المنتظم
الجزء الثاني عشر
ثم دخلت
سنة ثمان وأربعين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن المنتصر أغزى وصيفاً التركي الصائفة - أرض الروم
- وسبب ذلك أنه كان قد وقع بين وصيف وبين أحمد بن الخصيب وزير المنتصر
فأشار على المنتصر أن يخرج وصيفاً من العسكر غازياً، فأمره بالغزو،
وقال له: إن طاغية الروم قد تحرك، ولست آمنه على بلاد الإسلام، فإما أن
تخرج أنت أو أنا. فقال: بل أنا أخرج، فخرج في عشرة آلاف.
وفي هذه السنة خلع المعتز والمؤيد أنفسهما؛ وسبب ذلك: أن المنتصر لما
استقامت له الأمور، قال أحمد بن الخصيب لوصيف وبغا: إنا لا نأمن
الحدثان، وأن يموت أمير المؤمنين فيلي الأمر المعتز، فلا يبقي منا
باقية، والرأي أن نعمل في خلع هذين الغلامين قبل أن يظفرا بنا، فجد
الأتراك في ذلك، وألحوا على المنتصر، وقالوا: تخلعهما وتبايع لابنك هذا
عبد الوهاب فأحضرهما وجعلا في دار، فقال المعتز للمؤيد: يا أخي لم تدى
أحضرنا فقال المؤيد: يا شقي، للخلع، قال: ما أظنه يفعل. فجاءتهم الرسل
بالخلع، فقال المؤيد: السمع والطاعة فقال المعتز: ما كنت لأفعل، فإن
أردتم قتلي فشأنكم. فرجعوا ثم عادوا بغلظة شديدة، فأخذوا المعتز بعنف
وأدخلوه إلى بيت وأغلقوا عليه الباب. فقال له المؤيد: يا جاهل تراهم قد
نالوا من أبيك ما نالوا ثم تمتنع عليهم! اخلع ويلك ولاتراجعهم ، فقال:
أفعل، فقال لهم المؤيد: قد أجاب.
فكتبا خطوطهما بالخلع، وأنهما عجزة عن الخلافة: وقد خلعناها من
أعناقنا. ثم دخلا عليه فقال: أترياني خلعتكما طمعاً في أن أعيش حتى
يكبر ولدي وأبايع له! والله ما طمعت في ذلك، ولأن يليها بنو أبي أحب
إلي من أن يليها بنو عمي؛ ولكن هؤلاء - وأومأ إلى الموالي - ألحوا علي
في خلعكما فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة، فيأتي عليكما،
فلو قتلته ما كان دمه يفي دماكما. فقبلا يده ثم انصرفا. وكان خلعهما في
يوم السبت لسبع بقين من صفر هذه السنة.
وفي هذه السنة: خرج محمد بن عمر الشار بناحية الموصل، فوجه إليه
المنتصر إسحاق بن ثابت الفرغاني، فأخذه اسيراً مع عدة من أصحابه فقتلوا
وصلبوا.
وفيها: تحرك يعقوب من سجستان فصار إلى هراة .
وفيها: توفي المنتصر واستخلف المستعين.
باب خلافة المستعين
واسمه أحمد بن محمد المعتصم، ويكنى: أبا العباس، وقيل: أبا عبد الله،
وكان ينزل سر من رأى، ثم ورد بغداد فأقام بها إلى أن خلع، وأمه أم ولد
اسمها مخارق، وكان أبيض حسن الوجه، ظاهر الدم، بوجهه أثر جدري، وسبب
بيعته لما توفي المنتصر اجتمع الموالي وفيهم بغا الصغير وبغا الكبير
فاستحلفوا قواد الأتراك والمغاربة على أن يرضوا بمن يرضى به بغا
الكبير، وبغا الصغير، وذلك بتدبير ابن الخصيب فحلفوا وهم كارهين أن
يتولى الخلافة أحد من أولاد المتوكل لقتلهم أباه، فأجمعوا على أحمد بن
محمد بن المعتصم فدعوه ليبايع له بالخلافة، فقال: استعين بالله وافعل.
فسمي المستعين، فبايعوه بعد عشاء الآخرة من ليلة الاثنين لستٍ خلون من
ربيع الآخر، وحضر يوم الثلاثاء في دار العامة، وجاء الناس على طبقاتهم،
فبينا هم على ذلك جاءت صيحة من ناحية السوق، وإذا خيل ورجالة وعامة قد
شهروا السلاح وهم ينادون: معتز يا منصور، فشدوا على الناس، واقتتلوا،
فوقع بينهم جماعة من القتلى إلى أن مضى من النهار ثلاث ساعات، ثم انصرف
الأتراك وقد بايعوا المستعين ودخل الغوغاء والمنتهبة دار العامة،
فانتهبوا خزانة السلاح، فجاء بغا وجماعة من الأتراك فأجلوهم عن الخزانة
وقتلوا منهم عدة، وتحرك أهل السجون بسامرا في هذا اليوم، فهرب منهم
جماعة.
ولما توفي المنتصر كان في بيت المال تسعون ألف ألف درهم فأمر المستعين
للجند برزق خمسة أشهر وكان ألفي ألف دينار، وللعابد ألف واثنين وتسعين
ديناراً.
وفي هذه السنة توفي طاهر بن عبد الله بن طاهر، فعقد المستعين لابنه
محمد بن طاهر على خراسان والعراق، وجعل إليه الحرس والشرطة ومعالم من
السواد. ومرض بغا الكبير فعاده المستعين، وذلك للنصف من جمادى الآخرة،
ومات بغا من يومه فعقد لابنه موسى على أعمال أبيه، وولي ديوان البريد،
ووهب المستعين لأحمد بن الخصيب فرش الجعفري، فحملت على نحو من مائتين
وخمسين بعيراً، وقيل:
كانت
قيمتها ألف ألف درهم، ووهب له دار بختيشوع وأقطعه غلة مائتي ألف وخمسين
ألفاً، وأمر له بألف قطعة من فرش أم المتوكل، ثم سخط عيه المستعين
فقبضت أمواله، ونفي إلى إقريطش.
وفي ربيع الآخر من هذه السنة ابتاع المستعين من المعتز والمؤيد جميع ما
لهما من المنازل والقصور والمتاع سوى أشياء استثناها المعتز، وأشهد
عليهما بذلك، وترك لأبي عبد الله ما تبلغ عليه السنة عشرين ألف دينار،
وكان الذي ابتيع من أبي عبد الله بعشرة آلاف ألف درهم وعشر حبات لؤلؤ.
ومن إبراهيم بثلاثة آلاف ألف درهم وثلاث حبات لؤلؤ، وكان الشراء باسم
الحسن بن مخلد للمستعين، وحبسا في حجرة، ووكل بهما، وجعل أمرهما إلى
بغا الصغير، وكان الأتراك حين شغب الغوغاء أرادوا قتلهما فمنعهم من ذلك
أحمد بن الخصيب، وقال: ليس لهما ذنب، ولا هذا الشغب من أصحابهما، وإنما
الشغب من أصحاب ابن طاهر.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرني
الأزهري قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن أحمد المقرئ، حدثنا محمد بن
يحيى النديم، وحدثنا عون بن محمد الكندي قال: حدثني عبد الله بن محمد
بن داود المعروف بأترجة قال: دخلت على المستعين بالله فأنشدته:
أغدوت بسعد غدوة لك باكرة ... فلا زالت الدنيا بملكك عامره
ونال مواليك الغنى بك ما بقوا ... وعزوا وعزت دولة لك ناصره
بعثت علينا غيث جود ورحمة ... فنلنا بدنيا منك فضلاً وآخره
فلا خائف إلا بسطت أمانه ... ولا معدم إلا سددت مفاقره
تيقن بفضل المستعين بفضله ... علي غيره نعماء في الناس ظاهره
قال: فدفع إلي خريطةً كانت في يده مملوءة دنانير، ودعى بغالية فجعل
يغلفني بيده.
وفيها: صرف علي بن يحيى عن الثغور الشامية، وعقد له على أرمينية،
وأذربيجان في رمضان.
وفيها: شغب أهل حمص على عامل المستعين عليها فأخرجوه منها فوجه إليهم
الفضل بن قارون فمكر بهم حتى أخذهم فقتل منهم خلقاً كثيراً، وحمل مائة
رجل من عياريهم إلى سامراء وهدم سورهم.
وفيها غزا الصائفة وصيف، وعقد المستعين لأوتامش على مصر والمغرب،
واتخذه وزيراً وجعله على جميع الناس.
وفيها عقد لبغا الشرابي على حلوان، وماسبذان، ومهرجان، وأقطع بغا
وأوتامش كل واحد منهما غلة ألف ألف درهم، وأقطع صيفاً التركي غلة ألف
ألف، وصير المستعين شاهك الخادم على داره وحرمه وخزانته وكراعه وخاص
أموره.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن سليمان الزينبي، وخرج عبيد الله بن
يحيى بن خاقان إلى الحج فوجه المستعين رسولاً ينفيه إلى برقة ويمنعه من
الحج.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن صالح أبو جعفر المصري طبري الأصل، كان أبوه صالح جندياً من أهل
طبرستان من العجم، ولد أحمد سنة سبعين ومائة، وكان أحد الحفاظ، يعرف
الحديث والفقه والنحو، ورد بغداد وجرت بينه وبين أحمد بن حنبل مذكرات،
وكان أحمد يثني عليه.
وحدث عنه: محمد بن يحيى الذهلي، والبخاري، وأبو زرعة، وأبو داود،
ويعقوب بن سفيان، وقال يعقوب: كتبت عن ألف شيخ حجتي فيما بيني وبين
الله رجلان: أحمد بن حنبل، وأحمد بن صالح.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا الخطيب قال: احتج سائر الأئمة بحديث
أحمد بن صالح سوى أبي عبد الرحمن النسائي، فإنه أطلق لسانه فيه وقال:
ليس بثقة، وليس الأمر على ما ذكر النسائي. ويقال إنه كانت آفة أحمد بن
صالح الكبر وشراسة الخلق، فقال النسائي فيه، فإنه طرده من مجلسه، فلذلك
فسد الحال بينهما، وتكلم فيه. توفي أحمد في ذي القعدة من هذه السنة.
أحمد بن أبي فنن. وصالح اسم أبي فنن، ويكني أحمد: أبا عبد الله، شاعر،
مجود أكثر المدح للفتح بن خاقان، وكان أحمر اللون.
أخبرنا القزاز، أخبرنا الخطيب قال: أخبرني علي بن عبد الله اللغوي قال:
أنشدنا محمد بن الحسن بن الفضل بن المأمون قال: أنشدنا أبو بكر بن
الأنباري قال: أنشدني أبي لأحمد بن أبي فنن:
صحيح ود لو يمسي عليلا ... ليكتب هل يرى منكم رسولا
أراك تسومه الهجران حتى ... إذا ما اعتل كنت له وصولا
يود ضنى
الحياة بوصل يومٍ ... يكون على رضاك له دليلا
هما موتان موت ضنى وهجرٍ ... وموت الهجر شرهما سبيلا
قال: أنشدني أبي لأحمد بن أبي الفنن:
صب بحب متيم صب ... حبيه فوق نهاية الحب
أشكو إليه طول جفوته ... فيقول: مت بتأثر الخطب
وإذا نظرت إلى محاسنه ... أخرجته عطلاً من الذنب
أدميت باللحظات وجنته ... فاقتص ناظره من القلب
قال المصنف: هذا البيت أخذه من إبراهيم بن المهدي:
يا من لقلب صيغ من صخرةٍ ... في جسد من لؤلؤ رطب
جرحت خديه بلحظي فما ... برحت حتى اقتص من قلبي
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرني
الأزهري قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن عبد الله الشيباني قال: حدثني
قريب بن يعقوب أبو القاسم الكاتب قال: حدثني يعلا بن يعقوب الكاتب قال:
حدثني أحمد بن صالح بن أبي الفنن قال: كان محمد بن يزيد الشيباني أجود
بني آدم في عصره، وكان لا يرد طالباً، فإن لم يحضر مال يعد ثم يستدين
وينجز، وكان بين وعده وإنجازه كعطف لام على ألف.
وأنشدني ابن أبي الفنن مما يمدحه به:
عشق المكارم فهو مشتغل بها ... والمكرمات قليلة العشاق
وأقام سوقاً للثناء ولم تكن ... سوق الثناء تعد في الأسواق
بث الصنائع في البلاد فأصبحت ... بحبى إليه مجامد الآفاق
قبل أنامله فلسن أناملاً ... لكنهن مفاتح الأرزاق
واذكر صنائعه فلسن صنائعاً ... لكنهن قلائد الأعناق
بغا الكبير: كان أميراً جليلاً، توفي في جمادى الآخرة وصلى عليه
المستعين، وبنو هاشم، والقواد، وكان يوماً مشهوداً.
بكر بم محمد بن بقية وقيل: ابن محمد بن عدي، أبو عثمان المازني النحوي
وهذه النسبة إلى مازن شيبان، ويقال: المازني أيضاً فينسب إلى مازن
الأنصار منهم عبد الله بن زيد، وعباد بن تيم، ويقال: المازني فينسب إلى
مازن قيس، وهو مازن بن منصور أخو سليم، وهوازن، منهم: عتبة بن غزوان،
وعبد الله بن بشير، وأخوه عطية. ويقال المازني وينسب إلى مازن تيم.
وروى أبو عثمان عن أبي عبيدة، والأصمعي، وأبي عبيدة وله تصانيف وهو
أستاذ المبرد، وكان يشبه الفقهاء.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب قال: حدثني علي بن الخضر القرشي، أخبرنا رشأ بن عبد الله
المقرئ، أخبرنا إسماعيل بن الحسن بن الفرات، أخبرنا أحمد بن مروان
المالكي، أخبرنا محمد بن يزيد، حدثنا أبو عثمان المازني قال: دخلت على
الواثق فقال لي: يا مازني، ألك ولد؟ قلت: لا، ولكن لي أخت بمنزلة
الولد، قال: فما قالت لك؟ قلت: ما قالت بنت الأعشى للأعشى:
فيا أب لا تنسنا غائباً ... فإنا بخير إذا لم ترم
أرانا إذا أضمرتك البلا ... د تجفى وتقطع منا الرحم
قال: فما قلت لها؟ قال: قلت لها ما قال جرير:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
فقال: أحسنت، أعطه خمس مائة دينار.
قال المصنف: وقد رويت لنا هذه الحكاية على وجه آخر: وأن أبا العباس
المبرد قال: قصد بعض أهل الذمة أبا عثمان المازني ليقرأ عليه كتاب
سيبويه، وبذل له مائة دينار على تدريسه إياه، فامتنع أبو عثمان من ذلك.
قال: فقلت له: جعلت فداك، أترد هذه النفقة مع فاقتك وشدة إضافتك؟ فقال:
إن هذا الكتاب يشتمل على ثلثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله تعالى،
ولست أرى إن أمكن منها ذمياً غيرةً على كتاب الله عز وجل وحمية له.
قال: فاتفق أن غنت جارية بحضرة الواثق بقول العرجي:
أظلوم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحيةً ظلم
فاختلف من بالحضرة في إعراب رجل فمنهم من نصبه، ومنهم من رفعه،
والجارية مصرة على أن شيخها أبا عثمان المازني لقنها إياه بالنصب، فأمر
الواثق بإشخاصه. قال أبو عثمان: فلما مثلت بين يديه سألني عن البيت،
فقلت: الوجه النصب. قال: ولم ذلك؟ فقلت: إن مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم،
فالرجل مفعول مصابكم ومنصوب به. فقال:
هل لك من
ولد؟ قلت: بنية. قال: ما قلت لك عند مسيرك؟ قلت: قول بنت الأعشى - على
ما سبق - فأمر لي بألف دينار وردني مكرماً.
قال أبو العباس: فلما عاد إلى البصرة قال: كيف رأيت يا أبا العباس
رددنا مائة فعوضنا الله ألفاً.
توفي المازني في هذه السنة، وقيل سنة سبع وأربعين.
جعفر بن علي بن السري بن عبد الرحمن أبو الفضل، المعروف بجعيفران
الشاعر ولد ببغداد ونشأ بها وأبوه من أبناء خراسان، وكان جعفر من أهل
الفضل والأدب، ووسوس في أثناء عمره.
أخبرنا منصور، أخبرنا الخطيب، أخبرنا محمد بن الحسين الجازري، حدثنا
المعافى بن زكريا، حدثنا محمد بن عبد الواحد أبو عمر اللغوي قال: سمعت
أحمد بن سليمان العبدي قال: حدثني خالد الكاتب قال: ارتج علي وعلى دعبل
وآخر من الشعراء نصف بيت قلناه جميعاً، وهو قولنا: يا بديع الحسن،
فقلنا: ليس لنا إلا جعيفران الموسوس فجئناه فقال: ما تبغون؟ قال خالد:
جئناك في حاجة. قال: لا تؤذوني فإني جائع. فبعثنا فاشترينا له خبزاً
ومالحاً، وبطيخاً ورطباً، فأكل وشبع، ثم قال لنا: هاتوا حاجتكم. قلنا
له: قد اختلفنا في بيت وهو:
يا بديع الحسن حاشى ... لك من هجر بديع
قال: نعم.
وبحسن الوجه عوذ ... تك من سوء الصنيع
قال له دعبل: فزدني أنا بيتاً آخر، فقال: نعم:
ومن النخوة يستع ... فيك لي ذل الخضوع
فقمنا وقلنا: نستودعك الله. فقال: انتظروا حتى أزودكم، لي بيتاً آخر:
لا يصعب بعضك بعضاً ... كن جميلاً في الجميع
الحسين بن علي بن يزيد أبو علي الكرابيسي سمع من الشافعي ويزيد بن
هارون وجماعة. وصنف في الفروع والأصول، إلا أنه تكلم في اللفظ، وقال:
لفظي بالقرآن مخلوق. فتكلم فيه أحمد ونهى عن كلامه، وقال: هذا مبتدع
فحذره. وأخذ وهو يتكلم في أحمد فقوي إعراض الناس عنه.
وقيل ليحيى بن معين: أن حسيناً يتكلم في أحمد. فقال: ومن حسين، إنما
يتكلم في الناس أشكالهم.
توفي حسين في هذه السنة.
الحسين بن علي بن يزيد بن سليم الصدائي روى عن حسين الجعفري، والخريبي،
روى عنه ابن أبي الدنيا، وابن صاعد، والمحاملي، وكان ثقة، وكان حجاج بن
الشاعر يمدحه ويقول: هو من الأبدال..
توفي في رمضان هذه السنة.
عيسى بن حماد زغبة - بن مسلم بن عبد الله، أبو موسى آخر من روى عن
الليث بن سعد، وهو من الثقات. جاز تسعين سنة.
وتوفي في ذي الحجة من هذه السنة.
محمد بن حميد بن حيان أبو عبد الله الرازي روي عن ابن المبارك، وجرير
بن عبد الحميد، وحكام بن سلم، وغيرهم. روى عنه أحمد بن حنبل، ويحيى بن
معين، والبغوي، والباغندي، وغيرهم.
وقال يحيى: ليس به بأس. وقال يعقوب بن شيبة: هو كثير المناكير وقال
البخاري: في حديثه نظر. وكان أبو حاتم الرازي في آخرين يقولون: هو ضعيف
جداً، يحدث بما لم يسمعه، ويأخذ أحاديث البصرة والكوفة فيحدث بها عن
الرازيين. فقال صالح بن محمد الملقب جزرة: ما رأيت أجرأ على الله منه،
كان يأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضها على بعض. وقال إبراهيم بن يعقوب
الجوزجاني: هو رديء المذهب، غير ثقة، وقال إسحاق بن منصور: أشهد بين
يدي الله أنه كذاب. وقال أبو زرعة: كان كذاباً يتعمد. وقال النسائي:
ليس بثقة. وتوفي في هذه السنة.
محمد المنتصر بن المتوكل على الله اختلفوا في سبب موته على خمسة أقوال:
أحدها: أنه أخذته الذبحة في حلقه يوم الخميس لخمس بقين من ربيع الأول.
فمات مع صلاة العصر يوم الأحد لخمس خلون من ربيع الآخر. وقيل يوم السبت
لأربع خلون منه فمات مع صلاة العصر.
والثاني: أنه أصابه ورم في معدته فصعد إلى فؤاده، فمات، وكان مرضه ذلك
ثلاثة أيام.
والثالث: أنه وجد حرارة فأمر بعض الأطباء أن يفصده، ففصده بمبضع مسموم
فكانت فيه منيته، وأن الطبيب رجع إلى منزله فوجد حرارة فأمر تلميذاً له
بفصده فأعطاه مباضعه وفيها المبضع المسموم ونسي أن يخرجه منها، ففصده
به فهلك الطبيب.
والرابع: أنه احتجم فسمه الحجام في محاجمه، وسبب ذلك أنه كان يكثر ذكر
المتوكل ويقول:
هؤلاء
الأتراك قتلة الخلفاء. فخافوا منه فجعلوا لخادم له ثلاثين ألف دينار
على أن يحتال في سمه، وجعلوا للطبيب جملة، وكان المنتصر يحب الكمثرى،
فعمد الطبيب إلى كمثراة كبيرة نضيجة فأدخل في رأسها خلالاً ثقبها به
إلى ذنبها، ثم سقاها سماً، وجعلها الخادم في أعلى الكمثرى الذي قدمها
له، فلما رآها أمره أن يقشرها له ويطعمه إياها، فأطعمه إياها، فوجد
فترة، فقال للطبيب: أجد حرارة، فقال: احتجم، فهذا من غلبة الدم. وقدر
أنه إذا احتجم قوي عليه السم، فحجم فحم وقويت عليه، فخافوا أن يطول
مرضه، فقال الطبيب: يحتاج إلى الفصد، ففصده بمبضع مسموم، ثم ألقاه
الطبيب في مباضعه واحتاج الطبيب إلى الفصد ففصد به. فمات.
والخامس: أنه وجد في رأسه علة فقطر الطبيب في أذنه دهناً فورم رأسه،
فعولج فمات. وما زال الناس يقولون كانت خلافته ستة أشهر، مدة شيرويه بن
كسرى قاتل أبيه، وكان يقول عند موته: ذهبت الدنيا والآخرة.
وتوفي وهو ابن خمس وعشرين سنة وستة أشهر، وقيل ابن أربع وعشرين بسامراء
ودفن بها.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا
عبد العزيز بن علي قال: حدثنا محمد بن أحمد المفيد، حدثنا أبو بشر
الدولابي قال: أخبرني علي بن الحسين بن علي، عن عمر بن شبة قال: أخبرني
أحمد بن الخصيب قال: أخبرني جعفر بن عبد الواحد قال: دخلت على المنتصر
بالله فقال لي: يا جعفر، لقد عولجت، فما أسمع بأذني، ولا أبصر بعيني،
وكان في مرضه الذي مات فيه.
مهنى بن يحيى، أبو عبد الله شامي الأصل، من كبار أصحاب أبي عبد الله
أحمد بن حنبل، صحبه ثلاثاً وأربعين سنة، رحل في صحبته إلى عبد الرزاق.
وسمع من عبد الرزاق. وجماعة، وكان يجترئ على أحمد ما لا يجترئ عليه
غيره، ويضجره بالمسائل، وهو يحتمله، وكتب عنه عبد الله بن أحمد بضعة
عشر جزءاً من مسائله لأبيه لم تكن عند غيره.
قال الدار قطني: مهنى ثقة ضابطاً ثبتاً. وقد حكى أبو بكر الخطيب أن أبا
الفتح الأزدي قال: مهنى منكر الحديث.
قال المصنف: وينبغي أن يتشاغل الأزدي بنفسه عن الجرح لغيره، فإنه مجروح
عند الكل، فكيف يحتج بقوله، فيمن اتفق على مدحه الثقات، والعجب أن
الخطيب يذكر أن أبا الفتح وضع حديثاً، ثم يذكر طعنه فيمن قد وثقه
الدارقطني، ولكن دسائس الخطيب الباردة التي لا تخفى في أصحاب أحمد
معروفة.
هارون بن موسى بن ميمون أبو موسى الكوفي كان فقيهاً على مذهب أبي حنيفة
وكان يعرف: بالجبل، وكانت له بمصر حلقة في جامعها. وكتب عنه.
توفي بمصر في هذه السنة.
عابد العباداني: أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي، أخبرنا محمد بن هبة
الله الطبري، أخبرنا علي بن محمد بن بشران قال: أخبرنا الحسين بن
صفوان.
وحدثنا عبد الله بن محمد القرشي قال: حدثني أبو عبد الله التميمي قال:
حدثنا مسلم بن زرعة بن حماد أبو المرضي - شيخ بعبادان له عبادة وفضل -
قال: ملح الماء عندنا منذ نيف وستين سنة، وكان ها هنا رجل من أهل
الساحل له فضل، قال: ولم يكن في الصهاريج شيء فحضرت المغرب فهبطت
لأتوضأ للصلاة من النهر، وذلك في رمضان، وحر شديد، فإذا أنا به وهو
يقول: سيدي رضيت عملي حتى أتمنى عليك أم رضيت طاعتي حتى أسألك سيدي
غسالة الحمام لمن عصاك كثيرة سيدي لولا أني أخاف غضبك لم أذق الماء،
ولقد أجهدني العطش. قال: ثم أخذ بكفه فشرب شرباً صالحاً، فعجبت من صبره
على ملوحته، فأخذت من الموضع الذي أخذ فإذا هو بمنزلة السكر، فشربت حتى
رويت.
قال أبو المرضي: فقال لي هذا الشيخ يوماً: رأيت فيما يرى النائم كأن
رجلاً يقول لي: قد فرغنا من بناء دارك لو رأيتها لقرت عيناك، وقد أمرنا
بتخدها والفراغ منها إلى سبعة أيام، واسمها السرور، فأبشر بخير. فلما
كان يوم السابع وهو يوم الجمعة بكر للوضوء، فنزل في النهر وقد مد فزلق
فغرق، فأخرجناه بعد الصلاة، فدفناه.
قال أبو المرضي: فرأيته بعد ثالثة في النوم وهو يجيء إلى القنطرة وهو
يكبر وعليه حلل خضر، فقال لي: يا أبا المرضي، أنزلني الكريم في دار
السرور، فماذا أعد لي فيها؟ فقلت له: صف لي. فقال:
هيهات
يعجز الواصفون عن أن تنطق ألسنتهم بما فيها، فاكتسب مثل الذي اكتسبت،
فليت عيالي يعلمون أن قد هيء لهم منازل معي، فيها كل ما اشتهت أنفسهم
نعم وإخواني وأنت معهم إن شاء الله. ثم انتبهت.
ثم دخلت
سنة تسع وأربعين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن الجند والشاكرية ببغداد شغبوا في أول يوم من صفر،
وكان سبب ذلك استفظاعهم أفعال الأتراك من قبل المتوكل، واستيلاءهم على
أمور المسلمين، واستخلافهم من أحبوا من غير نظر في ذلك للمسلمين.
فاجتمعت إليه العامة ببغداد بالصراخ، ونادوا النفير، وانضمت إليهم
الأبناء والشاكرية، تظهر أنها تطلب الأرزاق، ففتحوا سجن نصر بن مالك،
وأخرجوا من فيه، وقطعوا أحد الجسرين، وضربوا الآخر بالنار، وانحدرت
سفنه، وانتهب ديوان قصص المحبسين وقطعت الدفاتر، وألقيت في الماء،
وانتهبوا دار بشر وإبراهيم ابني هارون النصرانيين، وذلك كله بالجانب
الشرقي من بغداد، وكان والي الجانب الشرقي أحمد بن حاتم بن هرثمة، ثم
أخرج أهل اليسار من أهل بغداد وسامراء أموالاً كثيرة فقووا بها من خف
للنهوض للثغور لحرب الروم، وأقبلت العامة من نواحي الجبال، وفارس،
والأهواز وغيرها لغزو الروم.
ولتسع بقين من شهر ربيع الأول وثب نفر من الناس لا يدري من هم يوم
الجمعة بسامراء، ففتحوا السجن، وأخرجوا من فيه، فوجه بعض القواد فوثبت
به العامة فهزموه، فركب بغا وعامة الأتراك، فقتلوا من العامة جماعة،
ورمي وصيف بحجر، فأمر النفاطين فأحرقوا منازل الناس وحوانيت التجار
هنالك.
وفي يوم السبت لأربع عشرة خلت من ربيع الآخر قتل أوتامش وكاتبه شجاع بن
القاسم، وكان السبب في ذلك: أن المستعين كان قد أطلق يد أوتامش وشاهك
الخادم في بيوت الأموال، وأطلقها في الأفعال فعمد أوتامش إلى ما في
بيوت الأموال فاكتسحه وجعلت الموالي ترى الأموال تؤخذ وهي في ضيقة،
وجعل أوتامش ينفذ أمور الخلافة ووصيف وبغا من ذلك بمعزل، فأغريا
الموالي به، ولم يزالا يدبران عليه حتى أحكما التدبير، فتذمرت الأتراك
والفراغنة على أوتامش، وخرج إليه منهم يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت
من ربيع الآخر من هذه السنة أهل الدور والكرخ، فعسكروا ورجعوا إليه وهو
في الجوسق مع المستعين.
وبلغه الخبر فأراد الهرب فلم يمكنه، واستجار بالمستعين فلم يجره،
فأقاموا كذلك يوم الخميس والجمعة.
فلما كان يوم السبت دخلوا الجوسق فاستخرجوه، فقتل وانتهبت داره، فأخذت
منها أموال كثيرة جليلة، وقتل كاتبه شجاع.
فلما قتل أوتامش استوزر المستعين أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد،
وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج، وولاه عيسى بن فرخانشاه، وولي
وصيف الأهواز وبغا الصغير فلسطين، ثم غضب بغا الصغير على أبي صالح فهرب
أبو صالح إلى بغداد في شعبان، وصير المستعين مكانه محمد بن الفضل
الجرجائي.
ومطر أهل سامراء يوم الجمعة لخمس ليال بقين من جمادى الأولى مطراً
جوداً سائلاً إلى اصفرار الشمس، وكان ذلك يوم سادس عشر تموز.
وتحركت المغاربة يوم الخميس لثلاث خلون من جمادى الأولى، وكانوا قد
تجمعوا ثم تفرقوا يوم الجمعة.
وفي هذه السنة غزا جعفر بن دينار الصائفة، فافتتح حصناً، ومطامير،
واستأذنه عمر بن عبد الله الأقطع في المصير إلى ناحية من بلاد الروم
ومعه خلق كثير من أهل ملطية فلقيه ملك الروم في خمسين ألفاً، فاقتتلوا
فقتل عمر ألف رجل من المسلمين، وذلك في يوم الجمعة للنصف من رجب.
وفيها قتل علي بن يحيى الأرمني، وذلك أن الروم لما قتلت عمر خرجت إلى
الثغور الجزرية وكلبوا عليها وعلى حرم المسلمين، فبلغ ذلك علي بن يحيى،
وهو قافل من أرمينية إلى ميافارقين، فنفر إليهم في جماعة فقتل في نحو
أربعمائة رجل، وذلك في رمضان.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام،
وهو والي مكة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن مطرف بن محمد بن علي بن حميد أبو إسحاق الأستراباذي كان من
كبار الفقهاء الأفاضل ومن أصحاب الحديث الثقات، سمع من إبراهيم بن موسى
الفراء وغيره، وتقدم إليه بالقضاء في الأيام الظاهرية فأبى أن يقبل
وردها ورد إليه مائة دينار.
توفي في هذه السنة.
إبراهيم بن عيسى أبو إسحاق الأصفهاني
صحب
معروفاً الكرخي، وكانت عبادته تشبه عبادة الملائكة، فليلة يقوم إلى
قريب الفجر، ثم يركع ويتمها ركعتين، وليلة يركع إلى قريب الفجر، ثم
يسجد ويتمها ركعتين، وليلة يسجد إلى قريب الفجر، ثم يرفع ويتمها
ركعتين، ثم يدعو في آخر الليل لجميع الناس، ولجميع الحيوان البهائم
والوحوش، ويقول في اليهود والنصارى: اللهم اهدهم، ويقول للتجار: اللهم
سلم تجارتهم.
توفي في شوال هذه السنة.
أوتامش التركي الأمير. قدمه المستعين على الكل، واستوزره فحسد على ذلك،
فقتل في هذه السنة.
حميد بن هشام بن حميد أبو خليفة الرعيني حدث عن الليث، وابن لهيعة،
وعمر طويلاً. وكان مستجاب الدعوة.
وتوفي في شوال هذه السنة.
الحسن بن الصباح بن محمد أبو علي البزاز سمع سفيان بن عيينة، وأبا
معاوية، وشبابة، وغيرهم. وروى عنه البخاري، والحربي، وابن أبي الدنيا،
والبغوي، وابن صاعد، وآخر من حدث عنه القاضي المحاملي.
وقال أبو حاتم الرازي: هو صدوق. وكان أحمد بن حنبل يرفع من قدره ويجله.
وكان ثقة صاحب سنة.
أخبرنا أبو منصور قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال: قرأت
على البرقاني، عن أبي إسحاق المزكي قال: حدثنا محمد بن إسحاق السراج
قال: سمعت الحسن بن الصباح يقول: أدخلت على المأمون ثلاث مرات رفع إليه
أول مرة أني آمر بالمعروف - وكان نهى أن يأمر أحد بمعروف - فأخذت
فأدخلت عليه، فقال لي: أنت الحسن البزاز؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: وتأمر بالمعروف؟ قلت: لا ولكني أنهى عن المنكر. فرفعني على ظهر
رجل وضربني خمس درر، وخلى سبيلي، وأدخلت عليه المرة الثانية، رفع إليه
أني أشتم علي بن أبي طالب، فلما قمت بين يديه قال لي: أنت الحسن؟ قلت:
نعم يا أمير المؤمنين. قال: وتشتم علي بن أبي طالب؟ فقلت: صلى الله على
مولاي وسيدي علي، يا أمير المؤمنين أنا لا أشتم يزيد بن معاوية، لأنه
ابن عمك، فكيف أشتم مولاي وسيدي؟! قال: خلوا سبيله. وذهبت مرة إلى أرض
الروم إلى بدنون في المحنة، فدفعت إلى أشناس، فلما مات خلي سبيلي.
توفي الحسن في ربيع الأول من هذه السنة.
علي بن الجهم بن بدر السامي: من ولد سامة بن لؤي بن غالب، وكان شاعراً
وكان له اختصاص بالمتوكل، وكان فاضلاً متديناً ذا شعر جيد مستحسن، إلا
أنه كان يتكلم عند المتوكل على أصحابه فحبسه المتوكل، ثم نفاه إلى
خراسان.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت أخبرنا محمد بن
عبد الله الحنائي قال: حدثنا أبو الحسين عبد الله بن محمد بن جعفر بن
شاذان قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: قال لي علي بن الجهم: وجه بي
المتوكل في حاجة إلى بغداد، فلما كان يوم الجمعة صليت في الصحن، فإذا
سائل قد وقف يسأل، فحدث أحاديث صحاحاً، وأنشد شعراً مستوياً، وتكلم
بكلام حسن، فأخذ من قلوب الناس، ثم قال لهم: يا قوم، إني لم أوت من
عجر، وإني افتتنت في علوم كثيرة ولقد خرجت إلى الجعفري إلى المتوكل،
فحملت والتراب على رأسي فخرج يوماً المتوكل على حمار له يدور في القصر
فطرحت التراب على رأسي وأنشدته القصيدة الفلانية، وأنشدها فجود
إنشادها، فأمر لي بعشرة آلاف درهم، فقال له علي بن الجهم: الساعة يفتح
عليك أهل الخلد فلا تكفيك بيوت الأموال، فلم أعط شيئاً، فلم يبق أحد
إلا لعنني وذمني، فقلت للخادم: علي بالسائل. فأتاني به، فقلت له: تعرف
علي بن الجهم؟ فقال: لا. فقلت للخادم: من أنا؟ قال: علي بن الجهم فقلت
لشيوخ بالقرب مني: من أنا؟ قالوا: علي بن الجهم. فقال: ما تنكر من هذا
هات عشرة دراهم أخرجك وأدخل غيرك. فأعطيته عشرة دراهم، وأخذت عليه ألا
يذكرني.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا علي
بن أيوب القمي، حدثنا محمد بن عمران الكاتب قال: أخبرني محمد بن يحيى
قال: قال علي بن الجهم:
نوب الزمان كثيرة وأشدها ... شمل تحكم فيه يوم فراق
يا قلب لم عرضت نفسك للهوى ... أوما رأيت مصارع العشاق
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب وقال: قرأت في
كتاب عمر بن محمد بن الحسن عن أبي بكر الصولي قال: حدثنا علي بن محمد
بن نصر قال:
قال أحمد
بن حمدون: ورد على المستعين في شعبان سنة تسع وأربعين كتاب صاحب البريد
بحلب أن علي بن الجهم خرج من حلب متوجهاً إلى الغزو، فخرجت عليه وعلى
جماعة ومعه خيل من كلب، فقاتلهم قتالاً شديداً فلحقه الناس وهو جريح
بآخر رمق فكان مما قال:
أسال بالصبح سيل ... أم زيد في الليل ليل
يا إخوتي بدجيل ... وأين مني دجيل
وكان منزله ببغداد في شارع دجيل، وأنه مات فوجدت معه رقعة حين نزعت
ثيابه بعد موته فيها:
يا رحمتا للغريب في البلد الن ... ازح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه مما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
ومات في ذلك المنزل على يوم من حلب، ومن شعره المستحسن:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن ... سلوت ولكن زدن حمراً على حمر
سلمن وأسلمن القلوب كأنما ... تشك بأطراف المثقفة السمر
وقلن لها نحن الأهلة إنما ... نضيء لمن يسري بليل ولا يغري
ولا بذل إلا ما تزود ناظر ... ولا وصل إلا بالخيال الذي يسري
خليلي ما أحلى الهوى وأمره ... وأعلمني بالحلو فيه وبالمر
كفى بالهوى شغلاً وبالشيب زاجراً ... لو ان الهوى ما ينهنه بالزجر
بما بيننا من حرمة هل رأيتما ... أرق من الشكوى وأقسى من الهجر
وأفضح من عين المحب لسره ... ولا سيما أن طلعت عبرة تجري
وإنا لممن سار بالثغر ذكره ... ولكن أشعاري يسير بها ذكري
وما كل من قاد الجياد يسوسها ... ولا كل من أجرى يقال له مجري
ولكن إحسان الخليفة جعفر ... دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر
وفرق شمل المال جود يمينه ... وعلى أنه أبقى له أجمل ذكر
إذا ما أمال الرأي أدرك فكره ... غرائب لم تخطر ببال ولا فكر
ولا يجمع الأموال إلا لبذلها ... كما لا يساق الهدي إلا إلى النحر
ومن قال إن القطر والبحر أشبها ... فقد أثنى على البحر والقطر
أغير كتاب الله تبغون شاهداً ... لكم يا بني العباس بالمجد والفخر
كفاكم بأن الله فوض أمره ... إليكم وأوحى أن أطيعوا أولي الأمر
وهل يقبل الإيمان إلا بحبكم ... وهل يقبل الله الصلاة بلا طهر
ومن كان مجهول المكان فإنما ... منازلكم بين الحجون إلى الحجر
خلاد بن أسلم، أبو بكر: سمع هشيماً، وابن عيينة، والنضر بن شميل. وروى
عنه إبراهيم الحربي، والبغوي، وابن صاعد، والمحاملي. وقال الدارقطني:
فقيه، ثقة.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال:
حدثني الأزهري، عن عبيد الله بن عثمان بن يحيى، أخبرنا أحمد بن جعفر
المنادي إجازة قال: حدثني أبو عيسى محمد بن إبراهيم القرشي قال: سمعت
أبا جعفر محمد بن عبد الرحمن الصيرفي يقول: بعث إلي الحكم بن موسى في
أيام عيد أنه يحتاج إلى نفقة، ولم يكن عندي إلا ثلاثة آلاف درهم، فوجهت
إليه بها، فلما صارت في قبضته وجه إليه خلاد بن أسلم أنه يحتاج إلى
نفقة، فوجه بها كلها إليه، واحتجت أنا إلى نفقة فوجهت إلى خلاد أني
أحتاج إلى نفقة، فوجه بها كلها إلي، فلما رأيتها مصرورة في خرقتها وهي
الدراهم بعينها، أنكرت ذلك، فبعثت إلى خلاد: حدثني بقصة هذه الدراهم،
فأخبرني أن الحكم بن موسى بعث بها إليه فوجهت إلى الحكم منها بألف
ووجهت إلى خلاد بألف، وأخذت أنا منها ألف.
توفي خلاد في جمادى الآخرة من هذه السنة.
رجاء بن أبي رجاء واسم أبي رجاء مرجى بن رافع، أبو محمد المروزي سكن
بغداد، وحدث بها، عن النضر بن شميل، وأبي نعيم، وقبيصة. روى عنه ابن
أبي الدنيا، وابن صاعد، والمحاملي، وكان ثقة ثبتاً إماماً في الحديث
وحفظه، والمعرفة به، قال أبو حاتم الرازي: هو صدوق.
توفي في
جمادى الأولى من هذه السنة.
سعيد بن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص، أبو عثمان الأموي سمع
ابن المبارك، وعيسى بن يونس، روى عنه البخاري، ومسلم، والبغوي، وابن
صاعد، وآخر من روى عنه القاضي المحاملي، وكان ثقة.
توفي في ذي القعدة من هذه السنة، ودفن في مقبرة باب البردان.
عمر بن علي بن بحر بن كثير أبو حفص الصيرفي الفلاس البصري سمع سفيان بن
عيينة، وبشر بن المفضل، وغندرا، والمعتمر بن سليمان، وابن مهدي، وخلقاً
كثيراً. روى عنه عفان بن مسلم، والبخاري، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو
داود، والترمذي، وآخر من روى عنه من أهل الدنيا: أبو روق الهزاني، وكان
الفلاس إماماً حافظاً صدوقاً ثقة، ومدحه رجل فقال:
يروم الحديث بإسناده ... ويمسك عنه إذا ما وهم
ولو شاء قال ولكنه ... يخاف التزيد فيما علم
قال أبو زرعة: ولم ير بالبصرة أحفظ من هؤلاء الثلاثة: علي بن المديني،
وابن الشاذكوني، وعمر بن علي. قدم الفلاس يقصد الخليفة فتلقاه أصحاب
الحديث في الزواريق إلى المدائن، فدخل بغداد فحدثهم.
ثم توفي بسر من رأى في ذي القعدة من هذه السنة.
محمد بن بكر بن خالد أبو جعفر القصير كاتب أبي يوسف القاضي. سمع عبد
العزيز الدراوردي، وفضيل بن عياض، وغيرهما، وكان ثقة.
توفي في هذه السنة لتسع خلون من ذي القعدة.
محمد بن حاتم بن بزيع أبو سعيد، ويقال أبو بكر ثقة أخرج عنه البخاري في
صحيحه.
وتوفي في رمضان هذه السنة
ثم دخلت
سنة خمسين ومائتين
فمن الحوادث فيها: ظهور أبي الحسين يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد
بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالكوفة، وسبب خروجه أنه نالته
ضيقة شديدة ولزمه دين ضاق به ذرعاً، فلقي عمر بن فرح، وكان يتولى أمر
الطالبيين عند مقدمه من خراسان أيام المتوكل فكلمه في صلة فأغلظ له عمر
في القول، فسبه يحيى، فحبسه فلم يزل محبوساً إلى أن كفله أهله، فأطلق
فشخص إلى مدينة السلام، فأقام بها بحال سيئة، ثم سار إلى سامراء فلقي
وصيفاً في رزق يجري عليه، فأغلظ له وصيف في الرد، وقال: لأي شيء يجري
على مثلك؟ فانصرف عنه، فخرج إلى الكوفة فجمع جمعاً كبيراً من الأعراب
وأهل الكوفة، وأتى الفلوجة، فكتب صاحب البريد بخبره فكتب محمد بن عبد
الله بن طاهر إلى أيوب بن الحسن، وعبد الله بن محمود السرخسي يأمرهما
بالاجتماع على محاربته، فدخل يحيى بن عمر إلى بيت المال بالكوفة، فوجد
فيه ألفي دينار وسبعين ألف درهم، فأخذها وظهر أمره بالكوفة، وفتح
السجنين فأخرج جميع من كان فيها، وأخرج عمالهما عنها، فلقيه عبد الله
بن محمود فضربه يحيى ضربة أثخنته، فانهزم وحوى يحيى جميع ما كان معه من
الدواب والمال، ثم خرج يحيى من الكوفة إلى سوادها، وتبعه جماعة من
الزيدية وغيرهم وكثر جمعه ووجه ابن طاهر إلى محاربته جمعاً كثيراً.
ثم دخل يحيى الكوفة ودعى إلى الرضى من آل محمد وكثف أمره وتابعه خلق
كثير لهم بصائر وتدوين، ثم لقي أصحاب ابن طاهر فانهزم أصحاب يحيى، وذبح
هو، ووجه برأسه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فبعث به إلى المستعين من
الغد فنصبه بباب العامة بسامراء.
ودخل الناس يهنئون عبد الله بن طاهر، فدخل رجل فقال: أيها الأمير، إنك
لتهنأ بقتل رجل لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً لعزي به، فما
رد عليه شيئاً.
ثم خرج من بعده الحسن بن زيد بن إسماعيل بن الحسين بن زيد بن علي بن
الحسين بن أبي طالب رضوان الله عليهم في شهر رمضان. وذلك لما جرى على
يحيى بن عمر ما جرى على يد ابن طاهر أقطعه المستعين قطائع بطبرستان،
فبعث وكيله فحازها وحاز معها الموات، فنفر من ذلك أهل تلك الناحية،
واستعدوا لمنعه، وذهبوا إلى علوي يقال له: محمد بن إبراهيم بدعوته إلى
البيعة، فأبى وقال:
أدلكم على
من هو أقوم مني بذلك: الحسن بن زيد. ودلهم على مسكنه بالري، فوجهوا
إليه رسالة محمد بن إبراهيم من يدعوه إلى طبرستان، فشخص معه إليهم
فبايعوه، ثم ناهضوا العمال فطردوهم، ثم زحف بمن معه إلى آمل وهي أول
مدائن طبرستان، فدخلها وقام فيها أياماً حتى جبى الخراج من أهلها،
واستعد، وخرج أصحاب ابن طاهر واقتتلوا، وهرب أصحاب ابن طاهر واجتمعت
للحسن بن زيد مع طبرستان الري إلى حد همذان، وورد الخبر إلى المستعين
فبعث إليه جنوداً.
وفي هذه السنة: غضب المستعين على جعفر بن عبد الواحد لأن وصيفاً زعم
أنه قد أفسد الشاكرية فنفي إلى البصرة لسبع بقين من ربيع الأول.
وفيها أسقطت مرتبة من كانت له مرتبة في دار العامة من بني أمية كابن
أبي الشوارب، والعثمانيين.
وأخرج من الحبس الحسن بن الأفشين.
وفيها وثب أهل حمص على الفضل بن قارون وهو عامل السلطان عليها فقتلوه
في رجب، فوجه إليهم المستعين موسى بن بغا الكبير، فشخص من سامراء يوم
الخميس لثلاث عشرة خلت من رمضان، فلما قرب من حمص تلقاه أهلها فحاربهم،
وافتتحها وقتل من أهلها مقتلة عظيمة وحرقها، وأسر جماعة من رؤساء
أهلها.
وفيها: وثبت الجند والشاكرية ببلد فارس بعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم
فانتهبوا داره، فهرب، وقتلوا محمد بن الحسن بن قارون.
وفيها: وجه محمد بن طاهر من خراسان بفيلين كان قد وجه بهما إليه من
كابل وأصنام.
وحج بالناس في هذه السنة جعفر بن الفضل وهو والي مكة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن يحيى بن الوزير أبو عبد الله كان فقيهاً من جلساء ابن وهب،
وكان عالماً بالشعر، والأدب، وأيام الناس، والأنساب، ولد سنة إحدى
وسبعين ومائة.
توفي في شوال هذه السنة في الحبس لخراج كان عليه.
أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو السرح، أبو طاهر كان فقيهاً. وحدث عن
رشدين بن سعد، وسفيان بن عيينة، وابن وهب. توفي في ذي القعدة من هذه
السنة، وكان من الصالحين الأثبات.
إبراهيم بن محمد، أبو إسحاق التيمي. قاضي البصرة، أشخصه المتوكل إلى
بغداد لتوليه القضاء.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب قال أخبرني عبيد الله بن أبي الفتح، أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن
محمد بن عرفة قال: أشخص إبراهيم بن محمد التيمي، ومحمد بن عبد الملك بن
أبي الشوارب فلما حضرا دار المتوكل أمر بإدخال ابن أبي الشوارب فلما
أدخل عليه قال: إني أريدك للقضاء. فقال: يا أمير المؤمنين لا أصلح له.
قال: تأبون يا بني أمية إلا كبراً. فقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي
كبر، ولكني لا أصلح للحكم. فأمر بإخراجه وكان هو وإبراهيم التميمي قد
تعاقدا على أن لا يتولى أحد منهما القضاء، فدعي إبراهيم فقال له
المتوكل: إني أريدك للقضاء. فقال: على شريطة يا أمير المؤمنين. قال:
على أن تدعو لي دعوة، فإن دعوة الإمام العادل مستجابة. فولاه. وخرج على
ابن أبي الشوارب في الخلع.
حدث إبراهيم عن سفيان بن عيينة، ويحي بن سعيد.
وتوفي في ذي الحجة من هذه السنة وكان ثقة.
الحارث بن مسكين بن محمد بن يوسف، أبو عمر المصري ولد سنة أربع وخمسين
ومائة، وكان ثقة صدوقاً فقيهاً على مذهب مالك، ورأى الليث بن سعيد،
وكان يجالس برد بن نجيح صاحب مالك بن أنس، وقعد بعد موت برد في حلقته،
وحمله المأمون مع من حمل من مصر إلى بغداد في محنة القرآن،فسجن فأقام
في السجن إلى أن ولى المتوكل، فأطلق المسجونين في ذلك، وأطلقه وولاه
قضاء مصر فتولاه من سنة سبع وثلاثين إلى سنة خمس وأربعين، ثم صرف عن
ذلك.
وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة وصلي عليه أمير مصر وكبر( عليه)
خمساً.
نصر بن علي بن نصر بن صهبان بن أبي، أبو عمرو، الجهضمي البصري سمع
معتمر بن سليمان وسفيان بن عيينة وابن مهدي وغيرهم. روي عنه مسلم في
صحيحه، وعبد الله بن أحمد، والباغندي، والبغوي، وكان ثقة. وقدم بغداد
فحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد حسن وحسين فقال: " من أحبني
وأحب هذين وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة " فأمر المتوكل أن يضرب
ألف سوط ظناً منه أنه رافضي فقال له جعفر بن عبد الواحد: هذا الرجل من
أهل السنة فتركه.
أنبأنا
محمد بن عبد الملك بن خيرون قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن فضالة الحافظ، أخبرنا الحسين بن
جعفر ين محمد قال: أخبرنا أحمد بن أبي طلحة، حدثنا أحمد بن علي
السياري، حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال: كان في جيراني رجل طفيلي، فكنت
إذا دعيت إلى مدعاة ركب لركوبي فإذا دخلنا الموضع أكرم من أجلي، فاتخذ
جعفر بن سليمان أمير البصرة دعوة، فدعيت فيها، فقلت في نفسي: والله إن
جاء هذا الرجل معي لأخزينه. فلما ركبت ركب لركوبي ودخلت الدار فدخل معي
وأكرم من أجلي، فلما حضرت المائدةقلت: حدثنا درست بن زياد، عن أبان بن
طارق، عن نافع، عن ابن عمران عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من
مشى إلى طعام لم يدع إليه مشى فأسقي وأكل حراما " قال: فقال الطفيلي:
استحييت لك يا أبا عمرو، مثلك يتكلم بهذا الكلام على مائدة الأمير ثم
ما ها هنا أحد إلا وهو يظن أنك رميته بهذا الكلام، ثم لا تستحي أن تحدث
عن درست ودرست كذاب لا يحتج بحديثه عن أبان بن طارق، وأبان كان صبيان
المدينة يلعبون به، ولكن أين أنت مما حدثنا به أبو عاصم النبيل، عن ابن
جريج، عن الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "
طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة
" .
قال نصر بن علي: فكأني ألقمت حجراً فلما خرجنا من الدار أنشأ الطفيلي
يقول:
ومن ظن ممن يلاقي الحروب ... بأن لا يصاب لقد ظن عجزا
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا محمد بن الحسن الأهوازي قال: سمعت العسكري يقول: سمعت الزينبي -
يعني إبراهيم بن عبد الله يقول: سمعت نصر بن علي يقول: دخلت على
المتوكل فإذا هو يمدح الرفق فأكثر، فقلت يا أمير المؤمنين أنشدني
الأصمعي:
لم أر مثل الرفق في لينه ... أخرج للعذراء من خدرها
من يستعين بالرفق في أمره ... يستخرج الحية من حجرها
فقال: يا غلام، الدواة والقرطاس فكتبهما.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو عمرو الحسن
بن عثمان الواعظ قال: أخبرنا جعفر بن محمد بن أحمد الواسطي قال: سمعت
أبا بكر بن أبي داود يقول: كان المستعين بالله بعث إلى نصر بن علي
يشخصه للقضاء، فدعاه عبد الملك أمير البصرة فأمره بذلك، فقال: ارجع
فأستخير الله فرجع إلى بيته نصف النهار، فصلى ركعتين وقال: اللهم إن
كان لي عندك خير فاقبضني إليك. فنام فأنبهوه، فإذا هو ميت.
توفي نصر في أحد الربيعين من هذه السنة.
عباد بن يعقوب الراوجي. سمع الوليد بن أبي ثور، وعلي بن هاشم، وغيرهما،
وكان غالياً في التشيع وقد أخرج عنه البخاري وربما لم يعلم أنه كان
متشيعاً. توفي في هذه السنة.أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ قال: أخبرنا
أحمد بن الحسين أبو طاهر الباقلاوي قال: أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد
الله الأصفهاني قال: حدثني محمد بن المظفر قال: سمعت قاسم بن زكريا
المطرز يقول: وردت الكوفة فكتبت عن شيوخها كلهم غير عباد بن يعقوب،
فلما فرغت ممن سواه، دخلت عليه وكان يمتحن من سمع منه، فقال، لي: من
حفر البحر؟ فقلت الله خلق البحر. فقال: هو كذلك، ولكن من حفره؟ فقلت:
يذكر الشيخ. فقال: حفره علي بن أبي طالب، ثم قال: ومن أجراه؟ فقلت:
الله مجري الأنهار ومنبع العيون. فقال: هو كذلك، ولكن من أجرى البحر؟
فقلت: يفيدني الشيخ. فقال: أجراه الحسين بن علي. قال: وكان عباد
مكفوفاً فرأيت في داره سيفاً معلقاً وحجفة، فقلت: أيها الشيخ، لمن هذا
السيف؟ فقال: لي أعددته لأقاتل به مع المهدي. فلما فرغت من سماع ما
أردت أن أسمعه منه، وعزمت على الخروج عن البلد دخلت عليه فسألني كما
كان يسألني فقال: من حفر البحر؟ قلت: حفره معاوية وأجراه عمرو بن
العاص، ثم وثبت من بين يديه وجعلت أعدو وجعل يصيح: أدركوا الفاسق عدو
الله فاقتلوه.
قال المصنف: ومثل هذا جرى لصالح جزرة، فإنه جاء إلى عبد الله بن عمر بن
أبان وكان غالياً في التشيع، وكان يمتحن من يسمع منهن فقال له: من حفر
بئر زمزم؟ فقال صالح: حفرها معاوية بن أبي سفيان. فقال: من نقل ترابها؟
قال:
عمرو بن
العاص فزبره ودخل منزله.
ثم دخلت
سنة إحدى وخمسين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أنه وثب بغا الصغير ووصيف على باغر التركي فقتلاه
فشغبت الأتراك عند مقتله، وذلك لخمس خلون من المحرم، وهموا بقتل بغا
ووصيف، فانحدر المستعين إلى بغداد لأجل الشعب، واختلف جند بغداد وجند
سامراء، وبايع أهل سامراء المعتز، وأقام أهل بغداد على الوفاء ببيعة
المستعين، ثم صار الجند إلى المستعين، فرموا أنفسهم بين يديه وسألوه
الصفح عنهم، فقال لهم: أنتم أهل بغي وبطر وفساد، واستقلال للنعم ألم
ترفعوا إلي في أولادكم فألحقتهم بكم وهم نحو من ألفي غلام، وفي بناتكم
فأمرت بتصييرهن في عدد المتزوجات وهن نحو من أربعة آلاف امرأة، وأدررت
عليكم الأرزاق حتى سكبت لكم آنية الذهب والفضة قالوا: أخطأنا، ونحن
نسأل العفو. قال: قد عفوت عنكم، فقال أحدهم: إن كنت قد صفحت فاركب معنا
إلى سامراء فقال: اذهبوا أنتم وأنا أنظر في أمري، فانصرفوا واجمعوا على
إخراج المعتز، والبيعة له، وكان المعتز والمؤيد في حبس في الجوسق،
فخلعوا المستعين، وأخرجوا المعتز وفبايعوه بالخلافة.
ذكر خلافة المعتز بالله
وأسمه: محمد بن المتوكل، وقيل اسمه: الزبير ويكنى: أبا عبد الله، وكان
طويلاً، أبيض ، أسود الشعر كثيفه، حسن الوجه والعينين والجسم، ضيق
الجبهة، أحمر الوجنتين، ولد بسامراء وبقي منذ بويع أربع سنين وبعض
أخرى، ولما بويع المعتز أمر للناس برزق عشرة أشهر فلم يتم المال،
فأعطوا رزق شهرين، وكان المستعين خلف سامراء مالاً قدم عليه به نحواً
من خمسين مائة ألف، وكان في بيت مال المستعين ألف ألف دينار، وفي بيت
مال العباس بن المستعين ستمائة ألف، وأحضر للبيعة أبو أحمد بن الرشيد
محمولاً في محفة وبه نقرس، فأمر بالبيعة، فامتنع وقال للمعتز: خرجت
إلينا خروج طائع فخلعتها وزعمت أنك لا تقوم بها. فقال المعتز: أكرهت
على ذلك، وخفت السيف. فقال أبو أحمد: ما علمنا أنك أكرهت، وقد بايعنا
هذا الرجل، أفتريد أن نطلق نساءنا، ونخرج من أموالنا، ولا ندري ما يكون
إن تركتني على أمري حتى يجتمع الناس، وإلا فهذا السيف، فقال المعتز:
اتركوه. فرد إلى منزله وبايع جماعة، ثم صار إلى بغداد، وولي المعتز
العمال.
وبلغ الخبر المستعين، فأمر محمد بن عبد الله بن طاهر بتحصين بغداد،
فأدير عليها السور من دجلة إلى باب الشماسية، ثم سوق الثلاثاء، ورتب
على كل باب قائد، وأمر بحفر الخنادق، فبلغت النفقة ثلثمائة ألف دينار
وثلاثين ألف دينار، ونصبت المجانيق والعرادات، وفرض لقوم من العيارين
فروضاً، وجعل عليهم عريفاً، وعمل لهم تراساً من البواري المقيرة ومخالي
يملؤها حجارة، وأنفق على تلك البواري مائة ألف دينار، وأمر بقطع الميرة
عن سامراء، وكتب إلى العمال أن يحملوا الأموال إلى بغداد، ثم أمر
المستعين أن يكتب إلى الأتراك، والجند الذين بسامراء يأمرهم بنقض بيعة
المعتز، ومراجعة الوفاء له ببيعتهم، ثم جرت بين المعتز وبين ابن طاهر
مراسلات، يدعوه المعتز إلى خلع المستعين ومبايعته، وكتب المعتز
والمستعين إلى موسى بن بغا وهو مقيم بأطراف الشام كل يدعوه إلى نفسه،
فانصرف إلى المعتز وكان معه وقدم عبد الله بن بغا الصغير إلى بغداد على
أبيه وكان قد تخلف بسامراء حين خرج أبوه منها مع المستعين، فصار إلى
المستعين واعتذر إليه وقال لأبيه: إنما قدمت إليك لأموت تحت ركابك،
فأقام ببغداد أياماً.
ثم إنه استأذن ليخرج إلى قرية بقرب بغداد على طريق الأنبار، فأذن له،
فأقام فيها إلى الليل، ثم هرب من تحت الليل، فمضى في الجانب الغربي إلى
سامراء مجانباً لأبيه، واعتذر إلى المعتز من مصيره إلى بغداد فأخبر
المعتز أنه إنما صار إليها ليعرف أخبارهم فيخبره بها، فقبل ذلك منه
ورده إلى خدمته.
وورد الحسن بن الأفشين إلى بغداد فخلع عليه المستعين وضم إليه جماعة
كثيرة، وزاد في رزقه ستة عشر ألف درهم من كل شهر، ولم يزل أسد بن داود
مقيماً بسامراء إلى أن عمل على الهرب منها، فدخل على ابن طاهر فضم إليه
مائة فارس ومائتي راجل، ووكله بباب الأنبار مع عبيد الله بن موسى بن
خالد.
وعقد
المعتز لأخيه أبي أحمد بن المتوكل يوم السبت لسبع بقين من المحرم في
هذه السنة على حرب المستعين وابن طاهر وولاه ذلك، وضم إليه الجيش وجعل
إليه الأمر والنهي، فوافى حسن بن الأفشين مدينة بغداد، ثم وافى أبو
أحمد وعسكر بالشماسية ليلة الأحد لسبع خلون من صفر، وجاء جاسوس إلى ابن
طاهر لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر، فأخبره أن أبا أحمد قد عبأ قوماً
يحرقون طلال الأسواق من جانبي بغداد فكشطت في ذلك اليوم، فلما كان في
ليلة الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر عزم محمد بن عبد الله بن
طاهر على توجيه الجيوش إلى القفص لمعرضهم هناك فذهب به الأتراك، فركب
وركب معه وصيف وبغا، وخرج معه الفقهاء والقضاة، وعزم على دعائهم إلى
الرجوع إلى الحق، وبعث يبدلهم الأمان على أن يكون أبو عبد الله ولي
العهد بعد المستعين، فإن قبلوا وإلا باكرهم القتال يوم الأربعاء.
فمضى نحو باب قطربل فنزل على شاطئ دجلة هو ووصيف وبغا، ثم رجع وجاء
الأتراك إلى باب الشماسية فرموا بالسهام والمجانيق والعرادات، وكان
بينهم قتلى وجرحى، وانهزم عامة أهل بغداد، وثبت أهل البواري، ثم انصرف
الفريقان وقد نسا ووافى للقتل والجراح.
ثم وجه المعتز عسكراً كبيراً فضربوا بين قطربل وقطيعة أم جعفر، وذلك
عشية الثلاثاء لاثنتي عشرة بقيت من صفر فلما أصبحوا وجه ابن طاهر جيشاً
فالتقوا فاقتتلوا، فوضعوا في أصحاب أبي أحمد السيوف فلم ينج إلا أقلهم
وانتهبوا عسكرهم وأمر ابن طاهر لمن أبلى في هذا اليوم بالأسورة، وأعطى
من جاءه برأس تركي خمسين درهماً، وطلبت المنهزمة فبلغ بعضهم أوانا
وبعضهم سامراء.
وكان عسكر الأتراك يومئذ أربعة آلاف فقتل بينهم ألفان، ووضع فيهم السيف
من باب القطيعة إلى القفص وغرق جماعة وأسر جماعة.
ووافى عيارو بغداد قطربل، فانتهبوا ما تركه الأتراك من متاع وأشير على
ابن طاهر أن يتبعهم بعسكر فأبى أن يتبع مولياً، ولم يأمر أن يجهز على
جريح، وقبل أمان من استأمن، وأمر أن يكتب كتاباً يذكر فيه هذه الوقعة
فقرئ على أهل بغداد في الجوامع.
وركب محمد بن عبد الله بن طاهر يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من
صفر إلى الشماسية فأمر بهدم ما وراء سور بغداد من الدور والحوانيت
والبساتين، وقطع النخل والشجر من باب الشماسية لتتسع الناحية من حارب
فيها، ووجه من ناحية فارس والأهواز مالاً إلى بغداد على نيف وسبعين
حماراً، فوجه أبو أحمد بن بابك في ثلاثمائة فارس ليأخذ ذلك المال، فوجه
ابن طاهر من عدل به عن الطريق، ففات ابن بابك فعدل ابن بابك حين فاته
المال إلى النهروان، فأوقع بمن كان فيها من الجند، وأحرق السفن، وانصرف
إلى سامراء، ورأى العوام بسامراء ضعف المعتز، فانتهبوا سوق الحلي
والسيوف والصيارفة.
ولليلة بقيت من صفر صار الأتراك والمغاربة أصحاب المعتز إلى أبواب
بغداد من الجانب الشرقي، فأغلقت الأبواب في وجوههم ورموا بالسهام
والمجانيق، فقتل وجرح من الفريقين جماعة.
وجاء عسكر سامراء، فركب محمد بن عبد الله ومعه أربعة عشر قائداً من
قواده فسار حتى جاز عسكر أبي أحمد وقتل من عسكر أبي أحمد، أكثر من
خمسين، وخرج غلام لم يبلغ الحلم بيده مقلاع ومخلاة فيها حجارة، وكان
يرمي فلا يخطئ وجوه الأتراك ووجوه دوابهم، وكان الأتراك يرمونه فلا
يصيبونه، فجاء أربعة بالرماح فحملوا عليه فرمى نفسه إلى الماء فنجا.
وحمل إلى سامراء سبعون أسيراً ومائة وأربعون رأساً، وأمر المعتز
بالرؤوس فدفنت، وأعطى كل أسير دينارين، ونهاهم عن العود إلى القتال.
وبعث ابن طاهر إلى المدائن من حصنها، وحفر خندق كسرى، وإلى الأنبار من
ضبطها، فجاءت الأتراك إلى الأنبار، فهرب واليها فدخلوا فانتهبوا ما
فيها.
