في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي
أخبرنا أبو منصور قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: أخبرنا الأزهري قال:
أخبرنا أحمد بن إبراهيم، أخبرنا إبراهيم بن عرفة قال: سنة ثمان وعشرين
فيها مات أبو تمام الطائي. وقيل: سنة إحدى وثلاثين. وقيل: سنة اثنتين
وثلاثين.
داود بن عمرو بن زهير، أبو سليمان الضبي. سمع حماد بن زيد، وابن عيينة،
سمع منه: يحيى، وأحمد، وابن أبي الدنيا، والبغوي، وكان ثقة.
وتوفي في صفر هذه السنة.
سلم بن قادم، أبو الليث. سمع سفيان بن عيينة، وبقية، روى عنه: عباس
الدوري، وكان ثقة.
وتوفي في هذه السنة في ذي القعدة.
عبيد الله بن محمد بن حفص بن عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، أبو
عبد الرحمن التيمي ويعرف بابن عائشة، لأنه من ولد عائشة بنت طلحة ابن
عبيد الله التيمي.
سمع حماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة، وخلقاُ كثيراً، روى عنه: أحمد بن
حنبل، والبرجلاني، وإبراهيم الحربي، والبغوي، وكان من أهل البصرة فقدم
بغداد، وحدث بها، ثم عاد إلى البصرة، وكان فصيحاً أديباً سخياً، حسن
الخلق، عارفاً بأيام الناس، صدوقاً. وقال إبراهيم الحربي: ما رأت عيني
مثل ابن عائشة.
أخبرنا أبو منصور قال: أخبرنا أبو بكر قال: أخبرنا الحسين بن محمد أخو
الخلال، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الشطي، حدثنا أبو القاسم الكريزي،
حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال: كنت عند ابن عائشة فسأله رجل أن يهب
له شيئاً، فنزع جبة سعيدية كانت عليه تساوي ستة دنانير أو سبعة، فدفعها
إليه، فقال له وكيله: ما أخوفني عليك أن تموت فقيراً، فقال: كيف؟ قال:
كانت لك ست جباب فوهبتها، وبقيت لك هذه الجبة، فوهبتها وهذا الشتاء
مقبل. فقال: إليك عني، فإني أريد أن أكون كما قال الأول:
وفتى خلا من ماله ... ومن المروة غير خالي
أعطاك قبل سؤاله ... فكفاك مكروه السؤال
وإذا رأى لك موعداً ... كان الفعال مع المقال
لله درك من فتى ... ما فيك من كرم الخصال
خبرنا أبو منصور عبدالرحمن قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال:
أخبرنا الأزهري، حدثنا عبد الرحمن بن عمر الخلال، أخبرنا أبو بكر بن
أبي شيبة، قال: قال جدي: أنفق ابن عائشة على إخوانه أربعمائة ألف دينار
في الله حتى التجأ إلى أن باع سقف بيته.
قال المصنف: كان ابن عائشة مع معانيه الكاملة شديد القوة في اليدين،
فكان يمسك بيمينه ويساره شاتين إلى أن يسلخا.
ولما حدث
بواسط وشخص إلى البصرة فات بعض من سمع منه الحديث بعض ما سمع، فأخذ جرة
جديدة، فملأها ماء وغطاها، ومضى يتبعه، فلما صار إلى البطائح وعدم
الماء العذب أتاه بها، فسر بذلك وفرقها بين أصحابه، ثم قال له: ما
حاجتك؟ فقال: فاتني شيء من حديثك، فقرأه عليه، وأعطاه خمسين ديناراً،
ثم أعطاه دراهم وقال: أنفق هذه في طريقك حتى تخلص لك الخمسون.
توفي في رمضان هذه السنة.
عبد الملك بن عبد العزيز، أبو نصر التمار. سمع مالك بن أنس، والحمادين،
وغيرهم، روى عنه: مسلم بن الحجاج في صحيحه، وكان عالماً ثقة زاهداً،
يعد في الأبدال، وكان ممن أجاب في المحنة، وكان أحمد ينهى عن الكتابة
عنه ولم يخرج للصلاة عليه، كل ذلك ليعظم أمر القرآن عند الناس.
توفي أبو نصر في أول يوم من محرم هذه السنة، وقد جاوز التسعين سنة،
وكان بصره قد ذهب.
علي بن غنام بن علي، أبو الحسن العامري الكوفي. كان أديباً فقيهاً
حافظاً زاهداً، سمع من مالك بن أنس، وحماد بن زيد، وابن عيينة، وغيرهم،
سكن نيسابور، فورد عبد الله بن طاهر، فبعث إليه يسأله حضور مجالسه،
فأبى عليه، وتشفع بإسحاق بن راهويه حتى أعفاه، ثم خرج من نيسابور فحج،
ثم سكن السوس إلى أن توفي بها في هذه السنة.
وكان لا يحدث إلا بعد الجهد، ويقول: ليس علي إلا أن أعلم رجلاً يهتم
بأمر دينه، فحينئذ لا يسعني أن أمنعه، وكان يقول: يفرح الرجل لدرهم
يستفيده ولا يعلم أنه يحاسب عليه، وكان يقول: العلم الخشية، فأما معرفة
الحديث، فإنما هي معرفة، وقال: اتقوا سؤال الليل. يعني أصحاب التعفف
والتستر.
محمد بن أبي بلال حدث عن مالك بن أنس. قال يحيى بن معين: ليس به بأس.
وتوفي ببغداد هذه السنة.
محمد بن جعفر بن زياد بن أبي هاشم أبو عمران الوركاني من أهل خراسان،
سكن بغداد، وحدث بها عن إبراهيم بن سعد الزهري، وأيوب بن جابر الحنفي،
ومالك بن أنس، وفضيل بن عياض، وغيرهم روى عنه: يحيى بن معين ووثقه،
وعباس الدوري، والبغوي، وكان أحمد بن حنبل يكتب عنه ويوثقه.
وتوفي لسبع بقين من رمضان هذه السنة.
محمد بن جعفر بن أبي مؤاتية الكلبي. بغدادي سكن فيد، وتوفي بها، وحدث
عن محمد بن فضيل، ووكيع، وغيرهما، أخرج عنه البخاري في صحيحه.
محمد بن حسان بن خالد، أبو جعفر السمتي. سمع أبا يوسف بن يعقوب
الماجشون، وهشيم بن بشير، وغيرهما. قال يحيى بن معين: ليس به بأس. وقال
الدارقطني: ثقة يحدث عن الضعفى.
وتوفي في ذي الحجة من هذه السنة.
محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان بن
حرب. أبو عبد الرحمن العتبي بصري صاحب أخبار وروايات للأدب، حدث عن
سفيان بن عيينة وغيره، وكان فصيحاً، وروى عنه أبو حاتم، والرياشي،
والكديمي، وغيرهم.
وتوفي في هذه السنة.
محمد بن مصعب، أبو جعفر الدعاء. كان أحد العباد المذكورين، والقراء
المعروفين أثنى عليه أحمد بن حنبل، ووصفه بالسنة، وقد حدث عن ابن
المبارك وغيره، وكان يقص ويدعو قائماً، وكان مجاب الدعوة، وأمر به
المأمون إلى الحبس، فلما دخله رفع رأسه إلى السماء، وقال: أقسمت عليك
إن حبستني عندهم الليلة، فأخرج في جوف الليل، فصلى الغداة في منزله.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا محمد
بن أحمد بن زريق، أخبرنا إسماعيل بن علي الخطبي قال: سمعت حسين بن
الفهم يقول - وذكر محمد بن مصعب - فقال: استسقى ماء فحطت برادة، فسمع
صوتها فشهق وصاح: يا محمد بن مصعب، من أين لك في النار برادة؟ ثم رفع
صوته، فقرأ: " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل " .
توفي ابن مصعب في ذي الحجة من هذه السنة.
مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن مطربل أبو الحسن البصري روى ابن
ماكولا، عن أبي علي الخالدي: أنه مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن
مرعبل بن أرندل بن سرندل بن عرندل بن ماشك بن المستورد الأسدي.
قال أحمد بن يونس الرقي: جئت إلى أبي نعيم بالكوفة فقال لي: من محدث
البصرة؟ قلت: مسدد بن مسرهد بن مسربل الأسدي، فقال: لو كانت في هذه
التسمية بسم الله الرحمن الرحيم لكانت رقية العقرب.
سمع مسدد من أبي عوانة، وحماد بن زيد. ومات في سنة ثمان وعشرين ومائتين
وكان مرضياً.
نعيم بن
الهيصم، أبو محمد الهروي سكن بغداد، وحدث بها عن فرج بن فضالة، وأبي
عوانة، روى عنه: البغوي، وكان ثقة.
توفي في شوال هذه السنة.
يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن ميمون بن عبد الرحمن وميمون يلقب
بسمين، ويكنى يحيى: أبا زكريا، الحماني الكوفي.
قدم بغداد وحدث بها عن إبراهيم بن سعد، وشريك، وحماد بن زيد، وسفيان بن
عيينة، وأبي بكر بن عياش، روى عنه: ابن أبي الدنيا، والبغوي. وكان ثقة
توفي في رمضان هذه السنة.
قال يحيى: هو صدوق مشهور بالكوفة مثله لا يقال فيه إلا من حسد. وفي
رواية عنه قال: هو ثقة وأبوه ثقة.
وقال أحمد بن حنبل: كان يكذب جهاراً.
توفي بسر من رأى في رمضان هذه السنة.
ثم دخلت
سنة تسع وعشرين ومائتين
فمن الحوادث فيها: حبس الواثق الكتاب، وإلزامهم أموالاً، فدفع أحمد بن
أبي إسرائيل إلى إسحاق بن يحيى بن معاذ صاحب الحرس، فضربه، فأدى ثمانين
ألف دينار، وأخذ من سليمان بن وهب كاتب إيتاخ أربعمائة ألف دينار، ومن
أحمد بن الخصيب وكتابه ألف ألف دينار، وأخذ من نجاح ستين ألف دينار،
ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار، ومن أبي الوزير صالح مائة ألف
دينار وأربعين ألف دينار؛ سوى ما أخذ من العمال بسبب عمالاتهم، ونصب
محمد بن عبد الملك لابن أبي دواد وسائر أصحاب المظالم العداوة، فكشفوا
وحبسوا، وأجلس إسحاق بن إبراهيم، فنظر في أمورهم وأقيموا للناس، ولقوا
كل جهد.
وفيها: ولي محمد بن صالح بن العباس المدينة.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسماعيل بن عبد الله بن زرارة أبو الحسن السكري الرقي حدث عن حماد بن
زيد وغيره، روى عنه: ابن أبي الدنيا، وعبد الله بن أحمد، وكان ثقة.
وتوفي بالبصرة في هذه السنة.
خلف بن هشام بن ثعلب - ويقال: خلف بن هشام بن طالب - بن غراب أبو محمد
البزار المقرئ سمع مالك بن أنس، وحماد بن زيد، وأبا عوانة، وخلقاُ
كثيراُ، روى عنه: عباس الدوري، وإبراهيم الحربي، وأبو بكر بن أبي
الدنيا، والبغوي، وكان آخر من حدث عنه.
وكان ثقة فاضلاً عابداً، وكان يشرب النبيذ على رأي الكوفيين، ثم تركه
وصام الدهر، وأعاد صلاة أربعين سنة كان يشرب فيها.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا
محمد بن أحمد بن رزق، حدثنا محمد بن الحسن بن زياد النقاش قال: سمعت
إدريس بن عبد الكريم يقول: كان خلف بن هشام يشرب من الشراب على
التأويل، وكان ابن أخته يوماً يقرأ عليه سورة الأنفال حتى بلغ " ليميز
الله الخبيث من الطيب " فقال: يا خال، إذا ميز الله الخبيث من الطيب،
أين يكون الشراب؟ قال: فنكس رأسه طويلاً، ثم قال: مع الخبيث، قال:
أفترضى أن تكون مع أصحاب الخبيث؟ قال: يا بني امض إلى المنزل فاصبب كل
شيء فيه، وتركه فأعقبه الله الصوم، فكان يصوم الدهر إلى أن مات.
توفي خلف في جمادى الآخرة من هذه السنة.
رابعة بنت إسماعيل. زوج أحمد بن أبي الحواري. أخبرنا أبو بكر بن حبيب،
اخبرنا أبو بكر بن أبي صادق، أخبرنا أبو عبد الله بن باكويه، حدثنا عبد
الواحد بن بكر، حدثنا إسحاق بن أحمد بن علي حدثنا إبراهيم بن يوسف،
حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: قلت لرابعة - وهي امرأتي وقامت بليل -
قد رأينا أبا سليمان وتعبدنا معه ما رأينا من يقوم من أول الليل،
فقالت: سبحان الله، مثلك لا يتكلم، إنما أقوم إذا نوديت.
أنبأنا حمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا رزق الله بن عبد الوهاب قال:
أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا العباس بن
حمزة، حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت رابعة تقول: ربما رأيت
الحور يذهبون ويجيئون، وربما رأيت الحور العين يستترون مني بأكمامهن،
وقالت بيدها على رأسها.
عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن اليمان أبو جعفر البخاري
المسندي وهو مولى محمد بن إسماعيل البخاري من فوق.
سمع سفيان بن عيينة، وفضيل بن عياض، وعبد الرزاق، وخلقاً كثيراً وإنما
قيل له: المسندي لأنه كان يطلب الأحاديث المسندة، ويرغب عن المقاطيع
والمراسيل، وروى عنه: البخاري في صحيحه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم.
توفي في
ذي القعدة من هذه السنة، وقيل: في ذي الحجة.
عباد بن موسى، أبو محمد الختلي. سكن بغداد، وحدث بها عن إبراهيم بن
سعد، وإسماعيل بن عياش، روى عنه: البخاري والدوري، وكان ثقة.
وتوفي بالثغر في هذه السنة، خرج إلى طرسوس فمات بها.
وقال هبة الله الطبري: روى عباد هذا عن سفيان الثوري، وإسرائيل، وهذا
غلط منه، إنما الراوي عنهما عباد بن موسى أبو عقبة الأزرق، فإنه يروي
عنهما، وعن إبراهيم بن طهمان، وحماد بن سلمة، وعبد العزيز بن أبي دواد،
وهو أقدم من الختلي.
علي بن صالح، صاحب المصلى. حدث عن القاسم بن معين المسعودي.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي،
اخبرنا التنوخي قال: سمعت أبا الفرج محمد بن جعفر بن الحسن بن سليمان
بن علي بن صالح صاحب المصلى وسأله أبي عن سبب تسمية جده بصاحب المصلى،
فقال: إن صالحاً جدنا كان ممن جاء مع أبي مسلم إلى السفاح، وكان من
أولاد ملوك خراسان من هل بلخ، فلما أراد المنصور إنفاذ أبي مسلم لحرب
عبد الله بن علي سأله أن يخلفه وجماعة من أولاد ملوك خراسان بحضرته،
منهم الخرسي وغيره، فخلفهم، واستخدمهم المنصور، فلما أنفذ أبو مسلم
خزائن عبيد الله بن علي على يد يقطين بن موسى، عرضها المنصور على صالح
والخرسي وشبيب وغيرهم ممن كان اتخذهم من جنبة أبي مسلم واستخلصهم لنفسه
وقال: من أراد من هذه الخزائن شيئاً فليأخذه، فقد وهبته له. فاختار كل
واحد منهم شيئاً جليلاً، فاختار صالح حصيراً للصلاة من عمل مصر، ذكر
أنه كان في خزائن بني أمية، وأنهم ذكروا أنه كان للنبي صلى الله عليه
وسلم، فقال له المنصور: إن هذا لا يصلح أن يكون إلا في خزائن الخلفاء،
فقال: قلت إنك قد وهبت لكل إنسان ما اختاره، ولست أختار إلا هذا. فقال:
خذه على شرط أن تحمله في الأعياد والجمع فتفرشه حتى أصلي عليه. فقال:
نعم، وكان المنصور إذا أراد الركوب إلى المصلى أو الجمعة أعلم صالحاً،
فأنفذ صالح الحصير ففرشه له، فإذا صلى عليه أمر به فحمل إلى داره، فسمي
لهذا صاحب المصلى، فلم تزل الحصير عندنا إلى أن انتهى إلى سليمان جدي،
وكان يخرجه كما كان أبوه وجده يخرجانه للخلفاء، فلما مات سليمان في
أيام المعتصم ارتجع المعتصم الحصير إلى خزائنه.
نعيم بن حماد بن معاوية بن الحارث بن همام، أبو عبد الله الخزاعي
المروزي سمع من إبراهيم بن طهمان حديثاً واحداً، وسمع الكثير من
إبراهيم بن سعد، وسفيان بن عيينة، وابن المبارك، روى عنه: يحيى بن
معين، ووثقه البخاري وجماعة أحدهم حمزة بن محمد بن عيسى الكاتب وهذا
أول من جمع المسند.
قال الدارقطني: هو كثير الوهم. وكان قد سكن مصر، فلم يزل مقيماً بها
حتى أشخص للمحنة في القرآن إلى سامراء في أيام المعتصم، فسئل عن القرآن
فأبى أن يجيبهم، فسجن فمات في السجن في هذه السنة، وأوصى أن يدفن في
قيوده وقال: إني مخاصم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني
الأزهري، أخبرنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال:
سنة تسع وعشرين، فيها مات نعيم بن حماد وكان مقيداً محبوساً لامتناعه
من القول بخلق القرآن، فجر بأقياده فألقي في حفرة ولم يكفن، ولم يصل
عليه، فعل ذلك به صاحب ابن أبي دؤاد.
يحيى بن يوسف بن أبي كريمة أبو يوسف الزمي من قرية بخراسان يقال لها:
زم.
سكن بغداد وحدث بها عن شريك بن عبد الله، وابن عيينة. روى الحاوي، وكان
ثقة صدوقاً. توفي في رجب هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ثلاثين ومائتين
فمن الحوادث فيها:
توجيه
الواثق بغا الكبير التركي - ويكنى أبا موسى - إلى الأعراب وكانوا قد
عاثوا بالمدينة وما حولها، وكان بدو ذلك أن بني سليم كانت تتطول على
الناس حول المدينة بالشر، وأوقعوا بالقوم وقتلوا، فوجه إليهم محمد بن
صالح بن العباس الهاشمي، وهو يومئذ عامل المدينة حماد بن جرير الطبري،
وكان الواثق، قد وجه حماداً مسلحة للمدينة لئلا يتطرقها الأعراب في
مائتي فارس، فتوجه إليهم حماد في جماعة فقاتلهم فغلبوه، وقوي أمر بني
سليم، فاستباحت القرى والمناهل، فيما بينها وبين مكة والمدينة، فوجه
إليهم الواثق بغا، فشخص إلى حرة بني سليم في شعبان، فواقعهم وراء
السوارقية، وهي قريتهم التي كانوا يأوون إليها، وبالسوارقية حصون فقتل
منهم نحو خمسين وانهزم الباقون ودعاهم إلى الأمان على حكم الواثق،
وهربت خفاف بني سليم، وحبس عنده من أهل الشر منهم جماعة نحو ألف رجل،
وقدم بأساراهم، ثم شخص إلى مكة حاجاً، ثم انصرف إلى بني هلال، فعرض
عليهم مثل الذي عرض على بني سليم، وأخذ من مردتهم نحواً من ثلثمائة
رجل.
وفي هذه السنة: مات عبد الله بن طاهر، فولى الواثق مكانه ابنه طاهراً،
وكان الواثق قد فكر فيمن يولي، فقال له ابن أبي دؤاد: ول طاهراً، واربح
إنفاق المال، وإنفار الجيوش يتحدث الناس بوفائك فعقد.
وظهر في هذه السنة في بعض قرى خوارزم عجب من امرأة رأت مناماً، فكانت
لا تأكل ولا تشرب، وقد ذكر قصتها أبو عبد الله الحاكم في تاريخ
نيسابور.
أخبرنا
زاهر بن طاهر قال: أخبرنا أبو بكر البيهقي، أخبرنا الحاكم أبو عبد الله
محمد بن عبد الله النيسابوري قال: سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري
يقول: سمعت أبا العباس عيسى بن محمد المروزي يقول: وردت في سنة ثمان
وثلاثين مدينة من مدائن خوارزم تدعى هزارسف، فأخبرت أن بها امرأة من
نساء الشهداء رأت رؤيا: كأنها أطعمت في منامها شيئاً، فهي لا تأكل ولا
تشرب منذ عهد عبد الله بن طاهر والي خراسان، وكان قد توفي قبل ذلك
بثماني سنين، فمررت بها وحدثتني حديثها، فلم أستعص عليها لحداثة سني،
ثم إني عدت إلى خوارزم في آخر سنة اثنين وخمسين ومائتين، فرأيتها
باقية، ووجدت حديثها شائعاً مستفيضاً، فطلبتها فوجدتها غائبة على عدة
فراسخ، فمضيت في أثرها، فأدركتها بين قريتين تمشي مشية قوية وإذا هي
امرأة نصف جيدة القامة، حسنة البنية، ظاهرة الدم، متوردة الخدين،
فسايرتني وأنا راكب، وعرضت عليها الركوب فلم تركب، وحضر مجلسي أقوام،
فسألتهم عنها، فأحسنوا القول فيها وقالوا: أمرها عندنا ظاهر، فليس فينا
من يختلف فيها، وذكر لي بعضهم أنهم لم يعثروا منها على كذب ولا حيلة في
التلبيس، وأنه قد كان من يلي خوارزم من العمال يحضرونها ويوكلون بها من
يراعيها، فلا يرونها تأكل شيئاً ولا تشرب، ولا يجدون لها أثر غائط ولا
بول، فيبرونها ويكسونها، فلما تواطأ أهل الناحية على تصديقها، سألتها
عن اسمها، فقالت: رحمة بنت إبراهيم، وذكرت أنه كان لها زوج نجار فقير
يأتيه رزقه يوماً بيوم، وأنها ولدت منه عدة أولاد، وأن ملك الترك عبر
على النهر إليهم وقتل من المسلمين خلقاً كثيراً، قالت: ووضع زوجي بين
يدي قتيلاً، فأدركني الجزع، وجاء الجيران يسعدونني على البكاء، وجاء
الأطفال يطلبون الخبز وليس عندي شيء، فصليت وتضرعت إلى الله تعالى
أسأله الصبر، وأن يجبر بهم، فذهب بي النوم في سجودي، فرأيت في منامي
كأني في أرض خشناء ذات حجارة وشوك، وأنا أهيم فيها وألزم خبري أطلب
زوجي، فناداني رجل: إلى أين أيتها الحرة؟ قلت: أطلب زوجي، قال: خذي ذات
اليمين، فأخذت ذات اليمين، فوقفت على أرض سهلة طيبة الثرى، ظاهرة
العشب، فإذا قصور وأبنية لا أحسن وصفها، وإذا أنهار تجري على وجه الأرض
من غير أخاديد، وانتهيت إلى قوم جلوس حلقاً حلقاً، عليهم ثياب خضر، قد
علاهم النور، فإذا هم القوم الذين قتلوا في المعركة يأكلون على موائد
بين أيديهم، فجعلت أتخللهم وأتصفح وجوههم أبغي زوجي، لكنه بصرني
فناداني: يا رحمة يا رحمة، فتحققت الصوت، فإذا أنا به في مثل حالة من
رأيت من الشهداء، وجهه مثل القمر ليلة البدر، وهو يأكل مع رفقة له
قتلوا يومئذ معه، فقال لأصحابه: إن هذه البائسة جائعة منذ اليوم،
أفتأذنون لي أن أناولها شيئاً تأكله؟ فأذنوا له، فناولني كسرة خبز،
وأنا أعلم حينئذ أنه خبز، ولكن لا أدري كأي خبز هو؟ ! أشد بياضاً من
الثلج واللبن، وأحلى من العسل والسكر، وألين من الزبد والسمن، فأكلته
فلما استقر في معدتي قال: اذهبي، فقد كفاك الله مؤونة الطعام والشراب
ما بقيت في الدنيا، فانتبهت من نومي وأنا شبعى رياً، لا أحتاج إلى طعام
وشراب وما ذقته منذ ذلك اليوم إلى يومي هذا ولا شيئاً مما يأكله الناس.
قال أبو العباس: وكنا نأكل فتتنحى وتأخذ على أنفها، تزعم أنها تتأذى
برائحة الطعام، فسألتها: هل تتغذى بشيء غير الخبز أو تشرب شيئاً غير
الماء؟ فقالت: لا، فسألتها: هل يخرج منها ريح؟ قالت: لا، أو أذى؟ قالت:
لا، قلت: فالحيض؟ أظنها قالت: انقطع بانقطاع الطعم، قلت: فهل تحتاجين
حاجة النساء إلى الرجال؟ قالت: لا، قلت: فتنامين؟ قالت: نعم أطيب نوم،
قلت: فما ترين في منامك؟ قالت: ما ترون، قلت: فهل يدركك اللغوب
والإعياء إذا مشيت؟ قالت: نعم. وذكرت لي أن بطنها لاصقة بظهرها، فأمرت
امرأة من نسائنا فنظرت، فإذا بطنها لاصقة بظهرها، وإذا هي قد اتخذت
كيساً فضمنته قطناً وشدته على بطنها ليستقيم ظهرها إذا مشيت، فأجرينا
ذكرها لأبي العباس أحمد بن محمد بن طلحة بن طاهر والي خوارزم، فأنكر،
وأشخصها إليه، ووكل أمه بها، فبقيت عنده نحواً من شهرين في بيت، فلم
يروها تأكل ولا تشرب، ولا رأوا لها أثر من يأكل ويشرب، فكثر تعجبه
وقال: لا تنكر لله قدرة، وبرها وصرفها، فلم يأت عليها إلا القليل حتى
ماتت رحمها الله.
وكانت لا
تأكل شيئاً مما يأكله الناس البتة، وإذا قرب الطعام تنحت ووضعت يدها
على أنفها تزعم أنها تتأذى برائحته.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن أبي الحواري يكنى أبا الحسن. واسم أبي الحواري ميمون.
كان الجنيد يقول: هو ريحانة الشام، وقال يحيى بن معين: أظن أهل الشام
يسقيهم الله به الغيث.
أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا أحمد بن علي بن خلف، أخبرنا أبو عبد
الرحمن السلمي أخبرنا محمد بن أحمد بن سعيد الرازي، حدثنا العباس بن
حمزة قال: قال أحمد بن أبي الحواري: كلما ارتفعت منزلة القلب كانت
العقوبة إليه أسرع.
أسند أحمد بن حفص بن غياث، وأبي معاوية، ووكيع.
وتوفي في هذه السنة.
أحمد بن محمد بن شبويه مولى بديل بن ورقاء الخزاعي، يكنى أبا الحسن.
قدم مصر، وكتب عنه، وتوفي بطرسوس في هذه السنة.
إسماعيل بن سعيد أبو إسحاق الكسائي الطبري يعرف بالشالنجي.
يروي عن سفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وعيسى بن يونس وغيرهم،
وكان فقيهاً فاضلاً ثقة.
توفي في هذه السنة، وقيل: السنة ست وأربعين، والله أعلم.
أشناس التركي، أبو جعفر. كان من كبار الأمراء، وقد ذكرنا له أفعالاً
كثيرة.
إسحاق بن إسماعيل، أبو يعقوب الطالقاني. سمع جرير بن عبد الحميد، ومحمد
بن فضيل، ووكيعاً، وسفيان بن عيينة، وغيرهم، روى عنه: الحربي، والبغوي.
قال يحيى: هو صدوق، وقال أبو داود والدارقطني: هو ثقة. قال البغوي: قطع
الحديث قبل أن يموت بخمس سنين.
وتوفي في هذه السنة، وهو أول شيخ كتب عنه البغوي.
الحسن بن عمر بن شقيق بن أسماء الجرمي البصري. كان يتجر إلى بلخ فعرف
بالبلخي، وقدم بغداد فحدث عن جعفر بن سليمان وغيره، روى عنه: أبو حاتم
الرازي، وقال: صدوق، توفي هذه السنة.
سعيد بن يحيى بن مهدي، أبو سفيان الحميري. من أهل واسط، سمع حصين بن
عبد الرحمن، ومعمر بن راشد، روى عنه ابن راهويه. توفي في هذه السنة.
عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب، أبو العباس الخزاعي. كان المأمون
قد ولاه الشام حرباً وخراجاً، وكان أحد الأجواد، فخرج من بغداد إليها،
وكان قد سوغه خراج مصر سنة، فافتتحها وصعد المنبر، فلم ينزل حتىأجاز
بذلك كله وهو ثلاثة آلاف دينار أو نحوها، وأقام بالشام حتى مات.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب أحمد بن علي قال: أخبرنا
أحمد بن عمر الغفاري، أخبرنا جعفر بن محمد الخلدي، أخبرنا أحمد بن محمد
بن مسروق قال: حدثني عبد الله بن الربيع قال: وحدثني محلم بن أبي محلم
الشاعر، عن أبيه قال: شخصت مع عبد الله بن طاهر إلى خراسان في الوقت
الذي شخص فيه، وكنت أعادله وأسامره، فلما صرنا إلى الري مررنا بها
سحراً، فسمعت أصوات الأطيار من القمارى وغيرها، فقال لي عبد الله: لله
در أبي كثير الهذلي حيث يقول:
إلا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح
ثم قال: يا أبا محلم، هل يحضرك في هذا شيء؟ فقلت: أصلح الله الأمير
كبرت سني، وفسد ذهني، ولعل شيئاً أن يحضرني، ثم حضر شيء فقلت: أصلح
الله الأمير، قد حضر شيء، هل تسكعه؟ قال: هات. فقلت:
أفي كل عام غربة وتروح ... أما للنوى من ونية فنريح
لقد طلح البين المشت ركائبي ... فهل يبلغني البين وهو طليح
وذكرني بالري نوح حمامة ... فنحت وذو الشجو الحزين ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعة ... ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحب وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه فيح
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى ... فنلقي عصى التطواف وهي طريح
قال: فقال: يا غلام أنخ، لا والله لا أجزت معي حافراً ولا خفاً حتى
ترجع إلى أفراخك، كم الأبيات؟ فقلت: ستة، فقال: يا غلام أعطه ستين
ألفاً، ومركباً وكسوة. وودعته وانصرفت.
أخبرنا
عبد الرحمن، خبرنا أحمد بن علي قال: حدثني الجوهري، حدثنا محمد بن
العباس الخزاز، أخبرنا أبو الحسين عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر قال:
حدثني أبي: أن عبد الله بن طاهر لما خرج إلى المغرب كان معه كاتبه أحمد
بن نهيك، فلما نزل دمشق أهديت إلى أحمد بن نهيك هدايا كثيرة في طريقه
وبدمشق، فكان يثبت كل ما يهدى ليه في قرطاس، ويدفعه إلى خازن له، فلما
نزل عبد الله بن طاهر دمشق أمر أحمد بن نهيك أن يغدو عليه بعمل كان
يعمله، فأمر خازنه أن يخرج إليه قرطاساً فيه العمل الذي أمر بإخراجه
ويضعه في المحراب بين يديه لئلا ينساه وقت ركوبه في السحر، فغلط
الخازن، فأخرج إليه القرطاس الذي فيه ثبت ما أهدي إليه، فوضعه في
المحراب، فلما صلى أحمد بن نهيك الفجر، أخذ القرطاس من المحراب، ووضعه
في خفه، فلما دخل على عبد الله بن طاهر وسأله عما تقدم ليه من إخراجه
العمل الذي أمره به، فأخرج الدرج من خفه، فدفعه إليه فقرأه عبد الله بن
طاهر من أوله إلى آخره، وتأمله، ثم أدرجه ودفعه إلى أحمد بن نهيك وقال:
ليس هذا الذي أردت، فلما نظر أحمد بن نهيك فيه أسقط في يديه، فلما
انصرف إلى مضربه وجه إليه عبد الله بن طاهر يعلمه: أني قد وقفت على ما
في القرطاس، فوجدته سبعين ألف دينار، واعلم أنه قد لزمتك مؤونة عظيمة
في خروجك، ومعك زوار وغيرهم وأنك محتاج إلى برهم، وليس مقدار ما وصل
إليك يفي بمؤونتك، وقد وجهت إليك بمائة ألف دينار لتصرفها في الوجوه
التي ذكرتها.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال:
حدثني الأزهري قال: وجدت في كتابي عن أبي نصر محمد بن أحمد الملاحمي
قال: سمعت عمرو بن إسحاق يقول: سمعت سهل بن مبشر يقول: لما رجع عبد
الله بن طاهر من الشام، صعد فوق سطح قصره، فنظر إلى دخان يرتفع في
جواره، فقال: ما هذا الدخان؟ فقيل: لعل القوم يخبزون، فقال: ويحتاج
جيراننا أن يتكلفوا ذلك؟ ! ثم دعا حاجبه وقال: امض ومعك كاتب فأحص
جيراننا ممن لا يقطعهم عنا شارع. فمضى فأحصاهم، فبلغ عددهم أربعة آلاف
نفس، فأمر لكل واحد منهم كل يوم بمنوين خبزاً ومناً لحم، ومن التوابل
في كل شهر عشرة دراهم، والكسوة في الشتاء مائة وخمسين درهماً وفي الصيف
مائة درهم، وكان ذلك دبه مدة مقامه ببغداد، فلما خرج انقطعت الوظائف
إلا الكسوة ما عاش أبو العباس.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو يعلى أحمد بن
عبد الواحد الوكيل، أخبرنا إسماعيل بن سعيد المعدل، أخبرنا الحسين بن
القاسم الكوكبي قال: حدثني أبو الفضل الربعي قال: حدثني أبي قال: قال
المأمون لعبد الله بن طاهر: أيما أطيب مجلسي أو منزلك؟ قال: ما عدلت بك
يا أمير المؤمنين شيئاً. فقال: ليس إلى هذا ذهبت، إنما ذهبت إلى
الموافقة في العيش واللذة، قال: منزلي يا أمير المؤمنين، قال: ولم ذلك؟
قال: لأني هنالك مالك وأنا هنا مملوك.
أخبرنا أبو المعمر المبارك بن أحمد قال: أخبرنا صاعد بن سيار الهروي،
اخبرنا أبو بكر بن أحمد بن أبي سهل الفورجي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم
الحافظ إجازة، أخبرنا أبو العباس بن محمد القرشي، أخبرنا محمد بن أبي
جعفر المنذري قال: سمعت الحسين بن فهم يقول: كان عبد الله بن طاهر لا
يدخل خصياً داره ويقول: هم مع النساء رجال، ومع الرجال نساء.
توفي عبد الله بن طاهر بمرو، وقيل: بنيسابور، وقيل: بالشام من مرض
أصابه في حلقه، في ربيع الأول من هذه السنة، وهو ابن ثمان وأربعين سنة
وأياماً، وكان قبل موته قد أظهر التوبة وكسر آلات الملاهي، وعمر رباطات
خراسان، ووقف بها الوقوف، وأظهر الصدقات، ووجه أموالاً عظيمة إلى
الحرمين، وفك أسرى المسلمين من الترك، وبلغ ما أنفقه على الأسرى ألفي
ألف درهم، وخلف أموالاً كثيرة، وكان يوصف بالإنصاف.
علي بن الجعد بن عبيد أبو الحسن الجوهري، مولى بني هاشم سمع سفيان
الثوري، ومالك بن أنس، وشعبة، وابن أبي ذؤاب، وغيرهم، وكتب عنه: أحمد
بن حنبل، ويحيى، والبخاري، وأبو زرعة، وإبراهيم الحربي، وغيرهم،
والبغوي، وكان ثقة.
أخبرنا
أبو منصور عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا عبيد الله بن أبي الفتح، حدثنا عبد الله بن أحمد بن يعقوب
المقرئ قال: حدثني عبد الرزاق بن سليمان بن علي بن الجعد قال: سمعت أبي
علي بن الجعد يقول: لما أحضر المأمون أصحاب الجوهر، فناظرهم على متاع
كان معهم، ثم نهض المأمون لبعض حاجته، ثم خرج فقام له كل من كان في
المجلس إلا ابن الجعد، فإنه لم يقم، فنظر إليه المأمون كهيئة المغضب،
ثم استخلاه، فقال له: يا شيخ، ما منعك أن تقوم لي كما قام أصحابك؟ قال:
أجللت أمير المؤمنين للحديث الذي نأثره عن النبي صلى الله عليه وسلم،
قال: وما هو؟ قال علي بن الجعد: سمعت المبارك بن فضالة يقول: سمعت
الحسن يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن يتمثل له
الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار " .
قال: فأطرق المأمون مفكراً في الحديث، ثم رفع رأسه، فقال: لا يشترى إلا
من هذا الشيخ. قال: فاشترى منه ذلك اليوم بقيمة ثلاثين ألف دينار.
قال المصنف: وكان أحمد قد نهى ابنه عبد الله أن يسمع من علي بن الجعد،
وذلك أنه بلغه عنه أنه يتناول بعض الصحابة، وأنه قال: من قال إن القرآن
مخلوق لم أعنفه.
توفي ابن الجعد في رجب هذه السنة، وقيل: سنة ثلاث وقيل: سنة أربع، وقد
استكمل ستاً وتسعين سنة، ودفن بباب حرب.
علي بن جعفر بن زياد الأحمر، أبو الحسن التميمي الكوفي. قدم بغداد،
وحدث بها عن عبد الله بن إدريس، وحفص بن غياث، وأبي بكر بن عياش، وروى
عنه: محمد بن عبد الله المنادي، وعبد الله بن أحمد، وأبو حاتم الرازي،
وقال: كان ثقة صدوقاً. وتوفي في هذه السنة.
محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة، أبو عبد الله البصري. سمع إسماعيل بن
علية، ومعتمر بن سليمان، ويزيد بن زريع، وغيرهم، وحدث ببغداد فروى عنه:
أبو بكر بن أبي الدنيا وغيره، وكان ثقة.
توفي في ربيع الأول من هذه السنة، وهو متوجه إلى طرسوس.
محمد بن سعد بن منيع أبو عبد الله مولى بني هاشم، كاتب الواقدي سمع
سفيان بن عيينة، وإسماعيل بن عليه ويزيد بن هارون، وخلقاً كثيراً، وصنف
كتاب الطبقات فذكر الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى زمانه، وكان كثير
العلم، كثير الحديث، كثير الرواية، كثير الكتب، من الثقات.
وتوفي في هذه السنة، ودفن في مقبرة باب الشام، وهو ابن اثنتين وستين
سنة.
مرة بن عبد الواحد الكلاعي ويعرف بعبد الأعلى، وله اسمان، ويكنى أبا
يزيداً.
يروي عن ضمام بن إسماعيل، توفي بالبرلس في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة إحدى وثلاثين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن بغا الأمير كان قد حبس بالمدينة نحواً من ألف
وستمائة من بني سليم، فنقبوا الدار ليخرجوا، فإذا قد وثب عليهم من
يتوكل بهم فقتلوا من الموكلين بهم رجلاً أو رجلين، وخرج عامتهم، وأخذوا
سلاح الموكلين بهم واجتمع أهل المدينة فمنعوهم من الخروج، فقاتلوا فظهر
عليهم أهل المدينة، فقتلوهم أجمعين.
وفي هذه السنة: أخذ أحمد بن نصر الخزاعي، وسنذكر قصته عند وفاته إن شاء
الله تعالى.
وفيها: أراد الواثق الحج واستعد له، فأخبر بقلة الماء في الطريق فبدا
له.
وفيها: ولى الواثق جعفر بن دينار اليمن، فشخص إليها في شعبان في ستة
آلاف.
وعقد محمد بن عبد الملك الزيات لإسحاق بن إبراهيم بن أبي خميصة مولى
بني قشير على اليمامة والبحرين وطريق مكة، مما يلي البصرة في دار
الخلافة؛ ولم يعرف أحد عقد لأحد في دار الخلافة غير محمد بن عبد الملك.
وفيها: نقبت اللصوص بيت المال الذي في دار العامة في جوف القصر، وأخذوا
اثنين وأربعين ألف درهم وشيئاً من الدنانير، فتتبعوا وأخذوا، أخذهم
يزيد بن الحلواني صاحب الشرطة خليفة إيتاخ.
وفيها: خرج محمد بن عمرو الخارجي في ثلاثة عشر رجلاً في ديار ربيعة،
فخرج إليه غانم بن أبي مسلم الطوسي، وكان على حرب الموصل، فقتل من
أصحابه أربعة، وأخذ محمد بن عمرو أسيراً فبعث به إلى سامراء، فبعث به
إلى حبس بغداد، ونصبت رؤوس أصحابه عند خشبة بابك.
وفيها:
قدم وصيف التركي من ناحية أصبهان والجبال وفارس، وكان قد شخص في طلب
الأكراد، لأهم كانوا قد تطرقوا إلى هذه النواحي، وقدم معه بنحو خمس
مائة نفس في قيود، فحبسوا، وأجيز وصيف بخمسة وسبعين ألف دينار وقلد
سيفاً وكسي.
وفيها: جرى الفداء بين المسلمين وصاحب الروم. وجه الواثق في الفداء في
آخر سنة ثلاثين، فالتقوا في يوم عاشوراء سنة إحدى وثلاثين، وأمر
بامتحان المسلمين، فمن قال: القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة
فودي، ومن أبى ترك مع الروم، وأمر من يعطي من يقول القرآن مخلوق
دينارين، فكان الذين فودوا ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة، وقيل: أربعة
آلاف وستمائة وفيهم من أهل الذمة أقل من خمسمائة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم بن عوف بن وهب بن عميرة من ولد عمرو بن
لحي الخزاعي.
الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت عمرو بن لحي يجر
قصبه في النار " لأنه أول من بحر البحيرة، وسيب السائبة. .
ومالك بن الهيثم كان أحد نقباء بني العباس في ابتداء دولتهم، وسويقة
نصر ببغداد تنسب إلى أبيه نصر.
وكان أحمد بن نصر من كبار العلماء، أماراً بالمعروف، فعالاً للخير،
قوالاً للحق، سمع مالك بن أنس، وحماد بن زيد، وهشيم بن بشير، وغيرهم،
روى عنه: يحيى بن معين، وغيره.
وأخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، حدثني القاضي
أبو عبد الله الصيمري، حدثنا محمد بن عمران المرزباني قال: أخبرني محمد
بن يحيى الصولي قال: كان أحمد بن نصر وسهل بن سلامة - حين كان المأمون
بخراسان - بايعا للناس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى أن
دخل المأمون بغداد فرفق بسهل حتى لبس السواد، وأخذ الأرزاق، ولزم أحمد
بيته، ثم أن أمره ترحك ببغداد في آخر أيام الواثق، فاجتمع إليه خلق من
الناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إلى أن ملكوا بغداد، وتعدى
رجلان من أصحابه يقال لأحدهما: طالب في الجانب الغربي، ويقال للآخر:
أبو هارون في الجانب الشرقي، وكانا موسرين فبذلا مالاً وعزما على
الوثوب ببغداد في آخر أيام الواثق في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين،
فنم عليهم قوم إلى إسحاق بن إبراهيم؛ فأخذ جماعة منهم فيهم أحمد بن نصر
وصاحباه طالب وأبو هارون طالباً وأبا هارون فقيدهما، ووجد في منزل
أحدهما أعلاماً، وضرب خادماً لأحمد بن نصر، فأقر أن هؤلاء كانوا يصيرون
إليه ليلاً فيعرفونه ما عملوا؛ فحملهم إسحاق مقيدين إلى سامراء، فجلس
لهم الواثق وقال لأحمد بن نصر: دع ما أخذت له، ما تقول في القرآن؟ قال:
هو كلام الله، قال: أفمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله، قال: أفترى ربك في
القيامة؟ قال: كذا جاءت الرواية. قال: ويحك، يرى كما يرى أفمخلوق هو؟
قال: هو كلام الله، قال: المحدود المجسوم، ويحويه مكان ويحصره الناظر،
أنا أكفر برب هذه صفته، ما تقولون فيه؟ فقال عبد الرحمن بن إسحاق -
وكان قاضياً على الجانب الغربي ببغداد وعزل - هو حلال الدم، وقال جماعة
الفقهاء: كما قال، فأظهر ابن أبي دؤاد أنه كاره لقتله.