وفي النصف من رجب اجتمع بنو هاشم ببغداد، فوقفوا بإزاء محمد بن عبد
الله فتناولوه بالشتم القبيح، وقالوا وصاحوا بالمستعين: قد منعنا
أرزاقنا والأموال تدفع إلى من لا يستحقها، ونحن نموت جوعاً، فإن وقع
لنا بها وإلا فتحنا الأبواب وأدخلنا الأتراك. فبعث إليهم من رفق بهم
فأبوا.
وفي يوم
الخميس لاثني عشرة ليلة خلت من شعبان كانت وقعة بين الأتراك وبين ابن
طاهر، وذلك أن الأتراك نقبوا السور ووافوا باب الأنبار فأحرقوه بالنار،
وأحرقوا ما كان بقي من المجانيق والعرادات، ودخلوا بغداد حتى صاروا إلى
باب الحديد، فركب ابن طاهر ووجه القواد، وشحن الأبواب بالرجال، وركب
وصيف وبغا والتقوا بالأتراك، فهزموا الأتراك وسد باب الأنبار بآجر وجص،
وكان في هذا اليوم حرب شديدة بباب الشماسية.
وفي ذي القعدة: كانت وقعة شديدة لأهل بغداد، وهزموا فيها الأتراك،
وانتهبوا عسكرهم، فراسل ابن طاهر المعتز في الصلح، فقال الناس: إنما
تريد أن تخلع المستعين وتبايع المعتز. فشتموه، ولقي منهم شدة حتى أشرف
عليهم المستعين ومعه ابن طاهر، وحلف لهم إني ما أتهمه، فكان المستعين
مقيماً في دار ابن طاهر، فانتقل إلى دار رزق الخادم بالرصافة من أجل أن
العوام أرادوا إحراق دار ابن طاهر، وأغلقت أبواب بغداد على أهلها،
فصاحوا: الجوع، ولم يزل محمد بن عبد الله بن طاهر جاداً في نصرة
المستعين إلى أن قال له جماعة: إن هذا الذي تنصره أمر وصيفاً وبغا
بقتلك فلم يفعلا. فتنكر له.
ثم ركب إليه في ذي الحجة فناظره في الخلع، فامتنع، وظن المستعين أن بغا
ووصيفاً معه، فكاشفاه، فقال المستعين: هذه عنقي والسيف والنطع. ثم
انصرف ابن طاهر، فبعث إليه المستعين يقول: اتق الله، فإن لم تدفع عني
فكف عني. فقال: أما أنا فأقعد في بيتي، ولكن لا بد من خلعها طائعاً أو
مكرهاً.
فلما رأى المستعين ضعف أمره أجاب إلى الخلع فوجه ابن طاهر إلى أبي أحمد
كتاباً بأشياء سألها المستعين حتى يجيب إلى الخلع، فأجابه إلى ما سأل،
وكان في سؤاله: أن ينزل إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون
مضطربه فيما بين مكة والمدينة، فأجيب وذلك لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي
الحجة.
فلما كان يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجة ركب محمد بن عبد الله إلى
الرصافة، وجمع القضاة، فأدخلهم على المستعين فوجاً فوجاً، وأشهدهم عليه
أنه قد صير أمره إلى محمد بن عبد الله وأعد للخروج إلى المعتز في
الشروط التي اشترطها للمستعين ولنفسه ولقواده، فخرجوا إلى المعتز فوقع
على ذلك بخطه.
وفي هذه السنة: تحركت العلوية في النواحي فخرج الحسين بن زيد بن محمد
على طبرستان، وخرج بالري علي بن جعفر بن حسين بن علي بن عمر، وخرج
الحسن بن أحمد الكوكبي فسار إلى الديلم.
وخرج بالكوفة رجل من الطالبيين يقال له: الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد
الله بن حسين بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، وتبعه جماعة كثيرة
فبعث إليه قائداً فأسره وحبسه وأحرق بالكوفة ألف دار.
وظهر إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسين بن علي بن
أبي طالب بمكة، فانتهب إسماعيل منزل جعفر ومنازل أصحاب السلطان، وقتل
الجند وجماعة من أهل مكة، وأخذ ما في الكعبة من المال، وما في خزائنها
من الطيب والكسوة، وما حمل لإصلاح القبر من المال، وأخذ من الناس نحواً
من مائتي ألف دينار، وانتهب مكة وأحرق بعضها.
ثم خرج بعد خمسين يوماً إلى المدينة، فتوارى عاملها علي بن الحسين بن
إسماعيل ثم رجع إسماعيل إلى مكة في رجب، فحاصرها حتى مات أهلها جوعاً
وعطشاً، وبلغ الخبز ثلاث أواقٍ بدرهم، واللحم رطل بأربعة دراهم، وشربة
ماءٍ ثلاثة دراهم، ولقي أهل مكة كل بلاءٍ.
ثم رحل بعد سبعة وخمسين يوماً إلى جدة، فحبس عن الناس الطعام، وأخذ
أموال التجار وأصحاب المراكب، وحمل إلى مكة الحنطة والذرة من اليمن، ثم
وافى الموقف يوم عرفة، وهناك ولاه المستعين، فقتل نحو ألف ومائة من
الحاج وسلب الناس، فهربوا إلى مكة ولم يقفوا بعرفة ليلاً ولا نهاراً،
ووقف هو وأصحابه، ثم رجعوا إلى جدة فأفنى أموالها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسحاق بن منصور بن بهرام الكوسج المروزي ولد بمرو ورحل إلى العراق،
والحجاز، والشام. فسمع سفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد، وابن مهدي،
ووكيع بن جراح، والنضر بن شميل.
وحدث ببغداد فسمع منه إبراهيم الحربي، وعبد الله بن أحمد، وكان عالماً
ثقة مأموناً فقيهاً دون عن أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه المسائل،
وكان أحمد لا يؤثر أن يكتب كلامه فقال يوماً:
بلغني أن
الكوسج روى عني مسائل بخراسان اشهدوا أني رجعت عن ذلك كله. ثم قدم
الكوسج، فدخل على أحمد، فما ذكر له شيئاً عن ذلك.
وفي رواية: أنه جاء بتلك المسائل إلى بغداد وعرضها على أحمد فأقر له
بها، وعجب من ذلك.
استوطن الكوسج نيسابور، وتوفي في جمادى الأولى من هذه السنة.
حميد بن زنجويه أبو أحمد الأزدي وزنجويه لقب، واسمه: مخلد بن قتيبة بن
عبد الرحمن. خراساني من أهل نسا، كثير الحديث قديم الرحلة فيه إلى
العراق، والحجاز، والشام، ومصر.
سمع النضر بن شميل، وإسماعيل بن أبي أويس، ومحمد بن يوسف الفريابي. ورى
عنه: البخاري، ومسلم في الصحيحين وحدث ببغداد، فسمع منه الحربي، وابن
صاعد، والمحاملي، وكان ثقة، ثبتاً، حجة. قدم مصر فحدث بها، وخرج عنها.
فتوفي في هذه السنة.
زكريا بن يحيى بن عمر بن حصين بن حميد، أبو السكين الطائي قدم بغداد،
فحدث بها عن أبي بكر بن عياش. روى عنه: البخاري وأبو بكر بن أبي الدنيا
وابن صاعد، وكان ثقة مأموناً توفي في هذه السنة.
عبد الوهاب بن عبد الحكم ويقال: ابن الحكم، بن نافع، أبو الحسن الوراق
سمع يحيى بن سليم، ومعاذ بن معاذ العنبري، روى عنه أبو داود، وابن أبي
الدنيا، والبغوي، وكان ثقة ورعاً زاهداً، كان أحمد يقول: عبد الوهاب
رجل صالح، أمثله يوفق لأصحابه الحق، ومن يقوى على ما يقوى عليه عبد
الوهاب.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا
الأزهري، حدثنا محمد بن العباس، حدثنا أبو مزاحم موسى بن عبد الله بن
يحيى بن خاقان قال: حدثني أبو بكر الحسن بن عبد الوهاب الوراق قال: ما
رأيت أبي ضاحكاً قط إلا تبسماً، وما رأيته مازحاً قط. ولقد رآني مرة
وأنا أضحك مع أمي فجعل يقول لي: صاحب قرآن يضحك هذا الضحك؟ وإنما كنت
مع أمي.
توفي عبد الوهاب في ذي القعدة من هذه السنة، قاله البغوي، وقال غيره:
توفي سنة خمسين.
علي بن الحسن بن عبد الرحمن بن يزيد أبو الحسن الذهلي النيسابوري،
المعروف بالأفطس. شيخ عصره بنيسابور، له مسند مخرج على الرجال في
الصحابة. سمع من النضر بن شميل، وسفيان بن عيينة، وابن أبي داود،
ووكيع، وابن إدريس، وحفص بن غياث، وأبي بكر بن عياش، وإسماعيل بن علية،
وجرير بن عبد الحميد وغيرهم.
توفي في هذه السنة.
محمد بن هشام بن شبيب بن أبي خيرة، أبو عبد الله السدوسي البصري حدث عن
عبد الوهاب الثقفي، ومن في طبقته، وكان ثقة ثبتاً، حسن الحديث، توفي
بمصر في هذه السنة.
يعقوب بن إسحاق البهلول بن حسان بن سنان، أبو يوسف التنوخي الأنباري
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثني
علي بن المحسن القاضي، عن أبي الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق
البهلول، عن أبيه قال: يعقوب بن إسحاق بن البهلول التنوخي، يكنى: أبا
يوسف، وكان من حفاظ القرآن العالمين بعدده وقراآته، وكان حجاجاً
متنسكاً، وحدث حديثاً كثيراً عن جماعة من مشايخ أبيه إسحاق، ولم ينتشر
حديثه. ولد بالأنبار سنة سبع وثمانين ومائة، ومات ببغداد لتسع ليال
بقين من رمضان سنة إحدى وخمسين ومائتين، ومات في حياة أبيه، فوجد عليه
وجداً شديداً، ودفن في مقابر باب التبن، وخلف يوسف الأزرق، وإبراهيم
يتيمين، ومات وزوجته حامل، فولدت بعد موته ولداً سمي إسماعيل، فرباهم
جدهم إسحاق بن بهلول، وكان يؤثرهم ويحبهم جداً.
وقال أبو الحسن: وحدثني عمي إسماعيل بن يعقوب قال: أخبرني أبي عن جدي
إسحاق بن بهلول أنه كان يقول: بودي أن لي ابناً آخر مثل يعقوب في
مذهبه، وإني لم أرزق سواه. وأنه لما توفي يعقوب أغمي على إسحاق وفاتته
صلوات فأعادها بعد ذلك لما لحقته من مضض المصيبة، وأنه كان يقول: ابني
يعقوب أكمل مني.
ثم دخلت
سنة اثنتين وخمسين ومائتين
فمن الحوادث فيها:
ما كان من
خلع المستعين نفسه من الخلافة، وبيعته المعتز على منبري بغداد ومسجدي
جانبيها الشرقي والغربي، يوم الجمعة لأربع خلون من المحرم، وأخذ البيعة
له بها على من كان بها يومئذ من الجند، وأشهد عليه بذلك الشهود من بني
هاشم، والقضاة، والفقهاء، ونقل المستعين من الموضع الذي كان فيه من
الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل بالمخرم هو وعياله وولده وجواريه، وأخذ
منه القضيب والبردة والخاتم، ومنع من الخروج إلى مكة، فاختار البصرة،
فقيل له: إنها وبية، فقال: أهي أوبى أو ترك الخلافة؟! وبعث إليه المعتز
يسأله النزول عن ثلاث جوار تزوجهن من جواري المتوكل، فنزلعنهن وجعل
أمرهن إليهن.
وفي رجب: خلع المعتز المؤيد أخاه من ولاية العهد.
وفي هذه السنة: ولي الحسن بن أبي الشوارب قضاء القضاة، وكان قد سمي
للقضاء جماعة فقدح فيهم، وقيل هم رافضة قدرية جهمية من أصحاب ابن أبي
داود، فأمر المعتز بطردهم من العسكر وإخراجهم إلى بغداد.
وفيها: قتل المستعين.
وحج بالناس في هذه السنة: محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور من قبل
المعتز.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد المستعين بالله أمير المؤمنين كان الجند قد اختلفوا عليه فانحدر
من سامراء إلى بغداد، فسألوه الرجوع، فأبى عليهم، فخلعوه وبايعوا
المعتز، فجرت بينهما حروب كثيرة، إلى أن اضطر المستعين إلى خلع نفسه،
وبايع المعتز، ومضى المستعين إلى واسط فكتب المعتز أن يسلم إلى عامل
واسط فهلك.
ويختلفون في كيفية هلاكه، فبعضهم يقول: غرق في الماء، وبعضهم يقول: عذب
حتى مات، وبعضهم يقول: قتل وكان عمره أربع وعشرون سنة.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال:
أخبرنا علي بن أحمد بن عمر المقرئ قال: أخبرنا علي بن أحمد بن أبي قيس
قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي الدنيا قال: قتل المستعين بموضع يقال له:
القادسية في طريق سامراء في شوال سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
إسماعيل بن يوسف الطالبي: الذي فعل بمكة ما قد ذكرناه، ذكر أنه مات في
هذه السنة.
إسحاق بن البهلول بن حسان بن سنان أبو يعقوب التنوخي من أهل الأنبار،
ولد بها سنة أربع وستين ومائة، وسمع من وكيع وأبي معاوية، وابن علية،
ويحيى بن سعيد، وابن مهدي، وغيرهم. وصنف " المسند " ، وكان ثقة. حدث
عنه إبراهيم الحربي، وابن أبي الدنيا، والزناتي، وابن صاعد، وغيرهم،
ورحل إلى البلاد في طلب العلم، ثم أقام بالأنبار.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال:
أخبرنا علي بن أبي علي قال: أخبرنا أحمد بن يوسف الأزرق قال: أخبرني
عمي إسماعيل بن يعقوب قال: حدثني عمي البهلول بن إسحاق قال: استدعى
المتوكل أبي إلى سر من رأى حتى حدثه، وسمع منه، وقرأ عليه حديثاً
كثيراً، ثم أمر فنصب له منبر، وكان يحدث عليه، وحدث في المسجد الجامع
بسامراء، وفي رحبة زيرك وأقطعه أقطاعاً في كل سنة مبلغه اثنا عشر
ألفاً، ورسم له صلة خمسة آلاف درهم في السنة، فكان يأخذها، وأقام إلى
أن قدم المستعين بغداد، فخاف أبي أن تكبس الأتراك الأنبار، فانحدر إلى
بغداد عجلاً ولم يحمل معه شيئاً من كتبه، وطالبه محمد بن عبد الله بن
طاهر أن يحدث فحدث ببغداد من حفظه بخمسين ألف حديث لم يخطئ في شيء
منها، وخرج من عنده أصحاب الحديث يوماً وهم يقولون: قد حدث بالحديث
الفلاني عن سفيان بن عيينة فأخطأ فيه، فبلغه فقال: ردوهم. فلما رجعوا
قال: حدثني سفيان بن عيينة بهذا الحديث كما حدثتكم به، وحدثني به مرة
أخرى بكيت وكيت، فذكر الوجه الذي ذكروه، ثم قال: وأنا بما حدثتكم به
أثبت من يدي على زندي.
توفي في ذي الحجة من هذه السنة بالأنبار.
الحسن بن أحمد بن أبي شعيب. واسم أبي شعيب: عبد الله بن مسلم الأموي،
مولى عمر بن عبد العزيز ويكنى الحسن: أبا مسلم، وهو من أهل حران، سكن
بغداد، وحدث بها فروى عنه ابن أبي الدنيا، وابن داود، وابن صاعد،
والمحاملي، وكان ثقة مأموناً.
وتوفي بسامراء في هذه السنة.
زياد بن أيوب بن زياد، أبو هاشم.
طوسي
الأصيل، يعرف بدلويه، ولد سنة سبع وستين ومائة، سمع هشيماً، وأبا بكر
بن عياش، وإسماعيل بن علية، وكان ثقة، وروى عنه أحمد بن حنبل وقال:
اكتبوا عنه فإنه شعبة الصغير.
وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة.
علي بن سلمة بن عقبة أبو الحسن القرشي اللبقي النيسابوري سمع حفص بن
غياث، ومحمد بن فضيل، ووكيع بن الجراح، وابن علية، وغيرهم، وروى عنه
البخاري، ومسلم.
وتوفي في جمادى الأولى من هذه السنة.
أخبرنا زاهر بن طاهر قال: أخبرنا أبو عثمان الصابوني وأبو بكر البيهقي
قالا: أنبأنا أبو عبد الله الحاكم قال: سمعت محمد بن صالح بن هانئ
يقول: سمعت داود بن الحسين البيهقي يقول: سمعت علي بن سلمة اللبقي
يقول: رأيت فيما يرى النائم كأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقبل عن
يمينه موسى بن عمران وعن يساره عيسى بن مريم، فقلت: يا رسول الله، ما
تقول في القرآن؟ فقال: " أنا أشهد أن القرآن كلام الله غير مخلوق،
وموسى بن عمران يشهد، وهذا أخي عيسى بن مريم يشهد أن القرآن كلام الله
غير مخلوق. " وهذا في أيام المحنة، قال اللبقي: وسمعت محمد بن جعفر بن
محمد الصناديقي يقول: سمعت أبي يقول: برئ الله ممن تبرأ من أبي بكر
وعمر رضي الله عنهما.
محمد بن بشار بن عثمان بن كيسان، أبو بكر البصري يعرف ببندار، ولد سنة
سبع وستين ومائة سمع غندرا، ومحمد بن أبي عدي، ووكيع ابن الجراح، وابن
مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، وروح بن عبادة، وغيرهم.
روى عنه إبراهيم الحربي، وأبو بكر بن أبي الدنيا، والبغوي، وغيرهم.
قال محمد بن بشار: قد كتب عني خمسة قرون وسألوني الحديث وأنا ابن ثماني
عشرة سنة، فاستحييت أن أحدثهم في المدينة، فأخرجتهم إلى البستان
وأطعمتهم الرطب وحدثتهم.
قال المصنف رحمه الله: وبندار ثقة، قد أخرج عنه في الصحيحين إلا أنه
كانت تغلب عليه العجمة وسلامة الصدر.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني الجوهري، حدثنا محمد بن
العباس، حدثنا إسحاق بن إبراهيم القزاز قال: كنا عند بندار فقال في
حديث عن عائشة قالت: قالت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل
يسخر منه: أعيذك بالله، ما أفصحك. قال: كنا إذا خرجنا من عند روح نروح
إلى أبي عبيدة. فقال: قد بان ذاك عليك.
توفي بندار في رجب في هذه السنة.
محمد بن بحر بن مطر أبو بكر البزاز سمع يزيد بن هارون، وشجاع بن
الوليد، وأبا النضر، وغيرهم. روى عنه أبو جعفر الطحاوي وغيره.
مفضل بن فضالة بن المفضل بن فضالة بن عبيد بن إبراهيم، أبو محمد
القباني. روى عن أبيه عن جده. توفي في رجب هذه السنة.
يعقوب بن إبراهيم بن كثير بن زيد بن أفلح بن منصور بن مزاحم أبو يوسف
العبدي، المعروف بالدورقي. وهو أخو أحمد بن إبراهيم - كان الأكبر - رأى
الليث بن سعد، وسمع إبراهيم بن سعد الزهري، والدراوردي، وسفيان بن
عيينة، وغيرهم. روى عنه البخاري، ومسلم، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو
داود، والنسائي، وآخر من حدث عنه: محمد بن مخلد وكان حافظاً متقناً
ثقة، صنف " المسند " .
وتوفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ثلاث وخمسين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن المعتز عقد في اليوم الرابع من رجب لموسى بن بغا
الكبير على الخيل ومعه من الجيش يومئذ ألفان وأربع مائة وثلاثة
وأربعون.
وفيها: خلع المعتز على بغا الشرابي في رمضان، وألبسه التاج والوشاحين،
فخرج بها إلى منزله.
وفيها استقضي ابن العنبس على مدينة السلام، وصرف أحمد بن محمد بن
سماعة.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، أخبرنا علي بن
المحسن قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر قال: صرف أحمد بن محمد بن
سماعة واستقضي مكانه إبراهيم بن إسحاق بن أبي العنبس في هذه السنة،
وكان يتقلد قضاء الكوفة، وهذا رجل جليل القدر، حسن الدين، وكان سبب
صرفه أن الموفق أراد منه أن يدفع إليه أموال اليتامى على سبيل القرض،
فأبى أن يدفعها إليه وقال: لا والله ولا حبة منها، فصرفه عن الحكم، فرد
إلى قضاء الكوفة.
وقيل إن هذا كان في سنة أربع وخمسين.
وفيها نفى
المعتز أبا أحمد بن المتوكل إلى واسط، ثم إلى البصرة، ثم رد إلى بغداد،
وأنزل الجانب الشرقي في قصر دينار بن عبد الله.
ونفى علي بن المعتصم إلى واسط، ثم رد إلى بغداد، فأنزل بالجانب الشرقي.
ذكر من توفي هذه السنة من الأكابر
أحمد بن سعيد بن صخر بن سليمان، أبو جعفر الدارمي ولد بسرخس، وتولى
القضاء بها، ونشأ بنيسابور، وبها مات. رحل في سماع الحديث، فسمع خلقاً
كثيراً، وكان ثقة حافظاً متقناً، عارفاً بالحديث والفقه، روى عنه:
البخاري، ومسلم في الصحيحين، وقدم على طاهر بن الحسين متعرضاً لنائله
فوصله بأربعة آلاف درهم.
إبراهيم بن سعيد أبو إسحاق الجوهري سمع سفيان بن عيينة، وأبا معاوية
الضرير، وخلقاً كثيراً. روى عنه: أبو حاتم الرازي، والنسائي، وابن أبي
الدنيا، وغيرهم، وكان مكثراً ثقة ثبتاً صنف " المسند " وكان لأبيه دنيا
واسعة، وأفضال على العلماء، فلذلك تمكن إبراهيم من السماع، وقدر على
الإكثار.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال:
أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن محمد الكاتب قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد
بن يحيى المزكي قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الدغولي قال: حدثنا عبد
الله بن جعفر بن خاقان السلمي قال: سألت إبراهيم بن سعيد الجوهري عن
حديث لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال لجاريته: أخرجي إلي الجزء
الثالث والعشرين من " مسند أبي بكر " . فقلت له: لا يصح لأبي بكر خمسون
حديثاً، فمن أين ثلاثة وعشرون جزءاً؟ فقال: كل حديث لم يكن عندي من
مائة وجه فأنا يتيم.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا الخطيب قال: أخبرنا أبو عمرو الحسن بن عثمان
الواعظ قال: حدثنا جعفر بن محمد بن أحمد بن الحكم المؤدب، حدثنا جعفر
بن محمد الفريابي قال: سمعت إبراهيم الهروي يقول: حج سعيد الجوهري فحمل
معه أربع مائة رجل من الزوار سوى حشمه يحج بهم! وكان منهم إسماعيل بن
عياش، وهشيم بن بشير، وكنت أنا معهم في إمارة هارون الرشيد انتقل
إبراهيم عن بغداد، فسكن عين زربة مرابطاً بها إلى أن توفي في هذه
السنة.
إسحاق بن حنبل بن هلال بن أسد بن يعقوب الشيباني وهو عم أبي عبد الله
أحمد بن حنبل، ولد سنة إحدى وستين ومائة، وسمع يزيد بن هارون، وروى عنه
ابنه حنبل وكان ثقة.
وتوفي في هذه السنة وله اثنتان وتسعون سنة.
سعيد بن بحر أبو عثمان وقيل أبو عمر القراطيسي سمع حسيناً الجعفي، وأبا
نعيم، روى عنه: ابن صاعد، والمحاملي. وكان ثقة. توفي في رمضان هذه
السنة.
السري بن المغلس أبو الحسن السقطي صحب معروفاً الكرخي، وحدث عن هشيم،
وأبي بكر بن عياش، ويزيد بن هارون، وكان من العباد المجتهدين.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا ابن
زريق، حدثنا عثمان بن أحمد، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عامر قال: سمعت
حسناً المسوحي يقول: دفع إلي السري قطعة فقال: اشتر لي باقلاء ولا تشتر
إلا من رجل قدره داخل الباب، فطفت الكرخ كله، فلم أجد إلا من قدره خارج
الباب، فرجعت إليه وقلت له: خذ قطعتك، فإني لا أجد إلا من قدره خارج
الباب.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب. وحدثنا
محمد بن عيسى بن عبد العزيز. وحدثنا علي بن الحسن الطفيلي قال: سمعت
الفرجاني يقول: سمعت الجنيد يقول: ما رأيت أعبد من السري السقطي، أتت
عليه ثمانية وتسعون سنة ما رؤي مضطجعاً إلا في علة الموت.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا
جعفر الخالدي في كتابه قال سمعت الجنيد يقول: كنت يوماً عند السري بن
المغلس وكنا خاليين وهو مؤتزر بمئزر، فنظرت إلى جسده كأنه جسد سقيم دنف
مضنى، كأجهد ما يكون، فقال: انظر إلى جسدي هذا لو شئت أن أقول إن ما بي
من المحبة لكان كما أقول، وكان وجهه أصفر ثم أشرب حمرة حتى تورد، ثم
اعتل فدخلت عليه أعوده، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال:
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي ... والذي بي أصابني من طبيبي؟
فأخذت المروحة أروحه، فقال: كيف يجد ريح المروحة من جوفه يحترق من
داخل، ثم أنشأ يقول:
القلب
محترق والدمع مستبق ... والكرب مجتمع والصبر مفترق
كيف القرار على من لا قرار له ... مما جناه الهوى والشوق والقلق
يا رب إن كان شيء فيه لي فرج ... فامنن علي به ما دام لي رمق
توفي السري يوم الثلاثاء لست خلون من رمضان هذه السنة بعد آذان الفجر،
ودفن بعد العصر وقبره ظاهر بالشونيزية. ورؤي في المنام بعد موته، فقيل
له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ولمن حضر جنازتي.
علي بن شعيب بن عدي بن همام، أبو الحسن السمسار. طوسي الأصل، سمع
هشيماً، وابن عيينة، وروى عنه البغوي وابن صاعد، وكان ثقة، توفي في
شوال هذه السنة.
محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب أبو العباس الخزاعي ولي
إمارة بغداد في أيام المتوكل، وأبوه أمير، وجده أمير، وكان مألفاً لأهل
العلم والأدب، وقد أسند الحديث.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب
حدثنا محمد بن علي بن مخلد، أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران قال: حدثنا
محمد بن يحيى قال: حدثنا محمد بن موسى قال: كان الحسن بن وهب عند محمد
بن عبد الله بن طاهر فعرضت سحابة فرعدت وبرقت ومطرت، فقال كل من حضر
فيها شيئاً، فقال الحسن:
هطلتنا السماء هطلاً دراكاً ... عارض المرزبان فيها السماكا
قلت للبرق إذ توقد فيها ... يا زناد السماء من أوراكا
أحبيب نأيته فجفاكا ... فهو العارض الذي استبكاكا
أم تشبهت بالأمير أبي العب ... اس في جوده فلست هناكا
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت
الحافظ قال: أخبرنا أبو يعلى أحمد بن عبد الواحد الوكيل قال: حدثنا
إسماعيل بن سعيد المعدل قال: حدثني محمد بن غيلان قال: أخبرني أبن
السكيت أن محمد بن عبد الله بن طاهر عزم على الحج، فخرجت إليه جارية
شاعرة، فبكت لما رأت آلة السفر، فقال محمد بن عبد الله:
دمعة كاللؤلؤ الرط ... ب على الخد الأسيل
هطلت في ساعة البي ... ن من الطرف الكحيل
ثم قال لها: أجزيني فقالت:
حين هم القمر الزا ... هر عنا بالأفول
إنما تفتضح العشا ... ق في يوم الرحيل
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا الحسن بن
علي الجوهري قال: أخبرنا محمد بن العباس الخزاز، حدثنا عبيد الله بن
أحمد، حدثنا أبي قال: كتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى جارية له:
ماذا تقولين فيمن شفه سقم ... من جهد حبك حتى صار حيرانا؟
فأجابته:
إذا رأينا محباً قد أضر به ... جهد الصبابة أوليناه إحسانا
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني الأزهري قال:
أخبرنا أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا ابن عرفة قال: وفي سنة ثلاث وخمسين
ومائتين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة انكسف القمر في أول الليل
حتى ذهب أكثره، فلما انتصف الليل مات محمد بن عبد الله بن طاهر، وكان
به خراج في حلقه، فاشتد حتى عولج بالفتائل ودفن في مقابر قريش.
وصيف التركي كان أميراً كبيراً، وخدم جماعة من الخلفاء، وفي هذه السنة
طلب الجند منه أرزاقهم، فقال: ما عندنا مال. فقتلوه، فجعل المعتز ما
كان إليه إلى بغا الشرابي.
وقد روى هلال بن المحسن الصابي: أن بعض مشائخ قم قال: ورد علينا وصيف
التركي أميراً على بلدتنا، فلقيناه، فرأيناه عاقلاً راجحاً، فسألنا عن
أمر بلدتنا وأهله سؤال عالم به، وسألنا عن شيوخ البلد، إلى أن انتهى
إلى ذكر رجل لم يكن مذكوراً، فلم يعرفه منا إلا رجل كان معنا، ثم أتبع
ذكره بتعظيم أمره، وتعرف خبر ولده، وحاله في معيشته، وأطال في ذلك
إطالة حتى استجهلناه فيها، ثم قال: أحضرونيه إحضاراً رفيقاً، فإني أكره
أن أنفذ إليه فينزعج. فأحضرناه، فلما وقعت عينه عليه قام إليه وأجلسه
معه في دسته، ثم أقبل يسأله عن زوجته وولده، والشيخ يجيبه جواب دهش، ثم
قال له: أحسبك قد نسيتني وأنكرت معرفتي. قال: كيف أنكر الأمير مع جلالة
قدره. فقال: دع ذا، أتعرفني جيداً؟ قال: لا. قال:
أنا وصيف
مملوكك. ثم التفت إلينا فقال: يا مشايخ، أنا رجل من الديلم، شببت وقت
كذا وكذا، وحملت إلى قزوين وسني نحو العشر سنين، واشتراني هذا الشيخ
وأسلمني مع ابنه في المكتب، وأحسن تربيتي، فإذا وقع في يدي شيء تركته
عند فلان البقال في المحلة يعرف بفلان أهو باق؟ قالوا: نعم، قال:
فأحببت بعد بلوغي العمل بحمل السلاح، فرآني بعض الجند فقال: هل لك أن
تجيء معي إلى خراسان فأركبك الدواب وأعطيك السلاح؟ فقلت: أفعل على أن
لا أكون لك مملوكاً، بل غلاماً تابعاً، فإن رأيت منك ما أؤثر لم
أفارقك، وإن لم يكن ذلك فلا سلطان لك علي فقال: ذلك لك. فجئت إلى
البقال فحاسبته، وأخذت ما بقي عنده، وابتعت ما أحتاج إليه وهربت من
مولاي هذا مع الجندي إلى خراسان، وتدرجت بي الأمور حتى بلغت إلى هذه
المنزلة، وأنا تحت رق مولاي هذا، وأسألكم أن تسألوه أن يبيعني نفسي،
فقال الرجل: الأمير حر لوجه الله، وأنا عبده ومتحمل بولائه ومفتخر به.
فقال وصيف: يا غلام، هات ثلاث بدر. فأحضرت فسلمها إلى الشيخ، ثم استدعى
له من الطيب والثياب والدواب مثل قدر المال، وطلب ابنه فأكرمه، وأعطاه
عشرة آلاف درهم وثياباً ودواباً، واستدعى البقال فوهب له خمس مائة
دينار، ثم بعث إلى زوجة الشيخ وبناته مالاً، وقال له: انبسط في سلطاننا
انبساط من صاحبه مولاك، فإني لا أردك عن مطلب تطلبه، ولا أعترض عليك في
شيء تعمله، ثم قال: يا مشائخ قم، أنتم شيوخي ما على الأرض أوجب حقاً
علي منكم إلا أني أخالفكم في الرفض فإني درت الآفاق، وعرفت المذاهب،
فما وجدت على اعتقادكم أحد، ومن المحال وقوع الإجماع على ضلال
وانفرادكم بين الناس بالحق. وصار الشيخ وابنه رئيسي البلدة.
هارون بن سعيد بن الهيثم، أبو جعفر. مولى لبني سعد بن بكر، ولد سنة
سبعين ومائة، وحدث عن ابن عيينة، وابن وهب، وكان ثقة، وعلت سنه فضعف،
فلزم بيته.
وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة.
ثم دخلت
سنة أربع وخمسين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أنه ولي أحمد بن طولون من قبل المعتز.
وحج بالناس في هذه السنة علي بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد بن
علي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
بغا الشرابي كان قد طغى وخالف أمر المعتز، وأستبد بالأموال والأمر،
فركب المعتز ليلاً وقد تشاغل بغا بتزويجه صالح بن يوسف ابنته، فوثب بغا
على مال السلطان ومال أمه، فأوقر منه عشرين بغلاً فوقعوا به فقتلوه،
وجاءوا برأسه إلى المعتز، فنصبه بسامراء، وأعطى الذي جاء برأسه عشرة
آلاف دينار، ثم حدر برأسه إلى مدينة السلام، وأمر بإحراق جسده وحبس
جماعة من ولده، ونفى خمسة من صغارهم إلى عمان والبحرين، ونجا يونس بن
بغا إلى بختيشوع.
سلم بن جنادة بن سلم بن خالد بن جابر بن سمرة، أبو السائب السوائي
الكوفي ولد سنة أربع وسبعين ومائة، فقدم بغداد وحدث بها عن ابن إدريس،
وابن فضيل، ووكيع، وأبي معاوية، وحفص بن غياث، ومعاوية، وأبي نعيم.
وروى عنه: ابن صاعد، والمحاملي، وابن مخلد قال البرقاني: هو ثقة حجة لا
يشك فيه يصلح للصحيح.
توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة، وله ثمانون سنة.
علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي
بن أبي طالب أبو الحسن الهاشمي أحد من يعتقد فيه الشيعة الإمامة أشخصه
المتوكل في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بغداد، ثم إلى سامراء
فقدمها، وأقام بها في هذه السنة ودفن في داره فلإقامته بالعسكر عرف
بأبي الحسن العسكري، وصلى عليه أبو أحمد بن المتوكل.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب قال: أخبرنا الأزهري، أخبرنا أبو أحمد عبيد الله بن محمد المقرئ
حدثنا محمد بن يحيى النديم قال: حدثنا الحسين بن يحيى قال: اعتل
المتوكل في أول خلافته، فقال لئن برئت لأتصدقن بدنانير كثيرة، فلما برئ
جمع الفقهاء فسألهم عن ذلك، فاختلفوا، فبعث إلى علي بن محمد بن علي بن
موسى، فقال: تتصدق بثلاثة وثمانين ديناراً. فعجب قوم من ذلك وتعصب قوم
عليه وقالوا: تسأله يا أمير المؤمنين في هذا الوفاء بالنذر لأن الله
تعالى قال:
" لقد
نصركم الله في مواطن كثيرة " فروى أهلنا جميعاً أن المواطن في الوقائع
والسرايا والغزوات كانت ثلاثة وثمانين موطناً، وإن يوم حنين كان الرابع
والثمانون وكلما زاد أمير المؤمنين في فعل الخير كان أنفع له وأجدى
عليه في الدنيا والآخرة.
محمد بن عبد الله بن المبارك أبو جعفر المخرمي قاضي حلوان، سمع يحيى بن
سعيد القطان، وابن مهدي، ووكيعاً، وغيرهم. روى عنه البخاري في صحيحه،
وإبراهيم الحربي، والنسائي، والباغندي، وابن صاعد. وكان ثقة عالماً
بالحديث متقناً مبرزاً على الحفاظ.
محمد بن منصور بن داود بن إبراهيم أبو جعفر العابد الطوسي سمع إسماعيل
بن علية، وسفيان بن عيينة، وعفان بن مسلم في آخرين. روى عنه: البغوي،
وابن صاعد، والمحاملي، وغيرهم. وكان ثقة خيراً صالحاً.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرني
الحسين بن علي الطناجيري، حدثنا عمر بن أحمد الواعظ، حدثنا أحمد بن
محمد بن الفضل قال: سمعت محمد بن منصور الطوسي وحواليه قوم فقالوا له:
يا أبا جعفر، إيش اليوم عندك قد شك الناس فيه يوم عرفة هو أو غيره؟
فقال: اصبروا. فدخل البيت ثم خرج فقال: هو عندي يوم عرفة. فاستحيوا أن
يقولوا له من أين لك ذلك؟ فعدوا الأيام والليالي، فكان اليوم الذي قال
محمد بن منصور يوم عرفة. قال أبو العباس: وكنت أصغر القوم، فجاء إليه
أبو بكر بن سلام الوراق مع جماعة فسمعت ابن سلام يقول: من أين علمت أنه
يوم عرفة؟ قال: دخلت البيت فسألت ربي تعالى فأراني الناس في الموقف.
توفي الطوسي يوم الجمعة لست بقين من شوال من هذه السنة، وله ثمان
وثمانون سنة.
المؤمل بن أهاب بن عبد العزيز، أبو عبد الرحمن الربعي كوفي قدم بغداد
وحدث بها عن أبي داود الطيالسي، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، وغيرهم.
روى عنه ابن أبي الدنيا، والنسائي ، والباغندي، وكان صدوقاً. وله مع
أصحاب الحديث قصة: أخبرنا بها أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر
أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال: حدثني الصوري، حدثنا أبو العباس أحمد
بن محمد بن الحاج، حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين بن السندي، حدثنا محمد
بن عمر بن الحسين قال: حدثني علي بن محمد بن سليمان قال: قدم مؤمل بن
إهاب الرملة، فاجتمع عليه أصحاب الحديث، وكان ذعراً متمنعاً، فألحوا
عليه فامتنع أن يحدثهم فمضوا بأجمعهم، وألفوا منهم فئتين فتقدموا إلى
القاضي، وقالوا: إن لنا عبداً خلاسياً له علينا حق صحبة وتربية، وقد
كان أدبنا فأحسن التأديب، وآلت بنا الحال إلى الإضافة بحمل المحبرة
لطلب الحديث وإنا قد أردنا بيعه فامتنع علينا. فقال لهم السلطان: وكيف
أعلم صحة ما ذكرتم؟ قالوا: إن معنا بالباب جماعة من جملة الأرباب،
وطلاب العلم، وثقات الناس. نكتفي بالنظر إليهم دون السؤال عنهم، وهم
يعلمون ذلك فتأذن بوصولهم إليك لتسمع منهم. فأدخلهم وسمع منهم مقالتهم
ووجه خلف المؤمل بالشرط والأعوان يدعونه إلى السلطان فتعزز فجذبوه
وجروه، فلما دخل عليه قال له: ما يكفيك ما أنت فيه من الأباق، حتى
تتعزز على السلطان، امضوا به إلى الحبس. فحبس مؤمل، وكان من هيئته أنه
أصفر طوال خفيف اللحية، يشبه عبيد أهل الحجاز، فلم يزل في حبسه أياماً
حتى علم جماعة من إخوانه، فصاروا إلى السلطان وقالوا: إن هذا مؤمل بن
إهاب في حبسك مظلوم. فقال لهم: ومن ظلمه؟ قالوا: أنت. قال: ما أعرف من
هذا شيئاً، من مؤمل هذا؟ قالوا: الشيخ الذي اجتمع عليه الجماعة. قال:
ذاك العبد الآبق؟ فقالوا: ما هو بعبد أبق بل هو إمام من أئمة المسلمين
في الحديث. فأمر بإخراجه وسأله عن حاله، وصرفه وسأله أن يحله فلم ير
مؤمل بعد ذلك متمنعاً امتناعه الأول حتى لحق بالله تعالى.
توفي مؤمل بالرملة في رجب هذه السنة
ثم دخلت
سنة خمس وخمسين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن المعتز جلس في دار العامة للمظالم، فعزل وولى
وأمضى الأمور، وولى سليمان بن عبد الله بن طاهر شرطة بغداد والسواد،
لست خلون من ربيع الآخر.
وفيها: أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل، والحسن بن مخلد، وأبا نوح،
وعيسى بن إبراهيم، فقيدهم وطالبهم بأموال، وقبضت أملاكهم وضياعهم
ودورهم.
ولليلتين
خلتا من رجب: ظهر عيسى بن جعفر، وعلي بن زيد الحسنيان بالمدينة، فقتلا
بها عبد الله بن محمد بن داود بن علي.
ولثلاث بقين من رجب خلع المعتز، وكان السبب أن الكتاب الذي ذكرنا أن
صالح بن وصيف أخذهم لم يقروا بشيء، فصار الأتراك إلى المعتز، وقالوا
له: أعطنا أرزاقنا لنقتل لك صالح بن وصيف. فأرسل المعتز إلى أمه يسألها
أن تعطيه مالاً، فقالت: ما عندي شيء. ثم وجدوا بعد ذلك في خزانتها ما
يزيد على ألف ألف دينار، فلما لم يعطهم، ولا وجدوا في بيت المال شيئاً
اجتمعوا على خلع المعتز، فصاروا إليه لثلاث بقين من رجب ثم بعثوا إليه:
أخرج إلينا فبعث إليهم: إني قد أخذت الدواء وقد أضعفني، ولا أقدر على
الكلام، فإن كان أمر لا بد منه، فليدخل إلي بعضكم، فليعلمني، فدخل إليه
منهم جماعة فجروا برجله وقميصه مخرق، وآثار الدم على منكبيه، فأقاموه
في الشمس في شدة الحر، فجعل يرفع قدماً ويحط قدماً من شدة الحر، ثم جاء
بعضهم يلطمه ويقول: اخلعها. ثم أدخلوه حجرة وبعثوا إلى ابن أبي الشوارب
فأحضروه مع جماعة من أصحابه فقال صالح وأصحابه: اكتبوا عليه كتاب خلع.
فكتب وشهدوا عليه وخرجوا.
ثم دفع بعد الخلع إلى من يعذبه، فمنعه الطعام والشراب ثلاثة أيام، ثم
جصصوا سرداباً بالجص الثخين، وأدخلوه فيه وأطبقوا عليه بابه، فأصبح
ميتاً، وولوا بعده المهتدي بالله.
باب خلافة المهتدي بالله
واسمه محمد بن هارون الواثق بن المعتصم، ويكنى: أبا إسحاق، ويقال: أبا
عبد الله.
ولد بالقاطول في ربيع الأول سنة تسع عشرة ومائتين وكان منزله بسامراء
وأمه أم ولد، يقال لها: قرب.
وكان أسمر رقيقاً أجلى، رحب الوجه، حسن اللحية، أشهل العينين، عظيم
البطن، عريض المنكبين، قصيراً، طويل اللحية، أشيب. بويع بعد المعتز،
ولم يقبل المهتدي بيعة أحد حتى جيء بالمعتز فخلع نفسه وأخبر عن عجزه عن
القيام بما أسندوا إليه من أمر الخلافة، ورغبته في تسليمها إلى
المهتدي، ومد المعتز يده فبايع المهتدي، ثم بايعه خاصة الموالي.
وكان خلع المعتز نفسه يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين
ومائتين، وبويع المهتدي ليوم بقي من رجب، ودعي للمهتدي يوم الجمعة أول
يوم من شعبان ولم يدع له ببغداد حتى قتل المعتز يوم السبت ليومين من
شعبان.
وكان المهتدي من أحسن الخلفاء مذهباً، وأجملهم طريقة، وأظهرهم ورعاً،
وأكثرهم عبادة، وأسند الحديث.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب
قال: أخبرنا ابن رزق حدثنا محمد بن عمرو بن القاضي الحافظ، أخبرنا محمد
بن الحسن بن سعدان المروزي قال: حدثنا محمد بن عبد الكريم بن عبيد الله
السرخسي قال: حدثني المهتدي بالله قال: حدثني علي بن هاشم بن طبراخ عن
محمد بن الحسن الفقيه، عن ابن أبي ليلى، عن داود، عن أبيه، عن ابن عباس
قال: قال العباس: يا رسول الله، ما لنل في هذا الأمر شيء؟ قال: " لي
النبوة ولكم الخلافة، بكم يفتح هذا الأمر، وبكم يختم " .
قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: " من أحبك نالته شفاعتي
ومن أبغضك فلا نالته شفاعتي " .
ذكر طرف من سيرته وأحواله أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو
بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال: أخبرنا أحمد بن عمرو بن روح
النهرواني قال: أخبرنا المعافى بن زكريا قال: حدثني بعض الشيوخ - ممن
شاهد جماعة من العلماء وخالط كثيراً من الرؤساء - أن هاشم بن القاسم
الهاشمي قال: كنت جالساً بحضرة المهتدي عشية من العشايا، فلما كادت
الشمس تغرب وثبت لأنصرف، وذلك في شهر رمضان، فقال لي: اجلس. فجلست فأذن
المؤذن، وأقام فتقدم وصلى المهتدي بنا، ثم ركع وركعنا. ودعى بالطعام،
فأحضر طبق خلاف عليه رغيف من الخبز النقي، وفيه آنية في بعضها ملح، وفي
بعضها خل، وفي بعضها زيت، فدعاني إلى الأكل فابتدأت آكل معذراً ظاناً
أنه سيؤتى بطعام له نيقة، وفيه سعة. فنظر إلي وقال: ألم تكن صائماً؟
فقلت: بلى. قال: أفلست عازماً على صوم غد؟ قلت: كيف لا وهو شهر
رمضان؟فقال: كل واستوف غداءك، فليس ها هنا من الطعام غير ما ترى. فعجبت
من قوله، ثم قلت: والله لأخاطبنه في هذا المعنى، فقلت: ولم يا أمير
المؤمنين، وقد أسبغ الله نعمته، وبسط قدرته ورزقه؟ فقال:
إن الأمر
لعلى ما وصفت والحمد لله، ولكني فكرت في أنه كان في بني أمية عمر بن
عبد العزيز، وكان من التعلل والتقشف على ما بلغك، فغرت على بني هاشم أن
لا يكون في خلفائهم مثله، فأخذت نفسي بما رأت.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا عبيد
الله بن أبي الفتح قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم البزاز، حدثنا إبراهيم
بن محمد بن عرفة، وذكر المهتدي فقال: حدثني بعض الهاشميين أنه وجد له
سفط فيه جبة صوف، وكساء، وبرنس كان يلبسه بالليل ويصلي فيه، ويقول: أما
يستحي بنو العباس أن لا يكون فيهم مثل عمر بن عبد العزيز؟ أخبرنا محمد
بن أحمد أنه كان قد اطرح الملاهي، وحرم الغناء والشرب وحسم أصحاب
السلطان عن الظلم، وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين والخراج، فحبس
نفسه في الحسبانات لا يخل بالجلوس يوم الاثنين والخميس والكتاب بين
يديه.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا عبد
العزيز بن علي أخبرنا محمد بن أحمد المفيد، حدثنا أبو بشر الدولابي
قال: أخبرني أبو موسى العباسي قال: لم يزل المهتدي صائماً منذ جلس
للخلافة إلى أن قتل.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرني عبيد الله بن
أبي الفتح قال: أخبرني علي بن الحسن الجراحي قال: حدثنا محمد بن أحمد
القراريطي قال: قال لي عمي عبد الله بن إبراهيم الإسكافي قال: حضرت
مجلس المهتدي بالله، وقد جلس للمظالم، فاستعداه رجل على ابن له، فأمر
بإحضاره، فأحضر وأقامه إلى جنب الرجل، فسأله عما ادعاه عليه فأقر به،
فأمره بالخروج إليه من حقه، فكتب له بذلك كتاباً، فلما فرغ قال له
الرجل: والله يا أمير المؤمنين ما أنت إلا كما قال الشاعر:
حكمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر
لا يقبل الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
فقال له المهتدي: أما أنت أيها الرجل فجزاك الله خيراً، وأما أنا فما
جلست هذا المجلس حتى قرأت في المصحف " ونضع الموازين القسط ليوم
القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردلٍ أتينا بها وكفى
بنا حاسبين " فما رأيت باكياً أكثر من بكائه ذلك اليوم.
وفي هذه السنة: في سلخ رجب كان ببغداد شغب، ووثبت العامة بسليمان بن
عبد الله بن طاهر صاحب الشرطة، وكان السبب في ذلك أن المهتدي كتب إلى
صاحب الشرطة سليمان أن يأخذ البيعة له ببغداد، فأحضر أبا أحمد بن
المتوكل فهجم العامة وهتفوا باسم أبي أحمد، ودعوا إلىبيعته، وكانت فتنة
قتل فيها قوم ثم سكنوا.
وللنصف من شوال هذه السنة: ظهر في نواحي البصرة رجل زعم أنه علي بن
محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب، وكان يقول أن جده لأمه خرج مع زيد بن علي على هشام بن عبد الملك،
وكان من أهل ورزنين، وكان عباداً يتكلم في علم النجوم، فربما كتب
العوذ، فخرج في نفر من الزنج، فأخذه محمد بن أبي عون، فحبسه ثم أطلقه،
فخرج في قراب البصرة في مكان يقال له: برنجل، وجمع الزنج الذين كانوا
يكتسحون السباخ فاستغواهم، ثم عبر دجلة ونزل الديناري، وكان هذا الرجل
متصلاً بقوم من أصحاب السلطان يمدحهم ويستميحهم بشعره، ثم خرج من
سامراء سنة تسع وأربعين ومائتين إلى البحرين، وادعى أنه من ولد علي بن
أبي طالب، ودعا الناس إلى طاعته فتبعه جماعة، وأباه جماعة، فوقع بينهم
قتال على ذلك، فانتقل عنهم إلى الإحساء فضوى إلى حي من بني تميم وصحبه
جماعة من أهل البحرين، ثم كان ينتقل في البادية من حي إلى حي، ولم يزل
أمره يقوى إلى سنة سبعين، وكان يقول: أوتيت آيات من آيات القرآن إمامتي
منها، لقيت سوراً من القرآن لا أحفظها، فجرى بها لساني في ساعة واحدة،
منها: سبحان، والكهف، وص، وألقيت نفسي على فراشي فجعلت أفكر في الموضع
الذي أقصد له، وأقيم فيه إذ نبت بي البادية فأظلتني سحابة فبرقت ورعدت،
وقيل لي: أقصد للبصرة فمضى إليها فقدمها في سنة أربع وخمسين.
ونزل في
بني ضبيعة، فاتبعه جماعة منهم علي بن أبان المهلبي، ووافق ذلك فتنة
البصرة بالبلالية والسعدية، فرجى أن يتبعه منهم أحد فلم يتبعه، فهرب،
وطلبه محمد بن رجاء عامل السلطان بها، فلم يقدر عليه، فأتى بغداد،
فأقام بها، فاستمال جماعة، فلما عزل محمد بن رجاء عن البصرة وثب رؤوس
الفتنة من البلالية والسعدية، ففتحوا الحبوس، وأطلقوا من كان فيها
فبلغه ذلك، فخرج إلى البصرة في رمضان سنة خمس وخمسين وأخذ حريرة وكتب
عليها: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة "
وكتب اسمه واسم أبيه وعلقها على رأس مردي، وخرج في السحر من ليلة السبت
لليلتين بقيتا من شهر رمضان، فلقيه غلمان، فأمر بأخذهم، وكانوا خمسين
غلاماً، ثم صار إلى مكان آخر فأخذ منه خمس مائة غلامٍ، ثم صار إلى
الموضع آخر فأخذ منه مائة وخمسين غلاما، وجمع من الغلمان خلقاً كثيراً،
وقام فيهم خطيباً فمناهم ووعدهم أن يقودهم ويرأسهم ويملكهم، ولا يدع من
الإحسان شيئاً إلا فعله لهم ثم دعا مواليهم فقال: قد أردت ضرب أعناقكم
لما كنتم تأتون إلى هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم وقهرتموهم
وحملتوهم ما لا يطيقون، فكلمني أصحابي فيكم فرأيت إطلاقكم فقالوا: إن
هؤلاء الغلمان أباق، فهم يتهربون منك، فخذ منا مالاً وأطلقهم لنا. فأمر
بهم فبطح كل قوم مولاهم، وضرب كل واحد منهم خمسين سوطاً واحلفهم بطلاق
نسائهم أن لا يعلموا أحداً بموضعه، وأطلقهم.
ثم خرج حتى عبر دجيلاً، واجتمع إليه السودان، فلما حضر العيد ركز
المردي الذي عليه لواؤه وصلى بهم، وخطب للعيد، وذكر ما كانوا فيه من
الشقاء، وأن الله سبحانه استنقذهم من ذلك، وأنه يريد أن يرفع أقدارهم
ويملكهم العبيد والأموال والمنازل، ويبلغ بهم أعلى الأمر، ثم حلف لهم
على ذلك، وكانوا جمعاً كبيراً، وليس لهم إلا ثلاثة أسياف وأهدي له فرس
فلم يجد له سرجاً ولا لجاماً، فركبه بحبل وسنفه بليف.
وما زال ينتقل من مكان إلى مكان ويأخذ ما يقدر عليه، وينتهب السلاح
وغيره حتى صار له قوة، وخاف الموالي منه أن يردهم إلى مواليهم، فحلف
لهم يوثق من نفسه، وقال: ليحط بي منكم جماعة، فإن أحسوا مني غدراً
فليقتلوني. وأعلمهم أنه لم يخرج لعرض الدنيا بل غضباً لله عز وجل، ولما
رأى من فساد الدين.
وجاءه يهودي فسجد له وزعم أنه يجد صفته في التوراة.
ومر على قرية فخالفوه، فانتهب منها مالاً عظيماً، وجوهراً كثيراً،
وغلماناً ونسوة، وذلك أول سبي سباه، وما زال يعيث وينتهب فجاءه رجل من
أهل البصرة فسأله عن البلالية والسعدية، فقال: إنما جئت إليك برسالتهم
يسألونك شروطاً، فإن أعطيتهم إياها سمعوا لك وأطاعوا. فأعطاهم ما
سألوا، وكان يحارب فله وعليه، إلى أن اجتمع عليه خلق كثير من أهل
البصرة، فقال: اللهم إن هذه ساعة النصرة فأعني. فزعموا أنه رأى طيوراً
بيضاء فأظلتهم.
وكان سبب هزيمة أعدائه وقتلهم، فقوي عدو الله، ودخل رعبه في قلوب أهل
البصرة، وكتبوا إلى السلطان يخبرونه خبره، فوجه جعلان التركي، ونزل
الخبيث سبخة وأمر أصحابه باتخاذ الأكواخ وبثهم في القرى يغيرون.
وحج بالناس في هذه السنة علي بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن عبد الله بن أبي الغمر عمر بن عبد الرحمن مولى بني سهم، يكنى:
أبا جعفر، وكان ثقة، مقبولاً عند القضاء.
توفي في ربيع الأول من هذه السنة.
إبراهيم بن الحسين بن ديزيل الهمداني. سمع من عفان بن مسلم، وكان كثير
الطلب للحديث، منهمكاً في كتابته.
قال عبد الله بن وهب الدينوري: كنا نذكر إبراهيم بن الحسين بالحديث
فيذاكرنا بالقمطر، وكان يذاكر بالحديث الواحد فيقول عندي منه قمطر.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي قال: سمعت أبا القاسم يوسف بن الحسن
اليفكري يقول: سمعت أبا علي الحسن بن علي بن بندار الزنجاني يقول: قال
إبراهيم بن الحسين بن ديزيل الهمذاني: كتبت في بعض الليالي الحديث،
فجلست كثيراً، وكتبت ما لا أحصيه حتى أعييت، ثم خرجت أتأمل السماء،
فكان أول الليل،فأتممت حزبي، وأصبحت وصلينا الصبح، ثم حضرت باب حانوت
تاجر، وكان هوذا يكتب حساباً، ويؤرخه بيوم السبت، فقلت: سبحان الله،
أليس اليوم يوم الجمعة؟ فضحك وقال:
لعلك لم
تحضر أمس الجامع، فراجعت نفسي، فإذا أنا قد كتبت ليلتين ويوماً.
إسماعيل بن يوسف أبو علي الديلمي كان أحد العباد الورعين والزهاد
المتقللين، وكان حافظاً للحديث بصيراً به، ثقة في روايته. جالس أحمد بن
حنبل ومن بعده من الحفاظ، وحدث عن مجاهد بن موسى. وروى عنه: العباس بن
يوسف الشكلي.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي أبو بكر بن ثابت قال: أخبرني
الجوهري قال: أخبرني محمد بن العباس قال: حدثنا أبو الحسين بن المنادي
قال: وإسماعيل الديلمي كان من خيار الناس وذكر لي أنه كان يحفظ أربعين
ألف حديث، قالوا: وكان يعبر إلى الجانب الشرقي قاصداً محمد بن اشكاب
الحافظ فيذاكره بالمسند، وكان إسماعيل من أشهر الناس بالزهد والورع
والتميز بالصون، وأما مكسبه فكان من المساهرة في الأرجاء.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا أحمد بن عمر
النهرواني قال: حدثنا المعافى بن زكريا قال: حدثنا محمد بن مخلد العطار
قال: حدثنا حامد بن محمد بن الحكم قال: حدثنا كردان قال: قال إسماعيل
الديلمي: اشتهيت حلواء وأبلغت شهوته إلي، فخرجت من المسجد بالليل لأبول
فإذا على جنبتي الطريق أخاذين حلواء، فنوديت: يا إسماعيل، هذا الذي
اشتهيت، وإن تركته خير لك. فتركته: قال ابن مخلد: قد كتبت أنا عن
كردان: كان يكون بقنطرة بني زريق، وقد رأيت إسماعيل الديلمي هذا من
خيار المسلمين، وكان ما شئت من رجل، رأيته عند أبي جعفر بن إشكاب. قال
المعافى إسماعيل الديلمي كان من خيار المسلمين والناس يزورون قبره وراء
قبر معروف الكرخي، بينهما قبور يسيرة، وحدثني بعض شيوخنا أنه كان
حافظاً للحديث كثير السماع، وأنه كان يذاكر بسبعين ألف حديث.
سهل بن محمد أبو حاتم السجستاني كان عالماً باللغة والشعر، كثير
الرواية عن أبي زيد، وأبي عبيدة، قرأ كتاب سيبويه على الأخفش مرتين،
وكان حسن العلم بالفروض، وله شعر جيد، وعليه يعتمد ابن دريد في اللغة.
توفي في هذه السنة.
عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام بن عبد الصمد أبو محمد
السمرقندي الدرامي من بني درام بن مالك بن حنظلة، ولد سنة إحدى وثمانين
ومائة، رحل في طلب الحديث، وسمع من أبي نعيم، والحميدي، وأبي اليمان،
وغيرهم. وبرع في علم الحديث وحفظ وأتقن، وجمع الثقة، والصدق، والورع،
والعفاف، والزهد، والعقل الكامل. وألح عليه السلطان في قضاء سمرقند
فتقلده، وقضى قضية واحدة ثم استعفى فأعفي. وصنف " المسند " و " التفسير
" و " الجامع " . وحدث عنه: بندار، ومسلم بن الحجاج، والترمذي وغيرهم.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرني
محمد بن أحمد بن يعقوب.
وأنبأنا زاهر بن الحسين البيهقي قال: أخبرنا أبو عبد الله النيسابوري،
قال: سمعت أبا بكر محمد بن محمد بن يوسف الفقيه يقول: سمعت أبا القاسم
عمرو بن محمد الأنصاري يقول: سمعت أبا الفضل محمد بن إبراهيم يقول: كنت
عند أحمد بن حنبل فذكر عبد الله بن عبد الرحمن، فقال: ذلك السيد ثم قال
أحمد: عرض علي الكفر فلم أقبل وعرضت عليه الدنيا فلم يقبل.
توفي يوم عرفة وكان يوم الجمعة من هذه السنة، وهو ابن خمس وسبعين سنة،
وقيل توفي سنة خمسين، ولا يصح.
عبيد بن محمد بن القاسم أبو محمد الوراق النيسابوري. سكن بغداد وحدث
بها عن أبي النفر هاشم بن القاسم، وبشر الحافي. روى عنه: ابن أبي
الدنيا، والباغندي. وكان ثقة. وتوفي في هذه السنة.
عمر بن بحر بن محبوب أبو عثمان الجاحظ البصري كان جده أسود جمالاً،
وكان من متكلمي المعتزلة، وهو تلميذ أبي إسحاق النظام، والناس يعجبون
بتصانيفه زائداً في الحد، وليس الأمر كذلك، بل له جيد ورديء.
حدثنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الخطيب
قال: أخبرنا الحسن بن محمد الخلال قال: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى
النديم، حدثنا يموت بن المزرع قال: قال لنا عمرو بن بحر الجاحظ: ما
غلبني قط إلا رجل وامرأة.
فأما الرجل: فإني كنت مجتازاً في بعض الطرق، فإذا أنا برجل قصير بطين.
كبير الهامة، طويل اللحية، متزر بمئزر، وبيده مشط يسقي به شقه ويمشطها
به، فقلت في نفسي:
رجل قصير
بطين ألحى فاستزريته، فقلت: أيها الشيخ، قد قلت فيك شعراً. فترك المشط
من يده، وقال: قل. فقلت:
كأنك صعوة في أصل حش ... أصاب الحش طش بعد رش
فقال لي: اسمع جواب ما قلت. فقلت: هات. فقال:
كأنك كندب في ذنب كبش ... مدلدلة وذاك الكبش يمشي.
وأما المرأة: فإني كنت مجتازاً في بعض الطرقات، فإذا أنا بامرأتين،
وكنت راكباً على حمارة، فضرطت الحمارة، فقالت إحداهما للأخرى: وي،
حمارة الشيخ تضرط. فغاظني قولها فأعننت ثم قلت لهما: إنه ما حملتني
أنثى قد إلا وضرطت. فضربت يدها على كتف الأخرى وقالت: لقد كانت أم هذا
منه في جهد جهيد تسعة أشهر.
أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال:
أخبرنا الصيرمي قال: أخبرنا المرزباني قال: أخبرنا أبو بكر الجرجاني،
حدثنا المبرد قال: دخلت على الجاحظ في آخر أيامه، وهو عليل، فقلت له:
كيف أنت؟ قال: كيف يكون من نصفه مفلوج، فلو نشر بالمناشير ما أحس به،
ونصفه الآخر منقرس، فلو طارت الذبابة بقربه لآلمته، والآفة في جميع هذا
أني جزت التسعين، ثم أنشدنا يقول:
أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب
لقد كذبتك نفسك لبس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب
توفي الجاحظ في محرم هذه السنة.
محمد المعتز بالله بن المتوكل على الله: خلعوه وحبسوه ومنعوه الطعام
والشراب حتى مات على ما سبق في الحوادث، وذلك لليلتين خلتا من شعبان
هذه السنة، فبقي في الولاية أربع سنين وثمانية أشهر وثلاثة وعشرين
يوماً. وقيل: ثلاث سنسن وستة أشهر، وثلاثة عشر يوماً. وكان عمره أربعة
وعشرين سنة.
الفضل بن سهل بن إبراهيم بن العباس الأعرج مولى بني هاشم، سمع حسيناً
الجعفي، وشبابة. روى عنه: البخاري، ومسلم في الصحيحين، وكان شديد
الذكاء والفطنة، من الثقات الأخيار.
توفي في صفر من هذه السنة.
محمد بن عبد الرحيم بن أبي زهير أبو يحيى البزار يعرف بصاعقة، وإنما
سمي صاعقة لأنه كان جيد الحفظ. ولد سنة خمس وثمانين ومائة، وأصله
فارسي.
سمع عبد الله بن موسى وعبد الوهاب بن عطاء وأسود بن عامر، وقبيصة،
وغيرهم. وكان عالماً حافظاً متقناً ضابطاً ثقة حدث عنه البخاري في
صحيحه وغيره. وتوفي في شعبان من هذه السنة وله سبعون سنة.
محمد بن كرام أبو عبد الله السجزي ولد بقرية من قرى زريح، ونشأ
بسجستان، ثم دخل بلاد خراسان، وسمع الحديث، وأكثر الرواية عن أحمد بن
عبد الله الجوبياري، ومحمد بن تميم الفاريابي، وكانا كذابين، وقد صرح
في كتبه بأن الله جسم تعالى عن ذلك ومن مذهب الكرامية: أن الله سبحانه
مماس لعرشه، وأن ذاته محل للحوادث، في هذيانات، فلا هو سكت سكوت
الزاهدين، ولا تفلق بكلام المتكلمين.
وذكره أبو حاتم بن حبان الحافظ في كتاب " المجروحين " فقال: كأنه خذل
حتى التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها، ثم جالس الجوبياري،
ومحمد بن تميم، ولعلهما قد وضعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى
الصحابة والتابعين مائة ألف حديث، ثم جالس أحمد بن حرب الأصفهاني
بنيسابور، فأخذ عنه التقشف، ولم يكن يحسن العلم، ولا الأدب، وأكثر كتبه
المصنفة صنفها له مأمون بن أحمد السلمي، وكان تلميذه.
وذكره أبو عبد الله الحاكم فقال: جاور بمكة خمس سنين، ثم انصرف إلى
سجستان، فباع ما كان يملكه بمال وانصرف إلى نيسابور، فحبسه محمد بن عبد
الله بن طاهر، وطالت محنته، وكان يغتسل كل جمعة، ويتأهب للخروج إلى
الجامع، ثم يقول للسجان: أتأذن لي في الخروج؟ فيقول: لا، فيقول: اللهم
إنك تعلم أني بذلت مجهودي، والمنع من غيري. ومكث بنيسابور أربع عشرة
سنة، ثمانية منها في السجن، وكان يلبس في أول أمره مسك ضأن مدبوغ غير
مخيط وكان على رأسه قلنسوة بيضاء، ويجلس فيعظ ويذكر.
خرج من نيسابور في شوال سنة إحدى وخمسين ومائتين، وتوفي ببيت المقدس في
صفر سنة خمس وخمسين ودفن بباب أريحاء بقرب يحيى بن زكريا عليهما السلام
وكان أصحابه ببيت المقدس نحو عشرين ألفاً.
محمد بن عمران بن زياد بن كثير أبو جعفر الضبي النحوي الكوفي مؤدب عبد
الله المعتز، حدث عن أبي نعيم، وأحمد بن حنبل، وغيرهما.
وكان
الغالب عليه الأخبار وما يتعلق بالأدب، وكان ثقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن علي بن ثابت
قال: أخبرنا علي بن المحسن القاضي، أخبرنا أحمد بن عبد الله الدوري،
حدثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: كان محمد بن عمران الضبي على
اختيار القضاة للمعتز فاجتمع إليه القضاة والفقهاء، وكان الضبي قبل ذلك
معلماً، فنعس، ثم رفع رأسه فقال: تهجوا، قال الجوهري: وكان شيخاً
طوالاً يحفظ حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحفظ الأخبار
والملح.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي أخبرنا محمد بن علي بن
يعقوب القاضي قال: أخبرنا محمد بن جعفر التيمي، حدثنا أحمد بن أبي
السري قال: قال لي بن عرابة المؤدب: حكى لي محمد بن عمر الضبي أنه حفظ
ابن معتز - وهو يؤدبه - النازعات، وقال له: إذا سألك أمير المؤمنين
أبوك: في أي شيء أنت ؟ فقل: أنا في السورة التي تلي عبس، ولا تقل أنا
في النازعات. فسأله أبوه: في أي شيء أنت؟ فقال: أنا في السورة التي تلي
عبس. فقال له: من علمك هذا؟ قال: مؤدبي. فأمر له بعشرة آلاف درهم.
ثم دخلت
سنة ست وخمسين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن موسى بن بغا دخل سامراء يوم الاثنين لإحدى عشرة
ليلة خلت من المحرم، والمهتدي يومئذ قد جلس للمظالم، فأقاموه عن مكانه
وحملوه على دابة من دواب الشاكرية، وانتهبوا ما كان في الجوسق من دواب
الخاصة، فأدخلوه داراً، فجعل المهتدي يقول لموسى: ما تريد؟ ويحك، اتق
الله عز وجل، فانك تركب أمراً عظيماً. فقال موسى: ما نريد إلا خيراً.
فأخذوا عليه العهود والمواثيق أنه لا يمالي صالحاً عليهم ، ولا يضمر
لهم إلا مثل ما يظهر ففعل ذلك، فجددوا له البيعة ليلة الثلاثاء لاثنتي
عشرة ليلة خلت من المحرم. وأصبحوا يوم الثلاثاء، فوجهوا إلى صالح أن
يحضرهم، فوعدهم أن يحضر ، ثم استتر، فأظهر النداء عليه، ثم قتل لثمان
بقين من صفر.
وولى سليمان بن عبد الله بن طاهر بغداد والسواد، ووجه إليه بخلع كثيرة،
وكان الأتراك قد تحدثوا بخلع المهتدي فبلغه، فخرج إليهم متقلداً سيفاً
وقال: قد بلغني ما أنتم عليه من أمر، والله ما خرجت إليكم إلا وأنا
متخبط وقد أوصيت لأخوتي بولدي، وهذا سيفي، والله لأضربن به ما استمسك
قائمة في يدي، ما هذا الإقدام على الخلفاء والجرأة على الله عز وجل،
سواء عنكم من أراد صلاحكم ومن إذا سمع عنكم بشيء دعا بأرطال من الشراب
فشربها، ثم تقولون إني أعلم علم صالح وما أعلمه. قالوا: فاحلف لنا على
ذلك. قال: نعم. فورد مال فارس والأهواز ومبلغه تسعة عشر ألف ألف درهم
وخمس مائة ألف درهم، فانتشر في العامة أن القوم قد عرفوا أن يخلعوا
المهتدي ويقتلونه، فبعث المهتدي إلى العسكر ووعدهم الجميل، وكان
المهتدي قد كسر جميع ما في القصر من الملاهي وآلات اللعب.
وفي هذه السنة: وافى جعلان لحرب صاحب الزنج، فزحف بعسكره، فبقي بينه
وبين صاحب الزنج فرسخ فخندق على نفسه فأقام ستة أشهر ولم يجد إلى لقائه
سبيلاً لضيق الموضع بما فيه من النخل والدغل عن محال الخيل، فكانوا إذا
التقوا لم يكن بينهم إلا الرمي بالنشاب والحجارة، فجاء الزنج فبيتوا
عسكر جعلان فقتلوا جماعة، فترك جعلان عسكره، وانضم إلى البصرة، فظهر
إلى السلطان عجزه، فصرف وأمر سعيد الحاجب بالشخوص لحرب الزنج.
وفي هذه السنة: تحول صاحب الزنج من السبخة التي كان نزلها إلى الجانب
الغربي من النهر المعروف بأبي الخصيب، وأخذ أربعة وعشرين مركباً من
مراكب البحر كانت قد اجتمعت تريد البصرة، وكان يقول لأصحابه: لما بلغني
قرب المراكب مني نهضت للصلاة، وأخذت في الدعاء والتضرع، فخوطبت بأن قيل
لي: قد أظلك فتح عظيم. فالتفت فطلعت المراكب، فحواها أصحابي، وقتلوا
مقاتليها وسبوا ما فيها من الرقيق، وغنموا منها أموالاً عظيمة.
وفي هذه السنة: خلع المهتدي بالله لأربع عشرة خلت من رجب، وقتل، وفي
سبب خلعه قولان: أحدهما: أنه كتب إلى بعض الأتراك أن يقتل بعضهم فأطلع
المأمور ذلك الرجل على هذا، وقال له: إذا قتلتك اليوم قتلت أنا غداً.
قال: فما نصنع؟ قال: ندير على المهتدي، فقدم ذلك المأمور على المهتدي،
فقال له:
ألم آمرك
بقتل من أمرتك بقتله؟ فتعلل عليه فأمر بقتله فقتل ورمى رأسه إلى
أصحابه، ووقع القتال بين الناس، وخرج المهتدي يقاتل ويقول: يا معشر
الناس، انصروا خليفتكم. فآل الأمر إلى أن قتلوه.
والقول الثاني: أنه كان قد كتب رقعة بخطة: أنه متى غدر بهم أو اغتالهم
فهم في حل من بيعته، ولما كتب إلى بعضهم أن يقتل بعضاً استحلوا نقص
بيعته، ودعوه إلى خلع نفسه، فأبى، فخلعوا أصابع رجليه من قدميه، فورم
ومات.
ويقال: عذبوه بفنون العذاب، وأشهدوا على موته، وبايعوا المعتمد.
ذكر خلافة المعتمد على الله عز وجل
واسمه: أحمد بن جعفر المتوكل على الله بن المعتصم بن الرشيد، ويكنى أبا
العباس. ولد بسامراء سنة تسع وعشرين ومائتين في أولها، وأمه أم ولد
رومية، يقال لها: فتيان، وكان أسمر رقيق اللون أعين خفيفاً، لطيف
اللحية جميلاً، بويع يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من رجب هذه
السنة، فولي الوزارة عبد الله بن يحيى بن خاقان.
وللمتعمد أشعار حسان منها قوله:
طال والله عذابي واهتمامي واكتئابي
بغزال من بني الأصفر لا يغنيه ما بي
أنا مغرى بهواه وهو مغرى بعذابي
فإذا ما قلت صلني كان لا منه جوابي
وله:
عجل الحب بفرقه فبقلبي منه حرقه
ما لك بالحب رقي وأنا أملك رقه
إنما يستروح الصب إذا أظهر عشقه
ذكر طرف من سيرته أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا علي بن أحمد
البسيري، عن أبي عبد الله بن بطة، حدثنا أبو عمر بن أحمد بن شهاب،
حدثنا إبراهيم بن عبد السلام قال: حدثنا إسماعيل بن عبيد الله العسكري
قال: كنا عند المعتمد أمير المؤمنين بسامراء في رمضان، فلما أمسينا دعا
بتمر فأفطر على تمرة، ثم ناول من حضر تمرة تمرة، ثم قال: حدثني أبي
قال: حدثنا أحمد بن حنبل، عن عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت،
عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يفطر قبل أن يصلي على رطبات،
فإن لم يجد فتمرات، فإن لم يجد تمرات حسا حسوات من ماء.
ثم قال: سمعت أبي يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حدثنا عبد الرزاق، عن
معمر، عن وهب بن منبه قال: إن الصائم يزيغ بصره، فإذا أفطر على الحلاوة
رجع إليه بصره.
وروى أبو بكر الصولي قال: حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال: حدثني أبي
قال: كنا مرة بين يدي المعتمد، فجعل يخفق نعاساً، وقال: لا يبرحن أحد.
ثم نام مقدار نصف ساعة، وانتبه فقال: أحضروني من الحبس رجلاً يعرف
بمنصور الحمال، فأحضر، فقال: منذ كم أنت محبوس؟ فقال: منذ ثلاث سنين.
قال: فأصدقني عن خبرك؟ قال: أنا رجل من أهل الموصل، كان لي جمل أحمل
عليه وأعود بكراه على عائلتي، فضاق بالموصل المكسب، فقلت: أخرج إلى
سامراء، فإن العمل فيها كثير، فخرجت، فلما قربت منها إذا جماعة من
الجند قد ظفروا بقوم يقطعون الطريق قد كتب صاحب البريد بعددهم، وكانوا
عشرة، فأعطاهم واحد من العشرة مالاً على أن يطلقوه، فأطلقوه وأخذوني
مكانه، وأخذوا جملي، فسألتهم بالله وعرفتهم خبري، فأبوا وحبسوني، فمات
بعض القوم، وأطلق بعضهم، وبقيت وحدي.
فقال المعتمد: أحضروني خمسمائة دينار. فجاءوا بها. فقال: ادفعوها إليه
قال: فأخذها، وأجرى عليه ثلاثين ديناراً في كل شهر، وقال: اجعلوا أمر
جمالنا إليه، ثم أقبل علينا، وقال: رأيت الساعة النبي صلى الله عليه
وسلم فقال لي: يا أحمد، وجه الساعة إلى الحبس فأخرج منصور الجمال وأحسن
إليه فإنه مظلوم. ففعلت ما رأيتم، ثم نام من وقته فانصرفنا.
أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي قال: أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن
التنوخي، عن أبيه قال، حدثني أبو محمد الصلحي قال: حدثنا أبو علي
الكاتب الأترحي قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمدان قال:
انصرف جلساء المعتمد على الله ليلة عنه وانصرفت إلى حجرة مرسومة لي في
الدار اختص بها، فلما انتصف الليل وأنا نائم إذا أنا بالخدم يدقون باب
حجرتي ويوقظونني بشدة، فانزعجت فقالوا: أجب أمير المؤمنين. فأجبت وأنا
مذعور، وقلت: إنا لله بلاء تجدد، فلما صرت بحضرته قائماً لم يستجلسني
وقال: يا غلام صاحب الشرطة، الساعة قمت فزعاً. فحضر فقال له: في حبسك
رجل يقال له فلان بن فلان الجمال. فقال له:
نعم. قال:
أحضره. فحضر. فقال له المعتمد: بأي شيء تعرف؟ قال: أنا فلان بن فلان
الجمال. قال: منذ كم حبست؟ قال: منذ كذا وكذا. قال: في أي شيء؟ قال:
مظلوم. قال: فاشرح لي قصتك. قال: أنا رجل من أهل الجبل، وكان يتقلدنا
فلان بن فلان إلى الأمير فأستدعى إلى الحضرة يسخر جمالي، فتظلمت إليه
فلم ينفع، فخرجت أمشي وراء الجمال إلى أن قربنا من حلوان، فسل الأكراد
منها جملاً محملاً، فضربني مقارع كثيرة وقيدني، فقلت: ما ذنبي؟ قال:
أنت سرقت جملك وأخذت ما كان عليه. فقلت: غلمانك يعلمون أن الأكراد سلوه
فقال: الأكراد ما جاءوا إلا بمواطأتك ثم أمر بي فحملت على بعض الجمال
مقيداً، فلما وردت هذا البلد طرحني في الحبس وملك الجمال، فقال: يا
فلان، فحضر بعض الخدم فقال: امض الساعة إلى الأمير فلان واقعد على
دماغه، ولا تبرح أو يرد جمال هذا عليه أو قيمتها على ما يقوله الجمال،
وادفع ذلك إليه وقال للخادم: ادفع إلى هذا الجمال كذا وكذا ديناراً أو
كسوة، وأدخله الحمام، وأطعمه واسقه، ثم قال لصاحب الشرطة: لا تعرض له.
ثم قال له: في حبسك فلان بن فلان الحداد؟ قال: نعم. قال: هاته. فأحضره،
فقال: ما قصتك؟ قال: أنا رجل حبست ظلماً منذ كذا وكذا سنة. قال: وما
كان سبب حبسك؟ فقص قصة طويلة. فقال لصاحب الشرطة: خل عنه، وقال للخادم:
خذه فغير من حاله وأطعمه واسقه، وأدخله الحمام واكسه، وادفع إليه كذا
وكذا ديناراً. وقال للشرطي: انصرف، ثم رفع رأسه وقال: الحمد لله الذي
وفقني لهذا الفعل يا ابن حمدان. فقلت: كيف تكلف أمير المؤمنين النظر في
هذا الأمر بنفسه في مثل هذا الوقت، وانزعج من نومه؟ فقال: ويحك جاءني
رجل الساعة في النوم صفته كيت وكيت، فقال: في حبسك رجلان مظلومان يقال
لأحدهما فلان بن فلان الجمال، والآخر فلان بن فلان الحداد، فأطلقهما
وأنصفهما من خصومهما، وأحسن إليهما. فانتبهت مذعوراً، ولعنت إبليس،
وصليت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحولت إلى الجانب الآخر وقمت
فرأيت الشخص بعينه، فقال لي: ويلك، آمرك أن تطلق رجلين محبوسين مظلومين
من حبسك طال حبسهما، وأن تنصفهما من خصومهما ولا تفعل، وترجع إلى نومك؟
لقد هممت أن أفعل بك. قال: وكاد يمد يده إلي. فقلت: يا هذا، ارفق بي
وقل لي من أنت. قال: أنا محمد رسول الله قال: فكأني قد قبلت يده، وقلت:
يا رسول الله، ما عرفتك. ولو كنت عرفتك ما تجاسرت على مخالفتك. قال:
فقم فعجل في أمرهما الساعة كما أمرتك. فانتبهت فاستدعيتك لتشاهد ما
يجري، وطلبت صاحب الشرطة، فجرى ما رأيت. فدعوت له وعظمت في نفسه ما
جرى، وقلت: هذه عناية من رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أمي
المؤمنين، ومنة من الله عليه، فليشكر الله. فقال: امض فقد أزعجتك.
فمضيت إلى حجرتي.
ولخمس بقين من رجب: دخل الزنج إلى الأبلة، فقتلوا فيها خلقاً كثيراً،
منهم: عبد الله بن حميد الطوسي، وأحرقوها.
وفي هذا الشهر: قدم سعيد بن صالح المعروف بالحاجب من قبل السلطان لحرب
الزنج، واستسلم أهل عبادان لصاحب الزنج، فسلموا إليه حصنهم، وذلك أنهم
رأوا ما فعل بأهل الأبلة، فضعفت قلوبهم، وخافوا على أنفسهم، فأعطوا
بأيديهم، فدخلها أصحابه فأخذوا من كان فيها من العبيد والسلاح، ودخلوا
الأهواز، فهرب أهلها، فدخلوا فأحرقوا وقتلوا، ونهبوا وأخربوا، وذلك يوم
الاثنين لاثنتي عشرة خلت من رمضان، فانزعج أهل البصرة لذلك، ورعبوا
رعباً شديداً، وانتقل أكثر أهلها عنها.
وفي هذه السنة: ظهر بالكوفة علي بن زيد الطالبي، فبعث إليه الشاه بن
ميكال في عسكر كثيف، فهزمهم؛ ووثب محمد بن واصل بن إبراهيم التيمي من
أهل فارس ورجل من أكرادها يقال له أحمد بن الليث بعامل فارس فقتلاه.
وفيها: شخص موسى بن بغا لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال من سامراء إلى
الري، وشيعه المعتمد.
وحج بالناس في هذه السنة أحمد بن عيسى بن المنصور.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق التميمي. خراساني جوزجاني، قدم مصر، فكتب
عنه.
وتوفي بدمشق في هذه السنة.
أيوب بن نصر بن موسى أبو أحمد العصفري بغدادي قدم مصر، وحدث بها، وتوفي
في شعبان هذه السنة.
إدريس بن عيسى
أبو محمد
القطان المخرمي حدث عن زيد بن الحباب، وأبي داود الجعفري. روى عنه ابن
صاعد، والباغندي، ولم يكن به بأس، وتوفي في هذه السنة.
الحسن بن علي أبو علي المسوحي حكى عن بشر الحافي. روى عنه الجنيد. ولم
يكن له منزل يأوي إليه إنما كان يأوي إلى مسجد.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب قال: أخبرنا ابن رزق إجازة قال: أخبرنا جعفر الخلدي قال: حدثني
الجنيد وابن مسروق وأبو أحمد المغازلي، وأبو محمد الحريري قالوا: سمعنا
حسناً المسوحي يقول: كنت آوي إلى باب الكنائس كثيراً، وكنت أقرب من
مسجد، ثم أتفيأ فيه من الحر وأستكن من البرد فدخلت يوماً وقد كظني الحر
واشتد علي فحملتني عيني فنمت، فرأيت كأن سقف المسجد قد انشق، وكأن
جارية قد نزلت علي من السقف عليها قميص فضة يتخشخش، ولها ذؤابتان،
فجلست عند رجلي فقبضت رجلي عنها، فمدت يدها فنالت رجلي. فقلت لها: يا
جارية، لمن أنت؟ قالت: لمن دام على ما أنت عليه.
رزق الله بن موسى أبو الفضل الإسكافي حدث عن يحيى بن سعيد القطان،
وسفيان بن عيينة، وشبابة. وروى عنه: الباغندي، وابن صاعد، والقاضي
المحاملي، وكان ثقة.
وتوفي في ذي القعدة من هذه السنة.
الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن
العوام، أبو عبد الله الأسدي المديني العلامة. سمع سفيان بن عيينة،
والنضر بن شميل، وأبا الحسن المدائني وخلقاً كثيراً. روى عنه ثعلب،
وابن أبي الدنيا، والبغوي، وابن صاعد، وغيرهم.
وكان ثقة ثبتاً عالماً بالنسب، عارفاً بأخبار المتقدمين، وله " كتاب
النسب " . ولي القضاء بمكة، وورد بغداد، فلما أراد أن يحدث بها قال:
أعرضوا علي مستمليكم. فعرضوا عليه، فأتاهم، فلما حضر أبو حامد المستملي
قال له: من أنت؟ قال: من ذكرت يا ابن حواري رسول الله صلى الله عليه
وسلم. فأعجبه، واستملى عليه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب قال: أخبرنا احمد بن عبد الواحد الوكيل، أخبرنا إسماعيل بن سعيد
المعدل قال: حدثنا الحسين بن قاسم الكوكبي قال: حدثنا محمد بن موسى
المارستاني، حدثنا الزبير بن بكار قال: قالت ابنة أختي لأهلها: خالي
خير رجل لأهله، لا يتخذ ضرة، ولا يشتري جارية. قال: تقول المرأة: والله
لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال: اخبرنا أحمد بن علي الخطيب، أخبرنا أحمد
بن الفرج النهرواني قال: أخبرنا الحسين بن محمد بن عبيد الدقاق قال:
سمعت أبا العباس محمد بن إسحاق الصيرفي يقول: سألت الزبير بن بكار -
وقد جرى حديث النساء - منذ كم زوجك معك؟ قال: لا تسألني ليس يرد
القيامة أكثر كباشاً منها، ضحيت عنها بسبعين كبشاً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرني أحمد بن علي، أخبرني
محمد بن عبد الواحد، وعلي بن أبي علي قالا: أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن
شاذان قال: قال لنا أبو عبد الله أحمد بن سليمان الطوسي: توفي أبو عبد
الله الزبير بن بكار قاضي مكة ليلة الأحد لتسع ليال بقين من ذي القعدة
سنة ست وخمسين ومائتين، وقد بلغ أربعاً وثمانين سنة، ودفن بمكة، وحضرت
جنازته، وصلى عليه ابنه مصعب، وكان سبب وفاته: أنه وقع من فوق سطحه،
فمكث يومين لا يتكلم، وتوفي بعد فراغنا من قراءة " كتاب النسب " عليه
بثلاثة أيام.
عبد الله بن محمد بن المهاجر، أبو محمد. ويعرف بفوزان، كان من أخص
أصحاب أحمد بن حنبل به، وكان يتقدمه، ويكرمه، ويأنس إليه، ويستقرض منه،
ومات أحمد وله عنده خمسون ديناراً، وأوصى أن تعطى من غلته، فلم يأخذها
فوزان، وأحله منها. وبعث إليه يوماً، فقال: قد وهب الله لنا ولداً فإيش
ترى أن أسميه؟ وحدث فوزان عن وكيع، وشعيب بن حرب، وأبي معاوية، وغيرهم.
روى عنه: جماعة منهم: البغوي، وابن صاعد: وقال الدار قطني: فوزان نبيل
جليل.
توفي في رجب هذه السنة.
عثمان بن صالح بن سعيد بن يحيى أبو القاسم الخياط الخلقاني حدث عن يزيد
بن هارون، ووهب بن جرير. روى عنه: ابن مخلد، وكان ثقة.
وتوفي في هذه السنة.
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة
وأبو عبد
الله الجعفي البخاري. صاحب " الجامع الصحيح " و " التاريخ " ولد يوم
الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة.
وإنما قيل له: الجعفي لأن أبا جده أسلم - وكان مجوسياً - على يدي يمان
الجعفي، وكان يمان والي بخارى، فنسب إليه. ورحل محمد بن إسماعيل في طلب
العلم، وكتب بخراسان، والجبال، ومدن العراق، والحجاز، والشام، ومصر،
وسمع بكر بن إبراهيم، وعبدان، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وأبا نعيم،
وعفان، وأبا الوليد الطيالسي، والقعنبي، والحميدي، وعلي بن المديني،
وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وخلقاً يطول ذكرهم.
وورد إلى بغداد دفعات. وحدث بها فروى عنه من أهلها: إبراهيم الحربي،
والباغندي، وابن صاعد، وغيرهم، وآخر من حدث عنه بها: الحسين بن إسماعيل
المحاملي.
ومهر البخاري في علم الحديث، ورزق الحفظ له والمعرفة له.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال:
حدثني عبد الغفار بن عبد الواحد الأرموي قال: حدثني محمد بن إبراهيم بن
أحمد الأصبهاني قال: أخبرني أحمد بن علي الفارسي حدثنا أحمد بن عبد
الله بن محمد قال: سمعت جدي محمد بن يوسف الفربري يقول: حدثنا أبو جعفر
محمد بن أبي حاتم الوراق النحوي قال: قلت لأبي عبد الله محمد بن
إسماعيل البخاري: كيف كان بدء أمرك في طلب الحديث؟ قال: ألهمت حفظ
الحديث وأنا في الكتاب، قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ فقال: عشر سنين أو
أقل، ثم خرجت من الكتاب بعد العشر فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره. فقال
يوماً فيما كان يقرأ للناس: سفيان، عن أبي الزبير، عن إبراهيم. فقلت
أنا له: يا أبا فلان، إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم. فانتهرني. فقلت
له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك. فدخل ونظر فيه، ثم خرج فقال لي: كيف
هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي، عن إبراهيم. فأخذ القلم مني وأحكم
كتابه، وقال: صدقت. فقال له بعض أصحابه: ابن كم كنت إذ رددت عليه؟ قال:
ابن إحدى عشرة سنة، فلما طعنت في ست عشرة حفظت كتب ابن المبارك، ووكيع،
ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلما حججت رجع أخي، وتخلفت بها في
طلب الحديث، فلما طعنت في ثمانية عشرة سنة جعلت أصنف قضايا الصحابة
والتابعين وأقاويلهم، وصنفت كتاب " التاريخ " إلا وله عندي قصة، إلا
أني كرهت تطويل الكتاب.
وفي رواية ابن البخاري: كتب تراجم جامعة بين قبر رسول الله صلى الله
عليه وسلم ومنبره، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين. وقال: كتبت عن ألف شيخ.
قال: وأخرجت هذا الكتاب من زهاء ستمائة ألف حديث، وما وضعت في كتاب
الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين.
قال الفربري: سمع هذا الكتاب تسعون ألف رجل ما بقي أحد يرويه غيري.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال: أخبرنا الخطيب أحمد بن علي بن ثابت قال:
حدثني أبو عبد الله محمد بن علي الصوري، أخبرنا محمد بن أحمد بن جميع
الغساني قال: حدثنا أحمد بن محمد بن آدم قال: حدثنا محمد بن يوسف قال:
كنت عند محمد بن إسماعيل البخاري في منزله ذات ليلة، فأحصيت أنه قد قام
وأسرج يستذكر أشياء يعقلها في ليلة ثماني عشرة مرة.
وروي عنه بعض رفقائه أنه كان يختلف معهم إلى مشائخ البصرة وهو غلام ولا
يكتب فسألوه بعد أيام: لم لا تكتب فقرأ عليهم جميع ما سمعوه من حفظه،
وكان يزيد على خمسة عشر ألف حديث، وكان بندار يقول: ما قدم علينا مثل
محمد بن إسماعيل.
ودخل مرة إلى مجلس بندار فما عرفه، فقيل له: هذا أبو عبد الله. فقام
فأخذ بيده وعانقه، وقال: مرحباً بمن أفتخر به منذ سنين.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير: ما رأينا مثل
محمد بن إسماعيل.
وقال أبو بكر الأعين: كتبنا عن محمد بن إسماعيل على باب محمد بن يوسف
الفريابي وما في وجهه شعرة.
وقال أحمد بن حنبل: ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل البخاري.
وقال إسحاق بن راهويه، وعنده البخاري: يا معشر أصحاب الحديث، انظروا
إلى هذا الشاب، واكتبوا عنه، فإنه لو كان في زمن الحسن لاحتاج إليه
الناس لمعرفته بالحديث وفهمه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي الحافظ الخطيب قال:
حدثني عبد الله بن أحمد الصيرفي قال: سمعت الدارقطني يقول:
لولا
البخاري ما ذهب مسلم ولا جاء.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثني محمد بن أبي
الحسن الساحلي قال: أخبرنا أحمد بن الحسن الرازي قال: سمعت أبا أحمد بن
عدي الحافظ يقول: سمعت عدة مشائخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم
إلى بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث قلبوا
أسانيدها ومتونها وجعلوا متن هذا لإسناد آخر وإسناد هذا لمتن آخر
ودفعوها إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا
المجلس يلقون ذلك على البخاري، فحضروا فانتدب رجل من العشرة فسأله عن
حديث من تلك الأحاديث، فقال: لا أعرفه. فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه.
فما زال يلقي عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ من العشرة، والبخاري يقول:
لا أعرفه. فكان بعض الفهماء يقول: الرجل فهم. وبعضهم يقضي عليه بالعجز.
ثم انتدب رجل آخر فسأله عن حديث من الأحاديث وهو يقول في الحديث: لا
أعرفه. حتى فرغ من عشرته، ثم الثالث، ثم الرابع، إلى تمام العشرة،
والبخاري لا يزيدهم على: لا أعرفه، فلما فرغوا التفت البخاري إلى الأول
وقال: أما حديثك الأول فهو كذا، والحديث الثاني كذا، والثالث كذا، حتى
أتى على تمام العشرة، فرد كل متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، وفعل
بالآخرين مثل ذلك فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل. وكان ابن
صاعد إذا ذكره يقول: الكبش النطاح.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا الخطيب أحمد بن علي بن ثابت
قال: أخبرني الحسن بن محمد البلخي، حدثنا محمد بن أبي بكر الحافظ،
أخبرنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن عمر المقرئ، حدثنا أبو سعيد بكر بن
منير قال: كان حمل إلى محمد بن إسماعيل بضاعة أنفذها إليه فلان، فاجتمع
التجار بالعشية فطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم، فقال لهم: انصرفوا
الليلة. فجاءه من الغد تجار آخرون فطلبوا منه تلك البضاعة بربح عشرة
آلاف درهم، فردهم وقال: إني نويت البارحة أن أدفع إلى أولئك، ولا أحب
أن أنقض نيتي. فدفعها إليهم.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال أخبرنا الخطيب أحمد بن علي بن ثابت
أخبرنا الحسن بن محمد الأشقر قال: أخبرنا محمد بن أبي بكر البخاري
الحافظ قال: حدثنا أبو عمرو أحمد بن أبي محمد المقرئ قال: سمعت بكر بن
منير يقول: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: أرجو أن ألقى الله سبحانه ولا
يحاسبني أن اغتبت أحداً.
كان البخاري قد قال: أفعال العباد مخلوقة. فقلت له: قد قلت لفظي
بالقرآن مخلوق. فقال: أنا لا أقول هذا، وإنما أقول أفعال العباد
مخلوقة. فهجره محمد بن يحيى الذهلي، ومنع الناس من الحضور عنده، واتفق
أن خال بن أحمد الذهلي والي بخارى سأله أن يحضر عنده ليسمع منه الكتاب
الصحيح والتاريخ فقال: أنا لا أذل العلم، إن أراد سماع ذلك فليحضر
عندي. فاحتال عليه حتى نفاه من البلد، فمضى إلى خرتنك وهي قرية من قرى
سمرقند على فرسخين منها، فتوفي هناك.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
الخطيب أخبرنا أبو سعد الماليني، أخبرنا عبد الله بن عدي قال: سمعت
الحسن بن الحسين التمار يقول: رأيت محمد بن إسماعيل شيخاً نحيف الجسم،
ليس بالطويل ولا بالقصير، توفي ليلة السبت عند صلاة العشاء، وكانت ليلة
الفطر، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر لغرة شوال سنة ست وخمسين
ومائتين، وعاش اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوماً.
محمد المهتدي بالله أمير المؤمنين قد ذكرنا سبب خلعه وقتله فيما تقدم،
وكان هلاكه يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقين من رجب هذه السنة، وكانت
خلافته أحد عشر شهراً، وخمسة عشر يوماً. وقيل: سبعة عشر يوماً، وبلغ من
العمر ثمانياً وثلاثين سنة وأربعة أشهر، وعشرة أيام. وقيل: إحدى
وأربعين سنة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثني
الحسن بن أبي بكر قال: حدثنا عيسى بن المتوكل على الله، حدثنا محمد بن
خلف المرزبان، حدثني أحمد بن سعيد الأموي قال: كانت لي حلقة وأنا بمكة
أجلس فيها في المسجد الحرام، ويجتمع إلي فيها أهل الأدب، وإنا يوماً
لنتناظر في شيء من النحو والعروض، وقد علت أصواتنا وذلك في خلافة
المهتدي، إذ وقف علينا مجنون، فنظر إلينا ثم قال:
أما
تستحون الله يا معدن الجهل ... شغلتم بذا والناس في أعظم الشغل
إمامكم أضحى قتيلاً مجدلاً ... وقد أصبح الإسلام مفترق الشمل
وأنتم على الأشعار والنحو عكف ... تصيحون بالأصوات فلستم بذي عقل
ثم انصرف المجنون، وتفرقنا، وقد أفزعنا ما ذكره المجنون، وحفظنا
الأبيات، فخبرت بذلك إسماعيل بن المتوكل، فحدث به قبيحة أم المعتز
بالله فقالت: إن لهذا لنبأ فاكتبوا هذه الأبيات، وأرخوا هذا اليوم،
واطووا هذا الخبر عن العامة. ففعلنا، فلما كان يوم الخامس عشر ورد
الخبر من مدينة السلام بقتل المهتدي.
محمد بن إبراهيم بن جعفر الأنماطي. المعروف بمربع، صاحب يحيى بن معين.
كان أحد الحفاظ الفهماء، وحدث عن أبي سلمة التبوذكي وأبي حذيفة النهدي،
وأبي الوليد الطيالسي، وغيرهم.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: سمعت أبا نعيم
الحافظ يقول: بلغني عن جعفر بن محمد بن كزال قال: كان يحيى بن معين
يلقب أصحابه، فلقب محمد بن إبراهيم بمربع، والحسين بن محمد بعبيد
العجل، وصالح بن محمد جزرة، ومحمد بن صالح بكيلجة، وهؤلاء من كبار
الصحابة.
أخبرنا عبد الرحمن القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: حدثنا
عبد الله بن أبي الفتح قال: أخبرنا أبو الحسن الدارقطني قال: محمد بن
إبراهيم الأنماطي المعروف بمربع كان حافظاً بغدادياً، له تصنيف وتأريخ،
حدث عنه: أبو محمد بن صاعد وغيره.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد السمسار، أخبرنا عبد الله بن عثمان الصفار
قال: أخبرنا عبد الباقي بن قانع: أن محمد بن إبراهيم مربعاً مات في سنة
ست وخمسين ومائتين.
وقال ابن مخلد: مات في ستة وثمانين. وهذا غلط لا يصح.
محمد بن أبي فروة أبو عبد الله الشعباني من بني شعبان، وبنو شعبان بن
عمرو بن قيس بن حمير، وأهل مصر إذا نسبوا إليه يقولون الأشعبوني، وأهل
الكوفة يقولون: الشعبي، وأهل الشام يقولون: الشعباني، وأهل اليمن
يقولون: ذي الشعين، وكلهم يريد شعبان بن عمرو.
روى محمد الحديث، وتوفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة سبع وخمسين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أنه في أولها: ظفر صاحب الزنج بالأبلة، وأحرقا وقتل
من الناس في ثلاثة أيام ثلاثين ألفاً.
وأنه قدم رسول يعقوب بن الليث في ربيع الآخر بأصنام من كابل، وأن
المعتمد عقد لأخيه أبي أحمد على الكوفة، والبصرة، وبغداد، والسواد،
وفارس، والأهواز، وطريق مكة، والحرمين، وبلاد اليمن، لاثنتي عشرة خلت
من صفر، ثم عقد له لسبع خلون من رمضان على بغداد، والسواد وواسط، وكور
دجلة، والبصرة، والأهواز وفارس.
وفيها أمر بغراج باستحداث سعيد الحاجب أن ينيخ بإزاء عسكر صاحب الزنج،
فمضى وأوقع بهم وهزمهم، واستنقذ ما في أيديهم من النساء والنهب،
وأصابته جراحات.
ثم عاد إلى حرب الخبيث فعبر إلى غربي دجلة فأوقع به وقعات في أيام
متوالية، ثم لم يزل يحاربه باقي رجب وعامة شعبان.
ثم أوقع الخبيث بسعيد وأصحابه فقتلهم.
وفيها ظهر ببغداد في بركة زلزل علي خناق، قد قتل خلقاً كثيراً من
الرجال والنساء في دار كان ساكنها، فحمل إلى المعتمد، وأمر بضربه فضرب
ألفي سوط وأربعمائة سوط فلم يمت حتى ضرب الجلادون أنثييه بخشب
العقابين، فمات، وصلب ببغداد، ثم أحرقت جثته.
وفي يوم الجمعة لثلاث عشرة بقيت من شوال: غارت خيل الزنج على البصرة،
فعاثوا وأحرقوا ونهبوا، وأخذ الناس السيف ، فلا تسمع إلا ضجيج الناس
وتشهدهم وهم يقتلون، فقتلوا عشرين ألفاً، أحرقوا المسجد الجامع.
وكان صاحب الزنج ينظر في حساب النجوم، فعرف انخساف القمر، فقال للناس:
اجتهدت في الدعاء على أهل البصرة وابتهلت إلى الله تعالى في تعجيل
خرابها، فخوطبت وقيل لي: إنما أهل البصرة أكلها من جوانبها، فإذا انكسر
نصف الرغيف خربت البصرة، فأولت انكسار الرغيف انكساف القمر فعقب هذا
إغارة أصحابه على أهل البصرة. وكان الخبيث قد بعث من يأخذ أموال
الأغنياء، ويقتل من لا شيء له، فهرب الناس على وجوههم، فكان الخبيث
يقول:
دعوت على
أهل البصرة في غداة اليوم الذي دخلها فيه أصحابي، واجتهدت في الدعاء
وسجدت فرفعت إلي البصرة، فرأيتها، ورأيت أصحابي يقاتلون فيها، فعلمت أن
الملائكة تولت إخرابها تعين أصحابي، وإن الملائكة لتنصرن أصحابي، وتثبت
من ضعف قلبه من أصحابي. ولقد عرضت النبوة فأبيتها، لأن لها أعباء خفت
أن لا أطيق حملها.
فلما انتهى الخبر إلى السلطان بعث محمداً المولد من سامراء لحرب صاحب
الزنج يوم الجمعة لليلة خلت من ذي القعدة.
وفيها وثب بسيل الصقيلبي على ميخائيل بن توفيل ملك الروم، فقتله، وكان
ميخائيل قد تفرد بالمملكة أربعاً وعشرين سنة، وتملك الصقلبي بعده على
الروم.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن إسحاق بن إسماعيل بن العباس بن محمد
بن علي بن عبد الله بن العباس.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن إبراهيم بن أيوب أبو علي المسوحي وهو غير الذي ذكرناه في السنة
المتقدمة، صحب سرياً السقطي، وسمع ذا النون، وحدث عن محمد بن يحيى بن
عبد الكريم، وروى عنه الخالدي.
أخبرنا عبد الرحمن بن القزاز، أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرنا
إسماعيل بن أحمد الحيري، أخبرنا محمد بن الحسين السلمي قال: أحمد بن
إبراهيم المسوحي من جلة مشايخ بغداد وظرافهم ومتوكليهم.
سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفراً - يعني الخواص - يقول: كان أحمد
بن إبراهيم المسوحي يحج بقميص ورداء ونعل طاق، ولا يحمل معه شيئاً لا
ركوة، ولا كوز، إلا كوز يكون فيه تفاح شامي يشمه من جوف بغداد إلى مكة،
وكان من أفاضل الناس.
إبراهيم بن أحمد بن عبد الله بن يعيش أبو إسحاق سمع يزيد بن هارون،
وأنفق على بابه نحو عشرة آلاف درهم، وسمع عن الوليد بن عطاء والواقدي
وخلقاً كثيراً، وكان ثقة فهماً. صنف " المسند " وكان قد انتقل إلى
همذان فسكنها، وتوفي في هذه السنة.
إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد البصري. حدث عن أبيه، ومعتمر،
ومحمد بن فضيل، وأبي معاوية.
روى عنه أبو بكر بن أبي داود، وابن صاعد، وكان ثقة مأموناً.
وتوفي في جمادى الآخرة من هذه السنة.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر علي بن ثابت، أخبرنا أحمد
بن أبي جعفر القطيعي، حدثنا محمد بن العباس الخزاز، أخبرنا أبو أيوب
سليمان بن إسحاق الجلاب قال: قال إبراهيم الحربي: كان بالبصرة يغسل
محمد بن سيرين، ثم كان بعده أيوب، ثم كان بعد أيوب حماد بن زيد، ثم كان
بعد حماد سليمان بن حرب، ثم افترق بعد ذلك فصار إلى الشهيدي، وحسن بن
المثنى، فمات الشهيدي ها هنا وبقي حسن بالبصرة، فهو يغسل على ذلك.
الحسن بن عبد العزيز أبوعلي الجذامي، ويعرف بالجروي من أهل مصر قدم
بغداد وحدث بها، فروى عنه ابن أبي الدنيا، والحربي، وابن صاعد ومحمد بن
عبدوس بن كامل وجماعة آخرهم المحاملي، وكان من أهل الفضل والدين والورع
والثقة والعبادة. قال الدارقطني لم ير مثله فضلاً وزهداً.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب، أخبرنا أحمد
بن أبي جعفر، حدثنا أبو العباس محمد بن إبراهيم الحداد، حدثنا جعفر بن
محمد بن الحسن بن عبد العزيز الجروي قال: سمعت جدي يقول: من لم يردعه
القرآن والموت، ثم تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع.
توفي الجروي في رجب هذه السنة.
الحسن بن عرفة بن يزيد أبو علي العبدي ولد في سنة ثمان وخمسين ومائة،
وفيها ولد يحيى بن معين، وقيل: بل ولد سنة خمسين ومائة. وسمع إسماعيل
بن عياش، وعبد الله بن المبارك، وعيسى بن يونس، وهشيم بن بشير،
وإسماعيل بن علية، ويزيد بن هارون، وأبا بكر بن عياش وغيرهم. روى عنه:
عبد الله بن أحمد، والبغوي، وابن صاعد، وغيرهم.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال: أجاز
لي محمد بن علي المصري وحدثني عنه نصر بن إبراهيم الفقيه قال: حدثنا
أحمد بن عبد الله المخزومي قال: حدثنا ابن رشيق قال: حدثنا أحمد بن
محمد بن حكيم قال: سمعت الحسن بن عرفة قد سئل كم تعد من السنين؟ قال:
مائة سنة وعشر سنين، لم يبلغ أحد من أهل العلم هذا السن غيري.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: سمعت هبة الله بن الحسن
الطبري يقول:
سمعت علي
بن محمد بن يعقوب يقول: سمعت عبد الرحمن بن أبي حاتم يقول: عاش الحسن
بن عرفة مائة وعشر سنين، وكان له عشرة أولاد سماهم بأسامي الصحابة: أبو
بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن،
وأبو عبيدة.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت، أخبرنا أبو علي عبد الرحمن بن
محمد بن أحمد بن فضالة قال: سمعت أبا أحمد يوسف بن أحمد الطوسي يقول:
سمعت محمد بن المسيب يقول: سمعت الحسن بن عرفة يقول: قد كتب عني خمسة
قرون. توفي الحسن بن عرفة في هذه السنة.
زيد بن أخرم أبو طالب الطائي البصري حدث عن عبد الرحمن بن مهدي، وسلم
بن قتيبة، ووهب بن جرير، وغيرهم. روى عنه: البغوي، وابن صاعد،
والمحاملي، وغيرهم. وكان ثقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا
الأزهري حدثنا محمد بن العباس قال: قال لنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد
الكندي: زيد بن أخرم ذبحه الزنج ذبحاً بعد دخولهم البصرة سنة سبع
وخمسين ومائتين.
زهير بن عمر بن محمد بن قمير بن شعبة، أبو أحمد مروزي الأصل. سمع يعلى
بن عبيد، والقعنبي وعبد الرزاق وغيرهم. روى عنه البغوي وابن صاعد وكان
ثقة ورعاً زاهداً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثني
الأزهري، حدثنا محمد بن الحسن الصيرفي حدثنا البغوي: ما رأيت بعد أحمد
بن حنبل أفضل من زهير، سمعته يقول: أشتهي لحماً منذ أربعين سنة ولا
آكله حتى أدخل الروم فأكله من مغانم الروم.
أخبرنا عبد الرحمن ، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني الحسن بن
علي التميمي، أخبرنا عمر بن أحمد الواعظ، حدثنا عبد الله بن محمد،
حدثني محمد بن زهير بن قمير قال: كان أبي يجمعنا في وقت ختمة القرآن في
شهر رمضان في كل يوم وليلة ثلاث مرات تسعين ختمة في شهر رمضان.
سكن زهير ببغداد ثم انتقل إلى طرسوس فرابط بها إلى أن مات، فدفن بها في
أواخر هذه السنة، وقيل في سنة ثمان وخمسين ومائتين وقال أبو الحسن بن
المنادي: إنه دفن في مقابر باب حرب. قال الخطيب وهو وهم. والصحيح
الأول.
سليمان بن معبد أبو داؤد النحوي السنجي المروزي سمع النضر بن شميل
والهيثم بن عدي، وعبد الرزاق، والأصمعي، ورحل في العلم إلى العراق،
والحجاز ومصر واليمن، وقدم بغداد فذاكر الحفاظ بها. روى عنه: مسلم بن
الحجاج، وأبو بكر بن أبي داود، وكان ثقة.
توفي في ذي الحجة من هذه السنة.
العباس بن الفرج أبو الفضل الرياشي مولى محمد بن سليمان بن علي بن عبد
الله بن العباس، من أهل البصرة.
ورياش: رجل من جذام، وكان أبو العباس عبداً له، فبقي عليه نسبه، وكان
الرياشي من الأدب بمحل. قال: وكان من الثقات الحفاظ يحفظ كتب أبي زيد،
وكتب الأصمعي كلها، وقد سمع منه، وقرأ على أبي عثمان المازني " كتاب
سيبويه " فكان المازني يقول: قرأ علي الرياشي الكتاب، وهو أعلم به مني.
وتوفي في هذه السنة قتله الزنوج.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، أخبرنا
ابن الأزهري حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا أبو القاسم الطيب بن علي
التيمي أخبرنا محمد بن جعفر النوفلي، عن الأصمعي قال: خطبنا الرياشي
بالبادية فحمد الله وأثنى عليه ووحده واستغفره وصلى على نبيه فبلغ في
الإيجاز ثم قال: أيها الناس، إن الدنيا دار بلاء والآخرة دار قرار،
فخذوا لمقركم من ممركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا يخفى عليه
أسراركم، في الدنيا أنتم، ولغيرها خلقتم، أقول قولي هذا وأستغفر الله
والمصلى عليه: رسول الله، والمدعو له الخليفة، والأمير جعفر بن سليمان.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أبو الحسين بن
النقور، أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن هارون الضبي قال: وجدت
في كتاب أبي: أنشدني أبو عبد الله بن عمر الكاتب قال: أنشدني المبرد،
عن الرياشي:
فلو أن لحمي إذ وهى لعبت به ... أسود كرام أو ضباع وأذؤب
لهون من وجدي وسلى مصيبتي ... ولكنما أودى بلحمي أكلب
قال أحمد بن محمد الأسدي: وفي كتابه قال: وأنشدني أبو عبد الله قال:
أنشدني أبي قال: أنشدني الرياشي:
وتجزع نفس
المرء من سب مرة ... وتسمع عشراً بعدها ثم تسكت
أخبرنا ابن ناصر، أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، أخبرنا الشريف أبو بكر
المنكدري، أخبرنا أبو الحسن بن الصلت قال: أنشدنا محمد بن القاسم
الأنباري قال: أنشدنا أحمد بن محمد الأسدي قال: أنشدنا الرياشي:
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ... ولا يلين إذا قومته الخشب
قد ينفع الأدب الأحداث في مهل ... وليس ينفع في ذي الشيبة الأدب
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا الحسن
بن شهاب إجازة، أخبرنا عبيد الله بن محمد بن بطة، حدثنا أبو بكر بن
الأنباري، حدثنا أحمد بن محمد الأسدي، حدثنا علي بن أبي أمية قال: لما
كان من دخول الزنج البصرة ما كان، وقتلوا بها من قتلوا، وذلك في شوال
سنة سبع وخمسين ومائتين، بلغنا أنهم دخلوا على الرياشي المسجد بأسيافهم
والرياشي قائم يصلي الضحى، فضربوه بالأسياف، وقالوا: هات المال! فجعل
الرياشي يقول: أي مال؟ حتى مات فلما خرج الزنج عن البصرة دخلناها
فمررنا ببني مازن وهناك كان ينزل الرياشي فدخلنا مسجده فإذا به ملقى
مستقبل القبلة كأنما وجه إليها، وإذا شملة تحركها الريح، قد تمزقت،
وإذا جميع خلقه صحيح سوي لم ينشق له بطن، ولم يتغير له حال، إلا أن
جلده قد لصق بأعظامه ويبس، وذلك بعد مقتله بسنتين رحمه الله.
فضل الشاعرة. كانت من مولدات البصرة، وأمها من مولدات اليمامة، وبها
ولدت، ونشأت في دار رجل من بني عبد القيس فأدبها وخرجها وباعها فكانت
فصيحة أديبة ولم يكن في زمانها امرأة أشعر منها فاشتراها محمد بن
المفرج الرخجي فأهداها إلى المتوكل، فلما أدخلت عليه قال لها: أشاعرة
أنت؟ قالت: كذا يزعم من باعني ومن اشتراني فقال: أنشدينى من شعرك
فقالت:
أستقبل الملك إمام الهدى ... عام ثلاث وثلاثينا
خلافة أفضت إلى جعفر ... وهو ابن سبع بعد عشرينا
إنا لنرجو يا إمام الهدى ... أن تملك الأمر ثمانينا
لا قدس الله أمرأً لم ... يقل عند دعائي آمينا
فقال المتوكل لعلي بن الجهم: قل بيتاً وطالب فضل الشاعرة بأن تجيزه،
فقال علي أجيزي يا فضل:
لاذ بها يشتكي إليها ... فلم يجد عندها ملاذا
فأطرقت هنيهة ثم قالت:
ولم يزل ضارعاً إليها ... تهطل أجفانه رذاذا
فعاتبوه فزاد عشقاً ... فمات وجداً فكان ماذا
فطرب المتوكل، فقال: أحسنت وحياتي يا فضل، وأمر لها بألفي دينار.
وألقى عليها يوماً أبو دلف العجلي:
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطي إلي ما لم يركب
كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... لبست وحبة لؤلؤ لم تثقب
فقالت:
إن المطية لا يلذ ركوبها ... ما لم تذلل بالزمام وتركب
والحب ليس بنافع أصحابه ... ما لم يؤلف للنظام ويثقب
وكتبت فضل إلى بنان:
يا نفس صبراً إنها ميتة ... يجرعها الكاذب والصادق
ظن بنان أنني خنته ... روحي إذاً من جسدي طالق
محمد بن حسان بن فيروز أبو جعفر الأزرق مولى معن بن زائدة.
سمع سفيان بن عيينة، وابن مهدي، ووكيعاً، وغيرهم. وكان صدوقاً.
وتوفي في ذي القعدة.
ثم دخلت
سنة ثمان وخمسين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أنه وصل محمد المولد إلى البصرة لقتال الزنج، فتزل
الأبلة واجتمع إليه خلق كثير، فبعث إليه صاحب الزنج بعض أصحابه لقتاله،
وأمره أن يبيته، ففعل وقاتله نهاراً، فولى المولد منهزماً، وغنم الزنج
عسكره، وأسر أربعة عشر رجلاً من الزنج، وأخذ قاضي الزنج فضرب أعناقهم
بباب العامة بسامراء.
وعقد المعتمد يوم الاثنين لعشر بقين من ربيع الأول لأخيه أبي أحمد على
ديار مضر وقنسرين والعواصم.
وجلس يوم الخميس مستهل ربيع الآخر فخلع عليه، وركب طاهر فشيعه، وظهر
بالأهواز، والعراق وباء، وانتشر ذلك إلى حدود فيد، وكان كل يوم يموت
ببغداد خمسمائة إلى ستمائة، وكانت هدات كثيرة بالبصرة تساقط منها أكثر
المدينة، ومات منها أكثر من عشرين ألف إنسان.
وضرب في
يوم الخميس لسبع بقين من رمضان رجل يعرف بأبي فقعس قامت عليه البينة
أنه يشتم السلف ألفاً وخمسين سوطاً فمات.
وقدم في هذه السنة بسعيد بن أحمد بن مسلم الباهلي، وكان متقدم
الباهليين، وكانوا قد طمعوا في البطائح بعد إخراج الزنج منها، وأظهروا
فيها الفساد، فقبض على متقدمهم هذا، ونفذ به إلى بغداد فأمر به المعتمد
على الله أب يضرب سبعمائة سوط، فضرب وصلب في ربيع الآخر من هذه السنة،
فانضم باقي رؤسائهم إلى صاحب الزنج.
وحج بالناس في هذه السنة فضل بن إسحاق بن الحسن.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن بديل بن قريش بن الحارث، أبو جعفر اليامي الكوفي سمع أبا بكر
بن عياش، وعبد الله بن إدريس، وحفص بن غياث، ومحمد بن فضيل، ووكيعاً،
وأبا معاوية، وغيرهم. وكان من أهل العلم والفضل، ولي القضاء بالكوفة
وكان يسمى راهب الكوفة وكان يقول حين قلد: خذلت على كبر سني. وتقلد
أيضاً قضاء همذان، وورد بغداد فحدث بها، روى عنه ابن صاعد وغيره، وتوفي
في هذه السنة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب أخبرنا
علي بن أبي علي، حدثنا أبي، حدثنا القاضي أبو الحسن محمد بن صالح
الهاشمي قال: حدثني القاضي أبو عمر - يعني محمد بن يوسف - وأبو عبد
الله المحاملي القاضي، وأبو الحسن علي بن العباس النوبختي قالوا: حدثنا
أبو القاسم عبيد الله بن سليمان قال: كنت أكتب لموسى بن بغا، وكنا
بالري، وكان قاضيها إذ ذاك أحمد بن بديل الكوفي، فاحتاج موسى أن يجمع
ضيعة هناك كان له فيها سهام ويعمرها، وكان فيها سهم ليتيم، فصرت إلى
أحمد بن بديل - أو قال: فاستحضرت أحمد بن بديل - وخاطبته في أن يبيع
علينا حصة اليتيم، ويأخذ الثمن فامتنع، وقال: ما باليتيم حاجة إلى
البيع، ولا آمن أن أبيع ما له وهو مستغن عنه فيحدث على المال حادثة،
فأكون قد ضيعته عليه. فقلت: أنا أعطيك في ثمن حصته ضعف قيمتها. فقال:
ما هذا بعذر لي في البيع، والصورة في المال إذا كثر مثلها إذا قل. قال:
فأدرته بكل لون وهو يمتنع، فأضجرني فقلت له: أيها القاضي ألا تفعل؟
فإنه موسى بن بغا! فقال لي: أعزك الله، إنه الله تبارك وتعالى!! قال:
فاستحييت من الله تعالى أن أعاوده بعد ذلك وفارقته. ودخلت على موسى بن
بغا فقال: ما عملت في الضيعة؟ فقصصت عليه الحديث فلما سمع إنه الله
تبارك وتعالى بكى وما زال يكررها ثم قال: لا تعرض لهذه الضيعة، وانظر
في أمر هذا الشيخ الصالح، فإن كانت له حاجة فاقضها.
قال: فأحضرته وقلت له: إن الأمير قد أعفاك من أمر الضيعة وذلك أني شرحت
له ما جرى بيننا وهو يعرض عليك قضاء حوائجك. قال: فدعا له وقال: هذا
الفعل أحفظ لنعمتك وما لي حاجة إلا إدرار رزقي، فقد تأخر منذ شهور وقد
أضر بي ذلك فأطلقت له جارية.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الحافظ، أخبرنا
محمد بن عيسى الهمذاني، حدثنا صالح بن أحمد الحافظ، حدثنا أبو إسحاق
إبراهيم بن عمروس قال: سمعت أحمد بن بديل الكوفي وكان قاضياً يقول: بعث
إلي المعتز رسولاً بعد رسول، فلبست كمتي ولبست نعلاً طاقاً، فأتينا به
فقال الحاجب: يا شيخ، نعليك! فلم ألتفت إليه ودخلت الباب الثاني فقال
الحاجب: نعليك! فلم ألتفت إليه فدخلت الباب الثالث، فقال الحاجب: يا
شيخ نعليك!فلم ألتفت إليه ثم قلت: أبالوادي المقدس أنا فأخلع نعلي؟
فدخلت بنعلي فرفع مجلسي وجلست على مصلاه، فقال: أتعبناك أبو جعفر؟
فقلت: أتعبتني وذعرتني فكيف بك إذا سئلت عني؟ فقال: ما أردنا إلا
الخير، أردنا أن نسمع العلم. قلت: وتسمع العلم أيضاً؟ ألا جئتني؟ فإن
العلم يؤتى ولا يأتي. قال: نعتب أبا جعفر فقلت له: خلبتني بحسن أدبك
أكتب ما شئت. قال: فأخذ الكتاب والدواة والقرطاس، فقلت: أتكتب حديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم في قرطاس بمداد؟ قال: فيم أكتب؟ قلت: في
ورق بحبر فجاءوا بورق وحبر فأخذ الكاتب يريد أن يكتب. فقلت: أكتب بخطك!
فأومى إلي أنه لا يحسن فأمليت عليه حديثين أسخن الله بهما عينيه. فسئل
أي حديثين؟ فقال: قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من
استرعى رعية فلم يحطها بالنصيحة حرم الله عليه الجنة " . والثاني: " ما
من أمير يأمر عشرة إلا يؤتى به مغلولاً " .
أحمد بن محمد بن سوادة أبو العباس، ويعرف بخشيش كوفي الأصل نزل بغداد،
وحدث بها: عن عبيدة بن حميد، وزيد بن الحباب، وغيرهما. روى عنه: وكيع
القاضي، وقاسم المطرز، وغيرهما.
وكان الدارقطني يقول: يعتبر بحديثه، ولا يحتج به.
قال الخطيب: ما رأيت أحاديثه إلا مستقيمة.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب أخبرنا أبو الحسين
محمد بن عبد الواحد، حدثنا عمر بن محمد بن سيف، حدثنا محمد بن العباس
اليزيدي قال: أنشدني عمي عبيد الله قال: أنشدني أحمد بن محمد بن سوادة
لنفسه:
كن بذكر الله مشتغلا ... لجميع الناس معتزلا
قدك منهم قد عرفتهم ... ليس ذو العلم كمن جهلا
لا ترد من مشرب كدرا ... أبدا علا ولا نهلا
ودع الدنيا لطالبها ... فكأن قد مات أو قتلا
توفي بن سوادة في هذه السنة.
إسماعيل بن أسد بن شاهين، أبو إسحاق. سمع يزيد بن هارون، وروح بن
عبادة، وخلقاً. روى عنه: إبراهيم الحربي، وابن أبي الدنيا، وأبو بكر بن
أبي داود وغيرهم. وكان ثقة فاضلاً، صدوقاً صالحاً، ورعاً، توفي في
جمادى الأولى من هذه السنة.
جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس بن
عبد المطلب ولي قضاء القضاة بسر من رأى في سنة أربعين ومائتين. وحدث
بها عن أبي عاصم النبيل وغيره. روى عنه: الباغندي في جماعة، وكان له
وقار، وسكينة، وبلاغة، وحفظ للحديث. ورقي إلى المستعين بالله عنه كلام
فصرفه عن قضاء القضاة، ونفاه إلى البصرة. وأما أصحاب الحديث فجرحوه.
وقال عبد الله بن عدي الحافظ: هو منكر الحديث عن الثقات كان متهماً
بوضع الحديث وقال الدارقطني: هو كذاب يضع الحديث. وتوفي في هذه السنة.
الحسين بن السكن بن أبي السكن القرشي. روى عنه ابن أبي الدنيا. وتوفي
في هذه السنة.
حميد بن الربيع بن حميد بن مالك أبو الحسن اللخمي الكوفي قدم بغداد
وحدث بها عن هشيم، وابن عيينة، وابن إدريس، وحفص بن غياث، وغيرهم. روى
عنه: الباغندي، والمحاملي، وابن مخلد.
قال البرقاني: كان الدار قطني يحسن القول فيه، وأنا أقول: ليس بحجة،
لأني رأيت عامة شيوخنا يقولون: هو ذاهب الحديث.
فقال ابن أبي حاتم: كان أحمد بن حنبل لا يقول فيه إلا خيراً، وكذلك
أبي، وأبو زرعة.
وقال عثمان بن أبي شيبة: أنا أعلم الناس به، هو ثقة ولكنه شره فدلس.
وتوفي في هذه السنة بسر من رأى.
حفص بن عمر بن ربال بن إبراهيم بن عجلان، أبو عمر الرقاشي، المعروف
بالربالي سمع يحيى بن سعيد القطان، وأبا عاصم الشيباني، وغيرهما. روى
عنه: إبراهيم الحربي، وابن صاعد، وهو صدوق توفي في هذه السنة.
حبيش بن مبشر بن أحمد الثقفي طوسي الأصل، سمع يونس بن محمد المؤدب،
ووهب بن جرير روى عنه: الباغندي، وابن مخلد وكان فاضلاً فقيهاً من
العقلاء المعدودين. توفي في رمضان هذه السنة.
روح بن عبد الرحمن بن فروخ أبو حاتم البوسنجي حدث عن سفيان بن عيينة.
روى عنه: محمد بن مخلد، وكان ثقة أميناً.
توفي في جمادى الأولى من هذه السنة.
روح بن الفرج أبو الحسن البزار، مولى محمد بن سابق حدث عن قبيصة، وأبي
عبد الرحمن المقرئ روى عنه: ابن أبي الدنيا، وابن صاعد، والمحاملي،
وابن مخلد. وكان ثقة. توفي في رجب هذه السنة.
عبد الله بن محمد بن سورة أبو محمد البلخي، يعرف بمت سكن بغداد، وحدث
بها عن جماعة روى عنه: ابن أبي الدنيا، وابن مخلد، وكان ثقة. توفي في
جمادى الآخرة من هذه السنة.
علي بن أحمد بن عبد الله أبو الحسن الجواربي الواسطي قدم بغداد، وحدث
بها عن يزيد بن هارون، روى عنه: الباغندي، والمحاملي. وكان ثقة، توفي
في هذه السنة.
عقيل بن يحيى أبو صالح الطهراني حدث عن سفيان بن عيينة، ويحيى القطان،
وكان ثقة. توفي في هذه السنة.
وطهران: قرية من قرى أصبهان، وثم من ينسب إلى طهران وهي قرية أخرى من
قرى الري. سنذكره إن شاء الله في سنة إحدى وسبعين.
الفضل بن
يعقوب بن إبراهيم أبو العباس الرخامي روى عنه: البخاري في صحيحه، وكان
من الثقات الحفاظ.
توفي في جمادى الأولى من هذه السنة.
محمد بن إبراهيم بن محمد بن الحسن بن قحطبة أبو عبد الله المؤدب،
ويعرف: بالقحطبي. سمع إسحاق بن إبراهيم الحنيني وغيره. قال عبد الرحمن
بن أبي حاتم: محمد بن إبراهيم القحطبي بغدادي كتب عنه مع أبي، وهو
صدوق.
أخبرنا القزاز، أخبرنا الخطيب قال: بلغني أن القحطبي مات في سنة ثمان
وخمسين ومائتين، وكان يلقب جهوش.
محمد بن إسماعيل بن البختري أبو عبد الله الواسطي، يعرف: بالحساني. سكن
بغداد، وحدث بها: عن وكيع، وأبي معاوية، ويزيد بن هارون، وغيرهم.
روى عنه الباغندي، وابن صاعد، ومحمد بن مخلد، وغيرهم.
قال الدارقطني كان ثقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرني
الأزهري، حدثنا محمد بن العباس، حدثنا الباغندي قال: كان محمد بن
إسماعيل الحساني خيراً مرضياً صدوقاً.
محمد بن جوان بن سعيد ويقال: محمد بن سعيد بن جوان، أبو علي. حدث عن
مؤمل بن إسماعيل، وأبي عاصم النبيل، وأبي داود الطيالسي، وغيرهم. روى
عنه: ابن صاعد وله مسند مصنف، وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة.
محمد بن الجارود بن دينار أبو جعفر القطان سمع أبا نعيم الفضل بن دكين.
روى عنه ابن صاعد، وكان ثقة توفي في هذه السنة.
محمد بن سنجر الجرجاني. رحل في طلب العلم، وسكن قرية من قرى مصر، وصنف
مسنداً. وقال: خرجت إلى الرحلة وأخرجت معي إسحاق الكوسج يورق لي،
وأخرجت معي تسعة آلاف دينار، وكان إسحاق يتزوج في كل بلد فأؤدي أنا عنه
المهر.
توفي محمد بن سنجر في ربيع الأول من هذه السنة.
محمد بن داود بن يزيد أبو جعفر القنطري سمع آدم بن أبي إياس العسقلاني،
وغيره. روى عنه: محمد بن مخلد، وذكر أنه لم يره يضحك ولا يبتسم تورعاً
وديانة. وقد تفرد بأحاديث لم تعرف إلا من طريقه.
وتوفي في رجب هذه السنة.
محمد بن عبد الملك بن زنجويه، أبو بكر. سمع عبد الرزاق، ويزيد بن
هارون، وخلقاً كثيراً. روى عنه: إبراهيم الحربي، وابن صاعد، والمحاملي،
وغيرهم، وهو ثقة.
وتوفي في جمادى الآخرة من هذه السنة، وقيل في سنة سبع، والأول أصح.
محمد بن هارون بن إبراهيم أبو جعفر، ويعرف: بأبي نشيط الربعي. سمع روح
بن عبادة، ونعيم بن حماد، وغيرهما. روى عنه: أبو بكر عن أبي الدنيا،
والبغوي، وابن صاعد وغيرهم. وهو صدوق ثقة.
توفي في شوال هذه السنة.
محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب، أبو عبد الله
النيسابوري الذهلي مولاهم. إمام أهل الحديث في زمنه سمع عبد الرحمن بن
مهدي، وعبيد الله بن موسى، وروح بن عبادة، وهاشم بن القاسم، والواقدي،
وعفان بن مسلم، وعبد الرزاق، وخلقاً كثيراً من أهل العراق، والحجاز،
والشام، ومصر، والجزيرة. ورحل إلى اليمن مرتين، وإلى البصرة ثماني عشرة
مرة، وكان أحد الأئمة العارفين، والحفاظ المتقنين، والثقات المأمونين،
وكان أحمد بن حنبل يثني عليه وينشر فضله، ودخل على أحمد فقام أحمد إليه
وقال لأصحابه: اكتبوا عنه.
وروى عنه: البخاري، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو داود، وغيرهم.
وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة وهو ابن ست وثمانين سنة.
وكانت جارية تقول: خدمته ثلاثين سنة فما رأيت ساقه، وأنا ملك له.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا هبة
الله بن الحسن الطبري، أخبرنا عبد الله بن محمد بن علي النيسابوري،
أخبرنا أبو حامد ابن الشرقي قال: سمعت أبا عمرو الخفاف يقول: رأيت محمد
بن يحيى في النوم فقلت: يا أبا عبد الله، ما فعل الله لك؟ فقال: غفر
لي. قلت: فما فعل علمك؟ قال: كتب بماء الذهب ورفع إلى عليين.