فقال للواثق: يا أمير المؤمنين، شيخ مختل، لعل به عاهة أو تغير عقله،
يؤخر أمره ويستتاب، فقال الواثق: ما أراه إلا مؤذناً بالكفر، قائماً
بما يعتقده منه. ودعا بالصمصامة وقال: إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي
فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد رباً لا نعبده ولا نعرفه
بالصفة التي وصفه بها، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيد، وأمر بشد
رأسه بحبل، وأمرهم أن يمدوه. ومشى إليه حتى ضرب عنقه وأمر بحمل رأسه
إلى بغداد، فنصبت في الجانب الشرقي أياماً، وفي الجانب الغربي أياماً،
وتتبع رؤساء أصحابه، فوضعوا في الحبوس.
وفي رواية
أخرى: أن طالباً وأبا هارون السراج فرقا على قوم مالاً، ووعدهم ليلة
يضربون فيها الطبل فيجتمعون في صبيحتها بالوثوب على السلطان، وكان
الوعد ليلة الخميس لثلاث خلون من شعبان، وأعطيا رجلين من بني أشرس
العابد دنانير يفرقانها في جيرانهم، فاجتمع قوم منهم على نبيذ، فثملوا
فضربوا الطبل ليلة الأربعاء وهم يحسبونها ليلة الخميس، فأكثروا الضرب،
فلم يجتمع إليهم أحد، فوجه إليهم صاحب الشرطة، وقررهم فأقروا، وأخذ
أحمد بن نصر، فقيد وبعث به إلى الواثق، فلم يذكر له ما قيل عنه في
الخروج عليه، لكنه قال: ما تقول في القرآن؟ وهل ترى ربك؟ فذكر نحو ما
تقدم إلى أن قال: فدعا الواثق بسيف عمرو بن معد يكرب، ومشى إليه وضربه
ضربة وقعت على حبل العاتق، ثم ضربه ضربة أخرى على رأسه، ثم انتضى سيما
الدمشقي سيفه فضرب عنقه، وجز رأسه، ثم صلب في الحظيرة التي فيها بابك،
وفي رجليه قيود، وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى مدينة السلام، فنصب
في الجانب الشرقي أياماً وفي الجانب الغربي أياماً، ثم حول إلى الشرقي،
وحظر على الرأس حظيرة، وضرب عليه فسطاط، وأقيم عليه الحرس.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب
أخبرنا محمد بن علي بن يعقوب، حدثنا محمد بن نعيم الضبي قال: سمعت أبا
العباس السياري يقول: سمعت أبا العباس بن سعيد المروزي قال: ضربت عنق
أحمد بن نصر، وهذه نسخة الرقعة معلقة في أذنه: بسم الله الرحمن الرحيم:
هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك، دعاه عبد الله الإمام هارون الواثق بالله
أمير المؤمنين إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلا المعاندة
فعجله الله إلى ناره، وكتب محمد بن عبد الملك.
فلما جلس المتوكل فدخل عليه عبد العزيز بن يحيى المكي، فقال: يا أمير
المؤمنين، ما رؤي أعجب من أمر الواثق، قتل أحمد بن نصر، وكان لسانه
يقرأ القرآن إلى أن دفن. قال: فوجد المتوكل من ذلك، وساءه ما سمعه في
أخيه، إذ دخل عليه محمد بن عبد الملك الزيات فقال له: يا ابن عبد
الملك، في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر، فقال: يا أمير المؤمنين،
أحرقني الله بالنار إن كان قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافراً، قال:
ودخل هرثمة فقال: يا هرثمة، في نفسي شيء من قتل أحمد بن نصر فقال: يا
أمير المؤمنين، قطعني إرباً إرباً إن كان قتله أمير المؤمنين الواثق
إلا كافراً، قال: ودخل عليه أحمد بن أبي دؤاد، فقال: يا أحمد، في قلبي
من قتل أحمد بن نصر شيء فقال: يا أمير المؤمنين، ضربني الله بالفالج إن
كان قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافراً، قال المتوكل: أما ابن
الزيات فأنا أحرقته بالنار، وأما هرثمة فإنه هرب، فاجتاز بقبيلة من
خزاعة فقطعوه إرباً إرباً، وأما ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال: أخبرنا الخطيب أحمد بن علي بن ثابت
أخبرنا إبراهيم بن هبة الله الجرباذوقاني، أخبرنا معمر بن أحمد
الأصبهاني قال: أخبرني أبو عمرو عثمان بن محمد العثماني إجازة قال:
حدثني علي بن محمد بن إبراهيم حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن خلف قال:
كان أحمد بن نصر خلي، فلما قتل في المحنة وصلب رأسه، أخبرت أن الرأس
يقرأ القرآن، فمضيت فبت بقرب من الرأس مشرفاً عليه، وكان عنده رجالة
وفرسان يحفظونه، فلما هدأت العيون سمعت الرأس يقرأ: " آلم أحسب الناس
أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " الآية، فاقشعر جلدي، ثم
رأيته بعد ذلك في المنام وعليه السندس والإستبرق وعلى رأسه تاج، فقلت:
ما فعل الله بك يا أخي؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة، إلا أني كنت
مغموماً ثلاثة أيام، فقلت: ولم؟ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
مر بي، فلما بلغ خشبتي حول وجهه عني، فقلت له بعد ذلك: يا رسول الله،
قتلت على الحق أم على الباطل؟ قال: أنت على الحق، ولكن قتلك رجل من أهل
بيتي، فإذا بلغت إليك أستحي منك.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا الخطيب قال: قرأت على أبي بكر
البرقاني، عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد المزكي، أخبرنا محمد بن إسحاق
السراج قال: سمعت أبا بكر المطوعي قال: لما جيء برأس أحمد بن نصر صلبوه
على الجسر، فكانت الريح تديره قبل القبلة، فأقعدوا له رجلاً معه قصبة
أو رمح، فكان إذا دار نحو القبلة أداره إلى خلاف القبلة.
قال
السراج: قتل أحمد بن نصر يوم السبت غرة رمضان سنة إحدى وثلاثين، وأنزل
رأسه وأنا حاضر ببغداد يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع
وثلاثين.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا الخطيب أحمد بن علي قال: لم يزل رأس أحمد بن
نصر منصوباً ببغداد وجسده مصلوباً بسامراء ست سنين إلى أن حط، وجمع بين
رأسه وبدنه، ودفن في الجانب الشرقي في المقبرة المعروفة بالمالكية.
إبراهيم بن محمد بن عرعرة بن اليزيد أبو إسحاق الشامي البصري سكن
بغداد، وحدث بها عن يحيى بن سعيد القطان، وابن مهدي، وغندر، وغيرهم.
قال أبو حاتم الرازي: هو صدوق، وقال يحيى: هو ثقة.
توفي في رمضان هذه السنة.
إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم. دمشقي، ولي أمر
إفريقية لعمر بن عبد العزيز توفي في هذه السنة.
خالد بن مرداس، أبو الهيثم السراج. حدث عن إسماعيل بن عياش، وابن
المبارك، روى عنه: البغوي، وكان ثقة.
توفي في شعبان هذه السنة.
خلف بن سالم، أبو محمد المخرمي مولى المهالبة. وكان سندياً، سمع أبا
بكر بن عياش وهشيماً، وابن مهدي، وابن علية، وأبا نعيم، ويزيد بن
هارون، روى عنه: يعقوب بن شيبة، وأحمد بن خيثمة. وقال: أحمد بن حنبل:
لا نشك في صدقه.
توفي في رمضان هذه السنة.
سليمان بن داود بن الرشيد أبو الربيع الأحول الختلي البغدادي وليس هذا
داود بن رشيد المشهور، هذا آخر، حدث عنه مسلم بن الحجاج، وأبو زرعة
الرازي، وأبو يعلى الموصلي، وكان ثقة.
توفي يوم السبت أول يوم من رمضان هذه السنة.
ولمسلم شيخ آخر حدث عنه في صحيحه، يقال له: سليمان بن داود أبو الربيع
الزهراني توفي في سنة أربع، وسيأتي ذكره، فلا تظن أنهما واحد، فقد ادعى
هذا أبو بكر أحمد بن علي الأصفهاني الحافظ، فإنه خرج شيوخ مسلم وجعلهما
واحداً، وخطأ أبا يعلى الموصلي، لأنه حدث عنهما في معجم مشايخه، وفرق
بينهما، وأورد لكل واحد حديثاً منفرداً، وأبو يعلى أعلم بمشايخه.
يدل على صحة هذا أن أبا القاسم هبة الله بن أحمد الحريري أنبأنا عن
العشاري، عن الدارقطني أنه ذكر مشايخ مسلم الذين أخرج عنهم في الصحيح،
فقال: سليمان بن داود أبو الربيع الزهراني، وسليمان بن داود أبو الربيع
الأحول البغدادي.
وقال البغوي: مات سليمان بن داود أبو الربيع سنة إحدى وثلاثين ومائتين،
ومات سليمان بن داود أبو الربيع الزهراني سنة أربع وثلاثين ومائتين
فبان وهم أبي بكر الأصبهاني.
سليمان بن داود أبو داود المباركي. سمع يحيى بن أبي زائدة، روى عنه:
مسلم بن الحجاج، وأبو زرعة، وقال: هو ثقة.
وتوفي في ذي القعدة من هذه السنة.
محمد بن زياد، أبو عبد الله ابن الأعرابي مولى بني هاشم كان الغاية في
علم اللغة، ومعرفة الأنساب والأيام، وحدث عن أبي معاوية الضرير، روى
عنه: إبراهيم الحربي، وثعلب، وغيرهما، وكان ثقة، وكان ليله أحسن ليل.
وتوفي بسامراء في هذه السنة، وهو ابن ثمانين سنة، وقيل: توفي سنة
ثلاثين، والأول أصح.
محمد بن سعدان، أبو جعفر النحوي الضرير. كان أحد القراء، وله كتاب في
القراآت، وكان ثقة، وله كتاب في النحو أيضاً.
توفي يوم عرفة في هذه السنة.
محمد بن سلام بن عبيد الله، أبو عبد الله البصري
مولى
قدامة بن مظعون. كان من أهل الأدب، وصنف كتاباً في طبقات الشعراء، وحدث
عن حماد بن سلمة وغيره، وروى عنه: عبد الله بن أحمد، وثعلب، قال صالح
جزرة الحافظ: كان محمد بن سلام صدوقاً. وقال أبو خيثمة: يرمى بالقدر،
لا نكتب عنه الحديث، إنما نكتب عنه الشعر. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد،
قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني أحمد بن بن محمد بن أحمد
بن يعقوب قال: حدثني جدي محمد بن عبيد الله بن الفضل، حدثنا محمد بن
يحيى النديم قال: أخبرنا حسين بن الفهم: كان قدم علينا محمد بن سلام
سنة اثنتين وعشرين ومائتين، فاعتل علة شديدة، فما تخلف عنه أحد، وأهدى
إليه الأجلاء أطباءهم، وكان ابن ماسويه ممن أهدي إليه، فلما جسه ونظر
إليه قال له: ما أرى بك من العلة مثل ما أرى بك من الجزع فقال: والله
ما ذاك لحرص على الدنيا مع اثنتين وثمانين سنة، ولكن الإنسان في غفلة
حتى يوقظ بعلة، ولو وقفت بعرفات وقفة وزرت قبر رسول الله صلى الله عليه
وسلم زورة، وقضيت أشياء في نفسي، لرأيت ما اشتد علي من هذا الجزع قد
سهل، فقال له ابن ماسويه: فلا تجزع فقد رأيت في عرقك من الحرارة
الغريزية وقوتها، ما إن سلمك الله من العوارض بلغك عشر سنين أخرى، قال
حسين بن الفهم: فوافق كلامه قدراً، فعاش محمد عشر سنين بعد ذلك، ومات
سنة اثنتين وثلاثين ومائتين.
قال النديم: وأخبرنا الفضل بن الحباب قال: ابيضت لحية محمد بن سلام
ورأسه وله سبع وعشرون سنة، وسمعته يقول: أفنيت ثلاثة أهلين تزوجت
وأطفلت فماتوا، ثم فعلت مثل ذلك فماتوا، ثم فعلت الثالثة فماتوا، وها
أناذا في الرابعة ولي أولاد.
توفي محمد بن سلام في هذه السنة ببغداد.
هارون بن معروف، أبو علي المروزي. سكن بغداد، وحدث بها عن عبد العزيز
الدراوردي، وابن عيينة، وهيثم، روى عنه: أحمد بن حنبل، والبغوي، وكان
ثقة.
وتوفي في رمضان هذه السنة.
يوسف بن يحيى، أبو يعقوب البويطي. منسوب إلى قرية يقال لها: بويط، وكان
الشافعي رضي الله عنه يقربه ويؤثره، وجلس بعده في مكانه وكان فقيهاً
ثقة، وكان متعبداً زاهداً، وحمل في أيام المحنة إلى بغداد فلم يجب،
فحبس فمات في الحبس في هذه السنة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا أحمد بن إسماعيل بن علي الأستراباذي، أخبرنا أبو الحسن علي بن
محمد الطيبي، حدثنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد قال: سمعت الربيع قال:
سمعت أبا الوليد بن أبي الجارود يقول: كان أبو يعقوب البويطي جاري، فما
كنت أنتبه ساعة من الليل إلا وأسمعه يقرأ ويصلي. قال الربيع: كان أبو
يعقوب أبداً يحرك شفتيه بذكر الله تعالى أو نحو ما قال.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا
أبو منصور محمد بن عيسى بن عبد العزيز، حدثنا عبد الرحمن بن أحمد
الأنماطي، حدثنا محمد بن حمدان الطرائقي، حدثنا الربيع بن سليمان قال:
رأيت البويطي على بغل، وفي عنقه غل، وفي رجليه قيد، وبين الغل والقيد
سلسلة حديد، وفيها طوبة وزنها أربعون رطلاً، وهو يقول: إنما خلق الله
الخلق بكن، فإذا كانت كن مخلوقة، فكان مخلوقاً خلق مخلوقاً، فوالله
لأموتن في حديدي هذا حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا
الشأن قوم في حديدهم، ولئن أدخلت إليه لأصدقنه - يعني الواثق - قال
الربيع: وكتب إلي من السجن يقول: إنه ليأتي علي أوقات لا أحس بالحديد
أنه على بدني حتى تمسه يدي فإذا قرأت كتابي هذا فأحسن خلقك مع أهل
حلقتك، واستوص بالغرباء خاصة خيراً، فكثيراً ما كنت أسمع الشافعي رحمه
الله يتمثل بهذا البيت:
أهين لهم نفسي لكي يكرمونها ... ولا تكرم النفس التي لا تهينها
توفي البويطي في رجب هذه السنة. وقيل: سنة اثنتين وثلاثين ومائتين،
والأول أصح.
ثم دخلت
سنة اثنتين وثلاثين ومائتين
فمن الحوادث فيها: مسير بغا الكبير إلى بني نمير حتى أوقع بهم.
وسببه: أنهم كانوا يعيثون في الأرض، وكان قد انكشف عسكر بغا، ثم اجتمع
فكشفوا بني نمير، ثم طلبوا الأمان فأعطاهم، ثم قيدهم وسار بهم.
وفيها: جاء السودان إلى البصرة.
وفيها: ولي محمد بن إبراهيم بن مصعب فارس.
وفيها: أمر الواثق بترك جباية أعشار البحر.
وفيها:
اشتد البرد في نيسان حتى جمد الماء لخمس خلون منه.
وكثرت الزلازل في المغرب، وكانت زلزلة بدمشق هدمت منها المنازل والدور،
ومات خلق من الناس، وكذلك بحمص، وعظم ذلك في قرى أنطاكية والموصل،
ويقال: إنه مات فيها عشرون ألفاً.
وفيها: أصاب الحج في العود عطش شديد في أربعة منازل إلى الربذة، فبلغت
الشربة دنانير كثيرة، ومات خلق كثير من العطش.
وفيها: مات الواثق، وبويع للمتوكل.
باب خلافة المتوكل
واسمه: جعفر بن محمد بن هارون الرشيد، ويكنى أبا الفضل، وأمه أم ولد،
اسمها شجاع، ولد سنة سبع ومائتين بفم الصلح، ونزل سامراء، وكان أسمر
حسن العينين، خفيف العارضين، نحيفاً إلى القصر، ولا تعرف امرأة رأت
ابنها خليفة وهو جد وله ثلاثة أولاد ولاة عهود إلا أم المتوكل، وكان
المتوكل جداً وما كمل له ثلاثون سنة. وسلم المتوكل بالخلافة ثمانية
كلهم ابن خليفة: محمد بن الواثق، وأحمد بن المعتصم، وموسى بن المأمون،
وعبد الله بن الأمين، وأبو أحمد بن الرشيد، والعباس بن المهدي، ومنصور
بن المهدي، والمنصور بن المتوكل.
ذكر بيعة المتوكل وشيء من سيرته أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا
أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرني الحسن بن علي الصيمري، حدثنا محمد بن
عمران بن موسى قال: حدثني أبو عبد الله الحكيمي قال: حدثني ميمون عن
جماعة سماهم، أن الواثق لما مات اجتمع وصيف التركي، وأحمد بن أبي دؤاد،
ومحمد بن عبد الملك، وأحمد بن خالد المعروف بأبي الوزير وعمر بن فرج،
فعزم أكثرهم على تولية محمد بن الواثق، فأحضروه وهو غلام أمرد قصير،
فقال أحمد بن أبي دؤاد: أما تتقون الله، كيف تولون مثل هذا الخلافة؟
فأرسلوا بغا الشرابي إلى جعفر بن المعتصم فأحضروه، فقام ابن أبي دؤاد
فألبسه الطويلة ودراعة، وعممه بيده على الطويلة، وقبل بين عينيه، وقال:
السلام عليكم يا أمير المؤمنين. ثم غسل الواثق، وصلى عليه المتوكل
ودفن.
قال ميمون: فحدثني سعيد الصغير قال: كان المتوكل قد رأى في منامه كأن
سكراً سليمانيا قد نزل عليه من السماء مكتوب عليه: جعفر المتوكل على
الله. قال ميمون: فلما صلى على الواثق قال محمد بن عبد الملك: نسميه
المنتصر، وخاض الناس في ذلك، فحدث المتوكل أحمد بن أبي دؤاد بما رأى في
منامه فوجده موافقاً، فأمضى وكتب به إلى الآفاق.
وفي رواية أخرى: أنهم بعد ذلك صاروا إلى دار العامة فبايعوا حين زالت
الشمس يومئذ وذلك يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة اثنتين
وثلاثين، وكتب له بالبيعة محمد بن عبد الملك الزيات وهو إذ ذاك على
ديوان الرسائل، وسنه إذ ذاك ستة وعشرون سنة.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرني الحسن بن شهاب العكبري في كتابه إلي قال: حدثنا عبيد الله بن
عبد الله بن أبي سمرة البندار، أخبرنا معاوية بن عثمان، حدثنا علي بن
حاتم، حدثنا علي الجهم قال: وجه إلي أمير المؤمنين المتوكل، فأتيته
فقال لي: يا علي، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقمت إليه،
فقال لي: تقوم إلي وأنت خليفة؟ فقلت له: أبشر يا أمير المؤمنين أما
قيامك إليه فقيامك بالسنة، وقد عدك من الخلفاء. فسر بذلك.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن
علي بن إسحاق الخازن، أخبرنا أحمد بن بشر بن سعيد الخرقي، حدثنا أبو
روق الهزاني قال: سمعت محمد بن خلف يقول: كان إبراهيم بن محمد التيمي
قاضي البصرة يقول: الخلفاء ثلاثة، أبو بكر الصديق قاتل أهل الردة حتى
استجابوا، وعمر بن عبد العزيز رد مظالم بني أمية، والمتوكل محا البدع
وأظهر السنة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثني
القاضي أبو القاسم علي بن الحسن قال: حدثني أبو الفتح بن أحمد بن علي
بن هارون المنجم، عن أبيه وعمه، عن أبيهما أبي القاسم علي بن يحيى: أنه
كانت عنده كل نوبة من نوب الفراشين في دار المتوكل على الله أربعة آلاف
فراش قالا: فذهب عنا أن نسأله كم نوبة كانوا.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا
أبو علي محمد بن الحسين الجازري، قال: أخبرنا المعافى بن زكريا
الجريري، حدثنا أبو النضر العقيلي، حدثنا أبو أحمد يحيى بن علي المنجم
قال: حدثني أبي قال: خرجنا مع المتوكل إلى دمشق فاحقنا ضيقة بسبب المؤن
والنفقات التي كانت تلزمنا، قال: فبعثت إلى بختيشوع وكان لي صديقاً
أسأله أن يقرضني عشرين ألف درهم، قال: فأقرضنيها، فلما كان بعد يوم أو
يومين دخلت مع الجلساء إلى المتوكل، فلما جلسنا بين يديه قال: يا علي،
لك عندي ذنب وهو عظيم، قلت: يا سيدي، وما هو، فإني لا أعرف لي ذنباً
ولا جناية؟ قال: بلى، أضقت فاستقرضت من بختيشوع عشرين ألف درهم، أفلا
أعلمتني؟ قلت: يا مولاي؛ صلات أمير المؤمنين عندي متواترة، وأرزاقه
وأنزاله علي دارة، فاستحييت مع ما قد أنعم الله به علينا من هذا التفضل
أن أسأله، قال: ولم؟ إياك أن تستحي في مسألتي أو الطلب مني، وأن تعاود
مثل ما كان منك، ثم قال:مائة ألف درهم - بغير مصروف - فأحضرت عشر بدر،
فقال: خذها واتسع بها.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا أحمد بن عبد الواحد الوكيل قال: حدثنا إسماعيل بن سعيد المعدل،
أخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي، أخبرنا محرز الكاتب قال: اعتل عبيد
الله بن يحيى بن خاقان فأمر المتوكل الفتح أن يعوده، فأتاه فقال: أمير
المؤمنين يسأل عن علتك، فقال عبيد الله:
عليل من مكانين ... من الأسقام والدين
وفي هذين لي شغل ... وحسبي شغل هذين
فأمر له المتوكل بألف درهم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثنا
عبد الله بن علي بن حمويه، أخبرنا أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي، خبرنا
أبو الحسين محمد بن علي شاه التميمي، أخبرنا أحمد بن عبد الله العبسي
قال: حدثني أبو بكر محمد بن إسحاق قال: حدثني الأعثم قال: دخل علي بن
الجهم على جعفر المتوكل وبيده درتان يقلبهما، فأنشده قصيدته التي يقول
فيها:
وإذا مررت ببئر عروة ... فاسقني من مائها
قال: فدحا بالدرة التي في يمينه، فقلبتها فقال لي: تستنقص بها؟ هي
والله خير من مائة ألف، قلت: لا والله ما استنقصت بها، ولكن فكرت في
أبيات أعملها لآخذ التي في يسارك، فقال: قل. فأنشأت أقول:
بسر من رأى إمام عدل ... تغرف من بحره البحار
يرجى ويخشى لكل خطب ... كأنه جنة ونار
الملك فيه وفي بنيه ... ما اختلف الليل والنهار
يداه في الجود ضرتان ... عليه كلتاهما تغار
لم تأت منه اليمين شيئاً ... إلا أتت مثلها اليسار
قال: فدحا إليه بالتي في يساره وقال: خذها لا بارك الله لك فيها.
قال المصنف: وقد رويت هذه الأبيات للبحتري في المتوكل.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن
جعفر بن علان قال: حدثنا أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي، حدثنا محمد
بن إبراهيم الأنطاكي، أخبرنا الحارث بن أحمد العبدي، حدثنا أحمد بن
يزيد المؤدب قال: سمعت الفتح بن خاقان يقول: دخلت يوماً على المتوكل
فرأيته مطرقاً يتفكر فقلت له: ما هذا الفكر يا أمير المؤمنين؟ فوالله
ما على الأرض أطيب منك عيشاً ولا أنعم منك بالاً، فقال: يا فتح، أطيب
عيشاً مني رجل له دار واسعة، وزوجة صالحة، ومعيشة حاضرة، لا يعرفنا
فنؤذيه، ولا يحتاج إلينا فنزدريه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسماعيل بن عيسى العطار. سمع إسماعيل بن زكريا الخلقاني، والمسيب بن
شريك، وغيرهما، وروى عن أبي حذيفة إسحاق بن بشر كتاب المبتدأ والفتوح،
وكان ثقة.
توفي في رمضان هذه السنة.
الحكم بن موسى بن أبي زهير، أبو صالح القنطري. نسائي الأصل، رأى مالك
بن أنس، وسمع من إسماعيل بن عياش، وابن المبارك، روى عنه: أحمد بن
حنبل، وعلي بن المديني، وابن أبي الدنيا، والبغوي قال يحيى: هو ثقة.
وقال ابن المديني: الشيخ الصالح.
توفي في شوال هذه السنة.
عبد الله بن عون الخراز.
سمع مالك
بن أنس، وشريك بن عبد الله، وإبراهيم بن سعيد وغيرهم، روى عنه، خلق
كثير منهم البغوي، وكان ثقة.
قال البغوي: حدثنا عبد الله بن عون قال وكان من الأبدال.
توفي في هذه السنة.
عبد الرحمن بن إسحاق بن إبراهيم بن سلمة الضبي مولاهم. كان على رأي أبي
حنيفة، وتقلد القضاء على الرقة، ثم ولي القضاء بمدينة المنصور
وبالشرقية، كان جماعاً للمال، ثم عزل في صفر سنة ثمان وعشرين ومائتين،
وتوجه إلى مكة من سنة اثنتين وثلاثين، فمات بفيد في ذي القعدة وبها
دفن.
عيسى بن سالم الشاشي. قدم بغداد، وحدث بها عن ابن المبارك، روى عنه:
البغوي، وكان ثقة.
وتوفي بطريق حلوان في هذه السنة، وكان من المحدثين الفقهاء.
عمر بن محمد بن بكير، أبو عثمان الناقد. سمع سفيان بن عيينة، وهشيماً،
وروى عنه: البغوي، وكان من المتحدثين الفقهاء الحفاظ، وقال أحمد بن
حنبل: هو يتحرى الصدق.
توفي في ذي الحجة من هذه السنة.
مغيرة بن عبد الله بن المغيرة بن عبد الله الفزاري. كان أمير مصر
لمروان بن محمد الجعدي، وكان حسن السيرة.
توفي في رمضان هذه السنة.
هارون بن عبد الله بن محمد بن كثير، أبو يحيى الزهري. قدم مصر والياً
على القضاء سنة سبع عشرة ومائتين، فأقام قاضياً، ثم خرج إلى العراق،
فتوفي بسامراء في رمضان هذه السنة.
هارون الواثق بالله ابن المعتصم. ولي الخلافة سنة سبع وعشرين ومائتين،
وتوفي في هذه السنة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا أبو حاتم أحمد بن الحسين بن محمد الرازي في كتابه إلينا بخطه،
حدثنا محمد بن عبد الواحد بن محمد المعدل، أخبرنا محمد بن أحمد بن علي
بن أبو الحسن الحافظ، حدثنا الحسين بن عبد الله بن يحيى البرمكي،
أخبرنا زرقان بن أبي داود قال: لما احتضر الواثق جعل يردد هذين
البيتين:
الموت فيه جميع الخلق مشترك ... لا سوقة منهم يبقى ولا ملك
ما ضر أهل قليل في تفاقرهم ... وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا
ثم أمر بالبسط فطويت، وألصق خده بالأرض، وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه
ارحم من قد زال ملكه.
أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا التنوخي قال:
أخبرنا أبي، حدثني الحسين بن الحسن بن محمد الواثقي قال: حدثني أبي
أحمد بن محمد أمير البصرة قال: حدثني أبي قال: كنت أحد من مرض الواثق
في علته التي مات فيها، فكنت قائماً بين يدي الواثق أنا وجماعة من
الأولياء والموالي والخدم، إذ لحقته غشية، فما شككنا أنه قد مات، فقال
بعضنا لبعض: تقدموا فاعرفوا خبره، فما جسر أحد منا يتقدم، فتقدمت أنا،
فلما صرت عند رأسه وأردت أن أضع يدي على أنفه أعتبر نفسه، لحقته إفاقة،
ففتح عينيه، فكدت أموت فرقاً من أن يراني قد مشيت في مجلسه إلى غير
رتبتي، فتراجعت إلى خلف، وتعلقت قبيعة سيفي بعتبة المجلس، وعثرت به،
فاتكأت عليه فاندق سيفي وكاد يدخل في لحمي ويجرحني، فسلمت ثم خرجت،
فاستدعيت سيفاً ومنطقة أخرى فلبستهما، وجئت حتى وقفت في مرتبتي ساعة،
فتلف الواثق تلفاً لم يشك جماعتنا فيه أنه مات فتقدمت فشددت لحييه،
وغمضته، وسجيته، ووجهته إلى القبلة، وجاء الفراشون فأخذوا ما تحته في
المجلس ليردوه إلى الخزائن، لأن جميعه مثبت عليهم، وترك وحده في البيت،
وقال لي ابن أبي دؤاد القاضي: إنا نريد أن نتشاغل بعقد البيعة، ولا بد
أن يكون أحدنا يحفظ الميت إلى أن يدفن، فأحب أن تكون أنت ذلك الرجل،
وقد كنت من أخصهم به في حياته، وذلك أنه اختصني واصطنعني حتى لقبني
الواثقي باسمه، فحزنت عليه حزناً شديداً، وقلت: دعوني وامضوا، فرددت
باب المجلس وجلست في الصحن عند الباب أحفظه، وكان المجلس في بستان عظيم
أجربة، وهو بين بساتين، فأحسست بعد ساعة في البيت بحركة أفزعتني، فدخلت
أنظر ما هي، وإذا بجرذون من دواب البستان قد جاء حتى استل عين الواثق
فأكلها فقلت: لا إله إلا الله، هذه العين التي فتحها منذ ساعة فاندق
سيفي لها هيبة صارت طعمة لدابة ضعيفة! ! قال: وجاءوا فغسلوه بعد ساعة،
فسألني ابن أبي دؤاد عن سبب عينه، فأخبرته. قال: والجرذون دابة أكبر من
اليربوع قليلاً.
وقد روي في سبب موته خبر طريف:
أخبرنا
عبد الملك بن أبي القاسم الكروخي قال: أخبرنا عبد الله بن محمد
الأنصاري، حدثنا أبو يعقوب الحافظ، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن
الحسن الرازي، حدثنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن معاوية الرازي، حدثنا
بكر بن عبد الله بن حبيب قال: سمعت مسعر بن محمد بن وهب يحدث أبي عن
المتوكل قال: كان الواثق يحب النساء وكثرة الجماع، فوجه يوماً إلى
ميخائيل الطبيب، فدعا به، فدخل عليه وهو نائم في مشرفة له وعليه قطيفة
خز، فوقف بين يديه، فقال: يا ميخائيل، أبغني دواء للباه، فقال: يا أمير
المؤمنين، بدنك، فلا تهده بالجماع، فإن كثرة الجماع تهد البدن ولا سيما
إذا تكلف الرجل ذلك، فاتق الله في بدنك وأبق عليك، فليس لك من بدنك
عوض، فقال له: لا بد منه، ثم رفع القطيفة عنه، فإذا بين فخذيه وصيفة قد
ضمها إليه، ذكر من جمالها وهيئتها أمراً عجيباً، فقال: من يصبر عن مثل
هذه؟ قال: فإن كان ولا بد فعليك بلحم السبع، وأمر أن يؤخذ لك منه رطل
فيغلى سبع غليات بخل خمر عتيق، فإذا جلست على شرابك أمرت أن يضرب لك
منه ثلاثة دراهم فانتقلت به على شرابك في ثلاث ليال، فإنك تجد فيه
بغيتك، واتق الله في نفسك ولا تسرف فيها، ولا تجاوز ما أمرتك به. فلهى
عنه أياماً، فبينا هو ذات ليلة جالس قال: علي بلحم السبع الساعة، فأخرج
له سبع من الجب وذبح من ساعته، وأمر فكبب له منه، ثم أمر فأغلي له منه
بالخل، ثم قدم له منه، فأخذ يتنقل منه على شرابه، وأتت عليه الأيام
والليالي، فسقى بطنه، فجمع له الأطباء، فأجمع رأيهم على أنه لا دواء له
إلا أن يسجر تنور بحطب الزيتون ويسخن حتى يمتلئ جمراً، فإذا امتلأ كسح
ما في جوفه فألقي على ظهره، وحشي جوفه بالرطبة، ويقعد فيه ثلاث ساعات
من النهار، فإذا استسقى ماء لم يسق، فإذا مضت ثلاث ساعات كوامل أخرج
وأجلس جلسة مقتضبة على نحو ما أمروا به، فإذا أصابه الروح وجد لذلك
وجعاً شديداً، وطلب أن يرد إلى التنور فترك على تلك الحال، ولا يرد إلى
تلك التنور، حتى تمضي ساعات من النهار، فإنه إذا مضت ساعات من النهار
جرى ذلك الماء، وخرج من مخارج البول وإن سقي ماء أو رد إلى التنور كان
تلفه فيه، فأمر بتنور فسجر بحطب الزيتون حتى امتلأ جمراً أخرج ما فيه
وجعل على ظهره، ثم حشي بالرطبة وعري وأجلس فيه، فأقبل يصيح ويستغيث
ويقول: أحرقتموني اسقوني ماء، وقد وكل به من يمنعه الماء ولا يدعه أن
يقوم من موضعه الذي أقعد فيه، ولا يحرك فسقط بدنه كله، وصار فيه مفاجات
مثل أكبر البطيخ وأعظمه، فترك على حالته حتى مضت له ثلاث ساعات من
النهار، ثم أخرج وقد كاد يحترق، أو يقول القائل في رأي العين قد احترق،
فأجلسه الأطباء، فلما وجد روح الهواء اشتد به الوجع والألم، وأقبل يصيح
ويخور خوران الثور، ويقول: ردوني إلى التنور، فإني إن لم أرد مت،
فاجتمع نساؤه وخواصه لما رأوا ما به من شدة الألم والوجع، وكثرة
الصياح، فرجوا أن يكون فرجه في أن يرد إلى التنور، فردوه إلى التنور،
فلما وجد مس النار سكن صياحه وتقطرت النفاخات التي كانت خرجت ببدنه
وخمدت، وبرد في جوف التنور فأخرج من التنور وقد احترق وصار أسود
كالفحم، فلم تمض ساعة حتى قضى.
توفي الواثق بسامراء يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة اثنتين
وثلاثين ومائتين، وكان عمره اثنتين وثلاثين سنة، وكانت خلافته خمس سنين
وسبعة اشهر وخمسة أيام، وقيل: خمس سنين وشهرين وأحد وعشرين يوماً، وصلى
عليه جعفر.
ثم دخلت
سنة ثلاث وثلاثين ومائتين
فمن الحوادث فيها: غضب المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات وحبسه
إياه، وسنذكر قصته عند وفاته إن شاء الله.
وفي ربيع الآخر: رجفت دمشق رجفة شديدة لارتفاع الضحى، وانتقضت منها
البيوت، وتزايلت الحجارة العظيمة، وسقطت عدة منازل وطاقات في الأسواق
على من فيها، فقتلت خلقاً كثيراً من الرجال والنساء والصبيان، وسقط بعض
شرافات المسجد الجامع، وتصدعت طاقات القبة التي في وسط الجامع مما يلي
المحراب، وانقطع ربع منارة الجامع، فهرب الناس بالنساء والصبيان، وهرب
أهل الأسواق إلى ذلك، فرجعوا، فأخذوا في إخراج الموتى من تحت الهدم.
وذكر بعض
من كان في دير مران أنه كان يرى مدينة دمشق وهي ترتفع وتستقل مراراً،
وأصاب أهل قرية من عمل الغوطة من الرجفة أنها انكفأت عليهم، فلم ينج
منهم إلا رجل واحد على فرسه، فأتى أهل دمشق فأخبرهم.
وأصاب أهل البلقاء مثل ما أصاب أهل دمشق، من هدم المنازل في ذلك اليوم،
وذلك الوقت، وتزايلت الحجارة من سور مدينتها، وسقط حائط لها عرضه ذراع
في ستة عشر ذراعاً، وخرج أهلها بنسائهم وصبيانهم، فلم يزالوا في دعاء
وضجيج حتى كف الله عنهم برحمته.
وعظمت الزلازل بأنطاكية، ومات من أهلها خلق كثير، وكذلك الموصل، ويقال:
إنه مات من أهلها عشرون ألفاً.
وفي رجب: مطر أهل الموصل مطراً شديداً، وسقط برد مختم كالسكر وبعضه
كبيض الحمام، فسد مجاري الماء، ثم سال واد من ناحية البرية ذكروا أنه
لم يسل قط، فما زالوا كذلك في ضجة حتى أتى ربع الليل، وحمل الماء قوماً
فغرقتهم ووقعت الدور على بعضهم فقتلتهم، وكان ما سقط وتهدم أكثر من
ألفي دار.
وقطع الماء رحى كانت مبنية من رصاص، فجري الماء فيها، ولولا ذلك لغرق
أهل الموصل أجمعين.
وفقد في بستان أكثر من مائتي نخلة بأصولها فلم يبن لها أثر، وكانت معها
زلزلة شديدة وصواعق دفن أكثر من عشرة آلاف والذين غرقوا أكثر.
وفي هذه السنة: غضب المتوكل على عمر بن الفرج وذلك في رمضان، فوجد في
منزله خمسة عشر ألف درهم، وقبض جواريه وفرشه، وقيد بثلاثين رطلاً من
الحديد، وأحضر مولاه نصر، فحمل ثلاثين ألف دينار، وحمل نصر من مال نفسه
أربعة عشر ألف دينار، وأصيب له في الأهواز أربعون ألف دينار، ولأخيه
محمد بن الفرج مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار، وحمل من داره من
المتاع على ستة عشر بعيراً فرش فاخرة، ومن الجوهر ما قيمته أربعون ألف
دينار، وألبس جبة صوف وقيد، وأخذ عياله ففتشوا فكن مائة جارية، ثم صولح
على أحد عشر ألف ألف، على أن يرد عليه ما أخذ منه من ضياع الأهواز،
وتنزع عنه القيود في شوال.
وقد أنبأنا أبو بكر محمد بن أبي طاهر البزار، أنبأنا علي بن المحسن
التنوخي قال: حدثني أبي أن بعض المعمرين من الشهود بالأهواز حدثه عن
أبيه - أو بعض أهله - قال: كان محمد بن منصور يتقلد القضاء بكور
الأهواز وعمر بن الفرج الرخجي يتقلد الخراج بها، وكانا يتوازيان
المرتبة السلطانية، فلا يركب القاضي إلى الرخجي إلا بعد أن يجيبه
ويتشاحان على التعظيم، وتولدت بينهما عداوة من ذلك، وكان الرخجي يكتب
في القاضي إلى المتوكل، فلا يلتفت إلى كتبه لعظم محله عند المتوكل،
ويبلغ ذلك القاضي فلا يحفل به، فلما كان في بعض الأوقات ورد كتاب
المتوكل على الرخجي يأمره بأمر في معنى الخراج، وأن يجتمع مع محمد بن
منصور القاضي ولا يتفرد دونه، وورد بالكتاب خادم كبير من خدم السلطان،
فأنفذ الرخجي إلى القاضي، فأعلمه الخبر وقال:
تصير إلى
ديوان الخراج لنجتمع فيه على امتثال الأمر، فقال القاضي: لا، ولكن تصير
أنت إلى الجامع فتجتمع فيه، وتردد الكلام بينهما إلى أن قال الرخجي
للخادم: ارجع إلى حضرة أمير المؤمنين واذكر القصة وأن قاضيه يريد إيقاف
ما أمر به أمير المؤمنين، فبلغه الخبر، فركب محمد بن منصور إلى الديوان
ومعه شهوده، فدخله والرخجي فيه في دست وكتابه بين يديه، فلما بصروا به
قاموا، إلا الرخجي فعدل إلى آخر البساط، بعد أن أمر غلامه فطوى البساط
وجلس على البوري، وحف به الشهود، وجاء الخادم، فجلس عند القاضي وأراه
الكتاب، فلم يزل الرخجي يخاطب القاضي وبينهما مسافة حتى فرغا من الأمر،
فلما فرغا قال الرخجي للقاضي: يا أبا جعفر، ما هذه الجبرية! لا تزال
تتولع بي وتقدر أنك عند الخليفة مثلي، أو أن محلك يوازي محلي، والخليفة
لا يضرب على يدي في أمواله التي بها قوام دولته، ولقد أخذت من ماله ألف
ألف دينار، وألف ألف دينار، وألف ألف دينار فما سألني عنها، وإنما أنت
لك أن تحلف منكراً على حق، وأن تفرض لامرأة على زوجها وتحبس ممتنعاً من
أداء حق، وأبو جعفر ساكت، فلما ذكر الرخجي ألف ألف دينار وثنى القول
يعدد بإصبعه، وقد كشفها ليراها الناس، فلما أمسك عمر بن الفرج لم يجبه
القاضي بشيء، وقال لوكيل: يا فلان، قد سمعت ما جرى؟ فقال: قد وكلتك
لأمير المؤمنين وللمسلمين على هذا الرجل في المطالبة لهم بهذا المال.
فقال له الوكيل: إن رأى القاضي أن يحكم بهذا المال للمسلمين، قال
والرخجي يسمع، فقال القاضي: دواة. وكتب القاضي سجلاً بخطه بذلك المال،
ورمى به إلى الشهود وقال: اشهدوا على إنفاذي الحكم بما في هذا الكتاب،
وإلزام فلان بن فلان هذا وأومأ إلى الرخجي بما أقر به عندي من المال
المذكور مبلغه في هذا الكتاب للمسلمين. فكتب الشهود خطوطهم، وأخذ
القاضي الكتاب ومضى، وأخذ الرخجي يهزأ به ويقول: يا أبا جعفر لقد بالغت
في عقوبتي، قتلتني! قال: إي والله!.
فكتب صاحب الخبر إلى المتوكل بما جرى، فأحضر وزيره وقال: أنا منذ زمان
أقول لك حاسب هذا الخائن، وأنت تدافع حتى حفظ الله علينا أموالنا
بقاضينا محمد بن منصور، ورمى إليه بكتاب صاحب الخبر قال: اكتب الساعة
بالقبض على الرخجي، فخرج الوزير وهو قلق لعنايته بالرخجي، وقال لكاتبه:
اكتب إليه: يا مسكين يا مشؤوم. ما دعاك إلى معاداة القضاة وأنت مقتول
إن لم تتلاف أمرك مع القاضي.
فركب الرخجي إلى القاضي فحجبه، فرفع خجلاً، فاحتال فدخل مع بعض خواص
القاضي بالليل، فصاح عليه: اخرج عن داري فأكب على رأسه وبكى، فقام
القاضي فاعتنقه وبكى وقال: عزيز علي ولا حيلة لي فقد نفذ الحكم! فنهض
ونفذ بمن قبض عليه، ونصب القاضي من باع أملاك الرخجي وحمل ثمنها إلى
بيت المال.
وفي هذه السنة: أمر المتوكل بسليمان بن إبراهيم بن الجنيد فضرب
بالأعمدة حتى أقر بتسعين ألف دينار، فوجه معه مباركاً المغربي إلى
بغداد حتى استخرجها من منزله، وجيء به فحبس.
وفيها: غضب المتوكل على أبي الوزير أحمد بن أبي خالد، وأمر بمحاسبته
فحمل نحواً من ستين ومائة ألف دينار، وبدرتين دراهم وحلياً، وأخذ له من
متاع مصر اثنين وستين سفطاً واثنين وثلاثين غلاماً وفرشاً كثيرة، وأخذ
أصحابه فصالحوا على سبعين ألف دينار.
وفلج أحمد بن أبي دؤاد لست خلوت من جمادى الآخرة.
وولى المتوكل ابنه محمد المنتصر الحرمين واليمن والطائف، وعقد له يوم
الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من رمضان.
وفي يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من رمضان عزل المتوكل الفضل بن مران
عن ديوان الخراج، وولاه يحيى بن خاقان.
وولى إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول في هذا ديوان زمام النفقات.
وفي هذه السنة: قدم يحيى بن هرثمة. وكان والي طريق مكة بعلي بن محمد بن
علي الرضا بن موسى بن جعفر من المدينة.
وفيها: وثب ميخائيل بن توفيل على أمه بدور فشمسها وألزمها الدير، وقتل
رجلاً اتهمها به، وكان ملكها ست سنين.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود بن موسى بن عيسى.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأعيان
إسحاق بن إبراهيم، أبو موسى. هروي الاصل، سمع هشيماً، وابن عيينة.
روى عن: البغوي، أثنى عليه أحمد، وقال يحيى: هو ثقة.
وتوفي في هذه السنة.
بهلول بن صالح بن عمر بن عبيدة
أبو الحسن
التجيبي، ثم العرزمي حدث عن مالك بن أنس وغيره.
وروى عنه أبو عبد الله بن فروخ عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن أبيه
قال: قلت لعبد الله بن عباس: يا معشر قريش أخبروني عن هذا الكتاب
العربي، هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم؟.
قال: نعم. قلت: وممن أخذتموه؟ قال: من حرب بن أمية، قلت: وممن أخذه حرب
بن أمية؟ قال: من عبد الله بن جدعان، قلت: وممن أخذه عبد الله بن
جدعان؟ قال: من أهل الأنبار؟ قلت: وممن أخذه أهل الأنبار؟ قال: من طارئ
طرأ عليهم من أهل اليمن، من كندة، قلت: وممن أخذه ذلك الطارئ؟ قال: من
الخلجان بن الوهم كاتب الوحي لهود النبي عليه السلام، وهو الذي يقول:
أفي كل عام سنة تحدثونها ... ورأي على غير الطريق يغير
وللموت خير من حياة تسبنا ... بها جرهم فيمن تسب وحمير
توفي بهلول في هذه السنة.
عبد الجبار بن عاصم، أبو طالب النسائي. سكن بغداد، وحدث بها عن إسماعيل
بن عياش، وغيره. وروى عنه: حنبل والبغوي وغيره، وكان ثقة صدوقاً. توفي
في ربيع الآخر من هذه السنة.
محمد بن سماعة بن عبيد الله بن هلال بن وكيع بن بشر، أبو عبد الله
التميمي كان أحد أصحاب الرأي.
وولي القضاء بمدينة المنصور إلى أن عزله المأمون.
وحدث عن الليث بن سعد، وأبي يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، وهو من
الحفاظ الثقات.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا القاضي
أبو العلاء الواسطي، أخبرنا أبو الطيب محمد بن زيد التميمي، أخبرنا أبو
زيد المقرئ، أخبرنا أبو الحسين زيد بن محمد، حدثنا جعفر بن دهقان،
حدثنا محمد بن عمران الضبي، قال: سمعت محمد بن سماعة القاضي قال: مكثت
أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوماً واحداً ماتت فيه أمي،
ففاتني فيه صلاة واحدة في جماعة، فقمت فصليت خمساً وعشرين صلاة أريد
بذلك التضعيف فغلبتني عيني، فأتاني آت فقال: يا محمد قد صليت خمساً
وعشرين صلاة ولكن كيف لك بتأمين الملائكة؟.
قال المصنف: كان ابن سماعة يصلي كل يوم مائتي ركعة.
توفي في شعبان هذه السنة عن مائة وثلاث سنين.
محمد بن عبد الملك بن أبان بن أبي حمزة أبو يعقوب، ويعرف بابن الزيات
أصله من جبل، وكان أبوه تاجراً من تجار الكرخ المياسير، وكان يحثه على
التجارة فيأبى إلا الكتابة وطلبها، ثم شخص إلى الحسن بن سهل، فمدحه
بقصيدة، فأعطاه عشرة آلاف درهم، ثم اتصل بالمعتصم فرفع من قدره ووسمه
بالوزارة، ثم استوزره الواثق، وكان أديباً فاضلاً عالماً بالنحو واللغة
وله شعر مليح.
وقد وصف بلاغته البحتري، فأخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي
الحافظ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد بن المظفر الدقاق، أخبرنا محمد
بن عمران المرزباني، حدثني أبو الحسن علي بن هارون قال: أخبرني أبي
قال: من بارع مديح البحتري قوله يصف بلاغة محمد بن عبد الملك الزيات:
في نظام من البلاغة ماش ... ك امرؤ أنه نظام فريد
ومعان لو فصلتها القوافي ... لهجت شعر جرول ولبيد
حزن مستعمل الكلام اختياراً ... وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدرك ... ن به غاية المراد البعيد
ونرى الخلق مجمعين على فضل ... ك من بين سيد ومسود
عرف العالمون فضلك بالع ... لم وقال الجهال بالتقليد
صارم العزم حاضر الحزم ساري ... الفكر ثبت المقام صلب العود
دق فهماً وجل علماً فأرضى الل ... ه فينا والواثق بن الرشيد
لا يميل الهوى به حيث يمضي الأ ... مر بين المقل والممدود
سؤدد يصطفى ونيل يتوخى ... وثناء يحيى ومال تؤدي
قد تلقيت كل يوم جديد ... يا أبا جعفر بمجد جديد
وإذا استطرقت سيادة قوم ... بنت بالسؤدد الطريف التليد
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي الحافظ قال: أخبرني أبو القاسم
الأزهري، أخبرنا عثمان بن عمرو المقرئ، حدثنا جعفر بن محمد الخواص،
حدثني أحمد بن محمد الطوسي، حدثني محمد بن علي الربيعي قال: سمعت صالح
بن سليمان العبدي يقول: كان محمد بن عبد الملك بن الزيات يتعشق جارية
من جواري القيان، فبيعت من رجل من أهل خراسان، فأخرجها، قال: فذهل عقل
محمد بن عبد الملك حتى خشي عليه، فقال:
يا طول ساعات ليل العاشق الدنف ... وطول رعيته للنجم في السدف
ماذا تواري ثيابي من أخي حرق ... كأنما الجسم منه دفه الألف
ما قال يا أسفى يعقوب من كمد ... إلا لطول الذي لاقى من الأسف
من سره أن يرى ميت الهوى دنفاً ... فليستدل على الزيات وليقف
قال المصنف: اتفقت أسباب لهلاك ابن الزيات، فمنها: أن الواثق كان قد
استوزره وفوض الأمور إليه وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر المتوكل في
بعض الأمور، فوكل به عمر بن فرج الرخجي، ومحمد بن العلاء الخادم
يحفظانه ويكتبان بأخباره في كل وقت، فصار جعفر إلى محمد بن عبد الملك
يسأله أن يكلم أخاه الواثق ليرضى عنه، فلما دخل عليه مكث واقفاً بين
يديه ملياً لا يكلمه، ثم أشار إليه أن اقعد فقعد، فلما فرغ من نظره في
الكتب، التفت إليه كالمتهدد له، فقال له: ما جاء بك؟ قال: جئت أسأل
أمير المؤمنين الرضا عني، فقال لمن حوله: انظروا إلى هذا، يغضب أخاه،
ويسألني أن أسترضيه! اذهب فإنك إذا صلحت رضي عنك، فقام جعفر كئيباً لما
لقيه به، فخرج، فأتى عمر بن فرج يسأله أن يختم له صكه ليقبض أرزاقه،
فلقيه عمر بالخيبة، وأخذ الصك، فرمى به إلى صحن المسجد.
وكان أحمد بن أبي خالد حاضراً، فقام لينصرف، فانصرف معه جعفر، فقال له:
رأيت ما صنع بي عمر؟ فقال له: جعلت فداك! أنا زمام عليه، وليس يختم صكي
بأرزاقي إلا بعد الرفق والطلب، فابعث إلي وكيلك، فبعث إليه جعفر وكيله
فدفع إليه عشرين ألف درهم، وقال: أنفق هذه حتى يهيئ الله أمرك، ثم صار
جعفر من فوره إلى أحمد بن أبي دؤاد، فدخل عليه، فقام أحمد واستقبله على
باب البيت وقبله والتزمه، وقال: ما حاجتك، جعلت فداك؟ ! قال: جئت
لتسترضي أمير المؤمنين عني، فقال: أفعل وكرامة، فكلمه فوعده، فلما كان
يوم الحلبة أعاد الكلام عليه، وقال فيه: بحق المعتصم يا أمير المؤمنين
إلا رضيت عنه! فرضي عنه وكساه.
وكان محمد بن عبد الملك قد كتب إلى الواثق: أتاني جعفر بن المعتصم
يسألني أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عنه في زي المخنثين له شعر قفا.
فكتب إليه الواثق: ابعث إليه وأحضره، ومر من يجز شعره، واضرب به وجهه،
ففعل ذلك.
ثم لما ثقل الواثق أشار ابن عبد الملك بابن الواثق، ثم كان بين ابن
الزيات وأحمد بن أبي دؤاد عداوة شديدة، فلما ولي المتوكل أغراه به ابن
أبي دؤاد مع الأحقاد القديمة فتقدم إلى إيتاخ بالقبض عليه، فأرسل إليه
إيتاخ، فلما دخل عليه أخذ سيفه وقلنسوته ودراعته، فدفعها إلى غلمانه،
وقال: انصرفوا.
وبعث إلى داره، فأخذ جميع ما فيها من متاع وجوار وغلمان ودواب، وأمر
أحمد بن أبي خالد بقبض ضياعه وضياع أهل بيته، فكان الذي أخذ منه قيمته
تسعون ألف دينار.
ثم قيد، فامتنع عن الطعام وكثر بكاؤه، ثم سوهر، ومنع من النوم بمسلة
ينخس بها، ثم أمر بتنور من حديد فيه مسامير إلى داخله، فأدخل فيه، وهو
الذي كان صنعه ليعذب به من يطالب بأمر.
فجعل يقول لنفسه: يا محمد بن عبد الملك، لم تقنعك النعمة والدواب
الفارهة والدار النظيفة، وأنت في عافية حتى طلبت الوزارة، ذق ما عملت
بنفسك! وكان لا يزيد على التشهد وذكر الله تعالى.
وقد روينا أنه كان يقول: الرحمة خور في الطبيعة ما رحمت شيئاً قط. فلما
وضع في التنور قال: ارحموني، قالوا له: وهل رحمت شيئاً قط؟.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا محمد بن عبد
الواحد بن محمد، أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني، حدثنا الحسين بن
القاسم الكوكبي قال: سمعت القاسم بن ثابت الكاتب يقول: حدثني أبي قال:
قال لي أحمد الأحول: لما قبض على محمد بن عبد الملك، تلطفت في أن وصلت
إليه، فرأيته في حديد ثقيل، فقلت: يعز علي ما أرى، فقال:
سل ديار
الحي ما غيرها ... وعفاها ومحا منظرها
وهي الدنيا إذا ما انقلبت ... صيرت معروفها منكرها
إنما الدنيا كظل زائل ... نحمد الله كذا قدرها
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت،
أخبرني الحسن بن بي بكر، أخبرني أبي، أخبرنا أبو الطيب محمد بن الحسن
اللخمي، حدثني أبي قال: حدثني بعض أصحابه قال: لما حمل ابن الزيات في
التنور الذي مات فيه، كتب هذه الأبيات بفحمة:
من له عهد بنوم ... يرشد الصب إليه
رحم الله رحيماً ... دل عيني عليه
سهرت عيني ونامت ... عين من هنت عليه
قال المصنف: ومات في التنور، وقيل: إنه أخرج فضرب فمات تحت الضرب،
والأول أثبت.
ولما مات طرح على باب، فغسل عليه، وحفر له، ولم يعمق، فذكر أن الكلاب
نبشته، فأكلت لحمه.
يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسطام وقيل: يحيى بن معين بن غياث بن
زياد بن عون بن بسطام، أبو زكريا المري من غطفان، مولى لهم. ولد سنة
ثمان وخمسين، وكان من أهل الأنبار. سمع ابن المبارك، وهشيماً، وعيسى بن
يونس، وسفيان بن عيينة، وغيرهم. روى عنه: أحمد بن حنبل، وأبو خيثمة،
ومحمد بن سعد، والبخاري وغيرهم. وكان حافظاً ثقة ثبتاً متقناً. قال علي
بن المديني: انتهى علم الناس إلى يحيى بن معين. أخبرنا أبو منصور
القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو سعيد
الماليني، أخبرنا عبد الله بن عدي قال: أخبرني شيخ كاتب ببغداد في حلقة
أبي عمران الأشيب ذكر أنه ابن عم ليحيى بن معين قال: كان معين على خراج
الري، فمات، فخلف لابنه يحيى ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم، فأنفقه كله
على الحديث.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا التنوخي قال: أخبرنا أبو نصر أحمد بن محمد بن إبراهيم البخاري،
حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حريث قال: سمعت أحمد بن سلمة يقول: سمعت
أحمد بن رافع قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كل حديث لا يعرفه يحيى بن
معين فليس هو بحديث.
أخبرنا عبد الرحمن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا أبو سعيد
الماليني، أخبرنا عبد الله بن عدي، حدثنا يحيى بن زكريا، حدثنا العباس
بن إسحاق قال: سمعت هارون بن معروف يقول: قدم علينا بعض الشيوخ من
الشام فكنت أول من بكر عليه، فدخلت عليه فسألته أن يملي علي شيئاً،
فأخذ الكتاب يملي علي فإذا أنا بإنسان يدق الباب، فقال الشيخ: من هذا؟
قال: أحمد بن حنبل. فأذن له والشيخ على حاله والكتاب في يده ولم يتحرك،
فإذا بآخر يدق الباب، فقال الشيخ: من هذا؟ قال: أحمد الدورقي، فأذن له
والشيخ على حاله والكتاب في يده لا يتحرك، وإذا بداق يدق الباب، فقال
الشيخ: من هذا؟ قال: عبد الله بن الرومي، فأذن له والشيخ على حاله
والكتاب في يده لا يتحرك، فإذا بآخر يدق الباب، فقال الشيخ: من هذا؟
قال: أبو خيثمة زهير بن حرب، فأذن له والشيخ على حاله والكتاب في يده
لا يتحرك، فإذا بآخر يدق الباب، فقال الشيخ: من هذا؟ قال: يحيى بن
معين. قال: فرأيت الشيخ ارتعدت يده وسقط الكتاب منها.
توفي يحيى بن معين بالمدينة في ذي القعدة من هذه السنة وهو ذاهب إلى
الحج.
وروي أنه خرج من المدينة، فرأى في المنام قائلاً يقول: أترغب عن جواري؟
فرجع، فأقام ثلاثاً، ومات وحمل على سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ودفن بالبقيع، وكان قد بلغ ستاً وسبعين سنة إلا أياماً.
ورثاه بعض المحدثين فقال:
ذهب العليم بعيب كل محدث ... وبكل مختلف من الإسناد
وبكل وهم في الحديث ومشكل ... يعيى به علماء كل بلا
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: سمعت
الأزهري قال: سمعت محمد بن الحسن الصيرفي قال: حدثنا أبو أحمد بن
المهتدي بالله قال: حدثني الحسين بن الخصيب قال: حدثني حبيش بن مبشر.
قال: رأيت يحيى بن معين في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: أدخلني
عليه في داره، وزوجني ثلاثمائة حورية، ثم قال للملائكة: انظروا إلى
عبدي كيف تطرى وحسن؟.
أخبرنا
أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت،
أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى بن عبد العزيز حدثنا صالح بن أحمد
الحافظ قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الله يقول: سمعت أبي يقول:
خلف يحيى من الكتب مائة قمطر، وأربعة عشر قمطراً، وأربعة حباب شرابية
مملوءة كتباً.
أم عيسى بنت موسى الهادي زوجة المأمون. ماتت في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة أربع وثلاثين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن المتوكل مرض في هذه السنة، فأرجف عليه، فقيل لابن
البعيث: إنه قد توفي، فهرب إلى قلعة له حصينة.
وقيل: بل كان في الحبس، فأفلت إلى تلك القلعة، وأتاه من يريد الفتنة،
فاجتمع إليه جماعات كثيرة، وبعث إليه المتوكل جيشاً بعد جيش، فلم
يقدروا عليه، حتى كتب بالأمان لأصحابه، فنزل كثير منهم، وخرج هو
مستخفياً، فأسر وجيء به فحبس.
وفي هذه السنة: أظهر المتوكل السنة ونشر الحديث.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبوبكر بن ثابت الخطيب قال: أخبرني
الأزهري، أخبرنا أحمد بن إبراهيم، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال:
سنة أربع وثلاثين ومائتين، فيها: أشخص المتوكل الفقهاء والمحدثين، وكان
فيهم مصعب الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإبراهيم بن عبد الله
الهروي، وعبد الله وعثمان ابنا محمد بن أبي شيبة وكانا من حفاظ الناس،
فقسمت بينهم الجوائز، وأجريت عليهم الأرزاق، وأمرهم المتوكل أن يجلسوا
للناس، وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية وأن
يحدثوا بالأحاديث في الرؤية، فجلس عثمان بن أبي شيبة في مدينة المنصور،
ووضع له منبر، فاجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً. وجلس أبو بكر بن أبي
شيبة في مجلس الرصافة، فاجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب
قال: قرأت في كتاب عمر بن محمد بن الحسن البصري، عن محمد بن يحيى
الصولي، قال: في سنة أربع وثلاثين ومائتين، نهى المتوكل عن الكلام في
القرآن، وأشخص الفقهاء والمحدثين إلى سامراء، منهم: محمد بن عبد الملك
بن أبي الشوارب، وابنا أبي شيبة، ومصعب الزبيري، وأمرهم أن يحدثوا
ووصلهم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثني الحسن بن
محمد الخلال، حدثنا عبد الواحد بن علي قال: قال أبو صالح عبد الرحمن بن
سعيد الأصبهاني: قال أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل: سمعت محمد بن عبد
الملك بن أبي الشوارب يقول: استأذنت المتوكل أن أرجع إلى البصرة،
ولوددت أني لم أكن أستأذنه كنت أكون في جواره. قلت: وكيف؟ قال: اشهد
على أني جعلت دعائي في المشاهد كلها للمتوكل، وذلك أن صاحبنا عمر بن
عبد العزيز جاء الله به فرد المظالم، وجاء الله بالمتوكل فرد الدين.
وفي هذه السنة: عزل عبيد الله بن أحمد عن القضاء وولي الوابصي.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا علي بن المحسن، أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر قال: عزل المتوكل
عبيد الله بن أحمد بن غالب في سنة أربع وثلاثين واستقضى عبد السلام بن
عبد الرحمن بن صخر، ويعرف بالوابصي، وذلك أنه من ولد وابصة بن معبد،
وكان قبل ذلك على قضاء الرقة، وكان هل بغداد قد ضجوا من أصحاب ابن أبي
دؤاد وقالوا: لا يلي علينا إلا من نرضى به، فكتب المتوكل العهد مطلقاً
ليس عليه اسم أحد، وأنفذه من سامراء مع يعقوب قوصرة أحد الحجاب الكبار،
وقال: أحضر عبد السلام والشيوخ، واقرأ العهد، فإذا رضوا به قاضياً وقع
على العهد اسمه، فقدم ففعل ذلك، فقال الناس: ما نريد إلا الوابصي، فوقع
على الكتاب اسمه، وحكم في وقته بالرصافة.
وفي هذه السنة: حج إيتاخ، وكان هو والي مكة والمدينة والموسم، فرفعه
ومن بعده الواثق، حتى ضم إليه أعمالاً من أعمال السلطان.
وكان من أراد المعتصم أو الواثق قتله سلمه إلى إيتاخ، فلما ولي المتوكل
كان في تلك الرتبة، وإليه الجيش والأتراك والموالي والحجابة ودار
الخلافة.
ثم دس
إليه المتوكل من يشير عليه بالاستئذان في الحج، ففعل فأذن له، وصيره
أمير كل بلد يدخلها، فحين خرج صيرت الحجابة إلى وصيف، وذلك يوم السبت
لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة فلما رجع من الحج استصفى ماله وحبس
وضرب ومات في الحبس. وقيل: هذه القصة كانت في سنة ثلاث وثلاثين.
وفي هذه السنة: ابتدئ ببناء الجامع بسامراء.
وفيها: هبت ريح شديدة وسموم لم يعهد بمثلها، فاتصل ذلك نيفاً وخمسين
يوماً، وشمل ذلك البصرة والكوفة وبغداد وواسط وعبادان والأهواز، وقتلت
المارة والقوافل، ثم مضت إلى همذان، وركدت عليها عشرين يوماً، فأحرقت
الزرع، ثم مضت إلى الموصل فخرجت عليهم من قرية سنجار، فأهلكت ما مرت
به، ثم ركدت بالموصل فمنعت الناس من الانتشار وعطلت الأسواق، وزلزلت
هراة ومطرت مطراً شديداً، حتى سقطت الدور، وكان ذلك من أول الليل إلى
الصباح.
وفيها: خلع المتوكل على إسحاق بن إبراهيم وعقد له اللواء، فسار في موكب
عظيم. قال إبراهيم بن عرفة: فزعموا أنه مر في موكبه، فقال قائل: من
هذا؟ فقالت امرأة هناك: هذا رجل سقط من عين الله فبلغ به ما ترون! فسئل
عنها، فقالوا: هي أخت بشر بن الحارث، أو امرأة من أهله.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود بن عيسى بن موسى.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن حرب بن عبد الله بن سهل بن فيروز أبو عبد الله الزاهد
النيسابوري وقيل: المروزي. سمع سفيان بن عيينة، وأبا عامر العقدي، وأبا
داود الطيالسي في خلق كثير.
وكان عالماً ورعاً متعبداً، والكرامية تنتحله، وورد بغداد أيام أحمد بن
حنبل، وحدث بها.
قال يحيى بن معين: إن لم يكن أحمد بن حرب من الأبدال فلا أدري من هم.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا محمد
بن أحمد بن يعقوب أخبرنا محمد بن نعيم الضبي، أخبرنا عبد الله بن محمد
الكعبي قال: أخبرنا إسماعيل بن قتيبة قال: دخلت على أحمد بن حنبل وقد
قدم أحمد بن حرب من مكة، فقال لي أحمد: من هذا الخراساني الذي قدم؟
قلت: من زهده كذا وكذا، ومن ورعه كذا وكذا، فقال: لا ينبغي لمن يدعي ما
يدعيه أن يدخل نفسه في الفتيا.
أخبرنا زاهر بن طاهر، أخبرنا أحمد بن الحسين البيهقي، أخبرنا أبو عبد
الله محمد بن عبد الله الحاكم قال: حدثني أبو العباس عبيد الله بن أحمد
الصوفي قال: حدثني أبو عمرو محمد بن يحيى قال: مر أحمد بن حرب بصبيان
يلعبون، فقال أحدهم: أمسكوا فإن هذا أحمد بن حرب الذي لا ينام الليل
قال: فقبض أحمد على لحيته، وقال: الصبيان يهابونك بأنك لا تنام وأنت
تنام. قال: فأحيا الليل بعد ذلك إلى أن توفي لم ينم الليل.
وبلغنا عن أحمد بن حرب أنه قال: المنازل أربعة، فثلاثة منها مجاز،
والرابع الحقيقة: عمرنا في الدنيا، ومكثنا في القبور، ومقامنا في
الحشر، ومنصرفنا إلى الأبد الذي خلقنا له، فمثل عمرنا في الدنيا
كالمتعشى للحاج لا يطمئنون ولا يحلون الأثقال عن الدواب لسرعة
الارتحال، ومكثنا في القبور مثل أحد المنازل للحاج يضعون الأثقال
ويستريحون يوماً وليلة ثم يرتحلون، ومثل مقامنا في الحشر كمقدمهم مكة
يوفون النذور ويقضون النسك، ثم يتفرقون، وكذلك القيامة يفترق فيها
الناس إلى الجنة أو السعير.
أخبرنا زاهر بن طاهر قال: أخبرنا أحمد بن الحسين البيهقي أخبرنا أبو
عبد الله الحاكم قال: سمعت أبا العباس محمد بن أحمد القاضي يقول: سمعت
أبا عبد الله محمد بن جعفر الزاهد يقول: سمعت زكريا بن أبي دلويه يقول:
رأيت أحمد بن حرب بعد وفاته بشهر في المنام، فقلت: ما فعل بك ربك؟ قال:
غفر لي وفرق المغفرة. قلت: وما فوق المغفرة؟ قال: أكرمني بأن يستجيب
دعوات المسلمين إذا توسلوا بقبري.
توفي أحمد بن حرب في رجب هذه السنة وهو ابن ثمان وخمسين سنة وأشهر.
جعفر بن مبشر بن أحمد بن محمد، أبو محمد الثقفي المتكلم. أحد المعتزلة
البغداديين، له كتب مصنفة في الكلام، توفي في هذه السنة.
زهير بن حرب بن شداد، أبو خيثمة النسائي. ولد سنة ستين ومائة.
وحدث عن سفيان بن عيينة، وهشيم، وابن علية، وجرير بن عبد الحميد، ويحيى
بن سعيد، وخلق كثير.
روى عنه: البخاري، ومسلم، وابن أبي الدنيا، وغيرهم.
وكان ثقة
ثبتاً حافظاً متقناً. توفي في شعبان هذه السنة وهو ابن أربع وسبعين
سنة، وقد قيل: إنه توفي سنة اثنتين وثلاثين وهو غلط.
سليمان بن داود أبو الربيع الزهراني العتكي سمع مالك بن أنس، وحماد بن
زيد.
روى عنه أحمد بن حنبل، وابن المديني والبغوي، وكان ثقة.
توفي في رمضان هذه السنة بالبصرة.
سليمان بن داود بن بشر بن زياد أبو أيوب المنقري البصري، المعروف
بالشاذكوني حدث عن حماد بن زيد وغيره.
وكان حافظاً مكثراً، قدم بغداد، فجالس الحفاظ وذاكرهم، ثم خرج إلى
أصبهان فسكنها.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
أحمد بن عمرو بن روح، أخبرنا طلحة بن أحمد بن الحسن الصوفي، أخبرنا أبو
الحسن محمد بن أحمد بن أبي مهزول قال: سمعت محمد بن حفص يقول: سمعت
عمرو الناقد يقول: ما كان في أصحابنا أحفظ للأبواب من أحمد بن حنبل،
ولا أسرد للحديث من ابن الشاذكوني، ولا أعلم بالإسناد من يحيى ما قدر
أحد أن يقلب عليه إسناداً قط.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا ابن رزق،
أخبرنا عثمان بن أحمد، حدثنا حنبل بن إسحاق قال: سمعت أبا عبد الله
يقول: كان أعلمنا بالرجال يحيى بن معين، وأحفظنا للأبواب سليمان
الشاذكوني، وكان أحفظنا للطوال علي.
قال المصنف: قد طعن في الشاذكوني رحمه الله جماعة من العلماء ونسبوه
إلى الكذب، وقلة الدين، فذهبت بتخليطه بركات علمه.
فقال أحمد بن حنبل: قد جالس الشاذكوني حماد بن زيد، وبشر بن المفضل،
ويزيد بن زريع فما نفعه الله بواحد منهم.
وقال يحيى: كان الشاذكوني يكذب ويضع الحديث وقد جربت عليه الكذب.
وقال البخاري: هو عندي أضعف من كل ضعيف، وقال النسائي: ليس بثقة.
وكان عبدان الأهوازي يقول: لا يتهم الشاذكوني بالكذب، وإنما كتبه كانت
قد ذهبت، فكان يحدث فيغلط.
توفي الشاذكوني في جمادى الآخرة من هذه السنة بأصبهان.
أنبأنا إسماعيل بن أحمد قال: سمعت أبا القاسم يوسف بن الحسن الزنجاني
يقول: سمعت أبا نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ يقول: سمعت أبا الحسين بن
قانع يقول: سمعت إسماعيل بن طاهر البلخي يقول: رأيت سليمان الشاذكوني
في النوم، فقلت: ما فعل الله بك يا أبا أيوب؟ فقال: غفر الله لي. قلت:
بماذا؟ قال: كنت في طريق أصبهان أمر إليها فأخذتني مطرة، وكانت معي
كتب، ولم أكن تحت سقف ولا شيء، فانكببت على كتبي حتى أصبحت وهدأ المطر،
فغفر لي الله بذلك.
علي بن بحر بن بري أبو الحسن القطان فارسي الأصل.
سمع هشام بن يوسف، وجرير بن عبد الحميد.
روى عنه أحمد بن حنبل، وقال: هو ثقة. توفي بالبصرة في هذه السنة.
ودون هذا رجل يقال له: علي بن بري، وليس فيه: بحر.
حدث ببغداد أيضاً عن سلمة بن شبيب، وروى عنه: أبو بكر الشافعي.
علي بن عبد الله بن جعفر بن يحيى بن بكر بن سعد ابن المديني أبو الحسن
السعدي مولاهم. بصري المولد، كوفي المنشأ، ولد سنة إحدى وستين ومائة.
وسمع حماد بن زيد، وهشام بن بشير، وسفيان بن عيينة، وخلقاً كثيراً.
وكان المقدم على حفاظ وقته، وكان سفيان بن عيينة يقول: والله إني أتعلم
من ابن المديني أكثر مما يتعلم مني، ولولاه ما جلست وكذلك كان يحيى بن
سعيد يقول: الناس يلوموني في قعودي مع علي، وأنا أتعلم من علي أكثر مما
يتعلم مني.
وكان أحمد بن حنبل لا يسميه، وإنما يكنيه تبجيلاً له، وقال البخاري:
استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
أبو سعيد الماليني قال: أخبرنا عبد الله بن عدي قال: أخبرنا محمد بن
أحمد القرميسيني قال: سمعت محمد بن يزداد يقول: سمعت أحمد بن يوسف
البحيري يقول: سمعت الأعين يقول: رأيت علي بن المديني مستلقياً، وأحمد
بن حنبل عن يمينه، ويحيى بن معين عن يساره، وهو يملي عليهما.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
البرقاني قال: أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي قال: أخبرنا عبد الله بن محمد
بن سيار قال: سمعت عباساً العنبري يقول: كان علي بن المديني بلغ ما لو
قضي له أن يتم على ذلك، لعله كان يقدم على الحسن البصري، كان الناس
يكتبون قيامه وقعوده، ولباسه، وكل شيء يقول ويفعل، أو نحو هذا.
قال المصنف: والذي منع ابن المديني من التمام إجابته في خلق القرآن
وميله إلى ابن أبي دؤاد لأجل حطام الدنيا، فلم يكفه أن أجاب فكان يعتذر
للتقية، وصار يتردد إلى ابن أبي دؤاد ويظهر له الموافقة.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا الحسين بن علي الصيمري قال: حدثنا محمد بن عمران المرزباني قال:
أخبرنا محمد بن يحيى قال: أخبرنا الحسين بن الفهم قال: حدثنا أبي قال:
قال ابن أبي دؤاد للمعتصم: يا أمير المؤمنين، هذا يزعم - يعني أحمد بن
حنبل - أن الله تعالى يرى في الآخرة، والعين لا تقع إلا على محدود،
والله لا يحد. فقال المعتصم: ما عندك في هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين،
عندي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وما قال عليه السلام؟
قال: حدثنا محمد بن جعفر غندر، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد عن
قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا مع النبي صلى
الله عليه وسلم في ليلة أربع عشرة من الشهر، فنظر إلى البدر، فقال: "
أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا البدر، لا تضامون في رؤيته " . فقال
لأحمد بن أبي دؤاد: ما عندك في هذا؟ قال: أنظر في إسناد هذا الحديث.
وكان هذا في أول يوم، ثم انصرف، فوجه ابن أبي دؤاد إلى علي بن المديني،
وهو مملق لا يقدر على درهم، فأحضره فما كلمه بشيء حتى وصله بعشرة آلاف
درهم، وقال له: هذه وصلك بها أمير المؤمنين، وأمر أن يدفع إليه جميع ما
استحق من أرزاقه، وكان له رزق سنتين، ثم قال: يا أبا الحسن حديث جرير
بن عبد الله في الرؤية ما هو؟ قال: صحيح، قال: فهل عندك فيه شيء؟ قال:
يعفيني القاضي من هذا. فقال: يا أبا الحسن هو حاجة الدهر ثم أمر له
بثياب وطيب ومركب بسرجه ولجامه ولم يزل به حتى قال له: في هذا الإسناد
من لا يعتمد عليه ولا على ما يرويه، وهو قيس بن أبي حازم، إنما كان
أعرابياً بوالاً على قدميه. فقام ابن أبي دؤاد إلى ابن المديني
فاعتنقه، فلما كان من الغد، وحضروا قال ابن أبي دؤاد: يا أمير
المؤمنين، هذا يحتج في الرؤية بحديث جرير، وإنما رواه عنه قيس بن أبي
حازم وهو أعرابي بوال على عقبيه.
قال أحمد بعد ذلك: فعلمت أنه من عمل ابن المديني.
قال المصنف: وهذا إن صح عن علي بن المديني فإنه إقدام عظيم على الشرع،
فإن قيساً روى عن تسعة من العشرة فإنه لم يرو عن عبد الرحمن وهو من
العلماء الثقات الذين لن يطعن فيهم، خرج عنه البخاري، ومسلم في
الصحيحين.
وكذلك روى لهم ابن المديني في حديث عمر " وكلوه إلى خالقه " وكان قد
أخطأ في هذا الحديث الوليد بن مسلم، وإنما هو " وكلوه إلى عالمه " فقال
أحمد بن حنبل: علي يعلم أن الوليد أخطأ فلم روى لهم الخطأ حتى يحتجون
به؟ ! وكان علي إذا جاء حديث عن أحمد بن حنبل يقول: اضرب عن هذا ليرضى
ابن أبي دؤاد، وكان قد سمع من أحمد.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا البرقاني قال: أخبرنا أحمد بن محمد الآدمي قال: حدثنا محمد بن
علي الإيادي قال: حدثنا زكريا بن يحيى الساجي قال: قدم علي بن المديني
البصرة، فصار إليه بندار، فجعل يقول: قال أبو عبد الله، فقال له بندار
- على رؤوس الملأ - من أبو عبد الله أحمد بن حنبل؟ قال: لا، أبو عبد
الله أحمد بن أبي دؤاد. قال بندار: عند الله احتسب خطئي، شبه علي هذا،
وغضب وقام.
أخبرنا
أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا علي بن أحمد
الرزاز قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي قال: كان عند
إبراهيم الحربي قمطر من حديث علي بن المديني، وما كان يحدث به، فقيل
له: لم لا تحدث عنه؟ قال: لقيته يوماً وبيده نعله وثيابه في فمه، فقلت:
إلى أين؟ قال: ألحق الصلاة خلف أبي عبد الله، فظننت أنه يعني أحمد بن
حنبل فقلت: من أبو عبد الله؟ قال: أبو عبد الله بن أبي دؤاد، فقلت:
والله لا حدثت عنك بحرف.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الحسين
بن علي الصيمري وأحمد بن علي التوزي قالا: حدثنا محمد بن عمران بن موسى
قال: حدثنا أبو بكر الجرجاني قال: حدثنا أبو العيناء قال: دخل علي بن
المديني علي أحمد بن أبي دؤاد بعد أن جرى من محنة أحمد بن حنبل ما جرى،
فناوله رقعة وقال: هذه طرحت في داري، فقرأها فإذا فيها:
يا ابن المديني الذي شرعت له ... دنيا فجاد بدينه لينالها
ماذا دعاك إلى اعتقاد مقالة ... قد كان عندك كافر من قالها
أمر بدا لك رشده فقبلته ... أم زهرة الدنيا أردت نوالها
فلقد عهدتك لا أبا لك مرة ... صعب المقالة للتي تدعى لها
إن الحريب لمن يصاب بدينه ... لا من يرزئ ناقة وفصالها
فقال له أحمد: قد هجا خيار الناس، وقد قمت وقمنا من حق الله تعالى بما
يصغر له قدر الدنيا عند كثير ثوابه، ثم دعا له بخمسة آلاف درهم، وقال:
اصرف هذه في نفقاتك.
قال المصنف: وقد روى جماعة عن علي بن المديني أنه قال: إنما أجبت تقية،
وخفت السيف، وقد حبست في بيت مظلم ثمانية أشهر، وفي رجلي قيد فيه
ثمانية أمنان حتى خفت على بصري.
توفي ابن المديني بسامراء في ذي القعدة من هذه السنة، وقيل: في سنة خمس
وثلاثين، ولا يصح.
يحيى بن أيوب، أبو زكريا العابد، المعروف بالمقابري. ولد سنة سبعة
وخمسين ومائة. سمع شريكاً، وإسماعيل بن جعفر، وابن علية وغيرهم.
روى عنه: أحمد بن حنبل، ومسلم بن الحجاج، والبغوي، وكان ثقة ورعاً من
خيار عباد الله.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الحسن
بن أبي طالب قال: حدثنا عمر بن أحمد الواعظ قال: حدثنا محمد بن مخلد
قال: حدثنا العباس بن محمد بن عبد الرحمن الأشهلي قال: حدثني أبي قال:
مررت بالمقابر فسمعت همهمة، فاتبع الأثر، فإذا يحيى بن أيوب في حفرة من
تلك الحفر، وإذا هو يدعو يبكي ويقول: يا قرة عين المطيعين! ويا قرة عين
العاصين! ولم لا تكون قرة عين المطيعين وأنت مننت عليهم بالطاعة، ولم
لا تكون قرة عين العاصين وأنت سترت عليهم الذنوب. قال: ويعاود البكاء،
قال: فغلبني البكاء، ففطن بي، فقال لي: تعال لعل الله تعالى إنما يبعث
بك الخير.
توفي يحيى في ربيع الأول من هذه السنة.
ثم دخلت
سنة خمس وثلاثين ومائتين
فمن الحوادث فيها: قتل إيتاخ. وقد ذكرنا أنه استأذن في الحج فأذن له،
ولما رجع من الحج إلى العراق، وجه إليه المتوكل سعيد بن صالح الحاجب
بكسوة وألطاف، وأمره أن يتلقاه ببعض الطريق، وقد تقدم المتوكل إلى
عامله على الشرطة ببغداد إسحاق بن إبراهيم بأمره فيه.
فلما خرج إسحاق وقرب إيتاخ من بغداد، أراد أن يأخذ طريق الفرات إلى
الأنبار، ثم يخرج إلى سامراء، فكتب إليه إسحاق: إن أمير المؤمنين، قد
أمر أن تدخل بغداد، وأن يتلقاك بنو هاشم ووجوه الناس، وأن تعقد لهم في
دار خزيمة بن خازم، فتأمر لهم بجوائز.
وشحن إسحاق الجسر بالجند والشاكرية، وخرج في خاصته، فاستقبله، فلما نظر
إليه أهوى إسحاق لينزل، فحلف عليه إيتاخ أن لا يفعل.
وكان إيتاخ في ثلاثمائة من أصحابه وغلمانه، فسارا جميعاً حتى إذا صار
عند الجسر تقدمه إسحاق، فعبر حتى وقف على باب خزيمة بن خازم، وقال
لإيتاخ يدخل.
وكان
الموكلون بالجسر كلما مر بهم غلام من غلمان إيتاخ قدموه، حتى بقي في
خاصة غلمانه، فدخل، وقد فرشت له دار خزيمة، وتأخر إسحاق، وأمر أن لا
يدخل الدار من غلمانه إلا ثلاثة أو أربعة، وأخذت عليه الأبواب وأمر
بحراسته من ناحية الشط، وقطعت كل درجة في قصر خزيمة، فحين دخل أغلق
الباب خلفه، فنظر فدخل، فإذا ليس معه إلا ثلاثة غلمان، فقال: قد
فعلوها.
فمكث يومين أو ثلاثة، ثم ركب إسحاق حراقة وأعد لإيتاخ أخرى، ثم أرسل
إليه أن يصير إلى الحراقة، وأمر بأخذ سيفه، وصاعدا إلى دار إسحاق،
فأدخل ناحية منها، ثم قيد فصير في عنقه ثمانين رطلاً، فمات ليلة
الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخر، وأشهد إسحاق على موته أبا الحسن
محمد بن ثابت صاحب البريد ببغداد والقضاة، وأراهم إياه لا ضرب به ولا
أثر، فقيل إن هلاكه كان بالعطش، وحبس ابناه معه، فبقيا إلى أن ولي
المنتصر فأخرجهما.
وفي هذه السنة: قدم بغا بابن البعيث، فأمر المتوكل بقتله ثم عفا عنه.
وفيها: أمر المتوكل بأخذ أهل الذمة بلبس الطيالس العسلية والزنانير،
وركوب السروج بركب الخشب، وأن يلبسوا العسلي نساءهم، وأمر بهدم بيعهم
المحدثة، ونهى أن يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي يجري
أحكامهم فيها على المسلمين، ونهى أن يتعلم أولادهم في كتاتيب المسلمين
ولا يعلمهم مسلم، ونهى أن يظهروا في شعانينهم صلباناً، وأن يشعلوا في
طريق، وكتب إلى عماله أن تأخذهم بذلك في شوال.
وفي هذا الشهر: احترق سجن باب الشام، واحترق فيه مائة وثلاثون رجلاً،
وذلك عند رواح الناس إلى الجمعة.
وفي هذه السنة: ظهر رجل بسامراء يقال له: محمود بن الفرج، فزعم أنه ذو
القرنين، ومعه سبعة عشر رجلاً من عند خشبة بابك، وخرج من أصحابه بباب
العامة رجلان، وببغداد في مسجد مدينتها آخران، وزعم أنه نبي، فأتي به
وبأصحابه المتوكل، فأمر بضربه بالسياط، فضرب ضرباً شديداً، وحبس أصحابه
وكانوا قدموا من نيسابور، ومعهم شيء يقرؤونه، ومعهم عيالاتهم، وفيهم
شيخ يشهد له بالنبوة، ويزعم أنه يوحى إليه، وأن جبريل يأتيه بالوحي،
فضرب محمود مائة سوط، فلم ينكر نبوته حين ضرب، وضرب الشيخ الذي كان
يشهد له بالنبوة أربعين سوطاً، فأنكر نبوته حين ضرب. وحمل محمود إلى
باب العامة، فأكذب نفسه، وقال الشيخ: قد اختدعني هذا، وأمر أصحابه أن
يصفعوه فصفعه كل واحد عشر صفعات، وأخذ له مصحف فيه كلام قد جمعه ذكر
أنه قرآنه، وأن جبريل كان يأتيه به، ثم مات يوم الأربعاء لثلاث خلون من
ذي الحجة ودفن في الجزيرة.
وقام رجلان ببغداد في ذي القعدة والإمام في الصلاة، فصاحا وأفسدا على
الناس صلاتهم، حتى قرأ الإمام في الركعة الثانية: " قل هو الله أحد "
وذكرا أنهما نبيان وكان هذا في مسجد غربي بغداد، وقام آخران بسامراء في
هذا اليوم ففعلا ذلك.
وفي هذه السنة: عقد المتوكل البيعة لبنيه الثلاثة: لمحمد المنتصر،
ولأبي عبد الله الزبير وقيل: اسمه محمد ولقبه: المعز بالله، ولإبراهيم
وسماه: المؤيد بالله، وذلك يوم السبت لثلاث بقين من ذي الحجة، وقيل:
لليلتين.