يحيى بن معاذ أبو زكريا الرازي الواعظ سمع إسحاق بن سليمان الرازي،
ومكي بن إبراهيم البلخي، وعلي بن محمد الطنافسي. روى عنه: أبو عثمان
الزاهد، وأبو العباس الماسرجسي، ويحيى بن زكرياء المقابري. دخل بلاد
خراسان، ثم انصرف إلى نيسابور، فسكنها إلى أن توفي بها.
أنبأنا
أبو بكر بن محمد بن عبد الباقي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن علي الجوزي
قال: سمعت عبد الجبار بن عبد العزيز المصري يقول: سمعت أبا علي الحسن
بن العباس الكرماني يقول: سمعت عبد الواحد بن محمد يقول: جاء إلى شيراز
يحيى بن معاذ الرازي وله شيبة حسنة وقد لبس دست ثياب أسود، فكان أحسن
شيء، فصعد الكرسي فاجتمع إليه الناس، وأول ما بدأ به أنشأ يقول:
مواعظ الواعظ لن تقبلا ... حتى يعيها تلبه أولا
يا قوم من أظلم من واعظ ... خالف ما قد قاله في الملا
أظهر بين الناس إحسانه ... وبارز الرحمان لما خلا
وسقط عن الكرسي، وغشي عليه ولم يتكلم في ذلك اليوم، ثم أنه ملك قلوب
أهل شيراز بعد ذلك، حتى إذا أراد أن يضحكهم أضحكهم، وإذا أراد أن
يبكيهم أبكاهم، وأخذ سبعة آلاف دينار من البلد.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا أبو حازم
عمر بن أحمد العبدي قال: سمعت منصور بن عبد الوهاب يقول: قال أبو عمرو
محمد بن أحمد الصرام: دخل يحيى بن معاذ الرازي على علوي ببلخ زائراً
له، فسلم عليه فقال العلوي ليحيى: أيد الله الأستاذ، ما تقول فينا أهل
البيت؟ فقال: ما أقول في طين عجن بماء الوحي وغرس بماء الرسالة فهل
يفوح منهما إلا مسك الهدى وعنبر التقى؟ قال: فحشا العلوي فاه بالدر ثم
زاره من الغد فقال له يحيى بن معاذ: إن زرتنا فبفضلك، وإن زرناك
فلفضلك، فلك الفضل زائراً ومزوراً.
أنبأنا زاهر بن طاهر، أنبأنا أبو بكر البيهقي، أخبرنا الحاكم أبو عبد
الله محمد بن عبد الله النيسابوري قال: سمعت علي بن بندار يقول: سمعت
محمد بن جعفر بن علكان يقول: من خان الله في السر هتك ستره في
العلانية.
توفي يحيى بن معاذ بنيسابور في جمادى الأولى من هذه السنة، وكتب على
قبره: مات حكيم الزمان يحيى بن معاذ.
يحيى بن عبد الله الجلاء. صحب بشر بن الحارث، وكان رجلاً صالحاً، قيل
لابنه أبي عبد الله: لم سمي أبوك الجلاء؟ فقال: ما جلا أبي قط شيئاً،
كان يتكلم على الناس فيجلو القلوب، فسمي الجلاء.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا أبو نعيم
الحافظ، حدثنا محمد بن الحسين النيسابوري قال: سمعت محمد بن عبد العزيز
الطبري يقول: سمعت أبا عمرو الدمشقي يقول: سمعت ابن الجلاء يقول: قلت
لأبي وأمي: أحب أن تهباني لله تعالى فقالا: قد وهبناك لله، فغبت عنهما
مدة فرجعت من غيبتي، وكانت ليلة مطيرة فدققت عليهما الباب، فقالا: من؟
فقلت: ولدكما. قالا: كان لنا ولد فوهبناه لله، ونحن من العرب لا نرجع
فيما وهبنا. وما فتحا لي الباب.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا عبد العزيز بن
علي الأزجي، حدثنا علي بن عبد الله الهمذاني، حدثنا محمد بن داود،
حدثنا أبو عبد الله أحمد بن يحيى الجلاء قال: مات أبي فلما وضع في
المغتسل رأيناه يضحك فالتبس على الناس أمره فجاءوا بطيب وغطوا وجهه
فأخذ مجسه فقال: هذا ميت، فكشفوا عن وجهه الثوب فرآه يضحك فقال الطبيب:
ما أدري حي هو أم ميت؟ وكان إذا جاء إنسان ليغسله لبسته منه هيبة لا
يقدر على غسله، حتى جاء رجل من إخوانه فغسله وكفن وصلي عليه ودفن.
محمد بن عمرو بن حماد بن عطاء ويقال: محمد بن عبد الله بن عمرو بن حماد
بن عبد الله مولى أبي بكر الصديق ويعرف بالجماز.
من أهل البصرة، كان شاعراً أديباً ماجناً، وكان يقول: أنا أكبر سناً من
أبي نواس. دخل بغداد في أيام الرشيد وفي أيام المتوكل.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أنبأنا أحمد بن علي الخطيب قال:
أنبأنا أحمد بن محمد الكاتب قال: حدثني جدي محمد بن عبيد الله بن الفضل
بن قفرجل قال: أنبأنا محمد بن يحيى الصولي قال: أنبأنا يموت بن المزرع
قال: جلس الجماز يأكل على مائدة بين يدي جعفر بن القاسم، وجعفر يأكل
على مائدة أخرى مع القوم، وكانت الصفحة ترفع من بين يدي جعفر وتوضع بين
يدي الجماز، ومن معه، فربما جاء قليل وربما لم يجئ شيء فقال الجماز:
أصلح الله الأمير، ما نحن اليوم إلا عصبة، وربما فضل لنا بعض المال،
وربما أخذ أهل السهام فلم يبق لنا شيء قال: أنبأنا يموت قال:
كان أبي
والجماز يمشيان وأنا خلفهما بالعشي، فمررنا بإمام وهو ينظر من يمر به
فيصلي معه، فلما رآنا أقام الصلاة مبادراً فقال له الجماز: دع عنك هذا
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يتلقى الجلب.
أخبرنا عبد الرحمن قال: أنبأنا أحمد بن علي الخطيب أنبأنا علي بن أيوب
القمي، أخبرنا محمد بن عمران المرزباني، أنبأنا الصولي، أنبأنا عون بن
محمد الكندي، أنبأنا عافية بن شبيب التيمي قال: كنا نكثر الحديث عن
الجماز عند المتوكل، فأحب أن يراه، وكنت فيمن حمله، فلما دخل عليه لم
يقع الموقع الذي أردناه فتعصبنا كلنا له، فقال له المتوكل: تكلم، فإني
أريد أن أستبرئك. فقال الجماز: بحيضة أو بحيضتين؟ فضحك الجماعة فقال له
الفتح: قد كلمت أمير المؤمنين فيك حتى ولاك جزيرة القرود، فقال له
الجماز: ألست في السمع والطاعة أصلحك الله؟ فحصر الفتح وسكت وأمر له
المتوكل بعشرة آلاف درهم فأخذها، فمات فرحاً بها.
ثم دخلت
سنة تسع وخمسين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أنه رجع الموفق من حرب الزنج متعللاً بالمرض، فبعث
المعتمد موسى بن بغا فشخص من سامراء نحو الزنج وذلك في ذي القعدة،
وشيعه المعتمد، وخلع عليه في الطريق، وقامت بينه وبينهم حروب يطول
ذكرها في بضعة عشر شهراً، ثم انصرف موسى عن الحرب، ووجه في هذه السنة
بجماعة من الزنج أسرى إلى سامراء، فوثبت بهم العامة فقتلوا أكثرهم،
ودخل الزنج الأهواز في هذه السنة فقتلوا زهاء خمسين ألفاً.
وحج بالناس في هذه الستة إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان
بن علي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن عمرو بن يونس أبو جعفر السوسي الكوفي روى عنه أبو علي محمد بن
الأشعث الكوفي أنه كان معه بعد انصرافه من الحج وهو يريد مصر، وأنه قال
له: انظر إلى الهلال يعني هلال المحرم. قال: فنظرت إليه فقال لي:
استوفيت مائة سنة. ثم نزل فقال: وضئني للصلاة، يعني المغرب فوضأته ودخل
فيها، فسجد سجدة وطال علي أمره فيها فوجدته ميتاً فدفناه هنالك.
إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن أبو يعقوب، المعروف بالبغوي ويلقب:
لؤلؤاً. سمع إسماعيل بن علية، ووكيع بن الجراح، وغيرهما. وكان صدوقاً
ثقة مأموناً وتوفي في شعبان هذه السنة.
بشر بن مطر بن ثابت أبو أحمد الدقاق الواسطي نزل سامراء وحدث بها: عن
سفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون، وإسحاق الأزرق. روى عنه: ابن صاعد.
قال أبو حاتم الرازي: هو صدوق.
قال ابن قانع: وتوفي في هذه السنة، وقال غيره: في سنة اثنتين وستين
ومائتين.
جعفر بن محمد بن جعفر الثقفي المدائني. سمع أباه، وعباد بن العوام،
وأبا بكر بن عياش، وهشيماً، وغيرهم. ونزل الموصل فحدث بها، وتوفي في
هذه السنة.
حجاج بن يوسف بن حجاج أبو محمد الثقفي، يعرف: بابن الشاعر وكان أبوه
شاعراً صحب أبا نواس وأخذ عنه، ويلقب يوسف لقوة، وكان منشؤه بالكوفة،
وأما حجاج فبغدادي المولد والمنشأ سمع يعقوب بن إبراهيم بن سعد، وأبا
أحمد الزبيري، وشبابة، وعبد الرزاق. روى عنه: أبو داود، ومسلم، وآخر من
روى عنه: الحسن بن إسماعيل المحاملي، وكان ثقة فهماً، حافظاً، صدوقاً.
قال أبو حاتم الرازي: هو صدوق، وقال النسائي: هو ثقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني
الأزهري، أخبرنا أبو سعد الإدريسي أخبرنا أحمد بن أحيد البخاري قال:
حدثنا صالح بن محمد الحافظ قال: سمعت حجاج بن الشاعر يقول: جمعت لي أمي
مائة رغيف فجعلتها في جراب، وانحدرت إلى شبابة بالمدائن، وأقمت ببابه
مائة يوم، كل يوم أجيء برغيف فأغمسه في دجلة فآكله، فلما نفد خرجت.
توفي حجاج في رجب هذه السنة.
عبد الله بن هاشم، بن حيان أبو عبد الرحمن الطوسي سمع سفيان بن عيينة،
ويحيى بن سعيد، وابن مهدي. روى عنه: مسلم في صحيحه، وابن صاعد، وكان
قديماً يتكلم بالرأي، ثم مال إلى الحديث وترك ذلك.
وتوفي في هذه السنة، وقيل: في التي قبلها.
محمد بن الحسن بن سعيد أبو جعفر الأصبهاني سكن بغداد، وحدث بها عن بكر
بن بكار وغيره، روى عنه ابن صاعد، وأبو الحسين بن المنادي، وغيرهما.
وكان ثقة.
محمد بن
الحسن بن نافع أبو عروبة الباهلي البصري قدم بغداد، وحدث بها عن سلم بن
سليمان الضبي وغيره. روى عنه: ابن مخلد، وإسماعيل الصفار أحاديث
مستقيمة.
محمد بن تميم بن واقد العنبري الأفريقي. يروى عن أنس بن عياض توفي
بقفصه في هذه السنة. قال أبو سعيد بن يونس: ويقال إن هذه المدينة لا
تمطر أصلاً وإنما تجيئها الميرة من غير أهلها وفي أهلها جفاء عظيم.
ثم دخلت
سنة ستين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن قائد الزنج قتل علي بن زيد العلوي صاحب الكوفة.
وفيها: اشتد الغلاء في عامة بلاد الإسلام فأجلي عن مكة من كان مجاوراً
بها من شدة الغلاء إلى المدينة وغيرها من البلدان، ورحل عنها العامل
الذي كان بها، وبلغ كر الحنطة ببغداد خمسين ومائة دينار ودام ذلك
شهوراً .
وفيها: أمر مفلح التركي أن تزداد في جامع المنصور الدار المسماة بدار
القطان، وكان قديماً ديواناً للمنصور فتقدم مفلح إلى صاحبه القطان
ببنائها، وجعلها في الجامع ليصلي فيها، فنسبت إلى القطان.
وحج بالناس في هذه السنة: إبراهيم بن محمد الذي حج بهم في التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن عيسى، أبو إسحاق. كان كاتب الحارث بن مسكين، وهارون بن عبد
الله، وعيسى بن المنكدر وكلهم ولي مصر، وروي عن ابن وهب، والشافعي.
وتوفي في هذه السنة.
أيوب بن إسحاق بن إبراهيم بن سافري، أبو سليمان. سمع من محمد بن عبد
الله الأنصاري وخلق كثير وكان صدوقاً، سكن الرملة، وحدث بها وبمصر.
وأخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، حدثنا
الصوري، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن حدثنا ابن مسرور، أخبرنا أبو سعيد
بن يونس قال: أيوب بن إسحاق بن سافري، قدم مصر وحدث بها، وكان إخبارياً
يقال إنه بغدادي، ويقال إنه مروزي سكن بغداد، وقدم إلى دمشق فأقام بها،
وقدم من دمشق إلى مصر وكان في خلقه زعارة وسأله أبو حميد في شيء يكتبه
عنه من الأخبار فمطله وكان شاعراً فكتب إليه.
الحمد لله لا نحصي له عددا ... ما زال إحسانه فينا له مدداً
إذ لم أخط حديثاً عنك أعلمه ... ولا كتبت لغيري مجتهدا
إلا أحاديث خوات وقصته ... عن البعير ولما قال: قد شردا
فسوف أخرجها إن شئت من كتبي ... ولا أعود لشيء بعدها أبدا
توفي بدمشق في ربيع الآخر من هذه السنة.
أيوب بن الوليد أبو سليمان الضرير حدث عن أبي معاويه الضرير، وإسحاق
الأزرق، وغيرهم. روى عنه: ابن صاعد، والمحاملي، وابن مخلد، وتوفي في
محرم هذه السنة.
الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر أبو محمد العسكري ولد سنة
إحدى وثلاثين ومائتين، وكان يسكن بسر من رأى وبها مات، وهو أحد من
تعتقد فيه الشيعة الإمامة.
وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة ودفن إلى جانب أبيه.
الحسن الفلاس أحد المتعبدين البغداديين، عاصر سرياً السقطي، وكان السري
يفخم أمره ويقول: يعجبني طريقته، وكان حسن لا يأكل إلا القمام.
أخبرنا محمد بن أبي منصور، أخبرنا عبد القادر بن محمد، أخبرنا إبراهيم
بن عمر البرمكي، أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن الزهري، قال: حدثني
أبي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن العباس بن الفضل قال: سمعت وهب بن
نعيم بن الهيصم يقول: جاء حسن الفلاس إلى بشر بن الحارث يزوره مرة
ومرتين وثلاثاً، يتردد إليه في مسألة ليكون الحجة فيما بينه وبين الله
تعالى، فتركه بشر وقام مرة ومرتين وثلاثاً، فلما كان بعد ذلك تبعه إلى
المقابر وقف بشر فقال له: يا حسن، أيود هؤلاء أن يردوا فيصلحوا ما
أفسدوا؟ ألا فاعلم يا حسن أنه من فرح قلبه بشيء من الدنيا أخطأ الحكمة
قلبه، ومن جعل شهوات الدنيا تحت قدميه فرق الشيطان من ظله، ومن غلب
هواه فهو الصابر الغالب، ألا فاعلم أن البلاء كله في هواك، والشفاء كله
في مخالفتك إياه، فإذا لقيته فقل له قال لي.
فرجع
الحسن فعاهد الله تعالى أن لا يأكل ما يباع، ولا ما يشترى، ولا يلبس ما
يباع ولا ما يشترى، ولا يمسك بيده ذهباً ولا فضة، ولا يضحك أبداً، وكان
يأوي ستة أشهر في العباسية، وستة أشهر حول دار البطيخ، ويلبس ما في
المزابل ولقيه رجل بالبذندون منصرفاً على هذه الصورة، فقال: يا حسن، من
ترك شيئاً لله عوضه الله ما هو خير منه فما عوضك؟ فقال الحسن: الرضا
بما ترى. فلما رجع من غزاته خرج به خراج فكانت فيه منيته، فلما اشتد به
أمره قال لمولاه: لا تسقيني ماء حتى أطلبه منك. فلما قرب منه الأمر طلب
منها الماء، فشرب وقال: لقد أعطاني ما يتنافس فيه المتنافسون.
الحسن بن محمد بن الصباح أبو علي الزعفراني من قرية يقال لها:
الزعفرانية. سمع سفيان بن عيينة، وإسماعيل بن علية ووكيعاً، ويزيد بن
هارون، وعفان بن مسلم. وروى صاعد، والمحاملي، وكان ثقة.
ودرب الزعفراني المسلوك فيه من باب الشعير إلى الكرخ إليه ينسب.
أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب قال: أخبرني علي بن أيوب القمي، أخبرنا
محمد بن عمران الكاتب قال: حدثني إبراهيم بن شهاب، حدثنا أحمد بن محمد
الشطوي، وعبد الله بن محمد بن علي بن شهاب قالا: سمعت أبا علي الحسن بن
محمد بن الصباح ينشد وقد اجتمع إليه الناس ليحدثهم:
لا والذي تسجد الجباه له ... مالي بما دون ثوبها خبر
ولا بفيها ولا هممت بها ... ما كان إلا الحديث والنظر
فقال له : ثكلتك أمك، وهل يغني إلا بالشعر الجيد؟ توفي الزعفراني
بالجانب الغربي في هذه السنة.
حنين بن إسحاق الطيب. بلغ غاية في علم الطب، وتوفي في هذه السنة.
حمزة بن العباس أبو علي المروزي قدم بغداد حاجاً، وحدث بها عن عبدان بن
عثمان، وعلي بن الحسن بن شقيق. روى عنه: أبو بكر بن أبي الدنيا، وابن
صاعد، وابن مخلد.
وتوفي في هذه السنة حاجاً.
رجاء بن الجارود أبو المنذر الزيات سمع الواقدي، وأبا عاصم النبيل،
والأصمعي، والقعنبي. وروى عنه: ابن صاعد، والمحاملي، وكان ثقة. توفي في
رجب هذه السنة.
عبيد الله بن سعد بن إبراهيم أبو الفضل الزهري سمع عمه يعقوب ، وروح بن
عبادة روي عنه: البخاري في الصحيح والباغندي، والبغوي، وابن صاعد ،
وكان ثقة.
توفي في ذي الحجة من هذه السنة.
عبد الرحمن بن بشر بن الحكم أبو محمد العبدي النيسابوري سمع سفيان بن
عيينة، ويحي بن سعيد، وابن مهدي، روي عنه البخاري، ومسلم في صحيحهما.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب قال: سمعت
محمد بن صالح بن هانئ يقول: حملني بشر بن الحكم على عاتقه في مجلس
سفيان بن عيينة يقول: يا معشر أصحاب الحديث، أنا بشر بن الحكم
النيسابوري، سمع أبي الحكم بن حبيب من سفيان بن عيينة، وقد سمعت أنا
منه، وحدثت أنا عنه بخراسان، وهذا ابني عبد الرحمن قد سمع منه.
توفي عبد الرحمن في هذه السنة.
محمد بن أحمد بن سفيان أبو عبد الله البزاز الترمذي سكن بغداد، وحدث
بها عن عبد الله بن عمر القواريري، وغيره. وكان ثقة.
محمد بن بيان بن مسلم أبو العباس الثقفي حدث عن الحسن بن عرفة، عن ابن
مهدي، عن مالك، عن الزهري عن أنس بحديث لا أصل له، فليست العلة إلا من
جهته، وقد أغنى أهل العلم أن ينظروا في حاله.
محمد بن مسلم بن عبد الرحمن أبو بكر القنطري الزاهد كان ينزل قنطرة
البردان، وكان يشبه في الزهد ببشر الحافي، وكان يكتب جامع سفيان لقوم
لا يشك في صلاحهم ويتقوت بالأجرة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب
حدثنا عبد العزيز بن أبي الحسن القرميسيني قال: سمعت علي بن عبد الله
الهمداني يقول: سمعت مظفر بن سهل المقرئ يقول: قال أبو بكر أحمد بن
محمد المروذي: دخلت على أبي بكر بن مسلم صاحب قنطرة البردان يوم عيد
فوجدته وعليه قميص مرقوع نظيف مطبق وقدامه قليل خرنوب يقرضه فقلت: يا
أبا بكر ، اليوم عيد الفطر وتأكل خرنوباً فقال لي: لا تنظر إلى هذا
ولكن انظر إن سألتني من أين هو إيش أقول.
توفي أبو بكر بن مسلم يوم الثلاثاء لخمس بقين من ذي الحجة من هذه
السنة.
ثم دخلت
سنة إحدى وستين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن المعتمد جلس في دار العامة لاثنتي عشرة ليلة مضت
من شوال فولى جعفر ابنه العهد وسماه المفوض إلى الله تعالى وولاه
المغرب وضم إليه موسى بن بغا وولاه إفريقية، ومصر والشام، والجزائر،
والموصل، وأرمينية، وطريق خراسان، ومهرجان قذق، وحلوان. وولى أبا أحمد
أخاه العهد بعد جعفر، وولاه المشرق. وضم إليه مسرور البلخي، وولاه
بغداد، والسواد، والكوفة، وطريق مكة والمدينة، واليمن، وكسكر، وكور
دجلة، والأهواز، وفارس، وأصبهان، وقم، والكرخ، والدينور، والري،
وزنجان، وقزوين، وخراسان ،وجرجان، وطبرستان، وكرمان، وسجستان، والسند.
وعقد لكل واحد منهما لوائين اسود وأبيض، وشرط إن حدث به حدث الموت
وجعفر لم يكمل للأمر أن يكون لأبي أحمد، ثم لجعفر، وأخذت البيعة على
الناس بذلك، وفرقت نسخ الكتاب بذلك وبعثت نسخة مع الحسن بن محمد بن أبي
الشوارب ليعلقها في الكعبة فعقد جعفر المفوض لموسى بن بغا على المغرب
في شوال، وسار مسرور البلخي مقدمه لأبي أحمد من سامر السبع بقين من ذي
الحجة.
وحج بالناس في هذه السنة الذي حج بهم في التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
الحسن بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب القرشي ولي القضاء بسر من
رأى، وولاه قاضي القضاة جعفر بن عبد الواحد بن سليمان بن علي فولي في
أيام المتوكل وبعده، وكان فقيهاً سخياً ذا مروءة وكرم عظيم ولم تزل في
بيته إمارة ورياسة منهم: عتاب بن أسيد ولاه رسول الله صلى الله عليه
وسلم مكة، وخالد بن أسيد وهو جد آل ابن أبي الشوارب.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: أخبرني الأزهري ،أخبرنا
أحمد بن إبراهيم، حدثنا ابن عرفة قال: أخبرني من حضر محمد بن عبد الملك
بن أبي الشوارب وقد ورد عليه كتاب ابنه الحسن بولاية القضاء، فكتب
إليه: وصل إلي كتابك بتوليك القضاء وحاشى لوجهك الحسن يا حسن من النار.
أخبرنا القزاز ، أخبرنا أحمد بن علي ، أخبرنا محمد بن عبد الواحد،
حدثنا محمد بن العباس قال: قرئ على ابن المنادي وأنا أسمع ، قال: دخل
إلى مدينة السلام الحسن بن أبي الشوارب قاضي القضاة للمعتمد فتوفي
بمدينة السلام لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة إحدى وستين، وصلى عليه
يوسف بن يعقوب وذكر ابن جرير الطبري أنه توفي بمكة.
الحسين بن بحر بن يزيد أبو عبد الله البيروذي من نواحي الأهواز،قدم
بغداد، وحدث عن حجاج بن نصير، وجبارة بن مغلس، وغيرهما. روى عنه: ابن
صاعد، وابن أبي داود، وابن مخلد، وكان ثقة، وخرج إلى الغزو فأدركه أجله
بملطية، وتوفي في رمضان هذه السنة.
الحسين بن نصر بن المعارك، أبو علي. سكن مصر، وحدث بها عن أبي نعيم
الفضل بن دكين ونعيم بن حماد، وكان ثقة ثبتاً وتوفي بمصر في شعبان هذه
السنة.
سليمان بن توبة بن زياد أبو داود النهرواني سمع يزيد بن هارون، وروح بن
عبادة، وشبابة روي عنه: ابن مخلد. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: كتبت
عنه وكان صدوقاً. وقال الدار قطني: ثقة.
توفي بمصر في صفر هذه السنة.
سليمان بن خلاد أبو خلاد المؤدب سكن سر من رأى، وحدث بها عن يزيد بن
هارون، وشبابة. روى عنه: ابن أبي داود، وابن مخلد. وقال ابن أبي حاتم:
كتبت عنه مع أبي، وهو صدوق.
وتوفي بسر من رأى بهذه السنة.
شعيب بن أيوب بن زريق بن معبد بن شيطا أبو بكر الصريفيني من أهل واسط.
سمع يحيى بن آدهم، وأبا داود الجفري. روى عنه: ابن صاعد، وابن مخلد،
والمحاملي، ولي قضاء جنديسابور. قال الدارقطني: هو ثقة.
توفي في هذه السنة.
طيفور بن عيسى بن سروشان أبو يزيد البسطامي وكان سروشان مجوسياً فأسلم،
وكان لعيسى ثلاثة أولاد: آدم هو أكبرهم، وأبو يزيد أوسطهم، وعلي
أصغرهم، وكانوا كلهم عباداً زهاداً.
أخبرنا أبو بكر العامري، أخبرنا علي بن أبي صادق، أخبرنا ابن باكويه
قال: سمعت أحمد بن الحسن القومسي قال: سمعت محمد بن عبد الله قال: سمعت
العباس بن حمزة يقول: صليت خلف أبي يزيد البسطامي الظهر فلما أراد أن
يرفع يديه ليكبر لم يقدر إجلالاً لاسم الله تعالى وارتعدت فرائصه، حتى
كنت أسمع تقعقع عظامه، فهالني ذلك.
أخبرنا
ابن ناصر، أخبرنا أبو الفضل محمد بن علي السهلكي قال: حدثني أبو الحسن
علي بن محمد القوهي، حدثنا عيسى بن محمد، عن أبيه محمد بن عيسى، حدثنا
موسى بن عيسى قال: حدثني أبو عيسى بن آدم ابن أخي أبي يزيد قال: كان
أبو يزيد يزجر نفسه فيصيح عليها ويقول: يا مأوى كل سوء، المرأة إذا
حاضت طهرت في ثلاثة أيام وأكثره لعشرة، وأنت يا نفس قاعدة منذ عشرين
وثلاثين سنة بعد ما طهرت، فمتى تطهرين؟ إن وقوفك بين يدي الله عز وجل
طاهر فينبغي أن تكوني طاهرة.
توفي أبو يزيد في هذه السنة، وله ثلاث وسبعون سنة.
عبد الله بن الهيثم بن عثمان أبو محمد العبدي من أهل البصرة، قدم
بغداد، وحدث بها عن أبي عامر العقدي، وأبي داود الطيالسي - روى عنه:
البغوي، والمحاملي. وكان ثقة. توفي بالشام في هذه السنة.
عبد الرحمن المتطبب. كان أحمد بن حنبل يثني عليه، وكان يدخل عليه وعلى
بشر.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب
قال: أخبرني أبو الفضل عبد الصمد بن محمد بن الخطيب، حدثنا الحسن بن
الحسين الفقيه الهمذاني قال: حدثني أبو محمد الحسن بن عثمان بن عبدويه،
حدثنا أبي قال: سمعت عبد الرحمن الطبيب - هو طبيب أحمد بن حنبل وبشر
الحافي - قال: اعتلا جميعاً في مكان واحد. فكنت أدخل إلى بشر فأقول له:
كيف تجدك يا أبا نصر؟ قال: فيحمد الله تعالى، ثم خبرني فيقول: أحمد
الله إليك، أجد كذا وكذا. وأدخل على أبي عبد الله فأقول: كيف تجدك يا
أبا عبد الله؟ فيقول: بخير. فقلت له يوماً: إن أخاك بشراً عليل وأسأله
بحاله فيخبرني، فيبدأ بحمد الله تعالى ثم يخبرني. فقال لي: سله عمن أخذ
هذا؟ فقلت له: إني أهابه أن أسأله فقال: قل له: قال لك أخوك أبو عبد
الله: عمن أخذت هذا؟ قال: فدخلت عليه فعرفته ما قال. فقال لي: أبو عبد
الله لا يريد الشيء إلا بالإسناد: أزهر عن ابن عون، عن ابن سيرين: إذا
حمد الله تعالى العبد قبل الشكوى لم تكن شكوى، إنما أقول لك أجد كذا
أعرف قدرة الله تعالى في.
قال: فخرجت من عنده فمضيت إلى أبي عبد الله فعرفته. ما قال. فكنت بعد
ذلك إذا دخلت عليه يقول: أحمد الله إليك، ثم يذكر ما يجد.
عثمان بن معبد بن نوح المقري. سمع أبا نعيم الفضل بن دكين. روى عنه:
ابن أبي الدنيا، وابن صاعد، وكان ثقة.
وتوفي بالجانب الغربي من بغداد في صفر هذه السنة.
علي بن الحسين بن إبراهيم بن الحر، ويعرف: بابن إشكاب. سمع إسماعيل بن
علية، وأبا معاوية. روى عنه: أبو داود، وابن صاعد، وكان ثقة صدوقاً.
توفي في شوال هذه السنة.
قطن بن إبراهيم أبو سعيد القشيري النيسابوري ولد سنة ثمانين ومائة،
وسمع من عبدان، وقبيصة، وغيرهما. روى عنه: أبو زرعة، وأبو حاتم
الرازيان، وغيرهما. وكان مسلم بن الحجاج قد كتب عنه فازدحم الناس عليه
حتى حدث بحديث إبراهيم بن طهمان: عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما أهاب دبغ فقد طهر " . فطالبوه
بالأصل فأخرجه، وقد كتبه على الحاشية فتركه مسلم.
وكان قد سأل محمد بن عقيل عن هذا الحديث فقال ابن عقيل: حدثنا حفص، عن
ابن طهمان، فخرج هو إلى الناس فقال: حدثنا حفص فاتضع لهذا.
وتوفي قطن في هذه السنة.
محمد بن الحسين بن إبراهيم بن الحر أبو جعفر العامري، ويعرف بابن إشكاب
ولد في سنة إحدى وثمانين ومائة، وسمع أبا النضر وغيره، وأخرج عنه
البخاري في صحيحه، وكان حافظاً صدوقاً ثقة من أهل العلم والأمانة.
وتوفي في محرم هذه السنة وله ثمانون سنة.
محمد بن خلف، أبو بكر المقري ويعرف بالحدادي سمع حسيناً الجعفي وغيره -
روى عنه: البخاري في صحيحه. قال الدارقطني: كان فاضلاً ثقة. توفي في
ربيع الأول هذه السنة.
محمد بن علي بن محرز أبو عبد الله البغدادي كان محدثاً ثقة فهماً وفي
أخلاقه زعارة، حدث بالكثير.
وتوفي بمصر في ربيع الآخر من هذه السنة.
محمد السمين. كان أستاذ الجنيد وله منازلات في التوكل والشوق.
أخبرنا عمر بن ظفر، أخبرنا جعفر بن أحمد، أخبرنا عبد العزيز بن علي
الأزحي، أخبرنا علي بن عبد الله بن جهضم، حدثنا الخالدي قال: قال
الجنيد:
قال لي
محمد بن السمين: كنت في وقت من الأوقات أعمل على الشوق، وكنت أجد من
ذلك شيئاً أنا به مستقبل، فخرجت إلى الغزو وهذه الحالة حالتي، وغزا
الناس وغزوت معهم، وكثر العدو على المسلمين وتقاربوا والتقوا، ولزم
المسلمين من ذلك خوف لكثرة الروم.
قال محمد: فرأيت نفسي في ذلك الموطن وقد لحقها روع فاشتد ذلك علي،
فجعلت أوبخ نفسي وألومها وأؤنبها وأقول لها: يا كذابة، قد عين الشوق
فلما جاء الموطن الذي يؤمل في مثله الخروج اضطربت وتغيرت. فأنا أوبخها
إذ وقع علي أن أنزل إلى النهر فأغتسل، فخلعت ثيابي واتزرت، ودخلت النهر
واغتسلت، وخرجت وقد اشتدت لي عزيمة لا أدري ما هي، فخرجت بقوة تلك
العزيمة، ولبست ثيابي، وأخذت سلاحي، ودنوت من الصفوف، وحملت بقوة تلك
العزيمة حملة، وأنا لا أدري كيف أنا، فمزقت صفوف المسلمين، وصفوف الروم
حتى صرت من ورائهم، ثم كبرت تكبيرة، فسمع الروم تكبيراً وظنوا أن
كميناً قد خرج عليهم من ورائهم، فولوا، وحمل عليهم المسلمون فقتل من
الروم بسبب تكبيرتي تلك نحو أربعة آلاف، وجعل الله عز وجل ذلك سبب
النصر والفتح.
محمد بن حماد أبو عبد الله الطهراني رحل في طلب الحديث، فسمع من عبد
الرزاق، وغيره. وكان له فهم وهو منسوب إلى طهران قرية أخرى من قرى
الري،وثم من ينسب إلى طهران، وهي قرية أخرى من قرى خراسان إلا أن طهران
الري أشهر من تلك.
توفي ابن حماد بعسقلان في ربيع الأول من هذه السنة.
مسلم بن الحجاج بن مسلم أبو الحسين القشيري النيسابوري سمع بنيسابور:
يحيى بن يحيى، وقتيبة بن سعيد، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم، وبالري: محمد
بن مهران، وغيره، وببغداد: أحمد بن حنبل، وغيره. وبالبصرة: القعنبي،
وغيره. وبالكوفة عمر بن حفص بن غياث، وغيره.
وبالمدينة: إسماعيل بن أبي أويس، وغيره، وبمكة: سعيد بن منصور، وغيره.
وبمصر: حرملة بن يحيى، وغيره.
وكان تام القامة، أبيض الرأس واللحية، وكان من كبار العلماء وأوعية
العلم، وله مصنفات كثيرة منها: " المسند الكبير على الرجال " وما نظن
أنه سمعه منه أحد، و " كتاب الجامع الكبير على الأبواب " ، و " كتاب
الأسامي والكنى " ، و " كتاب المسند الصحيح " ، وقال: صنفته من ثلثمائة
ألف حديث مسموعة، و " كتاب التمييز " ، و " كتاب العلل " ، و " كتاب
الوحدان " ، و " كتاب الأقران " ، و " كتاب سؤالات أحمد بن حنبل " ، و
" كتاب الانتفاع بأهب السباع " ، و " كتاب عمرو بن شعيب بذكر من لم
يحتج بحديثه وما أخطأ فيه " . و " كتاب مشايخ مالك بن أنس " ، و " كتاب
مشايخ الثوري " ، و " كتاب مشايخ شعبة " ، و " كتاب ذكر من ليس له إلا
راوٍ واحد من رواة الحديث " ، و " كتاب المخضرمين " ، و " كتاب أولاد
الصحابة فمن بعدهم من المحدثين " ، و " كتاب ذكر أوهام المحدثين " ، و
" كتاب تفضيل السنن " ، و " كتاب طبقات التابعين " ، و " كتاب أفراد
الشاميين من الحديث " و " كتاب المعرفة " .
قدم بغداد مراراً فآخر قدومه كان في سنة تسع وخمسين ومائتين سمع منه:
يحيى بن صاعد، ومحمد بن مخلد.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا
محمد ابن علي المقرئ، حدثنا محمد بن عبد الله النيسابوري قال: سمعت أبا
عبد الله محمد بن أبي يعقوب يقول: سمعت أحمد بن سلمة يقول: عقد لمسلم
مجلس للمذاكرة، فذكر له حديث لم يعرفه فانصرف إلى منزله، وأوقد السراج،
وقال لمن في الدار: لا يدخلن أحد منكم إلى هذا البيت! فقيل له: أهديت
لنا سلة فيها تمر فقال: قدموها إلي فقدموها إليه فكان يطلب الحديث
ويأكل تمرة تمرة، فأصبح وقد فني التمر ووجد الحديث.
قال محمد بن عبد الله: أخبرني الثقة من أصحابنا أنه مات منها. توفي
مسلم في رجب هذه السنة.
ثم دخلت
سنة اثنتين وستين ومائتين
فمن الحوادث فيها:
خرج
المعتمد إلى حرب يعقوب بن الليث الصفار، وكان يعقوب قد عصى وتجبر،
فعسكر المعتمد يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة، واستخلف على
سامراء ابنه جعفراً، ثم سار وقدم أخاه أبا أحمد لحربه فجعل أبو أحمد
على ميمنته موسى بن بغا، وعلى ميسرته مسروراً، والتقى العسكران يوم
الأحد العاشر من رجب مع الظهر، فشدت ميسرة يعقوب على ميمنة أبي أحمد
فهزمتها وقتلت منها جماعة وقتل من أصحاب يعقوب جماعة وكره أصحابه
القتال إذ رأوا السلطان قد حضر لقتاله فحملوا على يعقوب، فانهزم أصحابه
أقبح هزيمة. وقرئ على الناس كتاب فيه " ولم يزل المارق المسمى يعقوب بن
الليث الصفار ينتحل الطاعة حتى أحدث الأحداث المنكرة من مصيره إلى فارس
مرة بعد مرة واستيلائه على أموالها وإقباله إلى باب أمير المؤمنين مظهر
المسألة أمور أجابه أمير المؤمنين فيها إلى ما لم يكن ليستحقه
استصلاحاً له فولاه خراسان، والري، وفارس، وقزوين، وزنجان، والشرطة
ببغداد، وأمر أن يكنى في كتابه، وأقطعه الضياع النفيسة، فما زاده ذلك
إلى طغياناً وبغياً، وأمره بالرجوع فأبى، فنهض أمير المؤمنين لدفع
الصفار، ثم غلب يعقوب بن الليث على فارس ثم رجع المعتمد إلى معسكره
وعاد إلى المدائن.
وفي هذه السنة: ولي القضاء علي بن محمد بن أبي الشوارب، وولي إسماعيل
بن إسحاق قضاء الجانب الشرقي من بغداد، وجمع له الجانبان.
ومن الحوادث في هذه السنة: ما أنبأنا به أبو بكر بن محمد بن أبي طاهر
البزار، عن أبي الحسين بن المهتدي قال: رأيت بخط ابن الفرات: حدثنا
القاضي أبو الحسن الجراحي قال: حدثني عبد الخالق بن الحسن قال: سمعت
أبا عون الفرائضي يقول: خرجت إلى مجلس أحمد بن منصور الزيادي سنة
اثنتين وستين ومائتين، فلما صرت بطاق الحراني رأيت رجلاً قد أمر بالقبض
على امرأة وأمر بجرها، فقالت له: اتق الله. فأمر أن تجر، فلم تزل
تناشده الله وهو يأمر بجرها إلى أن بلغت باب القنطرة، فلما يئست من
نفسها رفعت رأسها إلى السماء ثم قالت: " قل اللهم فاطر السموات والأرض
عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون " إن
كان هذا الرجل يظلمني فخذه. قال أبو عون: فوقع الرجل على ظهره ميتاً
وأنا أراه، فحمل على جنازة، وانصرفت المرأة.
وحج بالناس في هذه السنة الذي حج بهم قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن الحسن بن القاسم أبو الحسن الكوفي، يعرف برسول نفسه حدث عن ابن
عيينة، وغيره. قال الدار قطني: هو متروك الحديث. قال ابن حبان: يضع
الحديث على الثقات. توفي بمصر في هذه السنة.
إسحاق بن إبراهيم بن محمد أبو يعقوب الصفار روى عن عبد الوهاب بن عطاء
والواقدي. روى عنه: ابن صاعد، والمحاملي، والباغندي، وغيرهما. وآخر من
روى عنه ابن مخلد، وكان ثبتاً ثقة متقناً حافظاً. توفي في هذه السنة.
حاتم بن الليث وبعض الرواة يقول: ابن أبي الليث بن الحارث بن عبد
الرحمن، أبو الفضل الجوهري.
روى إسماعيل بن أبي أويس، وغيره، روى عنه: الباغندي، وغيره، وآخر من
روى عنه: ابن مخلد، وكان ثقة ثبتاً متقناً حافظاً. توفي في هذه السنة.
حمدون بن عمارة أبو جعفر البزار سمع من جماعة، وروى عنه: ابن صاعد،
وابن مخلد، وكان ثقة، واسمه: محمد، ولقبه حمدون وهو الغالب عليه، وتوفي
في جمادى الأولى من هذه السنة.
خلف بن ربيعة بن الوليد أبو سليمان الحضرمي روي عن أبيه ، وابن وهب
وكان عالماً بأخبار مصر. توفي في هذه السنة.
خالد بن يزيد، أبو الهيثم التميمي.
خراساني الأصل، كان أحد كتاب الجيش ببغداد، وله شعر مدون، وعاش دهراً
طويلاً واختلط في آخر عمره، فقيل: إن السواد غلبت عليه، وقيل: بل كان
يهوى جارية لبعض الملوك، ولم يقدر عليها، فسمع يوماً منشداً ينشد:
من كان ذا شجن بالشام يطلبه ... ففي سوى الشام أمسى الأهل والشجن
فبكى حتى سقط على وجهه، ثم أفاق مختلطاً، واتصل ذلك به حتى وسوس، وكان
قبل ذلك ينادم علي بن هشام، وسبب ذلك أنه أنشده يوماً:
يا تارك الجسم بلا قلب ... إن كنت أهواك فما ذنبي
يا مفرداً بالحسن أفردتني ... منك بطول الهجر والعتب
إن تك
عيني أبصرت فتنة ... فهل على قلبي من ذنب
حسيبك الله لما بي كما ... ألقى في فعلك بي حسبي
فجعله في ندمائه إلى أن قتل. ثم صحب الفضل بن مروان، فذكره للمعتصم وهو
بالماحوزة قبل أن تبنى سر من رأى، فأمر بإحضاره واستنشده فأعجب به.
ولما بنيت سمرا قال خالد:
عزم السرور على المقا ... م بسر من رأى للإمام
بلد المسرة والفتو ... ح المستنيرات العظام
وتراه أشبه منزل ... في الأرض بالبلد الحرام
فالله يعمره بمن ... أضحى به عز الأنام
فاستحسنها الفضل، وأوصلها إلى المعتصم قبل أن يقال في سر من رأى شيء
فأمر لخالد بخمسة آلاف درهم. ودخل على إبراهيم بن المهدي فأنشده:
عاتبت قلبي في هوا ... ك فلم أجده يقبل
فأطعت داعيه إلي ... ك ولم أطع من يعذل
لا والذي جعل الوجو ... ه لحسن وجهك تمثل
لا قلت إن الصبر عن ... ك من التصابي أجمل
فأعطاه ثلاثمائة وخمسين ديناراً.
قال خالد: وقال لي علي بن الجهم هب لي بيتك:
ليت ما أصبح من رق ... ة خديك بقلبك
فقلت: يا جاهل، هل رأيت أحداً يهب ولده.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي أنبأنا علي بن طلحة
المقرئ، أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران، حدثنا صالح بن محمد، حدثنا
القعنبي قال: مر خالد الكاتب يوماً بصبيان فجعلوا يرجمونه ويقولون: يا
خالد، يا بارد. فقال: ويلكم أنا بارد وأنا الذي أقول:
سيدي أنت لم أقل سيدي أن ... ت لخلق سواك والصب عبد
خذ فؤادي فقد أتاك بود ... وهو بكر ما افتضه قط وجد
كبد رطبة يفتتها الوج ... د وخد فيه من الدمع خد
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا القاضي أبو حامد الكلواذاني
فيما أذن أن نرويه عنه قال: أخبرنا أبو عمر الزاهد، أخبرنا ثعلب قال:
ما أحد من الشعراء تكلم في الليل إلا قارب إلا خالد الكاتب، فإنه أبدع
في قوله: وليل المحب بلا آخر فإنه لم يجعل لليل آخر.
وأنشدنا:
رقدت ولم ترث للساهر ... وليل المحب بلا آخر
ولم تدر بعد ذهاب الرقا ... د ما فعل الدمع بالناظر
أيا من تعبدني طرفه ... أجرني من طرفك الجائر
وخذ للفؤاد فداك الفؤا ... د من طرفك الفاتن الفاتر
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا احمد بن علين أخبرنا القاضي احمد بن
محمد الدلوي، أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب قال: سمعت عبد
الرحمن بن مظفر الأنباري يقول: سمعت أبا القاسم بن أبي حسنة يقول: سمعت
خالد بن يزيد الكاتب يقول: بينا أنا مار بباب الطاق إذا براكب خلفي على
بغلة، فلما لحقني نخسني بسوطه وقال لي: أنت القائل ليل المحب بلا آخر
قال: نعم. قال: لله أبوك وصف امرؤ القيس الليل الطويل في ثلاثة أبيات،
ووصفه النابغة في ثلاثة أبيات، ووصفه بشار بن برد في ثلاثة أبيات،
وبرزت عليهم بشطر كلمة لله أبوك. قلت: بم وصفه امرؤ القيس :فقال:
بقوله:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
قلت: وبما وصفه النابغة؟ فقال: بقوله:
كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تقاعس حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذي يهدي النجوم بآئب
وصدر أراح الليل عازب همه ... تضاعف فيه الهم من كل جانب
قلت: وبما وصفه بشار؟ فقال: بقوله:
خليلي ما بال الدجى لا تزحزح ... وما بال ضوء الصبح لا يتوضح
أظن الدجى طالت وما طالت الدجى ... ولكن أطال الليل سقم مبرح
أضل النهار المستنير طريقه ... أم الدهر ليل كله ليس يبرح
قلت له: يا مولاي، هل لك في شعر قلته لم أسبق إليه؟
كلما اشتد
خضوعي ... بجوى بين ضلوعي
ركضت في حلبتي خد ... ي خيل من دموعي
قال: فثنى رجله عن بغلته وقال: هاكها فاركبها، فأنت أحق بها مني. فلما
مضى سألت عنه فقالوا: هو حبيب بن أوس الطائي.
وفي حديث آخر: إنه قيل له: من أين تأخذ قولك وليل المحب بلا آخر فقال:
وقفت على باب وعليه سائل مكفوف يقول: الليل والنهار علي سواء. فأخذت
هذا منه.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا علي بن أبي علي، حدثنا الحسين بن محمد
بن سليمان الكاتب قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن
السقا قال: حدثني جحظة قال: قال لي خالد الكاتب : أضفت حتى عدمت القوت
أياماً، فلما كان في بعض الأيام بين المغرب وعشاء الآخرة إذا بأبي يدق
فقلت: من ذا؟ فقال: من إذا خرجت إليه عرفته. فخرجت فرأيت رجلاً راكباً
على حمار، عليه طيلسان أسود، وعلى رأسه قلنسوة طويلة، ومعه خادم ، فقال
لي: أنت الذي تقول:
أقول للسقم عد إلى بدني ... حباً لشيء يكون من سببك
قال: قلت: نعم، قال: أحب أن تنزل عنه. فقلت: وهل ينزل الرجل عن ولده؟
فتبسم وقال: يا غلام، أعطه ما معك. فرمى إلي صرة في ديباجة سوداء
مختومة، فقلت: إني لا أقبل عطاء من لاأعرفهن فمن أنت؟ قال: أنا إبراهيم
بن المهدي.
أخبرنا القزاز أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا بن أيوب القمي، أخبرنا محمد
بن عمران المرزباني قال: أخبرني محمد بن يحي قال: حدثني الحسين بن
إسحاق قال: حدثني أبو الهيثم خالد بن يزيد الكاتب قال: لما بويع
إبراهيم بن المهدي بالخلافة طلبني، وقد كان يعرفني، وكنت متصلا ًببعض
أسبابه، فأدخلت إليه فقال لي: يا خالد، أنشدني من شعرك. فقلت: يا أمير
المؤمنين، ليس شعري من الشعر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إن من الشعر حكماً. وإنما أمزح وأهزل، وليس ما ينشد أمير
المؤمنين. فقال: لا أدع هذا يا خالد، فإن جد الأدب وهزله جد، أنشدني.
فأنشدته.
عش فحبيك سريعاً قاتلي ... والضنى إن لم تصلني واصلي
ظفر الشوق بقلب كمد ... فيك والسقم بجسم ناحل
فهما بين اكتئاب وضنى ... تركاني كالقضيب الذابل
وبكى العاذل لي من رحمة ... وبكائي لبكاء العاذل
سعدان بن يزيد أبو محمد البزاز حدث عن إسماعيل ابن علية، ويزيد به
هارون، وغيرهما، وكان صدوقاً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، أخبرنا
الحسين بن أبي طالب، حدثنا علي بن الحسن الجراحي قال: حدثني أبو محمد
عبد الله بن محمد بن هارون قال: قال لي محمد بن نصر الصائغ: نظر إلي
سعدان بن يزيد البزاز فقال لي: يا محمد بن نصر، أحدثك بشيء لا تحدث عني
به حتى الموت. فقلت: نعم. فقال لي: كنت في بعض أسفاري، فنزلت في بعض
الخانات، وكانت ليلة مطيرة ورعد وبرق، فنام أهل الخان، وجلست أفكر في
عظمة الله تعالى فنمت، فإذا ابن لي كنت قد أقصيته وبعدته، وإذا هو يخضع
لي ويقرب مني، وأنا أقصيه وأبعده، ثم انتبهت، فصاح بي صائح من جانب
الخان: يا سعدان بن يزيد، قد رأيت عظمته فافهم، هكذا يغضب عليك إذا
عصيته، ويتحنن عليك إذا أرضيته.
أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا الحسن بن محمد الخلال،
حدثنا عمر بن أحمد بن عثمان، حدثنا أبو بكر بن أبي معمر قال: سمعت
سعدان بن يزيد يقول:
ألا في سبيل الله عمر رزئته ... وفقد ليال فات منها نعيمها
أأغبن أيامي ولا أستقيلها ... وتذهب عني ليلة لا أقومها
وتنقطع الدنيا ويذهب غنمها ... ويغتنم الخيرات منها حكيمها
توفي سعدان في رجب هذه السنة.
سليمان بن الحين أبو أيوب، يعرف بأخي المقتصد. حدث عن: عبد الله بن
نمير، ويزيد بن هارون، روى عنه: محمد بن مخلد، وكان ثقة، وتوفي في هذه
السنة.
عبد الله بن المنير المروزي. أخبرنا سعد الله بن علي البزاز، ومحمد بن
عبد الباقي قالا:
أخبرنا
أحدد بن علي الطريثيثي، أخبرنا هبة الله بن الحسن الطبري، حدثنا أحمد
بن محمد بن الخليل، أخبرنا محمد بن أحمد بن سلمة، حدثنا أبو شجاع الفضل
بن العباس التميمي، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن محمود الهروي قال: سمعت
يحيى بن بدر القرشي يقول: كان عبد الله بن منير يوم الجمعة قبل الصلاة
يكون بقزوين، فإذا كان وقت صلاة الجمعة يرونه في مسجد آمد، وكان الناس
يقولون: إنه يمشي على الماء، فقيل له: يا أبا محمد، إنك تمشي على
الماء. فقال: أما المشي على الماء فلا أدري، ولكن إذا أراد الله عز وجل
جمع حافتي النهر حتى يعبر الإنسان.
قال: وكان عبد الله بن منير إذا قام من المجلس خرج إلى البرية مع قوم
من أصحابه يجمع شيئاً مثل الأشنان وغيره، فيدخل السوق فيبيع ذلك،
فيتعيش به. قال: فخرج يوماً مع أصحابه، فإذا هو بالأسد رابض على الطريق
فقيل له: هذا الأسد. فقال لأصابه: قفوا. ثم تقدم هو وحده إلى الأسد ولا
يدري ما قاله، فمر الأسد. فقال لأصحابه: مروا.
عبيد الله بن جرير بن جبلة بن أبي داود العتكي البصري روى عن مسدد،
وغيره، روى عنه: ابن أبي الدنيا، وابن صاعد.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا
البرقاني، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي، أخبرنا محمد بن
إسحاق السراج. قال: أنشدني عبيد الله بن جرير:
ما لا يكون فلا يكون بحيلةٍ ... أبداً وما هو كائن سيكون
سيكون ما هو كائن في وقته ... وأخو الجهالة متعب محزون
توفي العتكي في رجب هذه السنة بواسط.
عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان أبو علي، عم أبي مزاحم موسى بن عبيد الله.
روى أبو مزاحم عنه مسائل عن أحمد بن حنبل.
أنبأنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرني علي بن
طلحة المقرئ، أخبرنا محمد بن العباس الخزاز قال: سمعت أبا مزاحم بن
عبيد الله يقول: كان عمي عبد الرحمن بن يحيى كثير الجماع، وكان قد رزق
من الولد لصلبه مائة وستة، وكان قد أنحله كثرة الجماع.
عباد بن الوليد بن خالد أبو بدر الغبري سمع من أبي داود الطيالسي، روى
عنه: ابن أبي الدنيا، وابن صاعد، وكان صدوقاً. وتوفي في هذه السنة،
وقيل: في سنة ثمانٍ وخمسين.
عمر بن شبة بن عبيدة بن زيد أبو زيد النميري البصري واسم أبيه زيد،
وإنما لقب شبة لأن أمه كانت ترقصه وتقول:
يا بأبي وشبا ... وعاش حتى دبا
ولد عمر سنة ثلاث وسبعين ومائة، وحدث عن: غندر، وابن مهدي، ويزيد بن
هارون وغيرهم. روى عنه: ابن أبي الدنيا، والبغوي، وابن صاعد، وكان ثقة
عالماً بالسير وأيام الناس، وله تصانيف كثيرة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن الحسين الثوري،
أخبرنا يوسف بن عمر القواس، حدثنا محمد بن سهل الكاتب، حدثنا عمر بن
شبة قال: قدم وكيع بن الجراح عبادان، فمنعت من الخروج إليه لحداثتي،
فرأيته في النوم يتوضأ على شاطئ دجلة من كور؛ فقلت: يا أبا سفيان؛
حدثني بحديث. فقال: حدثنا إسماعيل، عن قيس قال: قال عبد الله: كان خير
المشركين إسلاماً للمسلمين عمر، قال: فحفظته في النوم.
توفي عمر بسر من رأى في جمادى الآخرة من هذه السنة، عن تسع وثمانين سنة
إلا أربعة أيام.
محمد بن إبراهيم بن إسحاق أبو أحمد الأستراباذي كتب عنه جماعة، وكان
شيخاً فاضلاً ثقة كثير الصلاة والتلاوة.
وتوفي فجأة في الكوفة وتوفي فجأة في الكوفة هذه السنة وكان قد نيف على
تسعين.
محمد بن الحسين أبو جعفر البندار حدث عن أبي الربيع الزهراني. روى عنه:
ابن مخلد.
وتوفي في رمضان هذه السنة.
محمد بن الحجاج بن جعفر بن إياس، أبو الفضل الضبي حدث عن أبي بكر بن
عياش، ومحمد بن فضيل، وسفيان بن عيينة، وغيرهم. روى عنه: ابن صاعد،
وأبو عمر القاضي، وابن مخلد، وغيرهم. وقال ابن عقدة: في أمره نظر. توفي
في هذه السنة عن سبع وتسعين سنة.
محمد بن عبد الله بن ميمون أبو بكر البغدادي حدث عن الوليد بن مسلم،
وغيره، وكان ثقة.
وتوفي بالاسكندرية في ربيع الأول من هذه السنة.
محمد بن محمد، أبو الحسن المعروف بحبش بن أبي الورد الزاهد
وهو محمد
بن محمد بن عيسى بن عبد الرحمن بن عبد الصمد بن أبي الورد مولى سعيد بن
أبي العاص عتاقة، وإنما سمي حبشاً لسمرته، وجده عيسى هو المعروف بأبي
الورد. وكان من صحابة المنصور، وإليه تنسب سويقة أبي الورد، ولمحمد أخ
أصغر منه: اسمه أحمد، ويكنى أبا الحسن أيضاً، صحب بشراً وسرياً، وله
كلام حسن، وتوفي قبل أخيه.
فأما حبش فإنه صحب بشر بن الحارث، وغيره، وأسند أحاديث عن هاشم بن
القاسم وغيره. حدث عنه: البغوي، وغيره.
وتوفي في رجب هذه السنة، وقيل: في سنة ثلاث وستين.
أخبرنا عمر بن ظفر، أخبرنا جعفر بن أحمد السراج، أخبرنا عبد العزيز بن
علي، أخبرنا أبو الحسن بن جهضم، حدثنا أحمد بن علي الحبال، حدثنا علي
بن عبد الحميد قال: سمعت محمد بن أبي الورد يقول: هلاك الناس في حرفين:
من اشتغال بنافلة، وتضييع فريضة، وعمل بالجوارح بلا مواطأة القلب،
وإنما منعوا الوصول لتضييع الأصول.
يعقوب بن شيبة، بن الصلت بن عصفور أبو يوسف الدوسي بصري سمع علي بن
عاصم، ويزيد بن هارون، وعفان بن مسلم، وخلقاً كثيراً وكان ثقة، وصنف
مسنداً معللاً، إلا أنه لم يتمه، وكان فقيهاً على مذهب مالك، ولا يختلف
الناس في ثقته، وإنما وقف في القرآن فلم يقل بمخلوق ولا غير مخلوق،
فقال أحمد: هو مبتدع صاحب هوى. وتوفي في هذه السنة.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: حدثني الأزهري قال: بلغني
أن يعقوب كان في منزله أربعون لحافاً أعدها لمن كان يبيت عنده من
الوارقين لتبييض المسند، ونقله، ولزمه على ما خرج من المسند عشرة آلاف
دينار، قال: وقيل لي: إن نسخة مسند أبي هريرة شوهدت بمصر فكانت مائتي
جزء.
يحيى بن مسلم بن عبد ربه أبو زكريا العابد سمع وهب بن جرير، وروى عنه:
ابن مخلد، وكان ثقة زاهداً.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرنا الأزهري،
حدثنا عبد الله بن عثمان، حدثنا ابن مخلد قال: حدثني أبو عبد الله أحمد
بن محمد بن عبد الحميد قال: سمعت يحيى بن مسلم يقول: كان في جيراننا
فتىً يتنسك، ولزم بشر بن الحارث حتى أنس به. قال: فقال لي الفتى يوماً:
قال لي بشر بن الحارث: أين تنزل؟ قلت: ذلك الجانب يا أبا نصر! قال: أين
من ذلك الجانب؟ قلت: موضعاً يقال له درب البقر. فقال: أين أنت من منزل
ذلك العابد يحيى بن مسلم؟ قلت: يا أبا نصر، أنا جاره. قال: فاقرأ عليه
السلام إذا رأيته. قال يحيى: وكان يجيئني الفتى من عنده بالسلام وأرد
عليه السلام. قال يحيى بن مسلم: فعبرت يوماً إلى ذاك الجانب في حاجة،
فاستقبلت ابن الحارث كفه لكفه، فما كلمته، فلما جاوزني ألتفت أنظر
إليه، فإذا هو قائم ملتفت ينظر إلي.
توفي يحيى في جمادى الآخرة من هذه السنة.
يحيى بن محمد بن أعين ابن الوزير أبو عبد الرحمن المروزي سكن بغداد،
وحدث بها، عن النضر بن شميل، وأبي عاصم النبيل. وروى عنه: محمد بن مخلد
وكان ثقة وجده أعين كان وصي عبد الله بن مالك.
وتوفي يحيى في رمضان هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ثلاث وستين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان هلك، فاستوزر من الغد
الحسين بن مخلد، فقدم موسى بن بغا، فهرب الحسين بن مخلد إلى بغداد،
واستوزر مكانه سليمان بن وهب لست خلون من ذي الحجة.
وحج بالناس في هذه السنة: الفضل الذي حج بهم في التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن عبد الله بن سالم أبو طاهر الحيري كان مقبولاً عند القضاة،
وتوفي بالحيرة في صفر هذه السنة.
الحسن بن سعيد بن عبيد الله أبو محمد الفارسي البزار، ويعرف بابن
البستنبان. سمع سفيان بن عيينة، وابن علية، وداود بن المحبر. روى عنه:
المحاملي، أو ابن مخلد. قال ابن أبي حاتم: هو صدوق. وتوفي في ربيع
الأول من هذه السنة.
الحسن بن أبي الربيع واسم أبي الربيع: يحيى بن الجعد بن نشيط. حدث عن
عبد الرزاق ويزيد، وشبابة، والعقدي، وغيرهم. روى عنه: البغوي وابن
صاعد، والمحاملي. وقال ابن أبي حاتم: هو صدوق، وتوفي بالكرخ من مدينة
السلام في جمادى الأولى من هذه السنة وله خمس وثمانون سنة.
طلحة بن خالد بن نزار بن المغيرة
أبو الطيب
الغساني الأبلي نزل سر من رأى، وحدث بها عن أبيه، وآدم بن أبي إياس.
روى عنه: ابن صاعد، والكوكبي، وهو ثقة صدوق. وتوفي في شعبان هذه السنة.
عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المعتمد صدمه في الميدان خادم له يقال
له: رشيق، يوم الجمعة لعشر خلون من ذي القعدة من هذه السنة، فسقط عن
دابته، فسال من منخره دم، فمات بعد ثلاث ساعات، فصلى عليه أبو أحمد بن
المتوكل، ومشى في جنازته.
وليد بن محمد النحوي ويعرف: بولاد. روى عن القعنبي، وغيره. وكان نحوياً
مجوداً وروى كتب النحو واللغة، وكان ثقة. توفي في رجب هذه السنة.
ثم دخلت سنة أربع وستين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن سليمان بن وهب خرج من بغداد إلى سامراء ومعه
الحسن بن وهب، فشيعه عامة القواد، فلما صار بسامراء غضب عليه المعتمد،
وحبسه وقيده، وانتهب داره ودار ابنيه: وهب، وإبراهيم، واستوزر الحسن بن
مخلد.
وفيها: ولي أبو عمر القاضي قضاء مدينة المنصور، والأعمال المتصلة بها،
وجلس في الجامع.
وفيها: دخل الزنج واسطاً، فخلى الناس البلد، وخرجوا عنه حفاةً على
وجوههم، وكانوا يدخلون المنازل فيجدونها مفروشة، ومضى الناس وكان يأخذ
أحدهم عمامته أو رداءه فيشد بها رجليه ويمشي، وضربت واسط بالنار.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الكوفي الهاشمي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن راشد بن سليمان أبو إسحاق الآدمي سمع خلقاً كثيراً، وروى
عنه: ابن أبي الدنيا، وغيره. وكان ثقة.
وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة، وكان قد بلغ الثمانين.
إبراهيم بن مالك بن بهبوذ أبو إسحاق البزاز سمع حماد بن أسامة، وزيد بن
الحباب، ويزيد بن هارون في، آخرين. روى عنه: ابن أبي الدنيا، وابن
صاعد، وكان ثقة من خيار المسلمين.
وتوفي في رجب هذه السنة وقد بلغ الثمانين.
إسماعيل بن يحيى بن عمر بن مسلم وهو إبراهيم المزني صاحب الشافعي رحمه
الله وكان فقيهاً حاذقاً، ثقة في الحديث، وله عبادة وفضل، وكان من خيار
خلق الله عز وجل وملازماً للرباط. توفي يوم الأربعاء لأربع وعشرين ليلة
خلت من ربيع الأول هذه السنة، وصلى عليه ربيع بن سليمان.
بنان بن يحيى بن زياد أبو الحسن المغازلي حدث عن عاصم بن علي، ويحيى بن
معين، وغيرهما. روى عنه: ابن مسروق، وابن مخلد، وكان ثقة، وتوفي في رجب
هذه السنة.
جعفر بن مكرم بن يعقوب بن إبراهيم أبو الفضل الدوري التاجر سمع أبا
عامر العقدي، وروح بن عبادة، وأبا داود الطيالسي في خلق كثير. روى عنه:
ابن صاعد، وغيره، وهو ثقة صدوق. وتوفي في جمادى الأولى من هذه السنة.
حماد بن المؤمل بن مطر أبو جعفر الكلبي حدث عن كامل بن طلحة، روى عنه:
ابن مخلد، وكان ثقة.
توفي في هذه السنة.
عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ أبو زرعة الرازي، مولى عياش
بن مطرف القرشي ولد سنة مائتين، وسمع أبا نعيم، وقبيصة، والقعنبي،
وخلقاً كثيراً. وكان إماماً حافظاً متقناً مكثراً صدوقاً. وجالس أحمد
بن حنبل وذاكره، وكان أحمد يقول: اعتضت بمذاكرته عن نوافلي، وما جاوز
الجسر أحفظ من أبي زرعة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا محمد
بن يوسف القطان، أخبرنا محمد بن عبد الله بن محمد حمدويه قال: سمعت أبا
جعفر محمد بن أحمد الرازي يقول: سمعت أبا محمد بن مسلم بن وارة يقول:
كنت عند إسحاق بن إبراهيم بنيسابور، فقال رجل من أهل العراق: سمعت أحمد
بن حنبل يقول: صح من الحديث سبع مائة ألف حديث وكسر، وهذا الفتى - يعني
أبا زرعة - قد حفظ ستمائة ألف.
قال المصنف: وقال أبو بكر بن أبي شبة: ما رأيت أحفظ من أبي زرعة.
وقال ابن راهويه: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل.