وعقد لكل منهم لواءين، فضم إلى المنتصر: إفريقية والمغرب كله وقنسرين،
والعواصم، والثغور، وديار مضر، وديار ربيعة، والموصل، وهيت، وعانة،
وتكريت، وكور دجلة، وطاسيج السواد، والحرمين، واليمن، وعك، وحضرموت،
واليمامة، والبحرين، والسند، ومكران، وقندابيل، وكور الأهواز،
والمستغلات بسامراء في مواضع كثيرة.
وضم إلى المعتز: كور خراسان، وما يضاف إليها، وطبرستان والري، وكور
فارس، وأرمينية، وأذربيجان، ودور الضرب، وأمر بضرب اسمه على الدراهم.
وضم إلى ابنه المؤيد: جند دمشق، وجند حمص، وجند الأردن، وجند فلسطين.
وكتب بذلك كتاباً على نفسه بولاية العهد لهم، وما سلم إليهم من
الأعمال.
وفي ذي الحجة من هذه السنة: تغير ماء دجلة إلى الصفرة، فبقي ثلاثة
أيام، ففزع الناس لذلك، ثم صار في لون المورد. حكاه أبو جعفر الطبري.
وفيها: أتى المتوكل بيحيى بن محمد بن يحيى بن زيد بن علي بن الحسين،
وكان قد جمع قوماً، فحبس وضربه عمر بن فرج ثمان عشرة مقرعة، وحبس
ببغداد.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسحاق بن إبراهيم المصعبي
كان يتولى
الشرطة من أيام المأمون إلى أيام المتوكل، فتوفي في هذه السنة، وسنه
ثمان وخمسون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوماً.
وبلغنا أنه دخل يوماً على المتوكل وعنده الفتح بن خاقان، وهما ينظران
في أخلاط الكيمياء ويتراجعان القول فيه، فلم يخض معهما في ذلك، فقال له
المتوكل: يا أبا إسحاق ما لك لا تتكلم معنا في هذا الباب؟ فقال: يا
أمير المؤمنين الكيمياء شيء لم يتعرض إليه الملوك قبلك، ولا نظر فيه
آباؤك، ولكن أدلك على كيمياء هو الحق الصحيح، قال: ما هو؟ قال: تسلفني
خمسين ألف دينار من بيت المال أنفقها على مصالح السواد، ثم تنظر ما
يرتفع لك من الزيادة في العمارة، قال: فأمر أن يحمل له من بيت المال
خمسون ألف دينار، فحملت، فانصرف إسحاق إلى مدينة السلام، وكتب في إشخاص
وجوه أهل السواد. فحضروا، فقلدهم النفقة على كري الأنهار وحلف إن ضاع
من المال درهم قبض الذي يجري التضييع في ناحيته، ثم أحلفهم على استعمال
العدل، وزاد في الحماية وفي المعونة، وأنفق على المصالح من الجملة تسعة
عشر ألف دينار، فلما كان آخر السنة عمل الحساب، فحصل من السواد
ثلاثمائة ألف كر، وأربعة آلاف كر، واثنا عشر ألف ألف درهم، فنظروا،
وإذا به قد رد كل دينار اثنين وثلاثين ديناراً، فحمل ذلك، ورد باقي
الخمسين ألف، وكتب بذلك إلى المتوكل، وقال: هذا الكيمياء الذي يجب على
الخلفاء النظر فيه.
إسحاق بن إبراهيم بن ميمون أبو محمد التميمي المعروف ولده بالموصلي.
قيل إنه ولد سنة خمسين ومائة، وكتب الحديث عن سفيان بن عيينة، وهشيم،
وأبي معاوية الضرير، وغيرهم.
وأخذ الأدب عن الأصمعي، وأبي عبيدة، وبرع في علم الغناء، فغلب عليه،
ونسب إليه، وكان مليح الحاضرة، حلو النادرة، جيد الشعر، مذكوراً
بالسخاء، معظماً عند الخلفاء.
صنف كتاب الأغاني فرواه عنه ابنه حماد، ورواه عنه الزبير بن بكار، وأبو
العيناء وغيرهم.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرني أحمد بن محمد بن يعقوب الكاتب قال: حدثني جدي محمد بن عبيد الله
بن قفرجل قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا أبو العيناء قال: حدثنا
إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: جئت أبا معاوية الضرير ومعي مائة حديث
أريد أن أقرأها عليه، فوجدت في دهليزه رجلاً ضريراً، فقال لي: إنه قد
جعل الإذن لي عليه اليوم إلي لينفعني، وأنت رجل جليل، فقلت له: معي
مائة حديث، وأنا أهب لك عنها مائة درهم. فقال: قد رضيت، ودخل فاستأذن
لي فدخلت، وقرأت المائة، فقال لي أبو معاوية: الذي ضمنته لهذا يأخذه من
أذناب الناس، وأنت من رؤسائهم، وهو ضعيف معتل، وأنا أحب منفعته.
قلت له: قد جعلتها مائة دينار. فقال: أحسن الله جزاءك، فدفعتها إليه
فأغنيته.
توفي إسحاق ببغداد في هذه السنة، وكان يسأل الله تعالى أن لا يبتليه
بالقولنج لما رأى من صعوبته على أبيه، لأن أباه مات به، فأري في منامه
قد أجيبت دعوتك، ولست تموت بالقولنج، بل بضده، فأخذه ذرب في رمضان هذه
السنة فتوفي.
إيتاخ الأمير. وقد سبق ذكر هلاكه.
سليمان بن أيوب صاحب البصري. حدث عن حماد بن زيد. روى عن البغوي. قال
يحيى: صدوق ثقة حافظ. توفي في هذه السنة.
سريج بن يونس بن إبراهيم، أبو الحارث المروزي. حدث عن سفيان بن عيينة،
وهشيم، وابن علية وغيرهم.
روى عنه: مسلم بن الحجاج، والبغوي، وأبو زرعة وغيرهم. وكان ثقة صالحاً
له كرامات، وكان قد جعل على نفسه أن لا يشبع، ولا يغضب، ولا يسأل أحداً
حاجة.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو
بكر محمد بن عبد الله الهيتي قال: أخبرنا أبو سعيد الحسين بن عبد الله
بن روح قال: حدثني هارون بن رضا قال: سمعت أحمد بن محمد بن عبد العزيز
بن الجعد يقول: حدثني بقال سريج بن يونس، قال: جاءني سريج ليلاً وقد
ولد له ولد، فأعطاني ثلاثة دراهم، فقال: أعطني بدرهم عسلاً، وبدرهم
سمناً، وبدرهم سويقاً، ولم يكن عندي وكنت قد عزلت الظروف لأبكر فأشتري،
فقال لي: أنظر قليلاً إيش ما كان أمسح البراني، فوجدت البراني والجرار
ملأى، فأعطيته شيئاً كثيراً. فقال لي: ما هذا؟ أليس قلت ما عندي شيء؟
فقلت: خذ واسكت. فقال: ما آخذ أو تصدقني، فخبرته بالقصة، فقال: لا تحدث
به أحداً ما دمت حياً.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا علي
بن محمد بن عبد الله المعدل، حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق قال: حدثنا
إسحاق بن إبراهيم الختلي. قال: سمعت سريج بن يونس يقول: رأيت فيما يرى
النائم أن الناس وقوف بين يدي الله تعالى، وأنا في أول صف، ونحن ننظر
إلى رب العزة تعالى، فقال: أي شيء تريدون أن أصنع بكم؟ فسكت الناس،
فقلت أنا في نفسي: ويحهم قد أعطاهم كل ذا من نفسه وهم سكوت. فقنعت رأسي
بملحفتي، وأبرزت عيناً وجعلت أمشي، وجزت الصف الأول بخطى، فقال لي: أي
شيء تريد؟.
فقلت: رحمة سر بسر، إن أردت أن تعذبنا فلم خلقتنا؟ قال: قد خلقتكم ولا
أعذبكم أبداً، ثم غاب في السماء.
وروى محمد بن أحمد بن سفيان الترمذي قال: سمعت سريج بن يونس يقول: مكثت
أياماً لم آكل أنا ولا صبياني شيئاً، وكنت يوماً قاعداً في الدهليز
فخرج الصبيان يشكون إلي، فمر جار لي، فسمع كلامهم فرمي إلي كيس. فقلت:
يا فلان، متى جرت عادتك بذا، خذ كيسك عافاك الله! ! فقال الصبيان: هو
ذا، كبة غزل فبعها حتى تأكل بها خبزاً. فخرجت فبعتها واشتريت لهم
خبزاً، وعلمت أنه لا يكفيهم، فلم آكل معهم، ثم وضعت رأسي فنمت، فجاء
ملك فقال لي: قم فكأني قد جاءني بصحفة من ذهب فيها خبز لم أر مثله في
الدنيا وشهد وزبد، فقال لي: كل، فأكلت ومكثت أياماً لا أشتهي الطعام.
توفي سريج في ربيع الأول من هذه السنة.
شجاع بن مخلد، أبو الفضل البغوي. ولد سنة خمسين ومائة، وحدث عن هشيم،
وابن علية، وابن عيينة.
وروى عنه أبو القاسم البغوي وغيره، وكان صدوقاً. توفي في هذه السنة،
ودفن في مقابر باب التين.
عبد الله محمد بن إبراهيم أبو بكر العبسي، المعروف بابن أبي شيبة. ولد
سنة تسع وخمسين ومائة، وسمع شريك بن عبد الله، وسفيان بن عيينة،
وهشيماً، وعبد الله بن المبارك وغيرهم.
روى عنه: أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، وعباس الدوري، والبغوي وغيرهم.
وكان حافظاً متقناً صدوقاً مكثراً، صنف المسند والتفسير وغير ذلك.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز أخبرنا أحمد بن علي الخطيب، أخبرني
أبو الحسن محمد بن عبد الواحد قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن محمد
الشيباني قال: حدثنا الحسن بن محمد بن شعبة قال: حدثني محمد بن إبراهيم
مربع قال: قدم علينا أبو بكر بن أبي شيبة فانقلبت به بغداد، ونصب له
المنبر في مسجد الرصافة، فجلس عليه فقال من حفظه: حدثنا شريك ثم قال:
هي بغداد، وأخاف أن تزل قدم بعد ثبوتها، يا أبا شيبة هات الكتاب.
قال أحمد: أبو شيبة ابنه واسمه إبراهيم.
أخبرنا القزاز عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب
أخبرنا أبو سعيد الماليني أخبرنا عبد الله بن عدي الحافظ قال: حدثنا
أحمد بن محمد بن سعيد قال: حدثنا عبد الله بن أسامة الكلبي قال: أخبرنا
عبد الله بن أبي زياد، عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال: انتهى الحديث
إلى أربعة: أبي بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي
بن المديني، فأبو بكر أسردهم للحديث، وأحمد أفقههم فيه، ويحيى أجمعهم
له، وعلي بن المديني أعلمهم به.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب أخبرنا ابن
رزق قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق بن وهب، أخبرنا أبو غالب علي بن
أحمد بن النضر قال: قال علي بن المديني: قدم علينا أبو بكر بن بي شيبة
ويحيى وعبد الرحمن باقيين، فأراد الخائب - يعني سليمان الشاذكوني - أن
يذاكره، فاجتمع الناس في المسجد الجامع عند الأسطوانة وأبو بكر وأخوه،
ومشكدانة، وعبد الله بن البراء وغيرهم وكلهم سكوت إلا أبو بكر فإنه
يهدر.
قال ابن عدي: والأسطوانة هي التي يجلس إليها ابن سعيد.
قال ابن سعيد: هي أسطوانة عبد الله بن مسعود، وجلس إليها بعده علقمة،
وبعده إبراهيم، وبعده منصور، وبعده الثوري، وبعده وكيع، وبعده أبو بكر
بن أبي شيبة، وبعده مطين، وبعده ابن سعيد.
توفي أبو بكر في محرم هذه السنة.
عبيد الله بن عمر بن ميسرة أبو سعيد الجشمي مولاهم، المعروف بالقواريري
بصري سكن بغداد، وحدث بها عن حماد بن زيد، وأبي عوانة، وسفيان، وهشيم،
وغيرهم.
روى عنه: أحمد، ويحيى، وأبو داود السجستاني، وأبو زرعة، وأبو حاتم،
وإبراهيم الحربي، والبغوي، وكان ثقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي.
وأخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا نصر بن أحمد، قالا: أخبرنا محمد بن
رزق قال: سمعت أبا القاسم علي بن الحسن بن زكريا القطيعي يقول: سمعت
عبد الله بن محمد بن عبد العزيز يقول: سمعت عبيد الله بن عمر القواريري
يقول: لم تكن تكاد تفوتني صلاة العتمة في جماعة فنزل بي ضيف فشغلت به،
فخرجت أطلب الصلاة في قبائل البصرة، فإذا الناس قد صلوا.
فقلت في نفسي: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " صلاة
الجمع تفضل على صلاة الفذ إحدى وعشرين درجة " وروي خمساً وعشرين، وروي
سبعاً وعشرين. فانصرفت إلى منزلي فصليت العتمة سبعاً وعشرين مرة ثم
رقدت، فرأيتني مع قوم راكبي أفراس وأنا راكب فرساً كأفراسهم، ونحن
نتجارى وأفراسهم تسبق فرسي، فجعلت أضربه لألحقهم، فالتفت إلي أحدهم
فقال: لا تجهد نفسك، فلست تلاحقنا، قلت: ولم ذاك؟ قال: لأنا صلينا
العتمة في جماعة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا أبو الغنائم محمد بن الفراء البصري قال: أخبرنا أحمد بن الحسين
بن جعفر العطار قال: حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوراق قال: حدثنا عبد
الله بن جعفر بن الورد قال: حدثنا إسماعيل بن أبي اليمان الحارثي قال:
سمعت حفص بن عمرو الربالي يقول: رأيت عبيد الله بن عمر القواريري في
منامي بعد موته، فقلت: ما صنع الله بك؟ قال: غفر لي وعاتبني، وقال: يا
عبيد الله، أخذت من هؤلاء القوم؟ قلت: يا رب أنت أحوجتني إليهم، ولو لم
تحوجني لم آخذ، قال: إذا قدموا علينا كافأناهم عنك، ثم قال لي: أما
ترضى أن أكتبك في أم الكتاب سعيداً! توفي القواريري في ذي الحجة من هذه
السنة.
عبد الصمد بن يزيد، أبو عبد الله الصائغ، ويعرف بمردويه. سمع الفضيل بن
عياض، وسفيان بن عيينة، ووكيعاً، وكان ثقة من أهل السنة والورع، وتوفي
في ذي الحجة من هذه السنة.
محمد بن حاتم بن ميمون أبو عبد الله، ويعرف بالسمين روى عن سفيان بن
عيينة، وابن مهدي، ووكيع وغيرهم، واختلفوا في تعديله.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز أخبرنا أبو بكر أحمد بن
علي الحافظ قال: أخبرنا محمد بن الحسين القطان قال: أخبرنا عثمان بن
أحمد الدقاق قال: حدثنا سهل بن أحمد الواسطي، حدثنا أبو حفص عمرو بن
علي قال: محمد بن حاتم ليس بشيء.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: قرأت على أبي بكر
البرقاني، عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد المزكي قال: أخبرنا محمد بن
إسحاق الثقفي قال: سمعت أحمد بن محمد الجعفي يقول: سمعت يحيى بن معين
يقول: محمد بن حاتم كذاب.
وأخبرنا البرقاني قال: قال لنا الدارقطني: محمد بن حاتم السمين بغدادي
ثقة. وقال ابن قانع: محمد بن حاتم صالح.
توفي في ذي الحجة من هذه السنة.
محمد بن الهزيل بن عبد الله بن مكحول أبو الهذيل العلاف العبدي البصري،
مولى عبد القيس
وكان شيخ
المعتزلة ومصنف الكتب في مذاهبهم. ولد سنة خمس وثلاثين ومائة، وكان
يقول: علم الله هو الله، وقدرة الله هي الله، ونعيم الجنة يفنى، وأهل
الجنة تنقطع حركاتهم فيها حتى لا ينطقون بكلمة. وكان فاسقاً في باب
الدين.
وقد روى أحاديث عن سليمان بن قرم، وغياث بن إبراهيم، وهما كذابان مثله.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرني الصيمري قال: حدثنا محمد بن عمران المرزباني قال: حدثني أبو
الطيب إبراهيم بن محمد بن شهاب العطار قال: روى أبو يعقوب الشحام قال:
قال لي أبو الهذيل: أول ما تكلمت كان لي أقل من خمس عشرة سنة، وكنت
أختلف إلى عثمان الطويل صاحب واصل بن عطاء، فبلغني أن رجلاً يهودياً
قدم البصرة وقد قطع عامة متكلميهم، فقلت لعمي: يا عم، امض بي إلى هذا
اليهودي أكلمه، فقال لي: يا بني، هذا اليهودي قد غلب جماعة متكلمي أهل
البصرة، أفمن جدك أن تكلم من لا طاقة لك بكلامه. فقلت: لا بد من أن
تمضي بي إليه، وما عليك مني غلبني أو غلبته، فأخذ بيدي ودخلنا على
اليهودي، فوجدته يقرر الناس الذين يكلمونه بنبوة موسى، ثم يجحد نبوة
نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول: نحن على ما اتفقنا عليه من صحة نبوة
موسى إلى أن نتفق على نبوة غيره فنقر.
قال: فدخلت عليه، فقلت له: أسألك أو تسألني؟ فقال لي: يا بني أو ما ترى
ما أفعله بمشايخك؟ فقلت له: دع عنك هذا واختر، إما أن تسألني، أو
أسألك. فقال: بل اسأل.
أخبرني، أليس موسى نبي من أنبياء الله تعالى قد صحت نبوته، وثبت دليله،
تقر بهذا أو تجحده فتخالف صاحبك؟ فقلت له: إن الذي سألتني عنه من أمر
موسى عندي على أمرين، أحدهما: أني أقر بنبوة موسى الذي أخبر بصحة نبوة
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمر باتباعه، وبشر به وبنبوته، فإن كان
عن هذا تسألني فأنا مقر بنبوته، وإن كان موسى الذي سألتني عنه لا يقر
بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرنا باتباعه، ولا بشر به،
فلست أعرفه ولا أقر بنبوته، بل هو عندي شيطان مخزى.
فتحير لما ورد عليه ما قتله له وقال لي: فما تقول في التوراة؟ قلت: أمر
التوراة عندي أيضاً على وجهين، إن كانت التوراة التي أنزلت على موسى
النبي الذي أقر بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهي التوراة الحق،
وإن كانت أنزلت على الذي تدعيه فهي باطل غير حق، وأنا غير مصدق بها.
فقال لي: أحتاج أن أقول لك شيئاً بيني وبينك، فظننت أنه يقول شيئاً من
الخير، فتقدمت إليه، فسارني وقال: أمك كذا وكذا، وأم من علمك، لا يكني.
وقدر أني أثب به فيقول: قد وثبوا بي وشغبوا علي، فأقبلت على من كان في
المجلس فقلت: أليس قد عرفتم مسألته إياي، وجوابي له؟ فقالوا: نعم.
فقلت: أليس عليه أن يرد جوابي؟ قالوا: نعم. قلت: إنه لما سارني شتمني
الشتم الذي يوجب الحد، وشتم من علمني، وإنما قدر أني أقوم أثب عليه،
فيدعي أنا واثبناه وشغبنا عليه، وقد عرفتكم شأنه بعد انقطاعه. فأخذته
الأيدي والأكف بالنعال، فخرج هارباً من البصرة وقد كان له بها دين
كثير، فتركه وخرج لما لحقه من الانقطاع.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني
علي بن أيوب القمي قال: أخبرني محمد بن عمران الكاتب قال: أخبرني محمد
بن العباس قال: حدثنا محمد بن يزيد النحوي، عن الجاحظ، قال: لقي اللصوص
قوماً فيهم أبو الهذيل فصاحوا وقالوا: ذهبت ثيابنا. قال: ولم؟ كلوا
الحجة إلي، فوالله لا أخذوها أبداً، وظنوا أنهم خوارج يأخذون بمناظرة،
فقالوا: إنهم لصوص يأخذون الثياب بلا حجة، فقال: ذهبت الثياب والله.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرنا أبو منصور
أحمد بن عيسى بن عبد العزيز قال: أخبرنا محمد بن جعفر بن هارون
التميمي، قال: حدثنا أبو الحسن الواقصي قال: حدثنا أحمد بن يحيى المنجم
قال: أخبرني أبي قال: لقي أبا الهذيل مسقف، فقال له: انزع ثيابك وأخذ
بمجامع جيبه فقال أبو الهذيل: استحالت المسألة. قال: ولم؟ قال: تمسك
موضع النزع وتقول: انزع، أبن لي، أنزع القميص من ذيله أو من جيبه؟ فقال
له: أنت أبو الهذيل؟ قال: نعم! قال: فانصرف راشداً.
توفي أبو الهذيل في سنة خمس وثلاثين ومائتين وقد تم له مائة سنة.
ثم دخلت
سنة ست وثلاثين ومائتين
فمن
الحوادث فيها: أن علي بن يحيى الأرمني غزا الصائفة، فلاقى صاحب الروم
في ثلاثين ألفاً من الروم، وكان هو في نحو ثلاثة آلاف فارس، فهزم
الرومي، وقتل من الروم أكثر من عشرين ألفاً، ثم مضى إلى عمورية،
فافتتحها وغنم ما فيها، وأخرج منها أسارى من المسلمين، وكانوا خلقاً
كثيراً، وضرب كنائسها، وفتح أيضاً حصناً يقال له: الفطس، فأخرج منه
عشرين ألف رأس من السبي، وغنم غنيمة بلغت مائة ألف وعشرين ألف دينار.
ومن الحوادث: أن المتوكل أمر بهدم قبر الحسين بن علي عليهما السلام،
وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع
الناس من إتيانه، فنادى صاحب الشرطة في الناحية: من وجدناه عند قبره
بعد ثالثة بعثنا به إلى المطبق، فهرب، وامتنعوا من المصير إليه، وحرث
ذلك الموضع، وزرع ما حوله.
وقيل: كان ذلك في سنة ثمان وثلاثين.
وفيها: استكتب المتوكل عبيد الله بن يحيى بن خاقان.
وفيها: أخرج النصارى عن الدواوين ونهى أن يستعان بهم، وعزلهم عن
الولايات ونهى أن يستخدموا في شيء من أمور المسلمين.
وفيها: حج محمد المنتصر، وأقام للناس الحج، وحجت معه جدته شجاع أم
المتوكل، فشيعها إلى النجف.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن المنذر بن عبد الله أبو إسحاق الأدمي القرشي الحراني المدني
سمع مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة وخلقاً كثيراً.
روى عنه: البخاري، وابن أبي خيثمة، وثعلب، وكان ثقة.
وكان أحمد بن حنبل لا يكلمه لأجل كلام تكلم به في القرآن حين صدر من
الحج. توفي في هذه السنة بالمدينة.
إسماعيل بن إبراهيم بن بسام أبو إبراهيم الترجماني سمع إسماعيل بن
عياش، وبقية، وهشيم بن بشير، وغيرهم. سمع منه أحمد بن حنبل، وقال: ليس
به بأس.
توفي في محرم هذه السنة.
إسماعيل بن إبراهيم بن معمر بن الحسن، أبو معمر الهذلي. هروي الأصل،
أقام ببغداد، وسمع إبراهيم بن سعد، وإسماعيل بن عياش، وهشيم بن بشير،
وابن المبارك، وابن عيينة.روى عنه: البخاري، ومسلم، والدوري، والحربي،
وقال يحيى بن معين: هو ثقة مأمون.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال:
حدثني عبيد الله بن أبي الفتح قال: حدثنا عمر بن إبراهيم المقرئ قال:
سمعت أحمد بن علي الديباجي يقول: سمعت عبيد بن شريك يقول: كان أبو معمر
القطيعي من شدة إدلاله بالسنة يقول: لو تكلمت بغلتي لقالت إنها سنية!
قال: فأخذ في المحنة فأجاب، فلما خرج قال: كفرنا وخرجنا.
توفي أبو معمر في جمادى الأولى من هذه السنة.
جعفر بن حرب الهمداني. معتزلي بغدادي، درس الكلام بالبصرة على أبي
الهذيل العلاف، وكان لجعفر اختصاص بالواثق، وصنف كتباً معروفة عند
المتكلمين. توفي في هذه السنة.
الحسن بن سهل بن عبد الله، أبو أحمد. أخبرنا أبو منصور القزاز قال:
أخبرنا أحمد بن علي أبو بكر الخطيب قال: هو أخو ذي الرياستين الفضل بن
سهل. وكانا من أهل بيت الرياسة في المجوس، فأسلما وأبوهما أيام الرشيد،
واتصلوا بالبرامكة، وكان سهل مضموماً ليحيى بن خالد، وضم يحيى الحسن
والفضل ابني سهل إلى ابنيه: الفضل وجعفر يكونان معهما، فضم جعفر الفضل
بن سهل إلى المأمون، وهو ولي عهد، فغلب عليه ولم يزل معه إلى أن قتل
الفضل بخراسان، فكتب المأمون إلى الحسن بن سهل وهو ببغداد يعزيه بأخيه،
ويعلمه أنه قد استوزره، فلم يكن أحد من بني هاشم ولا من سائر القواد
يخالف للحسن بن سهل أمراً، ولا يخرج له عن طاعة، إلى أن بايع المأمون
لعلي بن موسى الرضا بالعهد، فغضب بنو العباس وخلعوا المأمون وبايعوا
إبراهيم بن المهدي، فلما جاء المأمون إلى بغداد زاد في إكرام الحسن
وتزوج بابنته بوران.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرنا
أحمد بن أبي جعفر القطيعي قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن محمد بن
همام الشيباني حدثنا أبو مزاحم موسى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان
قال: حدثني أبي، عن أبيه، قال: حضرت الحسن بن سهل وقد جاءه رجل يستشفع
به في حاجة فقضاها، فأقبل الرجل يشكره، فقال له الحسن: علام تشكرنا
ونحن نرى أن للجاه زكاة، كما أن للمال زكاة؟ ثم أنشأ الحسن يقول:
فرضت علي
زكاة ما ملكت يدي ... وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
فإذا ملكت فجد وإن لم تستطع ... فاجهد بوسعك كله أن تنفعا
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا الخطيب قال: أخبرني الأزهري قال: أخبرنا
أحمد بن إبراهيم بن الحسن قال: حدثنا إبراهيم بن عرفة قال: حدثني بعض
ولد الحسن بن سهل أنه رأى سقاء يمر في داره، فقال له: ما حالك؟ فشكى
إليه ضيقه، وذكر أن له بنتاً يريد زفافها، فأخذ ليوقع له بألف درهم،
فأخطأ فوقع له بألف ألف درهم، فأتى بها السقاء وكيله فأنكر ذلك، وتعجب
أهله منه وهابوا أن يراجعوه، فأتوا غسان بن عباد، وكان من الكرماء،
فأخبروه، فأتاه فقال له: أيها الأمير، إن الله لا يحب المسرفين، فقال
له الحسن: ليس في الخير إسراف، ثم ذكر له السقاء فقال: والله لا رجعت
عن شيء خطته يدي، فصولح السقاء على جملة منها ودفعت إليه.
توفي الحسن بن سهل يوم الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة من هذه
السنة، وكان سبب وفاته أنه شرب من صبيحة هذا اليوم دواء فأفرط عمله
فمات وقت الظهر وله سبعون سنة.
الحسن بن عليل بن الحسين بن علي بن حبيش أبو علي العنزي حدث عن أبي نصر
التمار، ويحيى بن معين، وهدبة، وأبي خيثمة، وكان صدوقاً صاحب أدب
وأخبار، واسم أبيه علي، ولقبه: عليل، وهو الغالب عليه. أخبرنا أبو
منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن بن
الحسين النعالي قال: أخبرنا أحمد بن نصر الذراع قال: أنشدنا الحسن بن
عليل وذكر أنها له:
كل المحبين قد ذموا السهاد وقد ... قالوا بأجمعهم طوبى لمن رقدا
فقلت يا رب لا أبغي الرقاد ولا ... ألهوه بشيء سوى ذكري له أبدا
إن نمت نام فؤادي عن تذكره ... وإن سهرت شكر قلبي الذي وجدا
توفي الحسن في هذه السنة بسامراء.
عبد الله بن محمد، أبو محمد اليمامي، ويعرف بابن الرومي. سكن بغداد،
وحدث بها عن: الدراوردي، وعبد الرزاق، وأبي معاوية.
روى عنه: أبو حاتم الرازي، وقال: هو صدوق. توفي في جمادى الآخرة من هذه
السنة.
عبد الله بن محمد بن هانئ، أبو عبد الرحمن النيسابوري. سمع غندراً،
ويحيى بن سعيد القطان، وأخذ عن الأخفش وروى عنه: ابن أبي الدنيا، وكان
ثقة.
توفي في هذه السنة في جمادى الآخرة.
عبد السلام بن صالح بن سليمان بن أيوب، أبو الصلت الهروي. رحل في
الحديث إلى الكوفة، والبصرة، والخجاز، واليمن. وسمع حماد بن زيد، ومالك
بن أنس، وأبا معاوية، وسفيان بن عيينة. وقدم بغداد فحدث بها عن من سمع.
فروى عنه عباس الدوري.
وكان لما قدم مرو يريد التوجه إلى الغزو أدخل على المأمون، فلما سمع
كلامه جعله من الخاصة، فلم يزل مكرماً عنده إلى أن أراد أن يظهر كلام
جهم، ويقول: القرآن مخلوق، وجمع بينه وبين بشر المريسي، وكان عبد
السلام يرد على أهل الأهواء، وكلم بشر المريسي غير مرة بين يدي
المأمون، فكان الظفر له، وكان ينسب إلى التشيع، إلا أنه كان يقدم أبا
بكر، وعمر، ويترحم على عثمان، وعلي، ولا يذكر الصحابة إلا بالجميل.
وقد أنكروا عليه أحاديث، وضعفوه.
منها: حديث الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " أنا مدينة العلم وعلي بابها " .
وسئل عنه يحيى بن معين فقال: ما سمعت به قط، وما بلغني إلا عنه.
واتهموه بوضع حديث جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: " الإيمان إقرار بالقول وعمل بالجوارح " .
توفي في شوال هذه السنة.
محمد بن إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن، ويعرف بالمسيبي كان أبوه أحد
القراء بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. قرأ على نافع، فأما محمد
فإنه سكن بغداد وحدث بها عن أبيه وغيره، وهو ثقة.
وروى عنه: مسلم بن الحجاج وغيره. وكان مصعب الزبيري يقول: لا أعلم في
قريش كلها أفضل من المسيبي.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الحافظ قال: أخبرنا
أحمد بن جعفر القطيعي قال: أخبرنا محمد بن المظفر قال: قال البغوي: مات
المسيبي ليومين بقيا من ربيع الأول سنة ست وثلاثين ومائتين.
محمد بن إسحاق السلمي غريب مجهول، حدث عن ابن المبارك حديثاً منكراً.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا علي
بن أبي علي المعدل قال: حدثنا عبيد الله بن محمد الحوشي قال: حدثنا
محمد بن يعقوب بن إسماعيل السكري قال: حدثنا سهل بن بحر قال: حدثنا
محمد بن إسحاق السلمي قال: حدثنا ابن المبارك، عن سفيان الثوري، عن أبي
الزناد، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " خيار أمتي علماؤها، وخيار علمائها رحماؤها ألا وإن الله يغفر
للجاهل أربعين ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنباً واحداً، ألا وإن العالم
الرحيم يجيء يوم القيامة وأن نوره قد أضاء يمشي فيه ما بين المشرق
والمغرب كما يسري الكوكب الدري " .
محمد بن إسحاق بن يزيد، أبو عبد الله، يعرف بالصيني. حدث عن عبد الله
بن داود الحربي، وروح بن عبادة وغيرهما.
روى عنه: أبو بكر بن أبي الدنيا وغيره.
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: كتبت عنه بمكة وسألت عنه أبا عون، فقال:
هو كذاب فتركت حديثه.
محمد بن أحمد بن أبي خلف، مولى بني سليم واسم أبي خلف: محمد، يكنى أبا
عبد الله. سمع سفيان بن عيينة وغيره. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت
عنه أبي فقال: ثقة صدوق.
محمد بن بشر بن مروان بن عطاف أبو جعفر الكندي الواعظ يعرف بالدعاء حدث
عن إسماعيل بن علية، وسفيان بن عيينة، وابن المبارك وغيرهم.
روى عنه ابن أبي الدنيا وغيره. واختلفوا فيه.
فأخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا البرقاني قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد المزكي قال: أخبرنا أبو
العباس محمد بن إسحاق الثقفي قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: محمد بن
بشر صدوق.
وأخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا
الجوهري قال: أخبرنا محمد بن العباس الخراز الكوكبي قال: حدثنا إبراهيم
بن عبد الله بن الجنيد قال: سمعت يحيى بن معين يقول: محمد بن بشر
القاضي ليس بثقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد
بن إسماعيل بن عمر البجلي قال: قال لنا أبو الحسن الدارقطني: محمد بن
بشر الكندي الدعاء ليس بالقوي في حديثه.
توفي في بغداد يوم الثلاثاء لثلاث مضين من جمادى الآخرة من هذه السنة.
منصور ابن أمير المؤمنين المهدي. قال المصنف: قد ذكرنا أنه عسكر
بكلواذى سنة إحدى ومائتين، وسمي المرتضى، ودعي له على المنابر، وسلم
عليه بالخلافة، فأبى ذلك وقال: أنا خليفة أمير المؤمنين المأمون حتى
يقدم.
وقد تولى أعمالاً كثيرة منها مصر، والبصرة، وكان يحب العلم ويقرب أهل
الحديث، ويبر أهله ويبعث إلى يزيد بن هارون أموالاً كثيرة يفرقها على
المحدثين.
وتوفي في هذه السنة.
مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، أبو عبد الله
الزبيري عم الزبير بن بكار. حدث عن مالك بن أنس، والدراوردي، وإبراهيم
بن سعد وغيرهم.
كتب عنه يحيى بن معين، وأبو خيثمة وإبراهيم الحربي، والبغوي، وكان ثقة
وكان عالماً بالنسب، عارفاً لأيام العرب، وتوفي ببغداد في شوال هذه
السنة، وهو ابن ثمانين سنة.
نصر بن زياد بن نهيك، أبو محمد النيسابوري القاضي. سمع ابن المبارك،
وجرير بن عبد الحميد، وخارجة بن مصعب وغيرهم.
وتفقه على محمد بن الحسن، وأخذ الأدب عن النضر بن شميل، وولي قضاء
نيسابور بضع عشرة سنة، ولم يزل محموداً عند السلطان والرعية، وكانت كتب
المأمون إليه متواترة.
أخبرنا زاهر بن طاهر، أخبرنا أبو عثمان الصابوني وأبو بكر البيهقي
قالا: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم قال: سمعت أبا
زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن محمد
البالوي يقول: كان نصر بن زياد القاضي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر،
ويقول: لولا هذا لم أتلبس لهم بعمل لكني إذا لم ألي القضاء لم أقدر
عليه، وكان يحيي الليل، ويصوم الاثنين، والخميس، والجمعة، ولا يرضة من
العمال حتى يؤدوا حقوق الناس إليهم، فدخل عليه أحمد بن حرب يوماً
فوعظه، وأشار في موعظته بأن يستعفي مما هو فيه، فقال: يا أبا عبد الله،
ما يحملني على ما أنا فيه إلا نصرة الملهوفين، والقدرة على الانتصار
للمظلومين من الظالمين، ولعل الله عز وجل قد عرف لي ذلك.
قال
الحاكم: وحدثني محمد بن حامد قال: حدثنا الحسن بن منصور قال: حدثنا
محمد بن عبد الوهاب قال: قال لي نصر بن زياد القاضي: يا أبا أحمد،
أعلمت أن أبا بكر الصديق سم على العدل، وأن عمر بن الخطاب قتل على
العدل، وأن عثمان بن عفان قتل على العدل، وأن علي بن أبي طالب قتل على
العدل، وأن عمر بن عبد العزيز سم على العدل، يأبى الناس أن يحتملوا
العدل.
قال الحاكم: وسمعت أبا حامد أحمد بن محمد المقرئ الواعظ يقول: سمعت غير
واحد من مشايخنا يذكر أن رجلاً ورد هراة فرفع قصة إلى عبد الله بن
طاهر، فلما قدم بين يديه قال: من خصمك؟ قال: الأمير أيده الله، قال: ما
الذي تدعي علي؟ قال: ضيعة لي بهراة غصبنيها واله الأمير وهي اليوم في
يده. قال: ألك بينة؟ قال: إنما تقام البينة بعد الحكومة إلى القاضي،
فإن رأى الأمير أن يحملني وإياه على حكم الإسلام. قال: فدعى عبد الله
بن طاهر بالقاضي نصر بن زياد، ثم قال للرجل: ادعي. قال: فادعى الرجل
مرة بعد مرة، فلم يلتفت إليه نصر بن زياد، ولم يسمع دعواه، فعلم الأمير
أنه قد امتنع من سماع الدعوى قال: حتى يجلس الخصم والمدعي، فقام عبد
الله بن طاهر من مجلسه، حتى بلغ مع خصمه بين يديه، فقال نصر للمدعي:
ادعي، فقال:أيد الله القاضي إن ضيعة لي بهراة، وذكرها بحدودها وحقوقها،
هي لي في يد الأمير، فقال له الأمير عبد الله بن طاهر: أيها الرجل، قد
غيرت الدعوى، إنما ادعيت أولاً على أبي، فقال له الرجل: لم أشته أن
أفضح والد الأمير في مجلس الحكم، وأقول والد الأمير غصبني عليها، وأنها
اليوم في يد الأمير، فسأل نصر بن زياد عبد الله بن طاهر عن دعواه،
فأنكر، فالتفت إلى الرجل وقال: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فما الذي
تريده؟ قال: يمين الأمير بالله الذي لا إله إلا هو. قال: فقام الأمير
إلى مكانه وأمر الكاتب ليكتب إلى هراة برد الضيعة عليه.
توفي نصر الدين بن زياد لسبع بقين من صفر هذه السنة، وهو ابن ستة
وتسعين سنة.
أبو عبيدة بن الفضيل بن عياض. كوفي سكن مكة، وقدم إلى مصر في وكالة
توكل بها، فحدث بمصر، وكتب عنه ورجع إلى مكة، فتوفي بها في صفر هذه
السنة.
ثم دخلت
سنة سبع وثلاثين ومائتين
فمن الحوادث فيها: غزاة علي بن يحيى الأرمني الصائفة.
وفيها: وثب أهل أرمينية بيوسف بن محمد وهو عامل أرمينية، وكان قد خرج
بطريق فطلب الأمان، فأخذه يوسف، فقيده، وبعث به إلى المتوكل فأسلم،
فاجتمع بطارقة أرمينية، فقاتلوا يوسف، فقتلوه، فوجه المتوكل إليهم من
قتل منهم ثلاثين ألفاً.
وفيها: عزل المتوكل محمد بن أحمد بن أبي دؤاد عن المظالم لعشر بقين من
صفر وولاها محمد بن يعقوب، وغضب على أحمد بن أبي دؤاد لخمس بقين من صفر
وأمر المتوكل بقبض متاعه وحبس ابنه أبي الوليد محمد بن أحمد بن أبي
دؤاد في ديوان الخراج يوم السبت لثلاث خلون من ربيع الآخر، وحبس أخوته
عبيد الله بن السري خليفة صاحب الشرطة، فلما كان يوم الاثنين حمل أبو
الوليد مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار وجوهراً قيمته عشرين ألف
دينار، ثم صولح بعد ذلك على ستة عشر ألف ألف درهم، وأشهد عليهم جميعاً
ببيع كل ضيعة لهم، وكان أحمد قد فلج، فلما كان يوم الأربعاء لسبع خلون
من شعبان أمر المتوكل بولد أحمد بن أبي دؤاد، فحدروا إلى بغداد.
وفي هذه السنة: رضي عن يحيى بن أكثم، وكان ببغداد فحدر إلى سامراء،
فولي القضاء على القضاة، ثم ولي المظالم فولى حيان بن بشر قضاء
الشرقية، وولى سوار بن عبد الله العنبري قضاء الجانب الغربي، وكلاهما
أعور، فقال الجماز:
رأيت من الكبائر قاضيين ... هما أحدوثة في الخافقين
هما اقتسما العمى نصفين عدلاً ... كما اقتسما قضاء الجانبين
هما فأل الزمان بهلك يحيى ... إذ افتتح القضاء بأعورين
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا علي بن الحسين قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر قال: أخبرني
محمد بن جرير الطبري إجازة: أن المتوكل أشخص يحيى بن أكثم من بغداد إلى
سامراء بعد القبض على ابن أبي دؤاد، فولاه قضاء القضاة في سنة سبع
وثلاثين، فعزل عبد السلام يعني الوابصي وولى مكانه سوار بن عبد الله
العنبري على الجانب الشرقي، وقلد حيان بن بشر الأسدي الشرقية، وخلع
عليهما في يوم واحد، وكانا أعورين، فأنشدني عبد الله بن محمد الكاتب
لدعبل:
رأيت من الكبائر قاضيين ... هما أحدوثة في الخافقين
هما اقتسما العمى نصفين فذاً ... كما اقتسما قضاء الجانبين
وتحسب منهما من هز رأساً ... لينظر في مواريث ودين
كأنك قد جعلت عليه دنا ... فتحت بذاله من فرد عين
هما فأل الزمان بهلك يحيى ... إذ افتتح القضاء بأعورين
قال طلحة: وذكر ابن جرير الأبيات ولم يذكر البيت الثالث ولا الرابع،
والشعر للجماز، والذي أنشدني قال: هو لدعبل.
وفي يوم عيد الفطر من هذه السنة: أمر المتوكل بإنزال جثة أحمد بن نصر
الخزاعي، ودفعه إلى أوليائه، فحمله ابن أخيه موسى إلى بغداد، فغسل
ودفن، وضم رأسه إلى جسده فاجتمع العوام يتمسحون بجنازته وبخشبة رأسه،
فكتب صاحب البريد بذلك، فنهى المتوكل عن اجتماع العامة.
وفي هذه السنة: قرئ كتاب المتوكل بتخلية كل من كان حبسه الواثق في خلق
القرآن في الأمصار والكور.
وفيها: طلع شيء مستطيل من ناحية المغرب دقيق الطرفين، عريض الوسط، من
بعد وقت المغرب إلى وقت العشاء، ليس بكوكب الذنب، ولا بضوء كوكب أبيض،
فلم يزل يطلع في ذلك الوقت خمس ليال.
وفيها: ظهرت نار في بعض كور عسقلان تحرق المنازل والمساجد والبيادر،
فهرب الناس، فلم تزل تحرق حتى مضى ثلث الليل ثم كفت.
وفيها: سقط بالبصرة برد كبار، فكسر ثمانية آلاف نخلة.
وفيها: كمل بناء جامع بسامراء، كان وقد ابتدئ في بنائه في سنة أربع
وثلاثين، وفرغ منه وصلى فيه المتوكل في رمضان سنة سبع وثلاثين وبلغت
النفقة عليه ثلاثمائة ألف وثمانية آلاف ومائتين واثني عشر ديناراً وربع
وسدس دينار، واستعمل فيه آجر النجف وأنقاضه من السقوف والأبواب وغيرها،
ونقوض حملت من بغداد، وإنما هذه النفقة على البنائين والنجارين
والصناع، وما شاكل ذلك، وحملت القصعة والحجارة التي في الفوارة من باب
الحرة في الهاروني على عجل، ومر بها الفيلة الثلاثة التي كانت للمتوكل،
وأنفق مع ذلك في حمولتها إلى أن دخلت المسجد ألف وخمسمائة دينار، ولولا
الفيلة لأنفق عليها ضعف ذلك، واستعمل الطوابيق الزجاج التي في
المقصورة، وهي ألفان وأربعمائة طابق بألفين وأربعمائة دينار، وأنفق
المتوكل على الأطواق الستة التي جعلت زيجات لها ألفين وأربعمائة دينار.