وقال أبو يعلى الموصلي: ما سمعنا يذكر أحد في الحفظ إلا كان اسمه أكثر
من رؤيته إلا أبا زرعة، فإن مشاهدته كانت أعظم من اسمه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، حدثني عبد
الله بن أحمد بن علي السوذرجاني قال: سمعت محمد بن إسحاق بن مندة يقول:
سمعت أبا العباس محمد بن جعفر بن حمكويهالرازي يقول:
سئل أبو
زرعة الرازي عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث هل
حنث؟ قال: لا. ثم قال أبو زرعة: أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان
" قل هو الله أحد " وفي المذاكرة ثلثمائة ألف حديث.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: كتب إلي أبو
حاتم أحمد بن الحسن بن محمد بن خاموش الواعظ بخطه قال: سمعت أحمد بن
الحسن بن محمد العطار يذكر عن محمد بن أحمد بن جعفر الصيرفي قال: حدثنا
أبو جعفر أحمد بن محمد بن سليمان التستري قال: سمعت أبا زرعة يقول: إن
في بيتي ما كتبته منذ خمسين سنة، ولم أطالعه منذ كتبته، وإني أعلم في
أي كتاب هو، وفي أي ورقة هو، وفي أي صفحة هو، وفي أي سطر هو، وما سمعت
أذني شيئاً من العلم إلا وعاه قلبي، وإني أمشي في سوق بغداد فأسمع من
الغرف صوت المغنيات فأضع إصبعي في أذني مخافة أن يعيه قلبي.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب، أخبرنا أبو
علي عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فضالة النيسابوري، أخبرنا أبو بكر
محمد بن عبد الله بن شاذان قال: سمعت أبا جعفر التستري يقول: حضرنا أبا
زرعة وكان في السوق، وعنده أبو حاتم، ومحمد بن مسلم، والمنذر بن شاذان،
وجماعة من العلماء، فذكروا حديث التلقين، وقوله صلى الله عليه وسلم: "
لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " . قال: فاستحيوا من أبي زرعة، وهابوا
أن يلقنوه، فقالوا: تعالوا نذكر الحديث.
فقال محمد بن مسلم: حدثنا الضحاك بن مخلد، عن عبد الحميد بن جعفر، عن
صالح. ولم يجاوز. والباقون سكتوا.
فقال أبو زرعة وهو في السوق: حدثنا بندار، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عبد
الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي غريب، عن كثير بن مرة الحضرمي، عن معاذ
بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان آخر كلامه لا
إله إلا الله دخل الجنة " وتوفي رحمه الله.
توفي أبو زرعة بالري في آخر ذي الحجة من هذه السنة.
أخبرنا عبد الرحمن بنمحمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني أبو
الفتح عبد الواحد بن أبي أحمد الاستراباذي، أخبرنا أحمد بن إبراهيم
الهمذاني، أخبرنا أبو العباس الفضل بن الفضل الكندي، حدثنا الحسن بن
عثمان، حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد المرادي قال: رأيت أبا زرعة في
المنام فقلت: يا أبا زرعة، ما فعل الله بك؟ قال: لقيت ربي تعالى فقال
لي: يا أبا زرعة، إني أوتى بالطفل فآمر به إلى الجنة، فكيف من حفظ
السنن على عبادي، تبوأ من الجنة حيث شئت.
قبيحة أم المعتز. توفيت في هذه السنة.
موسى بن بغا. توفي في محرم هذه السنة ودفن بسامراء.
محمد بن علي بن داود أبو بكر البغدادي، ويعرف: بابن أخت غزال. كان يحفظ
ويفهم، وحدث كثيراً وكان ثقة.
وتوفي بقرية من قرى مصر في ربيع الأول من هذه السنة.
محمد بن هلال بن جعفر بن عبد الرحمن، أبو الفضل عامل خراج مصر، كان
صدوقاً في الحديث، كريماً، وله آثار في الخير.
توفي في هذه السنة.
يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة أبو موسى الصدفي ولد سنة إحدى
وسبعين ومائة، وكان له علم وافر، وعقل رزين، حتى قال الشافعي رحمه
الله: ما دخل من هذا الباب - يعني باب الجامع - أحد أعقل من يونس بن
عبد الأعلى، وتوفي بمصر في هذه السنة وهو ابن ثلاث وتسعين سنة.
يزيد بن سنان بن يزيد بن الذيال أبو خالد، مولى عثمان بن عفان مصري قدم
مصر تاجراً، فوطنها وكتب بها الحديث، وحدث، وكان ثقة نبيلاً. وخرج مسند
حديثه، وكان كثير الفائدة.
وتوفي بمصر في أول يوم من جمادى الأولى من هذه السنة.
ثم دخلت
سنة خمس وستين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن الزنج جاءوا في ثلاثين سميرية إلى جبل، فأخذوا
منها أربع سفن فيها طعام، ثم انصرفوا، ثم دخلوا النعمانية فأحرقوا
سوقها، وأكثرمنازل أهلها، وسبوا، وصاروا إلى جرجرايا، فدخل أهل السواد
بغداد.
وفيها: ولي أبو أحمد عمرو بن الليث خراسان، وفارس وأصبهان، وسجستان،
وكرمان، والسند، وأشهد له بذلك، ووجه كتابه إليه بتوليته مع الخلع.
وحج بالناس في هذه السنة: هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى
الهاشمي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن هانئ
أبو إسحاق
النيسابوري رحل في طلب العلم إلى الشام وبغداد، ومصر، ومكة، واستوطن
بغداد، وحدث عن قبيصة وخلق كثير. روى عنه: عبد الله بن أحمد، البغوي،
وابن صاعد، وغيرهم. وكان ثقة صالحاً، واختفى أحمد بن حنبل في بيوتهم في
زمن المحنة، فقال لابنه إسحاق: أنا لا أطيق ما يطيق أبوك من العبادة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني
محمد بن عبد الواحد، حدثنا محمد بن العباس الخزاز، حدثنا أبو بكر عبد
الله بن محمد النيسابوري قال: حدثني أبو موسى الطوسي قال: سمعت ابن
زنجويه يقول: قال أحمد بن حنبل: إن كان ببغداد رجل من الأبدال فأبو
إسحاق النيسابوري.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال: أخبرني عبيد
الله بن أبي الفتح، حدثنا محمد بن العباس الخزاز، حدثنا أبو بكر
النيسابوري قال: حضرت إبراهيم بن هانئ عند وفاته، فقال لابنه إسحاق:
أنا عطشان، فجاءه بماء، فقال: غابت الشمس؟ قال: لا. قال: فرده. ثم قال:
لمثل هذا فليعمل العاملون، ثم خرجت روحه. توفي إبراهيم في ربيع الآخر
من هذه السنة.
إبراهيم بن القعقاع، أبو إسحاق بغوي الأصل، حدث عن عبيد بن إسحاق
العطار، وغيره، روى عنه: قاسم المطرز، والقاضي المحاملي، وكان ثقة.
توفي في ذي الحجة من هذه السنة.
إبراهيم بن محمد بن يونس بن مروان بن عبد الملك، مولى عثمان بن عفان،
أبو إسحاق. بصري قدم بغداد، فتوفي بها في رمضان هذه السنة.
جعفر بن الوراق، الواسطي المفلوج سكن بغداد، وحدث بها عن: يعلى بن عبيد
الطنافسي وغيره. روى عنه: ابن أبي داود، والمحاملي، ونفطويه، وغيرهم.
وكان ثقة.
وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة.
سعدان بن نصر بن منصور أبو عثمان الثقفي البزاز، اسمه: سعيد، وغلب عليه
سعدان سمع سفيان بن عيينة، ووكيعاً، وأبا معاوية. روى عنه: ابن أبي
الدنيا، وابن صاعد، والمحاملي، وابن مخلد قال أبو حاتم الرازي: هو
صدوق.
توفي في ذي القعدة من هذه السنة، وقد جاز التسعين.
صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل أبو الفضل الشيباني ولد في سنة ثلاث
ومائتين، وسمع أباه وأبا الوليد الطيالسي، وعلي بن المديني. روى عنه:
ابنه زهير، والبغوي، وكان صدوقاً ثقة كريماً. ولي قضاء أصبهان، فخرج
إليها، فلما دخلها بدأ بالجامع فصلى فيه ركعتين، واجتمع الناس والشيوخ،
وقرأ عليهم عهده، فجعل يبكي بكاءً شديداً، ويقول: ذكرت أبي أن يراني في
مثل هذه الحالة. وكان عليه الثياب السود، وقال: كان أبي إذا جاءه رجل
زاهد متقشف يبعث خلفي لأنظر إليه يحب أن أكون مثله. وكان إذا انصرف من
مجلس الحكم يخلع سواده، ويقول: ترى أموت وأنا علي هذا.
فتوفي بأصبهان في رمضان هذه السنة، وقيل: في سنة ست وستين، وله حينئذ
ثلاث وستون سنة.
عبد الله بن محمد بن أيوب بن سويح أبو محمد المخرمي سمع سفيان بن
عيينة، وغيره. روى عنه: عبد الرحمن بن أبي حاتم، وقال: هو صدوق.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن
ثابت، حدثنا علي بن أبي علي، حدثنا القاضي أبا القاسم عمر بن محمد بن
إبراهيم البجلي قال: حدثني محمد بن محمد بن سليمان الباغندي قال: كنت
بسر من رأى، وكان عبد الله بن أيوب المخرمي يقرب إلي، فخرج توقيع
الخليفة بتقليده القضاء، فانحدرت في الحال من سر من رأى إلى بغداد حتى
دققت على عبد الله بن أيوب بابه، فخرج إلي، فقلت: البشرى. فقال: بشرك
الله بخير، ما هي؟ فقلت: خرج توقيع الخليفة بتقليدك القضاء أحد
البلدين: إما بغداد، أو سر من رأى - البجلي يشك - قال: فأطبق الباب،
وقال: بشرك الله بالنار. وجاء أصحاب السلطان إليه فلم يظهرهم،
فانصرفوا.
فتوفي المخرمي في جمادى الأولى من هذه السنة، وقد جاز السبعين.
علي بن حرب بن محمد بن علي أبو الحسن الطائي الموصلي ولد في شعبان سنة
خمس وسبعين ومائة، ورحل في طلب الحديث إلى البلاد، وسمع سفيان بن
عيينة، ووكيعاً، وابن فضيل، ويزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، وغيرهم.
وروى عنه: البغوي، وابن صاعد، والمحاملي، وكان صدوقاً ثقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
كتب إلي
محمد بن إدريس بن محمد الموصلي يذكر أن المظفر بن محمد الطوسي حدثهم
قال: حدثنا أبو زكريا يزيد بن محمد بن إياس الأزدي قال: علي بن حرب،
سمع وصنف حديثه، وأخرج المسند، وكان عالماً بأخبار العرب وأنسابها،
أديباً شاعراً ووفد على المعتز بسر من رأى في سنة أربع وخمسين ومائتين،
فكتب المعتز عنه بخطه، ودقق الكتاب فقال علي: أخذت يا أمير المؤمنين في
شؤم أصحاب الحديث. فضحك المعتز أو نحوه.
أخبرنا بهذا غير واحد من شيوخنا، وأحضره المعتز للطعام فأكل بحضرته،
وأوغر له بضياع حرب كلها فلم يزل ذلك جارياً عليه إلى أيام المعتضد.
وتوفي في شوال سنة خمس وستين ومائتين.
قال المصنف رحمه الله: وبسامراء مات، وقد جاوز التسعين. وقيل: مات في
سنة ست وستين، والأول أصح.
علي بن الموفق العابد حدث عن منصور بن عمار، وأحمد بن أبي الحواري،
وكان ثقة.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت، أخبنا مكي بن علي،
حدثنا أبو إسحاق المزكي قال: سمعت أبا الحسن علي بن الحسن بن أحمد
البلخي يقول: سمعت عبد الرحمن بن عبد الباقي قال: سمعت بعض مشايخنا
يقول: قال علي بن الموفق: لما تم لي ستون حجة خرجت من الطواف، وجلست
بحذاء الميزاب، وجعلت أتفكر لا أدري كيف حالي عند الله تعالى وقد كثر
ترددي إلى هذا المكان؟ قال: فغلبتني عيني، وكان قائلاً يقول: يا علي،
أتدعو إلى بيتك إلا من تحب؟ فانتبهت وقد سرى عني ما كنت فيه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي أخبرنا علي بن أحمد
الرزاز، حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق، حدثنا محمد بن أحمد بن المهدي
قال: سمعت علي بن الموفق يقول: خرجت يوماً لأؤذن، فأصبت قرطاساً
فأخذته، فوضعته في كمي، فأقمت وصليت، فلما صليت قرأته، فإذا فيه مكتوب:
بسم الله الرحمن الرحيم: يا علي بن الموفق، تخاف الفقر وأنا ربك.
وسمعت علي بن الموفق ما لا أحصيه يقول: اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك
خوفاً من نارك فعذبني بها، وإن كنت تعلم أني أعبدك حباً مني لجنتك
وشوقاً مني إليها فاحرمنيها، وإن كنت تعلم أني أعبدك حباً مني لك،
وشوقاً إلى وجهك الكريم، فأبحنيه واصنع بي ما شئت.
توفي بن الموفق في هذه السنة.
عمرو بن مسلم أبو حفص الزاهد النيسابوري، ويقال: عمرو بن سلمة أنبأنا
زاهر بن طاهر قال: أنبأنا البيهقي أنبأنا الحاكم أبو عبد الله قال:
سمعت أبا الحسن بن أبي إسحاق المزكي يقول: سمعت جعفر الحيري يقول: سمعت
أبا عثمان سعيد بن إسماعيل يقول: قال لي أبو حفص: اذهب فاستقرض من بعض
إخواننا ألف درهم إلى شهر، فذهبت واستقرضت، وحملت إلى حضرته، فوضع
لعياله قوت سنة، ثم شد الثياب وخرج إلى الحج، فتحيرت في أمري، وجعلت
أعد الأيام وأقول: قد قرب الأجل فمن أين أؤدي هذه الألف، فلما كان
اليوم التاسع والعشرين خرجت لصلاة الصبح، فرأيت السكة من أولها إلى
آخرها جوالقات سود مطروحة والحمالون عليها قعود، فقلت: ترى لمن هذا؟
فلما فرغت من صلاة الصبح دخل علي حمال منهم فقال: هذه الحنطة بعث بها
فلان وقال: تستعين بها في بعض حوائجك. فأمر ببيعها، وقضيت الألف درهم
عن أبي حفص، وفضل، فلما انصرف أبي حفص من الحج كان أول كلمة كلمني بها
أن قال: إيش كان الفكر الذي شغلك شهراً، أما جاز لك أن تثق بربك!؟.
أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا أبو عبيد محمد
بن علي النيسابوري قال: سمعت أبا عمرو بن حمدون يقول: سمعت أبا عثمان
سعيد بن إسماعيل يقول: دخلت مع أبي حفص على مريض، فقال المريض: آه
فقال: ممن؟ فسكت فقال: مع من؟ توفي أبو حفص يوم الجمعة لاثنتي عشرة
ليلة خلت من ربيع الأول من هذه السنة، وقيل: بل توفي في سنة سبع وستين،
وقيل: سنة أربع وستين، وقيل: سنة سبعين، والأول أصح.
محمد بن عبد الرحمن أبو جعفر الصيرفي ولد سنة خمس وسبعين ومائة، وحدث
عن سفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون، وشبابة بن سوار، وغيرهم. روى عنه:
محمد بن خلف، ووكيع، والقاضي المحاملي، وغيرهم، وكان ثقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي الحافظ، أخبرنا
الجوهري، أخبرنا محمد بن العباس، حدثنا أبو الحسن أحمد بن جعفر بن محمد
قال:
كان أبو
جعفر محمد بن عبد الرحمن الصيرفي يعد من العقلاء، وكان مذهبه في بذل
الحديث: أن كان يسأل من يقصده عن مدينة بعد مدينة هل بقي فيها أحد
يحدث، فإذا قيل له: ما بقي بها محدث خرج إليها في سر، ثم حدثهم ورجع،
وكان من الديانة على نهاية. وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة.
محمد بن مسلم بن عثمان بن عبد الله أبو عبد الله الرازي، المعروف: بابن
واره. سمع خلقاً كثيراً، وحدث عنه: محمد بن يحيى الذهلي، والبخاري،
وابن صاعد، وكان عالماً حافظاً متقناً فهماً ثقة، بعيد النظر، غير أنه
كان معجباً بنفسه متكبراً على أبناء جنسه.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا أبو سعد الماليني قال:
أخبرنا عبد الله بن عدي قال: سمعت عبد المؤمن بن أحمد حوثرة يقول: كان
أبو زرعة الرازي لا يقوم لأحد ولا يجلس أحد في مكانه إلا ابن وارة،
فإني رأيته يفعل ذلك.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا أبو
سعد الماليني، أخبرنا عبد الله بن عدي الحافظ، أبخبرنا القاسم بن
صفوان، حدثنا عثمان بن خرزاد قال: سمعت سليمان الشاذكوني يقول: جاءني
محمد بن مسلم بن وارة فقعد يتقعر في كلامه. قال: قلت له: من أي بلد
أنت؟ قال: من أهل الري، ثم قال: أو لم يأتك خبري، أو لم تسمع بنبأي؟
أنا ذو الرحلتين، قلت: من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن من
الشعر حكمة، وإن من البيان سحراً " . قال: فقال: حدثني بعض أصحابنا
قال: قلت: من أصحابك؟. قال: أبو نعيم، وقبيصة. قال: قلت: ياغلام، ائتني
بالدرة، قال: فأتاني الغلام بالدرة فأمرته فضربته خمسين، فقلت: أنت
تخرج من عندي ما آمن تقول حدثنا بعض غلماننا.
توفي ابن واره بالري في هذه السنة وقد قيل: سنة سبعين.
محمد بن هارون أبو جعفر الفلاس، يلقب شيطا من أهل الحفظ والمعرفة
بالحديث الثقات. سمع أبا نعيم الفضل بن دكين، ويحيى بن معين، وغيرهما.
توفي بالنهروان في محرم هذه السنة.
يعقوب بن الليث الخارجي المعروف بالصفار الذي ذكرنا له الوقعات، توفي
باالأهواز في هذه السنة، فتحمل تابوته إلى جند يسابور، وخلف في بيت
ماله خمسين ألف ألف درهم، وألف ألف دينار، وكتب على قبره: هذا قبر
يعقوب المسكين. وكتب على قبره:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
ثم دخلت
سنة ست وستين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن عمرو بن الليث ولى عبد الله بن طاهر خلافته على
الشريط، ببغداد، وسامرا في صفر.
وفيها: وردت سرية من سرايا الروم ديار ربيعة، فقتلت من المسلمين، وأسرت
نحواً من مائتين وخمسين أنساناً وعادت.
وفيها: مات أبو الساج، فولي ابنه محمد الحرمين وطريق مكة.
وفيها: وثب الأعراب على كسوة الكعبة فانتهبوها، واصر بعضهم إلى صاحب
الزنج، وأصحاب الحاج شدة شديدة، ودخل الزنج رامهرمز، فاحرقوا مسجدها،
وقتلوا وسبوا، ثم تتابعت الأخبار، فأقبل الموفق بالله لقتال الزنج.
وحج بالناس في هذه السنة هارون الذي حج بهم في السنة التي قبلها.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن أورمة بن سياوش بن فروخ، أبو إسحاق الأصبهاني سكن بغداد،
وكان ينتقي على شيوخها، وأصيب بكتبه في أيام فتنة البصرة، ولم يخرج له
كثير حديث، وقد روى عنه ابن أبي الدنيا، وغيره، وكان ثقة نبيلاً ثبتاً
حافظاً.
أخبرنا أبو منصور، أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرني أحمد بن الحسين
القاضي قال: سمعت أبا بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السني يقول: حدثنا عبد
الله القزويني قال: سمعت أنا علي القهستاني يقول لإسماعيل بن إسحاق
القاضي: أيها القاضي، قد رأيت شيوخنا أحمد، ويحيى، وعلياً، وابن أبي
شيبة، وزهيراً، وخلقاً، وإني لم أكن أستكثر منهم، فلو أن إبراهيم
الأصبهاني كان في عصرهم لكان كأحدهم، أو تقدمهم. فقال له إسماعيل: صدقت
ما أبعدت، ما أبعدت.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا محمد بن عبد
الواحد، حدثنا محمد بن العباس قال: قرئ على ابن المنادي - وأنا أسمع -
قال:
أبو إسحاق
بن إبراهيم بن أورمة الأصبهاني أصابه مطر في آخر مجلس انتخب فيه على
العباس بن محمد الدوري، وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من شعبان سنة ست
وستين، وكان مطراً شديداً، فاعتل لذلك، ثم توفي في يوم السبت صلاة
المغرب، ودفن يوم الأحد بالكناس إلى جنب قبر أبي جعفر محمد بن عبد
الملك الدقيقي، وذلك لأربع خلون من ذي الحجة، وله حينئذ خمس وخمسون
سنة، وما رأينا في معناه مثله.
حماد بن الحسن بن عنبسة أبو عبيد الله النهشلي الوراق البصري سكن سر من
رأى، وحدث بها عن أزهر السمان، وأبي داود الطيالسي، وروح بن عبادة. روى
عنه: لبن صاعد، وابن مخلد، قال أبو حاتم الرازي: هو صدوق. وقال
الدارقطني: ثقة. توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة.
محمد بن شجاع أبو عبد الله، ويعرف بالثلجي حدث عن يحيى بن آدم، وابن
علية، ووكيع، وصحب الحسن بن زياد اللؤلؤي، إلا أنه كان رديء المذهب في
القرآن.
وقال أحمد بن حنبل: الثلجي مبتدع، صاحب هوى.
وبعث المتوكل إلى أحمد يسأله في تولية ابن الثلجي القضاء فقال: لا، ولا
على حارس.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي الحافظ قال: أخبرني البرقاني قال:
حدثني محمد بن أحمد بن عبد الملك الآدمي قال: حدثنا محمد بن علي بن أبي
داود البصري، حدثنا زكريا الساجي قال: كان محمد بن شجاع الثلجي كذاباً،
احتال في إبطال الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورده نصرة
لأبي حنيفة ورأيه.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: حدثني أحمد بن محمد
المستملي، حدثنا محمد بن جعفر الوراق أخبرنا أبو الفتح الأزدي الحافظ
قال: محمد بن شجاع الثلجي كذاب، لا يحل الرواية عنه لسوء مذهبه وزيغه
في الدين.
قال بن عدي: كان يضع الأحاديث في التشبيه، ينسبها إلى أصحاب الحديث
يثلبهم بها.
توفي فجأة في ذي الحجة من هذه السنة.
محمد بن عبد الملك بن مروان أبو جعفر الدقبقي سمع يزيد بن هارون،
وغيره. روى عنه: أبو داود، إبراهيم الحربي، وغيرهما، وكان ثقة. توفي في
شوال هذه السنة، عن إحدى وثمانين سنة.
ثم دخلت
سنة سبع وستين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن الزنج دخلوا واسطاً، واتصل الخبر بأبي أحمد
الموافق، فندب ولده أبا العباس لحربهم، فخرج في عشرة آلاف فبالغ في
حربهم، وغنم من أموالهم شيئاً كثيراً، واستنقذ من النساء اللواتي كن في
أيدي الزنج خلقاً كثيراً، فردهن إلى أهلهن، وأقام حتى وافاه أبوه أبو
أحمد لحرب الزنج، فحاربهم واستنقذ من المسلمات زهاء خمسة عشر ألف ألف
امرأة، فأمر بحملهن إلى واسط ليدفعهن إلى أوليائهن، ثم اجتمع أبو أحمد
وولده على قتالهم، وألجأوهم إلى مدينة قد بنوها وحصنوها، وحفروا حولها
الخنادق، ثم أجلوهم عن المدينة، واحتوى أبو أحمد وأصحابه على كل ما كان
فيها من الذخائر والأموال والأطعمة والمواشي، وبعث جنداً في طلبهم حتى
جاوزوا البطائح، ثم ارتحل أبو أحمد إلى الأهواز، وكتب إلى رئيس الزنج
كتاباً يدعوه فيه إلى التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، مما ركب من سفك
الدماء، وانتهاك المحارم، وإخراب البلدان، واستحلال الفروج والأموال،
وانتحال ما لم يجعله الله عز وجل له أهلاً من النبوة والرسالة، وإن نزع
عما هو عليه من الأمور التي يسخطها الله عز وجل، ودخل في جماعة
المسلمين، يمحي ذلك ما سلف من عظيم جرائمه، وكان له به الحظ الجزيل في
دنياه.
فلما وصل الكتاب إليه لم يزده ذلك إلا نفوراً وإصراراً، ولم يجب عنه
بشيء فسار أبو أحمد بأصحابه، وهم زهاء ثلثمائة ألف إلى مدينته التي
سماها المختارة من نهر أبي الخصيب، فرأى من تحصينها بالسور والخنادق،
وما قد عور عن الطريق المؤدية إليها، وإعداد المجانيق والعرادات ما لم
ير مثله، فأمر أبو أحمد ابنه بالتقدم إلى السور، ورمي من عليه بالسهام،
ففعل، ثم نادى بالأمان، ورمى بذلك رقاعاً إلى عسكر القوم، فمالت
قلوبهم، فجاء منهم كثير، وعلم أبو أحمد أنه لا بد من المصابرة، فعسكر
بالمدينة التي سماها الموفقية، وجهز التجار إليها، واتخذت بها الأسواق.
وقد كانت هذه المدينة انقطعت سبلها بأولئك الأعداء، وبنى أبو أحمد مسجد
الجامع، واتخذ دور الضرب، فضربت الدنانير والدراهم، وأدر للناس العطاء.
وفي ذي
الحجة لست بقين منه: عبر أبو أحمد بنفسه إلى مدينة القوم لحربهم، وكان
السبب أن الرؤساء من أصحاب الفاسق لما رأوا ما قد حل بهم من القتل
والحصار، مالوا إلى الأمان، وجعلوا يهربون في كل وجه، فوكل الخبيث
بطريق الهرب أحراساً، فأرسل جماعة من قواده إلى الموفق يسألونه الأمان،
وأن يوجه لمحاربتهم جيشاً ليجدوا إلى المصير إليهم سبيلاً، فأمر أبا
العباس بالمصير في جماعة إلى ناحيتهم، فالتقوا فاحتربوا، وظفر أبو
العباس وصار إلى القواد الذين طلبوا الأمان، وعبر الموفقبجيشه للمحاربة
يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة، وقصد ركناً من أركان المدينة،
فغلبوا عليه، ونصبوا عليه علماً، وأحرقوا ما كان على سورهم من منجنيق
وعرادة، ثم ثلموا في السور عدة ثلم، ومد جسراً على خندقهم، فعبر الناس
فحملوا على الزنج فكشفوهم.
وفي هذه السنة: وثب أحمد بن طولون بأحمد بن المدبر، وكان يتولى خراج
دمشق، والأردن، وفلسطين، فحبسه وأخذ أمواله، وصالحه على ستمائة ألف
دينار.
وحج بالناس في هذه السنة: هارون بن محمد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن عبد المؤمن المروزي يكنى أبا عبد الله. حدث وكان ثقة، وتوفي
بمصر في هذه السنة.
بكر بن إدريس بن الحجاج بن هارون، أبو القاسم روى عن أبي عبد الرحمن
المقري، وآدم بن أبي إياس، وغيرهما، وكان فقيهاً.
توفي في شعبان هذه السنة.
حماد بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الأزدي ولد سنة سبع وتسعين
ومائة، وولي القضاء ببغداد، وحدث بها عن القعنبي. روى عنه: الحسين
المحاملي، وكان ثقة فصيحاً، يعرف مذهب مالك، جيد كثير النصانيف في
فنون، وتوفي بالسوس في هذه السنة.
علي بن الحسن بن موسى بن ميسرة الهلالي النيسابوري الداربجردي وداربجرد
محلة متصلة بالصحراء في أعلى البلد.
من أكابر علماء نيسابور، وابن عالمهم، وكان له مسجد بداربجرد مذكور،
ويتبرك بالصلاة فيه. سمع أبا عاصم النبيل، وسليمان بن حرب، ويعلى بن
عبيد، وأبا نعيم وخلقاً كثيراً. روى عنه: البخاري، ومسلم، وابن خزيمة،
وغيرهم.
وتوفي في هذه السنة، واختلفوا في موته، فقيل: وجد ميتاً بعد أسبوع من
وفاته في مسجده، وقيل: إنه زبر العامل، فلما جن الليل أمر به فأدخل
بيته، وأوقد النار في التبن فمات من الدخان، ثم وجد ميتاً قد أكلت
النمل عينيه، وقيل: أكله الذئب فلم يوج سوى رأسه ورجليه.
عيسى بن موسى بن أبي حرب أبو يحيى الصفار البصري قدم بغداد، وحدث بها
عن مشايخه، فروى عنه: أبو الحسين بن المنادي، وغيره. وكان ثقة، وتوفي
في صفر هذه السنة.
العباس بن عبد الله أبو محمد الترقفي سكن بغداد وحدث عن جماعة، روى
عنه: ابن أبي الدنيا، وابن صاعد،وابن مخلد، وكان ثقة صدوقاً ديناً
صالحاً. قال ابن مخلد: ما رأيته ضحك ولا تبسم.
توفي بسر من رأى في هذه السنة، وقيل: سنة ثمان وستين.
عمار بن رجاء أبو نصر الأستراباذي رحل إلى العراق، وسمع من أبي داود
الحفري، ويزيد بن هارون، وأبي نعيم، وغيرهم. وكان عابداً زاهداً ورعاً
ثقة وتوفي في هذه السنة، وقبره يزار ويتبرك به.
محمد بن أحمد بن الجنيد أبو جعفر الدقاق سمع أبا عاصم النبيل، وأسود بن
عامر، ويونس بن محمد المؤدب، وغيرهم. روى عنه : البغوي، وابن صاعد،
والمحاملي، وغيرهم. وكان ثقة.
توفي في هذه السنة، وقيل: في السنة التي قبلها.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا محمد
بن عبد الواحد، حدثنا محمد بن العباس الخزاز قال: قرئ على أبي الحسين
بن المنادي، وأنا أسمع قال: توفي ابن جنيد الدقاق يوم الثلاثاء لعشر
خلون من جمادى الأولى سنة سبع وستين ومائتين، ودفن في مقبرة باب حرب،
وقد قارب التسعين.
محمد بن حماد بن بكر أبو بكر المقرئ صاحب خلف بن هشام. سمع يزيد بن
هارون، وغيره. وكان أحد القراء المجودين، ومن العباد الصالحين، وكان
أحمد بن حنبل يجله ويكرمه ويصلي خلفه شهر رمضان وغيره.
وتوفي يوم الجمعة لأربع خلون من ربيع الآخر في هذه السنة.
يحيى بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن فارس أبو زكريا الذهلي، يلقب
بحيكان
إمام
نيسابور في الفتوى والرياسة، وابن إمامها. سمع: يحيى بن يحيى، وابن
راهويه، وعلى بن الجعد، وأحمد بن حنبل، وأبا الوليد الطيالسي، ومسدد بن
مسرهد، وخلقاً كثيراً. روى عنه: أبوه محمد بن يحيى الإمام، وكان يقول:
أبو زكريا والد، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وخلق كثير، وكان قد اختلف هو
وأبوه في مسألة، فحكما محمد بن إسحاق بن خزيمة، فحكم ليحيى على أبيه،
وكان أحمد بن عبد الله الخجستاني قد خرج، فغلب على نيسابور، وكان
خارجاً ظالماً، فخرج عن نيسابور، واستخلف إبراهيم بن نصر فتهوس البلد،
فنهض يحيى بن محمد في خلق كثير، وحاربوا القواد الذين خلفهم، فلما عاد
أحمد طلب يحيى بن محمد، فجيء به فقتله في جمادى الآخرة من هذه السنة،
وقيل: أنه غلبه.
أنبأنا زاهر بن طاهر قال: أنبأنا أبو عثمان الصابوني، وأبو بكر البيهقي
قالا: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم قال: سمعت الحسن بن
يعقوب المعدل يقول: سمعت أبا عمرو أحمد بن المبارك المستملي يقول: رأيت
يحيى بن محمد في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي. قلت: فما
فعل الخجستاني؟ قال: هو في تابوت من نار والمفتاح بيدي.
العابدة اليمنية. أخبرنا محمد بن ناصر، أخبرنا أبو الفتح محمد بن علي
المصري، أخبرنا الموفق بن أبي الحسن التمار، وأبو الحسن محمد بن الحسن
المزني قالا: أخبرنا أبو عثمان سعيد بن العباس بن محمد القرشي قال:
أخبرنا أبو منصور بن الحسن البوشنجي، حدثنا محمد بن المنذر، حدثنا علي
بن الحسن الفلسطيني، حدثنا أبو بكر التيمي، حدثنا محمد بن سليمان
القرشي قال: بينا أنا أسير في طريق اليمن إذا أنا بغلام واقف في الطريق
في أذنيه قرطان، في كل قرط جوهرة يضيء وجهه من ضوء تلك الجوهرة، وهو
يمجد ربه بثناء بأبيات من الشعر، فسمعته يقول:
مليك في السماء به افتخاري ... عزيز القدر ليس به خفاء
فدنوت منه، فسلمت عليه، فقال: ما أنا براد عليك حتى تؤدي من حقي الذي
يجب لي عليك. قلت: وما حقك؟ قال: أنا غلام على مذهب إبراهيم الخليل صلى
الله عليه، لا أتغدى، ولا أتعشى كل يوم حتى أسير الميل والميلين في طلب
الضيف، فأجبته إلى ذلك، فرحب بي، وسرت معه حتى قربنا من خيمة شعر، فلما
قربنا من الخيمة صاح: يا أختاه! فأجابته جارية من الخيمة، يا لبيكاه.
قال: قومي إلى ضيفنا. فقالت الجارية: حتى أبدأ بشكر المولى الذي سبب
لنا هذا الضيف، وقامت فصلت ركعتين شكراً لله قال: فأدخلني الخيمة،
وأجلسني، وأخذ الغلام الشفرة، وأخذ عناقاً فذبحها، فلما جلست في الخيمة
نظرت إلى أحسن الناس وجهاً، فكنت أسارقها النظر، ففطنت لبعض لحظاتي،
فقالت لي: مه، أما علمت أنه قد نقل إلينا عن صاحب يثرب أن زناء العين
النظر أما إني ما أردت بهذا أن أوبخك، ولكن أردت أن أؤدبك لكي لا تعود
لمثل هذا. فلما كان وقت النوم بت أنا والغلام خارجاً، وباتت الجارية في
الخيمة، فكنت أسمع دوي القرآن الليل كله، بأحسن صوت يكون وأرقه، فلما
أن أصبحت، فقلت للغلام: صوت من كان ذلك؟ قال: تلك أختي تحيي الليل كله
إلى الصباح، فقلت: يا غلام، أنت أحق بهذا العمل من أختك أنت رجل وهي
امرأة، قال: فتبسم ثم قال لي: ويحك يا فتى، أما علمت أنه موفق ومخذول.
ثم دخلت
سنة ثمان وستين ومائتين
فمن الحوادث فيها: استئمان جعفر بن أحمد السجان إلى الموفق يوم
الثلاثاء غرة المحرم، وكان هذا السجان أحد ثقات الخبيث الزنجي، فأمر له
أبو أحمد بخلع وصلات، فكلم أصحاب الزنجي وقال: إنكم في غرور، وإني قد
وقفت على كذب هذا الرجل وفجوره. فاستأمن يومئذ خلق كثير، وما زال
الموفق ينظر في كل يوم موضعاً يجلب منه الميرة إلى بلد القوم فيمنعها،
حتى ضاق الأمر بهم، حتى أكلوا لحوم الناس، ونبشوا القبور فأكلوا لحوم
الموتى، وكان المستأمن منهم يسأل: كم عهدكم بالخبز؟ فيقول:
سنة
وسنتان، فلما رأى الموفق ما قد جرى عليهم، رأى أن يتابع الإيقاع بهم
ليزيدهم بذلك ضراً وجهداً. فخرج إلى الموفق في هذا الوقت في الأمان خلق
كثير، واحتاج من كان مقيماً مع أولئك إلى الاحتيال في القوات، فتفرقوا
عن معسكرهم إلى القرى والأنهار النائية، فأمر الموفق جماعة من قواده
وغلمانه والسودان أن يقصدوا القوم، ويستميلوهم، فمن أبى قتلوه، فواظبوا
على ذلك فحصلوا جماعة كثيرة.
واتفق في هذه السنة: أنه كان أول يوم من رمضان يوم الأحد، وكان الأحد
الثاني من الشعانين، وكان الأحد الثالث الفصح، وكان الأحد الرابع
النيروز، وكان الأحد الخامس انسلاخ الشهر.
وحج بالناس في هذه السنة: هارون بم محمد بن إسحاق الهاشمي، وكان ابن
أبي الساج على الأحداث.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن الحسن أبو عبد الله السكري البغدادي كان حافظاً للحديث، توفي
بمصر في ذي القعدة من هذه السنة.
أنس بن خالد بن عبد الله بن أبي طلحة بن موسى بن أنس بن مالك. حدث عن
محمد بن عبد الله الأنصاري، وروي عنه: المحاملي، وابن مخلد.
وتوفي في جمادى الأولى من هذه السنة.
الحسن بن ثواب أبو علي التغلبي سمع يزيد بن هارون، وغيره. قال أبو بكر
الخلال: كان شيخاً كبيراً جليل القدر. وقال الدارقطني: ثقة.
وتوفي في جمادى الأولى من هذه السنة.
محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين، أبو عبد الله. ولد سنة اثنتين
وثمانين ومائة، وروي عن ابن وهب، وغيره، وكان المفتي بمصر في أيامه.
وتوفي في ذي القعدة من هذه السنة، وصلى عليه بكار بن قتيبة.
محمد بن عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد، أبو عمرو يروي عن أبيه،
وعن أبي صالح كاتب الليث، وكان ثقة فاضلاً.
وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة.
يحيى بن إسحاق بن إبراهيم بن سافري. سمع علي بن قادم. روى عنه: القاضي
المحاملي، وكان ثقة.
توفي في ربيع الآخر من هذه السنة.
ثم دخلت
سنة تسع وستين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن الأعراب قطعوا على قافلة الحاج قريباً من سميراء،
فاستاقوا نحواً من خمسة آلاف بعير مع أحمالها.
واجتمع في المحرم من هذه السنة كسوف الشمس والقمر، وغابت الشمس منكسفة.
ويوم السبت النصف من جمادى الأولى: شخص المعتمد يريد اللحاق بمصر،
فأقام يتصيد بالكحيل، فلما صار المعتمد إلى عمل إسحاق بن كنداج، وكان
العامل على الموصل وعامة الجزيرة، وكان قد كتب إليه أبو أحمد بالقبض
علىالمعتمد، وعلى قواده، فأظهر أنه معهم، وقد كان قواد المعتمد حذروا
المعتمد من المرور به، فأبى وقال: إنما هو غلامي. فلما صار في عمله
لقيهم، وصار معهم حتى نزل المعتمد منزلاً قبل وصوله إلى عمل ابن طولون،
فلما أصبح ارتحل الأتباع والغلمان الذين مع المعتمد والعسكر، وبقي معه
القواد فقال لهم: إنكم قد قربتم من عمل ابن طولون والمقيمين بالرقة من
قواد، وأنتم إذا صرتم إلى ابن طولون فالأمر أمره، وأنتم من تحت يده،
أفترضون بذلك وقد علمتم إنما هو كواحد منكم.
وجرت بينهم وبينه في ذلك مناظرة حتى تعالى النهار، ولم يرتحل المعتمد
لاشتغال القواد بالمناظرة لبنهم، ولم يجتمع رأيهم على شيء. فقال لهم
ابن كنداج: قوموا بنا حتى نتناظر في غير هذا الموضع، وأكرموا مجلس أمير
المؤمنين عن ارتفاع الأصوات فيه. فأخذ بأيديهم وأخرجهم من مضرب
المعتمد، وأدخلهم مضرب نفسه، لأنه لم يكن بقي مضرب غير مضربه، فلما
دخلوا حضر بالقيود، فشد غلمانه عليهم، فقيدوهم ثم مضى إلى المعتمد
فعدله في شخوصه عن دار ملكهوملك آبائه، وفراقه أخاه على الحال التي هو
بها، ثم رده إلى سامراء في شعبان، فخلع على ابن كنداج، وسمي ذا
السيفين.
وخرج الأمر في هذه السنة بتكنية صاعد بالعلاء في الكتب، وعقد له على
بلاد، وانحدر صاعد إلى المرفق، واستخلف ابنه العلاء، وسمي صاعد: ذا
الوزارتين، وكانوا قد عزموا أن يسموه: ذا التدبيرين. فقال لهم أبو عبيد
الله: لا تسموه بشيء ينفرد به، ولكن سموه: ذا الوزارتين، أو ذا
الكفايتين، ليكون مضافاً إليكم. فسموه ذا الوزارتين.
وروى أبو بكر الصولي قال: حدثني المعلى بن صاعد قال:
سعوا إلى
الموفق بصاعد، وضمنوه بمال عظيم، وجعلوا الرقعة تحت ذنب طائر، وأطلقوه،
وكان أبي قد أنكر من الموفق شيئاً، فعزم أن يحمل إليه مائتي ألف درهم
كانت عنده، ثم قال: والله لا فعلت، ولأتصدقن بمائة ألف درهم منها. ففعل
ذلك في غداة ذلك اليوم الذي ركب فيه زورق، فبينا هو يسير إذ سقط في
زورقه طائر، فأخذ فوجدت فيه رقعة فقرأها صاعد فإذا هي سعاية به، فعلم
أن الله تعالى كفاه لأجل صدقته، ودخل إلى الموفق فأراه الطائر، وأراه
الرقعة، وعرفه ما عمل، فعظم في عينه، وجلت مكانته عنده، وقال: ما فعل
الله بك هذا إلا لخير خصك به.
وفي هذا الشهر: أحرق أصحاب الموفق قصر ملك الزنج، وانتهبوا ما فيه،
وذلك أن الموفق عاود الخصومة، فدخل أصحابه إلى قصر من تلك القصور،
فانتهبوا وأحرقوا واستنقذوا نسوة كن فيه، وقصدوا إحراق دار الزنجي،
فتعذر عليهم لكثرة الحماة عنها، يرمون من فوق السور بالنشاب والحجارة،
واستأمن إلى أبي أحمد محمد بن سمعان كاتب الخبيث ووزيره، فاجتمع أصحاب
الموفق، وحملوا فأحرقوا الدار، فخرج الخبيث هارباً، وترك جميع أمواله،
فانتهب ما لم يأت عليه النار، وأصاب الموفق سهم في ثندوته اليسرى،
فشارف الموت، فتصدقت عنه أمه بوزنه ورقاً، فكان ثلاثين ألف درهم حين
سلم، ثم مرض الموفق مدة، فاشتغل الخبيث بإصلاح ما تشعث، فلما عوفي
الموفق عاود القتال، فقتل منهم خلقاً كثيراً، واستخرج نساء وأطفالاً كن
بأيديهم.
فسأل ولد الخبيث الأمان فأجابه أبو أحمد، فعلم الأب، فرد الولد عن ذلك
العزم، فعاد إلى القتال، واستأمن خلق كثير فأمنهم، وخلع عليهم، وصار
قواده يقاتلون، فاستوحشوا من ذلك، وتجاسروا وتخافوا، فجمع الموفق جنده
وهم يزيدون على خمسين ألفاً، والسفن الكثيرة يزيد ملاحوها على عشرة
آلاف، وتأجج القتال، فتلقاهم العدو، واشتد القتال، فهزم العدو، وقتل
منهم مقتلة عظيمة، وأسر جماعة كثيرة، ونجا الخبيث إلى داره، وجمع
أصحابه للمدافعة عنها، فلم يقدروا، فدخلها أصحاب أبي أحمد وأحرقوها،
وما بقي فيها من متاع، وأمر الموفق بنساء الخبيث وأولاده، فحملوا إلى
الموفقية والتوكيل بهم، وكان قد تغلب على حرم المسلمين،وجاءه منهن
الأولاد.
وحج بالناس في هذه السنة: هارون بن محمد الهاشمي.
ذكر من توفي بهذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن نصر بن محمد بن نصر أبو إسحاق الكندي سمع عفان بن مسلم،
وقبيصة في آخرين، وكان ثقة، وتوفي في هذه السنة.
إبراهيم بن منقذ بن إبراهيم أبو إسحاق العصفري من أصحاب ابن وهب، روى
عن المنقري وإدريس بن يحيى، وكانت كتبه قد احترقت، وبقي منها بقية،
فحدث بما بقي منها وهو ثقة رضي.
توفي في ربيع الآخر من هذه السنة.
خالد بن أحمد بن خالد بن عمرو بن مجالد بن مالك أبو الهيثم الذهلي
الأمير ولي إمارة مرو، وهراة، وغيرهما من بلاد خراسان، ثم ولي إمارة
بخارى، وسكنها، وله آثار مشهورة وأمور محمودة، وكان يحب الحديث ويقول:
أنفقت في طلب العلم أكثر من ألف ألف درهم وكان قد سمع من ابن راهويه،
وعلي بن حجر، وخلق كثير، فلما استوطن بخارى أقدم إلى حضرته حفاظ
الحديث، مثل: محمد بن نصر المروزي، وصالح جزرة، ونصر بن أحمد
البغداديين، وغيرهم، وصنف له نصر مسنداً، وكان يختلف مع هؤلاء المسمين
إلى المحدثين، وكان يمشي برداء ونعل، يتواضع بذلك، وبسط يديه بالإحسان
إلى أهل العلم فغشوه، وقدموا عليه من الآفاق، وأراد من محمد بن إسماعيل
البخاري أن يصير إلى حضرته فامتنع، فاعتل عليه باللفظ، فأخرجه من بخارى
فمات بقرية، وكأنه عوقب بما فعل بالبخاري، فزال ملكه، وكان قد ورد
بغداد فحدث، فسمع منه وكيع القاضي، وأبو طالب الحافظ وابن عقدة، ثم
اعتقله السلطان فحبسه ببغداد، فمات بالحبس في هذه السنة، وكان السبب
أنه اشتد على الظاهرية، ومال إلى يعقوب بن الليث القائم بسجستان، وكان
ذلك سبب حبسه.
ذو الكفل الزاهد. رجل من ولد مسكين بن الحارث، يكنى أبا القاسم. يروي
عنه: أحمد بن محمد بن حجاج بن رشدين، وغيره. توفي بمصر في جمادى الآخرة
من هذه السنة.
محمد بن إبراهيم أبو حمزة الصوفي البغدادي
مولى عيسى
بن أبان القاضي من كبار شيوخ الصوفية، كان يتكلم في جامع الرصافة، ثم
انتقل إلى جامع المدينة، وكان عالماً بالقراآت خصوصاً قراءة أبي عمرو،
وجالس أحمد بن حنبل، وكان أحمد إذا عرضت مسألة يقول: ما تقول فيها يا
صوفي؟ وجالس بشر بن الحارث، وأبا نصر التمار، وسرياً السقطي، وسافر مع
أبي تراب النخشبي إلا أنه انغمس في مذاهب الصوفية، حتى روينا أنه وقع
في بئر فجاز قوم، فأخذوا يطمونها، فرأى من التوكل أن لا ينطق، وسكوته
في مثل هذا يخالف الشرع.
وقد قيل إن الواقع في البئر أبو حمزة الخراساني لا البغدادي، والله
أعلم.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الخطيب قال:
أخبرني الحسن بن أبي الفضل الشرمقاني، حدثنا إبراهيم بن أحمد بن محمد
الطبري، حدثنا معروف بن محمد بن معروف الواعظ، حدثنا أبو سعيد الزيادي
قال: كان أبو حمزة أستاذ البغداديين، وهو أول من تكلم ببغداد في
المذاهب من صفاء الذكر، وجمع الهم، والمحبة، والشوق، والقرب، والأنس،
ولم يسبقه إلى الكلام على رؤوس الناس ببغداد أحد، وما زال حسن المنزلة
عند الناس إلى أن توفي سنة تسع وستين ومائتين، ودفن بباب الكوفة، وقد
ذكر السلمي أنه توفي في سنة تسع وثمانين والأول أصح.
محمد بن الخليل بن عيسى أبو جعفر المخرمي سمع عبيد الله بن موسى، وروح
بن عبادة، وحجاج بن محمد، وغيرهم. روى عنه: وكيع القاضي، ومحمد بن
مخلد، وغيرهما، وكان ثقة من خيار الناس.
وتوفي في شعبان هذه السنة.
ثم دخلت
سنة سبعين ومائتين
فمن الحوادث فيها: وقعة كانت بين أبي أحمد وصاحب الزنج في المحرم،
أضعفت أركان صاحب الزنج، واسمه بهبوذ وفي صفر قتل؛ وشرح القصة: أن أبا
أحمد ألح على حربه، ورغب الناس في جهاد العدو، وصار معه جماعة من
المطوعة، ورتب الناس وأمرهم أن يزحف جميعهم مرة واحدة، وعبر يوم
الاثنين لثلاث بقين من المحرم سنة سبعين، فنصر ومنح أكتاف القوم، فولوا
منهزمين، واتبعهم الناس يقتلون ويأسرون، فقتل ما لا يحصى وخربت مدينة
الخبيث بأسرها، واستنقذوا ما كان فيها من الأسارى من الرجال والنساء
والصبيان، وهرب الخبيث وخواصه إلى موضع قد كان وطأه لنفسه ملجأ إذا غلب
على مدينته، فتبعه الناس، فانهزم أصحابه، وغدا أبو أحمد يوم السبت
لليلتين خلتا من صفر فسار إلى الفاسق، وكان قد عاد إلى المدينة بعد
انصراف الناس، فلقي الناس قواد الفسق فأسروهم، وجاء البشير بقتل
الفاسق، ثم جاء رجل معه رأس الفاسق، فسجد الناس شكراً لله تعالى، وأمر
أحمد فرفع على قناة فارتفعت أصوات الناس بحمد الله تعالى وشكره، وأمر
أبو أحمد أن يكتب إلى أمصار المسلمين بالنداء في أهل البصرة، والأبلة،
وكور دجلة، والأهواز وكورها، وأهل واسط، وما حولها مما دخله الزنج بقتل
الفاسق، وأن يؤمروا بالرجوع إلى أوطانهم.
وولي البصرة، والأبلة، وكور دجلة رجلاً من قواده ومواليه، وولى قضاء
هذه الأماكن محمد بن حماد، وقدم ابنه العباس إلى بغداد، ومعه رأس
الخبيث ليراه الناس، فيسروا، فوافى بغداد يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة
بقيت من جمادى الأولى في هذه الستة، والرأس بين يديه على قناة، فأكثر
الناس التكبير والشكر لله تعالى والمدح لابن الموفق وأبيه، ودخل أحمد
بن الموفق بغداد برأس الخبيث، وركب في جيش لم ير مثله من سوق الثلاثاء
إلى المخرم، وباب الطاق، وسوق يحيى، حتى هبط إلى الجزيرة ثم انحدر في
دجلة إلى قصر الخلافة في جمادى هذه السنة، وضربت القباب، وزينت
الحيطان.
وفي هذه السنة: في ربيع الأول منها ورد الخبر إلى بغداد بأن الروم نزلت
ناحية باب تلمية على ستة أميال من طرسوس، وهم زهاء مائة ألف، يرأسهم
بطريق البطارقة أندرياس فخرج إليهم يازمان الخادم ليلاً فبيتهم فقتل
رئيسهم وخلقاً كثيراً من أصحابه، يقال إنهم بلغوا سبعين ألفاً، وأخذ
لهم سبعة صلبان من ذهب وفضة، فيها صليبهم الأعظم من ذهب مكلل بالجوهر،
وأخذ خمسة عشر ألف دابة وبغل، ومن السروج مثل ذلك، وسيوفاً محلاة بذهب
وفضة، ومناطق، وأربعة كراسي من ذهب، ومائتي طوق من ذهب، وآنية كثيرة
نحواً من عشرة آلاف علم، وكان النفير إلى أندياس يوم الثلاثاء لسبع
خلون من ربيع الأول.
وفي هذه السنة قتل ملك الروم الصقلبي.
وفيها:
بنى أحمد بن طولون أربعة أروقة على قبر معاوية بن أبي سفيان وأمر أن
يسرج هناك، وأجلس أقواماً معهم المصاحف يقرأون القرآن.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم بن سعيد بن أبي زرعة أبو بكر البرقي من
أهل برقه. حدث وكان ثقة ثبتاً. قيل إن أخاه محمداً كان قد صنف التاريخ
ولم يتمه، فأتمه هو، وحدث به، وكان إسنادهما واحداً، وكان أحمد يمشي في
سوق الدواب فضربته دابة فمات من يومه، وذلك في رمضان هذه السنة.
أحمد بن عبد العزيز بن داود بن مهران الحرابي رحل وكتب الحديث وحفظ،
وروى، وعاد إلى حران، فتوفي بها في هذه السنة.
أحمد بن طولون وطولون تركي أنفذه نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون
سنة مائتين، وتوفي سنة أربعين ومائتين، وولد له أحمد ببغداد سنة عشرين
ومائتين، ونشأ بعيد الهمة، وكان يستقل عقول الأتراك وأديانهم، ويقول:
إن حرمة الدين عندهم منهوكة وكانوا يهابونه، ويتقوون به على الأموال،
وتمكنت له المحبة في قلوب الناس، ونشأ على الخير والصلاح، وحفظ القرآن،
وطلب الحديث،فلقي الشيوخ وسمع منهم، ثم سأل الوزير عبيد الله بن يحيى
بن خاقان أن يوقع له برزقه على الثغر ليكون في جهاد متصل وثواب دائم،
ففعل، وكانت ولايته ما بين رحبة مالك بن طوق إلى المغرب، وكانت أمه بسر
من رأى، فبلغه أنها تبكيه لبعده، فرجع إليها فخرج على الرفقة الذين
صحبهم أعراب، فقاتلهم أشد قتال، ونصر عليهم، وخلص من أيديهم أموالاً
حملت إلى المستعين، فحسن مكانه عنده، وبعث إليه المستعين سراً ألف
دينار، وقال للرسول: عرفه محبتي له، وإيثاري لاصطناعه غير أني أخاف أن
أظهر له ما في قلبي فيقتله الأتراك.
ثم استدام الإنعام عليه، ووهب له جارية أسمها: مياس، فولدت له ابنه
خمارويه في محرم سنة خمسين ومائتين، ولما تنكر الأتراك للمستعين وخلعوه
وولوا المعتز أحدروه إلى واسط وقالوا: من تختار أن يكون في صحبتك؟
فقال: أحمد بن طولون. فبعثوه معه، فأحسن صحبته، ثم خاف غلمان المتوكل
من كيد المستعين، فكتبوا إلى أحمد بن طولون أن اقتله فإن قتاته وليناك
واسطاً.
فكتب إليهم: والله لا رآني الله قتلت خليفة بايعت له أبداً. فأنفذوا
إليه سعيداً الحاجب، فلما رآه المستعين قال: قد جاء جزار بني العباس،
فتسلمه، وضرب خيمة على بعد، فأدخله إليها، ثم خرج وألقاها على ما فيها
ورحل. فلما بعد نظروا، فإذا هو قد حمل رأس المستعين معه، فغسل أحمد بن
طولون الجثة وكفنها وواراها، وعاد إلى سر من رأى، فزاد محله عند
الأتراك، ووصفوه بحسن المذهب، فولوه مصر نيابة عن أميرها في سنة أربع
وخمسين، فقال حين دخلها: غاية ما وعدت به في قتل المستعين ولاية واسط،
فتركت ذلك لأجل الله تعالى فعوضني الله ولاية مصر والشام.
ثم قتل والي مصر في أيام المهتدي، فصار مستبداً بنفسه في أيام المعتمد،
وركب يوماً إلى الصيد فلما طعن في البرية غاضت يد دابة بعض أصحابه في
وسط الرمل، فكشف المكان فرأى مطلباً واسعاً، فأمر أن يعمل فيه، فوجد
فيه من المال ما قيمته ألف ألف دينار، فأنفق معظم ذلك في البر والصدقة
وبناء الجامع، وقال له وكيله يوماً: ربما امتدت إلي الكف المطوقة،
والمعصم فيه السوار، والكف الناعم، أفأمنع هذه الطبقة؟ فقال له: ويحك،
هؤلاء المستورون الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، احذر أن ترد
يداً امتدت إليك.
وحسن له بعض التجار التجارة، فدفع إليه خمسين ألف دينار، فرأى فيما يرى
النائم كأنه يمشمش عظماً، فدعى المعبر فقص عليه ما رأى، فقال: قد سمت
عمة الأمير إلى مكسب لا يشبه خطره. فاستدعى صاحب صدقاته، وقال له: امض
إلى التاجر، وخذ منه الخمسين ألف دينار، وتصدق بها.
ولما اشتد مرضه في علة الموت فخرج المسلمون بالمصاحف، واليهود
بالتوراة،والنصارى بالأناجيل، والمعلمون بالصبيان، وكثر الدعاء في
الصحراء والمساجد، فلما أحس بالموت رفع يده وقال: يا رب، ارحم من جهل
مقدار نفسه وأبطره حكمك عنه. ثم تشهد وقضى في ذي القعدة من هذه السنة،
وقيل، في التي قبلها.
وكان عمره
خمسين سنة، وخلف ثلاثة وثلاثين ولداً منهم سبعة عشر ذكراً، وترك عشرة
آلاف ألف دينار، وكان له من المماليك سبعة آلاف، ومن الخيل على مربطه
سبعة آلاف فرس، ومن الجمال والبغال ستة آلاف رأس، ومن المراكب الخاصة
ثلثمائة، ومن المراكب الحربية مائة مركب، ومن الغلمان أربعة وعشرون
ألفاً، وكان خراج مصر في أيامه أربعة آلاف ألف دينار وثلثمائة ألف
دينار، وأنفق على المصالح أموالاً كثيرة منها على الجامع مائة وعشرين
ألف دينار وكان يتصدق في كل شهر بثلاثة آلاف دينار شاذة سوى الراتب،
وكان راتب مطبخه في كل يوم ألف دينار، وكان يجري على أهل المساجد كل
شهر ألف دينار، وعلى فقراء الثغر كذلك، وحمل إلى بغداد في أيامه ما فرق
على الصالحين والعلماء ألفي ألف دينار ومائتي ألف دينار.
ورآه بعض المتزهدين في المنام بحال حسنة، فقال له: ما ينبغي لمن سكن
الدنيا أن يحتقر حسنة فيدعها، ولا سيئة فيأتيها، عدل بي عن النار إلى
الجنة بتثبتي على متظلم عيي اللسان، شديد التهيب، فسمعت منه وصبرت عليه
حتى قامت حجته، وتقدمت بإنصافه، وما في الآخرة على رؤساء الدنيا أشد من
الحجاب الملتمسي الإنصاف.
ورآه آخر في المنام فقال له: إنما البلاء من ظلم من لا ناصر له.
وأخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب
أخبرنا الحسين بن محمد المؤدب، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله المالكي،
حدثنا محمد بن علي بن سيف قال: سمعت الحسين بن أحمد النديم قال: سمعت
محمد بن علي المادرائي قال: كنت أجتاز بتربة أحمد بن طولون، فأرى شيخاً
يقرئ عند قبره ملازماً للقبر، ثم أني لم أره مدة، ثم رأيته بعد ذلك،
فقلت له: ألست الذي كنت أراك عند قبر ابن طولون تقرأ عليه؟ قال: بلى.
قد كان والينا في هذا البلد، وكان له علينا بعض العدل، وإن لم يكن
الكل، فأحببت أن أصله بالقرآن. فقلت له: فلم انقطعت عنه؟ قال لي: رأيته
في النوم، وهو يقول لي: أحب أن لا تقرأ عندي، فكأني أقول له: لأي سبب؟
فقال: ما يمر بي آية إلا قرعت بها وقيل لي: أما سمعت هذه؟!.
إبراهيم بن مرزوق بن دينار أبو إسحاق البصري قدم مصر، وكان ثقة ثبتاً،
وذهب بصره قبل موته.
وتوفي بمصر في جمادى الآخرة من هذه السنة.
إسماعيل بن عبد الله بن ميمون بن عبد الحميد بن أبي الرجال، أبو النضر
العجلي مروزي الأصل، وهو ابن أخي نوح بن ميمون المضروب. سمع خلقاً
كثيراً وروى عنه: محمد بن مخلد الدوري، وأبو الحسين المنادي.
وأخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب أخبرنا
أبو بكر البرقاني، أخبرنا إبراهيم بن محمد المزكي، أخبرنا محمد بن
إسحاق الثقفي قال: أنشدني أبو النضر العجلي لنفسه:
تخبرني الآمال أني معمر ... وأن الذي أخشاه عني مؤخر
فكيف ومر الأربعين قضيته ... علي بحكم قاطع لا يغير
إذا المرء جاز الأربعين فإنه ... أسير لأسباب المنايا ومعثر
وأخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي الخطيب أخبرنا محمد بن عبد الواحد
حدثنا محمد بن العباس قال: قرئ على ابن المنادي وأنا أسمع قال: توفي
أبو النضر المروزي ليلة الاثنين لثلاث وعشرين خلت من شعبان سنة سبعين،
وقد بلغ أربعاً وثمانين سنة فيما ذكر، وكان يخضب بالوسمة.
بهبوذ صاحب الزنج. قد ذكرنا أحواله، وكان خروجه يوم الأربعاء لأربع
بقين من رمضان سنة خمس وخمسين وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة
سبعين، وكانت أيامه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام.
وحكى أبو بكر الصولي أن مبلغ من قتل في هذه المدة من الناس ألف ألف
وخمسمائة ألف رجل واستأمن من أصحابه خمسة عشر ألف رجل.
حمدون بن عباد أبو جعفر البزاز، المعروف بالفرغاني سمع يزيد بن هارون،
وعلي بن عاصم. روى عنه: البغوي، وكان اسمه أحمد، ولقبه: حمدون، وهو
الغالب عليه. قال الخطيب: محله عندنا الصدق والأمانة. روى أحاديث بواطل
فالحمل فيها على غيره. توفي في محرم هذه السنة.
داود بن علي بن خلف أبو سليمان الفقيه الظاهري ولد سنة مائتين، وسمع
سليمان بن حرب، والقعنبي، ومسدداً، وغيرهم.
ورحل إلى
نيسابور، فسمع من إسحاق بن راهويه " المسند " و " التفسير " ، وكان يرد
إلى إسحاق وما كان أحد يتجاسر عليه غيره، ثم قدم بغداد فسكنها، وصنف
كتبه بها، وهو إمام أصحاب الظاهر، وكان ورعاً ناسكاً زاهداً إلا أن
مذهبه طريف يدعى الجمود على النقل، ويخالف كثيراً من الأحاديث، ويلتفت
على مفهوم الحديث إلى صورة لفظه، وفي هذا تغفيل.
وأخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت،
حدثنا عبد العزيز بن علي الوراق، حدثنا علي بن عبد الله الهمذاني قال:
حدثني أحمد بن الحسين قال: سمعت أبا عبد الله المحاملي يقول: صليت صلاة
العيد في يوم فطر في جامع المدينة، فلما انصرفت قلت في نفسي: أدخل على
داود بن علي أهنئه؟ وكان ينزل قطيعة الربيع، فجئته وقرعت عليه الباب،
فأذن لي، فدخلت عليه، وإذا بين يديه طبق فيه أوراق هندباء وعصارة فيها
نخالة، وهو يأكل، فهنأته، وتعجبت من حاله فرأيت أن جميع ما نحن فيه من
الدنيا ليس بشيء وخرجت من عنده ، فدخلت على رجل من مكثري القطيعة،
يعرف: بالجرجاني، فلما علم بمجيئي إليه خرج إلي حاسر الرأس، حافي
القدمين وقال: ما عنى القاضي أيده الله؟ قلت: مهم. قال: وما هو؟ قلت:
في جوارك داود بن علي، ومكانه من العلم ما تعلم وأنت كثير البر والرغبة
في الخير تغفل عنه، وحدثته حديثه وما رأيت منه فقال لي: داود شرس
الأخلاق، اعلم أيها القاضي! أني وجهت إليه البارحة ألف درهم مع غلامي
ليستعين بها في بعض أموره فردها مع الغلام، وقال للغلام: قل له بأي عين
رأيتني، وما الذي بلغك من حاجتي وخلتي حتى وجهت بهذا. فتعجبت من ذلك
وقلت له: هات الدراهم، فإني أحملها إليه أنا. فدعا بها ودفعها إلي
وقال: ناولني الكيس الأخير، فجاءه بكيس فوزن ألفاً أخرى فقال: تيك لنا،
وهذه لموضع القاضي وعنايته. فأخذت الألفين وجئت إلي، فقرعت بابه، فخرج
وكلمني من وراء الباب وقال: ما ورد القاضي؟ قلت: حاجة أكلمك فيها،
فدخلت وجلست ساعة، ثم أخرجت الدراهم وجعلتها بين يديه، فقال: هذا جزاء
من ائتمنك على سره إنما بأمانة العلم أدخلتك إلي، ارجع فلا حاجة لي
فيما معك.
قال المحاملي: فرجعت وقد صغرت الدنيا في عيني، ودخلت على الجرجاني
وأخبرته بما رأيت. فقال: أما أنا فقد أخرجت هذه الدراهم لله تعالى، فلا
ترجع في مالي أبداً فليتول القاضي في إخراجها في أهل الستر والعفاف من
المتجملين بالستر والصيانة على ما يراه، فقد أخرجتها من قلبي.
وأخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز أخبرنا أحمد بن علي الخطيب حدثنا
أبو طالب علي بن يحيى بن علي الدسكري، أخبرنا أبو بكر بن المقرئ قال:
سمعت علي بن حمزة. قال: سمعت أبا بكر بن داود يقول: سمعت أبي يقول خير
الكلام ما دخل الأذن بلا إذن.
قال المصنف: قدم داود بغداد فسأل صالح بن أحمد بن حنبل أن يتلطف له في
الاستئذان على أبيه، فاستأذن له، فقال أحمد: قد كتب إلي محمد بن يحيى
النيسابوري في أمره أنه زعم أن القرآن محدث فلا يقربني - وفي رواية
عنه: أنه قال الذي في اللوح المحفوظ غير مخلوق، والذي يقرأ الناس
مخلوق.
وأخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت، أخبرنا الحسن بن
أبي بكر، عن أحمد بن كامل القاضي قال: وفي رمضان سنة سبعين ومائتين مات
داود بن علي الأصبهاني، وهو أول من أظهر انتحال الظاهر، ونفي القياس في
الأحكام قولاً، واضطر إليه فعلاً، فسماه دليلاً. وفي رواية: أنه توفي
في ذي القعدة.
الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل الجيزي صاحب الشافعي مولى
مراد، يكنى: أبا محمد.
وكان فقيهاً سيداً، يروي عن عبد الله بن وهب وغيره.
توفي في شعبان هذه السنة، وصلى عليه خمارويه بن أحمد بن طولون.
زكريا بن يحيى بن أسد أبو يحيى المروزي، يعرف بزكرويه. سكن بغداد بباب
خراسان، وحدث عن سفيان بن عيينة، وأبي معاوية، ومعروف الكرخي، روى عنه
المحاملي، وابن مخلد، وأبو العباس الأصم.
وتوفي في هذه السنة.
عبد الله بن محمد بن شاكر أبو البختري العنبري سمع حسيناً الجعفي، وأبا
داود الخفري، وغيرهما. وروى عنه: ابن صاعد، وابن حاتم، وقال: هو ثقة
صدوق.
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد القزاز أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا أبو بكر
البرقاني، أخبرنا إبراهيم بن محمد المزكي، أخبرنا أبو العباس محمد بن
إسحاق السراج قال: أنشدني أبو البختري:
يمنعني من عيب غيري الذي ... أعرفه في من العيب
وكيف شغلي بسوى مهجتي ... أم كيف لا أنظر في جيبي
إن كان عيبي غاب عنهم فقد ... أحصى ذنوبي عالم الغيب
عيبي لهم بالظن مني لهم ... ولست من عيبي في ريب
لو أنني أقبل من واعظ ... إذا كفاني واعظ الشيب
توفي أبو البختري في ذي الحجة من هذه السنة.
الفضل بن العباس أبو بكر، المعروف: بفضلك الرازي سمع هدبة، وقتيبة،
وابن راهويه. حدث عنه: محمد بن مخلد، وكان ثقة ثبتاً حافظاً إمام عصره
في معرفة الحديث.
توفي ببراثا من غربي بغداد في صفر هذه السنة، ودفن هناك.
الفضل بن العباس بن موسى أبو نعيم العدوي الاسترباذي روى عن أبي نعيم
الفضل بن دكين، وأبي حذيفة النهدي، وسهل بن بكار، وسليمان بن حرب،
وغيرهم، وكان فقيهاً فاضلاً ثقة، مقبول القول عند الخاص والعام، وهو
الذي تقدم إلى أحمد بن عبد الله الطائي لما أراد أن يغير على استراباذ،
فاشترى منه البلد وأهله ستمائة ألف درهم ووزعها على الناس، ويقال: إنه
قتله محمد بن زيد العلوي، في سر، وأخفاه وذلك في هذه السنة.
محمد بن إبراهيم بن محمد بن فرخان الفرخاني. روى عنه البغوي، وغيره.
وكان فقيهاً، فاضلاً، ورعاً ، متقناً، ثبتاً، زاهداً. توفي في هذه
السنة بسمرقند وله ست وثمانون سنة.
محمد بن إسحاق، بن جعفر، وقيل: ابن إسحاق بن محمد أبو بكر الصاغاني كان
أحد الأثبات المتقنين مع صلابة في الدين، واشتهار بالسنة، واتساع في
الرواية، ورحل في طلب العلم إلى البلاد، وسمع من يعلى بن عبيد
الطنافسي، ويزيد بن هارون، وروح، وخلق كثير. روى عنه: ابن أبي الدنيا،
والنسائي، وابن خزيمة.
وقال الدارقطني: كان ثقة فوق الثقة.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي الحافظ، أخبرنا محمد بن عبد الواحد
بن محمد البزاز، حدثنا محمد بن العباس الخزاز قال: قرئ على أبي الحسين
بن المنادي: مات الصاغاني لسبع خلون من صفر سنة سبعين ومائتين يوم
الخميس.
محمد بن الحسين بن المبارك أبو جعفر، يعرف بالأعرابي. سمع أسود بن
عامر، ويونس بن محمد، وغيرهما. روى عنه: ابن صاعد، وغيره. وكان ثقة
كثير السماع توفي له ولد نفيس يحفظ الحديث فتغير لذلك إلى أن مات لعشر
بقين من رمضان هذه السنة.
مصعب بن أحمد بن مصعب أبو أحمد القلانسي بغدادي المولد والمنشأ، أصله
من مرو، وهو من زهاد المتصوفة من قران الجنيد، ورويم، وإليه ينتمي أبو
سعيد ابن الأعرابي.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا
أبو نعيم الحافظ قال: أخبرني جعفر الخالدي في كتابه قال: قال لي أبو
أحمد القلانسي: فرق رجل من الفقراء ببغداد أربعين ألف درهم، فقال لي
سمنون: يا أبا أحمد، ما ترى ما أنفق هذا وما قد عمله ونحن ما نرجع إلى
شيء ننفقه، فامض بنا إلى موضع نصلي فيه بكل درهم ركعة. قال: فذهبنا إلى
المدائن، فصلينا أربعين ألف ركعة وزرنا قبر سلمان وانصرفنا.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي، حدثنا عبد العزيز بن
علي الخياط، حدثنا علي بن عبد الله الهمذاني قال: حدثني عبد السلام بن
محمد بن أبي موسى قال: حدثني أحمد بن محمد الزيادي قال: كان سبب تزويج
أبي أحمد القلانسي بعد تفرده ولزومه المساجد والصحارى أنه كان يصحبه
شاب يعرف بمحمد الغلام، وهو محمد بن يعقوب المالكي، وكان حدث السن،
فقال: أنا أحب أن أتزوج، فسأل أبا أحمد بريهة أن يطلب له زوجة. قال:
فكلمت إنساناً يقال له ابن المطبخي من النساك في بنت له، فأجاب،
واتعدوا منزل بريهة ليعقد أبو أحمد النكاح، ومعنا رويم، والقطيعي،
وجماعة، فحضر أبو الصبية، فلما عزموا على النكاح جزع محمد الغلام وقال:
قد بدا لي. فغضب أبو أحمد، وقال:
تخطب إلى
رجل كريمته، ثم تأبى؟ لا يتزوجها غيري، فتزوجها في ذلك اليوم، فلما
عقدنا النكاح قام أبوها فقبل رأس أبي أحمد، وقال: ما كنت أطن أن قدري
عند الله عز وجل أن أصاهرك، ولا قدر ابنتي أن تكون أنت زوجها. وكانت
عنده حتى مات عنها.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي ، أخبرنا إسماعيل بن
أحمد الحيري، أخبرنا محمد بن الحسين السلمي قال: حج أبو أحمد سنة سبعين
ومائتين فمات بمكة بعد انصراف الحاج بقليل، ودفن بأجياد عند الهدف.
ثم دخلت
سنة إحدى وسبعين ومائتين
فمن الحوادث فيها: ورود الخبر في غرة صفر بدخول محمد وعلي ابني الحسن
بن جعفر بن موسى بن محمد بن علي بن الحسين المدينة، وقتلهما جماعة من
أهلها، ومطالبتهما أهلها بمال، وأن أهل المدينة لم يصلوا في مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم أربع جمع لا جمعة فيها جماعة.
ولثمان بقين من شعبان: شخص صاعد من عسكر أبي أحمد بواسط إلى فارس لحرب
عمرو بن الليث.
ولعشر خلون من رمضان: عقد لأحمد بن محمد الطائي على المدينة وطريق مكة.
وفي سادس عشر شوال: كانت وقعة بين أبي العباس وبين خمارويه بن أحمد بن
طولون، فهزمه أبو العباس، فخرج خمارويه هارباً على حمار ووقع أصحاب أبي
العباس في النهب، ونزل أبو العباس في مضرب خمارويه، وهو لا يرى إنه بقي
له طالب، فخرج كمين لخمارويه كان أكمنه لهم فشد على أصحاب أبي العباس،
فانهزموا وذهب ما كان في العسكرين بالنهب. ولأربع بقين من شوال: دخل
على المعتمد جماعة من حجاج خراسان، فأعلمهم أنه قد عزل عمروبن الليث
عما كان قلده ولعنه بحضرتهم، وأعلمه أنه قد قلد خراسان محمد بن طاهر،
وأمر بلعن عمرو على المنابر فلعن.
وفي هذه السنة: وثب يوسف بن أبي الساج وكان والي مكة على غلام الطائي
يقال له: بدر، خرج على الحاج فقيده، فحارب بن أبي الساج أصحاب بدر،
وأعانهم الحاج حتى استنقذوا غلام الطائي، وأسروا بن أبي الساج فقيدوه،
وحمل إلى بغداد، وكانت الحرب بينهم على أبواب المسجد الحرام.
أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن
المحسن التنوخي، عن أبيه قال: حدثني أبو السري عمر بن محمد القاري قال:
حدثني أبو بكر الآدمي قال: لما دخل مؤنس أبا القاسم بن أبي الساج
أسيراً خرجت إلى تلقيه على فراسخ، ودخلت بغداد معه، فقال لي لما قربنا:
إذا كان غداً فإني سأركب ابن أبي الساج وأشهره فأركب بين يديه، واقرأ،
فقلت: السمع والطاعة.
فلما كان من الغد شهر بن أبي الساج ببرنس، فبدأت فقرأت " وكذلك أخذ ربك
إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد " وأتبعتها بكل ما في
القرآن من هذا الجنس قال: وحانت مني التفاتة، فرأيت ابن أبي الساج
يبكي. ومضى ذلك اليوم، فلما كان بعد أيام رضي عنه السلطان بشفاعة مؤنس،
فأطلقه إلى داره، فأنا كنت يوماً بحضرة مؤنس أقرأ، إذ استدعاني وقال
لي: قد طلبك اليوم ابن أبي الساج، فامض إليه. فقلت له: أيها الأستاذ
الله الله في لعله وجد في نفسه من قراءتي ذلك اليوم. فضحك وقال: امض
إليه. فمضيت إليه، فرفعني وأجلسني وقال: أحب أن تقرأ تلك الآيات التي
قرأتها بين يدي يوم كذا. فقلت: أيها الأمير، تلك حالة اقتضت ذلك،وليس
مثلك بآخذ مثلي عليها، وقد كشفها الله الآن، ولكن أقرأ لك غيرها. قال:
لا إلا تلك، فإنه تداخلني لها خشوع وخوف أحب أن أكسر بها نفسي، فردد
سماعها علي قال: فاستفتحت فقرأتها له، فما زال يبكي وينتحب إلى أن قطعت
القراءة، ثم قال: تقدم إلي قال: فخفته والله أن يبطش بي ثم قلت في نفسي
: هذا محال، فتقدمت فأخرج من تحت مصلاه دنانير كثيرة وقال: افتح فاك.
ففتحته بكل ما استطعته، فما زال يملأه حتى لم يبق في فمي موضع، ثم قال
للغلام: هات. فجاء بكيس فيه ألفا درهم فجعلها في كمي، ثم خرجت فقدمت
إلي بغلة فارهة مسرجة، فحملت عليها وأصحبني ثياباً وقال: إذا شئت فعد
إلينا ولا تنقطع عنا ما دمنا مقيمين، فكنت أجيئه في كل أسبوع أقرأ في
داره فيعطيني في كل شهر مائة دينار، إلى أن خرج من مدينة السلام.
وفيها:
وثب العامة على النصارى، وخربوا الدير العتيق الذي وراء نهر عيسى،
وانتهبوا كل ما كان فيه من متاع، وقلعوا الأبواب والخشب، وهدموا بعض
حيطانه وسقوفه، ونبشوا الموتى، فصار إليهم الحسين بن إسماعيل صاحب شرطة
بغداد من قبل محمد بن طاهر، فمنعهم من هدم ما بقي منه، وكان يتردد إليه
أياماً والعامة تجتمع في تلك الأيام حتى كاد يكون بينهم قتال، ثم بنى
ما كانت العامة هدمته، وكانت إعادة بنائه فيما ذكر بقوة عبدون بن مخلد
النصراني أخي صاعد بن مخلد.
وفي ذي القعدة: قدم المعتمد إلى بغداد، فصلى بالناس في المصلى صلاة
الأضحى، وراءه الناس، وعليه البردة، وذلك يوم السبت.
وحج بالناس في هذه السنة: هارون بن محمد بن إسحاق.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
بوران بنت الحسن بن سهل وكان لها الفطنة والذكاء، تزوجها المأمون، وقد
ذكرنا ذلك في تلك الحوادث. وتوفيت في ربيع الأول من هذه السنة، وقد
بلغت ثمانين سنة.
حمدون بن أحمد بن عمارة أبو صالح القصار. صحب أبا تراب النخشبي وغيره.
أخبرنا محمد بن القاسم، أخبرنا أحمد بن أحمد، أخبرنا أبو نعيم
الأصبهاني قال: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن أحمد الفراء
يقول: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: سفه رجل على حمدون فسكت حمدون،
ثم قال: يا أخي! لو نقصتني كل شيء ما نقصتني كنقصي عندي. ثم قال: سفه
رجل على إسحاق الحنظلي فاحتمله، وقال: لأي شيء تعلمن العلم؟ أخبرنا ابن
ناصر، أخبرنا أحمد بن علي بن خلف، أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال:
سمعت محمد بن أحمد الفراء يقول: سمعت عبد الله بن الحجام يقول: قال
حمدون: إذا رأيت سكران فتمايل لئلا تبغي عليه فتبتلى بمثل ذلك.
قال السلمي: وكان أبو صالح حمدون يميل إلى مذهب سفيان الثوري، وكتب
الحديث يذهب مذهب الملامة، وكان أستاذ الجماعة فيه.
توفي حمدون في هذه السنة بنيسابور، ودفن في مقبرة الحيرة.
سهل بن مهران بن سهل أبو بشر الدقاق. نزل نيسابور، وحدث بها عن أبي عبد
الرحمن المقرئ وعاصم بن علي وكان ثقة وتوفي في هذه السنة.
عبد الله بن محمد بن حبيب أبو رفاعة العدوي البصري حدث عن إبراهيم بن
بشار الرمادي. روى عنه: عبد الله بن محمد بن ناجية، وكان ثقة، ولي
القضاء، وتوفي بشمشاط في هذه السنة.
علي بن سهل بن المغيرة أبو حسن البزاز سمع شجاع بن الوليد، وأبا
النعيم، وعفان بن مسلم. روى عنه: أبو الحسين بن المنادي، وكان صدوقاً.
وتوفي في هذه السنة وقيل: في سنة سبعين.
العباس بن محمد بن حاتم بن واقد أبو الفضل الدوري. مولى بني هاشم، ولد
سنة خمس وثمانين ومائة. سمع شبابة، وأبا النضر، وعفان بن مسلم، ويحيى
بن معين. روى عنه: عبد الله بن أحمد، وجعفر الفريابي، والبغوي، وابن
صاعد، وكان ثقة.
توفي في صفر في هذه السنة، وقد بلغ ثماني وثمانين سنة.
محمد بن حماد أبو عبد الله الطهراني سمع عبد الرزاق وغيره، وكان
جوالاً، حدث بالري، وبغداد، والشام. روى عنه: ابن أبي الدنيا، وغيره.
وهو صدوق ثقة.
توفي بعسقلان ليلة الجمعة لثمان بقين من ربيع الآخر من هذه السنة.
محمد بن صالح بن عبد الرحمن أبو بكر الأنماطي، ويعرف بكيلجة سمع عفان
بن مسلم، وتوفي في هذه السنة، وقيل: سنة اثنتين، والأول أصح.
محمد بن يعقوب بن الفرج أبو جعفر، المعروف بابن الفرخي كان من أبناء
الدنيا، وكان له مال كثير، فأنفق الكل في طلب العلم، وعلى الفقراء،
وكان له موضع من العلم والفقه ومعرفة الحديث، لزم علي بن المديني،
فأكثر عنه، وصحب أبا تراب النخشبي، وذا النون المصري ونحوهما، وكان يعظ
في جامع الرملة.
أخبرنا أبو بكر بن محمد بن عبد الله بن حبيب، أخبرنا أبو سعد علي بن
عبد الله بن أبي صادق، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن باكويه
قال: سمعت أبا عمر تلميذ الرقي يقول: سمعت محمد بن داود الدينوري يقول:
سمعت بنان بن أحمد المصري يقول: قدم ابن الفرخي إلي فقصدته، فإذ هو في
بيت مملوء كتباً فقلت له: رحمك الله اختصر لي من هذه الكتب كلمتين
أنتفع بهما. فقال لي: ليكن همك مجموعاً فيما يرضي الله، فإن اعترض عليك
شيء فتب من وقتك.
مطروح بن
محمد بن شاكر أبو نصر القضاعي ولد سنة تسعين ومائة، وكان ثقة. توفي في
هذه السنة بالأسكندرية.
يعقوب بن إسحاق بن زياد أبو يوسف البصري، المعروف بالفلوسي. سمع أبا
عاصم النبيل، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وكان حافظاً ثقة، ضابطاً،
ولي قضاء نصيبين، فخرج إليها ودخل بغداد في طريقه، وحدث بها، فروى عنه
ابن أبي الدنيا، وابن أبي داود، والمحاملي، وابن مخلد.
وتوفي بنصيبين في جمادى الأولى من هذه السنة.
ثم دخلت
سنة اثنتين وسبعين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن العامة تجمعوا في ربيع الأخر فهدموا ما كان بني
من البيعة التي ذكرنا خرابهم إياها في السنة الخالية، وانتهبوا مالاً
عظيماً منها؛ لأنهم أنكروا عليهم ركوب الدواب.
وورد الخبر في جمادى الآخرة أن مصر زلزلت زلزالاً أخربت الدور ومسجد
الجامع، وأنه أحصي بها في يوم واحد ألف جنازة.
وفيها: تحركت الزنج بواسط، وكان رؤساؤهم في حبس ابن طاهر، فقتل رؤساؤهم
وصلبوا.
وفيها: قدم المعتمد بغداد لخمس بقين من شوال، فنزل الزعفرانية ومحمد بن
عبد الله بن طاهر بين يديه بالحربة. وحج بالناس في هذه السنة هارون بن
محمد الهاشمي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين المصري، يكنى أبا جعفر كان أحد حفاظ
الحديث، وأهل الصنعة.
توفي ليلة الأربعاء، ودفن يوم عاشوراء من هذه السنة.
إبراهيم بن سليمان بن داود الأسدي أسد خزيمة يكنى أبا إسحاق ويعرف بابن
أبي داود البرلسي لأنه كان لزم البرلس ماحوزا من مواحيز مصر. ولد بصور،
وأبوه أبو داود: كوفي، وكان ثقة من حفاظ الحديث، توفي بمصر في شعبان
هذه السنة.
إبراهيم بن الوليد بن أيوب أبو إسحاق الجشاس سمع أبا نعيم، والقعنبي،
وعفان، وغيرهم، وكان ثقة.
توفي في محرم هذه السنة.
جعفر بن محمد بن عامر أبو الفضل البزاز من أهل سر من رأى، حدث عن أبي
نعيم، وقبيصة، وعفان. وروى عنه: ابن صاعد، وابن أبي داود، وغيرهما،
وكان أحد الشهود المعدلين. قال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي، وهو
صدوق، غرق بطريق البصرة في هذه السنة.
الحسن بن إسحاق بن يزيد أبو علي العطار حدث عن زيد بن الحباب، وقبيصة،
وأبي نعيم، وغيرهم. روى عنه: ابن مخلد، وأبو العباس الأصم، وغيرهما.
وكان ثقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب أخبرنا
أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم،
حدثنا الحسن بن إسحاق العطار قال: سمعت عبد الرحمن بن هارون يقول: كنا
في البحر سائرين إلى إفريقية، فركدت علينا الريح، فأرسينا إلى موضع
يقال له البرطون وكان معنا صبي صقلي يقال له: أيمن، وكان معه شص يصطاد
به السمك. قال: فاصطاد سمكة نحواً من شبر أو أقل. قال: وكان على صنيفة
أذنها اليمنى مكتوب " لا إله إلا الله " وعلى قذلها، وعلى صنيفة أذنها
اليسرى مكتوب: " محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " . قال: وكان أبين
من نقش على حجر، وكانت السمكة بيضاء، والكتابة سوداء، كأنه كتب بحبر
قال: فقذفناها في البحر، ومنع الناس أن يصيدوا من ذلك الموضع حتى
أوغلنا.
توفي أبو علي العطار في صفر في هذه السنة.
سليمان بن وهب. توفي في الحبس في صفر هذه السنة، فرثاه العبشمي فقال:
كأن الأرض لما قيل أودى ... سليمان بن وهب بي تميد
أبا أيوب كنت لنا غياثاً ... وركناً إن عدا دهر شديد
فلو قبلت منيته بديلاً ... لأعطينا المنية ما تريد
لأن عطلت دواوين المعالي ... وأضحت لا يعد لها عديد
لقد أبقى محاسن خالدات ... تبيد الراسيات ولاتبيد
عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن لاحق البزاز سمع يزيد بن هارون، وروح
بن عبادة، وسعيد بن منصور. روى عنه: ابن صاعد، وأبو عمر القاضي، وكان
ثقة. توفي في جمادى الأولى من هذه السنة.
علي بن داود أبو الحسين التميمي القنطري سمع نعيم بن حماد، وغيره. روى
عنه: الحربي، والبغوي، وأبو الحسين بن المنادي. وكان ثقة. توفي في ذي
الحجة من هذه السنة.
العلاء بن
صاعد، أبو عيسى. كان يتعاطى النجوم، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في
المنام. قال: فجئته عن يمينه، فقلت: يا رسول الله، ادع الله بأن يهب لي
العافية. فأعرض عني فدرت عن شماله فقلت مثل ما قلت، فأعرض عني، فجئته
مواجهاً له، فقلت له مثل ما قلت، فقال: لا أفعل، قلت: ولم يا رسول
الله؟ قال: لأن الواحد منكم يقول: علني المريخ وأبراني المشتري حمل
العلاء إلى دار الموفق في محفة فحبس، فقال عند حملة ثلاثة عشر يوماً
أخلص أخرج من الحبس وأعود إلى منزلي.
فتوفي بالحبس بعد ثلاثة عشر يوماً، وأخرج ميتاً.
محمد بن عبد الوهاب بن حبيب بن مهران أبو أحمد العبدي جمع الحديث
والفقه والأدب والثروة، وروى عن خلق كثير منهم: يحيى بن يحيى، وإسماعيل
بن أبي أويس، والواقدي، والأصمعي، وعفان، والقعنبي، وأبو عبيد وغيرهم.
وأخذ الأدب عن الأصمعي، وابن الأعرابي، وأبي عبيد، والحديث عن أحمد بن
حنبل، ويحيى بن المديني. والفقه عن أبيه، وكان يفتي في هذه العلوم وكان
ثقة وتوفي في هذه السنة.
محمد بن أبي داود واسم أبي داود، عبيد الله بن يزيد أبو جعفر المنادي.
سمع شجاع بن الوليد، وحفص بن غياث، ويزيد بن هارون، وغيرهم. روى عنه:
البخاري، وأبو داود، والبغوي، وغيرهم وكان صدوقاً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا محمد بن علي بن ثابت، أخبرنا محمد
بن عبد الواحد، حدثنا محمد بن العباس قال: قرئ على ابن المنادي وأنا
أسمع قال: توفي جدي أبو جعفر محمد بن عبيد الله المنادي ليلة الثلاثاء
في السحر، ودفن يوم الثلاثاء لثلاث بقين من شهر رمضان سنة اثنتين
وسبعين ومائتين، وصام فيما قال لنا: اثنين وتسعين رمضاناً واثني عشر
يوماً من الشهر الذي مات فيه، وله حينئذ مائة سنة وسنة واحدة، وأربعة
أشهر، واثنا عشر يوماً من الشهر الذي مات فيه لأنه ولد فيما قال لنا:
للنصف من جمادى الأولى سنة إحدى وسبعين ومائة. قال: وكان أحمد بن حنبل
أكبر مني بسبع سنين، وكان يحيى بن معين أكبر مني بسبع سنين.
يعقوب بن سواك بن يوسف الختلي. سكن بغداد، وصحب بشر بن الحارث، ولما
احتضر قال له ابنه محمد: يا أبت! إذا قضيت نحبك أدفنك عند أخيك بشر؟
فقال: إذا مت فادفني عند أبي وأمي، فإني أحب أن يجمعنا الله في القيامة
فسيجمعنا. قال: قلت: يا أبت فأكفر عنك بشيء. قال: لا، فإني ما حلفت
بالله عز وجل على حق ولا على باطل.
توفي في هذه السنة وقيل في سنة ثمان وسبعين.
ثم دخلت
سنة ثلاث وسبعين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن ثلاثة بنين كانوا لطاغية الروم وثبوا عليه فقتلوه
وملكوا أحدهم.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمي، وهذه السنة العاشرة من
حجه بالناس، ولم يحج بالناس بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عشر سنين
متتابعة سواه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أبو إبراهيم الزهري سمع
علي بن الجعد، وعلي بن يحيى، وغيرهما. روى عنه: البغوي، وابن صاعد،
والمحاملي، وابن المنادي، وغيرهم، وكان مذكوراً بالعلم والفضل، موصوفاً
بالصلاح والزهد، ومن أهل بيت كلهم علماء محدثون.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن ثابت،
أخبرنا أحمد بن عمر بن روح، أخبرنا عبيد الله بن عبد الرحمن الزهري
قال: سمعت أبي يقول: مضى عمي يعني أبا إبراهيم الزهري - إلى أحمد بن
حنبل يسلم عليه، فلما رآه قام إليه قائماً وأكرمه، فلما مضى قال له
ابنه عبد الله: يا أبت! أبو إبراهيم شاب، وتعمل به هذا العمل، وتقوم
إليه؟ فقال له: يا بني! لا تعارضني في مثل هذا إلا أقوم إلى ابن عبد
الرحمن بن عوف؟.
توفي أبو إبراهيم في محرم هذه السنة، وقد بلغ خمساً وسبعين سنة، ودفن
في مقبرة التبانين.
حنبل بن إسحاق بن حنبل بن هلال بن أسد أبو علي الشيباني ابن عم أحمد بن
حنبل. سمع أبا نعيم، وعاصم بن علي، وعارم بن الفضل، ومسدداً، والحميدي،
وابن المديني، وخلقاً كثيراً، وله كتاب مصنف في التاريخ. روى عنه:
البغوي، وابن صاعد، وكان ثقة ثبتاً صدوقاً.
خرج إلى واسط، وتوفي بها في جمادى الأولى من هذه السنة.
الفتح بن شحرف
بن داود
بن مزاحم، أبو نصر الكشي حدث عن رجاء بن مرجي، وأبي بكر بن زنجويه،
وغيرهما. روى عنه: أبو عمرو ابن السماك، والنجاد، وكان من كبار الزهاد
المتورعين. وقال أحمد بن حنبل: ما أخرجت خراسان مثل فتح بن شخرف.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا
إبراهيم بن عمر البرمكي، أخبرنا أبو الفضل الزهري قال: سمعت أبا الطيب
المعلم يقول: رأيت رب العزة تعالى في النوم فقال لي: يا فتح! احذر لا
آخذك على غرة. قال: فتهت في الجبال سبع سنين.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا الأزهري، حدثنا
عبيد الله بن إبراهيم القزاز، حدثنا جعفر بن محمد الخواص، حدثنا أبو
محمد الجريري قال: قال لي فتح بن شخرف: من إعجابي بكل شيء جيد عندي قلم
كتبت به أربعين سنة، كنت أكتب به بالنهار وبالليل، وكانت دارنا واسعة
فكنت أكتب به في القمر حتى يرتفع، وأقعد على سلم في دارنا أرتقي عليه
مرقاة مرقاة، حتى ينتهي السلم، فإذا تشعث رأس القلم قططته وهو عندي.
فأخرج إلي أنبوبة صفر وأخرج القلم منها فأرانيه.
توفي فتح بن شخرف في شوال هذه السنة، وقبره ظاهر في مقبرة أحمد بن
حنبل، وصلى عليه ثلاثاً وثلاثين مرة، وأقل قوم كانوا يصلون عليه خمسة
وعشرون ألفاً. وكان يقول في حياته: أعرف رجلاً على عضو من أعضائه مكتوب
" لله وإليه " ما كتبها كاتب. فلما مات رآها غاسله.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت، أخبرنا أحمد بن علي
التوزي، حدثنا الحسن بن الحسين الفقيه قال: سمعت جعفر الخلدي يقول:
سمعت أبا محمد الحريري يقول: غسلت الفتح بن شخرف فقلبته على يمينه،
فإذا على فخذه الأيمن مكتوب: " خلقه الله " كتابة بينة.
محمد بن يزيد، أبو عبد الله بن ماجة مولى ربيعة.
ولد سنة تسع ومائتين، ورحل إلى مكة، والبصرة، والكوفة، وبغداد، والشام،
ومصر، والري، وسمع الكثير، وصنف: السنن، والتاريخ، والتفسير، وكان
عارفاً بهذا الشأن. توفي في يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين
من رمضان هذه السنة، وهو ابن أربع وستين سنة.
محمد بن أحمد بن رزين، أبو عبد الله.
حدث عن شبابة سوار، وعلي بن عاصم، ويزيد بن هارون، وغيرهم. ومات في هذه
السنة.
محمد بن إبراهيم بن مسلم بن مسلم، أبو أمية.
بغدادي سكن طرسوس، فقيل له: الطرسوسي، وكان من أهل الرحلة في طلب
الحديث، وكان له فيه حسن فهم، سمع عمر بن يونس اليمامي، ويعقوب بن
إسحاق الحضرمي، وأبا عاصم النبيل، وأبا نعيم، وقبيصة، وغيرهم. روى عنه:
أبو حاتم الرازي، ووكيع القاضي، وابن صاعد، والمحاملي، وغيرهم. وكان
أبو داود السجستاني يقول: أبو أمية ثقة. وقال أبو بكر الخلال: كان
رجلاً رفيع القدر جداً، إماماً في الحديث، مقدماً في زمانه، توفي
بطرسوس في جمادى الآخرة من هذه السنة.
- محمد بن أبي عمران، أبو زيد الأستراباذي، كنيته أبو يزيد.
كان فاضلاً، خيراً، ورعاً ثقة، ولما جاءت الديالمة إلى استراباذ باع
أبو يزيد هذا أملاكه باستراباذ وتحول منها إلى نيسابور، وقال: قد اختلط
القوت واشتبه، فأقام فيها إلى أن مات في هذه السنة.
- أبو يعقوب الشريطي، البصري الصوفي.
كان عالماً بالحديث، حافظاً لعلوم جمة، وصحب أبا تراب النخشبي، وكان
معظماً عند الناس.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أجاز لنا أبو
العباس أحمد بن محمد بن زكريا النسوي قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن
عطاء الروذباري قال: حدثنا محمد بن إسحاق الكثيري قال: قال أبو سعيد
الزبادي: دخل أبو يعقوب الشريطي - وكان من أهل البصرة - مجلس داود
الأصبهاني وعليه خرقتان، فتصدر لنفسه من غير أن يرفعه أحد، وجلس إلى
جنب داود، فقال داود: سل يا فتى! فقال أبو يعقوب: يسأل الشيخ عما أحب.
فحرد داود فقال: عما أسألك؟ عن الحجامة أسألك؟ قال: فبرك أبو يعقوب، ثم
روى طرق أفطر الحاجم والمحجوم ومن أرسله، ومن أسنده، ومن وقفه، ومن ذهب
إليه من الفقهاء، وروى اختلاف طرق: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم
وأعطى الحجام أجره، ولو كان حراماً لم يعطه، ثم روى طرق: " أن النبي
صلى الله عليه وسلم احتجم بقرن " ، وذكر أحاديث صحيحة في الحجامة، ثم
ذكر الأحاديث المتوسطة، مثل قوله:
" ما مررت
بملأ من الملائكة " ، ومثل: شفاء أمتي وما أشبه ذلك، وذكر أحاديث ضعيفة
مثل قوله: " ولا يحتجم يوم كذا ولا ساعة كذا " ثم ذكر ما ذهب إليه أهل
الطب من الحجامة في كل زمان، وذكر ما ذكره الأطباء في الحجامة، ثم قال
في آخر كلامه وأول ما خرجت الحجامة من أصبهان. فقال داود والله لا حقرت
أحداً بعدك.
ثم دخلت
سنة أربع وسبعين ومائتين
فمن الحوادث فيها: شخوص أبي أحمد لحرب عمرو بن الليث في ربيع الأول.
وفيها: غزا يازمان في رمضان وأسر، وغنم، وسلم.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن أحمد بن يحيى بن الأصم، أبو إسحاق سمع من حرملة بن يحيى،
وغيره، وكان حافظاً فاضلاً، توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة.
إسحاق بن إبراهيم بن زياد أبو يعقوب المقرئ حدث عن هدبة بن خالد، روى
عنه: ابن خالد.
توفي في ربيع الأول من هذه السنة.
أيوب بن سليمان بن داود المعروف بالصغدي حدث عن أبي اليمان الحكم بن
نافع، وآدم بن أبي إياس وعلي بن المجعد، وغيرهم. روى عنه: ابن صاعد،
وأبو عمر بن السماك، وكان ثقة.
توفي في رمضان هذه السنة.
الحسن بن مكرم بن حسان أبو علي البزاز ولد سنة أثنين وثمانين ومائة،
وسمع علي بن عاصم، وأبا النضر هاشم بن القاسم، ويزيد بن هارون، وشبابة
بن سوار، وعفان بن مسلم روى عنه: المحاملي، وابن مخلد، والنجاد، وكان
ثقة.
توفي في رمضان هذه السنة وقد بلغ ثلاثاً وتسعين سنة.
خلف بن محمد بن عيسى أبو الحسن الواسطي، الملقب: بكردوس. قدم بغداد،
وحدث عن يزيد بن هارون، وروح، وعاصم بن علي. روى عنه: المحاملي، وابن
مخلد. قال ابن أبي حاتم: وهو الصدوق، وقال الدارقطني: ثقة.
توفي بواسط في ذي الحجة من هذه السنة، وقد نيف على الثمانين.
عبد الله بن روح بن عبد الله أبو محمد المدائني، المعروف بعبدوس سمع
يزيد بن هارون، وشبابه. وروى عنه: المحاملي، وابن السماك، وكان ثقة
صدوقاً.
توفي بالمدائن في جمادى الآخرة من هذه السنة.
عبد الله بن أبي سعد أبو محمد الوراق وهو عبد الله بن عمرو بن عبد
الرحمن هلال الأنصاري.
بلخي الأصل، ولد سنة تسع وتسعين ومائة، وسكن بغداد ، وحدث بهاعن عفان،
وسريج بن يونس، وعلي بن الجعد، وغيرهم. وروى عنه: ابن أبي الدنيا،
والبغوي، وابن المرزبان، والكوكبي، والمحاملي. وكان ثقة صاحب أخبار
وآداب وملح.
توفي بواسط في جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن بالجانب الشرقي من
واسط، وقد بلغ سبعاً وسبعين سنة.
محمد بن إسماعيل بن زياد أبو عبد الله وقيل أبو بكر الدولابي سمع أبا
النضر الهاشم بن القاسم، وأبا مسهر، وغيرهم، وروى عنه محمد بن مخلد،
وأبو الحسين بن المنادي، وكنيناه: أبا عبد الله. وحدث عنه أبو بكر محمد
بن عبد الملك التاريخي، وأبو عمرو بن السماك: وكنياه أبا بكر. وكان
ثقة.
توفي في هذه السنة.
ثم دخلت
سنة خمس وسبعين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن يازمان غزا في البحر، فأخذ للروم أربعة مراكب.
وفيها: حبس أبو أحمد ابنه أبا العباس، فشغب أصحابه، وحملوا السلاح،
وركب غلمانه، واضطربت بغداد لذاك، فركب أبو أحمد حتى بلغ الرصافة، وقال
لأصحاب أبي العباس وغلمانه: ما شأنكم، أترونكم أسفق على ابني مني؟ هو
ولدي وقد احتجت إلى تقويمه. فانصرفوا وكان ذلك في يوم الثلاثاء لست
خلون من شوال.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمي.
؟ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن محمد بن الحجاج أبو بكر المروزي صاحب الإمام أحمد. كانت أمه
مروزية، وأبوه خوارزمياً، وكان أحمد يقدمه على جمي أصحابه، ويأنس به،
ويبسط إليه إذا بعثه في حاجة ويقول له: قل فما قلت فهو على لساني وأنا
قلته. وهو الذي تولى إغماض أحمد وغسله، ونقل عنه مسائل كثيرة.
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، أنبأنا إبراهيم بن عمر البرمكي، عن عبد
العزيز بن جعفر قال: سمعت الخلال يقول:
خرج أبو
بكر المروزي إلى العدو، فشيعه الناس إلى سامراء، فجعل يردهم ولا
يرجعون، فحزروا، فإذا هم بسامراء سوى من رجع نحو خمسين ألف إنسان،
فقيل: يا أبا بكر! أحمد الله، فهذا علم قد نشر لك. فبكىثم قال: ليس هذا
العلم لي إنما هذا علم أحمد بن حنبل.
توفي أبو بكر لست خلون من جمادى الأولى من هذه السنة ودفن قريباً من
قبر أحمد بن حنبل ورئي أحمد بن حنبل في المنام وهو راكب، فقيل له: إلى
أين؟ فقال: إلى شجرة طوبى، نلحق أبا بكر المروزي.
أحمد بن محمد بن غالب بن خالد بن مرداس، أبو عبد الله الباهلي البصري،
المعروف بغلام الخليل. سكن بغداد، وحدث عن قرة بن حبيب، وشيبان بن
فروخ، والشاذكوني، وغيرهم روى عنه: محمد بن مخلد، وأبو عمرو بن السماك،
وأحمد بن كامل القاضي.
وسئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: روى أحاديث مناكير عن شيوخ مجهولة، ولم
يكن محله عندي ممن يفتعل الحديث كان رجلاً صالحاً.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال:
حدثني الحسن بن علي التميمي قال: قرأت على محمد بن الحسين القطان، عن
أبي بكر محمد بن الحسن بن زياد المقرئ قال: قال أبو جعفر بن الشعيري:
لما حدث غلام الخليل عن بكر بن عيسى، عن أبي عوانة عن أبي مالك
الأشجعي، عن أبيه قلت: يا أبا عبد الله، هذا الرجل حدث عنه إبراهيم بن
عرعرة، وأحمد بن حنبل، وهو قديم الوفاة، ولم تلحقه أنت ولا من في سنك،
ففكر في هذا. قال: ثم خفته فقلت: أحسبك سمعت من رجل يقال له بكر بن
عيسى غير بكر بن عيسى هذا. فسكت وافترقنا، فلما كان من الغد قال: يا
أبا جعفر، علمت أني نظرت البارحة فيمن سمعت منه بالبصرة يقال له بكر بن
عيسى، فوجدتهم ستين رجلاً.
أخبرنا عبد الرحمن، اخبرنا ابن ثابت قال: حدثني أحمد بن سليمان بن علي
المقرئ، أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد الماليني، أخبرنا عبيد الله بن
عدي الحافظ قال: سمعت أبا عبد الله النهاوندي في مجلس أبي عروبة يقول:
قلت لغلام الخليل: هذه الأحاديث الرقائق التي تحدث بها. قال: وضعناها
لنرق بها قلوب العامة.
وكان أبو داود السجستاني يكذب غلام خليل، ويقول: أخشى أن يكون دجال
بغداد. وقد عرض علي من حديثه فنظرت في أربعمائة حديثاً سنيدها ومتونها
كذب كلها. قال الدار قطني: غلام خليل متروك.
أخبرنا أبو المنصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، أخبرنا
الحسن بن أبي بكر، عن أحمد بن كامل القاضي قال: سنة خمس وسبعين ومائتين
توفي أبو عبد الله أحمد بن محمد غلام الخليل، في رجب، وحمل في تابوت
إلى البصرة وغلقت أسواق مدينة السلام وخرج النساء والصبيان للصلاة
عليه، ودفن بالبصرة، وبنيت عليه قبة وكان فصيحاً يحفظ علماً كثيراً
ويقتات الباقي صرفاً.
أخبرنا أبو المنصور، أخبرنا الخطيب، أخبرنا محمد بن عبد الواحد، حدثنا
محمد بن العباس قال: قال أبو الحسين بن المنادي: توفي غلام الخليل في
رجب، وصلي عليه في الدار التي كان ينزلها وحمل في تابوت فأحدر إلى
البصرة، وأكثر من صلى عليه، إنما صلى على شاطئ دجلة، وانحدر الناس
ركباناً ومشاة، وفي الزواريق إلى كلواذى، ودونها، وأسفل منها، ودفن
بالبصرة.
إسحاق بن إبراهيم بن هانئ أبو يعقوب النيسابوري كان له اختصاص بأحمد بن
حنبل، وعنده أقام أحمد مدة عند اختفائه، وحدث عنه بقطعة من مسائله،
وكان صالحاً.
توفي في هذه السنة.
جعفر بن محمد بن القعقاع أبو محمد البغوي سكن سر من رأى، وحدث بها عن
سعيد بن منصور، وغيره. وروى عنه: البغوي، وغيره وكان ثقة. توفي في
رمضان هذه السنة.
الحسن بن جعفر بن محمد بن الوضاح أبو سعيد السمسار الحربي المعروف
بالحرفي حدث عن جعفر الفريابي، وغيره. وروى عنه: التنوخي.
وتوفي في رجب هذه السنة. قال العتيقي: كان فيه تساهل.
الحسن بن الحسين بن عبد الله بن عبد الرحمن بن العلاء بن أبي صفرة أبو
سعيد السكري النحوي ولد سنة اثنتي عشرة ومائتين، وسمع يحي بن معين،
وأبا حاتم، والرياشي، ومحمد بن حبيب، وعمر بن شبة، وغيرهم، وكان ثقة
ديناً صالحاً صادقاً وانتشر عنه الكثير من كتب الأدب وحدث عنه أبو سهل
بن زياد وتوفي في هذه السنة.
سليمان بن
الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو أبو داود الأزدي السجستاني
ولد سنة ستين ومائتين، وهو أحد من رحل وطوف، وجمع وصنف، وكتب عن
العراقيين، والخرسانيين، والشاميين، والبصريين والجزريين وروى عنه خلق
كثير منهم : أبو بكر الخلال، والنجاد، وسمع منه أحمد بن خليل حديثاً
واحداً، وصنف كتاب " السنن " وعرضه على أحمد بن حنبل فاستجاده له
واستحسنه، وكان إبراهيم الحربي يقول: ألين الحديث لأبي داود كما ألين
ألين الحديد لداود كان عالماً حافظاً عارفاً بعلل الحديث، ذا عفاف
وورع، وكان يشبه بأحمد بن حنبل.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثني أبو
بكر محمد بن علي بن إبراهيم الدينوري قال: سمعت أبا الحسن محمد بن عبد
الله بن الحسين الفرضي قال: سمعت أبا بكر بن داسة يقول: سمعت أبا داود
يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس مائة ألف حديث انتخبت
منها ما ضمنت هذا الكتاب - يعني كتاب السنن - جمعت فيه أربعة آلاف
وثمان مائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان لدينه
من ذلك أربعة أحاديث، أحدهما قوله عليه السلام: " الأعمال بالنيات " .
والثاني قوله عليه السلام: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " .
والثالث قوله عليه السلام: " الحلال بين والحرام بين ذلك أمور مشتبهات
" .
أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا أحمد بن علي ،أخبرنا أحمد بن محمد العتيقي
قال: سمعت عبيد الله بن عبد الرحمن الزهري يقول: سمعت أبا بكر بن أبي
داود يقول: الشهوة الخفية حب الرياسة. توفي أبو داود بالبصرة في شوال
هذه السنة، وقيل: في سنة ست و سبعين، وكانت وفاته يوم الجمعة ودفن إلى
جانب قبر سفيان الثوري، وبلغ ثلاثاُ وسبعين سنة.
عبد الله بن احمد بن محمد بن ثلبت أبو عبد الرحمن المروزي مولى بديل بن
ورقاء الخزاعي . ويعرف: بابن شبويه.
من أئمة الحديث الفضلاء الراسخين الراحلين في طلب العلم سمع خلقاً
كثيرا مثل : عبدان وآدم، وابن راهويه، وعلي بن حجر، وأبي كريب، وقدم
بغداد فحدث بهان وروى عنه: ابن أبي الدنيا، وابن صاعد. وتوفي في هذه
السنة.
عبد الله بن محمد بن زيد أبو محمد الحنفي المروزي حدث عن عبدان. روى
عنه: محمد بن ملد، وكان ثقة.
وتوفي في رمضان من هذه السنة.
عبد الله بن عبيد الله بن داود أبو القاسم الهاشمي الداودي وكان فقيه
الداودية في عصره بخراسان.سمع أبا جعفر الطاوي، وأبا العباس بن عقدة،
والحسين بن إسماعيل المحاملي وطبقتهم. وانتخب عليه الحاكم أبو عبد
الله، وتوفي ببخارى في هذه السنة.
عبد الرحمن بن مرزوق بن عطية أبو عوف البزوري القزاز قال سمع روح بن
عبادة، وشبابة، وأبا نعيم. روى عنه: ابن صاعد، وابن السماك، وكان ثقة.
توفي في رجب هذه السنة وقد بلغ ثلاثا ًوتسعين سنة عبد العزيز بن عبد
الله بن عبيد الله أبو القاسم الهاشمي سمع الحديدي. روى عنه: المحاملي
القاضي، وكان ثقة وتوفي في ذي الحجة من هذه السنة، وبلغ ستاً وثمانين
سنة، وكان جميلاً وسيماً بهياً.
القاسم بن عبد الله بن المغيرة أبو محمد الجوهري مولى لأم عيسى بنت علي
بن عبد الله بن عباس.
ولد سنة خمس وتسعون ومائة. سمع من إسماعيل بن أبي أويس، وعفان بن مسلم
وأبي نعيم روى عنه: أبو مسلم الكجي، وكان ثقة مأموناً.
توفي في محرم هذه السنة.
محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أبي العنبس بن المغيرة أبو العنبس الصيمري
الشاعر وكان أحد الأدباء الملحاء، إلا أنه هاجى أكثر شعراء زمانه، وقدم
بغداد ونادم المتوكل.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي الخطيب. أخبرنا عبد الله بن علي بن
حمويه، أخبرنا أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي قال: أنشدنا علي بن عاذل
القطان لأبي العنبس:
كم مريض قد عاش من بعد يأس ... بعد موت الطبيب والعواد
قد يصاد القطا فتنجو سليماً ... ويحل القضاء بالصياد
توفي أبو العنبس في هذه السنة، وحمل إلى الكوفة فدفن بها.
محمد بن إسحاق البغوي. حدث عن أبي الوليد الطيالسي، وخالد بن خداش في
آخرين، وكان ثقة.
ثم دخلت
سنة ست وسبعين ومائتين
فمن الحوادث فيها:
ضم الشرطة
في بغداد إلى عمرو بن الليث، وكتب فيها على الأعلام والمطارد والترسة
التي تكون في مجلس الشرطة اسمه، وذلك في المحرم ثم طرح ذلك في شوال
وأسقط ذكره وفيها: ورد الخبر بانفراج تل بنهر الصراة ويعرف بتل بني
شقيق عن شبه حوض من حجر في لوح المسن، عليه كتابة لا يدري ما هي ، وفيه
سبعة أقبر فيها سبعة أبدان صحيحة، عليها أكفان جدد لينة، لها أهداب
تفوح منها رائحة، وفيها رائحة المسك، أحدهم شاب له جمة وجبهته وأذناه
وأنفه وشفتاه ورقبته وأشفار عينيه صحاح، وعلى شفته بلل كأنه شرب ماء،
وكأنه قد كحل، وبه ضربة في خاصرته، فردت عليه أكفانه وجذب بعض الحاضرين
من شعر بعضهم فوجده قوي الأصل كنحو شعر الحي.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد، وكان والياً على مكة،
والمدينة، والطائف.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
بقي بن مخلد أبو عبد الرحمن الأندلسي كانت له مرحلة مشهورة، وطلب
مشهور، سمع من أحمد بن حنبل وغيره من الأثمة، وله تصانيف كثيرة منها
مسنده. روى فيه عن ألف وستمائة صحابي، بل يزيدون على هذا العدد، وشيوخه
أعلام، فإنه روى عن مائتي رجل وأربع مائة وثلاثين، جمهورهم مشاهير،
وجمع إلى العلم الصلاح والتقوى.
أخبرنا أبو بكر بن أحمد بن خلف، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن علي
سمعت نصر بن أحمد بن مالك يقول: سمعت عبد الرحمن بن أحمد يقول: سمعت
أبي يقول: جاءت امرأة إلى ابن مخلد فقال: إن ابني قد أسره الروم، ولا
أقدر على مال أكثر من دويرة، ولا أقدر على بيعها، فلو أشرت إلى من
يفديه بشيء، فليس لي ليل ولا نهار، ولا نوم ولا قرار. فقال: انصرفي حتى
أنظر في أمره إن شاء الله تعالى. قال: وأطرق الشيخ وحرك شفتيه. قال:
فلبثنا مدة فجاءت المرأة مع ابنها، وأخذت تدعو له وتقول: قد رجع سالماً
وله حديث يحدثك به. فقال الشاب: كنت في يدي بعض الملوك الروم مع جماعة
من الأسارى، وكان له إنسان يستخدمنا كل يوم، نخرج إلى الصحراء، ثم
يردنا وعلينا قيودنا فبينا نحن نجيء من العمل بعد المغرب، انفتح القيد
من رجلي، ووقع على الأرض، ووصف اليوم والساعة فوافق الوقت الذي جاءت
المرأة ودعا الشيخ. قال: فنهض إلي الذي كان يحفظني صاح علي وقال: قد
كسرت القيد. قلت: لا إنه سقط من رجلي. فتحير وأخبر صاحبه، وأحضر الحداد
وقيدني، فلما مشيت خطوات سقط القيد من رجلي، فتحيروا في أمري، فدعوا
رهبانهم فقالوا لي: ألك والدة؟ قلت: نعم. قالوا: قد وافق دعاءها
الإجابة. وقالوا: أطلقك الله لا يمكننا نقيدك. فردوني، وأصحبوني إلى
ناحية المسلمين.
وتوفي بقي بن مخلد بالأندلس في هذه السنة.
جعفر بن أحمد بن العباس، أبو الفضل. سمع من جماعة، وروى عنه: محمد بن
مخلد، وأحمد بن كامل القاضي. قال الدار القطني: ثقة مأمون. توفي
بالبصرة قاضياً في ربيع الأول من هذه السنة.
صاعد بن مخلد. من عمال السلطان، كان كثير التعبد والصدقة، وكان ينفرد
فيصلي ويدعو وأصحابه يرون انه في عمل السلطان، وكان لا يركب حتى ينفذ
صدقاته من الدراهم والدنانير والثياب والدقيق قي كل يوم.
وقال نصر الحاجب: رأيت ليلة مات صاعد في المنام كأن قائلاً يقول: صر
إلى شط دجلة إلى مكان كذا وكذا إلى مسجد هناك، حتى عرفت الموضع، فأقم
حتى تصلي على رجل من أهل الجنة. فصرت إلى الموضع، فإذا خدم سود قد
عبروا من دار ابن طاهر بعد العصر، ومعهم جنازة، فصعدوا بها إلى المسجد،
فصليت على الرجل، وسألت عنه فقالوا: هذا صاعد بن مخلد.
عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن كثير أبو العباس الدورقي سمع من عفان
وغيره، روى عنه: ابن صاعد، وابن مخلد، والمحاملي، وكان يسكن سر من رأى،
وقدم بغداد فحدث بها. وقال الدارقطني: هو ثقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي. أخبرنا محمد بن محمد
بن عبد الواحد، أخبرنا محمد بن العباس قال: قرئ على ابن المنادي وأنا
أسمع قال: قدم علينا عبد الله بن أحمد بن إبراهيم فسمعنا منه. ثم قال:
قرئ أنه زلق من الدرجة في الدار التي نزلها، فمات، وذلك في ربيع الأول
من هذه السنة.
عبد الله بن مسلم بن قتيبة أبو محمد الكاتب المروزي وقيل: الدينوري
لأنه أول من أقام بالدينور مدة.
سكن
بغداد، وحدث بها عن إسحاق بن راهويه، وأبي حاتم وغيرهما. وكان عالماً،
ثقة، ديناً، فاضلاً وله التصانيف المشهورة، منها: " غريب القرآن " و "
غريب الحديث " و " مشكل القرآن " و " ومشكل الحديث " و " المعارف " و "
أدب الكاتب " و " عيون الأخبار " وغير ذلك.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي ابن ثابت. أخبرنا محمد بن
عبد الواحد، أخبرنا محمد بن العباس قال: قرئ على ابن المنادي وأنا أسمع
قال: مات عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري صاحب التصانيف فجأة، فصاح
صيحة سمعت من بعد، ثم أغمي عليه فمات.
قال ابن المنادي: ثم أن أبا القاسم إبراهيم بن محمد بن أيوب بن بشير
الصائغ أخبرني أن ابن قتيبة أكل هريسة، فأصابه حرارة، فصاح صيحة شديدة،
ثم أغمي عليه إلى وقت صلاة الظهر، ثم اضطرب ساعة ثم هدأ، فما زال يتشهد
إلى وقت السحر، ثم مات وذلك أول ليلة من رجب سنة ست وسبعين.
وقد روي أنه مات سنة سبعين، والأول أصح. وذكر بعض أهل العلم بالنقل أنه
مات بالكوفة، ودفن إلى جنب قبر أبي حازم القاضي.
عبد الملك بن محمد بن عبد الله أبو قلابة الرقاشي ولد سنة تسعين ومائة،
وكان يكنى أبا محمد، فكني بأبي قلابة، وغلبت عليه. سمع يزيد بن هارون،
وأبا داود الطيالسي، وروح بن عبادة، وخلقاً كثيراً. روى عنه: ابن صاعد،
والمحاملي، والنجاد، وأبو بكر الشافعي، وكان صدوقاً من أهل الخير، وكان
يصلي كل يوم أربع مائة ركعة، وحدث من حفظة بستين ألف حديث، فوقع في
بعضها الخطأ.
توفي في شوال هذه السنة.
محمد بن أبي العوام واسمه: أحمد بن يزيد بن دينار، أبو بكر الرياحي
التميمي. سمع يزيد بن هارون، وعبد الوهاب بن عطاء، وأبا عامر العقدي،
وغيرهم. روى عنه: المحاملي، وابن عقدة، وابن السماك، والنجاد، وأبو بكر
الشافعي، ومحمد بن جعفر بن الهيثم البندار وهو آخر من روى عنه. قال
الدارقطني: هو صدوق. توفي لأيام خلت من رمضان هذه السنة.
محمد بن إبراهيم بن يحيى بن إسحاق بن جناد، أبو بكر المنقري. سمع أبا
الوليد الطيالسي، وغيره، وروى عنه: البغوي، وغيره.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر الخطيب. أخبرنا علي بن محمد
الدقاق، أخبرنا الحسين بن هارون الضبي، عن أبي العباس بن سعيد قال:
سمعت عبد الرحمن بن يوسف بن خراش يقول: أبو بكر بن جناد عدل، ثقة،
مأمون.
أخبرنا القزاز، أخبرنا الخطيب. أخبرنا السمار، أخبرنا الصفار، حدثنا
ابن قانع أن أبا بكر بن جناد مات في طريق مكة في ذي الحجة من سنة ست
وسبعين ومائتين.
محمد بن إبراهيم بن يوسف أبو حمزة المروزي سكن بغداد، وانتخب عليه عبيد
العجلي وحدث عن عبدان بن عثمان، وروى عنه: أبو عمرو بن السماك، وغيره،
وكان ثقة.
محمد بن إبراهيم بن عبد الحميد أبو بكر الحلواني قاضي بلخ، سكن بغداد،
وحدث بها عن أبي جعفر النفيلي، وغيره.
وروى عنه: أبو عمرو بن السماك، وغيره، وكان ثقة.
محمد بن إسماعيل بن سالم، أبو جعفر الصائغ. سكن مكة، وحدث بها عن حجاج
الأعور، وشبابة بن سوار، وروح بن عبادة.
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت منه بمكة، وهو صدوق.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أبو بكر ابن ثابت. أخبرنا علي بن
محمد الدقاق قال: قرأنا على الحسين بن هارون، عن أبي العباس بن سعيد
قال: سمعت عبد الرحمن بن يوسف بن خراش يقول: محمد بن إسماعيل الصائغ من
أهل الفهم والأمانة.
محمد بن جعفر بن راشد أبو جعفر الفارسي يلقب لقلوق واصله بلخ.
سمع منصور بن عثمان، وغيره، وكان ثقة.
محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن أبي سيرين بن علي أبو العباس
الهاشمي حدث عن إبراهيم الترجماني. روى عنه: ابن مخلد.
توفي في هذه السنة في ذي الحجة. وكان ثقة.
محمد بن الحسين بن معدان أبو جعفر البلخي الوراق حدث عن إسماعيل بن أبي
موسى. روى عنه: ابن صاعد، وكان ثقة.
محمد بن خليفة بن صدقة أبو جعفر، يلقب: بعنر، من أهل دير العاقول. روى
عن عفان، وأبي نعيم، وسعيد بن منصور، وغيرهم، وكان صدوقاً. وتوفي بدير
العاقول في هذه السنة.
محمد بن محمد بن الحسن بن عطية العوفي
حدث عن
يزيد بن هارون، وروح بن عبادة، وغيرهما. كان ليناً في الحديث. قال
الدارقطني: لا بأس به.
وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة.
ثم دخلت
سنة سبع وسبعين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أنه ولي أبو محمد يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن حماد
بن يزيد المظالم بمدينة السلام، فقويت يده، فنادى: من كانت له مظلمة من
قبل الأمير الناصر فمن دونه من الناس فليحضر، وظهر من صرامته وقيامه
بالأمر ما لم ير مثله.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن عيسى أبو سعيد الخراز وكان من المذكورين بالمجاهدة والورع
والمراقبة. حدث عن إبراهيم بن بشار صاحب أدهم وغيره. روى عنه علي بن
محمد المصري.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت. أخبرنا أبو سعد
الماليني قال: حدثنا ثقف بن عبد الله، حدثنا أحمد بن أحمد المقري،
حدثنا أبو بكر الشقاق قال: قال أبو سعيد الخراز: إذا بكت أعين الخائفين
فقد كاتبوا الله بدموعهم.
أخبرنا عمر بن خلف، أخبرنا جعفر بن أحمد، أخبرنا عبد العزيز بن علي،
أخبرنا ابن جهضم قال: حدثني أحمد بن محمد الرمادي قال: سمعت أبا سعيد
الخراز يقول: العافية سترت البر والفاجر، فإذا جاءت البلوى يتبين عندها
الرجال.
توفي أبو سعيد في هذه السنة، وقيل: في سنة ست وثمانين، وقيل: فيما بين
ذلك، ولا يصح.
إبراهيم بن إسحاق بن أبي العنبس أبو إسحاق الزهري القاضي الكوفي. سمع
يعلى بن عبيد الطنافسي وغيره. وروى عنه: أبو بكر بن أبي الدنيا، وعامة
الكوفيين، ولي قضاء مدينة المنصور بعد أن صرف أحمد بن محمد بن سماعة،
وكان ثقة خيراً فاضلاً ديناً صالحاً.
توفي في ربيع الآخر من هذه السنة، فقد بلغ ثلاثاً وتسعين سنة.
إسحاق بن يعقوب أبو العباس العطار الأحول سمع خلف بن هشام البزاز في
خلق كثير، روى عنه: محمد بن مخلد، وأبو عمرو بن السماك، وقال
الدارقطني: كان ثقة. وتوفي في هذه السنة.
جعفر بن أحمد وقيل جعفر بن المبارك أبو محمد المعروف بكردان الخلقاني
حدث عن أبي كامل الجحدري، وشيبان بن فروخ. روى عنه ابن مخلد، وكان ثقة،
ينزل نهر طابق.
وتوفي في هذه السنة.
جعفر بن محمد بن عبيد الله بن يزيد المنادي سمع عاصم بن علي، وأحمد بن
حنبل، وابني أبي شيبة، وكريباً وغيرهم، روى عنه: ابنه أبو الحسين، وكان
ثقة.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا محمد بن عبد
الواحد، حدثنا محمد بن العباس قال: قرئ على ابن المنادي وأنا أسمع قال:
توفي أبي جعفر بن محمد المنادي يوم السبت بين الظهر والعصر، ودفن يوم
الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة سبع وسبعين يعني ومائتين -
كتب الناس عنه في حياة جدي وبعد ذلك.
جعفر بن هاشم أبو يحيى العسكري. سكن بغداد، وحدث عن أبي الوليد
الطيالسي، والقعنبي. روى عنه: ابن مخلد، وابن السماك، وكان ثقة. توفي
في ربيع الأول من هذه السنة.
الحسن بن سلام بن أبان أبو علي السواق سمع أبا نعيم، وقبيصة، وعفان بن
مسلم. روى عنه: ابن صاعد، والنجاد. قال الدارقطني: هو صدوق.
توفي في صفر هذه السنة.
الحسين بن معاذ بن حرب أبو عبد الله الأخفش من أهل البصرة، قدم بغداد
محدثاً بها عن سلمة بن حبيب، وغيره، وحدث بسر من رأى، روى عنه: أبو بكر
النجاد، والكوكبي. توفي في هذه السنة.
عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس أبو العباس
الهاشمي من أهل سر من رأى، حدث عن يزيد بن هارون وشبابة، وروح وعفان.
روى عنه: أحمد بن عيسى الخواص، وكان ثقة. توفي بسر من رأى في هذه
السنة.
عيسى بن عبد الله بن سنان بن دلويه أبو موسى الطيالسي، يلقب برغاث ولد
سنة ثلاث وتسعين ومائة، وسمع من عفان، وأبي نعيم، وكان يعد من الحفاظ.
روى عنه: أحمد بن كامل القاضي، وأبو بكر الشافعي، قال الدارقطني: كان
ثقة. توفي في شوال هذه السنة.
علي بن الحسن بن عبدويه أبو الحسن الخزاز سمع أبا النضر وأسود بن عامر.
روى عنه: ابن مجاهد، والنجاد. وكان ثقة.
توفي في ذي الحجة من هذه السنة.
محمد بن
إدريس بن المنذر بن داود بن مهران أبو حاتم الحنظلي الرازي كان أحد
الأئمة الحفاظ، والأثبات العارفين بعلل الحديث، والجرح والتعديل. سمع
محمد بن عبد الله الأنصاري، وأبا زيد النحوي، وعبيد الله بن موسى، وأبا
مسهر الدمشقي، وأبا اليمان، وخلقاً كثيراً. روى عنه يونس بن عبد
الأعلى، والربيع بن سليمان المصريان، وهما أكبر سناً منه، وأقدم
سماعاً. قدم بغداد فحدث بها. روى عنه من أهلها إبراهيم الحربي، وابن
أبي الدنيا، والمحاملي، وغيرهم.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب
قال: أخبرنا أبو زرعة روح بن محمد الرازي إجازة، أخبرنا محمد بن عمر
الفقيه، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبي يقول: خرجت في طلب
الحديث فأحصيت أني مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، فلما زاد علي
الأمر تركت، وبقيت بالبصرة في سنة أربع عشرة ومائتين وثمانية أشهر،
فانقطعت نفقتي، فجعلت أبيع ثيابي، حتى بقيت بلا نفقة، ومضيت أطوف مع
صديق لي إلى المشيخة، وأسمع منهم إلى المساء، فانصرف رفيقي، ورجعت إلى
بيتٍ خالٍ، فجعلت أشرب الماء من الجوع، ثم أصبحت من الغد، وغدا علي
رفيقي، فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد، فانصرف عني،
وانصرفت جائعاً، فلما كان من الغد، غدا علي رفيقي وقال: سر بنا إلى
المشايخ. فقلت: أنا ضعيف لا يمكنني. فقال: ما ضعفك؟ قلت: لا أكتمك أمري
قد مضى علي يومان ما طعمت. فقال: معي دينار، فأنا أواسيك بنصفه، ونجعل
النصف الآخر في الكراء. فخرجنا من البصرة، وقبضت منه نصف الدينار قال:
وقلت على باب أبي الوليد الطيالسي من أغرب علي حديثاً غريباً مسنداً
صحيحاً لم أسمع به من فله علي درهم يتصدق به، وقد حضر على باب الوليد
خلق من الناس منهم أبو زرعة فمن دونه، وإنما كان مرادي أن يلقي علي ما
لم أسمع ليقولوا: هو عند فلان فاذهب فاسمع. فكان مرادي أن أستخرج منهم
ما ليس عندي فما تهيأ لأحد أن يغرب علي حديثاً.
توفي أبو حاتم في شعبان هذه السنة.
محمد بن الجهم بن هارون أبو عبد الله السمري الكاتب سمع يعلى بن عبيد
الطنافسي وعبد الوهاب بن عطاء، ويزيد بن هارون، وغيرهم. روى عن الفراء
تصانيفه، وهذا آخر من بقي من أصحاب الفراء، روى عنه: ابن مجاهد،
ونفطويه، وأبو بكر الشافعي، وغيرهم. قال الدار قطني: وهو ثقة صدوق.
توفي في يوم الأحد سلخ جمادى الآخرة من هذه السنة وله تسع وثمانون سنة.
محمد بن الحسين بن الحسن بن موسى بن أبي الحنين أبو جعفر الخزاز،
المعروف: بالحنيني. كوفي قدم بغداد، وحدث بها عن عبيد الله بن موسى
العبسي، وأبي نعيم، والقعنبي، وغيرهم. روى عنه: ابن صاعد، والمحاملي،
وابن السماك، وغيرهم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي ابن ثابت. أخبرنا
الأزهري، حدثنا علي بن عمر الحافظ قال: محمد بن الحسين بن موسى الكوفي
صنف مسنداً وحدث به، وكان ثقة صدوقاً.
توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة بالكوفة.
محمد بن سعدان أبو جعفر البزاز حدث عن أبي جعفر النفيلي، وفيض بن وثيق،
وغيرهما، وكان سمع من نحو من خمسمائة شيخ لم يحدث إلا باليسير، وتوفي
في شعبان هذه السنة.
وثم آخر يقال له: محمد بن سعدان البزاز، إلا أنه شيخ غير مشهور، روى عن
القعنبي.
وثالث يقال له: محمد بن سعدان النحوي، وهو مشهور، قد ذكرناه في سنة
إحدى وثلاثين.
ثم دخلت
سنة ثمان وسبعين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أنه في المحرم وافى أبو أحمد الموفق من الجبل إلى
العراق، فتلقاه الناس بالنهروان، فركب الماء وسار في النهروان، ثم في
نهر ديالي، ثم في دجلة، وكان مريضاً بالنقرس، ودخل داره في أوائل صفر،
ثم توفي بعد أيام، وطلع لليلتين بقيتا من المحرم كوكب ذو جمة، ثم صارت
الجمة ذؤابة، وخلع على عبد الله بن سليمان بن وهب وولي الوزارة.
وفي هذه السنة: غار ماء النيل، وكان شيئاً لم يعهد مثله، ولا بلغ في
الأخبار السالفة.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمي.
وفيها:
وردت الأخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة وهم الباطنية، وهؤلاء قوم
تبعوا طريق الملحدين، وجحدوا الشرائع، وأنا أشير إلى البدايات التي
بنوا عليها، ثم إلى الباعث لهم على ما فعلوا من نصب دعوتهم، ثم إلى
ألقابهم، ثم إلى مذاهبهم وعلومهم.
فأما البدايات التي بنوا عليها: فإنه لما كان مقصودهم الإلحاد تعلقوا
بمذاهب الملحدين مثل: زرادشت، ومزدك، فإنهما كانا ينتحلان المحظورات،
وقد سبق في أوائل هذا الكتاب شرح حالهما، وما زال أكثر الناس مع
إعراضهم لا يدخلون في حجر يمنعهم إياها، فلما جاء نبينا محمد صلى الله
فقهر الملل وقمع الإلحاد، أجمع جماعة من الثنوية، والمجوس، والملحدين،
ومن دان بدين الفلاسفة المتقدمين، فأعلموا آراءهم وقالوا: قد ثبت عندنا
أن جميع الأنبياء كذبوا وتخرقوا على أممهم، وأعظم كل بلية علينا محمد
صلى الله عليه وسلم فإنه تبع من العرب الطغام فخدعهم بناموسه، فبذلوا
أموالهم وأنفسهم، ونصروه وأخذوا ممالكنا، وقد طالت مدتهم، والآن قد
تشاغل أتباعه، فمنهم مقبل على كسب الأموال، ومنهم على تشييد البنيان،
ومنهم على الملاهي، وعلماؤهم يتلاعبون، ويكفر بعضهم بعضاً، وقد ضعفت
بصائرهم، فنحن نطمع في إبطال دينهم، إلا أنا لا يمكننا محاربتهم
لكثرتهم، فليس الطريق إلا إنشاء دعوة في الدين والانتماء إلى فرقة
منهم، وليس فيهم فرقة أضعف عقولاً من الرافضة فندخل عليهم، ونذكر ظلم
سلفهم الأشراف من آل نبيهم، ودفعهم عن حقهم، وقتلهم، وما جرى عليهم من
الذل لنستعين بها، ولا على إبطال دينهم، فتناصروا وتكاتفوا وتوافقوا
وانتسبوا إلى إسماعيل بن جعفر بن محمد بن الصادق، وكان لجعفر أولاد
منهم: إسماعيل هذا، وكان يقال له: إسماعيل الأعرج.
ثم سول لهم الشيطان آراء ومذاهب وأخذوا بعضها من المجوس، وأخذوا بعضها
من الفلاسفة وتخرقوا على أتباعهم، وإنما قصدهم الجحد المطلق، لكنهم لما
لم يمكنهم، توسلوا إليه فقد بان لك بما ذكرت. ومن البدايات التي بنوا
عليها، والباعث لهم على ما فعلوا من نصب الدعوة.
وأما ألقابهم: فإنهم يسمون الإسماعيلية، والباطنية، والقرامطة،
والخرميه، والبابكية، والمحمرة، والسبعية، والتعليمية.
فأما تسميتهم بالاسماعيلية: فانتسابهم إلى إسماعيل بن جعفر على ما
ذكرناه.
وأما تسميتهم بالباطنية: فإنهم ادعوا أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن،
تجري مجرى اللب من القشر، وأنها توهم الأغبياء صوراً، وتفهم الفطناء
رموزاً، وإشارات إلى حقائق خفية، وأن من تقاعد عن العرض على الخفايا
والبواطن متعثر، ومن ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكلف، واستراح من
إعيائه، واستشهدوا بقوله تعالى: " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت
عليهم " قالوا: والجهال بذلك هم المرادون بقوله تعالى: " فضرب بينهم
بسور له باب " وغرضهم فيما وضعوا من ذلك: إبطال الشرائع؛ لأنهم إذا
صرفوا العقائد عن غير موجب الظاهر فحكموا بدعوى الباطن على ما يوجب
الانسلاخ من الدين.
وأما تسميتهم بالقرامطة: ففي سبب ذلك ستة أقوال: أحدها: أنهم سموا
بذلك؛ لأن أول من أسس لهم هذه المحنة محمد الوراق المقرمط، وكان
كوفياً.
والثاني: أن لهم رئيساً من السواد من الأنباط، يلقب، بقرموطويه فنسبوا
إليه.
والثالث: أن قرمطاً كان غلاماً لإسماعيل بن جعفر فنسبوا إليه؛ لأنه
أحدث لهم كقالاتهم.
والرابع: أن بعض دعاتهم نزل برجل يقال له كرمية، فلما رحل تسمى قرمط بن
الأشعب، ثم أدخله في مذهبه.
الخامس: أن بعض دعاتهم رجل يقال له: كرمية فلما رحل تسمى باسم ذلك
الرجل، ثم خفف الاسم فقيل: قرمط، قال أهل السير: كان ذلك الرجل الداعي
من ناحية خوزستان، وكان يظهر الزهد والتقشف، ويسف الخوص، ويأكل من
كسبه، ويحفظ القوم ما صرموا من نخلهم في حظيرة، ويصلي أكثر الناس،
ويصوم، ويأخذ عند إفطاره من البقال رطلاً من التمر فيفطر عليه، ويجمع
نواه فيدفعه إلى البقال، ثم يحاسبه على ما أخذ منه، ويحط من ذلك ثمن
النوى. فسمع التجار الذين صرموا نخلهم فوثبوا عليه وضربوه، وقالوا:
لم ترض
بأن أكلت التمر حتى بعت النوى. فأخبرهم البقال في الحال، فندموا على
ضربه، وسألوه الإحلال، فازداد بذلك نبلاً عند أهل القرية، وكان إذا قعد
إليه إنسان ذاكره أمر الدين وزهده في الدنيا، وأعلمه أن الصلاة
المفروضة على الناس خمسون صلاة في كل يوم وليلة، ثم أعلم الناس أنه
يدعو إلى إمام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مرض ومكث
مطروحاً على الطريق، وكان في القرية رجل يحمل على أثوار له، وكان أحمر
العينين، وكان أهل القرية يسمونه كرميته لحمرة عينيه، وهو بالنبطية:
حار العينين، فكلم البقال كرميته هذا في أن يحمل هذا العليل إلى منزله،
ويوصي أهله الإشراف عليه والعناية به، ففعل، فأقام عنده حتى برئ، ثم
كان يأوي إلى منزله ودعا أهل القرية إلى أمره فأجابوه، وكان يأخذ من
الرجل إذا دخل في دينه ديناراً، ويزعم أنه يأخذ ذلك الإمام، فمكث أهل
القرى فيجيبونه، واتخذ منهم اثني عشر نقيباً، وأمرهم أن يدعوا الناس
إلى دينه، وقال لهم: أنتم كحواري عيسى بن مريم عليهما السلام، فشغل
أكرة تلك الناحية على أعمالهم بما رسمه لهم من الخمسين صلاة التي ذكر
أنها فرضت عليهم.
وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع، فوقف على تقصير أكرته في العمارة،
فسأل عن ذلك، فأخبر أن رجلاً قدم عليهم فأظهر لهم مذهباً من الدين،
وأعلمهم أن الله عز وجل قد افترض عليهم خمسين صلاة في اليوم والليلة،
وقد اشتغلوا بها فوجه إليه فجيء به، فسأله عن أمره، فأخبره بقصته،
وأقفل عليه، وترك المفتاح تحت وسادته، ونام، فرقت له جارية، فأخذت
المفتاح، وفتحت وأخرجته، ثم أعادت المفتاح إلى موضعه، فلما أصبح الهيصم
فتح الباب، فلم يجده فشاع ذلك الخبر، فعبر به أهل تلك الناحية وقالوا:
قد رفع.
ثم ظهر في موضع آخر ولقي جماعة من أصحابه فسألوه عن قصته، فقال: ليس
يمكن أحداً أن يؤذيني. ثم خاف على نفسه، وخرج إلى الشام، وتسمى باسم
الرجل الذي كان في منزله كرميته، ثم خفف فقيل: قرمط، وفشا أمره وأمر
أصحابه، وكان قد لقي صاحب الزنج فقال له: أنا على مذهب ورائي مائة ألف
سيف، فناظرني، فإن اتفقنا ملت بمن معي إليك، وإن تكن الأخرى انصرفت،
فناظره فاختلفا ففارقه.
السادس: أنهم لقبوا بهذا نسبة إلى رجل من دعاتهم يقال له: حمدان بن
قرمط، وكان حمدان هذا من أهل الكوفة يميل إلى الزهد، فصادفه أحد دعاة
الباطنية في طريق، وهو متوجه إلى قرية، وبين يديه بقر يسوقها، فقال
حمدان لذلك الداعي وهو لا يعرفه: أين تقصد؟ فسمى قرية حمدان، فقال له:
اركب بقرة من هذه البقر لتستريح من المشي. فقال: إني لم أؤمر بذلك: قال
كأنك لا تعمل إلا بأمر؟ قال: نعم! فقال حمدان: وبأمر من تعمل؟ قال:
بأمر مالكي ومالكك، ومالك الدنيا والآخرة، فقال: ذلك الله عز وجل، قال:
صدقت قال: وما غرضك في هذه البقعة؟ قال: أمرت أن أدعو أهلها من الجهل
إلى العلم، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشقاوة إلى السعادة، وأستنقذهم
من ورطات الذل والفقر، وأملكهم ما لا يستغنون به من التعب والكد، فقال
له حمدان: أنقذني أنقذك الله، وأفض علي من العلم ما تحييني به، فما أشد
حاجتي إلى ذلك؛ فقال: ما أمرت أن أخرج السر المكنون إلى كل أحد إلا بعد
الثقة به، والعهد إليه، فقال له: فاذكر عهدك، فإني ملتزم به. فقال: أن
تجعل لي وللإمام على نفسك عهد الله وميثاقه أن لا تخرج سر الإمام الذي
ألقيه إليك ولا تفشي سري أيضاً. فالتزم حمدان عهده، ثم اندفع الداعي في
تعليمه فنون جهل، حتى استدرجه واستغواه واستجاب له في جميع ما دعاه
إليه، ثم انتدب للدعوة، وصار أصلاً من أصول هذه البدعة فسمى أتباعه
القرمطية.
وأما تسميتهم بالخرمية: فإن خرم لفظ أعجمي ينبئ عن الشيء المستلذ الذي
يشتهيه الآدمي، وكان هذا لقباً للمزدكية وهم أهل الإباحة من المجوس
الذين نبغوا في أيام قباذ على ما ذكرنا، فأباحوا المحظورات فلقب هؤلاء
بلقب أولئك لمشابهتهم وإياهم في اعتقادهم ومذهبهم.
وأما تسميتهم بالبابكية: فإن طائفة منهم تبعوا بابك الخرمي، وكان قد
خرج في ناحية آذربيجان في أيام المعتصم واستفحل، فبعث إليه المعتصم
الافشين فتخاذل عن قتاله، وأضمر موافقته في ضلاله فاشتدت وطأة البابكية
على المسلمين، إلى أن أخذ بابك وقتل على ما سبق شرحه.
وقد بقي
من البابكية جماعة يقال إن لهم في كل سنة ليلة يجتمع فيها رجالهم
ونساؤهم، فيطفئون المصابيح، ويتناهبون النساء، ويزعمون أن من أخذ امرأة
استحلها بالاصطياد.
فأما تسميتهم بالمحمرة: فيذكر عنهم أنهم صبغوا الثياب بالحمرة أيام
بابك، وكانت شعارهم.
وأما تسميتهم بالسبعية: فإنهم زعموا أن الكواكب السبعة مدبرة للعالم
السفلي.
وأما تسميتهم بالتعليمية: فإن مبدأ مذاهبهم إبطال الرأي، وإفساد تصرف
العقل، ودعوة الخلق إلى التعليم من الإمام المعصوم، وأنه لا مدرك
للعلوم إلا بالتعليم.
فصل
وأما الإشارة إلى مذاهبهم: فإن مقصودهم الإلحاد، وتعطيل الشرائع، وهم
يستدرجون الخلق إلى مذاهبهم بما يقدرون عليه، فيميلون إلى كل قوم بسبب
يوافقهم ويميزون من يمكن أن ينخدع ممن لا يمكن، فيوصون دعاتهم فيقولون
للداعي: إذا وجدت من تدعوه فاجعل التشيع دينك، ادخل عليه من جهة ظلم
الأمة لعلي بن أبي طالب عليه السلام، وقتلهم الحسين، وسبيهم لأهله،
والتبرئ من تيم وعدي وبني أمية وبني العباس، وقل بالرجعة، وأن علياً
يعلم بالغيب، فإذا تمكنت منه أوقفته على مثالب علي وولده، وبينت له
بطلان ما عليه أهل ملة محمد عليه السلام وغيره من الرسل عليهم السلام،
وإن كان يهودياً فادخل عليه من جهة انتظار المسيح، وأن المسيح هو محمد
بن إسماعيل بن جعفر وهو المهدي، واطعن في النصارى والمسلمين، وإن كان
نصرانياً فاعكس، وإن كان صابئياً فتعظيم الكواكب، وإن كان مجوسياً
فتعظيم النار والنور، وإن وجدت فيلوسوفياً فهم عمدتنا لأنا نتفق وهم
على إبطال نواميس الأنبياء وعلى قدم العالم، ومن أظهرت له التشيع فأظهر
له بغض أبي بكر وعمر، ثم أظهر له العفاف والتقشف وترك الدنيا والإعراض
عن الشهوات، ومر بالصدق والأمانة، والأمر بالمعروف، فإذا استقر عنده
ذلك فاذكر له زلل أبي بكر وعمر، وإن كان سنياً فاعكس، وإن كان مائلاً
إلى المجون والخلاعة، فقرر عنده أن العبادة بله، والورع حماقة، وإنما
الفطنة في اتباع اللذة، وقضاء الوطر من الدنيا الفانية. وقد يستصحبون
من له صوت طيب بالقرآن، فإذا قرأ تكلم داعيهم، ووعظ وقدح في السلاطين،
وعلماء الزمان، وجهال العامة، ويقول: الفرج منتظر ببركة آل الرسول صلى
الله عليه وسلم، وربما قال: إن لله عز وجل في كلماته أسراراً لا يطلع
عليها إلا من اجتباه الله.
ومن مذاهبهم أنهم لا يتكلمون مع عالم، ويجتهدون في تزلزل العقائد
بإلقاء المتشابه، وكل ما لا يظهر للعقول معناه فيقولون: ما معنى
الاغتسال من المني دون البول؟ ولم كانت أبواب الجنة ثمانية، وأبواب
النار سبعة؟ وقوله: " عليها تسعة عشر " أترى ضاقت القافية ما نظن هذا
إلا لفائدة لا يفهمها كثير من الناس، ويقولون: لم كانت السموات سبعاً؟
ثم يشوقون إلى جواب هذه الأشياء، فإن سكت السائل سكتوا، وإن ألح قالوا:
عليك بالعهد والميثاق على كتمان هذا السر، فإنه الدر الثمين، فيأخذون
عليه العهود والميثاق على كتمان هذا، ويقولون في الأيمان " وكل مالك
صدقة وكل امرأة لك طالق ثلاثاً إن أخبرت بذلك " ثم يخبرونه ببعض الشيء،
ويقولون: هذا لا يعلمه إلا آل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقولون:
هذا الظاهر له باطن، وفلان يعتقد ما نقول، ولكنه يستره ويذكرون له بعض
الأفاضل، ولكنه ببلد بعيد.
فصل واعلم أن مذهبهم ظاهره الرفض، وباطنه الكفر، ومفتتحه حصر مدارك
العلوم في قول الإمام المعصوم، وعزل العقول أن تكون مدركة للحق، ولما
يعترضها من الشبهات، والمعصوم يطلع من جهة الله تعالى على جميع أسرار
الشرائع، ولا بد في كل زمان من إمام معصوم يرجع إليه. هذا مبدأ دعوتهم.
ثم يبين
أن غاية مقصدهم نقض الشرائع؛ لأن سبيل دعوتهم ليس متعيناً في واحد، بل
يخاطبون كل فريق بما يوافق رأيه، لأن عرضهم الاستتباع وقد بث عنهم أنهم
يقولون بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان إلا أن أحدهما علة
لوجود الثاني، واسم العلة السابق، واسم المعلول، التالي، وأن السابق
خلق العالم بواسطة التالي، لا بنفسه، وقد يسمون الأول عقلاً، والثاني
نفساً، والأول تاماً، والثاني ناقصاً، والأول لا يوصف بوجود، ولا عدم،
ولا موصوف، ولا غير موصوف، فهم يؤمنون إلى النفي؛ لأنهم لو قالوا معدوم
ما قبل منهم، وقد سموا هذا النفي تنزيهاً، ومذهبهم في النبوات قريب من
مذهب الفلاسفة، وهو أن النبي عبارة عن شخص فاضت عليه من العقل السابق
بوساطة الثاني قوة قدسية صافية، وأن جبريل عبارة عن العقل الفائض إليه،
لا أنه شخص، وأن القرآن هو تعبير محمد عن المعارف التي فاضت عليه من
العقل، فسمي كلام الله مجازاً، لأنه مركب من جهته، وهذه القوة الفائضة
على النبي، لا تفيض عليه في أول أمره، وإنما تتربى كنطفة.
واتفقوا على أنه لا بد في كل عصر من إمام معصوم قائم بالحق، يرجع إليه
في تأويل الظواهر، وحل الإشكال في القرآن والأخبار، وأنه يساوي النبي
في العصمة، ولا يتصورون في زمان واحد إمامان، بل يستظهر الإمام
بالدعاة، وهم الحجيج، ولا بد للإمام من اثني عشر حجة، أربعة منهم لا
يفارقونه.
وكلهم أنكر القيامة، وقالوا: هذا النظام وتعاقب الليل والنهار، وتولد
الحيوانات لا ينقضي أبداً، وأولوا القيامة بأنها رمز إلى خروج الإمام،
ولم يثبتوا الحشر ولا النشر، ولا الجنة ولا النار، ومعنى المعاد عندهم
عود كل شيء إلى أصله، قالوا: فجسم الآدمي يبلى، والروح إن صفت بمجانبة
الهوى، والمواظبة على العبادات، وغذيت بالعلم سعدت بالعود إلى وطنها
الأصلي، وكمالها بموتها، إذ به خلاصها من ضيق الجسد.
وأما النفوس المنكوسة المغموسة في عالم الطبيعة المعرضة عن طلب رشدها
من الأئمة المعصومين، فإنها أبداً في النار على معنى أنها تتناسخ في
الأبدان الجسمانية، وكلما فارقت جسداً تلقاها آخر، واستدلوا بقوله
تعالى: " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها " وأكثر مذاهبهم يوافق
الثنوية والفلاسفة في الباطن، والروافض في الظاهر، وغرضهم بهذه
التأويلات انتزاع المعتقدات الظاهرة، من نفوس الناس، حتى تبطل الرغبة
والرهبة.
ثم أنهم يعتقدون استباحة المحظورات، ورفع الحجر، ولو ذكر لهم هذا
لأنكروه، وقالوا: لا بد من الانقياد للشرع على ما يفعله الإمام، فإذا
أحاطوا بحقائق الأمور انحلت عنهم القيود والتكاليف العملية إذ المقصود
عندهم من أعمال الجوارح تنبيه القلب، وإنما تكليف الجوارح للخمر الذين
لا يراضون إلا بالسياقة. وغرضهم هدم قوانين الشرع.
قالوا: وكل ما ذكر من التكاليف فرموز إلى باطن، فمعنى الجنابة مبادرة
المستجيب بإنشاء سر إليه، قبل أن ينال رتبة الاستحقاق لذلك، ومعنى
الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك. والزنا: إلقاء نطفة العلم الباطن
إلى نفس من لم يسبق معه عقد العهد، والاحتلام أن يسبق الإنسان إلى
إفشاء السر في غير محله، والصيام: الإمساك عن كشف السر.
والمحرمات عبارة عن ذوي السر، والبعث عندهم الاهتداء إلى مذاهبهم.
ويقولون " للذكر مثل حظ الأنثيين " الذكر الإمام، والحجة الأنثى.
وقالوا: " يوم يأتي تأويله " أي يظهر محمد بن إسماعيل.
وفي قوله: " حرمت عليكم الميتة " . قالوا: الميتة الجامد على الظاهر
الذي لا يلتفت إلى التأويل.
وقالوا: إن الشاء والبقر التي تذبح هم الذين حضروا محاربة الأنبياء
والأئمة، يترددون في هذه الصور، ويجب على الذابح أن يقول عند الذبح
اللهم إني أبرأ إليك من روحه وبدنه، وأشهد له بالضلالة اللهم لا تجعلني
من المذبوحين.
ولهم من هذا الهذيان ما ينبغي تنزيه الوقت عن ذكره، وإنما علمت هذه
الفضائح من أقوام تدينوا بدينهم، ثم بانت لهم قبائحهم فتركوا مذهبهم.
فإن قال
قائل مثل هذه الاعتقادات الركيكة، والحديث الفارغ، كيف يخفى على من
يتبعهم، ونحن نرى أتباعهم خلقاً كثيراً، فالجواب أن أتباعهم أصناف
فمنهم قوم ضعفت عقولهم، وقلت بصائرهم وغلبت عليهم البلادة والبله، ولم
يعرفوا شيئاً من العلوم كأهل السواد والأكراد، وجفاة الأعاجم، وسفهاء
الأحداث، فلا يستبعد ضلال هؤلاء، فقد كان خلق ينحتون الأصنام،
ويعبدونها. ومن أتباعهم طائفة انقطعت دولة أسلافهم بدولة الإسلام
كأبناء الأكاسرة والدهاقين، وأولاد المجوس، فهؤلاء موتورون، قد استكن
الحقد في صدورهم، فهو كالداء الدفين، فإذا حركته تخائيل المبطلين
اشتعلت نيرانه.
ومن أتباعهم قوم لهم تطلع إلى التسلط والاستيلاء، ولكن الزمان لا
يساعدهم، فإذا رأوا طريق الظفر بمقاصدهم سارعوا.
ومن أتباعهم قوم جبلوا على حب التميز عن العوام، فزعموا أنهم يطلبون
الحقائق، وأن أكثر الخلق كالبهائم، وكل ذلك لحب النادر الغريب.
ومن أتباعهم ملحدة الفلاسفة والثنوية الذين اعتقدوا الشرائع نواميس
مؤلفة، والمعجزات مخاريق مزخرفة، فأرادوا من يعطيهم شيئاً من أغراضهم
مالوا إليه.
ومن أتباعهم قوم مالوا إلى عاجل اللذات، ولم يكن لهم علم ولا دين، فإذا
صادفوا من يرفع عنهم الحجر مالوا إليه. على أن هؤلاء القوم لا يكشفون
أمرهم إلا بالتدريج على قدر طمعهم في الشخص.
وإنما مددنا النفس في شرح حالهم، وإن كنا إنما ذكرنا بيتاً من قصيدة
لعظم ضررهم على الدين، وشياع كلمتهم المسمومة، وإنما اجتمعت الأسباب
التي ذكرناها في وسط أيامهم، وإلا فمعاندوا الشرائع منذ كانت خلق كثير.
وقد نبغ قوم منهم فأظهروا إمامة محمد بن الحنفية، وقالوا: إن روح محمد
انتقلت إليه، ثم انتقلت منه إلى أبي مسلم صاحب الدعوة، ثم إلى أبي مسلم
صاحب الدعوة، ثم إلى المهدي، ثم إلى رجل يعرف بابن القصري، ثم خمدت
نارهم ثم نبغ منهم في أيام المأمون فاحتال، فلم تنفذ حيلته، ثم تناصروا
في أيام المعتصم، وكاتبوا الأفشين، وهو رئيس الأعاجم، فمال إليهم،
واجتمعوا مع بابك، ثم زاد جمعهم على ثلثمائة ألف، فقتل المعتصم منهم
ستين ألفاً، وقتل الأفشين أيضاً، ثم ركدت دولتهم، ثم نبغ منهم جماعة
وفيهم رجل من ولد بهرام جور، وقصدوا إبطال الإسلام، ورد الدولة
الفارسية، وأخذوا يحتالون في تضعيف قلوب المؤمنين، وأظهروا مذهب
الإمامية، وبعضهم مذهب الفلاسفة، وجعل لهم رأس يعرف بعبد الله بن ميمون
بن عمرو، ويقال: ابن ديصان القداح الأهوازي، وكان مشعبذاً ممخرقاً،
وكان معظم مخرقته بإظهار الزهد والورع، وأن الأرض تطوى له، وكان يبعث
خواص أصحابه إلى الأطراف معهم طيور، ويأمرهم أن يكتبوا إليه الأخبار عن
الأباعد، ثم يحدث الناس بذلك، فيقوي شبههم.
وكانوا يقولون: إن المتقدمين منهم يستخلفون عند الموت، وكلهم خلفاء
محمد بن إسماعيل بن جعفر الطالبي، وأن من الدعاة إلى الإمام معداً أبا
تميم، وإسماعيل أباه، وهم المتغلبون على بلاد المغرب، ومن استجاب لهم
عرفوه أنه إن عمل ما يرضيهم صار إماماً ونبياً، وانه يرتقي المبتدئ
منهم إلى الدعوة، ثم إلى أن يكون حجة، ثم إلى الإمامة، ثم يلحق مرتبة
الرسل، ثم يتحد بالرب فيصير رباً ولا يجوز لأحد أن يحجب امرأته عن
إخوانه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن الهيثم بن المهلب أبو إسحاق البلدي سمع من جماعة، وروى عنه
النجاد، وأبو بكر الشافعي، وكان ثقة ثبتاً.
توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة.
إبراهيم بن شبابة مولى بني هاشم وكان شاعراً مليح النادرة.
أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، عن علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه
قال: أخبرني أبو الفرج الأصبهاني قال: حدثني حبيب بن نصر المهلبي،
حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني عبد الله بن أبي نصر المروزي
قال: حدثني محمد بن إبراهيم بن شبابة الشاعر البصري، فأنزلته علي، فجاء
ليلة من الليالي وهو مكروب، قد هاج، فجعل يصيح بي: يا أبا أيوب، فخشيت
أن يكون قد غشيته بلية. فقلت: ما تشاء! فقال: أعياني الشادن الربيب
فقلت: بماذا! فقال: إليه أشكو فلا يجيب فقلت داره وداوه فقال:
من أين أبغي دواء دائي ... وإنما دائي الطبيب
فقلت: إذاً يفرج الله عز وجل. فقال :
يا رب فرج
إذاً وعجل ... فإنك السامع المجيب
قال: ثم انصرف.
الحسن بن علي بن مالك بن أشرس بن عبد الله بن منجاب أبو محمد الشيباني،
المعروف بالأشناني حدث عن يحيى بن معين وغيره. روى عنه: ابن مخلد.
وتوفي في شعبان هذه السنة، وصلى عليه أبو بكر بن أبي الدنيا.
قال أبو الحسين بن المنادي: كتب الناس عنه، وكان به أدنى لين.
عبد الكريم بن الهيثم بن زياد أبو يحيى القطان سافر وجال، وسمع سليمان
بن حرب، وأبا نعيم، وأبا الوليد الطيالسي في خلق كثير. روى عنه:
البغوي، وابن صاعد، وكان ثقة ثبتاً مأموناً.
توفي في شعبان هذه السنة.
عبدة بن عبد الرحيم. كان من أهل الدين والجهاد.
أنبأنا زاهر بن طاهر قال: أنبأنا أبو بكر البيهقي، أخبرنا الحاكم أبو
عبد الله محمد بن عبد الله قال: سمعت أبا الحسين بن أبي القاسم المذكر
يقول: سمعت عمر بن أحمد بن علي الجوهري يقول: أخبرني أبو العباس أحمد
بن علي قال: قال عبدة بن عبد الرحيم: خرجنا في سرية إلى أرض الروم،
فصحبنا شاب لم يكن فينا أقرأ للقرآن منه، ولا أفقه ولا أفرض، صائم
النهار، قائم الليل، فمررنا بحصن فمال عنه العسكر، ونزل بقرب الحصن،
فظننا أنه يبول، فنظر إلى امرأة من النصارى تنظر من وراء الحصن، فعشقها
فقال لها بالرومية: كيف السبيل إليك! قالت: حين تنصر ويفتح لك الباب
وأنا لك. قال: ففعل فأدخل الحصن، قال: فقضينا غزاتنا في أشد ما يكون من
الغم، كأن كل رجل منا يرى ذلك بولده من صلبه، ثم عدنا في سرية أخرى،
فمررنا به ينظر من فوق الحصن مع النصارى، فقلنا: يا فلان، ما فعلت
قراءتك؟ ما فعل علمك؟ ما فعلت صلواتك وصيامك؟ قال: اعلموا أني نسيت
القرآن كله ما أذكر منه إلا هذه الآية " ربما يود الذين كفروا لو كانوا
مسلمين ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون " .
محمد بن أحمد بن الوليد بن محمد بن برد بن يزيد بن سخت أبو الوليد
الأنطاكي سمع رواد بن الجراح، ومحمد بن كثير الصنعاني، ومحمد بن عيسى
الطباع، وغيرهم. قدم بغداد فحدث بها، فروى عنه: أبو عبد الله المحاملي،
وأبو الحسين بن المنادي، وأبو بكر الشافعي، وغيرهم. قال النسائي: هو
أنطاكي صالح، وقال الدارقطني: هو ثقة. توفي في هذه السنة راجعاً من
مكة.
محمد بن جعفر المتوكل على الله يكنى: أبا أحمد. ولد في ربيع الأول يوم
الأربعاء لليلتيم خلتا منه، سنة سبع وعشرين ومائتين وأمه أم ولد ولقب
الموفق بالله، وكان أخوه المعتمد قد عقد له ولاية العهد بعد ابنه جعفر،
فمات الموفق قبل موت المعتمد بسنة وأشهر وقيل: اسمه طلحة، وقد ذكرنا
وقائعه وحروبه فيما مضى، وما فعل بصاحب الزنج بالبصرة، وكان له الجيش
تحت يده والأمر كله إليه وما جرى له مع عمرو بن الليث، ومع ابن طولون،
وتسمى بعد قتل صاحب الزنج: بالناصر لدين الله، مضافاً إلى الموفق
بالله، فكان يخطب له على المنابر بلقبين: اللهم أصلح الأمير الناصر
لدين الله أبا أحمد الموفق بالله، ولي عهد المسلمين أخا أمير المؤمنين
وكان غزير العقل حسن التدبير. كريماً. قال يوماً: إن جدي عبد الله بن
العباس رضي الله عنهما كان يقول: إن الذباب ليقع على جليسي فيغمني ذلك.
وهذا نهاية الكرم، أنا والله أرى جلسائي بالعين التي أرى أخوتي والله
لو تهيأ لي نقلت أسماءهم من الجلساء والندماء إلى الأخوان والندماء.
وفي هذه السنة: قدم أبو أحمد من الجبل إلى العراق، وقد اشتد به وجع
النقرس، حتى لم يقدر على الركوب، فاتخذ له سرير عليه قبة، فكان يقعد
عليه، ومعه خادم يبرد رجله بالأشياء الباردة، حتى بلغ من أمره أنه كان
يضع عليها الثلج، ثم صارت علة رجله داء الفيل وكان يحمل سريره أربعون
حمالاً، يتناوب عليه عشرون عشرون، وربما اشتد به أحياناً فيأمرهم أن
يضعوه، فقال لهم يوماً: قد ضجرتم وبودي أني واحد منكم أحمل على رأسي،
وآكل، وأني في عافية، قد أطبق دفتري على مائة ألف مرتزق أسوأ ما فيهم
أقبح حالاً مني.
توفي بالقصر الحسني ليلة الخميس لثمان بقين من صفر هذه السنة، وله تسع
وأربعون سنة تنقص شهراً وأياماً.
قال أبو بكر الصولي: حدثني عبد الله بن المعتز قال:
لما مات
الموفق كتب إلي عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يعزيني عنه، فقال: إني
أعزيك بالمنصور الثاني، لأني لا أعرف في ولده أشبه به منه.
ثم دخلت
سنة تسع وسبعين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن السلطان أمر أن ينادى ببغداد أن لا يقعد على
الطريق، ولا في مسجد الجامع قاص، ولا صاحب النجوم، ولا زاجر، وحلف
الوراقون أن لا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة.
وفي هذه السنة: خلع جعفر المفوض من العهد لثمان بقين من المحرم، وفي
ذلك اليوم بويع المعتضد بولاية العهد بأنه ولي العهد من بعد المعتمد،
وانتشرت الكتب بخلع جعفر، وتولية المعتضد، ونفذت إلى البلدان، وخطب
للمعتضد، ونفذت إلى البلدان، وخطب للمعتضد بولاية العهد، وأنشئت عن
المعتضد كتب إلى العمال، بأن أمير المؤمنين ولاه العهد، وجعل إليه ما
كان الموفق يليه من الأمر والنهي والولاية والعزل.
وفي هذه السنة توفي المعتمد وبويع المعتضد.
باب ذكر خلافة المعتضد بالله
واسمه: أحمد بن أبي أحمد الموفق بالله، واسم أبي أحمد:محمد وقيل: طلحة
بن جعفر المتوكل على الله بن المعتصم بن الرشيد، ويكنى: أبا العباس،
وأمه أم ولد.
قال الصولي: كان اسمها ضرار، ثم سميت: تحقين، وتوفيت قبل خلافته بيسير،
وكان مولده بسر من رأى سنة ثلاث وأربعين ومائتين. وقيل: اثنتين وأربعين
ومائتين وكان أسمر، نحيف الجسم، معتدل الخلق، وقد وخطه الشيب، قي مقدم
لحيته طول، وفي مقدم رأسه شامة بيضاء، وكان نقش خاتمه " حامده أحمد
يؤمن بالله الواحد " وكان له من الولد علي المكتفي، ومحمد القاهر،
وجعفر المقتدر.
بويع المعتضد في صبيحة الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة تسع
وسبعين، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، فولى عبيد الله بن سليمان بن وهب
الوزارة، ومحمد بن شاه بن ميكال الحرس، وصالحاً الحجابة، ثم وزر له
القاسم بن عبيد الله، وقضاءه إسماعيل بن إسحاق، ويوسف بن يعقوب، وابن
أبي الشوارب. وكان المعتضد من رجالات بني العباس، ومن أكملهم وأكثرهم
تجربة وكان أمر الخلافة قد ضعف، وبيوت الأموال فارغة، ودبر وساس، فقال
ابن المعتز:
يا أمير المؤمنين المرجى ... قد أقر الله فيك العيونا
إذا دعينا لك بيعة حق ... فسعينا نحوها مسرعينا
بنفوس أملتك زماناً ... سبقت أيدينا طائعينا
أنت أقررت حشا كل نفس ... وفرشت الأمن للخائفينا
ذكر طرف من سيرته وأخباره أنبأنا محمد بن أبي طاهر البزاز قال: أنبأنا
علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه قال: حدثني عبد الله بن عمر الحارثي
قال: حدثني أبي قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن حمدون قال: كان
المعتضد في بعض متصيداته فجاز بعسكره، وأنا معه، فصاح ناطور في قراح
قثاء، فاستدعاه وسأله عن سبب صياحه، فقال: أخذ بعض الجيش من القثاء
شيئاً. فقال: اطلبوهم فجاءوا بثلاثة أنفس، فقال: هؤلاء الذين أخذوا
القثاء؟ فقال الناطور: نعم فقيدهم في الحال، وأمر بحبسهم، فلما كان من
الغد أنفذهم إلى القراح، فضرب أعناقهم فيه، وسار، فأنكر الناس ذلك
وتحدثوا به، ومضت على ذلك مدة طويلة، فجلست أحادثه ليلة فقال لي: يا
أبا عبد الله، هل يعيب الناس شيئاً عرفني حتى أزيله؟ قلت: كلا يا أمير
المؤمنين! فقال: أقسمت عليك بحياتي إلا ما صدقتني. قلت: يا أمير
المؤمنين، وأنا آمن؟ قال: نعم. قلت: إسراعك إلى سفك الدماء قال: والله
ما هرقت دماً منذ وليت الخلافة إلا بحقه قال: فأمسكت إمساك من ينكر
عليه. فقال: بحياتي ما يقولون؟ قلت: يقولون إنك قتلت أحمد بن الطيب،
وكان خادمك، ولم يكن له جناية ظاهرة. قال: دعاني إلى الإلحاد فقلت له
يا هذا، أنا ابن عم صاحب الشريعة صلوات الله عليه وسلامه، وأنا الآن
منتصب منصبه، فألحد حتى أكون من؟ فسكت سكوت من يريد الكلام فقال لي: في
وجهك كلام! فقلت: الناس ينقمون عليك أمر الثلاثة الأنفس الذين قتلتهم
في القراح. فقال:
والله ما
كان أولئك الذين أخذوا القثاء وإنما كانوا لصوصاً حملوا من موضع كذا
وكذا ووافق ذلك أمر القثاء فأردت أن أصول على الجيش بأن من عاث من
عسكري في هذا القدر كانت هذه عقوبتي له، ليكفوا عما فوقه، ولو أردت
قتلهم لقتلتهم في الحال، وإنما حبستهم وأمرت بإخراج اللصوص من غد مغطي
الوجوه ليقال إنهم أصحاب القثاء فقلت: كيف تعلم العامة هذا؟ قال:
بإخراج القوم الذين أخذوا القثلاء وإطلاقي لهم في هذه الساعة، ثم قال:
هاتوا القوم! فجاءوا بهم وقد تغيرت حالهم من الحبس والضرب، فقال: ما
قصتكم؟ فقصوا عليه قصتهم، فقال: أتتوبون من مثل هذا الفعل حتى أطلقكم؟
قالوا: نعم! فأخذ عليهم التوبة، وخلع عليهم وأمر بإطلاقهم، ورد أرزاقهم
عليهم فانتشرت الحكاية وزالت عنه التهمة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا محمد
بن أحمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن نعيم الضبي قال: سمعت أبا الوليد حسان
بن محمد الفقيه يقول: سمعت أبا العباس بن سريج يقول: سمعت إسماعيل بن
إسحاق القاضي يقول: دخلت على المتعضد وعلى رأسه أحداث روم صباح الوجوه،
فنظرت إليهم، فرآني المعتضد وأنا أتأملهم، فلما أردت القيام أشار إلي
فمكثت ساعة فلما خلا قال لي: أيها القاضي، والله ما حللت سراويلي على
حرام قط.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي، عن علي بن المحسن قال:
حدثني أبي، عن أبي محمد عبد الله بن حمدون قال: قال لي المعتضد ليلة
وقد قدم إليه العشاء: لقمني، وكان الذي قدم دراريج وفراريج، فلقمته من
صدر فروج، فقال: لا لقمني من فخذه، فلقمته لقماً، ثم قال: هات من
الدراريج فلقمته من أفخاذها. فقال: ويلك، هو ذا تتنادر علي هات من
صدورهن! فقلت: يا مولاي ركبت القياس، فضحك. فقلت: أنا إلى كم أضحكك ولا
تضحكني؟ قال: شل المطرح وخذ ما تحته، فأشلته فإذا دينار واحد! فقلت:
آخذ هذا؟ قال: نعم؛ فقلت: بالله هو ذا تتناذر علي أنت الساعة تتناذر
علي! خليفة يجيز نديمه بدينار. قال: ويلك لا أجد لك في بيت المال حقاً
أكثر من هذا، ولا تسمح نفسي أن أعطيك شيئاً من مالي، ولكن هو ذا أحتال
لك بحيلة تأخذ فيها خمسة آلاف دينار! فقبلت يده، فقال: إذا كان غداً
وجاء القاسم يعني ابن عبيد الله، فهو ذا أسارك حين تقع عيني عليه سرارا
طويلاً ألتفت فيه إليه كالمغضب، وانظر أنت إليه في خلال ذلك كالمخالس
لي نظر الترثي له، فإذا انقطع السرار، فاخرج ولا تبرح من الدهليز أو
يخرج، فإذا خرج خاطبك بجميل، وأخذك إلى دعوته، وسألك عن حالك فأشك
الفقر والخلة، وقلة حظك مني، وثقل ظهرك بالدين والعيال، وخذ ما يعطيك،
واطلب كل ما تقع عليه عينيك، فإنه لا يمنعك حتى تستوفي الخمسة آلاف
دينار، فإذا أخذتها فسيسألك عما جرى لنا فاصدقه، وإياك أن تكذبه، وعرفه
أن ذلك حيلة مني عليه حتى وصل إليك هذا، وحدثه بالحديث كله على شرحه،
وليكن إخبارك إياه بذلك بعد امتناع شديد وإحلاف منه لك بالطلاق والعتاق
أن تصدقه، وبعد أن تخرج من داره تأخذ كل ما يعطيك إياه، وتجعله في
بيتك، فلما كان من غد حضر القاسم فحين رآه بدأ يسارني وجرت القصة على
ما وضعني عليه فخرجت، فإذا القاسم في الدهليز ينتظرني فقال لي: يا أبا
محمد، ما هذا الجفاء ما تجيئني ولا تزورني ولا تسألني حاجة؟ فاعتذرت
إليه باتصال الخدمة علي فقال: ما تقنعني هذا إلا تزورني اليوم وتتفرج،
فقلت: أنا خادم الوزير، فأخذني إلى طياره، وجعل يسألني عن حالي
وأخباري، وأشكو إليه الخلة، والإضافة، والدين، والبنات وجفاء الخليفة،
وإمساك يده، فيتوجع ويقول: يا هذا، ما لي لك ولن يضيق عليك ما يتوسع
علي أو تتجاوزك نعمة تحصلت لي أو يتخطاك حظ نازل في فنائي، ولو عرفتني
لعاونتك على إزالة هذا كله عنك، فشكرته وبلغنا داره، فصعد ولم ينظر في
شيء، وقال:
هذا يوم
أحتاج أن أختص فيه بالسرور بأبي محمد فلا يقطعني أحد عنه، فأمر كتابه
بالتشاغل بالأعمال، وخلا بي في داره الخلوة، وجعل يحادثني ويبسطني،
وقدمت الفاكهة، فجعل يلقمني بيده، وجاء الطعام، وكانت هذه سبيله. وهو
يستزيدني فلما جلس للشرب وقع لي بثلاثة آلاف دينار، فأخذتها في الوقت
وأحضرني ثياباً وطيباً ومركباً، فأخذت ذلك، وكانت بين يدي صينية فضة
فيها مغسل فضة، وخرداً ذي بلور وكوز وقدح بلور، فأمر بحمله إلى
الطيارة، وأقبلت كلما رأيت شيئاً حسناً له قيمة وافرة طلبته، وحمل إلي
فرشاً نفيساً وقال: هذا للبنات! فلما تقوص أهل المجلس خلا بي، وقال: يا
أبا محمد! أنت عالم بحقوق أبي عليك، ومودتي لك! فقلت: أنا خادم الوزير
فقال: أريد أن أسألك عن شيء، وتحلف أنك تصدقني عنه! فقلت: السمع
والطاعة! فحلفني بالله وبالطلاق والعتاق على الصدق، ثم قال لي: بأي شيء
سارك الخليفة اليوم في أمري؟ فصدقته عن كل ما جرى حرفاً بحرف فقال:
فرجت عني، وإن يكون هذا هكذا مع سلامة نيته لي أسهل عنه كل ما جرى علي.
فشكرته وودعته، وانصرفت إلى بيتي فلما كان بالغد باكرت المعتضد فقال:
هات حديثك! فنسقته عليه؛ فقال: احفظ الدنانير، ولا يقع لك أني أعمل
مثلها معك بسرعة.
أنبأنا أبو بكر بن عبد الباقي قال: أنبأنا علي بن المحسن، عن أبيه، عن
جده قال: حدثني أبو محمد الحسن بن محمد الطلحي قال: حدثني أحد خدم
المعتضد المختصين بخدمته قال: كنا حول سرير المعتضد ذات يوم نصف
النهار، وقد نام بعد أن أكل، وكان رسمنا أن نكون حول سريره إذا نام
منامه من الليل أو النهار، فانتبه منزعجاً قال: يا خدم يا خدم، فأسرعنا
الجواب. فقال: ويلكم أغيثوني والحقوا! الشط فأول ملاح ترونه منحدراً في
سفينة فارغة، فاقبضوا عليه، وجيئوني به، ووكلوا بسفينته. فأسرعنا
فوجدنا ملاحاً في سميرية منحدراً وهي فارغة فقبضنا عليه ووكلنا
بالسميرية فأصعدناه إليه فحين رآه الملاح كاد يتلف، فصاح عليه صيحة
واحدة عظيمة كادت روحه تخرج معها، فقال: اصدقني يا ملعون عن قصتك مع
المرأة التي قتلتها وسلبتها اليوم إلا ضربت عنقك. قال: فتلعثم، وقال:
نعم كنت اليوم سحراً في مشرعتي الفلانية، فنزلت امرأة لم أر مثلها،
عليها ثياب فاخرة، وحلي كثير وجوهر، فطمعت فيها، واحتلت عليها حتى سددت
فاها وغرقتها، وأخذت جميع ما كان عليها، ولم أجترئ على حمل سلبها إلى
بيتي لئلا يفشوا الخبر علي، فعملت على الهرب، وانحدرت الساعة لأمضي إلى
واسط، فعوقني هؤلاء الخدم وحملوني. فقال: وأين الحلي والسلب. فقال: في
صدر السفينة تحت البواري. فقال المعتضد للخدم جيئوني به؛ فمضوا وأحضروه
وقال: خذوا الملاح فغرقوه! ففعلوا ثم أمر أن ينادى ببغداد كلها على
امرأة خرجت إلى المشرعة الفلانية سحراً وعليها ثياب وحلي يحضر من
يعرفها، ويعطي صفة ما كان عليها ويأخذه، فقد تلفت المرأة، فحضر في
اليوم الثاني أو الثالث أهل المرأة فأعطوه صفة ما كان عليها، فسلم ذلك
إليهم قال: فقلنا: يا مولاي، أوحي إليك؟ فقال: رأيت في منامي كأن شيخاً
أبيض الرأس واللحية والثياب، وهو ينادي: يا أحمد! خذ أول ملاح ينحدر
الساعة فاقبض عليه، وقرره خبر المرأة التي قتلها اليوم وسلبها، وأقم
عليه الحد فكان ما شهدتم.
أنبأنا أبو بكر بن عبد الباقي قال: أنبأنا علي بن المحسن، عن أبيه قال:
حدثني محمد بن أحمد بن عثمان الزيات قال: حدثني أبو بكر بن حوري وكان
يصحب أبا عبد الله بن أبي عوف قال: كنت ألزم ابن أبي عوف سنين لجوار
بيننا ومودة، وكان رسمي أن أجيء كل ليلة بعد العتمة، فحين يراني يمد
رجله في حجري فأغمزها وأحادثه، ويسألني عن الحوادث ببغداد، فكنت
أستقرئها له، فإذا أراد أن ينام قبض رجله، فقمت إلى بيتي وقد مضى ثلث
الليل أو نصفه أو أقل أو أكثر، على هذا سنين، فلما كان ذات يوم جاءني
رجل كان يعاملني، فقال: قد دفعت إلى أمر إن تم علي افتقرت. قلت: ما هو؟
قال رجل: كنت أعامله فاجتمع لي عليه ألف دينار، فطالبته، فوهبني عقد
جوهر قوم بألف دينار إلى أن يفتكه بعد الشعور أو أبيعه، فأذن لي في
ذلك، فلما كان أمس وجه مؤنس صاحب الشرطة من كبس دكاني، وفتح صندوقي،
وأخذ العقد، فقلت: أنا أخاطب ابن أبي عوف، فيلزمه برده، قال:
وأنا مدل
بابن أبي عوف لمكاني منه، ومكانه من المعتضد؛ فلما كان تلك الليلة جئت
وحادثته على رسمي، وذكرت له في جملة حديثي العقد، فلما سمع نحى رجله من
حجري، وقال: ما أنا وهذا؟ أعادي صاحب شرطة خليفة! فورد على أمر عظيم،
فخرجت من بيته بنية أن لا أعود، فلما صليت العتمة من الليلة المقبلة
جاءني خادم لابن أبي عوف وقال: لم تأخرت الليلة؟ إن كنت متشكياً جئناك.
فاستحييت وقلت: أمضي الليلة، فلما رآني مد رجله، وأقبلت بحديث متكلف،
فصبر على ذلك ساعة، ثم قبض رجله، فقمت، فقال: يا أبا بكر، انظر إيش تحت
المصلى فخذه، فرفعت المصلى فإذا برقعة، فأخذتها وتقدمت إلى الشمعة،
فإذا فيها يا مؤنس! جسرت على قصد دكان رجل تاجر، وفتحت صندوقه، وأخذت
منه عقد جواهر، وأنا في الدنيا! والله لولا أنها أول غلطة غلطتها ما
جرى في ذلك مناظرة! اركب بنفسك إلى دكان الرجل حتى ترد العقد بيدك في
الصندوق ظاهراً . فقلت لأبي عبد الله: ما هذا! فقال: هذا خط المعتضد،
مثلت بين وجدك وبين مؤنس، فاخترتك عليه، فأخذت خط أمير المؤمنين بما
تراه، فامض وأوصله إليه فقبلت رأسه، وجئت إلى الرجل، فأخذت بيده ومضينا
إلى مؤنس، فسلمت التوقيع إليه، فلما رآه اسود وجهه، وارتعد حتى سقطت
الرقعة من يده، ثم قال: يا هذا الله بيني وبينك! هذا شيء ما علمت به
فالا تظلمته إلي وإن لم أنصفكم فإلى الوزير، بلغتم الأمر إلى أمير
المؤمنين من أول وهله! قال: قال: فقلت بعلمك جرى والعقد معك فأحضره،
فقال: خذ الألف دينار التي عليه الساعة، واكتبوا على الرجل ببطلان ما
ادعاه فقلت: لا نفعل! فقال: ألف وخمسمائة دينار قلت: والله لا نرضى حتى
تركب بنفسك إلى الدكان، فترد العقد، فركب ورد العقد إلى مكانه.
قال المحسن: وبه حدثنا أبو أحمد الحسين بن محمد المدلجي قال: بلغني عن
خفيف السمرقندي قال: كنت مع مولاي المعتضد في بعض متصيداته، وقد انقطع
عن العسكر وليس معه أحد غيري، فخرج علينا أسد، فقصدنا فقال لي المعتضد:
يا خفيف، أفيك خير؟ قلت: لا يا مولاي! فقال: ولا حتى تمسك فرسي وأنزل
أنا إلى الأسد؟ فقلت: بلى! فنزل وأعطاني فرسه، وشد أطراف ثيابه في
منطقته، واستل سيفه، ورمى القراب إلي فأخذته، وأقبل يمشي إلى الأسد،
فطلبه الأسد، فحين قرب منه وثب الأسد عليه، فتلقاه المعتضد بضربة، فإذا
يده قد طارت فتشاغل الأسد بالضربة، فثناه بأخرى، ففلق هامته فخر
صريعاً، ودنا منه وقد تلف، فمسح السيف في صوفه ورجع إلي، وغمد السيف،
وركب، ثم عدنا إلى العسكر وصحبته إلى أن مات ما سمعته يحدث بحديث
الأسد، ولا علمت أنه لفظ فيه بلفظة ، فلم أدر من أي شيء أعجب من شجاعته
وشدته! أم قلة احتفاله بما صنع حتى كتمه! أو من عفوه عني، فما عاتبني
على ضني بنفسي.
قال المحسن: وحدثني أبو الحسين محمد بن عبد الواحد الهاشمي قال: حدثني
القاضي أبو علي الحسن بن إسماعيل بن إسحاق - وكان ينادم المعتضد بالله
- قال: بينا المعتضد في مجلس سرور،إذ دخل بدر فقال: يا مولاي، قد
أحضرنا القطان الذي من بركة زلزل؛ فنهض من مجلسه ولبس قباء، وأخذ بيده
حربة، وقعد في مجلس قريب منا، وقد مدت بيننا وبينه ستارة، نشاهد من
ورائها، فأدخل عليه شيخ ضعيف، فقال له بصوت شديد ووجه مقطب ونظر مغضب:
أنت القبطان الذي قلت أمس ما قلت؟ فأغمي عليه لما تداخله من الخوف
والورع ونحى عنه ساعة حتى سكن، ثم أعيد إلى حضرته، فقال له: ويلك، تقول
في سوقك ليس للمسلمين من ينظر في أمورهم فأين أنا وما شغلي غير ذلك.
قال: يا أمير المؤمنين! أنا رجل عامي، ومعيشتي من القطن الذي أعامل فيه
النساء وأهل الجهل ولا تمييز عند مثلي فيما يلفظ به، وإنما اجتاز بي
رجل ابتعت منه، وكان ميزانه ووزنه تطفيفاً، فقلت ما قلت، وإنما أعني به
المحتسب علينا. فقال له المعتضد: بالله إنك أردت به المحتسب؟ قال: أي
والله، وأنا تائب من أن أقول مثل ما قلته أبداً، فأمر بأن يحضر المحتسب
وينكر عليه فيترك النظر في هذه الأمور، ورسم له اعتبار الصنج -
والموازين على السواقة والطوافين، ومراعاتهم حتى لا يبخسوا، ثم قال
للشيخ: انصرف فلا بأس عليك! وعاد إلينا فضحك وانبسط، ورجع إلى ما كان
عليه من قبل، فقلت له:
يا مولاي!
أنت تعرف فضولي فتأذن لي أن أورد ما في نفسي؟ فقال: قل! قلت: مولانا
كان على أكمل مسرة، فترك ذاك وتشاغل بخطاب كلب من السوقة، قد كان يكفيه
أن يصيح عليه رجل من رجال المعونة، ثم لم تقنع بإيصاله إلى مجلسه حتى
غير لباسه، وأخذت سلاحه، واستقبحت مناظرته لأجل كلمة تقولها العامة
دائماً ولا يميزون ما فيها؛ فقال: يا حسن! أنت تعلم ما يجره هذا القول
إذا تداولته الألسن، ووعته الأسماع، وحصل في القلوب، لأنه متى ألف
ولقنه هذا عن هذا لم يؤمن أن يولد لهم في نفوسهم امتعاضاً للدين أو
السياسة، يخرجون فيه إلى إثارة الفتن، وإفساد النظام، وليس شيء أبلغ في
هذا من قطع هذه الأسباب، وحسم موادها من إزالة دواعيها وموجباتها، وقد
طارت روح هذا القطان بما شاهد وسمعه، وسيحدث به، ويزيد فيه، ويعظم
الأمر ويفخمه، وسمع تقدمنا به في أمر المحتسب، وما نحن عليه من مراعاة
الكبير والصغير، وينشر بين العامة بما يكف ألسنتها، ويقيم الهيبة في
نفوسها، وليكون ما تكلفت من هذا التعب القليل قد كفاني التعب الكثير؛
فأقبلنا ندعو له.
قال المحسن: وحدثنا القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي أن
شيخاً من التجار كان له على أحد القواد في أيام المعتضد بالله مال، قال
التاجر: فماطلني به وسلك معي سبيل الالطاط فيه، وكان يحجبني إذا حضرت
بابه، ويضع غلمانه على الاستخفاف بي، والاستطالة علي إذا رمت لقاءه
وخطابه، وتظلمت إلى عبيد الله بن سليمان منه، فما نفعني ذلك، وعملت على
الظلامة إلى المعتضد بالله، وبينا أنا مرو في أمري قال لي بعض أصدقائي:
علي أن آخذ لك مالك من غير حاجة إلى ظلامة، فاستبعدت هذا وقمت معه،
فجئنا إلى خياط شيخ في سوق الثلاثاء يقرئ القرآن في مسجد هناك، ويخيط
بأجرة فقص عليه قصتي، وشرح له صورتي، وسأله أن يقصد القائد ويخاطبه في
الخروج إلي من حقي، وكانت دار القائد قريبة من مسجد الخياط، فنهض معنا
ومشينا فخفت بادرة القائد وسطوته، وتصورت أن قول الخياط لا ينفع مع
مثله مع محله وبسطته، وقلت لصديقي: قد عرضنا هذا الشيخ ونفوسنا لمكروه
عظيم، وما هو إلا أن يراه غلمانه، وقد أوقعوا به، وإذا كان لا يقبل قول
الوزير عبيد الله بن سليمان فبالأولى أن لا يقبل منه ولا يفكر فيه؛
فضحك وقال: لا عليك! وجئنا إلى باب القائد، فحين رأى غلمانه الخياط
تلقوه وأعظموه، وأهووا ليقبلوا يده فمنعهم منها وقالوا: ما جاء بك أيها
الشيخ؟ فإن قائدنا راكب، فإن كان لك أمر نقوم بذكره له، وتنتجزه إياه
فعلنا، وإن أردت الجلوس والانتظار فالدار بين يديك! فلما سمعت ذلك قويت
نفسي، ودخلنا وجلست، ورآني القائد، فلما رآه أكرمه إكراماً شديداً وقال
له: لست أنزع ثيابي حتى تأمر بأمرك، فخاطبه في شأني، فقال: والله ما
معي إلا خمسة آلاف درهم، فتسأله أن يأخذها ويأخذ رهوناً من مراكبي
الذهب والفضة بقيمة ما يبقى من ماله لأعطيه إياه بعد شهر؛ فبادرت أنا
إلى إجابته وأحضرت الدراهم والمراكب بقيمة الباقي، فقبضتها وأشهدت
الخياط وصديقي عليه بأن الرهن عندي إلى مدة شهر، فإن جاز كنت وكيله في
بيعه، وآخذ مالي من ثمنه، وخرجنا فلما بلغنا مسجد الخياط ودخلنا طرحت
الدراهم بين يديه وقلت له: قد رد الله مالي بك وعلى يديك، فخذ ما تريد
منه على طيب قلب مني! فقال: يا هذا، ما أسرع ما قابلتني بالقبيح على
الجميل، انصرف بمالك بارك الله لك فيه. قلت: قد بقيت لي حاجة؛ قال: قل!
قلت: أحب أن تخبرني عن سبب طاعة هذا القائد لك مع إقلاله الفكر بأكابر
الدولة. فقال: قد بلغت غرضك، فلا تقطعني عن شغلي بحديث لا فائدة لك
فيه. فألححت عليه.
فقال: أنا رجل أقرئ وأؤم بالناس في هذا المسجد منذ أربعين سنة، لا أعرف
كسباً إلا من الخياطة، وكنت صليت المغرب منذ مدة، وخرجت أريد منزلي،
فاجتزت على تركي كان في هذه الدار، وأومأ إلى دار بالقرب منه، وإذا
امرأة جميلة الوجه قد اجتازت عليه، فعلق بها وهو سكران، فطالبها
بالدخول إلى داره، وهي تمتنع وتستغيث وتقول في كلامها:
إن زوجي
قد حلف بطلاقي أن لا أبيت عنه وإن أخذني هذا وغصبني نفسي وبيتني عنده
خرب بيتي، ولحقني من العار ما لا تدحضه الأيام عني! وما أحد يعينها ولا
يمنعه منها، فجئت إلى التركي، ورفقت به في أن يخلي عنها، فلم يفعل وضرب
رأسي بدبوس كان في يده فشجه، وأدخل المرأة فصرت إلى منزلي وغسلت الدم
عن وجهي، وشددت رأسي وخرجت لصلاة العشاء الآخرة، فلما فرغنا من الصلاة
قلت لمن حضر قوموا معي إلى هذا التركي عدو الله لننكر عليه، ونخرج
المرأة من عنده، فقاموا، وجئنا فضججنا على بابه فخرج إلينا عدة من
غلمانه، فأوقع بنا وقصدني من بين الجماعة بالضرب الشديد الذي يكاد
يتلفني، فحملت إلى منزلي وأنا لا أعقل أمري، ونمت قليلاً للوجع، فطار
النوم من عيني، وسهرت مستلقياً على فراشي مفكراً في أمر المرأة وأنها
متى أصبحت طلقت، ثم قلت: هذا رجل قد شرب طول ليلته ولا يعرف الأوقات،
فلو أذنت لوقع له أن الفجر قد طلع، فربما أخرج المرأة، فمضت إلى بيتها
وتبيت، وبقيت في حبال زوجها، فتكون قد خلصت من أحد المكروهين، فخرجت
متحاملاً إلى المسجد، وصعدت المنارة وأذنت، وجلست أطلع إلى الطريق
أرتقب خروج المرأة من الدار، واعتقدت أن أقيم إن تراخى الأمر ذلك لئلا
يشك في الصباح، فما مضت ساعة حتى امتلأ الشارع خيلاً ورجالاً ومشاعل،
وهم يقولون: من الذي أذن الساعة، ففزعت وسكت، ثم قلت أخاطبهم وأصدقهم
عن أمري لعلهم يعينونني على خروج المرأة، فصحت من المنارة: أنا أذنت!
قالوا: انزل وأجب أمير المؤمنين! فنزلت ومضيت معهم، فإذا هم غلمان بدر،
فأدخلني إلى المعتضد بالله، فلما رأيته هبته وأخذتني رعدة شديدة، فقال
لي: اسكن، ما حملك على الأذان في غير وقته وأن تغر الناس فيخرج ذو
الحاجة في غير حينه، ويمسك المريد الصوم في وقت أبيح له الأكل والشرب؟
فقلت: يؤمنني أمير المؤمنين لأصدقنه، قال: أنت آمن! فقصصت عليه قصة
التركي، وأريته الآثار التي في رأسي ووجهي، فقال: يا بدر! علي بالغلام
والمرأة فأحضرا فسألها المعتضد عن أمرها، فذكرت له مثل ما ذكرته، فأمر
بإنفاذها إلى زوجها مع ثقة يدخلها دارها، ويشرح لزوجها خبرها، ويأمره
عنه بالتمسك بها، والإحسان إليها، ثم استدعاني، ووقفت فجعل يخاطب
الغلام ويسمعني، ويقول: كم رزقك؟ فيقول: كذا وكذا. وكم عطاؤك؟ فيقول:
كذا وكم وظيفتك؟ فيقول: كذا. وكم كسوتك؟ فيقول: كذا. إلى أن عدد شيئاً
كثيراً، ثم قال: كم لك؟ جارية. قال: كذا فقال: فما كان لك في هذه
النعمة، وفي هؤلاء الجواري ما يكفيك ويكفك عن محارم الله تعالى، وخرق
سياسة السلطان، والجرأة عليه؟ وما كان عذرك في الوثوب على من أمرك
بالمعروف ونهاك عن المنكر؟ فأسقط في يد الغلام ولم يكن له جواب يورده،
ثم قال: يحضر جوالق ومداق الجص، وقيود وغل. فأحضر جميع ذلك فقيده وغله
وأدخله الجوالق، وأمر الفراشين فدقوه بمداق الجص وهو يصيح، إلى أن خفت
صوته وانقطع حسه، وأمر به وطرح إلى دجلة. وتقدم إلى بدر بتحويل ما في
داره، ثم قال لي: قد شاهدت ذلك كله! متى رأيت يا شيخ منكراً كبيراً أو
صغيراً، فأنكره ولو على هذا - وأومأ إلى بدر - ومن تقاهس عن القبول منك
فالعلامة بيننا أن تؤذن في مثل هذا الوقت لأسمع صوتك فأستدعيك.
قال الشيخ: فدعوت له وانصرفت، وشاع الخبر في الجند والغلمان، فما سألت
أحداً منهم بعدها إنصافاً أو كفاً عن قبيح إلا أطاعني كما رأيت، خوفاً
من المعتضد بالله، وما احتجت أن أءذن في مثل ذلك الوقت إلى الآن.
أنبأنا محمد بن أبي طاهر قال: أنبأنا علي بن المحسن، عن أبيه قال:
حدثنا القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي قال: سمعت العباس
بن عمرو الغنوي يقول: لما أسرني أبو سعيد القرمطي، وكسر العسكر الذي
كان بعثه معي المعتضد إلى قتاله، وحصلت في يده يئست من الحياة، فأنا
يوماً على تلك الصورة، إذ جاءني رسوله، فأخذ قيودي، وغير ثيابي،
وأدخلني إليه، فسلمت عليه وجلست، فقال: أتدري لم استدعيتك؟ قلت: لا!