وأنفق المتوكل على القصر المعروف بالعروس ثلاثين ألف درهم.
وأنفق على مواضع سوى النفقة على المدينة المعروفة بالمتوكلية مائة ألف
ألف واثنين وثمانين ألف ألف درهم.
وحج بالناس في هذه السنة عيسى بن جعفر بن المنصور، وهو والي مكة يومئذ.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
حاتم الأصم وهو: حاتم بن عنوان. وقيل: حاتم بن يوسف، أبو عبد الرحمن
البلخي.
وهو مولى المثنى بن يحيى المحاربي. أسند الحديث عن شقيق بن إبراهيم،
وشداد بن حكيم، وعبد الله بن المقدام، ورجاء بن محمد الصاغاني.
روى عنه: حمدان بن ذي النون، ومحمد بن فارس البلخيان، ومحمد بن مكرم
الصفار.
فأما تسمية الأصم: فأخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي
بن ثابت الخطيب قال: أخبرنا عبد الكريم بن هوازن القشيري قال: سمعت أبا
علي الحسن بن علي الدقاق يقول: جاءت امرأة فسألت حاتماً عن مسألة،
فاتفق أن خرج منها ريح لها صوت فخجلت، فقال لها حاتم: ارفعي من صوتك،
فأرى من نفسه أنه أصم، فسرت المرأة بذلك وقالت: إنه لم يسمع الصوت،
فغلب عليه الأصم.
أخبرنا
القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرنا عبد العزيز بن علي
الوراق قال: حدثنا علي بن عبد الله الهمذاني قال: حدثنا إبراهيم بن أبي
حصين قال: حدثنا عبد الله بن غنام قال: حدثنا الحسن بن محمد بن جعفر
الحلواني قال: حدثني أبو عبد الله الخواص - وكان من علية أصحاب حاتم -
قال: لما دخل حاتم بغداد اجتمع إليه أهلها فقالوا له: أنت رجل أعجمي،
ليس يكلمك أحد إلا قطعته لأي معنى؟ قال حاتم: معي ثلاث خصال، أظهر بها
على خصمي، قالوا: ما هي؟ قال: أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ،
وأحفظ نفسي لأتجاهل عليه، فبلغ ذلك أحمد بن حنبل فقال: سبحان الله ما
كان أعقله من رجل.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن ثابت قال: أخبرنا عبد العزيز بن علي
الوراق قال: حدثنا علي بن عبد الله الهمذاني قال: حدثنا محمد بن عبيد
الله بن حفص، عن علي بن الموفق قال: سمعت حاتماً الأصم يقول: لقينا
الترك، وكان بيننا جولة، فرماني تركي بوهق فقلبني عن فرسي، ونزل عن
دابته فقعد على صدري، وأخذ بلحيتي هذه الوافرة، وأخرج من خفه سكيناً
ليذبحني به، فوحق سيدي ما كان قلبي عنده ولا عند سكينه، إنما كان قلبي
عند سيدي، أنظر ماذا ينزل به القضاء منه! فقلت: يا سيدي، إن قضيت على
أن يذبحني هذا فعلى الرأس والعين، إنما أنا لك وملكك، فبينا أنا أخاطب
سيدي وهو قاعد على صدري آخذ بلحيتي ليذبحني، إذ رماه بعض المسلمين بسهم
فما أخطأ حلقه، فسقط عني، فقمت أنا إليه فأخذت السكين من يده فذبحته!
فما هو إلا أن تكون قلوبكم عند السيد حتى تروا من عجائب لطفه ما لم
تروا من الآباء والأمهات.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن ثابت الخطيب
قال: أخبرنا أبو محمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني قال: أخبرنا جعفر
بن محمد الخلدي قال: حدثنا أحمد لن محمد بن مسروق قال: حدثنا سعدون
الرازي قال: كنت مع حاتم وكان يتكلم، فقل كلامه فقيل له في ذلك، فقال:
قد كنت تتكلم فينتفع بك الناس؟ قال: إني لا أحب أن أتكلم بكلمة قبل أن
أستعد جوابها لله، فإذا قال الله تعالى لي يوم القيامة: لم قلت كذا؟
قلت: يا رب لكذا.
توفي حاتم الأصم على جبل واشجرد في هذه السنة.
حيان بن بشر بن المخارق الأسدي الأصبهاني. سمع هشيم بن بشير، وأبا يوسف
القاضي، وأبا معاوية وغيرهم.
روى عنه: أبو القاسم البغوي، وكان من أصحاب الرأي، قد ولي القضاء
بأصبهان في أيام المأمون، ثم عاد إلى بغداد، فأقام بها إلى أن ولاه
المتوكل قضاء الشرقية.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أبو أحمد
الحسن بن عبد الله العسكري قال: حدثني شيخ من شيوخ بغداد قال: كان حيان
بن بشر قد ولي قضاء بغداد، وقضاء أصبهان، وكان من جلة أصحاب الحديث،
فروى يوماً أن عرفجة قطع أنفه يوم الكلاب، وكان مستمليه رجلاً يقال له:
كجة، فقال: أيها القاضي، إنما هو يوم الكلاب، فأمر بحبسه، فدخل الناس
إليه، وقالوا: ما دهاك؟ فقال: قطع أنف عرفجة في الجاهلية، وامتحنت أنا
به في الإسلام.
توفي حيان في هذه السنة، وقيل: سنة ثمان.
عبد الله بن مطيع بن راشد البكري. سمع هشيماً، وابن المبارك.
روى عنه: البغوي، وكان ثقة. توفي في ذي الحجة من هذه السنة.
عبد الأعلى بن حماد أبو يحيى الباهلي، المعروف بالنرسي ونرس لقب لجده،
لقبته النبط، وكان اسمه نصراً فقالوا: نرس.
سكن عبد الأعلى بغداد، وحدث بها عن مالك، والحمادين.
روى عنه: البخاري، ومسلم في صحيحهما.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرني الأزهري قال: حدثنا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقرئ ومحمد بن
عبد الله الشيباني قالا: حدثنا الحسن بن علي بن زكريا قال: حدثنا عبد
الأعلى بن حماد قال: قدمت على المتوكل بسامراء، فدخلت عليه يوماً فقال:
يا أبا يحيى، قد كنا هممنا لك بأمر، فتدافعت الأيام به، فقلت: يا أمير
المؤمنين، سمعت مسلم بن خالد الزنجي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: من
لم يشكر الهمة لم يشكر النعمة، فأنشدته:
لأشكرنك معروفاً هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف
ولا أذمك
إن لم يمضه قدر ... فالشيء بالقدر المحتوم معروف
فجذب الدواة فكتبها، ثم قال: ينجز لأبي يحيى ما كنا هممنا به وهو كذا
وكذا، ويضعف لخبره هذا.
توفي عبد الأعلى بالبصرة في هذه السنة.
معمر بن منصور، أبو مسلم الإفريقي الكندي. قاضي المغرب، وله كتب مصنفة
في الفقه.
توفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ثمان وثلاثين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن الروم جاءت في ثلاثمائة مركب، فأحرقوا من ديار
المسلمين، وسبوا نساء مسلمات، وانتهبوا متاعاً كثيراُ، وأحرقوا المسجد
الجامع بدمياط، وأحرقوا كنائس.
وفيها: غزا علي بن يحيى الأرمني الصائفة.
قال ابن حبيب: وفي صفر وجه طاهر بن عبد الله إلى المتوكل بحجر سقط
بناحية طبرستان وزنه ثمانمائة وأربعين درهماً أبيض فيه صدع، وذكروا أنه
سمع لسقوطه هذه أربع فراسخ في مثلها، وأنه ساخ في الأرض خمسة أذرع.
وحج بالناس في هذه السنة علي بن عيسى بن جعفر.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم أبو يعقوب الحنظلي، المعروف بابن
راهويه ولد سنة إحدى وستين ومائة، وقيل سنة ست وستين مائة. وولد مثقوب
الأذنين فقال له الفضل بن موسى الشيباني: يكون هذا رأساً في الخير أو
في الشر.وقال له عبد الله بن طاهر: لم قيل لك ابن راهويه؟ فقال: ولد
أبي في الطريق فقيل راهويه. رحل إسحاق في طلب العلم إلى العراق،
والحجاز، واليمن، والشام، وسمع من جرير بن عبد الحميد، وإسماعيل بن
علية، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وأبا معاوية، وعبد الرزاق،
والنضر بن شميل، وعيسى بن يونس، وأبا بكر بن عياش، وغيرهم. روى عنه:
البخاري، ومسلم، وخلق كثير. واجتمع له الحديث والفقه، والحفظ والصدق،
والورع والزهد. وكان أحمد بن حنبل يقول: لا أعلم لإسحاق بالعراق نظيراً
وقال مرة: لم نر مثله. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن
علي بن ثابت قال: أخبرنا ابن يعقوب قال: أخبرنا محمد بن نعيم قال:
أخبرنا محمد بن صالح بن هانئ قال: حدثنا أبو سعيد الحسن بن عبد الصمد
قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: أحفظ سبعين ألف حديث كأنها نصب عيني.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرنا
محمد بن علي بن مخلد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران قال: حدثنا
أحمد بن كامل قال: قال عبد الله بن طاهر لإسحاق بن راهويه: قيل لي إنك
تحفظ مائة ألف حديث؟ قال: مائة ألف حديث ما أدري ما هو، ولكني ما سمعت
شيئاً قط إلا حفظته، ولا حفظت شيئاً قط فنسيته.
توفي إسحاق بن راهويه ليلة الخميس للنصف من شعبان هذه السنة بنيسابور.
قال البخاري: توفي وهو ابن سبع وسبعين سنة.
بشر بن الوليد بن خالد، أبو الوليد الكندي. سمع مالك بن أنس، وصالحاً
المري، وشريك بن عبد الله، وأبا يوسف، ومنه أخذ الفقه.
روى عنه جماعة منهم: البغوي، وكان عالماً ديناً فقيهاً ثقة، جميل
المذهب، حسن الطريقة، وولي القضاء بعسكر المهدي من جانب بغداد الشرقي
لما عزل عنه محمد بن عبد الرحمن المخزومي، وذلك سنة ثمان ومائتين،
وأقام على ولايته سنتين، وعزل وولي قضاء مدينة المنصور في سنة عشر، فلم
يزل يتولاه إلى أن صرف عنه في سنة ثلاث عشرة ومائتين.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت
الحافظ قال: أخبرنا علي بن المحسن وقال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر
قال: لما عزل المأمون إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة استقضى على مدينة
المنصور بشر بن الوليد الكندي، وكان عالماً ديناً خشناً في باب الحكم،
واسع الفقه، وهو صاحب أبي يوسف وحمل الناس عنه من الفقه والمسائل ما لا
يمكن جمعها.
قال طلحة:
وحدثني عبد الباقي بن قانع عن بعض شيوخه: أن يحيى بن أكثم شكى بشر بن
الوليد إلى المأمون وقال: إنه لا ينفذ قضائي، وكان يحيى قد غلب على
المأمون حتى كان أكثر من ولده، فأقعده المأمون معه على سريره، ودعا بشر
بن الوليد فقال له: ما ليحيى يشكوك ويقول إنك لا تنفذ أحكامه؟ فقال: يا
أمير المؤمنين، سألت عنه بخراسان فلم يحمد في بلده، ولا في جواره، فصاح
به المأمون وقال: اخرج فخرج بشر فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، قد سمعت
فاصرفه، فقال: ويحك، هذا لم يراقبني، فكيف أصرفه؟ ولم يفعل.
قال المصنف: كان بشر مع ميله إلى أصحاب الرأي لا يعين على أحمد بن
حنبل، وسعى به رجل إلى المعتصم فقال: إنه لا يقول القرآن مخلوق، فحسبه
في بيته ونهاه أن يفتي، فلما ولي المتوكل أطلقه، وأمره أن يفتي ويحدث
وأشكل عليه أمر القرآن، فقال بالوقف، فذمه أصحاب الحديث وتركوه. وتغير
بالكبر حتى قالوا: قد خرف.
وتوفي في هذه السنة عن سبع وتسعين سنة، ودفن في مقبرة باب الشام.
الربيع بن ثعلب، أبو الفضل المروزي. ولد بمرو، وسكن بغداد، وحدث بها عن
الفرج بن فضالة.
روى عنه البغوي، وكان رجلاً صالحاً من خيار المسلمين، صدوقاً.
توفي في شوال هذه السنة ببغداد.
محمد بن بكار بن الريان أبو عبد الله الرصافي مولى بني هاشم. سمع الفرج
بن فضالة وخلقاً كثيراً.
روى عنه: الصاغاني، وأحمد بن أبي خيثمة، وإبراهيم بن هاشم البغوي
وغيرهم. ووثقه يحيى، والدارقطني، وقال صالح جزرة: هو صدوق يحدث عن
الضعفاء.
توفي في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وهو ابن ثلاث وتسعين
سنة.
محمد بن الحسين البرجلاني أبو جعفر ويعرف بابن أبي شيخ البرجلاني نسب
إلى محلة البرجلانية، وهو صاحب كتب الزهد والرقائق.
سمع الحسين بن علي الجعفي، وزيد بن الحباب، وخلقاً كثيراً.
روى عنه ابن أبي الدنيا فأكثر، وأبو العباس بن مسروق وغيرهما.
وسأل رجل أحمد بن حنبل عن شيء من حديث الزهد فقال: عليك بمحمد بن
الحسين البرجلاني.
وقال ابن أبي الدنيا: مات في هذه السنة.
محمد بن خالد بن يزيد بن غزوان، أبو عبد الله البراثي. كان من أهل
الدين والفضل، وكان ذا مال وثروة.
روى عن هشيم، وسفيان بن عيينة، وكان بشر بن الحارث يأنس إليه في أموره.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني أبو القاسم الأزهري
قال: حدثنا محمد بن العباس قال: حدثنا أبو محمد الزهري. قال: سمعت
إبراهيم الحربي يقول: ما لك؟ يقع على أحد شيء من السماء؟ ولكن كان لبشر
صديق. قال أبو محمد الزهري: كان أبو عبد الله البراثي صديقاً لبشر.
وكان يجهز إلى الثغر، وكان موسراً ذا مال، قال: فكان إبراهيم الحربي
يومئ إلى أن بشراً كان يأنس بأبي عبد الله البراثي ويقبل منه الصلة.
يحيى بن عمار، أبو زكريا الحر. سمع إسماعيل بن عياش، وبقية بن الوليد.
كتب عنه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وقال: هو ثقة.
توفي في هذه السنة.
أبو عبيدة البسري. وبسر قرية فوق دمشق.
أخبرنا أبو بكر العامري قال: أخبرنا أبو سعد بن أبي صادق قال: أخبرنا
ابن باكويه قال: حدثنا عبد الواحد بن بكر الورثاني قال: سمعت محمد بن
داود الدينوري يقول: سمعت أبا بكر بن معمر يقول: سمعت ابن أبي عبيدة
البسري يحدث عن أبيه: أنه غزا سنة من السنين، فخرج في السرية فمات
المهر الذي كان تحته وهو في السرية، فقال: أي رب! أعرناه إياه حتى نرجع
إلى بسرى - يعني قريته - فإذا المهر قائم، فلما غزا ورجع إلى بسرى قال:
يا بني خذ السرج عن المهر. قال: قلت: يا أبة إنه عرق، فقال: يا بني، هو
عارية، فحين أخذت السرج وقه المهر ميتاً.
ثم دخلت
سنة تسع وثلاثين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أخذ المتوكل أهل الذمة بلبس رقعتين عسليتين على
الأقبية والدراريع، وكان ذلك في المحرم، وأن تصنع النساء مقانعهن
عسليات، ثم أمر في صفر بأن يقتصروا في مراكبهم على ركوب البغال والحمير
دون الخيل والبراذين.
وفيها: غزا الصائفة علي بن يحيى الأرمني، فوغل في بلاد الروم، فقتل
عشرة آلاف علج، وسبى عشر ألف رأس، ومن الدواب سبعة آلاف دابة، وأحرق
أكثر من ألف قرية.
وذكر محمد
بن حبيب: أن شقفة وجدت في نخلة بالكديد عليها مكتوب. غافلون وأنتم
مغيبون، لاهون وأنتم مطلوبون: " سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون "
" إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون " وجاء الكتاب
بهذا في هذه السنة.
وفي هذه السنة: عزل يحيى بن أكثم عن القضاء، وولي قضاء البصرة إبراهيم
بن محمد التيمي.
وقدم يعقوب بن قوصرة، فأخذ من منزله خمسة وسبعين ألف دينار وصولح على
أن يؤدي تمام مائة ألف وعشرين ألف دينار، وولي مكانه جعفر بن عبد
الواحد.
ورجفت طبرية في جمادى الأولى في ربع الليل الأول، حتى مادت الأرض
واصطكت الجبال، ثم رجفت وانقطع من الجبل المطل عليها قطعة ثمانين
ذراعاً طولاً وعرضاً في خمسين ذراعاً فتقطع، فمات تحته بشر كثير وهدم
دوراً.
واتفق شعانين النصارى ويوم النيروز ذلك يوم الأحد لعشر خلت من ذي
القعدة، فزعمت النصارى أنهما لم يجتمعا في الإسلام قط.
وفيها: حج جعفر بن دينار، وكان والي طريق مكة مما يلي الكوفة، فولي
أحداث الموسم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن حبان بن إبراهيم، أبو إسحاق المرادي. حدث عن عمرو بن حكام،
وكان حفاظاً ثقة صالحاً. توفي في محرم هذه السنة.
داود بن رشيد، أبو الفضل مولى بني هاشم. خوارزمي الأصل بغدادي الدار.
سمع أبا المليح الرقي، وهشيماً، وابن علية.
روى عنه: ابن أبي الدنيا، والبغوي، وكان يحيى يوثقه.
توفي في هذه السنة.
صالح بن عبد الله، أبو عبد الله الترمذي. سكن بغداد، وحدث بها عن مالك
بن أنس، وشريك بن عبد الله، وجعفر بن سليمان، وفرج بن فضالة.
روى عنه: عباس الدوري، وابن أبي الدنيا، وأبو حاتم الرازي وقال: هو
صدوق.
وتوفي في هذه السنة، وقيل: في سنة إحدى وثلاثين.
الصلت بن مسعود الجحدري. بصري ثقة، ولي القضاء بسامراء في سنة ست
وثلاثين ومائتين، ولم يزل قاضياً بها إلى سنة تسع وثلاثين.
وحدث بها عن: حماد بن زيد، وجعفر بن سليمان، وسفيان بن عيينة.
روى عنه: الباغندي، وتوفي في هذه السنة.
عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان أبو الحسن العبسي الكوفي، المعروف
بابن أبي شيبة أخو أبي بكر، وهو الأكبر.
وقال يعقوب بن شيبة: عثمان بن أبي شيبة من ولد أبي سعدة الذي دعا عليه
سعد بن أبي وقاص.
رحل عثمان إلى البلاد وكتب الكثير، وصنف المسند والتفسير، وحدث عن شريك
بن عبد الله، وسفيان بن عيينة، وهشيم وخلق كثير.
روى عنه: الباغندي، والبغوي وغيرهما، وكان ثقة.
توفي في محرم هذه السنة.
محمد بن أحمد بن أبي دؤاد، أبو الوليد الإيادي القاضي. ولاه المتوكل
القضاء، ومظالم العسكر بعد أن فلج أبوه وكان بخيلاً على ضد ما كان عليه
أبوه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
قال: أخبرني الحسين بن علي الصيمري قال: حدثنا محمد بن عمران المرزباني
قال: أخبرني علي بن هارون قال: أخبرني عبيد الله بن أحمد بن طاهر، عن
أبيه. قال: عزل المتوكل أبا الوليد محمد بن أبي دؤاد عن مظالم العسكر
سنة سبع وثلاثين ومائتين، وولاها محمد بن إبراهيم بن الربيع الأنباري.
ثم صرف أبو الوليد في يوم الخميس لخمس خلون من شهر ربيع الأول عن قضاء
القضاة، وولي يحيى بن أكثم قضاء القضاة، ثم عزل ابن الربيع عن المظالم
وولاها يحيى بن أكثم سنة سبع وثلاثين ومائتين. وصرف أبو الوليد يوم
الأربعاء لعشر بقين من صفر، وحبس يوم السبت لثلاث خلون من ربيع الآخر
في ديوان الخراج وحبس أخوته عبيد الله بن السري صاحب الشرطة، فلما كان
يوم الاثنين من هذا الشهر حمل أبو الوليد مائة ألف دينار وعشرين ألف
دينار، وجوهراً قيمته عشرون ألف دينار، ثم صولح بعد ذلك على ستة عشر
ألف ألف درهم، وأشهد عليهم جميعاً ببيع كل ضيعة لهم، وكان أحمد بن أبي
دؤاد قد فلج، فلما كان يوم الأربعاء لسبع خلون من رمضان أمر المتوكل
بولد أحمد بن أبي دؤاد جميعاً فحدروا إلى بغداد.
ومات أبو الوليد في آخر سنة تسع وثلاثين مائتين، ومات أبوه بعده بعشرين
يوماً ببغداد مفلوجاً.
وهب بن بقية، أبو محمد الواسطي، المعروف بوهبان. سمع حماد بن زيد،
وهشيماً. روى عنه: البخاري، ومسلم، وكان ثقة.
توفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة أربع ومائتين
فمن الحوادث فيها: أنه أخذ أهل الذمة بتعليم أولادهم السريانية
والعبرانية، ومنعوا من العربية، ونادى المنادي بذلك، فأسلم منهم خلق
كثير.
وفي هذه السنة: سمع أهل خلاط صيحة من السماء، فمات خلق كثير، وكانت
ثلاثة أيام، وخسف بثلاث عشرة قرية من قرى إفريقية.
وخرجت ريح من بلاد الترك، فمرت بمرو فقتلت بشراً كثيراً بالزكام، ثم
صارت إلى نيسابور، وإلى الري، ثم إلى همذان وحلوان، ثم صارت إلى العراق
فأصاب أهل سامراء ومدينة السلام حمى وسعال وزكام وأشار المتطببون
بالحجامة.
وقال محمد بن حبيب الهاشمي: كتب تجار المغرب أن ثلاث عشرة قرية من قرى
القيروان خسف بها، فلم ينج من أهلها إلا اثنان وأربعون رجلاً سود
الوجوه، فأتوا القيروان فأخرجهم أهلها، وقالوا: أنتم مسخوط عليكم. فبنى
لهم العامل حظيرة خارج باب المدينة فنزلوها.
وفي ذي القعدة: وقع الجراد على بريد من البصرة، فخرج الناس في طلبه
فأصابهم من الليل ظلمة ومطر وريح، فمات منهم ألف وثلاثمائة إنسان، ما
بين رجل وامرأة وصبي.
وفي هذا الشهر: وقع ببغداد برد أعظم من الجوز، مثل بيض الحمام، مع مطر
شديد، وسقط يومئذ بسامراء برد مثل بيض الدجاج.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن محمد بن دواد، وحج جعفر بن دينار
وهو ولي الموسم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان أبو ثور الكلبي الفقيه الشافعي سمع
سفيان بن عيينة، وإسماعيل بن علية، ووكيعاً، وأبا معاوية، ويزيد بن
هارون، والشافعي، وغيرهم.
روى عنه: أبو داود السجستاني، ومسلم بن الحجاج، وغيرهما.
وكان يميل إلى الرأي، فلما قدم الشافعي بغداد اختلف إليه، وترك قول أهل
الرأي.
وكان من الفقهاء الأخيار، والثقات الأعلام، وصنف كتباً في الأحكام جمع
فيها بين الحديث والفقه.
وكان أحمد بن حنبل يثني عليه ويقول: أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة، وسئل
عن مسألة فقال: سل الفقهاء، سل أبا ثور.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال:
أخبرنا محمد بن أحمد بن علي الدقاق قال: أخبرنا أحمد بن إسحاق
النهاوندي قال: حدثنا الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد قال: حدثنا أبو عمرو
أحمد بن محمد بن سهيل قال: وحدثني رجل ذكره من أهل العلم - قال ابن
خلاد: وأنسيت أنا اسمه - قال: وقفت امرأة على مجلس فيه يحيى بن معين،
وأبو خيثمة، وخلف بن سالم في جماعة يتذاكرون الحديث، فسمعتهم يقولون:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه فلان، وحدث به فلان، فسألتهم
عن الحائض تغسل الموتى. فلم يجبها أحد منهم - وكانت غاسلة - وجعل بعضهم
ينظر إلى بعض، فأقبل أبو ثور فقالوا لها: عليك بالمقبل، فسألته فقال:
نعم تغسل الموتى، لحديث القاسم عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال لها: " أما إن حيضتك ليست في يدك " . ولقولها: كنت أفرق رأس
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء وأنا حائض.
قال أبو ثور: فإذا فرقت رأس الحي فالميت أولى به.
فقالوا: نعم رواه فلان، وحدثنا به فلان، ونعرفه من طريق كذا، وخاضوا في
الطرق والروايات. فقالت المرأة: فأين كنتم إلى الآن.
أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار أخبرنا أبو الحسن
القزويني وأبو إسحاق البرمكي قالا: أخبرنا أبو عمرو بن حيوية قال:
حدثنا أبو عمر البغوي قال: حدثنا أبو القاسم عثمان بن سعيد الأنماطي
قال: قال المزني: قال لي الشافعي: رأيت ببغداد ثلاث أعجوبات! قلت: ما
هن؟ قال: رأيت نبطياً ينحو حتى كأني أنا نبطي وهو غلامي، ورأيت
أعرابياً قحاً يلحن حتى كأنه نبطي وهو غلامي. قلت: من الأول؟ قال:
الزعفراني، وهو غلامي. قلت: فمن العربي القح؟ قال: أبو ثور وهو غلامي.
قلت: فالأخرى؟ قال: رأيت ببغداد شاباً أسود الرأس واللحية إذا قال
حدثنا قال الناس كلهم: صدق، قلت: من هو؟ قال: أحمد بن حنبل.
توفي أبو ثور في صفر هذه السنة ببغداد، ودفن في مقبرة باب الكنائس.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال لي أبي: أين كنت؟ قلت: في جنازة أبي
ثور، فقال: رحمه الله إنه كان فقيهاً.
أحمد بن أبي دؤاد بن جرير أبو عبد الله القاضي واسم أبي دؤاد الفرج،
ويقال: دعمي، ويقال اسمه كنيته.
ولي أحمد
قضاء القضاة للمعتصم، ثم للواثق، وكان موصوفاً بالسخاء، غير أنه على
مذهب الجهمية، وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن. لولا ما فعل
من ذلك لاجتمعت الألسن على مدحه، فإنه كان قد ضم إلى علمه الكرم
الواسع، فلم يكن له أخ من أخوانه إلا بنى له داراً، ثم وقف على ولده ما
يغنيهم بداً، ولم يكن لأخ من أخوانه ولد إلا من جارية هو وهبها له
وناوله رجل شسعاً وقد انقطع شسع نعله فأعطاه خمسمائة دينار.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
قال: أخبرني محمد بن علي الصولي قال: أخبرنا الحسن بن حامد الأديب قال:
حدثنا علي بن محمد بن سعيد الموصلي قال: حدثنا الحسن بن عليل قال:
حدثنا يحيى بن السري الكاتب قال: حدثني محمد بن عبد الملك الزيات قال:
كان رجل من ولد عمر الخطاب لا يلقى ابن أبي دؤاد وحده ولا في محفل إلا
لعنه ودعا عليه، وابن أبي دؤاد لا يرد عليه شيئاً، قال محمد: فعرضت
لذلك الرجل حاجة إلى المعتصم، فسألني أن أرفع قصته إليه، فمطلته واتقيت
ابن أبي دؤاد، فلما ألح علي عزمت على أن أوصل قصته إليه، فدخلت يوماً
على أمير المؤمنين وقصته معي واغتنمت غيبة ابن أبي دؤاد فدفعت القصة في
يد أمير المؤمنين، فلما قرأها دفعها إلى ابن أبي دؤاد، فلما نظر إليها
واسم الرجل في أولها قال: يا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، يا أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب، يا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ينبغي أن تقضي
لولده كل حاجة له، فوقع له أمير المؤمنين بقضاء الحاجة.
قال محمد بن عبد الملك: فخرجت والرجل جالس، فدفعت له القصة وقلت: تشكر
لأبي عبد الله القاضي، فهو الذي اعتنق قصتك، وسأل أمير المؤمنين في
قضاء حاجتك، قال: فوقف ذلك الرجل حتى خرج ابن أبي دؤاد فجعل يدعو له
ويتشكر له، فقال له: اذهب عافاك الله، فإني إنما فعلت ذلك لعمر بن
الخطاب، لا لك.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب
قال: أخبرنا الحسين بن عثمان الشيرازي قال: أخبرنا أبو علي أحمد بن عبد
الله قال: حدثنا محمد بن الحسن بن الحسين القاضي قال: حدثني الحسن بن
منصور قال: حدثنا الحسن بن ثواب قال: سألت أحمد بن حنبل عمن يقول
القرآن المجيد مخلوق؟ قال: كافر. قلت: فابن أبي دؤاد؟ قال: كافر بالله
العظيم.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرني محمد بن
أحمد بن يعقوب قال: أخبرنا محمد بن نعيم الضبي قال: سمعت أبا الحسين بن
أبي القاسم يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا الحسين بن الفضل يقول: سمعت
عبد العزيز بن علي المكي يقول: دخلت على ابن أبي دؤاد وهو مفلوج، فقلت:
إني لم آتك عائداً، وإنما جئتك لأحمد الله على أنه سجنك في جلدك.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرنا أبو
الحسين بن بشران المعدل قال: حدثنا عثمان بن أحمد قال: حدثنا إسحاق بن
إبراهيم الختلي قال: حدثنا أبو يوسف يعقوب بن موسى بن الفيرزان ابن أخي
معروف الكرخي قال: رأيت في المنام كأني وأخاً لي نمر على نهر عيسى على
الشط، فبينما نحن نمشي إذ امرأة تقول: ما تدري ما حدث الليلة؟ أهلك
الله ابن أبي دؤاد، فقلت لها: وما كان سبب هلاكه؟ قالت: أغضب الله فغضب
الله عليه من فوق سبع سموات.
قال المؤلف: فلج ابن بي دؤاد. ثم مات في محرم هذه السنة.
أحمد بن الخضر وهو المعروف بابن خضرويه البلخي، يكنى أبا حامد صحب أبا
تراب النخشبي وحاتماً، ورحل إلى أبي يزيد، وأبي حفص.
أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا أحمد بن علي بن خلف قال: أخبرنا أبو عبد
الرحمن السلمي قال: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت محمد بن حامد
الترمذي يقول: قال رجل لأحمد بن خضرويه: أوصني فقال: أمت نفسك حتى
تحييها، وقال: لا نوم أثقل من الغفلة، ولا رق أملك من الشهوة، ولولا
ثقل الغفلة لم تظفر بك الشهوة.
أخبرنا
ابن ناصر قال: أخبرنا أحمد بن أحمد قال: أخبرنا أبو نعيم الأصبهاني
قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت
محمد بن حامد يقول: كنت جالساً عند أحمد بن خضرويه وهو في النزع، وكان
قد أتى عليه خمس وتسعون سنة فسئل عن مسألة، فدمعت عيناه وقال: يا بني،
باب كنت أدقه خمساً وتسعين سنة هو ذا يفتح لي الساعة، لا أدري أيفتح لي
بالسعادة أو بالشقاوة، آن لي أوان الجواب. وكان ركبه من الدين سبعمائة
دينار، وحضره غرماؤه فنظر إليهم وقال: اللهم إنك جعلت الرهون وثيقة
لأرباب الأموال وأنت تأخذ عنهم وثيقتهم، فأد عني. قال: فدق داق الباب،
وقال: هذه دار أحمد بن خضرويه؟ فقالوا: نعم. قال: أين غرماؤه؟ قال:
فخرجوا فقضى عنه، ثم خرجت روحه.
أسند ابن خضرويه الحديث، وتوفي هذه السنة.
إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة، أبو أحمد مولى عثمان بن عفان وهو من أهل
حران. حدث عن يزيد بن هارون وغيره، وكان ثقة، توفي بالعراق في هذه
السنة.
الحسن بن عيسى بن ماسرجس أبو علي النيسابوري كان نصرانياً من أهل بيت
الثروة، فأسلم على يد ابن المبارك.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرني أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال:
أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب قال: أخبرنا محمد بن نعيم الضبي قال:
سمعت أبا علي الحسين بن محمد بن أحمد بن الحسين الماسرجسي يحكي عن جده
وغيره من أهل بيته قال: كان الحسن والحسين ابنا عيسى بن ماسرجس يركبان
معاً، فيتحير الناس في حسنهما وبزتهما، فاتفقا على أن يسلما فقصدا حفص
بن عبد الرحمن ليسلما على يده، فقال لهما حفص: أنتما من أجل النصارى،
وعبد الله بن المبارك خارج في هذه السنة إلى الحج، فإذا أسلمتما على
يده كان ذلك أعظم عند المسلمين وأرفع لكما في عزكما وجاهكما، فإنه شيخ
أهل المشرق والمغرب، فانصرفا عنه فمرض الحسين بن عيسى، فمات على
نصرانيته قبل قدوم ابن المبارك، فلما قدم أسلم الحسن على يده.
قال المصنف رحمه الله: انظروا ما يعمل الجهل بأهله، فإنه لولا جهل حفص
بن عبد الرحمن وقلة علمه لما أمرهما بتأخير الإسلام، لأنه لا يحل
تأخيره، لكن الجهل يردي أصحابه.
ولما أسلم الحسن سمع من ابن المبارك ورحل في طلب العلم، وقدم بغداد
حاجاً، فحدث بها، فسمع منه أحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم، وابن أبي
الدنيا، وعد في مجلسه بباب الطاق اثنتا عشرة ألف محبرة.
وكان ثقة ديناً ورعاً، ولم يزل بنيسابور في عقبه فقهاء ومحدثون.
وتوفي في منصرفه من مكة بالثعلبية في هذه السنة، وكان قبره ظاهراً بها
وعليه مكتوب " ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه
الموت فقد وقع أجره على الله " هذا قبر الحسن بن عيسى، وكان أنفق في
تلك المحجة ثلاثمائة ألف درهم.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني
محمد بن أحمد بن يعقوب قال: أخبرنا محمد بن نعيم الضبي قال: سمعت محمد
بن الحسن بن المؤمل بن عيسى - ونحن في البادية عند منصرفنا من زيارة
قبر الحسن بن عيسى - قال: سمعت أبا يحيى البزاز يقول: كنت فيمن حج مع
الحسن بن عيسى وقت وفاته بالثعلبية، ودفن بها، فاشتغلت بحفظ محملي
وآلاتي عن حضور جنازته والصلاة عليه، لغيبة عديلي عني، فحرمت الصلاة
عليه، فأريته بعد ذلك في منامي فقلت له: يا أبا علي، ما فعل بك ربك؟
قال: غفر لي ربي، قلت: غفر لك ربك؟ كالمستخبر. قال: نعم، غفر لي ربي
ولكل من صلى علي. قلت: فإني فاتتني الصلاة عليك لغيبة العديل عن الرحل.
فقال: لا تجزع فقد غفر لي ولمن صلى علي ولكل من ترحم علي.
سويد بن سعيد بن سهل بن شهريار، أبو محمد الهروي. سكن الحديثة على
فراسخ من الأنبار، وقدم بغداد وحدث بها، عن مالك، وشريك، وإبراهيم بن
سعد، وسفيان بن عيينة، وروى عنه الباغندي والبغوي، وكان قد كف بصره في
آخر عمره.
قال أحمد: أرجو أن يكون صدوقاً أو لا بأس به.
وقال يحيى: ما حدثك به فاكتب عنه، وما حدث به تلقيناً فلا.
توفي بالحديثة في شوال هذه السنة، وكان قد بلغ مائة سنة.
عبد الواحد بن غياث، أبو محمد البصري. سمع الحمادين. روى عنه: البغوي،
وكان ثقة. توفي بالبصرة.
قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف أبو رجاء الثقفي مولاهم. من أهل بغلان
وهي قرية من قرى بلخ.
ولد سنة
خمسين ومائة. قال أبوه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام
بيده صحيفة، فقلت: يا رسول الله ما هذه الصحيفة؟ قال: فيها أسماء
العلماء، قلت: ناولني أنظر فيها اسم ابني، فنظرت فإذا فيها اسمه.
قال المصنف: وقتيبة لقب غلب عليه، وفي اسمه قولان، أحدهما: يحيى. قاله
أبو أحمد بن عدي الجرجاني. والثاني: علي. قاله أبو عبد الله بن مندة.
رحل قتيبة إلى العراق، ومكة، والمدينة، والشام، ومصر.
وسمع من مالك، والليث، وابن لهيعة، وحماد بن زيد، وغيرهم.
روى عنه الأئمة: أحمد، ويحيى، وأبو خيثمة، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو
زرعة، والبخاري، ومسلم بن الحجاج، وكان ثقة مأموناً كثير الحديث.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا
أحمد بن محمد بن رزق قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن متويه البلخي
حدثنا موسى بن محمد بن عبد الرحمن المكتب قال: حدثنا عبد الله بن قتيبة
بن سعيد قال: سمعت عصام بن العلاء يقول: سمعت قتيبة بن سعيد يقول:
لولا القضاء الذي لا بد مدركه ... فالرزق يأكله الإنسان بالقدر
ما كان مثلي في بغلان مسكنه ... ولا يمر بها إلا على سفر
توفي بها في هذه السنة.
محمد بن أبي عتاب، أبو بكر الأعين. واسم أبي عتاب: الحسن. كذا قال مسلم
وابن أبي حاتم.
وقال البغوي: اسم أبي عتاب: طريف، وكذا قال محمد بن عبد الله الحضرمي،
ومحمد بن إسحاق السراج.
حدث أبو بكر عن: روح بن عبادة، ووهب بن جرير، وأسود بن عامر، وغيرهم.
روى عنه: عباس الدوري، وكان ثقة.
وقال يحيى بن معين: ليس هو من أصحاب الحديث - وإنما أعنى أنه ليس من
الحفاظ بعلل الحديث والنقاد لطرقه - وأما الضبط والصدق فليس بمدفوع
عنه.
وتوفي ببغداد يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة من هذه
السنة.
محمد بن الصباح بن سفيان، أبو جعفر الجرجرائي. حدث عن سفيان بن عيينة،
وهشيم بن بشير وغيرهما.
قال يحيى بن معين: ليس به بأس. وقال ابن عقدة: هو ثقة.
قال البغوي: توفي بجرجرايا في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة إحدى وأربعين ومائتين
فمن الحوادث فيها: إغارة الروم على عين زربة، فأسرت من كان بها من رجال
الزط، وذراريهم ونسائهم وجواميسهم وبقرهم، فأخذتهم إلى بلاد الروم.
ومن الحوادث: أن أهل حمص وثبوا في جمادى الآخرة من هذه السنة بمحمد بن
عبدويه عاملهم، وأعانهم عليه قوم من نصارى أهل حمص، فكتب بذلك إلى
المتوكل، وكتب إليه بمناهضتهم، وأمده بجند من راتبة دمشق، مع صالح
العباسي التركي، وهو عامل دمشق، وأمره أن يأخذ من رؤسائهم ثلاثة نفر
فيضربهم بالسياط ضرب التلف، فإذا ماتوا صلبهم على أبوابهم، وأن يأخذ
بعد ذلك من باب أمير المؤمنين، وأن يخرب ما بها من الكنائس والبيع، وأن
يدخل البيع التي إلى جانب مسجدها في المسجد، وأن لا يترك في المدينة
نصرانياً إلا أخرجه منها، وينادي فيهم قبل ذلك، فمن وجد فيها بعد ثالثة
أحسن أدبه. وأمر لمحمد بن عبدويه بخمسين ألف درهم، وأمر لقواده ووجوه
أصحابه بصلات، وأمر لخليفته علي بن الحسين بخمسة عشر ألف درهم، ولقواده
بخمسة آلاف درهم وبخلع.
وفي هذا الشهر: ماجت النجوم في السماء، وجعلت تتطاير شرقاً وغرباً
ويتناثر بعضها خلف بعض كالجراد من قبل غروب الشفق إلى قريب من الفجر،
ولم يكن مثل هذا إلا لظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه السنة: ولي أبو حسان الزيادي قضاء الشرقية في المحرم.
وفيها: مطر الناس بسامراء مطراً جوداً في آب.
وفيها: ضرب عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم ألف سوط؛ وكان السبب في ذلك:
أنه شهد عليه أكثر من سبعة عشر رجلاً بشتم أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة،
وأنهي ذلك إلى المتوكل، فأمر المتوكل أن يكتب إلى محمد بن عبد الله بن
طاهر يأمره بضرب عيسى هذا بالسياط، فإذا مات رمي به في دجلة، ولم تدفع
جيفته إلى أهله، فضرب، ثم ترك في الشمس حتى مات، ثم رمي به في دجلة.
أخبرنا
أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
علي بن المحسن قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر قال: حدثني أبو الحسين
عمر بن الحسن، حدثنا ابن أبي الدنيا قال: كنت في الجسر واقفاً وقد حضر
أبو حسان الزيادي القاضي، وقد وجه إليه المتوكل من سامراء بسياط جدد في
منديل دبيقي مختومة، وأمره أن يضرب عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم -
وقيل أحمد بن محمد بن عاصم صاحب خان عاصم - ألف سوط؛ لأنه شهد عليه
الثقات وأهل الستر أنه شتم أبا بكر وعمر وقذف عائشة، فلم ينكر ذلك ولم
يتب، وكانت السياط بثمارها، فجعل يضرب بحضرة القاضي وأصحاب الشرط قيام،
فقال: أيها القاضي قتلتني. فقال له القاضي: قتلك الحق لقذفك زوجة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وشتمك الخلفاء الراشدين المهديين. قال طلحة:
وقيل لما ضرب ترك في الشمس حتى مات، ثم رمي به في دجلة.
وفي هذه السنة: نفقت الدواب والبقر.
وفيها: كان الفداء بين المسلمين والروم، وكان السبب في ذلك: أن تذورة
ملكة الروم أم ميخائيل، كانت قد بعثت تطلب الفداء لمن في أيدي الروم من
المسلمين، وكان المسلمون قد قاربوا عشرين ألفاً، فوجه المتوكل رجلاً
يقال له: نصر بن الأزهر، ليعرف تقدير عدد المأسورين، فأقام عندهم
حيناً، ثم خرج، فأمرت الملكة بعرض الأسارى على النصرانية، فمن تنصر
منهم كان له أسوة بالنصارى، ومن أبى قتلته، فقتلت من الأسارى اثني عشر
ألفاً ثم أمرت بالفداء، ففودي من المسلمين سبعمائة وخمسة وسبعون رجلاً،
ومن النساء مائة وخمس وعشرون.
وفيها: أغارت البجه على حرس من أهل مصر، فوجه المتوكل لحربهم محمد بن
عبد الله القمي.
وكان ما بين البجه والمسلمين هدنة، والبجه جنس من أجناس الحبش بالمغرب،
وفي بلادهم معادن من الذهب، كانوا يقاسمون من يعمل فيها، ويؤدون إلى
عمال مصر في كل سنة شيئاً من معادنهم، فامتنعوا من أداء الخراج، فعلم
المتوكل، فشاور في أمرهم، فقيل له: إنهم أصحاب إبل والوصول إليهم وإلى
بلادهم صعب، وبينها وبين أرض الإسلام مسيرة شهر، في أرض مقفرة وجبال
وعرة، لا ماء فيها ولا زرع.
فأمسك المتوكل عنهم، ثم تفاقم أمرهم، حتى خاف أهل مصر على أنفسهم منهم،
فولى المتوكل محمد بن عبد الله القمي محاربتهم، وتقدم إليه أن يكاتب
عنبسة بن إسحاق الضبي العامل على حرب مصر، وكتب إلى عنبسة بإعطائه جميع
ما يحتاج إليه من الجند، فأزاح عنبسة علته في ذلك، فخرج إلى أرض البجه
في عشرين ألفاً، وحمل في البحر سبع مراكب موقرة بالدقيق والسويق والتمر
والزيت والشعير، وأمر قوماً من أصحابه أن يوافوه بها في ساحل أرض
البجه.
فلما صار إلى حضرتهم خرج إليه ملكهم، فجعل يطاوله الأيام ولا يقاتله.
فلما ظن أن الأزواد قد فنت، أقبلت المراكب السبعة، فلما رأى أمير البجه
ذلك حاربهم، واقتتلوا قتالاً شديداً، وكانت الإبل التي يحاربون عليها
زعرة تفزع من كل شيء، فجمع محمد بن عبد الله جميع أجراس الإبل والخيل
التي كانت في عسكره، فجعلها في أعناق الخيل، ثم حمل عليهم فتفرقت إبلهم
لأصوات الأجراس، واشتد رعبها، فحملتهم على الجبال والأودية، ومزقتهم كل
ممزق، واتبعهم القمي قتلاً وأسراً، وذلك في أول سنة إحدى وأربعين، ثم
رجع إلى عسكره، فوجدهم قد صاروا إلى موضع يأمنون فيه، فوافاهم بالخيل،
فهرب ملكهم، فأخذ تاجه ومتاعه، فطلب ملكهم الأمان على نفسه على أن يرد
إلى ملكه، فأعطاه القمي ذلك، فأدى إليه الخراج للمدة التي كان منعها.
وانصرف القمي بملكهم إلى المتوكل فكساه.
وفيها: جعل المتوكل كور شمشاط عشراً، ونفلهم من الخراج إلى العشر.
وفي هذه السنة: وقع بسامراء حريق احترق فيه ألف وثلاثمائة حانوت.
وحج بالناس في هذه السنة جعفر بن دينار وهو والي طريق مكة وأحداث
الموسم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، أبو عبد الله الشيباني. قدمت أمه بغداد
وهي حامل به، فولدته ونشأ بها، وسمع شيوخها، ثم رحل إلى الكوفة،
والبصرة، ومكة، والمدينة، واليمن، والشام، والجزيرة وسمع من خلق كثير.
وجمع حفظ الحديث والفقه والزهد والورع، وكانت مخايل النجابة تبين عليه
من زمن الصغر، وكان أشياخه يعظمونه.
أخبرنا
أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الحافظ قال: أخبرنا
أبو عقيل أحمد بن عيسى أخبرنا عبد العزيز بن الحارث التميمي قال: حدثنا
إبراهيم بن محمد النساج قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: رأيت أحمد بن
حنبل كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف يقول ما شاء
ويمسك عما شاء.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
إبراهيم بن عمر الفقيه قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن حمدان العكبري،
حدثنا أبو حفص عمر بن محمد بن رجاء قال: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل
يقول: سمعت أبا زرعة الرازي يقول: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث،
فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد قال: أخبرنا حمد بن أحمد الحداد قال: أخبرنا
أبو نعيم أحمد بن عبد الله قال: حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا أحمد
بن محمد القاضي قال: سمعت أبا داود السجستاني يقول: لم يكن أحمد بن
حنبل يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا، فإذا ذكر العلم
تكلم.
قال سليمان: وأخبرنا عبد الله بن أحمد قال: وكان أبي يصلي كل يوم وليلة
ثلاثمائة ركعة، فلما مرض من تلك الأصوات أضعفته، فكان يصلي في كل يوم
وليلة مائة وخمسين ركعة، وكان في زمن الثمانين وكان يقرأ في كل يوم
سبعاً، وكانت له ختمة في مل سبع ليال سوى صلاة النهار، وكان ساعة يصلي
ويدعو عشاء الآخرة ينام نومة خفيفة ثم يقوم إلى الصباح يصلي، وحج خمس
حجات ثلاث حجج ماشياً، واثنتين راكباً.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، عن أبي إسحاق البرمكي، عن عبد العزيز بن
جعفر قال: حدثنا أبو بكر الخلال قال: حدثنا أحمد بن محمد البراثي قال:
أخبرني أحمد بن عبثر قال: لما ماتت أم صالح قال أحمد لامرأة عندهم:
اذهبي إلى فلانة ابنة عمي فاخطبيها لي من نفسها. قال: فأتيتها فأجابته،
فلما رجعت إليه قال: كانت أختها تسمع كلامك. قال: وكانت بعين واحدة؟
قالت: نعم، قال: فاذهبي واخطبي تلك التي بعين واحدة فأتتها فأجابته وهي
أم عبد الله.
قال المؤلف: وقد ذكرنا كيف امتحن أحمد وضرب في زمن المعتصم، وأنه جعل
المعتصم في حل.
ولما ولي المتوكل أكرمه وبعث إليه مالاً كثيراً فتصدق به، واستزاره
ليحدث أولاده، فحلف أن لا يحدث، فلم يحدث حتى مات.
ومرض أحمد ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول من هذه السنة
واشتد مرضه تسعة أيام وتوفي.
وكان قد أعطاه بعض أولاد الفضل بن الربيع وهو في الحبس ثلاث شعرات من
شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوصى عند موته أن تجعل كل شعرة على
عينه والثالثة على لسانه.
وكان يصبر في مرضه صبراً عظيماً فما أن إلا في الليلة التي توفي فيها.
أخبرنا محمد بن عبد الملك بن خيروان، وابن ناصر قالا: أخبرنا أحمد بن
الحسن بن المعدل قال: أخبرنا أبو علي بن شاذان قال: حدثنا محمد بن عبد
بن عمرويه قال: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: لما حضرت أبي
الوفاة جلست عنده وبيدي الخرقة لأشد بها لحيته، فجعل يغرق ثم يفيق، ثم
يفتح عينيه ويقرأ بيده هكذا، لا بعد لا بعد، ففعل هذا مرة وثانية، فلما
كان في الثالثة قلت له: يا أبه! أي شيء هذا، قد لهجت به في هذا الوقت
تغرق حتى نقول: قد قضيت، ثم تعود فتقول: لا بعد؟ فقال لي: يا بني! ما
تدري؟ قلت: لا، قال: إبليس لعنه الله قائم حذائي عاض على أنامله يقول:
يا أحمد فتني! فأقول له: لا بعد حتى أموت.
قال المصنف: فضائل أحمد رضي الله عنه كثيرة، وإنما اقتصرنا ها هنا على
هذه النبذة لأني قد جمعت فضائله في كتاب كبير جعلته مائة باب، ثم مثل
هذا التاريخ لا يحتمل أكثر مما ذكرت، والله الموفق.
الحسن بن حماد بن كسيب أبو علي الحضرمي، المعروف بسجادة سمع أبا بكر بن
عياش، وعطاء بن مسلم الخفاف، وأبا خالد وغيرهم.
وروى عنه: ابن أبي الدنيا. وكان صاحب سنة.
توفي في هذه السنة.
محمد بن الإمام الشافعي أبي عبد الله محمد بن إدريس، يكنى أبا عثمان
سمع سفيان بن عيينة، وأباه، وولي القضاء بالجزيرة، وحدث هناك، واجتمع
بأحمد بن حنبل ببغداد، فقال له أحمد: أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم في
السحر.
وللشافعي
ولد آخر يسمى محمد أيضاً. إلا أن ذلك توفي صغيراً وهو بمصر سنة إحدى
وثلاثين، ذكره أبو سعيد بن يونس الحافظ.
محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة مولى بني يشكر - واسم أبي رزمة: غزوان،
ويكنى أبا محمد - أبو عمرو المروزي.
حدث عن سفيان بن عيينة، والنضر بن شميل وغيرهما.
روى عنه: إبراهيم الحربي وغيره، وكان ثقة.
أبو غياث المكي، مولى جعفر بن محمد. أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد
بن سليمان قال: أخبرنا رزق الله بن عبد الوهاب قال: أخبرنا أبو الحسن
بن علي بن أحمد بن الباد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان
قال: أخبرنا أبو حازم المعلى بن سعيد البغدادي قال: سمعت أبا جعفر محمد
بن جرير الطبري في سنة ثلاثمائة يقول: كنت بمكة في سنة أربعين ومائتين
فرأيت خراسانياً ينادي: معاشر الحاج من وجد همياناً فيه ألف دينار فرده
علي أضعف الله له الثواب، قال: فقام إليه شيخ من أهل مكة كبير من موالي
جعفر بن محمد، فقال له: يا خراساني، بلدنا فقير أهله، شديد حاله، أيامه
معدودة، ومواسمه منتظرة، فلعله بيد رجل مؤمن يرغب فيما تبذله له حلالاً
يأخذه ويرده عليك، قال الخراساني: وكم يريد؟ قال العشر مائة دينار،
قال: لا والله، لا أفعل ولكن أحيله على الله عز وجل. قال: وافترقا.
قال ابن جرير: فوقع لي أن الشيخ صاحب القريحة والواجد للهميان فاتبعته،
فكان كما ظننت، فنزل إلى دار خلقة الباب والمدخل، فسمعته يقول: يا
لبابة! قالت له: لبيك يا أبا غياث. قال: وجدت صاحب الهميان ينادي عليه
مطلقاً فقلت له: قيده بأن تجعل لواجده شيئاً، فقال: كم؟ فقلت: عشرة،
فقال: لا، ولكنا نحيله على الله عز وجل، فأي شيء نعمل، ولا بد لي من
رده، فقالت له: نقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة ولك أربع بنات وأختان
وأنا وأمي وأنت تاسع القوم، استنفقه واكسنا، ولعل الله يغنيك فتعطيه أو
يكافئه عنك ويقضيه، فقال لها: لست أفعل ولا أحرق حشاشي بعد ست وثمانين
سنة، قال: ثم سكت القوم وانصرفت.
فلما كان من الغد على ساعات النهار سمعت الخراساني يقول: يا معشر
الحاج! وفد الله من الحاضر والبادي، من وجد همياناً فيه ألف دينار فرده
أضعف الله له الثواب، قال: فقام إليه الشيخ وقال: يا خراساني! قد قلت
لك بالأمس ونصحتك وبلدنا والله فقير قليل الزرع والضرع، وقد قلت لك أن
تدفع إلى واجده مائة دينار، فلعله أن يقع بيد رجل مؤمن يخاف الله عز
وجل فامتنعت، فقل له عشرة دنانير منها، فيرده عليك ويكون له في الشعرة
دنانير ستر وصيانة، قال: فقال له الخراساني: لا نفعل ولكن نحيله على
الله عز وجل، قال: ثم افترقا.
فلما كان من الغد سمعت الخراساني ينادي ذلك النداء بعينه، فقام الشيخ
فقال له: يا خراساني، قلت أول أمس العشر منه، وقلت لك عشر العشر أمس،
واليوم أقول لك عشر العشر يشتري بنصف دينار قربة يستقي عليها للمقيمين
بمكة بالأجرة وبالنصف الآخر شاة يحلبها ويجعل ذلك لعياله غذاء، قال: لا
نفعل، ولكن نحيله على الله عز وجل، قال: فجذبه الشيخ جذبة وقال: تعال
خذ هميانك، ودعني أنام الليل، وأرحني من محاسبتك، فقال له: امش بين
يدي.
فمشى الشيخ وتبعه الخراساني وتبعهما، فدخل الشيخ فما لبث أن خرج وقال:
ادخل يا خراساني، فدخل ودخلت فنبش تحت درجة له مزبلة، فنبش وأخرج منها
الهميان أسود من خرق بخارية غلاظ وقال: هذا هميانك؟ فنظر إليه وقال:
هذا همياني، قال: ثم حل رأسه من شد وثيق، ثم صب المال في حجر نفسه
وقلبه مراراً، وقال: هذه دنانيرنا، وأمسك فم الهميان بيده الشمال ورد
المال بيده اليمين فيه، وشده شداً سهلاً ووضعه على كتفه، ثم أراد
الخروج، فلما بلغ باب الدار رجع، وقال للشيخ: يا شيخ! مات أبي رحمه
الله وترك من هذا ثلاثة آلاف دينار، فقال لي: أخرج ثلثها ففرقه على أحق
الناس عندك، وبع رحلي، واجعله نفقة لحجك! ففعلت ذلك وأخرجت ثلثها ألف
دينار وشددتها في هذا الهميان، وما رأيت منذ خرجت من خراسان إلى ها هنا
رجلاً أحق به منك، خذه بارك الله لك فيه، قال: ثم ولى وتركه.
قال:
فوليت خلف الخراساني فعدا أبو غياث فلحقني وردني، وكان شيخاً مشدود
الوسط بشريط معصب الحاجبين، ذكر أن له ستاً وثمانين سنة، فقال لي:
اجلس، فقد رأيتك تتبعني في أول يوم وعرفت خبرنا بالأمس واليوم، فسمعت
أحمد بن يونس اليربوعي يقول: سمعت مالكاً يقول: سمعت نافعاً يقول: عن
عبد الله بن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر وعلي: " إذا
أتاكما بهدية بلا مسألة ولا استشراف نفس فاقبلاها ولا ترداها فترداها
على الله عز وجل " وهذه هدية من الله والهدية لمن حضر، ثم قال: يا
لبابة، الهميان وادعي فلانة وفلانة وصاح ببناته وأخواته، وقال: ابسطوا
حجوركم. فبسطت حجري، وما كان لهن قميص له حجر يبسطونه فمدوا أيديهم،
وأقبل يعد ديناراً حتى إذا بلغ العاشر إلي قال: ولك ديناراً.
حتى فرغ الهميان، وكانت ألفاً، فأصابني مائة دينار، فتداخلني من سرور
غناهم أشد مما داخلني من سرور أصابني بالمائة دينار، فلما أردت الخروج
قال لي: يا فتى، إنك لمبارك ولا رأيت هذا المال قط،ولا أملته وأني
لأنصحك أنه حلال، فاحتفظ به، وأعلم أني كنت أقوم وأصلي الغداة في هذا
القميص الخلق، ثم أنزعه فتصلي واحدة واحدة، ثم أكتسب إلى ما بين الظهر
والعصر، ثم أعود في آخر النهار بما قد فتح الله عز وجل لي من أقط وتمر
وكرات، ومن بقول نبذت، ثم أنزعه فيتداولنه فيصلين فيه المغرب وعشاء
الآخرة، فنفعهن الله بما أخذن، ونفعني وإياك بما أخذنا، ورحم الله صاحب
المال في قبره، وأضعف ثواب الحامل للمال وشكر له.
قال ابن جرير: فودعته وكتبت بها العلم سنين أتقوت بها، وأشتري منها
الورق، وأسافر وأعطي الأجرة، فلما كان بعد سنة ست وخمسين سألت عن الشيخ
بمكة فقيل إنه قد مات بعد ذلك بشهور، ووجدت بناته ملوكاً تحت ملوك،
وماتت الأختان وأمهن، وكنت أنزل على أزواجهن وأولادهن فأحدثهم بذلك،
فيستأنسون بي ويكرموني، ولقد حدثني محمد بن حيان البجلي في سنة تسعين
ومائتين أنه لم يبق منهم أحد.
فبارك الله لهم فيما صاروا إليه ورحمة الله عليهم أجمعين.
ثم دخلت
سنة اثنتين وأربعين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أنه وقع اضطراب بفارس، والروم، وخراسان، والشام،
وخرج الروم بعد خروج علي بن يحيى الأرمني من الصائفة حتى قاربوا آمد،
ثم خرجوا من الثغور الجزرية، فانتهبوا عدة قرى، ثم رجعوا إلى بلادهم.
وفي ربيع الأول: احترق بالكرخ مائتا حانوت ونيف، واحترق بالكرخ رجال
ونساء وصبيان.
قال ابن حبيب الهاشمي: وفي شعبان زلزلت الدامغان، فسقط نصفها على أهلها
وعلى الوالي فقتله، ويقال إن الهالكين كانوا خمسة وأربعين ألفاً.
وكانت بقومس ورساتيقها في هذا الشهر زلازل، فهدمت منها الدور، وسقطت
بدس كلها على أهلها وسقطت بلدان كثيرة على أهلها، وسقط نحو من ثلثي
بسطام وزلزلت الري، وجرجان، وطبرستان، ونيسابور، وأصبهان، وقم، وقاشان،
وذلك كله في وقت واحد، وسقطت جبال ودنا بعضها من بعض، ونبع الماء مكان
الجبال، ورجفت استراباذ رجفة أصيب الناس كلهم وسمع بين السماء والأرض
أصوات عالية، وانشقت الأرض بقدر ما يدخل الرجل فيه.
قال: ورجمت قرية يقال لها: السويداء ناحية مصر بخمسة أحجار، فوقع منها
حجر على خيمة أعرابي، فاحترقت ووزن منها حجر، فكان خمسة أرطال، فحمل
منها أربعة إلى الفسطاط وواحد إلى تنيس.
قال: وذكر أن رجلاً باليمن عليه مزارع لأهله سار حتى أتى مزارع قوم
فصاروا فيها، فكتب بذلك إلى المتوكل.
وسقطت صاعقة بالبردان، فأحرقت رجلين، وأصابت ظهر الرجل الثالث، فاسود
منها، وسقطت في الماء.
قال ابن حبيب: وذكر علي بن أبي الوضاح أن طائراً دون الرخمة وفوق
الغراب أبيض وقع على دابة بحلب لسبع بقين من رمضان، فصاح: يا معشر
الناس، اتقوا الله الله الله حتى صاح أربعين مرة، ثم طار وجاء من الغد،
فصاح أربعين صوتاً، وكتب بذلك صاحب البريد وأشهد خمسمائة إنسان سمعوه.
ومات رجل في بعض كور الأهواز في شوال، فسقط طائر أبيض على جنازته، فصاح
بالفارسية وبالخوذية: إن الله قد غفر لهذا الميت ولمن شهده.
ولليلتين خلتا من شوال قتل المتوكل رجلاً عطاراً كان نصرانياً وأسلم،
فمكث مسلماً سنين كثيرة ثم ارتد، فاستتيب، فأبى أن يرجع إلى الإسلام،
فضربت عنقه وأحرق بباب العامة.
وحج
بالناس في هذه السنة عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام وهو
والي مكة.
وخرج بالحاج فيها جعفر بن دينار وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم.
وحج إبراهيم بن مظهر بن سعيد الكاتب الأنباري من البصرة على عجلة تجرها
الإبل عليها كنيسة ومخرج وقباب وسلك طريق المدينة فكان أعجب ما رآه
الناس في الموسم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحسن بن علي بن الجعد بن عبيد الجوهري مولى أم سلمة المخزومية زوجة
السفاح.
ولي قضاء المدينة المنصورية بعد عبد الرحمن بن إسحاق الضبي.
عزل الواثق الضبي في سنة ثمان وعشرين ومائتين، واستقضى الحسن بن علي
وأبوه حي، وكان ذا مروءة.
وتوفي في رجب هذه السنة.
الحسن بن عثمان بن حماد بن حسان بن يزيد، أبو حسان الزيادي سمع من
إبراهيم بن سعد، وهشيم بن بشير، وابن علية، وخلقاً كثيراً.
روى عنه: الكديمي، والباغندي. وكان من العلماء الأفاضل، صالحاً ديناً
كريماً مصنفاً، وله تاريخ حسن، وولي قضاء الشرقية.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: أخبرنا الحسن
بن علي الجوهري قال: أخبرنا محمد بن عمران المرزباني قال: أخبرنا عبد
الواحد بن محمد الخصيبي قال: حدثنا أبو حازم القاضي وأبو علي أحمد بن
إسماعيل قالا: حدثنا أبو سهل الرازي قال: حدثني أبو حسان الزيادي قال:
ضقت ضيقة بلغت فيها إلى الغاية، حتى ألح علي القصاب، والبقال، والخباز،
وسائر المعاملين، ولم تبق لي حيلة، فإني ليوماً على تلك الحال، وأنا
مفكر في الحيلة، إذ دخل علي الغلام فقال: حاجي بالباب يستأذن؟ فقلت له:
ائذن له، فدخل الخراساني فسلم، وقال: ألست أبا حسان؟ قلت: بلى، فما
حاجتك؟ قال: أنا رجل غريب أريد الحج، ومعي عشرة آلاف درهم، واحتجت أن
تكون قبلك حتى أقضي حجي وأرجع، فقلت هاتها، فأحضرها وخرج بعد أن وزنها
وختمها، فلما خرج فككت الخاتم على المكان، ثم أحضرت المعاملين فقضيت كل
دين كان علي، واتسعت وأنفقت، وقلت: أضمن هذا المال للخراساني، وإلى أن
يجيء يكون قد أتى الله بفرج من عنده، فكنت يومي ذلك في سعة وأنا لا أشك
في خروج الخراساني، فلما أصبحت من غد ذلك اليوم دخل علي الغلام فقال:
الخراساني الحاج بالباب يستأذن فقلت: ائذن له، فدخل فقال: إني كنت
عازماً على ما أعلمتك، ثم ورد علي الخبر بوفاة والدي، وقد عزمت على
الرجوع إلى بلدي، فتأمر لي بالمال الذي أعطيتك أمس.
قال: فورد علي أمر لم يرد علي مثله قط، وتحيرت فلم أدر ما أقول له، ولا
بما أجيبه، وفكرت فقلت: ماذا أقول للرجل؟ ثم قلت: نعم، عافاك الله
تعالى، منزلي هذا ليس بحريز، ولما أخذت مالك وجهت به إلى من هو قبله،
فتعود في غد لتأخذه، فانصرف وبقيت متحيراً ما أعمل؟ إن جحدته قدمني
فاستحلفني، وكانت الفضيحة في الدنيا والآخرة، وإن دافعته صاح وهتكني
وغلظ الأمر علي جداً، وأدركني الليل وفكرت في بكور الخراساني إلي، فلم
يأخذني النوم ولا قدرت على الغمض، فقمت إلى الغلام فقلت له: أسرج
البغلة، فقال: يا مولاي، هذه العتمة بعد، وما مضى من الليل شيء، فإلى
أين تمضي؟
فرجعت إلى
فراشي، فإذا النوم ممتنع، فلم أزل أقوم إلى الغلام وهو يردني حتى فعلت
ذلك ثلاث مرات، وأنا لا يأخذني القرار، وطلع الفجر، فأسرج البغلة
وركبت، وأنا لا أدري أين أتوجه، وطرحت عنان البغلة، وأقبلت أفكر وهي
تسير بي حتى بلغت الجسر فعدلت بي فتركتها فعبرت، ثم قلت: إلى أين أعبر،
وإلى أين أمضي؟ ولكن إن رجعت وجدت الخراساني على بابي، دعها تمضي إلى
حيث شاءت، ومضت البغلة، فلما عبرت الجسر أخذت بي يمنة إلى ناحية دار
المأمون، فتركتها إلى أن قاربت باب المأمون، والدنيا بعد مظلمة، فإذا
بفارس قد تلقاني، فنظر في وجهي، ثم سار وتركني، ثم رجع إلي فقال: ألست
بأبي حسان الزيادي؟ قلت: بلى. قال: أجب الأمير الحسن بن سهل، فقلت في
نفسي: وما يريد الحسن بن سهل مني؟ ثم سرت معه حتى صرنا إلى بابه
فاستأذن لي عليه فأذن لي، فقال: أبا حسان، ما خبرك؟ وكيف حالك؟ ولم
انقطعت عنا؟ فقلت: لأسباب وذهبت لأعتذر. فقال: دع عنك هذا، أنت في لوثة
أو في أمر، فإني رأيتك البارحة في النوم في تخليط كثير، فابتدأت فشرحت
له قصتي من أولها إلى آخرها إلى أن لقيني صاحبه ودخلت عليه، فقال: لا
يغمك يا أبا حسان، قد فرج الله عنك هذه بدرة للخراساني مكان بدرته،
وبدرة أخرى لك تتسع بها، وإذا نفذت أعلمنا. فرجعت من مكاني فقضيت
الخراساني، واتسعت، وفرج الله وله الحمد.
توفي أبو حسان في رجب هذه السنة، وله تسع وثمانون سنة وأشهر، ومات هو
والحسن بن الجعد في وقت واحد، وأبو حسان على الشرقية، والحسن بن علي
على مدينة المنصور.
الخليل بن عمرو، أبو عمرو البغوي. سكن بغداد، وحدث بها عن وكيع بن
الجراح، وعيسى بن يونس.
روى عنه: البغوي، وكان ثقة. وتوفي بها في صفر في هذه السنة.
زكريا بن يحيى بن صالح بن يعقوب أبو يحيى القضاعي الحرسي روى عن المفضل
بن فضالة، ورشدين بن سعد، وعبد الله بن وهب.
كانت القضاة تقبله، وتوفي في شعبان هذه السنة.
الطيب بن إسماعيل بن إبراهيم أبو محمد الذهلي ويعرف بأبي حمدون القصاص،
واللآل، والثقاب.
روى حروف القرآن عن الثقات: الكسائي، ويعقوب الحضرمي.
وحدث عن سفيان بن عيينة وشعيب بن حرب.
روى عنه: أبو العباس بن مسروق وغيره، وكان من الزهاد المخلصين.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا
الجوهري قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أبو الحسين بن المنادي
قال: أبو حمدون الطيب بن إسماعيل من الأخيار الزهاد، المشهورين
بالقراءات، وكان يقصد المواضع التي ليس فيها أحد يقرئ الناس فيقرءهم
حتى إذا حفظوا انتقل إلى آخرين بهذا النعت، وكان يلتقط المنبوذ كثيراً.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرنا
محمد بن عبيد الله الجبائي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن نصير الخلدي
قال: حدثني أبو العباس أحمد بن مسروق قال: سمعت أبا حمدون المقرئ يقول:
صليت ليلة فقرأت فأدغمت حرفاً، فحملتني عيناي، فرأيت كأن نوراً قد تلبب
بي وهو يقول: الله بيني وبينك. قلت: من أنت؟ قال: أنا الحرف الذي
أدغمت، قال: قلت: لا أعود، فانتبهت، فما عدت أدغم حرفاً.
أخبرنا القزاز أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرنا رضوان بن محمد بن
الحسن الدينوري قال: سمعت أبا محمد الحسن بن علي بن صليح يقول: إن أبا
حمدون الطيب بن إسماعيل كف بصره، فقاده قائد له ليدخله المسجد فلما بلغ
إلى المسجد قال له قائده: يا أستاذ، اخلع نعلك. قال: لم يا بني أخلعها؟
قال: لأن فيها أذى، فاغتم أبو حمدون، وكان من عباد الله الصالحين، فرفع
يده ودعا بدعوات ومسح بها وجهه فرد الله عليه بصره ومشى.
القاسم بن عثمان الجوعي. أسند عن سفيان بن عيينة وغيره.
أخبرنا
ابن ناصر قال: أخبرنا حمد بن أحمد قال: أخبرنا أبو نعيم الحافظ قال:
حدثنا عبد الله بن أحمد بن جعفر قال: حدثنا عبد الرحمن بن أحمد حدثنا
يوسف بن أحمد البغدادي قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت
القاسم الجوعي قول: شبع الأولياء بالمحبة عن الجوع ففقدوا لذاذة الطعام
والشراب والشهوات؛ لأنهم تلذذوا بلذة ليس فوقها لذة، فقطعتهم عن كل لذة
وإنما سميت قاسماً الجوعي لأن الله تعالى قواني على الجوع، فلو تركت ما
تركت ولم أوت بالطعام لم أبال، رضت نفسي حتى لو تركت شهراً وما زاد لم
تأكل ولم تشرب ولم تبال، وأنا عنها راض أسوقها حيث شئت، اللهم أنت فعلت
بي ذلك فأتمه علي.
محمد بن أسلم بن سالم بن يزيد أبو الحسن الكندي الطوسي سمع عبدان بن
عثمان، وسعيد بن منصور والحميدي، وقبيصة، ويزيد بن هارون في خلق كثير،
وكان من الصالحين.
قال محمد بن رافع: دخلت على محمد بن أسلم فما شبهته إلا بأصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم، وكان محمد بن أسلم يخدم نفسه وعياله ويستقي الماء
من النهر بالجرار في اليوم البارد، وكان إذا اعتل لم يخبر أحداً بعلته
ولم يتداو.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ قال: أخبرنا حمد بن أحمد الحداد قال:
أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله قال: حدثنا أبي قال: حدثنا خالي أحمد
بن محمد بن يوسف قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن
القاسم قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: لم أسمع بعالم منذ خمسين سنة
كان أشد تمسكاً بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من محمد بن أسلم.
قال أبو عبد الله: وقال لي محمد بن أسلم: يا أبا عبد الله ما لي ولهذا
الخلق كنت في صلب أبي وحدي، ثم صرت في بطن أمي وحدي، ثم دخلت إلى
الدنيا وحدي، ثم تقبض روحي وحدي، فأدخل في قبري وحدي، فيأتيني منكر
ونكير فيسألاني وحدي، فأصير إلى حيث صرت وحدي، وتوضع عملي وذنوبي في
الميزان وحدي، وإن بعثت إلى الجنة بعثت وحدي، وإن بعثت إلى النار بعثت
وحدي، فما لي والناس! قال: وصحبته نيفاً وعشرين سنة لم أره يصلي ركعتي
التطوع إلا يوم الجمعة، ولا يسبح ولا يقرأ حيث أراه، ولم يكن حد أعلم
بسره وعلانيته مني. وسمعته يحلف مراراً: لو قدرت أن تطوع حيث لا يراني
ملكاي فعلت، وكان يدخل بيتاً ويغلق بابه ويدخل معه كوزاً من ماء، فلم
أدر ما يصنع، حتى سمعت ابناً له صغيراً يحكي بكاءه، فنهته أمه، فقلت
لها: ما هذا البكاء؟ فقالت: إن أبا الحسن يدخل هذا البيت فيقرأ القرآن
ويبكي فيسمعه الصبي فيحكيه، وكان إذا أراد أن يخرج غسل وجهه واكتحل،
فلا يرى عليه أثر البكاء، وكان يصل قوماً فيعطيهم ويبرهم ويكسوهم،
فيبعث إليهم ويقول للرسول: انظر لا يعلمون من بعثه إليهم، ويأتيهم هو
بالليل فيذهب به إليهم ويخفي نفسه، فربما بليت ثيابهم ونفذ ما عندهم
ولا يدرون من الذي أعطاهم.
قال: ودخلت عليه يوماً قبل موته بأربعة أيام فقال لي: يا أبا عبد الله،
تعال أبشرك بما صنع الله بأخيك من الخير. قد نزل بي الموت وقد من الله
علي أنه ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه وقد علم ضعفي، وأني لا أطيق
الحساب فلم يدع لي شيئاً يحاسبني عليه ثم قال: أغلق الباب ولا تأذن
لأحد علي حتى أموت، واعلم أني أخرج من الدنيا وليس عندي ميراث غير
كسائي ولبدي وإنائي الذي أتوضأ فيه وكتبي، وكانت معه صرة فيها نحو
ثلاثين درهماً فقال: هذا لابني، أهداه إليه قريب له، ولا أعلم شيئاً
أحل لي منه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنت ومالك لأبيك "
فكفنوني منها، فإن أصبتم لي بعشرة دراهم ما يستر عورتي فلا تشتروا لي
بخمسة عشر، وابسطوا على جنازتي لبدي، وغطوا عليها بكسائي، وتصدقوا
بإنائي، أعطوه مسكيناً يتوضأ فيه، ثم مات في اليوم الرابع وصلى عليه
نحو من ألف ألف تقريباً.
توفي ابن أسلم في هذه السنة، ودفن إلى جانب إسحاق بن راهويه.
محمد بن رمح بن المهاجر، أبو عبد الله التجيبي. حكى عن مالك بن أنس،
وروى عنه: الليث، وابن لهيعة، وهو ثقة ثبت.
توفي في شوال هذه السنة.
هانئ بن المتوكل بن إسحاق بن إبراهيم بن حرملة أبو هاشم الإسكندراني
يروي عن حيوة بن شريح، ومعاوية بن صالح. جاوز المائة.
ثم دخلت
سنة ثلاث وأربعين ومائتين
فمن الحوادث فيها
شخوص
المتوكل إلى دمشق لعشر بقين من ذي القعدة، فضحى ببلد، فقال يزيد بن
محمد المهلبي حين خرج المتوكل:
أظن الشام تشمت بالعراق ... إذا عزم الإمام على انطلاق
فإن تدع العراق وساكنيها ... فقد تبلى المليحة بالطلاق
وحج بالناس في هذه السنة عبد الصمد بن موسى. وحج جعفر بن دينار وهو
والي طريق مكة وأحداث الموسم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن العباس متولي ديوان الضياع. توفي فتولاه الحسن بن مخلد بن
الجراح.
أحمد بن سعيد، أبو عبد الله الرباطي من أهل مرو، سمع وكيع بن الجراح،
وعبد الرزاق بن همام وخلقاً كثيراً.
روى عنه البخاري ومسلم في الصحيحين، وكان ثقة فاضلاً فهماً عالماً من
أهل السنة، وتوفي في هذه السنة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب قال: أخبرنا محمد بن عبد
الله النيسابوري قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ يقول:
سمعت إبراهيم بن أبي طالب يقول: سمعت أحمد بن سعيد الرباطي يقول: قدمت
على أحمد بن حنبل فجعل لا يرفع رأسه إلي، فقلت: يا أبا عبد الله، إنه
يكتب عني بخراسان، فإن عاملتني بهذه المعاملة رموا بحديثي، فقال لي: يا
أحمد، هل بد يوم القيامة من أن يقال: أين عبد الله بن طاهر وأتباعه؟
انظر أين تكون أنت منه؟ قال: قلت: يا أبا عبد الله، إنما هو ولاني أمر
الرباط لذلك دخلت فيه. قال: فجعل يكرر علي: يا أحمد هل بد يوم القيامة
من أن يقال أين عبد الله بن طاهر وأتباعه؟ فانظر أين تكون أنت فيه.
إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول مولى يزيد بن المهلب، أبو إسحاق،
أصله من خراسان.
روى عن علي بن موسى الرضا. وكان من أشعر الكتاب وأرقهم لساناً.
وكان صول جد أبيه وفيروز أخوين تركيين ملكين بجرجان يدينان بالمجوسية،
فلما دخل يزيد بن المهلب جرجان أمنهما، فأسلم صول على يده ولم يزل معه.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا أحمد
بن محمد بن عبد الواحد المروزي قال: حدثنا عبد الله بن محمد المقرئ،
حدثنا أبو بكر محمد بن يحيى الصولي قال: أنشدنا أحمد بن يحيى ثعلب قال:
أنشدنا إبراهيم بن العباس الكاتب لنفسه:
كم قد تجرعت من حزن ومن غصص ... إذا تجدد حزن هون الماضي
وكم غضبت فما باليتم غضبي ... حتى رجعت بقلب ساخط راضي
قال الصولي: كأنه أخذه من قول خاله العباس بن الأحنف:
تعلمت ألوان الرضى خوف عتبها ... وعلمها حبي لها كيف تغضب
ولي غير وجه قد عرفت طريقه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب
توفي إبراهيم في شعبان هذه السنة بسامراء.
أحمد بن عيسى، أبو عبد الله المصري. حدث عن المفضل بن فضالة، ورشدين بن
سعد، وعبد الله بن وهب.
وكان يتجر إلى العراق فتجر إلى تستر، فقيل له: التستري، وسكن العراق،
وتوفي ببغداد في هذه السنة.
حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران، أبو حفص. ولد سنة ست
وستين ومائة، وتوفي في شوال هذه السنة.
الحارث بن أسد، أبو عبد الله المحاسبي. حدث عن يزيد بن هارون، وله كتب
في الزهد والمعاملة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ
الخطيب قال: أخبرنا العتيقي وأحمد بن عمر بن روح النهرواني، وعلي بن
أبي علي بن صادق البصري، والحسن بن علي الجوهري قالوا: أخبرنا الحسين
بن محمد بن عبيد الدقاق قال: سمعت أبا العباس أحمد بن محمد بن مسروق
يقول: سمعت حارثاً المحاسبي يقول: ثلاثة أشياء عزيزة أو معدومة: حسن
الوجه مع الصيانة، وحسن الخلق مع الديانة، وحسن الإخاء مع الأمانة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي أخبرنا أبو نعيم الحافظ
أخبرني جعفر الخلدي في كتابه: سمعت الجنيد يقول: مات أبو الحارث
المحاسبي يوم مات وأن الحارث لمحتاج إلى دانق فضة، وخلف مالاً كثيراً،
وما أخذ منه حبة واحدة، وقال: أهل ملتين لا يتوارثان، وكان أبوه
واقفياً.
قال
المصنف: كان الإمام أحمد بن حنبل ينكر على الحارث المحاسبي خوضه في
الكلام، ويصد الناس عنه، فهجره أحمد فاختفى في داره ببغداد، ومات فيها،
ولم يصل عليه إلا أربعة نفر، وتوفي في هذه السنة.
عبد الصمد بن الفضل بن خالد، أبو بكر الربعي البصري. يعرف بالمراوحي؛
لأنه أول من أحدث عمل المراوح بمصر.
وحدث عن عبد الله بن وهب، وسفيان بن عيينة، ووكيع.
وكان رجلاً صالحاً، توفي بمصر في جمادى الآخرة من هذه السنة.
عقبة بن مكرم، أبو عبد الملك العمي البصري. قدم بغداد، وحدث بها عن
غندر.
روى عنه: مسلم في صحيحه، والبغوي، وابن صاعد، وكان ثقة، توفي بالبصرة
في هذه السنة.
الوليد بن شجاع بن الوليد بن قيس أبو همام السكوني البغدادي كوفي
الأصل. سمع علي بن مسهر، وشريك بن عبد الله، وعبد الله بن المبارك،
وغيرهم.
روى عنه: أبو حاتم الرازي، وعباس الدوري، والبغوي.
توفي في هذه السنة ببغداد.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ قال:
أخبرنا أبو نعيم الحافظ الأصبهاني حدثنا إبراهيم بن عبد الله العدل
الأصبهاني قال: حدثنا السراج - يعني أبا العباس الثقفي - قال: سمعت
محمد بن أحمد ابن بنت معاوية بن عمرو يقول: سمعت أبا يحيى مستملي أبا
همام يقول: رأيت أبا همام في المنام وعلى رأسه قناديل معلقة فقلت: يا
أبا همام، بما نلت هذه القناديل؟ قال: هذا بحديث الخوض، وهذا بحديث
الشفاعة، وهذا بحديث كذا، وهذا بحديث كذا.
هارون بن عبد الله بن مروان أبو موسى البزاز، المعروف بالحمال سمع
سفيان بن عيينة، وسيار بن حاتم، وروح بن عبادة وغيرهم.
روى عنه: مسلم بن الحجاج، وإبراهيم الحربي، والبغوي، وابن صاعد، وكان
حافظاً صدوقاً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
قال: أخبرني عبد الغفار بن محمد المؤدب قال: حدثنا عمر بن أحمد الواعظ
حدثنا أحمد بن محمد بن الفضل المؤذن قال: سمعت هارون بن عبد الله
الحمال يقول: جاءني أحمد بن حنبل بالليل فدق الباب علي، فقلت: من هذا؟
فقال: أنا أحمد، فبادرت إليه فمساني ومسيته، وقلت: حاجة يا أبا عبد
الله؟ قال: نعم، شغلت اليوم قلبي، قلت: بماذا يا أبا عبد الله؟ قال:
جزت عليك اليوم وأنت قاعد تحدث الناس في الفيء، والناس في الشمس
بأيديهم الأقلام والدفاتر، لا تفعل ذلك مرة أخرى. إذا قعدت فاقعد مع
الناس.
توفي هارون في شوال هذه السنة، وقيل: سنة ثمان وأربعين، ولا يصح.
هناد بن السري، أبو السري الدرامي الكوفي. سمع أبا الأحوص، ووكيعاً
وخلقاً كثيراً.
أخبرنا زاهر بن طاهر قال: خبرنا أبو بكر البيهقي قال: أخبرنا الحاكم
أبو عبد الله قال: حدثنا محمد بن إبراهيم الهاشمي قال: حدثنا أحمد بن
سلمة قال: كان هناد بن السري كثير البكاء، وكنت عنده ذات يوم في مسجده،
فلما فرغ من القراءة عاد إلى منزله فتوضأ وانصرف إلى المسجد، وقام على
رجليه فصلى إلى الزوال، ثم رجع إلى منزله فتوضأ وانصرف إلى المسجد،
فصلى بنا الظهر، ثم قام على رجليه يصلي العصر يرفع صوته بالقرآن ويبكي
كثيراً ويصلي إلى العصر، ثم صلى بنا العصر، وجاء إلى المسجد فجعل يقرأ
القرآن إلى الليل، فصليت معه صلاة المغرب، وقلت لبعض جيرانه: ما أصبره
على العبادة فقالوا: هذه عبادته بالنهار منذ سبعين عاماً، فكيف لو رأيت
عبادته بالليل؟ ! وما تزوج قط، ولا تسرى قط، وكان يقال له: عابد
الكوفة.
أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا محمد بن علي بن ميمون قال: أخبرنا أبو
أحمد عبد الوهاب بن محمد الغندجاني، أخبرنا ابن عبدان، حدثنا محمد سهل،
حدثنا البخاري قال: مات هناد بن السري يوم الأربعاء آخر يوم من شهر
ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين ومائتين.
يعقوب بن إسحاق السكيت، أبو يوسف النحوي اللغوي. صاحب كتاب إصلاح
المنطق، وأبوه هو المعروف بالسكيت.
كان من أهل الفضل والدين والثقة، وكان يؤدب الصبيان في أول أمره، ثم
ترقى إلى أن صار يؤدب ولد المتوكل على الله.
وروى عن أبي عمرو الشيباني، وحدث عنه: أبو سعيد السكري.
وكان المبرد يقول: ما رأيت للبغداديين كتاباً أحسن من كتاب يعقوب بن
السكيت في المنطق.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب
حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن علي الرقي، حدثنا أبو أحمد بن عبد الله
بن محمد بن أحمد المقرئ، حدثنا أبو بكر الصولي، حدثنا الحسن بن الحسين
الأزدي قال: حدثني أبو الحسن الطوسي قال: كنا في مجلس اللحياني. فقال
يوماً: تقول العرب " مثقل استعان بذقنه " يريدون الجمل، فقام غليه ابن
السيكت، - وهو حدث - فقال: يا أبا الحسين إنما هو تقول العرب: " مثقل
استعان بدفيه " ، يريدون الجمل إذا نهض بالحمل استعان بجنبيه، فقطع
الإملاء، فلما كان في المجلس الثاني أملى فقال: تقول العرب " هو جاري
مكاشري " ، فقام إليه ابن السكيت فقال: أعزك الله، وما معنى مكاشري؟
إنما هو مكاسري؛ كسر بيتي إلى كير بيته. قال: فقطع اللحياني الإملاء،
فما أملى بعد ذلك شيئاً.
توفي يعقوب بن السكيت في رجب هذه السنة، وقيل: في سنة أربع. وقيل: سنة
ست وأربعين ومائتين، وقد بلغ ثمانياً وخمسين.
هذان البيتان لابن السكيت:
ومن الناس من يحبك حباً ... ظاهر الحب ليس بالتقصير
فإذا ما سألته عشر فلس ... الحق الحب باللطيف الخبير
يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن بن سمعان التميمي من ولد أكثم بن صيفي،
يكنى أبا محمد. سمع عبد الله بن المبارك، والفضل بن موسى الشيباني،
وجرير بن عبد الحميد، وابن إدريس، وابن عيينة، والدراوردي، وعيسى بن
يونس، ووكيع بن الجراح في آخرين.
وروى عنه: علي بن المديني، والبخاري وغيرهما. وكان عالماً بالفقه
بصيراً بالأحكام، ذا فنون من العلوم، فعرف المأمون فضله، فلم يتقدمه
عنده أحد، فولاه القضاء ببغداد، وقلده قضاء القضاة وتدبير أهل مملكته،
فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئاً إلا بعد مطالعة يحيى بن
أكثم لا يعلم أحد غلب على سلطانه في زمانه إلا يحيى بن أكثم وابن أبي
دؤاد. أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا الجوهري قال: أخبرن طلحة بن محمد الشاهد قال: حدثنا أبو بكر
الصولي قال: حدثنا الكديمي قال: حدثنا علي بن المديني. قال: خرج سفيان
بن عيينة إلى أصحاب الحديث وهو ضجر. فقال: أليس من الشقاء أن أكون
جالست ضمرة بن سعيد، وجالس عبد الله بن دينار، وجالس ابن عمر، وجالست
الزهري، وجالس أني بن مالك. وعدد جماعة، ثم أنا أجالسكم! فقال له حدث
في المجلس: أتتصف يا أبا محمد؟ قال: إن شاء الله. قال له: والله لشقاء
من جالس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بك أشد شقاء منك بنا،
فأطرق، وتمثل بشعر أبي نواس:
خل جنبيك لزام ... وامض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام
فسأل من الحدث؟ فقالوا: يحيى بن أكثم. فقال سفيان: هذا الغلام يصلح
لصحبة هؤلاء يعني السلطان.
أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أحمد بن ثابت الخطيب أخبرنا الحسن بن
محمد أبي بكر قال: ذكر أبو علي عيسى بن محمد الطوماري: أنه سمع أبا
حازم، القاضي يقول: سمعت أبي يقول: ولي يحيى بن أكثم القاضي البصرة
وسنه عشرون سنة أو نحوها قال: فاستصغره أهل البصرة، فقال له أحدهم: كم
سن القاضي؟ قال: فعلم أنه قد استصغره، فقال له: أنا أكبر من عتاب بن
أسيد الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً على مكة يوم الفتح،
وأنا أكبر من معاذ بن جبل حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً
على أهل اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن الخطاب
قاضياً على أهل البصرة.
قال: وبقي سنة لا يقبل بها شاهداً، قال: فتقدم إليه أبي، وكان أحد
الأمناء، وقال له: أيها القاضي، قد وقفت الأمور وتريثت، قال: وما السبب
في ذلك؟ قال: في ترك القاضي قبول الشهود، قال: فأجاز في ذلك اليوم
شهادة سبعين شاهداً.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ قال: أخبرنا القاضي أبو
عبد الله الحسين بن علي أخبرني الصيمري، حدثنا المرزباني، أخبرني
الصولي، أخبرنا أبو العيناء حدثنا أحمد بن أبي دؤاد.
قال
الصولي: وحدثنا محمد بن موسى بن داود، حدثنا المشرق بن سعيد حدثنا محمد
بن منصور - واللفظ لأبي العيناء - قال: كنا مع المأمون في طريق الشام،
فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال لنا يحيى بن أكثم: بكرا غداً عليه، فإن
رأيتما للقول وجهاً فقولا، وإلا فأمسكا إلى أن أدخل. قال: فدخلنا إليه
وهو يستاك - وهو مغتاط - ويقول: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وعلى عهد أبي بكر، وأنا أنهى عنهما، ومن أنت يا أحول
حتى تنهى عما فعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأمسكنا وجاء يحيى، فجلس
وجلسنا، فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيراً؟ قال: هو غم يا أمير
المؤمنين لما حدث في الإسلام، قال: وما حدث في الإسلام؟ قال: النداء
بتحليل الزنا، قال: الزنا؟ قال: نعم، المتعة الزنا، قال: ومن أين قلت
هذا؟ قال: من كتاب الله عز وجل، وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم. قال
الله تعالى: " قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون " إلى قوله:
" والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم
غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " .
يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا! قال: فهي الزوجة التي
عند الله ترث وتورث ويلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا. قال: فقد صار
متجاوز هذين من العادين.
وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبيد الله والحسين ابني محمد بن
الحنفية عن أبيهما محمد بن علي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي بالنهي عن المتعة
وتحريمها، بعد أن كان أمر بها، فالتفت إلينا المأمون، قال: أتحفظون هذا
من حديث الزهري؟ فقلنا: نعم يا أمير المؤمنين، رواه جماعة منهم مالك.
فقال: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة، فنادوا بتحريمها.
قال الصولي: فسمعت إسماعيل بن إسحاق يقول - وقد ذكر يحيى بن أكثم -
فعظم أمره وقال: كان له يوم في الإسلام لم يكن لأحد مثله، وذكر مثل هذا
اليوم، فقال له رجل: فما كان يقال؟ قال: معاذ الله أن تزول عدالة مثله
بتكذيب باغ وحاسد، وكانت كتبه في الفقه أجل كتب، فتركها الناس لطولها.
قال المصنف رحمه الله: لما استخلف المتوكل صير يحيى في مرتبة أحمد بن
أبي دؤاد وخلع عليه خمس خلع، ثم عزل بجعفر بن عبد الواحد، وغضب عليه
المتوكل، فأمر بقبض أملاكه، ثم دخل مدينة السلام، وأمره بأن يلزم
منزله.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني عبيد الله بن أبي
الفتح الفارسي قال: حدثنا محمد بن الحسن بن المأمون قال: حدثنا أبو بكر
الأنباري قال: حدثني محمد بن المرزبان قال: حدثني علي بن مسلم الكاتب
قال: دخل على يحيى بن أكثم ابنا مسعدة - وكانا على نهاية من الجمال -
فلما رآهما يمشيان في الصحن أنشأ يقول:
يا زائرينا من الخيام ... حياكما الله بالسلام
لم تأتياني وبي نهوض ... إلى حلال ولا حرام
يحزنني أن وقفتما بي ... وليس عندي سوى الكلام
ثم أجلسهما بين يديه، وجعل يمازحهما حتى انصرفا.
قال أبو بكر بن الأنباري: وسمع غير واحد من شيوخنا يحكي أن يحيى عزل عن
الحكم بسبب هذه الأبيات التي أنشدها لما دخل عليه ابنا مسعدة.
قال المصنف: وقد كان يعرف بهذا الفن، وشاع عنه، ولعله قد كان يرى النظر
فحسب، وإن كان حراماً قبيحاً.
وقد ذكر ذلك للإمام أحمد رضي الله، فقال: سبحان الله، من يقول هذا! ! ؟
وأنكره أشد إنكار.
أخبرنا
القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرنا الحسن بن محمد بن
الحسن أخو الخلال قال: أخبرنا إبراهيم بن عبد الله المالكي قال: حدثنا
أبو إسحاق الهجيمي قال: سمعت أبا العيناء يقول: تولى يحيى بن أكثم
ديوان الصدقات على الأضراء فلم يعطهم شيئاً فطالبوه وطالبوه، فلم
يعطهم، فانصرفوا، ثم اجتمعوا وطالبوه فلم يعطهم، فلما انصرف من جامع
الرصافة من مجلس القضاء سألوه وطالبوه فقال: ليس لكم عندي ولا عند أمير
المؤمنين شيء فقالوا: إن وقفنا معك إلى غد ألا تزيدنا على هذا القول؟
قال: لا. فقالوا: لا تفعل يا أبا سعيد! فقال: الحبس الحبس. فأمر بهم
فحبسوا جميعاً، فلما كان الليل ضجوا، فقال المأمون: ما هذا؟ فقالوا:
الأضراء حبسهم يحيى بن أكثم. فقال: لم حبسهم؟ فقالوا: كنوه فحبسهم
فدعاه فقال له: الأضراء حبستهم على أن كنوك! فقال: يا أمير المؤمنين لم
أحبسهم على ذلك، إنما حبستهم على التعريض، قالوا لي: يا أبا سعيد
يعرضون بشيخ لائط في الخريبة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ، أخبرني
الأزهري، حدثني محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال:
حدثني أبو العباس أحمد بن يعقوب قال: كان يحيى بن أكثم يحسد حسداً
شديداً، وكان مفتناً، وكان إذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث،
وإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو، وإذا رآه يعلم النحو سأله عن
الكلام، ليقطعه ويخجله، فدخل إليه رجل من أهل خراسان ذكي حافظ، فناظره
فرآه مفتناً، فقال له: نظرت في الحديث؟ قال: نعم! قال: فما تحفظ من
الأصول؟ قال: أحفظ عن، شريك، عن أبي إسحاق، عن الحارث: أن علياً رضي
الله عنه رجم لوطياً، فأمسك فلم يكلمه.
أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزاز أخبرنا أبو الحسين بن المهتدي أخبرنا
أبو الفضل محمد بن الحسن بن المأمون حدثنا أبو بكر الأنباري حدثنا محمد
بن المرزبان حدثنا أبو الحسن بن المقدام قال: استعدى ابن أبي عمار بن
أبي الخطيب يحيى بن أكثم على ورثة أبيه، وكان بارع الجمال، فقال: أيها
القاضي أعدني عليهم، قال: فمن يعديني أنا على عينيك؟ قال: فهربت به أمه
إلى بغداد، فقال لها وقد تقدمت إليه: والله لا أنفذت لكم حكماً أو
ترديه فهو أولى بالمطالبة منك.
قال ابن المرزبان: وحدثني محمد بن نصر قال: حدثنا أحمد بن يونس الضبي
قال: كان زيدان الكاتب يكتب بين يدي يحيى بن أكثم القاضي، وكان جميلاً
متناهي الجمال، فقرص القاضي خده، فخجل واستحيى، فطرح القلم من يده،
فقال له يحيى: اكتب ما أملي عليك، ثم قال:
أيا قمراً جمشته فتغضبا ... وأصيح لي من تيهه متجنبا
إذا كنت للتجميش والعشق كارهاً ... فكن أبداً يا سيدي متنقبا
ولا تظهر الأصداغ للناس فتنة ... وتجعل منها فوق خديك عقربا
فتقتل مشتاقاً وتفتن ناسكاً ... وتترك قاضي المسلمين معذبا
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو
يعلى أحمد بن عبد الواحد الوكيل قال: أخبرنا إسماعيل بن سعيد المعدل
قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثني أبو الحسن بن المأمون
قال: قال المأمون ليحيى بن أكثم: من الذي يقول:
قاض يرى الحد في الزنا ولا ... يرى على من يلوط من بأسد
قال: أو ما يعرف أمير المؤمنين من قاله؟ قال: لا، قال: يقوله الفاجر
أحمد بن أبي نعيم الذي يقول:
أميرنا يرتشي وحاكمنا ... يلوط والرأس شر ما رأس
لا أحسب الجور ينقضي وعلى ... الأمة وال من آل عباس
قال: فأفحم المأمون وسكت خجلاً، وقال: ينبغي أن ينفى أحمد بن أبي نعيم
إلى السند.
قال المصنف: وقد تكلم المحدثون في يحيى بن أكثم، فقال أبو عاصم، ويحيى
بن معين: يحيى بن أكثم كذاب.
وقال إسحاق بن راهويه: هو دجال.
وقال أبو علي صالح بن محمد البغدادي: كان يحدث عن عبد الله بن إدريس
أحاديث لم نسمعها.
وقال أبو الفتح الأزدي: روى عن الثقات عجائب لا يتابع عليها.
قال
المصنف: كان يحيى بن أكثم قد خرج إلى مكة وعزم على المجاورة، فبلغه أن
المتوكل قد صلح قلبه له، فرجع يريد العراق، فلما وصل إلى الربذة توفي
بها، ودفن هناك في هذه السنة. وقيل: سنة اثنتين، وهو ابن ثلاث وثمانين
سنة.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ قال: أخبرنا محمد بن
الحسين بن سليمان المعدل قال: أخبرنا أبو الفضل الزهري قال: حدثنا أحمد
بن محمد الزعفراني قال: حدثنا أبو العباس بن واصل قال: سمعت محمد بن
عبد الرحمن الصيرفي قال: رأى جار لنا يحيى بن أكثم بعد موته في منامه،
فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: وقفت بين يديه فقال لي سوءة لك يا شيخ،
فقلت: يا رب، إن رسولك صلى الله عليه وسلم قال: " إنك لتستحي من أبناء
الثمانين أن تعذبهم " وأنا ابن ثمانين أسير الله في الأرض، فقال لي:
صدق رسولي، قد عفوت عنك.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرنا القاضي أبو
العلاء الواسطي قال: حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد المفيد قال: حدثنا عمر
بن سعد بن سنان قال: حدثنا محمد بن سلم الخواص قال: رأيت يحيى بن أكثم
القاضي في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال لي: وقفني بين يديه
وقال لي: يا شيخ السوء، لولا شيبتك لأحرقنك بالنار، فأخذني ما يأخذ
العبد بيد يدي مولاه، فلما أفقت قال لي: يا شيخ السوء، لولا شيبتك
لأحرقنك بالنار، فلما أفقت قلت: يا رب، ما هكذا حدثت عنك، فقال الله
تعالى: وما حدثت عني - وهو أعلم بذلك - قلت: حدثني عبد الرزاق بن همام،
حدثنا معمر بن راشد، عن ابن شهاب الزهري، عن أنس بن مالك، عن نبيك صلى
الله عليه وسلم، عن جبريل عنك يا عظيم أنك قلت: " ما شاب لي عبد في
الإسلام شيبة إلا استحييت منه أن أعذبه بالنار " . فقال الله عز وجل:
صدق عبد الرزاق، وصدق معمر، وصدق الزهري، وصدق أنس، وصدق نبيي، وصدق
جبريل، وأنا قلت ذلك انطلقوا به إلى الجنة.
ثم دخلت
سنة أربع وأربعين ومائتين
فمن الحوادث فيها: دخول المتوكل دمشق في صفر، وعزم على المقام بها،
ونقل دواوين الملك إليها، فأمر بالبناء بها فتحرك الأتراك في أرزاقهم
وعيالاتهم، فأمر لهم بما أرضاهم.
ثم استوبأ البلد، وذلك أن الهواء فيها بارد ندي والماء ثقيل، والريح
تهب فيها مع العصر، ولا يزال يشتد حتى يمضي عامة الليل، وهي كثيرة
البراغيث، ثم غلت بها الأسعار، وحالت الثلوج بين السابلة والميرة فأقام
شهرين وأياماً، ورجع إلى سامراء، فدخلها يوم الاثنين لسبع بقين من
جمادى الآخرة.
وفيها: وجه المتوكل بغا من دمشق إلى غزو الروم في ربيع الآخر، فغزا
الصائفة وافتتح صملة.
وفيها: أتي المتوكل بحربة كانت للنبي صلى الله عليه وسلم تسمى العنزة.
ذكر أنها كانت للنجاشي ملك الحبشة، فوهبها للزبير بن العوام، فأهداها
الزبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يمشي بها بين يدي رسول
الله صلى الله عليه وسلم في العيدين وتركز بين يديه في الفضاء فيصلي
إليها، فأمر المتوكل صاحب الشرطة بحملها بين يديه، وأمر خليفة صاحب
الشرطة أن يحمل حربته.
وفيها: غضب المتوكل على بختيشوع وقبض ماله ونفاه إلى البحرين، لأجل
سعاية كانت معه.
وفيها: اتفق عيد الأضحى، وعيد الشعانين، وعيد الفطر لليهود.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن عبد الله بن حاتم، أبو إسحاق الهروي. سمع عبد الرحمن بن أبي
الزناد، وعبد العزيز الدراوردي، وإسماعيل بن علية، وهشيم بن بشير،
وغيرهم.
روى عنه ابن أبي الدنيا، والمعمري، وجعفر الفريابي.
قال الدارقطني: هو ثقة ثبت.
وقال إبراهيم الحربي: كان حافظاً متقناً ثقة، ما كان ها هنا أحد مثله،
وكان يديم الصيام إلى أن يأتيه أحد يدعوه إلى طعامه فيفطره، وكان
أكولاً، يقال: إنه كان يأكل حملاً وحده.
توفي في رمضان هذه السنة بسامراء.
أحمد بن منيع بن عبد الرحمن أبو جعفر الأصم مروزي الأصل، وهو جد أبي
القاسم البغوي لأمه.
ولد سنة ستين ومائة. وسمع من هشيم بن بشير، وعبد الله بن المبارك،
وسفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون وغيرهم.
وكان ثقة، روى عنه: البخاري، ومسلم، وكان يختم القرآن في كل ثلاث.
وتوفي في شوال هذه السنة.
إسحاق بن موسى بن عبد الله. أبو موسى الأنصاري الخطمي.
مديني
الأصل كوفي الدار.
حدث عن سفيان بن عيينة، وكان ثقة، توفي بحمص في هذه السنة.
الحسن بن حريث بن الحسن بن ثابت، أبو عمار. مولى عمران بن حصين، مروزي،
قدم بغداد، وحدث بها عن عبد العزيز بن أبي حازم، وابن المبارك.
وروى عنه: البخاري، ومسلم، والبغوي، وابن صاعد. قال النسائي: هو ثقة.
توفي في منصرفه من الحج في هذه السنة.
حماد بن إسماعيل بن إبراهيم الأسدي المعروف بابن علية حدث عن أبيه،
ووهب بن جرير، وكان ثقة. توفي في هذه السنة.
سعيد بن يعقوب، أبو بكر الطالقاني. سمع حماد بن زيد، وإسماعيل بن عياش،
وابن المبارك، وهشيماً والنضر بن شميل.
روى عنه: أبو زرعة وقال: كان ثقة، وكان يدخل إلى أحمد بن حنبل فيذاكره
الحديث. توفي في هذه السنة.
عيسى بن المساور الجوهري. حدث عن الوليد بن مسلم، وسويد بن عبد العزيز.
روى عنه: القاسم بن زكريا المطرز، وكان ثقة، توفي في هذه السنة.
علي بن حجر بن إياس بن مقاتل بن مخادش أبو الحسن السعدي ولد سنة أربع
وخمسين ومائة.
وسمع إسماعيل بن جعفر، وفرج بن فضالة، وشريك بن عبد الله وعلي بن مسهر،
وسفيان بن عيينة وغيرهم.
روى عنه: البخاري، ومسلم في الصحيحين، وكان يسكن بغداد قديماً، ثم رحل
إلى نيسابور، ثم عاد إلى مرو، فنزلها ونسب إليها، وانتشر حديثه بها،
وبها مات في جمادى الأولى من هذه السنة، وكان فاضلاً حافظاً متقناً
ثبتاً ثقة.
حدثنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن
علي بن محمد الأصبهاني قال: سمعت أبا النضر محمد بن أحمد بن العباس
يقول: سمعت القاسم بن أبي صالح يقول: سمعت أبا حاتم الرازي يقول: سمعت
ابن أورمة الأصبهاني الحافظ يقول: كتب علي بن حجر السعدي إلى بعض
إخوانه:
أحن إلى عتابك غير أني ... أجلك عن عتاب في كتاب
ونحن إذا التقينا قبل موت ... شفيت عليل صدري من عتاب
وإن سبقت بنا ذات المنايا ... فكم من عاتب تحت التراب
محمد بن أبي العتاهية، أبو عبد الله الشاعر كان يلقب عتاهية، وكان
ناسكاً، وحذا حذو أبيه في الزهد.
وحدث عن هشام بن محمد الكلبي. روى عنه: ابن أبي الدنيا وغيره.
ومن شعره:
قد أفلح الساكت الصموت ... كلام راعي الكلام قوت
ما كل نطق له جواب ... جواب ما تكره السكوت
يا عجبي لامرئ ظلوم ... مستيقن أنه يموت
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرني
أبو القاسم الأزهري قال: حدثنا عمر بن أحمد الواعظ قال: حدثنا عبد الله
بن محمد بن إسحاق المروزي قال: حدثنا ابن أبي الدنيا قال: أنشدني ابن
أبي العتاهية:
لربما غوفض ذي شرة ... أصح ما كان ولم يسقم
يا واضع الميت في قبره ... خاطبك اللحد ولم تفهم
محمد بن إسحاق بن حرب أبو عبد الله اللؤلؤي السهمي مولاهم من أهل بلخ،
ويعرف بابن أبي يعقوب.
كان حافظاً للعلوم من الحديث والأدب.
وحدث عن: مالك، وخارجة بن مصعب، وبشر بن السري، وغيرهم.
روى عنه: أبو بكر بن أبي الدنيا، وغيره، إلا أنه لم يكن يوثق في علمه،
وكان قتيبة يذكره بأسوأ الذكر، ويقول: حدثت أنه شتم أم المؤمنين، وذاكر
ابن الشاذكوني بأشياء فقال ابن الشاذكوني: ليس من هذا شيء، توفي في هذه
السنة.
محمد بن أبان بن وزير، أبو بكر البلخي مستملي وكيع. قدم بغداد، وحدث
بها عن: أبي بكر بن عياش، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن إدريس، ووكيع
وغيرهم.
وروى عنه: البخاري في صحيحه، وتوفي في محرم هذه السنة.
محمد بن أسد، أبو عبد الله الخراساني، يعرف بالخشني. نسب إلى قرية من
قرى أسفرايين.
سمع ابن المبارك، والفضيل بن عياض، وسفيان بن عيينة، ووكيعاً، وغيرهم.
روى عنه خلق كثير، إلا أن إبراهيم الحربي سماه: أحمد، وكان ثقة له فهم.
ثم دخلت
سنة خمس وأربعين ومائتين
فمن الحوادث فيها:
أن
المتوكل أمر ببناء المدينة التي بناها بالماحوزة، فأقطع أصحابه وقواده
فيها، وجد في بنائها، وسماها الجعفرية، أنفق عليها ألفي ألف دينار،
وبنى بها قصراً سماه اللؤلؤة، لم ير في علوه مثل، وأمر بحفر نهر يأخذه
من خمس فراسخ، قدر له مائتي ألف دينار، وأقام فيه اثني عشر ألف رجل
يعملون، فقتل المتوكل، وخربت الجعفرية، ولم يتم النهر.
وفي هذه السنة: بعث ملك الروم ميخائيل يسأل المفاداة بمن عنده، وبعث مع
الرسول سبعة وسبعين أسيراً من المسلمين أهداهم إلى المتوكل، وكان
قدومهم لخمس بقين من صفر، ولم يقع الفداء إلا في سنة ست وأربعين.
وفي هذه السنة: زلزلت بلاد المغرب حتى تهدمت الحصون والمنازل والقناطر،
فأمر المتوكل بتفرقة ثلاثة آلاف ألف درهم في الذين أصيبوا بمنازلهم.
وفيها: زلزلت المدائن.
وفي شوال: كانت زلزلة ورجفة بأنطاكية، فقتلت خلقاً، وسقط منها ألف
وخمسمائة دار، وسقط من سورها نيف وتسعون برجاً، وسمعوا أصواتاً هائلة
لا يحسنون وصفها من كوى المنازل، وهرب أهلها إلى الصحارى، وتقطع جبلها
الأقرع، وسقط في البحر، فهاج البحر، فارتفع منه دخان أسود مظلم.
وسمع أهل تنيس من مصر ضجة هائلة، فمات منها خلق كثير.
وزلزلت: بالس، والرقة، وحران، ورأس العين، وحمص، ودمشق، والرها،
وطرطوس، والمصيصة، وأدنة، وسواحل الشام. ورجفت اللاذقية فما بقي فيها
منزل، ولا أفلت من أهلها إلا اليسير، وذهبت جبلة بأهلها.
وفيها: غارت مشاش عين مكة، حتى بلغت القربة فيها ثمانين درهماً، فبعثت
أم المتوكل فأنفقت عليها.
وفيها: هلك نجاح بن سلمة؛ وذلك أنه كان يتتبع العمال وكتب رقعة إلى
المتوكل في الحسن بن مخلد، وموسى بن عبد الملك أنهما قد خانا، وأنه
يستخرج منهما أربعين ألف ألف درهم فقال له المتوكل: بكر إلي غداً حتى
أدفعهما إليك، فغدا وقد رتب أصحابه، وقال: يا فلان خذ أنت الحسن، ويا
فلان خذ أنت موسى، وكانا منقطعين إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير
المتوكل، فأمر عبيد الله أن يحجب نجاح عن المتوكل، فلقيه الوزير، وقال:
أنا أصلح ما بينك وبينهما، وتكتب رقعة تذكر فيها أنك كنت شارباً،
فتكلمت بأشياء، فلم يزل يخدعه حتى كتب رقعة، فأدخلها على المتوكل،
وقال: يا أمير المؤمنين: قد رجع نجاح عما قال، وهذه رقعة موسى والحسن
يتقابلان بما كتبا ويأخذان منه قريباً مما ضمن عنهما.
فقال: ادفعه إليهما، فأخذ وابناه وكاتبه وأصحابه، فأقر نجاح وابنه بنحو
مائة وأربعين ألف دينار، وضرب فمات، وضرب أولاده وأصحابه فأقروا بنحو
تسعين ألف دينار، فقال الشاعر:
ما كان يخشى نجاح صولة الزمن ... حتى أديل لموسى منه والحسن
غدا على نعم الأحرار يسلبها ... فراح صفراً سليب المال والبدن
وفيها: أغارت الروم على سميساط فقتلوا وسبوا نحواً من خمسمائة.
وغزا علي بن يحيى الأرمني الصائفة.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن
إبراهيم الإمام وهو والي مكة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسحاق بن أبي إسرائيل واسم أبي إسرائيل: إبراهيم بن كامجر، وكنية
إسحاق: أبو يعقوب، مروزي الأصل.
ولد سنة خمسين ومائة، وقيل: إحدى وخمسين. وسمع من حماد بن زيد، وابن
عيينة وغيرهما.
روى عنه: البخاري، وكان حافظاً ثقة مأموناً، إلا أنه كان يقول: القرآن
كلام الله ويقف، ولا يقول مخلوق ولا غير مخلوق، وكان يقول: لا أقول هذا
على الشك، ولكن أسكت كما سكت القوم قبلي فذموه بسكوته.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا أبو القاسم الأزهري قال: حدثنا عمر بن أحمد الواعظ قال: حدثنا
إسحاق بن محمد بن الفضل بن الزيات قال: حدثنا أحمد بن محمد بن أبي سلم
الرازي قال: حدثنا حفص بن معمر المهرواني قال: رأيت النبي صلى الله
عليه وسلم في النوم واقفاً على إسحاق بن أبي إسرائيل وهو يقول له:
عنيتني إليك من ألف وخمسين فرسخاً، أنت الذي تقف في القرآن؟
أخبرنا
عبد الرحمن قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرني الحسين بن علي
الصيمري قال: حدثنا محمد بن عمران المرزباني قال: أخبرني محمد بن يحيى
الصولي قال: حدثني إبراهيم بن المدبر الكاتب قال: كنا عند المتوكل فدخل
عليه إسحاق بن أبي إسرائيل فقال: يا أمير المؤمنين، حدثنا الفضيل بن
عياض عن هشام بن حسان عن الحسن أنه قال: المصافحة تزيد في المودة، فمد
المتوكل يده حتى صافحه.
توفي إسحاق بسامراء في شعبان هذه السنة.
الحسن بن علي أبو محمد المعروف بالحلواني سمع يزيد بن هارون، وعبد
الرزاق، وابن نمير، وأبا عاصم النبيل، وعفان بن مسلم، وغيرهم روى عنه:
البخاري، ومسلم، والحربي، وأبو داود. وكان ثقة حافظاً متقناً ثبتاً.
وقال بالوقف في القرآن مرة فأعرض عنه الناس، فقال: القرآن كلام الله
غير مخلوق.
سوار بن عبد الله بن سوار بن عبد الله بن قدامة أبو عبد الله العنبري
البصري نزل بغداد، وولي بها قضاء الرصافة في سنة سبع وثلاثين، وحدث عن
أبيه، وعن ابن مهدي، ويحيى بن سعيد، وغيرهم.
روى عنه: عبد الله بن أحمد، وابن صاعد وغيرهما. وكان فقيهاً فصيحاً
أديباً شاعراً ثقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا أحمد بن عمر بن روح قال: أخبرنا المعافى بن زكريا قال: أخبرنا
المظفر بن يحيى بن أحمد قال: حدثنا الحسين بن الفهم قال: حدثني الجرمي
قال: دخلت حماماً في درب الثلج، فإذا سوار بن عبد الله القاضي في البيت
الداخل، وقد استلقى وعليه المئزر، فجلست بقربه فساكتني ساعة، ثم قال:
قد أحشمتني يا رجل، فإما أن تخرج أو أخرج. فقلت: جئت أسألك عن مسألة.
قال: ليس هذا موضع المسائل، فقلت: إنها من مسائل الحمام، فضحك، وقال:
هاتها. فقلت: من الذي يقول:
سلبت عظامي لحمها فتركتها ... عواري مما نالها تتكسر
وأخليت منها مخها فكأنها ... قوارير في أجوافها الريح تصفر
إذا سمعت ذكر الفراق تراعدت ... مفاصلها خوفاً لما تتنظر
خذي بيدي ثم ارفعي الثوب تنظري ... بلى جسدي لكنني أتستر
فقال سوار: أنا والله قلتها، قلت: إنه يغنى بها ويجود، فقال: لو شهد
عندي الذي يغني بها لأجزت شهادته.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ أخبرنا أبو الغنائم محمد بن علي الزينبي
أخبرنا أحمد بن الحسين بن الفضل قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الله
الكاتب قال: حدثنا علي بن عبد الله بن العباس بن المغيرة الجوهري قال:
حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي، حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني محمد بن
سلام قال: كان حماد بن موسى صاحب أمر محمد بن سليمان، والغالب عليه،
فحبس سوار القاضي رجلاً فيما يحبس فيه القضاة، فبعث حماد فأخرج الرجل
من الحبس، فجاء خصمه إلى سوار فأخبره أن حماداً قد أخرج الرجل من
الحبس، فركب سوار حتى دخل على محمد بن سليمان وهو قاعد للناس، والناس
على مراتبهم، فجلس حيث يراه محمد، ثم دعا قائداً من قواده فقال:
أسامع أنت
مطيع؟ قال: نعم. قال: اجلس ها هنا فأقعده عن يمينه، ثم دعا آخر من
نظرائه فقال له كما قال للأول. وأجابه بمثل ما أجاب الأول، فأقعده مع
صاحبه حتى فعل ذلك بجماعة من قواد محمد، ثم قال: انطلقوا إلى حماد بن
موسى فضعوه في الحبس، فنظروا إلى محمد بن سليمان، فأشار عليهم أن
افعلوا ما أمركم به. فانطلقوا إلى حماد فوضعوه في الحبس، وانصرف سوار
إلى منزله، فلما كان العشي أراد محمد بن سليمان الركوب إليه، فجاءته
الرسل فقالوا: إن الأمير قد عزم على الركوب إليك. فقال: لا: نحن أولى
بالركوب إلى الأمير، فركب إليه، فقال: كنت على المجيء إليه يا أبا عبد
الله، فقال: ما كنت لأجشم الأمير ذلك، وبلغني ما يصنع هذا الجاهل حماد.
قال: هو ما بلغ الأمير. قال: فأحب أن تهب لي ذنبه. قال: أفعل أيها
الأمير إن رد الرجل إلى الحبس. قال: نعم بالصغر له والقماء، فوجه الرجل
فحبسه، وأخرج حماداً وكتب صاحب الخبر بذلك إلى الرشيد، فكتب إلى سوار
يجزيه خيراً ويحمده على ما صنع، وكتب إلى محمد بكتاب غليظ يذكر فيه
حماداً ويقول: الرافضي ابن الرافضي، والله لولا أن الوعيد أمام العقوبة
ما أدبته إلا بالسيف ليكون عظة لغيره ونكالاً يفتات على قاضي المسلمين
في رأيه، ويركب هواه لموضعه منك، ويعترض في الأحكام استهانة بأمر الله
تعالى، وإقداماً على أمير المؤمنين، وما ذاك إلا بك وبما أرخيت من
رسنه، وبالله لئن عاد إلى مثلها لتجدني أغضب لدين الله وأنتقم لأوليائه
من أعدائه.
توفي سوار في شوال هذه السنة بعد أن كف بصره.
عبيد الله بن إدريس النرسي، مولى بني ضبة. سكن بغداد، وحدث بها عن ابن
المبارك، وإسماعيل بن عياش.
روى عنه: الدوري، وكان ثقة، توفي في هذه السنة.
عسكر بن الحصين، أبو تراب النخشبي. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال:
أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثنا عبد العزيز بن علي الأزجي قال:
حدثنا علي بن عبد الله الهمذاني قال: حدثنا محمد بن داود قال: سمعت أبا
عبد الله بن الجلاء يقول: قدم أبو تراب النخشبي مرة إلى مكة، فقلت: يا
أستاذ، أين أكلت؟ قال: جئت بفضلك، أكلت أكلة بالبصرة، وأكلة بالنباج،
وأكلة عندكم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا عبيد الله بن أبي الفتح وعمر بن الحسين بن إبراهيم الخفاف قالا:
أخبرنا أبو الفضل عبد الله بن عبد الرحمن الزهري قال: حدثنا أبو الطيب
أحمد بن جعفر الحذاء قال: سمعت أبا علي الحسين بن خيران الفقيه يقول:
مر أبو تراب النخشبي بمزين، فقال له: تحلق رأسي لله عز وجل: فقال له:
اجلس. فجلس، فبينما يحلق رأسه مر به أمير من أهل بلده، فسأل حاشيته،
فقال لهم: أليس هذا أبو تراب؟ قالوا: نعم! فقال: إيش معكم من الدنانير؟
فقال له الرجل من خاصته: معي خريطة فيها ألف دينار، فقال له: إذا قام
أعطها له واعتذر إليه وقل له: لم يكن معنا غير هذه، فجاء الغلام إليه
فقال له: إن الأمير يقرأ عليك السلام وقال لك: ما حضر معنا غير هذه
الدنانير، فقال له: ادفعها إلى المزين فقال له المزين: إيش أعمل بها؟
فقال: خذها فقال: والله لو أنها ألفي دينار ما أخذتها! فقال له أبو
تراب: عد إليه وقل له: إن المزين ما أخذها، خذها أنت فاصرفها في
مهماتك.
أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: أخبرنا أحمد بن
علي المحتسب، أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي: أن أبا تراب توفي في
البادية، قيل: نهشته السباع، سنة خمس وأربعين ومائتين.
عبد الرحمن بن إبراهيم بن عمرو بن ميمون أبو سعيد القرشي الدمشقي يعرف
بدحيم سمع الوليد بن مسلم وخلقاً كثيراً.
روى عنه: البخاري في صحيحه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وكان ثقة.
ولي قضاء الرملة، وقدم بغداد فحدث بها، فروى عنه: عباس الدوري،
والحربي، وكان أحمد ويحيى يجلسان إليه بين يديه، وتوفي في رمضان هذه
السنة بالرملة.
الفضيل بن الصباح، أبو العباس السمسار. سمع هشيماً، وابن عيينة.
روى عنه: البغوي، وكان ثقة من خيار عباد الله.
توفي في رجب هذه السنة.
محمد بن بكير بن واصل، أبو الحسن الحضرمي. سمع شريك بن عبد الله
النخعي، وخالد بن عبد الله الواسطي، وغيرهما.
روى عنه: إبراهيم الحربي. وغيره، وكان ثقة صدوقاً.
محمد بن
حبيب. صاحب كتاب المحبر. بغدادي، حدث عن هشام بن الكلبي، وروى عنه: أبو
سعيد السكري.
ويقال: إن حبيباً اسم أمه لا اسم أبيه. وكان عالماً بالنسب وأخبار
العرب. موثقاً في روايته.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: حدثني
العلاء بن أبي المغيرة الأندلسي قال: حدثنا علي بن بقا الوراق قال:
حدثنا عبد الغني بن سعيد الأزدي قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن
قال: حدثنا أبو طاهر القاضي قال: محمد بن حبيب صاحب كتاب المحبر وحبيب
أمه، وهو ولد ملاعنة.
أخبرنا القزاز أخبرنا أحمد بن علي الحافظ حدثنا الحسن بن أبي بكر
أخبرنا محمد بن الحسن بن مقسم قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى بن
ثعلب قال: حضرت مجلس ابن حبيب فلم يمل، فقلت: ويحك، أمل ما لك؟ فلم
يفعل حتى قمت، وكان والله حافظاً صدوقاً. وكان يعقوب أعلم منه، وكان هو
أحفظ للأنساب والأخبار منه.
وتوفي يوم الاثنين لسبع بقين من ذي الحجة في هذه السنة بسامراء.
محمد بن رافع بن أبي زيد القشيري النيسابوري. شيخ عصره بخراسان رحل إلى
البلاد.
وسمع سفيان بن عيينة، ومعن بن عيسى، وعبد الرزاق، ووكيع بن الجراح،
وأبا معاوية، ويزيد بن هارون، والنضر بن شميل وغيرهم.
أخرج عنه: البخاري، ومسلم في الصحيحين. وكان فوق الثقة، وكان على غاية
في الزهد.
أخبرنا محمد بن ناصر قال: أنبأنا أحمد بن علي بن خلف، أخبرنا الحاكم
أبو عبد الله محمد بن عبد الله قال: سمعت أبا الحسين أحمد بن النضر
الشافعي يقول: سمعت جعفر بن أحمد الحافظ يقول: كنا في مجلس محمد بن
رافع في منزله قعوداً تحت شجرة، وهو مستند إليها يقرأ علينا، وكان إذا
رفع أحد في المجلس صوته أو تبسم قام، فلم يقدر أحد منا على مراجعته.
قال: فوقع ذرق طائر على يدي وقلمي وكتابي، فضحك خادم من خدم طاهر بن
عبد الله وأولاده معنا في المجلس، فنظر ليه محمد بن رافع، فوضع الكتاب
فانتهى ذلك الخبر إلى السلطان، فجاءني الخادم ومعه حمال على ظهره ثلاث
لفاف سامان فقال: والله ما كنت أملك في الوقت شيئاً أحمله إليك غير
هذا، وهو هدية لك، فإن سئلت عني فقل لا أدري من تبسم، فقلت: أفعل، فلما
كان الغداة حملت إلى باب السلطان، فبرأت الخادم مما قيل فيه، وبعت
السامان بثلاثين ديناراً، واستعنت به في الخروج إلى العراق، وبارك الله
لي فيه، ولقيت بالحصري، وما بعت الحصر، ولا باعه أحد من آبائي.
أخبرنا زاهر بن طاهر قال: أخبرنا أبو عثمان الصابوني، وأبو بكر البيهقي
قالا: أخبرنا الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله البيع قال: سمعت
أبا جعفر محمد بن سعيد المذكر يقول: سمعت زكريا بن دلويه يقول: بعث
طاهر بن عبد الله إلى محمد بن رافع بخمسة آلاف درهم على يد رسوله، فدخل
عليه بعد صلاة العصر وهو يأكل الخبز مع الفجل، فوضع الكيس بين يديه
فقال: بعث الأمير طاهر بهذا المال إليك لتنفقه على أهلك، فقال: خذ خذ،
لا أحتاج إليه، فإن الشمس قد طلعت وبلغت رؤوس الحيطان، إنما تغرب بعد
ساعة، وقد جاوزت الثمانين، إلى متى أعيش! فرد المال فلم يقبله، فأخذ
الرسول المال وذهب، فدخل عليه ابنه في الوقت فقال: يا أبه، ليس لنا
الليلة خبز، قال: فبعث ببعض أصحابه خلف الرسول ليرد المال إلى حضرة
صاحبه، فزعاً من أن يذهب ابنه خلف الرسول فيأخذ المال.
قال زكريا: وربما كان يخرج إلينا محمد بن رافع في الشتاء الشاتي وقد
لبس لحافه الذي يلبسه بالليل.
قال الحاكم: وقد دخلت عليه داره، وتبركت بالصلاة في بيته واستندت إلى
الصنوبرة التي كان يستند إليها.
وتوفي في هذه السنة وصلى عليه محمد بن يحيى.
ورؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: بشرني بالروح والراحة.
محمد بن القاسم، أبو الحسن المعروف بماني الموسوس. من أهل مصر. قدم
بغداد في أيام المتوكل، وله شعر مستحسن.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
إسماعيل بن أحمد بن عبد الله النيسابوري قال: أخبرنا حمزة بن علي
الأشروسني حدثنا الحسن بن محمد بن حبيب المذكر قال: أنشدني عبد العزيز
بن محمد بن الفهري، لماني الموسوس:
زعموا أن من تشاغل باللذا ... ت عمن يحبه يتسلى
كذبوا والذي تساق له البد ... ن ومن عاذ بالطواف وصلى
أن نار
الهوى أحر من الجم ... ر على قلب عاشق يتقلى
قال ابن حبيب: وأنشدنا يحيى بن المتمم الدوسي، لماني:
شادن وجهه من البدر أوضا ... بعضه في الكمال يعشق بعضا
بأبي من يزرفن الصدغ بالعن ... بر في خده المورد عرضا؟
إن للورد مثل ورد بخدي ... ك إذا ما قطفته صار غضا
نجاح بن سلمة. قد ذكرنا كيفية هلاكه.
هلال الرأي. كان فقيهاً كبيراً من أهل الرأي، توفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ست وأربعين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن علي بن يحيى الأرمني غزا الصائفة، فأخرج عشرة
آلاف رأس من الدواب والرمك.
وغزا عمر بن عبد الله الأقطع الصائفة، فأخرج سبعة آلاف رأس.
وغزا الفضل بن قارن في عشرين مركباً، فافتتح حصن أنطاكية.
وفيها: تحول المتوكل إلى المدينة التي بناها بالماحوزة فنزلها يوم
عاشوراء، وهو البناء الذي يسمى الحوزي ووهب لمن تولى البناء ألفي ألف
درهم.
وفيها: كان الفداء للمسلمين في صفر، وقيل في جمادى الأولى على يد علي
بن يحيى الأرمني ففودي بألفين وثلاثمائة وسبعة وستين نفساً.
وفيها: مصر أهل بغداد في شعبان، ورمضان واحداً وعشرين يوماً حتى نبت
العشب فوق الأجاجير.
وصلى المتوكل صلاة الفطر بالجعفرية، وصلى عبد الصمد بن موسى في مسجد
جامعها، ولم يصل بسامراء أحد.
وورد الخبر أن سكة ببلخ تنسب إلى الدهاقين مطرت دماً عبيطاً.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن سليمان التنوخي الزينبي.
وحج فيها محمد بن عبد الله بن طاهر، فولي أعمال الموسم، وحمل معه
ثلاثمائة ألف دينار: مائة ألف لأهل مكة، ومائة ألف لأهل المدينة، ومائة
ألف لما أمرت به أم المتوكل من إجراء الماء من عرفات إلى مكة، وأمر
المتوكل أن يقام على المشعر الحرام وسائر المشاعر، الشمع مكان الزيت
والنفط.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن إبراهيم بن كثير بن أفلح أبو عبد الله العبدي، المعروف
بالدورقي أخو يعقوب وفي تسميته بالدورقي قولان: أحدهما: أنه كان
ناسكاً، وكان من تنسك في ذلك الزمان يسمى دورقياً، والثاني: أنه كان
يلبس القلانس الطوال التي تسمى دورقية.
سمع أحمد بن إسماعيل بن علية، ويزيد بن زريع، وهشيم، وابن مهدي، وخلقاً
كثيراً، روى عنه: مسلم بن الحجاج، وابن أبي الدنيا، وغيرهما، وكان ثقة،
صدوقاً.
توفي بالعسكر في شعبان هذه السنة.
إسماعيل بن سعيد، أبو إسحاق الشالنجي. كان يقول بمذهب أهل الرأي، ثم
تركه، وكان أحمد بن حنبل يكاتبه.
توفي بدهقان في هذه السنة.
حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهيب أبو عمرو الأزدي الكوفي الضرير سمع
إسماعيل بن جعفر، وأبا نميلة يحيى بن واضح، وعفان، روى عنه: أبو بكر بن
أبي الدنيا. قال أبو حاتم الرازي: هو صدوق.
توفي في شوال هذه السنة.
دعبل الخزاعي بن علي بن تميم بن زيد بن سليمان بن نهشل بن خداش، أبو
علي الخزاعي وقيل: أبو جعفر وقيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل: محمد لقب
دعبلاً. قال أبو عمر الشيباني: الدعبل البعير المسن. وقال أبو زيد
الأنصاري: الدعبل الناقة التي معها أولادها.
وقيل: إنما لقبته دايته لدعابة كانت فيه، وأرادت ذعبلاً فقلبت الذال
دالاً.
ولد سنة ثمان وأربعين ومائة وله شعر مطبوع لكنه كان كثير الهجاء، قل أن
يسلم منه أحد، وكان من الشيعة الغلاة، فقال قصيدته المعروفة:
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات
وقصد بها علي بن موسى الرضى، فأعطاه عشرة آلاف درهم من الدراهم
المضروبة باسمه، وخلع عليه خلعة من ثيابه، أعطاه بها أهل قم ثلاثين ألف
درهم، فحلف لا يبيعها، فقطعوا عليه الطريق، وأفسدوها فقال لهم: إنها
تراد لله تعالى وهي محرمة عليكم، فدفعوا إليه ثلاثين ألف درهم، فحلف لا
يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون في كفنه، فأعطوه، فكان في أكفانه، وكتب
هذه القصيدة: مدارس آيات على ثوب وأحرم فيه، وأمر أن يجعل في أكفانه.
وكان أكثر زمانه مستتراً لكثرة هجائه، وكان يقول: أنا أحمل خشبتي منذ
خمسين سنة، لا أجد أحداً يصلبني عليها.
وقدم
العراق بالمال الذي أعطاه الرضى، فاشترى منه الشيعة كل درهم بعشرة
دراهم، فصارت معه مائة ألف درهم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا أبو الطيب الطبري قال: حدثني محمد بن يحيى الحنفي قال: قال أبو
كعب الخزاعي: وفد دعبل على عبد الله بن طاهر، فلما وصل إليه قام تلقاء
وجهه وقال:
أتيت مستشفعاً بلا نسب ... إليك لا بحرمة الأدب
فاقض ذمامي فإنني رجل ... غير ملح عليك في الطلب
فانفعل عبد الله، ودخل ووجه إليه برقعة معها ستون ألف درهم وفي الرقعة
بيتان:
أعجلتنا فأتاك أول برنا ... قلاً ولو أخرته لم يقلل
فخذ القليل وكن كمن لم يقبل ... ونكون نحن كأننا لم نفعل
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
الحسن بن أبي بكر قال: قال أبو جعفر أحمد بن يعقوب الأصفهاني، أنشدنا
أبو طالب الدعبلي قال: أنشدنا علي بن الجهم وليست له وجعل يعيدها
ويستحسنها:
لما رأت شيئاً يلوح بمفرقي ... صدت صدود مفارق متجمل
فظللت أطلب وصلها بتذلل ... والشيب يغمزها بأن لا تفعلي
قال أبو طالب: ومن أحسن ما قيل في مثل هذا المعنى قول جدي:
لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
أين الشباب وأية سلكا ... لا أين يطلب ظل بل هلكا
لا تأخذي بظلامتي أحداً ... طرفي وقلبي في دمي اشتركا
توفي دعبل بالطيب في هذه السنة، وقد عاش سبعاً وستين سنة.
ذو النون المصري ابن إبراهيم، أبو الفيض المصري وقيل اسمه: ثوبان وذو
النون لقب، وقيل: اسمه الفيض. أصله من النوبة من قرية من قرى صعيد مصر،
يقال لها: أخميم، فنزل مصر، وكان حكيماً زاهداً واعظاً، وجه إليه
المتوكل، فحمل إلى حضرته بسامراء، حتى رآه وسمع كلامه، ثم انحدر إلى
بغداد، وأقام بها مديدة، ثم انحدر إلى مصر، وأكثر الأسفار.
أسند الحديث عن مالك، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، والفضيل،
وغيرهم.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن حبيب الصيرفي قال: أخبرنا أبو سعد
علي بن أبي صادق قال: أخبرنا أبو عبد الله بن ماكويه قال: حدثنا ابن
محمد بن دادويه قال: سمعت الحسن بن علويه يقول: سمعت يوسف بن الحسين
يقول: لما استأنست بذي النون المصري قلت: أيها الشيخ، ما كان بدو شأنك؟
قال: كنت شاباً صاحب لهو ولعب، ثم تبت وتركت ذاك وخرجت حاجاً إلى بيت
الله الحرام، ومعي بضيعة، فركبت في المركب مع تجار من مصر، وركب معنا
شاب صبيح الوجه، كأن وجهه يشرق، فلما توسطنا البحر فقد صاحب المركب
كيساً فيه مال، فأمر بحبس المركب، ففتش من فيه وأمتعتهم، فلما وصلوا
إلى الشاب ليفتشوه، وثب وثبة من المركب حتى جلس على أمواج البحر، وقام
له الموج على مثال سرير، ونحن ننظر إليه من المركب، ثم قال: يا مولاي
إن هؤلاء اتهموني، وإني أقسم يا حبيب قلبي أن تأمر كل دابة من هذا
المكان أن تخرج رأسها وفي أفواهها جوهر، قال ذو النون: فما تم كلامه
حتى رأينا دواب البحر أمام المركب وحواليه، وقد أخرجت كل رؤوسها، وفي
فم كل واحدة فيها جوهرة مضيئة تتلألأ، ثم وثب الشاب من الموج إلى البحر
وجعل يتبختر على متن الماء ويقول: إياك نعبد وإياك نستعين، حتى غاب عن
بصري، فهذا هو الذي حملني على السياحة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب قال: أخبرنا أبو سعد الماليني إجازة قال: حدثنا الحسين بن رشيق،
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الأخميمي قال: سمعت حيان بن أحمد السهمي
يقول: مات ذو النون المصري بالجيزة، وحمل في مركب حتى عبر به إلى
الفسطاط خوفاً عليه من زحمة الناس على الجسر، ودفن في جانب مقابر أهل
المعافر، وذلك في يوم الاثنين لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة ست
وأربعين ومائتين، وكان والده يقال له: إبراهيم مولى لإسحاق بن محمد
الأنصاري، وكان له أربع بنين ذو النون، وذو الكفل، والهميسع، وعبد
الباري، ولم يكن أحد منهم على طريقة ذي النون، وقيل: توفي ذو النون سنة
خمس، وقيل: سنة ثمان.
سليمان بن أبي شيخ واسم أبي شيخ: منصور بن سليمان، يكنى أبا أيوب
الواسطي.
ولد سنة
إحدى وخمسين ومائة، وسكن بغداد في بركة زلزل، وحدث عن: سفيان بن عيينة،
وعبد الله بن إدريس، وكان عالماً بالنسب، والتواريخ، وأيام الناس
وأخبارهم، وكان صدوقاً ثقة، روى عنه: أحمد أبي خيثمة.
وتوفي في هذه السنة، وكان عمره خمساً وتسعين سنة.
شعيب بن سهل بن كثير، أبو صالح الرازي، ويعرف بشعبوبة. حدث عن الصباح
بن محارب، وولاه المعتصم القضاء وجعل ليه الصلاة بالناس في مسجد
الرصافة يوم الجمع والأعياد، وعلى قضاء القضاة يومئذ أحمد بن أبي دؤاد،
وكان شعيب قد كتب على مسجده: القرآن مخلوق وعزل عن القضاء سنة ثمان
وعشرين ومائتين، وتوفي في هذه السنة.
شجاع أم المتوكل. قال ابن عرفة: كانت من سروات النساء سخاء، وكرماً.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ قال: أخبرنا محفوظ بن أحمد الفقيه قال:
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري قال: حدثنا المعافى بن زكريا
حدثنا محمد بن عمر بن علي الكاتب قال: حدثني حفص بن محمد الكاتب قال:
حدثني أحمد بن الخصيب قبل وزارته قال: كنت كاتباً للسيدة شجاع أم
المتوكل، فإني ذات يوم قاعد في مجلسي في ديواني إذ خرج إلي خادم ومعه
كيس، فقال لي: يا أحمد، إن السيدة أم أمير المؤمنين تقرئك السلام،
وتقول لك: هذه ألف دينار من طيب مالي، خذها وادفعها إلى قوم مستحقين
تكتب لي أنسابهم وأسماءهم ومنازلهم، وكلما جاءنا من هذه الناحية شيء
صرفناه إليهم، فأخذت الكيس وصرت إلى منزلي، ووجهت خلف من أثق به،
فعرفتهم ما أمرت به، وسألتهم أن يسموا لي من يعرفون من أهل الستور
والحاجة، فأسموا لي جماعة، ففرقت فيهم ثلاث مائة دينار، وجاء الليل،
وبقية المال بين يدي، لا أبقيت مستحقاً، وأنا أفكر في سامراء وبعد
أقطارها وتكافؤ أهلها ليس بها مستحق، فمضى من الليل ساعة، وبين يدي بعض
حرمي، وغلقت الدروب، وطاف العسس، وأنا مفكر في أمر الدنانير إذ سمعت
باب الدرب يدق، وسمعت البواب يكلم رجلاً من ورائه، فقلت لبعض من بين
يدي: اعرف الخبر، فعاد إلي وقال لي: بالباب فلان بن فلان العلوي يسأل
الإذن عليك. فقلت: مره بالدخول، وقلت لمن بين يدي من الحرم: كونوا وراء
هذا الستر، فما قصدنا هذا الرجل في هذا الوقت إلا لحاجة، فلما دخل سلم
وجلس، وقال لي: طرقني في هذا الوقت طارق لرسول الله صلى الله عليه وسلم
به اتصال، والله ما عندنا ولا أعددنا ما يعد الناس، فلم يكن في جواري
من أفزع إليه غيرك قال: فدفعت إليه من الدنانير ديناراً، فشكر وانصرف.
قال:
فخرجت ربة المنزل فقالت: يا هذا، تدفع إليك السيدة ألف دينار لتدفعها
إلى مستحق، فترى من أحق من ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما
شكاه إليك؟ قلت لها: إيش السبيل؟ قالت: تدفع الكيس له. فقلت: يا غلام
رده. فرده فحدثته بالحديث، ودفعت الكيس إليه فأخذه وشكر وانصرف، فلما
ولى عني جاءني إبليس فقال: المتوكل وانحرافه عن أهل البيت يدفع إليك
ألف دينار حتى تدفعها إلى مستحقها، وتكتب أسماءهم وأنسابهم ومنازلهم،
فبأي شيء تحتج عليه وقد دفعت إلى علوي سبعمائة دينار؟ وقلت لربة
المنزل: أوقعتيني فيما أكره، فإما سبعمائة دينار، وإما زوال النعمة،
وعرفتها ما خطر بقلبي، فقالت: اتكل على جدهم فقلت: دعي هذا عنك، فقالت:
تتكل على جدهم، فما زالت تردد هذا القول حتى سكت، وقمت إلى فراشي، فما
استثقلت نوماً، إلا وصوت بالباب، فقلت لبعض من يقرب مني: من على الباب،
فمضى وعاد وقال: رسول السيدة يأمرك بالركوب إليها الساعة فخرجت إلى صحن
الدار، والليل بحاله، والنجوم بحالها، وجاء ثان، وثالث، فأدخلتهم وقلت:
في الليل؟ ! فقالوا: لا بد من ذلك، فركبت فلم أصل إلى الجوسق إلا وأنا
في موكب من الرسل، فدخلت الدار، فقبض الخادم على يدي، فأدخلني إلى
الموضع الذي كنت أصل إليه، فوقفني وخرج خادم خاص من داخل، فأخذ بيدي
وقال لي: يا أحمد، إنك تكلم السيدة أم أمير المؤمنين فقف حيث توقف ولا
تتكلم حتى تسأل، فأدخلني في دار لطيفة فيها بيوت عليها ستور مسبلة
وشمعة وسط الدار، فوقفني على باب منها ووقفت لا أتكلم، فصاح بي صائح:
يا أحمد، قلت: لبيك يا أم أمير المؤمنين. فقالت: حساب ألف دينار، بل
حساب سبعمائة دينار وبكت فقلت في نفسي: بلية العلوي أخذ المال ومضى،
ففتح دكاكين المعاملين وغيرهم، فاشترى حوائجه، وتحدث، وكتب به أصحاب
الأخبار، وقد أمر المتوكل بقتلي وهذه تبكي رحمة لي، ثم أمسكت عن
الكلام، وعادت فقالت: يا أحمد حساب ألف دينار، بل حساب سبعمائة دينار،
ثم بكت. فعلت ذلك ثلاث مرات، ثم أمسكت وسألتني عن الحساب فصدقتها، فلما
بلغت إلى ذكر العلوي بكت، وقالت: يا أحمد جزاك الله خيراً وجزى من في
منزلك خيراً، تدري ما كان خيري الليلة؟ فقلت: لا، قالت: كنت نائمة في
فراشي، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول لي: جزاك الله خيراً،
وجزى أحمد بن الخطيب خيراً وجزى من في منزله خيراً فقد فرجتم في هذه
الليلة عن ثلاثة من ولدي، ما كان لهم شيء، خذ هذا الحلي مع هذه الثياب،
وخذ هذه الدنانير فادفعها إلى العلوي، وقل له: نحن نصرف إليك كل ما
جاءنا من هذه الناحية، وخذ هذا الحلي، وهذه الثياب، وهذا المال فادفعه
إلى زوجتك وقل: يا مباركة، جزاك الله خيراً فهذه دلالتك، وهذا خذه أنت
يا أحمد لك ودفعت إلي مالاً وثياباً وخرجت، فحمل ذلك بين يدي، فركبت
منصرفاً إلى منزلي، وكان طريقي على باب العلوي. فقلت: أبدأ به إذ كان
الله تعالى رزقنا هذا على يديه، فدققت الباب، فقيل لي: من هذا؟ فقلت:
أحمد بن الخصيب، فخرج إلي، فقال لي: يا أحمد، هات ما معك. فقلت: بأبي
أنت وأمي، وما يدريك ما معي؟ فقال لي: انصرفت من عندك بما أخذته منك،
ولم يكن عندنا شيء، فعدت إلى بنت عمي فعرفتها، ودفعت إليها المال،
ففرحت وقالت: ما أريد أن تشتري لنا شيئاً ولا آكل أنا شيئاً، ولكن قم
فصل أنت، وادع حتى أؤمن على دعائك، فقمت وصليت ودعوت وأمنت على دعائي،
ووضعت رأسي ونمت، فرأيت جدي عليه السلام في النوم وهو يقول لي: قد
شكرتهم على ما كلن منهم إليك وهم باروك بشيء آخر فاقبله. قال: فدفعت
إليه ما كان معي وانصرفت إلى منزلي، فإذا ربة البيت قلقة قائمة تصلي
وتدعو، فعرفت أني قد جئت معافى، فخرجت إلي فسألتني عن خبري، فحدثتها
الحديث على وجهه. فقالت: ألم أقل لك: اتكل على جدهم، فكيف رأيت ما فعل؟
فدفعت إليها ما كان لها فأخذته.
قال المصنف: قد ذكرنا في سنة ست وثلاثين أن أم المتوكل حجت فشيعها
المتوكل إلى النجف، وفرقت مالاً كثيراً، وكانت امرأة وافرة السماح،
شديدة الرغبة في فعل الخير.
توفيت شجاع بالجعفرية لست خلون من ربيع الآخر من هذه السنة، وصلى عليها
المنتصر، ودفنت عند الجامع، وخلفت من العين خمسة آلاف ألف دينار وخمسين
ألف دينار، ومن الجوهر ما قيمته ألف ألف دينار.
أخبرنا
أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب، أخبرنا باي بن
جعفر، أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران، أخبرنا محمد بن يحيى قال: حدثني
عبد الله بن المعتز حدثني الحسن بن عليل العنزي قال: حدثني بعض أصحابنا
عن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي قال: دخلت على المتوكل لما توفيت أمه،
فعزيته، فقال: يا جعفر، ربما قلت البيت الواحد فإذا جاوزته خلطت وقد
قلت بيتاً:
تذكرت لما فرق الدهر بيننا ... فعزيت نفسي بالنبي محمد
فأجازه بعض من حضر المجلس.
وقلت لها: إن المنايا سبيلنا ... فمن لم يمت في يومه مات في غد
العباس بن عبد العظيم بن إسماعيل بن كيسان أبو الفضل العنبري من أهل
البصرة، سمع يحيى بن سعيد القطان، وابن مهدي، وجالس أحمد بن حنبل، روى
عنه: مسلم، وأبو داود، وكان ثقة مأموناً.
توفي في هذه السنة.
محمد بن حاتم بن سليمان أبو جعفر، وقيل أبو عبد الله الزمي سمع هشيم بن
بشير، وجرير بن عبد الحميد، وغيرهما، روى عنه: أبو حاتم، وأبو عيسى
الترمذي، وغيرهما، ووثقه الدارقطني.
محمد بن سليمان بن حبيب بن جبير أبو جعفر الأسدي، المعروف بلوين سمع
مالك بن أنس، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، وغيرهم، روى عنه: عبد
الله بن أحمد والباغندي، والبغوي في آخرين، وآخر من روى عنه من
البغداديين: ابن صاعد.
وفي سبب تلقيبه بلوين قولان: أحدهما: أنه لقب لقبته به أمه، قاله محمد
بن القاسم الأزدي.
والثاني: أنه كان يبيع الدواب فيقول: هذا الفرس له لوين، فلقب لوين.
قال ابن جرير: ولوين من الثقات عند المحدثين، إلا أن الإمام أحمد أنكر
عليه أنه رفع حديثاً موقوفاً، ولعل ذلك من سوء الحفظ، ولا يظن به أنه
قصد، وعاش مائة وثلاث عشرة سنة.
وتوفي بأدنة، فحمل إلى المصيصة، فدفن بها في هذه السنة، وقيل: في سنة
خمس وأربعين.
يعقوب بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم، أبو يوسف المصري مولى جرير
بن حازم الأزدي.
ولي قضاء بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم بغداد فحدث بها عن
سفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وابن مهدي، روى عنه: أبو بكر بن
بي الدنيا، وعبد الله بن أحمد. وقال أبو حاتم الرازي: هو صدوق.
وتوفي ببلد فارس، وهو يتولى القضاء عليه في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة سبع وأربعين ومائتين
فمن الحوادث فيها: قتل المتوكل وسيأتي ذكره، وخلافة المنتصر بالله.
باب خلافة المنتصر بالله
واسمه محمد بن المتوكل، وقيل: اسمه الزبير، وفي كنيته ثلاثة أقوال: أبو
جعفر، وأبو عبد الله، وأبو العباس.
ولد بسامراء في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين ومائتين، وكان أعين،
وقصيراً، أفنى، أسمر، ضخم الهامة، عظيم البطن، جسيماً، مليح الوجه،
مهيباً، على عينه اليمنى أثر وقع أصابه وهو صغير، وأمه أم ولد، رومية،
يقال لها: حبشية.
بويع المنتصر بالله محمد بن جعفر بالخلافة في صبيحة الليلة التي قتل
فيها المتوكل أبوه، وذلك يوم الأربعاء لأربع خلون من شوال بالجعفرية،
وهو ابن خمس وعشرين سنة، وقيل: أربع وعشرين.
وكان أبوه ولاه العهد بعده فتقدم قبل أخوته المعتز، والمؤيد، وشاع بين
الجند والناس ما جرى من قتل المتوكل، فاجتمع الخلق وتكلموا في أمر
البيعة، فخرج إليهم بعض أصحاب المنتصر، فأبلغهم عن المنتصر ما يحبون،
فأسمعوه، فدخل إلى المنتصر فأبلغه، فخرج بين يديه جماعة من المغاربة،
فصاح بهم: يا كلاب خذوهم، فحملوا على الناس، فدفعوهم، فمات جماعة،
وصالح المنتصر أخويه عن إرثهم من أبيهم على أربعة عشر ألف ألف درهم،
وأشهد عليهم بذلك.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد قال: خبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، أخبرنا علي
بن أبي علي المعدل، أخبرنا محمد بن العباس الخزاز قال: أخبرنا محمد بن
خلف المرزبان قال: حدثني أحمد بن حبيب قال: حدثني علي بن يحيى المنجم
قال: جلس المنتصر في مجلس كان أمر أن يفرش له، وكان في بعض البسط دائرة
كبيرة فيها مثال فرس وعليه راكب، وعلى رأسه تاج وحول الدائرة كتابة
بالفارسية، فلما جلس المنتصر وجلس الندماء، ووقف بين يديه وجوه الموالي
والوقاد، نظر إلى تلك الدائرة وإلى الكتابة التي حولها، فقال لبغا: إيش
هذه الكتابة؟ فقال: لا أعلم يا سيدي، فسأل من حضر من الندماء، فلم يحسن
أحد أن يقرأه، فالتفت إلى وصيف وقال: أحضر لي من يقرأ هذا الكتاب،
فأحضر رجلاً فقرأ الكتابة فقطب، فقال له المنتصر: ما هو؟ فقال: يا أمير
المؤمنين، بعض حماقات الفرس. قال: أخبرني ما هو؟ قال: يا أمير المؤمنين
ليس له معنى، فألح عليه، وغضب قال: يقول: أنا شيرويه بن كسرى بن هرمز،
قتلت أبي فلم أمتع بالملك إلا ستة أشهر، فتغير وجه المنتصر، وقام عن
مجلسه إلى النساء، فلم يملك إلا ستة أشهر.
وفي ذي الحجة من هذه السنة أخرج المنتصر علي بن المعتصم من سامراء إلى
بغداد، ووكل به.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن سليمان الزينبي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
جعفر المتوكل على الله. كان السبب في قتله: أنه أمر بإنشاء كتب بقبض
ضياع وصيف بأصبهان والجبل وإقطاعها الفتح بن خاقان، فكتب الكتب بذلك،
وصارت إلى خاتم، على أن تنفذ يوم الخميس لخمس خلون من شوال، فبلغ ذلك
وصيفاً، وكان المتوكل أراد أن يصلي بالناس آخر جمعة بقيت من رمضان،
فاجتمع الناس واحتشدوا، وخرج بنو هاشم من بغداد لرفع القصص وتكليمه إذا
ركب، فلما أراد الركوب قال له عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان: يا
أمير المؤمنين، قد اجتمع الناس وكثروا، فبعض متظلم، وبعض طالب حاجة،
فإن رأيت أن تأمر بعض ولاة العهد بالصلاة، فعلت، فأمر المنتصر، فلما
نهض المنتصر ليركب قالا: يا أمير المؤمنين، قد رأينا أن تأمر المعتز
بالله لتشرفه بذلك، فقد اجتمع أهل بيته.
فأمر المعتز فركب، وأقام المنتصر في منزله، فلما فرغ المعتز من خطبته
قام عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان فقبلا يديه ورجليه، ثم رجع في
الموكب فدخل على أبيه، فقال داود بن محمد الطوسي: قد والله رأيت الأمين
والمأمون والمعتصم والواثق، فما رأيت رجلاً على المنبر حسن قواماً
وبديهة من المعتز بالله.
وخرج المتوكل يوم الفطر وقد ضرب له المصاف نحو من أربعة أميال، وترجل
الناس بين يديه، فصلى ورجع، فأخذ حفنة من تراب، فوضعها على رأسه، فقيل
له في ذلك، فقال: إني رأيت كثرة هذا الجمع فأحببت أن أتواضع لله عز
وجل.
وأهدت إليه أم ولده ثوباً فقطعه نصفين ورده إليها، وقال: أذكرتني به،
فوالله إن نفسي تحدثني أني لا البسه، ولا أحب أن يلبسه أحد بعدي، ولذلك
شققته، ثم جعل يقول لندمائه: أنا والله مفارقكم عن قليل، وكثر عبثه
بابنه المنتصر تارة يشتمه، وتارة يتهدده بالقتل، والتفت إلى الفتح
فقال: برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم
تلطمه - بعني المنتصر - فقام إليه الفتح، فلطمه لطمتين وقال: اشهدوا
أني قد خلعته. فانصرف على غضب، فواعد الأتراك على قتل المتوكل إذا ثمل،
فما كانت إلا ساعة حتى دخل الأتراك عليه فقتلوه وقتلوا معه الفتح بن
خاقان. وذلك ليلة الأربعاء، وقيل: ليلة الخميس بعد العتمة بساعة، لأربع
ليال خلون من شوال، وكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة اشهر وثلاثة
أيام، وهو ابن أربعين سنة.
وقد حكى إبراهيم بن عرفة أن جارية من جواري المتوكل قالت: أصابه هم،
وعرض له فكر، فجلس وحده ثم قال: جيئيني ببرنية فيها غالية، فجئته بها،
فجعل يبندقها ويرمي بها، ثم جلس يقرأ القرآن على الشراب، فما شعر إلا
وقد دخل عليه جماعة من القواد يتقدمهم غلام ابنه المنتصر الذي يسمى
باغر، فدنا منه، فضربه، وتتابع القواد بالضرب، وألقى الفتح بن خاقان
نفسه عليه فقتل معه، وكان باغر قد قال للقواد: إني أتقدمكم، فإن خفتم
على أنفسكم فقعوا علي فاقتلوني وقولوا: دخل مكاناً لم يكن له دخوله.
وذكر ابن عرفة أنه حضر مغنياً فغناه، فقال له أحمد بن أبي العلاء:
يا عاذلي
من الملام دعاني ... أن البلية فوق ما تصفان
زعمت بثينة أن رحلتنا غدا ... لا مرحباً بغد فقد أبكاني
فتطير المتوكل من هذا وقال: ويحك كيف وقع لك أن تغني بمثل هذا، فذهب
ليغنيه بغيره، فأعاده، فقالوا: اصرفوا المهين، ثم عاد فدعا المغني فغنى
الصوت، واغتم المتوكل وكان قد وصف له سيف لم ير مثله فابتاعه فاختار
باغر فوهبه له، فيقال: إنه قتله به.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن الخطيب
الحافظ قال: حدثنا عبيد الله بن عمر الواعظ قال: حدثني أبي، حدثنا محمد
بن عبد الواحد قال: أخبرني أبو أيوب جعفر بن أبي عثمان الطيالسي قال:
أخبرني بعض الزمازمة الذين يحفظون زمزم قال: غارت زمزم ليلة من الليالي
فأرخناها، فجاءنا الخبر أنها الليلة التي قتل فيها المتوكل.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب الحافظ قال: أخبرنا الأزهري قال: أخبرنا عبيد الله بن محمد
العكبري، حدثنا أبو الفضل محمد بن أحمد النيسابوري قال: حدثنا سعيد بن
عثمان الحناط قال: حدثنا علي بن إسماعيل قال: رأيت جعفر المتوكل في
النوم وهو في النور جالس قلت: المتوكل؟ فقال: المتوكل قلت: ما فعل الله
بك؟ قال: غفر لي. قلت: بماذا؟ قال: بقليل من السنة أحييتها.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرنا
محمد بن أحمد بن رزق قال: أخبرنا محمد بن يوسف بن حمدان الهمذاني قال:
حدثنا أبو علي الحسن بن يزيد الدقاق قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد
الحارثي، حدثنا عمر بن عبد الله الأسدي قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن
العلاء قال: قال لي عمرو بن شيبان الحلبي: رأيت في الليلة التي قتل
فيها المتوكل في النوم حين أخذت مضجعي، كأن آتياً أتاني فقال لي:
يا نائم الليل في أقطار جثماني ... أفض دموعك يا عمرو بن شيبان
أما ترى الفتية الأرجاس ما فعلت ... بالهاشمي وبالفتح بن خاقان
وافى إلى الله مظلوماً فضج له ... أهل السموات من مثنى ووحدان
وسوف تأتيكم أخرى مسومة ... توقعوها لها شأن من الشان
فابكوا على جعفر وابكوا خليفتكم ... فقد بكاه جميع الإنس والجان
قال: فأصبحت وإذا الناس يقولون إن جعفراً قد قتل في هذه الليلة.
قال أبو عبد الله: ثم رأيت المتوكل بعدها بأشهر كأنه بين يدي الله
تعالى، فقلت له: ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي. قلت: بماذا؟ قال: بقليل
من السنة تمسكت بها. قلت: فما تصنع ها هنا؟ قال: أنتظر ابني محمداً
أخاصمه إلى الله الحليم، العظيم، الكريم.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ أخبرنا ناصر بن المبارك بن عبد الجبار قال:
أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال: خبرنا محمد بن خلف قال:
أخبرني أبو العباس المروزي قال: أخبرني بعض أهل الأدب أنه كان للمتوكل
جارية يقال لها محبوبة، وكانت من الجمال والإحسان على غاية، ومن الغناء
على غاية، وكان المتوكل يجد بها وجداً شديداً، وكانت له على مثل ذلك،
فلما كان من المتوكل ما كان ففرق الجواري إلى القواد، فصارت محبوبة إلى
وصيف، وكان لباسها البياض الحسن، وكانت تذكره فتشهق وتنتحب، فجلس وصيف
يوماً للشراب وجلس الجواري اللائي كن للمتوكل في الحلي والحلل، وجاءت
محبوبة في معجر أبيض فقال وصيف: غنين فما بقيت واحدة منهن إلا غنت
وطربت وضحكت إلى أن أومأ إلى محبوبة بالغناء، فقالت: إن رأى الأمير أن
يعفيني، فأبى، فقلن لها الجواري: لو كان في الحزن فرج لحزنا معك، وجيء
بعود، فوضع في حجرها فسوته وأنشأت تقول:
أي عيش يطيب لي لا أرى فيه جعفرا ... ملك قد رأته عيني جريحاً معفرا
كل من كان سالماً وسقيماً فقد برا ... غير محبوبة التي لو ترى الموت
يشترا
لاشترته بما حوته جميعاً لتقبرا.
فاشتد ذلك على وصيف، فأمر بإخراجها، فصارت إلى قبيحة، فلما كان بعد
هنية سأل عنها وصيف فقيل له: صارت إلى قبيحة، فبعث إليها فقالت: تمسحت
ومضت، فوالله ما أدري إلام صارت.
الحسن بن الجنيد بن أبي جعفر، البلخي. بلخي الأصل، حدث عن وكيع وغيره،
روى عنه ابن أبي الدنيا.
وتوفي في هذه السنة.
عبد الله
بن محمد بن إسحاق أبو عبد الرحمن الأذرمي سمع سفيان بن عيينة، وغندر،
وهشيم بن بشير، وإسماعيل بن علية وغيرهم، روى عنه: أبو حاتم الرازي،
وقال: كان ثقة، وأبو داود السجستاني وابنه، وابن صاعد وغيرهم.
وقد كان الواثق استحضر رجلاً من أهل أدنة للمحنة، فناظر ابن أبي دؤاد
بحضرته، فظهر على ابن أبي دؤاد، فيقال: إنه هذا الرجل.
وقد رويت لنا هذه القصة مختصرة ومطولة، فأما المختصرة: فأخبرنا أبو
منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال: أخبرنا محمد
بن الفرج بن علي البزار قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن موسى، قال:
حدثنا جعفر بن شعيب قال: حدثنا محمد بن يوسف الشاسي قال: حدثني إبراهيم
بن منبه قال: سمعت طاهر بن خلف يقول: سمعت المهتدي بالله ابن الواثق
يقول: كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلاً أحضرنا ذلك المجلس فأتي بشيخ
مخضوب مقيد؛ فقال أبي: ائذنوا لأبي عبد الله وأصحابه يعني ابن أبي
دؤاد، فأدخل الشيخ فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال: لا سلام
الله عليك. فقال: يا أمير المؤمنين بئس ما أدبك به مؤدبك، قال الله
تعالى: " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " والله ما
حييتني بها ولا بأحسن منها. فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين،
الرجل متكلم فقال له كلمة. فقال له: يا شيخ، ما تقول في القرآن. فقال
له الشيخ: لم تنصفني - يعني ولني السؤال - فقال: قل، فقال له الشيخ: ما
تقول في القرآن؟ فقال: مخلوق. فقال: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه
وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والخلفاء الراشدون أم شيء لم
يعلموه؟ فقال: شيء لم يعلموه. فقال: سبحان الله، شيء لم يعلمه النبي
صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا
الخلفاء الراشدون، علمته أنت؟ ! قال: فخجل، فقال: أقلني. فقلت والمسألة
بحالها. قال: نعم. قلت: ما تقول في القرآن؟ فقال: مخلوق. قال: هذا شيء
علمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي،
والخلفاء الراشدون، أم لم يعلموه فقال: شيء علموه ولم يدعوا الناس
إليه، فقال: أفلا وسعك ما وسعهم؟ قال: ثم قام أبي فدخل مجلس الخلوة
واستلقى على قفاه، ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول: هذا شيء لم
يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر ولا عثمان، ولا
علي، ولا الخلفاء الراشدون علمته أنت، سبحان الله، شيء علمه النبي صلى
الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والخلفاء الراشدون، ولم
يدعوا الناس إليه أفلا وسعك ما وسعهم، ثم دعى عمار الحاجب، وأمر أن
ترفع عنه القيود، وأن يعطى أربعمائة دينار، ويؤذن له في الرجوع، وسقط
من عينه ابن أبي دؤاد ولم يمتحن بعد ذلك أحداً.
وأما
القصة المطولة: فأخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا الخطيب أحمد بن
علي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق قال: أخبرنا أحمد بن سندي الحداد
قال: قرئ على أحمد بن الممتنع وأنا أسمع، قيل له: أخبركم صالح بن علي
بن يعقوب بن المنصور الهاشمي قال: حضرت المهتدي بالله أمير المؤمنين،
وقد جلس للنظر في أمور المتظلمين في دار العامة، فنظرت في بعض قصص
الناس تقرأ عليه من أولها إلى آخرها، فيأمر بالتوقيع فيها، وينشأ
الكتاب عليها، ويحرر ويختم وتدفع إلى صاحبها بين يديه، فسرني ذلك
واستحسنت ما رأيت، فجعلت أنظر إليه ففطن ونظر إلي، فغضضت عنه حتى كان
ذلك مني ومنه مراراً ثلاثة، إذا نظر إلي غضضت، وإذا شغل نظرت، فقال لي:
يا صالح قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، وقمت قائماً. فقال: في نفسك مني
شيء تريد أن تقوله؟ قلت: نعم يا سيدي، فقال لي: عد إلى موضعك، فعدت
وعاد إلى النظر حتى إذا قام قال للحاجب: لا يبرح صالح، وانصرف الناس،
ثم أذن لي، وأهمتني نفسي، فدخلت فدعوت له، فقال: اجلس فجلست فقال لي:
يا صالح تقول لي ما دار في نفسك وأقول أنا، ما دار في نفسي قلت: يا
أمير المؤمنين، ما تعزم عليه، وتأمر به، فقال: أقول أنا إنه دار في
نفسي أنك استحسنت ما رأيت منا، فقلت: أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول
إن القرآن مخلوق فورد على قلبي مر عظيم، ثم قلت: يا نفس، هل تموتين قبل
أجلك، وهل تموتين إلا مرة، وهل يجوز الكذب في جد أو هزل؟ فقلت: يا أمير
المؤمنين، ما دار في نفسي إلا ما قلت. فأطرق ملياً، ثم قال: ويحك، اسمع
مني ما أقول؟ فوالله لتسمعن الحق، فسري عني. ثم قلت: يا سيدي، ومن أولى
بقول الحق منك وأنت خليفة رب العالمين، وابن عم سيد المرسلين؟ فقال: ما
زلت أقول إن القرآن مخلوق صدراً من أيام الواثق، حتى أقدم أحمد بن أبي
دؤاد علينا شيخاً من أهل الشام من أهل أدنة، فأدخل الشيخ على الواثق
مقيداً، وهو جميل الوجه، تام القامة، حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد
استحيى منه، ورق له، فما زال يدينه ويقربه حتى قرب منه، فسلم الشيخ
فأحسن، ودعا فأبلغ وأوجز، فقال له الواثق: اجلس. فجلس، فقال له: ناظر
ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه. فقال له الشيخ: يا أمير المؤمنين،
ابن أبي دؤاد يصبو ويضعف عن المناظرة. فغضب الواثق وعاد إلى مكان الرقة
له غضباً عليه وقال: أبو عبد الله بن أبي دؤاد يصبو ويضعف عن مناظرتك
أنت! ؟ فقال الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين ما بك، وأذن في مناظرته.
فقال الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن
رأيت أن تحفظ علي وعليه ما نقول قال: أفعل قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني
عن مقالتك هذه هي مقالة واجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين
كاملاً حتى يقال فيه بما قلت. قال: نعم. قال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله إلى عباده؛ هل ستر رسول
الله شيئاً مما أمره الله به في أمر دينهم؟ فقال: لا. قال الشيخ: فدعا
رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة إلى مقالتك هذه؟ فسكت أحمد بن أبي
دؤاد. فقال الشيخ: تكلم. فسكت، فالتفت الشيخ إلى الواثق فقال: يا أمير
المؤمنين واحدة، فقال الواثق: واحدة. فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن
الله تعالى حين أنزل القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: "
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً "
هل كان الله الصادق في إكمال دينه، وأنت الصادق في نقصانه حتى يقال فيه
بمقالتك، فيتم؟ فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ: أجب يا أحمد. فلم يجب،
فقال للشيخ: يا أمير المؤمنين، اثنتان. فقال الواثق: نعم اثنتان. فقال
الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه، علمها رسول الله صلى الله عليه
وسلم أم جهلها؟ قال ابن أبي دؤاد: علمها. قال: فدعا الناس إليها؟ فسكت.
قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، ثلاث. فقال الواثق: ثلاث. قال الشيخ: يا
أحمد، فاتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن علمها وسكت عنها كما
زعمت، ولم يطالب أمته بها؟ قال: نعم. قال الشيخ: أو اتسع لأبي بكر
الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم؟ قال ابن أبي
دؤاد: نعم. فأعرض الشيخ عنه، وأقبل على الواثق فقال: يا أمير المؤمنين،
قد قدمت القول بأن أحمد يصبو ويضعف عن المناظرة، يا أمير المؤمنين إن
لم يتسع
لنا الإمساك عن هذه المقالة كما زعم هذا أنه اتسع لرسول الله صلى الله
عليه وسلم ولأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فلا وسع الله علينا؛ اقطعوا
قيد الشيخ. فلما قطع القيد ضرب الشيخ بيده إلى القيد حتى يأخذه، فجاذبه
الحداد عليه، فقال الواثق: دع الشيخ يأخذه. فأخذه فوضعه في كمه. فقال
له الواثق: يا شيخ، لم جاذبت الحداد عليه؟ قال: لأني نويت أن أتقدم إلى
من أوصي إليه إذا أنا مت أن يجعله بيني وبين كفني حتى أخاصم به هذا
الظالم عند الله يوم القيامة، وأقول: يا رب، سل عبدك هذا لم قيدني!
وروع أهلي وولدي وإخواني من غير شيء أوجب ذلك علي؟ وبكى الشيخ، وبكى
الواثق، وبكينا، ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما ناله، فقال له
الشيخ: والله يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم
إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كنت رجلاً من أهله. فقال
الواثق: لي إليك حاجة. فقال الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت، فقال: تقيم
قبلنا، فننتفع بك وينتفع بك فتياننا فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن
ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني عنه هذا الظالم أنفع لك من مقامي
عندك، وأخبرك بما في ذلك: أصير إلى أهلي وولدي، وأكف دعاءهم عليك، فقد
خلفتهم على ذلك. فقال له الواثق: فتقبل منا صلة تستعين بها على رجوعك
ودهرك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لا تحل لي، أنا عنها غني، وذو مرة سوي.
فقال: سل حاجة. قال: أوتقضيها؟ قال: نعم. قال: فأذن لي أن يخلى سبيلي
الساعة إلى الثغر. قال: إني قد أذنت لك. فسلم وانصرف. قال صالح بن علي
قال المهتدي: فرجعت عن هذه المقالة، وأظن أن الواثق قد كان رجع عنها
منذ ذلك الوقت. الإمساك عن هذه المقالة كما زعم هذا أنه اتسع لرسول
الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فلا وسع الله
علينا؛ اقطعوا قيد الشيخ. فلما قطع القيد ضرب الشيخ بيده إلى القيد حتى
يأخذه، فجاذبه الحداد عليه، فقال الواثق: دع الشيخ يأخذه. فأخذه فوضعه
في كمه. فقال له الواثق: يا شيخ، لم جاذبت الحداد عليه؟ قال: لأني نويت
أن أتقدم إلى من أوصي إليه إذا أنا مت أن يجعله بيني وبين كفني حتى
أخاصم به هذا الظالم عند الله يوم القيامة، وأقول: يا رب، سل عبدك هذا
لم قيدني! وروع أهلي وولدي وإخواني من غير شيء أوجب ذلك علي؟ وبكى
الشيخ، وبكى الواثق، وبكينا، ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما
ناله، فقال له الشيخ: والله يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حل وسعة من
أول يوم إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كنت رجلاً من أهله.
فقال الواثق: لي إليك حاجة. فقال الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت، فقال:
تقيم قبلنا، فننتفع بك وينتفع بك فتياننا فقال الشيخ: يا أمير
المؤمنين، إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني عنه هذا الظالم أنفع لك
من مقامي عندك، وأخبرك بما في ذلك: أصير إلى أهلي وولدي، وأكف دعاءهم
عليك، فقد خلفتهم على ذلك. فقال له الواثق: فتقبل منا صلة تستعين بها
على رجوعك ودهرك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لا تحل لي، أنا عنها غني،
وذو مرة سوي. فقال: سل حاجة. قال: أوتقضيها؟ قال: نعم. قال: فأذن لي أن
يخلى سبيلي الساعة إلى الثغر. قال: إني قد أذنت لك. فسلم وانصرف. قال
صالح بن علي قال المهتدي: فرجعت عن هذه المقالة، وأظن أن الواثق قد كان
رجع عنها منذ ذلك الوقت.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن علي الخطيب قال: أخبرنا عبد الله
بن علي بن حمويه قال: سمعت أبا بكر أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي الحافظ
يحدث الشيخ الأدني ومناظرته مع ابن أبي دؤاد بحضرة الواثق، فقال: الشيخ
هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن إسحاق الأدرمي.
عبد السلام بن عبد الرحمن بن صخر بن عبد الرحمن بن وابصة بن معبد أبو
الفضل الأسدي الرقي سمع أباه، روى عنه أبو عروبة الحراني، وكان قاضي
الرقة، ولي القضاء ببغداد في أيام المتوكل، وكان عفيفاً، فصرفه يحيى بن
أكثم، فبعث المتوكل عهداً إلى بغداد، ولم يسم القاضي، وقال: إن رضوا به
فليدفع العهد إليه. فرضوا به. فظاهر هذا أنه ولي قضاء بغداد مرتين.
وسئل الإمام أحمد عن الوابصي فأحسن القول فيه، وقال: ما بلغني عنه إلا
خير.
توفي في هذه السنة بالرقة، وقيل: في سنة تسع، والله أعلم. |