قال: إنك رجل عربي ومن المحال إذا استودعتك أمانة أن تخفيها، ولا سيما
مني عليك بنفسك. قلت: هو كذلك. فقال:
إني فكرت،
فإذا لا طائل في قتلك، وفي نفسي رسالة إلى المعتضد، لا يجوز أن يؤديها
غيرك، فرأيت إطلاقك وتحميلك إياها إن حلفت أنك إن سيرتك إليه تؤديها،
فحلفت له، فقال: قل للمعتضد يا هذا، لم تخرق هيبتك، وتقتل رجالك، وتطمع
أعداءك في نفسك، وتبعث في طلبي الجيوش، وأنا رجل مقيم في فلاة، لا زرع
فيها ولا ضرع، وقد رضيت لنفسي بخشونة العيش، والعز بأطراف هذه الرماح،
ولا اغتصبتك بلداً، ولا أزلت سلطانك عن عملك، ومع هذا فوالله لو أنفذت
إلي جيشك كله ما جاز يظفر بي، لأني رجل نشأت في القشف، فاعتدته أنا
ورجالي، ولا مشقة علينا فيه، وأنتتنفذ جيوشك من الجيوش والثلج
والريحان، فيجيئون من المسافة البعيدة الشاقة، وقد قتلهم السفر قبل
قتالنا، وإنما غرضهم أن يبلغوا غرضاً من مواقفتنا ساعة، ثم يهربون، وإن
هم هزموني بعد عشرين فرسخاً، أو ثلاثين،وجلت في الصحراء شهراً أو
شهرين، ثم كبستهم على غرة فقتلتهم، وإن كانوا محتزبين فما يمكنهم أن
يطوفوا خلفي في الصحارى، ولا تحملهم الإقامة في أماكنهم، فأنت تنفق
الأموال، وتكلف الرجال الأخطار، وأنا سليم من ذلك وهيبتك تتخرق في
الأطراف، كلما جرى عليك هذا فإن اخترت بعد محاربتي فاستخرت الله، وإن
أمسكت فذلك إليك.
ثم سيرني وأنفذ معي عدة إلى الكوفة وسرت منها إلى الحضرة، ودخلت إلى
المعتضد، فأخبرته بما قال في خلوة فرأيته يتمعط في جلده غيظاً حتى ظننت
أنه سيسير إليه بنفسه، وخرجت فما رأيته بعد ذلك ذكره. قال القاضي: كأنه
عرف صدق قوله فكف عنه.
أنبأنا محمد بن أبي طاهر قال: أنبأنا علي بن المحسن، عن أبيه، قال:
حدثني أبو الحسين علي بن هشام قال: حدثنا الفضل بن سليمان قال: حدثني
خفيف السمرقندي حاجب المعتضد قال: كنت واقفاً بحضرة المعتضد إذ دخل
بدر، وهو يبكي وقد ارتفع الصراخ من دار عبيد الله بن سليمان عند موته،
فأعلم المعتضد الخبر فقال: أوقد صح الخبر أو هي غشية؟ قال: بل قد توفي
وشد لحيته فرأيت المعتضد قد سجد، فأطال السجود، فلما رفع رأسه قال بدر:
والله يا أمير المؤمنين لقد كان صحيح الموالاة، مجتهداً في خدمتك،
عفيفاً عن الأموال! قال: أفظننت يا بدر أني سجدت سروراً بموته؟ إنما
سجدت شكراً لله تعالى، إذ وفقني فلم أصرفه ولم أوحشه، ولي في جنب ورثته
ما خلفه عليهم من كسبه معي، ما لعله قيمة ألفي ألف دينار، وقد عملت على
أخذ ذلك منهم، وأن أستوزر أحد الرجلين: إما جرادة وهو أقوى الرجلين في
نفسي لهيبته في قلوب الجيش، والآخر أحمد بن محمد بن الفرات، وهو أعرف
بمواقع المال.
فقال له بدر: يا مولاي، غرست غرساً حتى إذا ما أثمر قلعته! أنت ربيت
القاسم وقد ألف خدمتك عشر سنين، وعرف ما يرضي حاشيتك، وجرادة رجل منكر،
ويخرج من الحبس جائعاً، وابن الفرات لا هيبة له في النفوس، وإنما يصلح
أن يكون بحضرة وزير يمشي له أمر المال، ومال القاسم، وورثته لك. أي وقت
أردته أخذته. فراجعه المعتضد وبين له فساد هذا الرأي، فعدل عن المناظرة
إلى تقبيل الأرض مرات، فقال له المعتضد: قد أجبتك فامض إلى القاسم فعزه
ثانية، وبشره بتقرير الرأي على استوزاره لتسله عن مصابه، ومره بالبكور
إلى الجامع، فولى بدر فخرجت معه، فدعاني المعتضد فعدت، فقال: أرأيت ما
جرى؟ قلت: نعم! فقال: والله لا يقتل بدراً غير القاسم! فما تم للقاسم
التدبير مع المكتفي حتى قتل بدراً!.
قال خفيف: رحم الله المعتضد! كأنه نظر هذا من وراء ستر.
قال المصنف: وسيأتي كيفية قتل بدر في ولاية المكتفي بالله.
وقال عبيد الله بن سليمان: كنت يوماً بحضرة المعتضد وخادم من خدمه بيده
المذبة، فبينا هو يذب إذ ضرب بالمذبة قلنسوة المعتضد، فسقطت فكدت أختلط
إعظاماً للحال، والمعتضد على حاله لم يتغير ولم ينكر شيئاً، ثم دعا
غلاماً فقال له: هذا الغلام قد نعس فزد في عدد خدم المذبة ولا تنكر
عليه بفعله؛ قال عبيد الله: فقبلت الأرض، وقلت: والله يا أمير المؤمنين
ما سمعت بمثل هذا، ولا ظننت أن حلماً يسع مثله. ثم دعوت له. فقال: هل
يجوز غير هذا؟ أنا أعلم أن هذا البائس لو دار في خلده ما جرى لذهب عقله
وتلف، وإنما ينبغي أن يلحق الإنكار بالمتعمد لا بالساهي والغالط.
وذكر محمد
بن عبد الملك الهمذاني أن المعتضد أراد تجهيز جيش، فعجز عن ذلك بيت مال
العامة، فأخبر بمجوسي له مال عظيم، فاستدعاه يستقرض منه، وقال: إنا
نعيد العوض؛ فقال: مالي بين يدي أمير المؤمنين، فليأخذ ما يشاء. فقال:
من أين وقعت بنا أننا نرد العوض؟ فقال: يا أمير المؤمنين يأتمنك الله
تعالى على عباده وبلاده فتؤدي الأمانة، وتفيض العدل، وتحكم بالحق،
وأخافك على جزء من مالي؟ فدمعت عيناه، فقال: انصرف قد وفر الله عز وجل
مالك وأغنانا عن القرض منك، ومتى كانت لك حاجة فحجابنا مرفوع عنك، ولم
يستقرض منه شيئاً.
فلما ولي المعتضد لم يكن في بيت المال إلا قراريط والحضرة مضطربة
والأعراب عابثون فأصلح الأمور، وحمى البيضة، وبالغ في العمارة، وأنصف
في المعاملة، واقتصد في النفقة، فمات وفي بيت المال بضعة عشر ألف ألف
دينار.
وخرج يوماً فعسكر بباب الشماسية، ونهى أحداً أن يأخذ من بستان أحد
شيئاً، فأتى بأسود قد أخذ عذقاً من بسر، فتأمله فأمر بضرب عنقه، ثم
التفت إلى أصابه فقال: ويلكم تدرون ما تقول العامة؟ قالوا: لا! قال:
يقولون ما في الدنيا أقسى قلباً من هذا الخليفة، ولا أقل ديناً منه،
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا قطع في ثمر ولا كثر " .
والكثر: الجمار، فما رضي أن يقطع في هذا حتى قتل، والله ما قتلت الأسود
بسبب هذا! ولكن لي معه خبر طريف، أستأمن هذا من عسكر الزنج إلى أبي
الموفق، فخلع عليه ووصله، فرأيته يوماً وقد نازع رجلاً في شيء، فضربه
بفأس، فقطع يده فمات الرجل، فحمله الناس إلى أبي الموفق فأهدر دم
المقطوع اليد، وأطلق الأسود ليتألف الزنج بذلك الفعل، فاغتظت، وقلت:
ترى أتمكن من قتل هذا الأسود وأنفذ حكم الله عز وجل فيه، فوالله ما
وقعت عيني عليه إلا في هذه الساعة، فقتلته بذلك الرجل.
ورفع إلى المعتضد أن قوماً يجتمعون ويرجفون ويخوضون في الفضول، وقد
تفاقم فسادهم، فرمى بالرقعة إلى وزيره عبيد الله بن سليمان فقال: الرأي
صلب بعضهم وإحراق بعضهم! فقال: والله لقد بردت لهيب غضبي بقسوتك هذه،
ونقلتني إلى اللين من حيث أشرت بالحرق، وما علمت أنك تستجيز هذا في
دينك، أما علمت أن الرعية وديعة الله عند سلطانها، وأن الله تعالى
سائله عنها؟ أما تدري أن أحداً من الرعية لا لا يقول ما يقول إلا لظلم
قد لحقه أو لحق جاره أو داهية قد نالته أو نالت صاحبه؟ ثم قال: سل عن
القوم، فمن كان سيء الحال فصله من بيت المال، ومن كان يخرجه هذا إلى
البطر فخوفه؛ ففعل فصلحت الأحوال.
وكان للمعتضد جارية يحبها وتحبه غاية المحبة، فماتت، فجزع عليها جزعاً
منعه من الطعام والشراب فقال:
يا حبيباً لم يكن يع ... دله عندي حبيب
أنت عن عيني بعيد ... ومن القلب قريب
ليس لي بعدك في شيء ... من اللهو نصيب
لك من قل ... بي وان بنت رقيب
وخيالي منك مذ غب ... ت خيال ما يغيب
لو تراني كيف لي بع ... دك عول ونحيب
وفؤادي حشوه من ... حرق الحزن لهيب
لتيقنت بأني ... بك محزون كئيب
ما أرى نفسي وان وط ... ئتها عنك تطيب
لي دمع ليس يعص ... يني وصبر ما يجيب
وله:
لم أبك للدار ولكن لمن ... قد كان فيها مرة ساكنا
فخانني الدهر بفقدانه ... وكنت من قبل له آمنا
ودعت صبري عند توديعه ... وسار قلبي معه ظاعنا
فقال له عبيد الله بن سليمان: مثلك يا أمير المؤمنين تهون عليه
المصائب؛ لأنه يجد من كل فقيد خلفاً، ويقدر على ما يريد، والعوض منك لا
يوجد، ولا ابتلى الله عز وجل الإسلام بفقدك، وعمره ببقائك، فقد قال
الشاعر في المعنى الذي ذكره:
يبكى علينا ولا نبكي على أحد ... إنا لأغلظ أكباداً من الإبل
فضحك المعتضد، وعاد إلى عاداته.
قال أبو عبيدة: الإبل توصف بغلظ الأكباد.
وقال ثعلب: الناس في أمر الإبل على ضد هذا؛ لأنهم يصفونها بالرقة
والحنين.
وقال عبد الله بن المعتز يعزي المعتضد في هذه الجارية.
يا إمام
الهدى بنا لا بك ... الغم أفنيتنا وعشت سليما
أنت علمتنا على النعم الشك ... ر وعند المصائب التسليما
فاسل عما مضى فإن التي كا ... نت سروراً وصارت ثواباً عظيما
قد رضينا بأن نموت وتحيا ... إن عندي في ذاك حظاً جسيما
من يمت طائعاً لديك فقد أع ... طى نوراً ومات موتاً كريما
ولليلتين خلتا من شعبان في هذه السنة قدم على المعتضد رسول عمرو بن
الليث بهدايا، وسأل ولاية خراسان، فوجه المعتضد عيسى النوشري مع
الرسول، ومعه خلع ولواء عقده له خراسان، فوصلوا إليه في رمضان، وخلع
عليه، ونصب اللواء في صحن داره ثلاثة أيام.
وفي شوال: قدم الحسين بن عبد الله الجصاص من مصر رسولاً لخمارويه، ومعه
هدايا من العين عشرين حملاً على بغال، وعشرة من الخدم، وصندوقان فيهما
طرائف، وعشرون رجلاً على عشرين نجيباً بالسروج المحلاة، ومعهم جراب فضة
وعليهم أقبية الديباج والمناطق المحلاة، وسبع عشرة دابة بسروج ولجم،
منها خمسة بذهب والباقي بفضة، وسبعة وثلاثون دابة بحلال مشهرة، وخمسة
أبغل وزرافة، فخلع المعتضد على ابن الجصاص، وعلى سبعة نفر معه وسعى ابن
الجصاص في تزويج ابنة خمارويه من علي بن المعتضد، فقال المعتضد: أنا
أتزوجها! فتزوجها.
وحج بالناس في هذه السنة: هارون بن محمد الهاشمي وهي آخر حجة حجها فإنه
حج بالناس ست عشرة سنة من سنة أربع وستين إلى هذه السنة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد المعتمد على الله أمير المؤمنين ابن المتوكل توفي ليلة الاثنين
لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب هذه السنة، فجأة، وكانت خلافته ثلاثاً
وعشرين سنة وثلاثة أيام.
أحمد بن أبي خيثمة بن زهير بن حرب بن شداد، أبو بكر نسائي الأصل، سمع
عفان بن مسلم، وأبا نعيم، وخلقاً كثيراً. وكان ثقة عالماً متقناً
حافظاً،. أخذ علم الحديث عن يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وعلم النسب
عن مصعب الزبيري، وأيام الناس عن أبي حسن المدائني، والأدب عن محمد بن
سلام الجمحي، وصنف تاريخاً مستوفي كثير الفوائد. روى عنه: البغوي، وابن
صاعد، وابن أبي داود، وابن المنادي.
وتوفي في جمادى الأولى من هذه السنة وهو ابن أربع وتسعين سنة.
إبراهيم بن عبد الرحيم بن عمر أبو إسحاق ويعرف بابن دنوقا سمع محمد بن
سابق، وأبا معمر الهذلي، وغيرهما. روى عنه: ابن صاعد، وأبو الحسين بن
المنادي وقال الدارقطني: هو ثقة.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا موسى بن عبد الواحد،
حدثنا محمد بن العباس قال: قرئ على ابن المنادي وأنا أسمع قال: إبراهيم
بن عبد الرحيم محيي السنة صدوق في الرواية، كتب الناس عنه فأكثروا. مات
يوم الخميس لسبع خلون من جمادى الأولى من هذه السنة.
جعفر بن محمد بن الحسن بن زياد أبو يحيى الزعفراني من أهل الري، قدم
بغداد، وحدث بها عن إبراهيم بن المنذر الحزامي، وسريج بن يونس،
وغيرهما. روى عنه: ابن مخلد، وابن قانع، وأبو بكر الشافعي قال الدار
قطني: هو ثقة صدوق. توفي بالري في ربيع الآخر من هذه السنة.
جعفر بن محمد بن شاكر أبو محمد الصائغ سمع من عفان، وقبيصة، وأبي نعيم،
وغيرهم. روى عنه: ابن صاعد، وابن مخلد، وابن حسين بن المنادي، والنجاد،
وأبو بكر الشافعي، وكان عابداً، زاهداً، ثقة صدوقاً، متقناً ضابطاً.
وانتفع به خلق كثير، وأكثر الناس عنه لثقته وصلاحه، بلغ تسعين سنة غير
أشهر يسيرة.
وتوفي في ذي الحجة من هذه السنة، ودفن في مقابر باب الكوفة ببغداد.
خاقان أبو عبد الله الصوفي. أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر
أحمد بن علي بن ثابت قال: ذكر لي أبو نعيم الحافظ أنه كان من كبار
الصوفية البغداديين، وقال لي: سمعت أبي يقول: سمعت جعفر الحذاء
الشيرازي - وذكر خاقان - فقال: كان صاحب كرامات، وذكر أن ابن فضلان
الرازي قال: كان أبي أحد الباعة ببغداد، وكنت على سرير حانوته جالساً،
فمر إنسان ظننت أنه من فقراء البغداديين، وأنا حينئذ لم أبلغ الحلم،
فجذب قلبي، فقمت وسلمت عليه ومعي دينار، فدفعته إليه، فتناوله ومضى ولم
يقبل علي، فقلت في نفسي:
ضيعت
الدينار، فتبعته حتى انتهى إلى مسجد الشونيزييه، فرأى فيه ثلاثة من
الفقراء، فدفع الدينار إلى أحدهم، واستقبل هو القبلة يصلي، فخرج الذي
أخذ الدينار وأنا أتبعه وراءه أرقبه، فاشترى طعاماً، فحمله يأكله
الثلاثة، والشيخ مقبل على صلاته يصلي، فلما فرغوا أقبل عليهم الشيخ
فقال: أتدرون ما حبسني عنكم؟ قالوا: لا يا أستاذ. قال: شاب ناولني
الدينار، فكنت أسأل الله تعالى أن يعتقه من رق الدنيا وقد فعل فلم
أتمالك أن قعدت بين يديه وقلت: صدقت يا أستاذ، وكان هذا الشيخ خاقان.
عبد الرحمن بن أزهر بن خالد أبو الحسن الأعور هروي الأصل، حدث عن أبي
نعيم الفضل بن دكين، وروى عنه ابن مخلد، وإسماعيل الصفار، وكان ثقة.
وتوفي في هذه السنة.
محمد بن أزهر أبو جعفر الكاتب سمع أبا نعيم، وأبا الوليد الطيالسي،
ومسدداً، والشاذكوني، وغيرهم، روى عنه: أبو بكر الشافعي، وغيره.
وتوفي في جمادى الأولى من هذه السنة وكان قد بلغ الثمانين، وكان عند
الناس مقبولاً.
محمد بن إسرائيل بن يعقوب أبو بكر الجوهري سمع محمد بن سابق، ومعاوية
بن عمرو، وعمرو بن حكام، وغيرهم. روى عنه: القاضي المحاملي، وأحمد بن
كامل، وأبو بكر الشافعي، وغيرهم، وكان ثقة.
وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة، وقيل: في سنة ثمانين.
نصر بن أحمد بن أسد بن سامان. وكان سامان مع أبي مسلم صاحب الدعوة، وهو
جد السامانية، وكان ينتسب إلى الأكاسرة، ويقول أنه من ولد بهرام بن
أردشير بن سابور، توفي وخلف ابنه أسداً، وكان ابنه أسد في حملة علي بن
عيسى بن ماهان حين ولاه الرشيد خراسان، توفي أسد في ولايته وخلف نوحاً،
وأحمد ، ويحيى، وإلياس فولي أحمد بن أسد فرغانة، ونوح سمرقند، ويحيى بن
أسد الشاش وأشروسنة، وإلياس هراة، وكان أحمد أحسنهم سيرة. تولى في
ولاية عبد الله بن طاهر فتوفي، وخلف سبعة بنين، وأوصى إلى ابنه نصر
فولى ابنه نصر بن أحمد ما كان إلى أبيه من سمرقند والشاش وفرغانة، وولى
أخاه إسماعيل بخارى وأعمالها، هؤلاء يسمون السامانية.
وتوفي نصر بن أحمد في جمادى الآخرة من هذه السنة بسمرقند، وكان أديباً.
ثم دخلت
سنة ثمانين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن المعتضد أخذ محمد بن الحسن بن سهل المعروف
بشيلمة، وكان شيلمة مع صاحب الزنج إلى آخر أيامه، ثم لحق بأبي أحمد في
الأمان، فرفع عنه إلى المعتضد أنه يدعو إلى رجل لم يوقف على اسمه، وأنه
قد أفسد جماعة، فأخذ المعتضد فقرره، فلم يقر، وسأله عن الرجل الذي يدعو
إليه فقال: لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه فقتله وصلبه لسبع خلون من
المحرم.
ولليلة خلت من صفر شخص المعتضد من بغداد يريد بني شيبان، فقصد الموضع
الذي كانوا يتخذونه معقلاً، فأوقع بهم، وقتل وسبى وعاد، وكان معه دليل
طيب الصوت، وكان يأمره أن يحدو به، فأشرف على جبل يقال له نوباذ، فأنشد
الأعرابي:
وأجهشت للتوباذ حين رأيته ... وهلل للرحمن حين رآني
وقلت له أين الذين عهدتهم ... بظلك في خفض وأمن زمان؟
فقال: مضوا واستخلفوني مكانهم ... ومن ذا الذي يبقى على الحدثان؟
فتغرغرت عين المعتضد وقال: ما سلم أحد من الحدثان! ودخل بيوت الأعراب
في عدة قليلة، فلحقه بدر فقال: لو عرفك الأعراب وأقدموا عليك كيف كانت
تكون حالك؟ فقال: لو عرفوني تفرقوا أما علمت أن الرصافية وحدها عشرون
ألفاً.
واصطفى المعتضد من الأعراب عجوزاً فصيحة، فجاءت يوماً فجلست فقال لها
الحاجب: قومي إلى أن نأمرك تجلسين بين يدي أمير المؤمنين! فقالت: أنت
لم تعرفني ما أعمل؟ ثم قامت فتغافل عنها المعتضد، فقالت: أقيام إلى
الأبد فمتى ينقضي الأمد! فضحك، وأمرها بالجلوس.
وفي هذه السنة: وجه يوسف بن أبي الساج اثنين وثلاثين نفساً من الخوارج
من طريق الموصل، فضربت أعناق خمسة وعشرين منهم وصلبوا وحبس باقيهم.
وفيها: ورد الخبر بغزو إسماعيل بن أحمد بلاد الترك وقتله خلقاً كثيراً
من الترك وافتتاحه مدينة ملكهم، وأسره إياه وامرأته خاتون، ونحو عشرة
آلاف، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وغنم دواب كثيرة، وأصاب الفارس من
المسلمين من الغنيمة في القسم ألف درهم.
وفي ذي
الحجة: ورد كتاب من دبيل أن القمر قد انكسف في شهر شوال لأربع عشرة خلت
منه، ثم تجلى في آخر الليل فأصبحوا صبيحة تلك الليلة والدنيا مظلمة،
ودامت الظلمة عليهم، فلما كان عند العصر هبت ريح سوداء شديدة، فدامت
إلى ثلث الليل، فلما كان ثلث الليل زلزلوا، فأصبحوا وقد ذهبت المدينة،
فلم ينج من منازلها إلا اليسير قدر مائة دار، وأنهم دفنوا إلى حين
كتبوا الكتاب ثلاثين ألف نفس يخرجون من تحت الهدم ويدفنون، وأنهم
زلزلوا بعد الهدم خمس مرات، وقيل أنه أخرج من تحت الهدم خمسون ومائة
ألف إنسان ميت.
وأمر المعتضد بتسهيل عقبة حلوان، فسهلت وغرم عليها عشرون ألف دينار،
وكان الناس يلقون منها مشقة شديدة.
وفي هذه السنة: زاد المعتضد في جامع المنصور، ودار المنصور، وفتح
بينهما سبعة عشر طاقاً وحول المنبر والمحراب والمقصورة إلى المسجد
الجديد، وتولى ذلك يوسف بن يعقوب القاضي، فبلغت النفقة عشرين ألف
دينار.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال:
أنبأنا إبراهيم بن مخلد قال: أخبرنا إسماعيل بن علي قال: أخبرنا
المعتضد بالله بضيق المسجد الجامع بالجانب الغربي في مدينة المنصور وأن
الناس يضطرهم الضيق إلى أن يصلوا في المواضع التي لا تجوز في مثلها
الصلاة، فأمر بالزيادة فيه من قصر المنصور، فبنى مسجداً على مثال
المسجد الأول في مقداره أو نحوه، ثم فتح صدر المسجد العتيق، ووصل به،
فاتسع به الناس، وكان الفراغ منه في هذه السنة.
قال الخطيب: وزاد بدر مولى المعتضد من قصر المنصور المسقطات المعروفة
بالبدرية في ذلك الوقت.
وفي هذه السنة: أمر المعتضد ببناء القصر الحسني، وهو دار الخلافة
اليوم، وهو أول من سكنها من الخلفاء.
أخبرنا أبو المنصور عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن
علي بن ثابت الخطيب قال: حدثني هلال بن المحسن قال: كانت دار الخلافة
التي على شاطئ دجلة تحت نهر معلى قديماً للحسن بن سهل، ويسمى القصر
الحسني، فلما توفي صار لبوران ابنته، فاستنزلها المعتضد بالله عنها
فاستنظرته أياماً في تفريغها وتسليمها، ثم رمتها وعمرتها، وجصصتها
وبيضتها، وفرشتها بأجل الفرش وأحسنه، وعلقت أصناف الستور على أبوابها،
وملأت خزائنها بكل ما يخدم الخلفاء به ورتبت فيها من الخدم والجواري ما
تدعو الحاجة إليه، فلما فرغت من ذلك انتقلت وراسلته بالانتقال، فانتقل
المعتضد إلى الدار، فوجد ما استكثره واستحسنه، ثم استضاف المعتضد إلى
الدار مما جاورها كل ما وسعها به وكبرها، وعمل عليها سوراً جمعها به
وحصنها، وقام المكتفي بالله بعده ببناء التاج على دجلة، وعمل وراءه من
القباب والمجالس ما تباهى في توسعته وتعليته، ووافى المقتدر بالله وزاد
في ذلك وأوفى مما أنشأه واستحدثه، وكان الميدان والثريا، وحير الوحش
متصلاً بالدار.
قال الخطيب: كذا ذكر لي هلال بن المحسن: أن بوران أسلمت الدار إلى
المعتضد، وذلك غير صحيح، لأن بوران لم تعش إلى وقت المعتضد، ويشبه أن
يكون سلمت الدار إلى المعتمد، والله أعلم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت
قال: حدثني هلال بن المحسن قال: حدثني أبو نصر أخو أشاذه خازن عضد
الدولة قال: طفت دار الخلافة عامرها وخرابها، وحريمها، وما يجاورها
ويتاخمها، فكان ذلك مثل مدينة شيراز.
قال هلال بن المحسن: وسمعت هذا من جماعة عمار مستبصرين ثم أن المعتضد
استوبأ بغداد وكان يرى دخان الأسواق يرتفع فيقول: كيف يفلح بلد يخالط
هواه هذا. فأمر أن لا يزرع الأرز حول بغداد، ولا يغرس النخل، ثم خط
الثريا وبناها، ووصلها بقصر الحسني، وانتقل إليها وأمر أن تنقل إليه
سوق، فضج الناس من هذا، فعفاهم وقال: من أراد ربحاً فسيجيء طائعاً،
وكان يمدح الثريا فيقول: أنا على سريري أخاطب وزيري، وصيد البر والبحر
يصاد بين يدي.
وبنى أبنية جليلة ببراز الروز، فلما اعتل في آخر أيامه طلب صحة الهواء،
فأمر أن يبنى له قصر فوق الشماسية، فابتيع ما للناس هناك من الدور،
ومات قبل أن يستتم البناء، فقال الناس: ما أحدث المعتضد شيئاً قط يخالف
الحق إلا أخذ دور الشماسية وإجبار أهلها على البيع.
وفي سنة
ثمانين: أمر المعتضد ببناء مطامير في قصر الحسني رسمه هو للصناع فبنيت
محكمة، وجعلها محابس الأعداء، وكان الناس يصلون الجمعة في الدار، وليس
هناك رسم مسجد، إنما يؤذن للناس في الدخول وقت الصلاة، ويخرجون عند
انقضائها.
وورد في ذي الحجة كتاب أحمد بن عبد العزيز على المعتضد بالله أنه هزم
رافع بن هرثمة وأخذ منه ثمانين ألف دابة وبغل.
وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر محمد بن هارون المعروف بابن ترنجة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر.
أحمد بن محمد بن عيسى بن الأزهر أبو العباس البرتي القاضي حدث عن مسلم
بن إبراهيم، وأبي الوليد الطيالسي، وأبي سلمى التبوذكي، وأبي نعيم
الفضل بن دكين في خلق كثير من البغداديين والكوفيين والبصريين، وكان
ثقة، وصنف المسند، وأخذ الفقه عن أبي سليمان الجوزجاني صاحب محمد بن
الحسن، وولي القضاء بواسط، وقطع من أعمال السواد، ثم ولي القضاء
بالشرقية في أيام المعتمد، فبعث إليه الموفق وإلى إسماعيل بن إسحاق،
وقد عزم على الانحدار إلى بصرة أن يقتضيا ما في أيديهما من الوقوف،
فحمل إليه إسماعيل ما كان من قبله، واستنظر أبو العباس البرتي ثلاثة
أيام ليجمع المال، وعمد إلى ما كان في يده، فدفعه إلى من آنس منه رشداً
ممن حوله، وإلى الأمناء الذين يثق بهم، فلما طولب بالمال قال: سلمته
إلى أربابه وما بقي عندي منه شيء، فصرف عن القضاء بهذا السبب.
وحكى العلاء بن صاعد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام
ودخل عليه أبو العباس، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصافحه
وقبل بين عينيه وقال: مرحباً بالذي يعمل بسنتي وأثري. ثم لزم البرتي
بيته، واشتغل بالتعبد.
وتوفي بالجانب الغربي من مدينة السلام، في ذي الحجة من هذه السنة.
أحمد بن أبي عمران واسمه موسى بن عيسى أبو جعفر الفقيه البغدادي أحد
أصحاب الرأي. أخذ الفقه عن محمد بن سماعة وأضرا به ونزل مصر، وحدث بها
عن عاصم بن علي، وعلي بن الجعد، ومحمد بن الصباح، وغيرهم. وكان أستاذ
أبي جعفر الطحاوي، وكان ضريراً قال أبو سعيد بن يونس: حدث بحديث كثير
من حفظه، وكان ثقة، وتوفي في محرم هذه السنة بمصر.
إبراهيم بن المنصور أبو يعقوب الصوري خراساني قدم مصر، وحدث بها، وتوفي
في هذه السنة.
جعفر بن أحمد بن معبد الوراق حدث عن عاصم بن علي، ومسدد، وروى عنه ابن
مخلد، وابن السماك، وأبو بكر الشافعي، وتوفي في هذه السنة.
حامد بن سهل بن سالم أبو جعفر، يعرف بالثغري. سمع معاذ بن فضالة، وخالد
بن خداش، وروى عنه: ابن صاعد، وابن مخلد وابن السماك، وأبو بكر
الشافعي. قال الدارقطني: كان ثقة.
وتوفي في جمادى الآخرة من هذه السنة.
زكريا بن أيوب، أبو يحيى. من أهل أنطاكية. قدم مصر، وحدث بها. وتوفي في
رمضان هذه السنة، وكان ثقة ثبتاً صالحاً.
ثم دخلت
سنة إحدى وثمانين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن المسلمين دخلوا بلاد الروم، ففتحوا بعضها، ثم
عادوا فغزوهم فغنموا وظفروا.
وفيها: غارت المياه بالري، وطبرستان، وأصاب الناس بعد ذلك جهد جهيد،
وقحط حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، وأكل إنسان منهم ابنته.
ولليلتين خلتا من رجب شخص المعتضد إلى الجبل، فقصد ناحية الدينور، وولى
أبا محمد علي بن المعتضد الري، وقزوين، وزنجان، وأبهر، وقم، وهمذان،
والدينور، وقلد عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف أصبهان، ونهاوند، والكرخ،
وتعجل المعتضد الانصراف من أجل غلاء الأسعار، وقلة الميرة، فوافى
المعتضد بالله بغداد يوم الأربعاء لست خلون من رمضان.
ولست بقين من ذي القعدة: خرج المعتضد إلى الموصل عامداً لحمدان بن
حمدون، وذلك أنه بلغه أنه مال إلى هارون الشاري، ودعا له فلما صار
المعتضد بالله بنواحي الموصل كتب إلى إسحاق بن أيوب وإلى حمدان أن
يتلقاه فأسرع إسحاق، وتحصن حمدان في قلاعه. وورد كتاب المعتضد يذكر أن
الله نصره على الأكراد، والأعراب، فقتل منهم خلقاً كثيراً.
ثم خرج المعتضد عامداً لقلعة ماردين، وكانت في يد حمدان، فهرب وخلف
ابنه بها فنزل المعتضد عليها، وحاربهم من فيها يومهم، فلما كان من الغد
ركب المعتضد وصعد القلعة، حتى قرب من الباب ثم صاح: يا ابن حمدان
فأجابه فقال:
افتح
الباب. ففتحه فقعد المعتضد في الباب، ونقل ما في القلعة، ثم أمر بهدمها
فهدمت. وحمل خمارويه بن أحمد ابنته إلى المعتضد، وقد كان المعتضد
تزوجها في آخر رمضان هذه السنة، بعثها مع ابن الجصاص، وبعث معه بعد كل
شيء عمله مائة ألف دينار، وقال: لعل بالعراق ما نحتاج إليه مما ليس
عندنا فاشتر شيئاً إن أردت بهذه فأخذها إليه فاشترى منها شيئاً.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن هارون، وأصاب الحاج بالأجفر مطر عظيم
فمات منهم بشر كثير، وكان الرجل يغرق في الرمل ما يقدر أحد على إخراجه.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن سهل بن الربيع بن سليمان الأخميمي. كان مقبولاً عند القضاة،
وحدث عن يحيى بن بكير، وغيره.
توفي في هذه السنة.
إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن الجبلي، يكنى أبا القاسم ولد سنة اثنتي
عشرة ومائتين، وسمع منصور بن أبي مزاحم، وطبقته، ولم يحدث إلا بشيء
يسير، وكان يذكر بالفهم، ويوصف بالحفظ، ويفتي الناس بالحديث، ويذاكر.
وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة، وصلى عليه إبراهيم الحربي.
عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس أبو بكر القرشي، المعروف
بابن أبي الدنيا مولى بني أمية. ولد سنة ثمان ومائتين وسمع إبراهيم بن
المنذر الحزامي، وخالد بن خداش، وعلي بن الجعد، وخلقاً كثيراً، وقد أدب
غير واحد من أولاد الخلفاء منهم: المعتضد، وعلي بن المعتضد، وكان يجري
له في كل شهر خمسة عشر ديناراً وكان يقصد أحاديث الزهد والرقائق، وكان
لأجلها يكتب عن البرجلاني، ويترك عفان بن مسلم، وكان ذا مروءة ثقة
صدوقاً، صنف أكثر من مائة مصنف في الزهد.
قال أبو علي صالح بن محمد الحافظ: إلا أنه كان يسمع من إنسان يقال له
محمد بن إسحاق البلخي، وكان ذلك كذاباً يضع للكلام إسناداً، ويروي
أحاديث مناكير.
قال المصنف: قد روى ابن أبي الدنيا عن محمد بن إسحاق بن يزيد بن عبيد
الله الضبي، وقد ذكره ابن أبي حاتم في الكذابين، وقد ذكرنا وفاته في
سنة ست وثلاثين ومائتين، وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن إسحاق اللؤلؤي
البلخي، ولم يكن بثقة، ذوقد ذكرنا وفاته أربع وأربعين ومائتين.
أخبرنا ابن ناصر، أخبرنا أبو غالب محمد بن إبراهيم بن محمد الصقلي،
حدثنا واقد بن الخليل الخليلي، أخبرنا أبي قال: حدثني محمد بن عبد
الواحد، حدثنا عبد الله بن محمد الخطيب قال: حدثني علي بن إبراهيم قال
حدثنا عمر بن سعد القراطسي قال: كنا على باب ابن أبي الدنيا ننتظر
خروجه، فجاءت السماء بمطر فأتتنا جارية برقعة فقرأتها، فإذا فيها
مكتوب:
أنا مشتاق إلى رؤيتكم ... يا أخلائي وسمعي والبصر
كيف أنساكم وقلبي عندكم ... حال فيما بيننا هذا المطر
توفي في جمادى الأولى من هذه السنة، وصلى عليه يوسف بن يعقوب، ودفن في
الشونيزية، وبلغ من العمر نيفاً وسبعين سنة.
ثم دخلت
سنة اثنتين وثمانين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن المعتضد أمر بإنشاء الكتب إلى العمال في النواحي
بترك افتتاح الخراج في النيروز الذي هو نيروز العجم، وتأخير ذلك اليوم
إلى الحادي عشر من حزيران، وسمى ذلك النيروز المعتضدي، فأنشئت الكتب
بذلك من الموصل، والمعتضد بها، وإنما أراد الترفيه على الناس والرفق
بهم.
وفي هذه السنة: قدم ابن الجصاص من مصر ببنت أبي الجيش خمارويه بن أحمد
لالتي يزوجها المعتضد، ومعها أحد عمومتها، وكان دخوله بغداد يوم الأحد
لليلتين خلتا من المحرم، وأدخلت الحرة ليلة الأحد، فنزلت في دار صاعد،
وكان معتضد غائباً بالموصل ثم نقلت إلى المعتضد لأربع خلون من ربيع
الأول، فنودي بجانبي بغداد أن لا يعبر أحد دجلة في يوم الأحد، وغلقت
أبواب الدروب التي يلين الشط، ومد على الشوارع النافذة إلى دجلة شراع،
ووكل بحافتي دجلة من يمنع الناس أن يظهر في دورهم على الشط، فلما صليت
العتمة وافت سفينة من دار المعتضد فيها خدم، معهم الشمع، فوقفت بإزاء
دار صاعد، وكانت قد أعدت أربع حراقات شدت مع دارصاعد، فلما جاءت تلك
السفينة أحدرت الحراقات وصارت تلك السفينة بين أيديهم، وأقامت الحرة
يوم الاثنين في دار المعتضد، وجليت عليه يوم الثلاثاء لخمس خلون من
ربيع الأول.
وفي هذه
السنة منع المعتضد الناس من عمل ما كانوا يعملون به من نيروز العجم من
صب الماء وإيقاد النيران وغير ذلك، وكان هذا من أحسن ما اعتمده
المعتضد.
وفيها: شخص المعتضد إلى الجبل فبلغ الكرج، وأخذ أموال لأبي دلف، وكتب
إلى عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف يطلب منه جوهراً كان عنده، فوجه به
إليه، وتنحى من بين يديه.
وفيها: وجه محمد بن زيد العلوي من طبرستان إلى محمد بن ورد العطار
اثنين وثلاثين ألف دينار ليفرقها على العلوية بالحرمين والكوفة، وعلى
من في بغداد، فسعى به، فأحضر دار بدر، وسئل عن ذلك فذكر أنه يوجه إليه
في كل سنة بمثل هذا المال فيفرقه على من يؤمر بالتفرقة عليه من
العلويين، فأمر بدر المعتضد بذلك، وأخبره أن الرجل والمال عندنا، فما
ترى وما تأمر؟ فقال: أما تذكر الرؤيا التي خبرتك بها؟ فقال: لا يا أمير
المؤمنين! فقال: إن الناصر دعاني فقال: اعلم أن هذا الأمر سيصير إليك،
فانظر كيف تكون مع آل علي بن أبي طالب عليه السلام ثم قال: رأيت في
النوم كأني خارج من بغداد أريد ناحية النهروان، إذ مررت برجل واقف على
تل يصلي لا يلتفت إلي، فعجبت منه، ومن قلة اكتراثه بعسكري، مع تشوف
الناس إلى العسكر، فأقبلت إليه حتى وقفت بين يديه، فلما فرغ من صلاته
قال لي: أقبل! فأقبلت إليه. فقال: أتعرفني؟ قلت: لا قال: أنا علي بن
أبي طالب، خذ هذه المسحاة فاضرب بها في الأرض، فأخذتها فضربت بها
ضربات، فقال: إنه سيلي من ولدك هذا الأمر بقدر ما ضربت، فأوصهم بولدي
خيراً. قال بدر: فقلت: بلى يا أمير المؤمنين قد ذكرت! قال: فأطلق
الرجل، وأطلق المال، وتقدم إليه أن يكتب إلى صاحبه بطبرستان أن يوجه
إليه ما يوجهه ظاهراً، ويفرقه ظاهراً، وتقدم بمعونة هذا على ما يريد من
ذلك.
وفيها: قدم إبراهيم بن أحمد الماذرائي لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي
الحجة من دمشق على طريق البر، فوافى بغداد في أحد عشر يوماً فأخبر
المعتضد أن خمارويه ذبحه بعض خدمه على فراشه، وكان قد بعث مع ابن
الجصاص إلى خمارويه هدايا، فأرسل إليه فرده من الطريق، وولي بعد
خمارويه ابنه جيشاً فقتلوه، وانتهبوا داره، وأجلسوا أخاه هارون بن
خمارويه، فتقرر أنه يحمل إلى خزانة المعتضد في كل سنة ألف ألف دينار،
وخمسمائة ألف دينار، فلما ولي المكتفي عزله، وولى مكانه محمد بن سليمان
الواثقي، فأخذ أموال آل طولون، وكان هذا آخر أمرهم.
وحج بالناس في هذه السنة المتقدم ذكره.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن داود بن موسى أبو عبد الله السدوسي بصري، ويعرف بالمكي، وكان
ثقة. أقام بمصر وتوفي بها في صفر هذه السنة.
إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد بن درهم أبو إسحاق الأزدي مولى جرير
بن حازم من أهل البصرة. ولد سنة تسع وتسعين ومائة، وقيل مائتين، ونشأ
بالبصرة وامتد عمره، فحملت عنه علوم كثيرة وسمع محمد بن عبد الله
الأنصاري، ومسلم بن إبراهيم الفراهيدي، والقعنبي، وابن المديني،
وغيرهم، وروى: عنه البغوي، وابن صاعد، وابن الأنباري، وغيرهم، وكان
فاضلاً متقناً فقيهاً على مذهب مالك، شرح مذهبه ولخصه، واحتج له، وصنف
" المسند " وكتباً عدة في علوم القرآن، وجمع حديث مالك ويحيى بن سعيد
الأنصاري وأيوب السختياني.
وولي
القضاء في خلافة المتوكل لما مات سوار بن عبد الله، وكان قاضي القضاة
حينئذ بسر من رأى أبو جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، فأمر المتوكل أن
يولي إسماعيل قضاء الجانب الشرقي من بغداد، فولاه سنة ست وأربعين
ومائتين، وجمع له قضاء الجانبين بعد ذلك بسبع عشرة سنة، ولم يزل قاضياً
على عسكر المهتدي إلى سنة خمس وخمسين ومائتين، فإن المهتدي قبض على
حماد بن إسحاق أخي إسماعيل، وضرب بالسياط وأطاف به على بغل بسر من رأى،
لشيء بلغه عنه، وصرف إسماعيل بن إسحاق، عن الحكم، واستتر وكان قاضي
القضاة بسر من رأى الحسن بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ثم صرف
عن القضاء في هذه السنة، وولي القضاء عبد الله بن نائل بن نجيح، ثم رد
الحسن بن محمد في هذه السنة إلى القضاء، ثم استقصى المهتدي على الجانب
الشرقي القاسم بن منصور التميمي نحو سبعة أشهر، ثم قتل المهتدي فأعاد
المعتمد إسماعيل بن إسحاق على الجانب الشرقي ببغداد، في سنة ست وخمسين،
فلم يزل إلى سنة ثمان وخمسين، ثم سأل الموفق أن ينقله إلى الجانب
الغربي، وكان على قضاء الجانب الغربي، وكان على قضاء الجانب الغربي
بالشرقية، وهي الكرخ البرتي، وعلى مدينة المنصور أحمد بن يحيى، فأجابه
إلى ذلك، وكره ذلك قاضي القضاة ابن أبي الشوارب، واجتهد في رد ذلك، فما
أمكنه لتمكن إسماعيل من الموفق بالله، فأجيب إسماعيل إلى ما سأل، ونقل
البرتي إلى قضاء الشرقية إلى الجانب الشرقي وإسماعيل على الغربي بأسره
إلى سنة اثنتين وستين ومائتين، ثم جمعت بغداد بأسرها لإسماعيل بن
إسحاق، وصرف البرتي، وقلد المدائن، والنهروانات وقطعة من أعمال السواد،
وكان ابن أبي الشوارب قد توفي في سنة إحدى وستين فولي أخوه علي بن محمد
مكانه، وكان يدعى بقاضي القضاة، وصار إسماعيل المقدم ذكره على سائر
القضاة، ولم يقلد قضاء القضاة إلى أن توفي.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرني محمد بن أحمد بن
يعقوب قال: أخبرنا محمد بن نعيم الضبي قال: سمعت محمد بن الفضل النحوي
يقول: سمعت أبا الطيب عبد الله بن شاذان يقول: سمعت يوسف بن يعقوب
يقول: قرأت توقيع المعتضد إلى عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير:
واستوص بالشيخين الخيرين الفاضلين إسماعيل بن إسحاق الأزدي، وموسى بن
إسحاق الخطمي خيراً، فإنهما ممن أراد الله بأهل الأرض سوءاً دفع عنهما
بدعائهما.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي الحافظ، أخبرنا عبيد الله بن أبي
الفتح، أخبرنا إسماعيل بن سعيد العدل، أخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي
قال: سمعت أبا العباس المبرد يقول: لما توفيت والدة إسماعيل بن إسحاق
القاضي ركبت إليه أعزيه، وأتوجع له، وألفيت عنده الجلة من بني هاشم،
والفقهاء والعدول، ومستوري مدينة السلام، فرأيت من ولهه ما أبداه ولم
يقدر على ستره، وكل يعزيه، وقد كلن لا يسلو، فلما رأيت ذلك منه ابتدأت
بعد التسليم فأنشدته:
لعمري لئن غال ريب الزما ... ن فينا لقد غال نفسا حبيبة
ولكن علمي بما في الثواب عند المصيبة ينسي المصيبة
فتفهم كلامي واستحسنه، ودعا بدواة وكتبه، ورأيته بعد قد انبسط وجهه،
وزال عنه ما كان فيه من تلك الكآبة، وشدة الجزع.
توفي إسماعيل ليلة الأربعاء لثمان بقين من ذي الحجة من هذه السنة وقت
صلاة العشاء الآخرة فجأة.
إسماعيل بن محمد بن أبي كثير أبو يعقوب الفارسي الفسوي سكن بغداد، وحدث
بها عن قتيبة، وابن راهويه، وغيرهما. روى عنه: أبو بكر الشافعي، وكان
ثقة صدوقاً. وكان على قضاء المدائن.
وتوفي في شعبان هذه السنة.
بدر بن المنذر بن بدر أبو بكر المغازلي واسمه: أحمد لكنه لقب ببدر فغلب
عليه.
روى عنه النجاد، وغيره وكان ثقة، ويعد من الأولياء، وكان صبوراً، وكان
أحمد بن حنبل يكرمه ويقول : من مثل بدر؟ بدر قد ملك لسانه! توفي بدر في
جمادى الأولى من هذه السنة بالجانب الغربي.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا
إسماعيل بن أحمد الحيري، أخبرنا محمد بن الحسين السلمي قال: قال أبو
أحمد الحربي: كنت مع بدر المغازلي، وكانت امرأته باعت داراً لها
بثلاثين ديناراً. فقال لها بدر:
نفرق هذه
الدنانير في إخواننا، ونأكل رزق يوم بيوم، فأجابته إلى ذلك فقالت: تزهد
أنت ونرغب نحن؟ هذا ما لا يكون.
جعفر بن محمد بن أبي عثمان أبو الفضل الطيالسي سمع من عفان، وعارم،
ومسدد، ويحيى بن معين، وغيرهم. روى عنه: ابن صاعد، وابن مخلد، والنجاد.
وكان ثقة ثبتاً صدوقاً، حسن الحفظ، صعب الأخذ. توفي ليلة الجمعة للنصف
من رمضان هذه السنة.
جعفر بن محمد بن عبد الله بن بشر بن كزال أبو الفضل السمسار حدث عن
عفان، وأحمد بن حنبل، وغيرهما. روى عنه: أبو بكر الشافعي. قال:
الدارقطني ليس بالقوي. وتوفي في شوال هذه السنة.
الحسين بن حميد بن الربيع بن حميد بن مالك بن سحيم أبو عبد الله اللخمي
الخزاز الكوفي قدم بغداد، وحدث بها عن أبي نعيم الفضل بن دكين، وغيره.
روى عنه: أبو عمرو السماك. وكان فهماً عارفاً، له كتاب مصنف في
التاريخ.
توفي في ذي الحجة من هذه السنة.
الحسين بن محمد بن عبد الرحمن أبو علي الخياط صاحب بشر الحافي، كتب
الناس عنه شيئاً من الحكايات، وأطرافاً من الحديث، وتوفي في شوال هذه
السنة.
الحارث بن محمد بن أبي أسامة أبو محمد التميمي ولد في شوال سنة ست
وثمانين ومائة، وسمع علي بن عاصم، ويزيد بن هارون، وروح بن عبادة،
وعفان بن مسلم. روى عنه: أبو بكر بن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن مخلد،
والنجاد، وأبو بكر الشافعي، والخلدي، وكان صدوقاً ثقة.
وتوفي يوم عرفة من هذه السنة وقد بلغ ستاً وتسعين سنة.
خالد بن يزيد بن وهب بن جرير بن حازم أبو الهيثم الأزدي حدث عن أبيه.
روى عنه: محمد بن خلف بن المرزبان، كان ينزل في مدينة المنصور، ثم خرج
إلى البصرة. فتوفي بها في هذه السنة.
خمارويه بن أحمد بن طولون. عقدت له الولاية على مصر وأعمال أبيه بعد
موته، فأنفذ الموفق ابنه المعتضد لمحاربته، فالتقيا في شوال سنة إحدى
وسبعين ومائتين بالصعيد، فانكسر خمارويه، وركب حماراً هارباً إلى مصر
ووضع أصحاب المعتضد بالله السلاح، وهم يظنون أنهم لا طالب لهم، فخرج
كمين لخمارويه عليهم، فانهزموا، وذهب ما كان في العسكر من الأموال
والسلاح، ثم أن المعتضد تزوج بابنة خمارويه، وجاء بها ابن الجصاص، فوجه
المعتضد معه إلى خمارويه هدايا، وأودعه رسالة، فشخص بها ابن الجصاص،
فلما وصل سامرا وصل الخبر إلى المعتضد أن بعض خدم خمارويه ذبحه على
فراشه في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين سنة، وقتل من أصحابه الذين
اتهموا بقتله نيف وعشرون خادماً.
الفضل بن محمد بن المسيب بن موسى بن زهير بن يزيد بن كيسان بن باذان
وهو ملك اليمن الذي أسلم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أبو
محمد الشعراني.
كان أديباً فقيهاً عابداً، كثير الرحلة في طلب الحديث، فهماً عارفاً
بالرجال. سمع بمصر، والحجاز، والشام، والكوفة، والبصرة، وواسط،
والجزيرة، وخراسان، وسأل يحيى بن معين عن الرجال، وسأل علي بن المديني،
وأحمد بن حنبل عن العلل وأخذ اللغة عن ابن الأعرابي، وقرأ القرآن على
خلف بن هشام، وكان ثقة صدوقاً.
محمد بن أحمد بن حميد بن نعيم بن شماس. مروزي الأصل، سمع عفان بن مسلم،
وسليمان بن حرب، وعبد الصمد بن حسان، وغيرهم.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: كان ثقة
وذكره الدارقطني فقال: لا بأس به، وتوفي في هذه السنة.
محمد بن عبد الرحمن بن محمد، بن عمارة بن القعقاع أبو قبيصة الضبي روى
عنه: ابن السماك، وأبو بكر الشافعي، وكان ثقة، وذكره الدارقطني فقال:
لا بأس به.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أبو منصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن
ثابت قال: حدثني الحسن بن أبي طالب، حدثنا يوسف بن عمر القواس، قال:
حدثنا إسماعيل بن علي قال: قال لنا أبو قبيصة: تزوجت أم أولادي هؤلاء،
فلما كان بعد الأملاك بأيام قصدتهم للسلام، فاطلعت من شق الباب فرأيتها
فأبغضتها، وهي معي منذ ستين سنة، قال إسماعيل: كان هذا الشيخ من أدرس
من رأيناه للقرآن، سألته عن أكثر ما قرأه في يوم من أيام الصيف الطوال
وكان يوصف بكثرة الدرس، وسرعته، فامتنع فلم يخبرني، فلم أزل حتى قال:
إنه قرأ
في يوم من أيام الصيف الطوال أربع ختمات، وبلغ في الخامسة إلى براءة،
وأذن المؤذن العصر، وكان من أهل الصدق. توفي في ربيع الأول من هذه
السنة.
محمد بن القاسم بن خلاد بن ياسر بن سليمان أبو عبد الله الضرير، ويعرف
بأبي العيناء مولى أبي جعفر المنصور، فله ولاؤه وسبب ذلك أنه قال لأبي
زيد: كيف تصغر عيناً؟ فقال: عييناً يا أبا العيناء.
ولد بالأهواز في أول سنة إحدى وتسعين ومائة، ونشأ بالبصرة، وقد سمع من
أبي عاصم النبيل، وأبي عبيدة، والأصمعي، وأبي زيد، وعمي بعد أربعين
سنة، وكان من أفصح الناس وأحفظهم وأسرعهم جواباً، ومسنداته قليلة،
والغالب على روايته الحكايات.
أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، حدثنا أبو الفرج
أحمد بن محمد بن عمر المعدل، أخبرنا أحمد بن كامل القاضي، حدثنا أبو
العيناء محمد بن القاسم قال: أتيت عبد الله بن داود الخريبي فقال: ما
جاء بك؟ قلت: الحديث. قال: اذهب فتحفظ القرآن قلت: قد حفظت القرآن.
قال: اقرأ " واتل عليهم نبأ نوح " فقرأت عليه العشر حتى أنفذته قال:
فقال: اذهب الآن فتعلم الفرائض قال: قلت: قد تعلمت الجد والصلب والكبر
قال: فأيما أقرب إليك، ابن أخيك أو ابن عمك؟ قال: قلت: ابن أخي. قال:
ولم؟ قلت: لأن أخي من أبي وابن عمي من جدي، قال: اذهب الآن فتعلم
العربية قال: قلت: قد علمتها قبل هذين قال: لم قال عمر بن الخطاب حين
طعن " يال الله يال المسلمين " ، لما فتح تلك وكسر هذه؟ قال: قلت: فتح
تلك اللام على الدعاء، وكسر هذه على الدعاء والاستغاثة والاستنصار
فقال: لو حدثت أحداً حدثتك!.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن أيوب القمي قال: أخبرنا محمد
بن عمران المرزباني قال: أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا أبو العيناء
قال: قال لي المتوكل: قد اخترتك لمجالستي! قلت: لا أطيق ذلك، ولا أقول
ذلك جهلاً بما لي في هذا المجلس من الشرف، ولكني رجل محجوب، والمحجوب
تختلف إشارته، ويخفى عليه الإيماء، ويجوز على أن يتكلم بكلام غضبان،
ووجهك ووجهك راضٍ وبكلام راضٍ ووجهك غضبان، ومتى لم أميز هذين هلكت!
فقال: صدقت، ولكن أتلزمنا. فقلت: لزوم الفرض الواجب فوصلني بعشرة آلاف
درهم قال: وقد روي أن المتوكل قال: أشتهي أن أنادم أبا العناء لولا أنه
ضرير. فقال أبو العيناء: إن أعفاني أمير المؤمنين من رؤية الأهلة ونقش
الخواتيم فإني أصلح.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: أخبرني أحمد بن محمد بن
أحمد بن يعقوب قال: حدثني جدي محمد بن عبد الله بن ترنحل، حدثنا محمد
بن يحيى، حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد أبو العيناء قال: دعا المنصور
جدي خلاداً وكان مولاه فقال له: أريدك لأمر أهمني، وقد اخترتك له، وأنت
عندي. كما قال أبو ذؤيب الهذلي:
ألكني إليها وخير الرسو ... ل أعلمهم بنواحي الخبر
فقال له: أرجو أن أبلغ رضا أمير المؤمنين، فقال: صر إلى المدينة على
أنك من شيعة عبد الله بن حسن، وابذل له الأموال، واكتب إلي بأنفاسه
وأخبار ولده فأرضاه. ثم علم عبد الله بن حسن أنه أتي من قبله قال: فدعا
عليه، وعلى نسله بالعمى، قال: فنحن نتوارث ذلك إلى الساعة.
ورويت أن أبا العيناء تأخر رزقه فشكا إلى عبيد الله بن سليمان قال: ألم
نكن كتبنا لك إلى ابن المدبر، فما فعل في أمرك؟ قال: جرني على شوك
المطل، وحرمني ثمرة الوعد! فقال: أنت اخترته! فقال: ما علي؟ فقد اختار
موسى من قومه سبعين رجلاً، فما كان فيهم رجل رشيد، فأخذتهم الرجفة،
واختار النبي صلى الله عليه وسلم بن أبي سرح كاتباً فلحق بالكفار
مرتداً، واختار علي أبا موسى فحكم عليه.
قال المصنف: خرج أبو العيناء من البصرة، فقدم بغداد، وكان السبب في
خروجه من البصرة ما أخبرنا به أبو منصور القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد
بن علي بن ثابت، أخبرنا أبو القاسم الأزهري، وأحمد بن عبد الواحد
الوكيل قالا:
أخبرنا
محمد بن جعفر التميمي أخبرنا أبو بكر الصولي، عن أبي العيناء قال: كان
سبب خروجي من البصرة وانتقالي عنها: أني مررت بسوق النخاسين يوماً
فرأيت غلاماً ينادى عليه، وقد بلغ ثلاثين ديناراً وهو يساوي ثلاثمائة
دينار فاشتريته وكنت أبني داراً، فدفعت إليه عشرين ديناراً على أن
ينفقها على الصناع، فجاءني بعد أيام يسيرة فقال: قد نفدت النفقة! فقلت:
هات حسابك! فرفع حساباً بعشرة دنانير! قلت: أين الباقي؟ قال: قد اشتريت
به ثوباً مصمتاً وقطعته قلت: من أمرك بهذا؟ قال: لا تعجل يا مولاي، فإن
أهل المروءة والأقدار لا يعيبون على غلمانهم إذا فعلوا فعلاً يعود
بالزين على مواليهم فقلت في نفسي: أنا اشتريت الأصمعي ولم أعلم.
قال: وكانت في نفسي امرأة أردت أن أتزوجها سراً من ابنة عمي، فقلت له
يوماً: أفيك خير؟ قال: أي لعمري! فأطلعته على الخبر، فقال: أنا نعم
العون لك! فتزوجت المرأة، ودفعت إليه ديناراً وقلت له: اشتر لنا كذا
وكذا، يكون فيما تشتريه سمك هازبي، فمضى ورجع وقد اشترى ما أردت، إلا
أنه اشترى سمك مارماهي، فغاظني ذلك، قلت: أليس أمرتك أن تشتري هازبي؟
قال: بلى ولكن رأيت بقراط يقول: إن الهازبي يولد السوداء، ويصف
المارماهي ويقول: أنه أقل غائلة، فقلت: يا ابن الفاعلة! أنا لم أعلم
أني اشتريت جالينوس، وقمت إليه فضربته عشر مقارع، فلما فرغت من ضربه
أخذني وأخذ المقرعة، وضربني سبع مقارع، وقال: يا مولاي، الأدب ثلاث،
والسبع فضل وذلك قصاص، فضربتك هذه السبع مقارع خوفاً من القصاص يوم
القيامة. فغاظني جداً فرميته فشججته، فمضى من وقته إلى ابنة عمي، فقال
لها: يا مولاتي، إن الدين النصيحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من غشنا ليس منا " وأنا أعلمك أن مولاي قد تزوج فاستكتمني، فلما قلت
له لا بد من تعريف مولاتي الخبر ضربني بالمقارع وشجني، فمنعتني بنت عمي
من دخول الدار، وحالت بيني وبين ما فيها، ووقعنا في تخبيط، فلم أر
الأمر يصلح إلا بأن طلقت المرأة التي تزوجتها! فصلح أمري مع ابنة عمي،
وسمت الغلام الناصح، ولم يتهيأ لي أن أكلمه فقلت: أعتقه وأستريح، فلعله
يمضي عني، فلما عتقته لزمني وقال: الآن وجب حقك علي ثم أنه أراد الحج
فجهزته وزودته، وخرج فغاب عني عشرين يوماً ورجع، فقلت له: لم رجعت؟
فقال: قطع الطريق بي وفكرت، فإذا الله تعالى يقول: " ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلا " وكنت غير مستطع، وفكرت فإذا حقك أوجب
فرجعت. ثم أنه أراد الغزو فجهزته، فلما غاب عني بعت كل ما أملك بالبصرة
من عقار وغيره وخرجت عنها خوفاً من أن يرجع.
قال الدارقطني أبو العيناء ليس بقوي في الحديث.
أخبرنا يحيى بن علي المدبر، أخبرنا أبو بكر علي بن محمد الخياط، أخبرنا
الحسين بن الحسن بن حمكان قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن إبراهيم
البصري قال: حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال: دخلت على أبي العيناء في
آخر عمره، وقد كف بصره، فسمع صرير قلمي على الدفتر قال: من هذا؟ قلت:
عبدك وابن عبدك محمد بن يحيى الصولي! قال: بل ولدي وابن أخي قال: ما
تكتب؟ فقلت: جعلني الله فداءك أكتب شيئاً من النحو والتصريف، فقال:
النحو في الكلام كالملح في الطعام، فإذا أكثرت منه صار القدر زعاقاً،
يا بني إذا أردت أن تكون صدراً في المجالس فعليك بالفقه ومعاني القرآن،
وإذا أردت أن تكون منادماً للخلفاء وذوي المروءة والأدباء فعليك بنتف
الأشعار وملح الأخبار.
قال المصنف: أقام أبو العيناء ببغداد مدة طويلة، ثم خرج يريد البصرة،
فركب في سفينة فيها ثمانون نفساً، فغرقت فلم يسلم منهم غيره، فلما وصل
إلى البصرة مات.
مطلب بن شعيب بن حيان، أبو محمد. ولد بمصر، وحدث عن أبي صالح كاتب
الليث، وغيره. وكان ثقة.
وتوفي في محرم هذه السنة.
مطرف بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن قيس مولى عبد الرحمن بن
معاوية بن هشام، أبو سعيد الأندلسي القرطبي.
يروي عن يحيى بن يحيى بن كثير، وسحنون بن سعيد، وكان له زهد وفضل.
توفي بالأندلس في هذه السنة.
يحيى بن عثمان بن صالح بن صفوان مولى آل قيس بن أبي العاص السهمي، يكنى
أبا زكرياء.
كان
عالماً بأخبار مصر، وبوفيات العلماء، وكان حافظاً للحديث، وحدث بما لم
يكن يوجد عند غيره.
توفي في هذه السنة في ذي القعدة.
ثم دخلت
سنة ثلاث وثمانين ومائتين
فمن الحوادث فيها: شخوص المعتضد لثلاث عشرة بقيت من المحرم بسبب هارون
الشاري إلى ناحية الموصل، فظفر به، وكان سبب ظفره: أنه وجه الحسين بن
حمدان إليه في جماعة، فقال الحسين: إن أنا جئت به يا أمير المؤمنين في
ثلاث حوائج. قال: اذكرها! قال: أولها إطلاق أبي، وحاجتان أسألهما
بعدمجيء به إليك. فقال المعتضد: لك ذلك فامض! فمضى فجاء به، فخلع
المعتضد عليه وطوقه بطوق من ذهب، وأمر بحل قيود أبيه إلى أن يقدم
فيطلقه، وكتب المعتضد إلى بغداد بالظفر.
وفي هذه السنة: خرج عمرو بن الليث من نيسابور فخالفه رافع بن هرثمة
إليها، فدخلها وخطب بها لمحمد بن زيد الطالبي، وأبيه، فقال: اللهم أصلح
الداعي إلى الحق. فرجع عمرو إلى نيسابور فعسكر خارج المدينة وخندق على
عسكره لعشر خلون من ربيع الآخر، فناظر أهل نيسابور ثم تواقعا فهزم
رافعاً ثم جاء الخبر بقتله.
ولعشر بقين من جمادى الأولى أمر المعتضد بالكتاب إلى جميع النواحي برد
الفاضل من سهام المواريث على ذوي الأرحام، فنفذت الكتب بذلك، وقرئت
الناس، وكان السبب في ذلك أنه استفتى القضاة في ذلك، فكتب أبو خازم
القاضي، وعلي بن محمد بن أبي الشوارب بردها على ذوي الأرحام فصدرت
الكتب بذلك وذكرا أنه اتفاق الصحابة عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم، وإنما
خالفهم زيد بن ثابت، فإنه رأى ردها إلى بيت المال، ولم يتابعه أحد على
ذلك، وأفتى يوسف بن يعقوي بقول زيد، فأمر المعتضد بالعمل بما كتب به
أبو خازم والإعراض عن فتيا يوسف، وكتب بذلك إلى الآفاق.
وفي يوم السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة شخص الوزير عبيد
الله بن سليمان بن وهب إلى الجبل لحرب ابن أبي دلف بأصبهان فاستأمنه،
فأمنه فصار إليه فقدم به فجلس له المعتضد، وخلع عليه.
وفي رجب: أمر المعتضد بكرى دجيل والاستقصاء عليه، وقلع صخر كان في
فوهته يمنع الماء، فجبى لذلك أرباب الإقطاعات والضياع أربعة آلاف دينار
وكسراً وأنفقت عليه.
وفي شعبان هذه السنة: كان الفداء بين المسلمين والروم، ففودي من
المسلمين ألفان وخمسمائة وأربعة أنفس، فأطلقت المسلمون وأطلق الروم.
وفي هذه السنة: خلع على يوسف بن يعقوب القاضي، وقلد قضاء الجانب الشرقي
من بغداد، وكلواذى، ونهربين، والنهروانات، وكور دجلة والخط، وخلع على
أبي حازم القاضي، وولي قضاء الشرقية من بغداد، ونادرويا، وشقي الفرات،
وشاطئ دجلة إلى حد عمل واسط مضافاً إلى ما تولاه من القضاء بالكوفة
وأعمالها، وذلك بعد أن مكث بغداد ثلاثة أشهر وثمانية عشر يوماً بعد
وفاة إسماعيل بن إسحاق بغير قاض، ثم خلع على علي بن محمد بن عبد الملك
بن أبي الشوارب لقضاء مدينة المنصور، وقطربل، مضافاً إلى ما كان يتولاه
من الحكم بسر من رأى، وتكريت، وطريق الموصل، وقعدت الجماعة في مساجد
مدينة السلام بالرصافة، والشرقية، والغربية فقرأوا عهدهم.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران أبو إسحاق الثقفي السراج
النيسابوري. سمع أحمد بن حنبل، وغيره، وكان أحمد يحضره ويفطر عنده،
وينبسط في منزله، وكان ثقة ينزل الجانب الغربي من نواحي قطيعة الربيع.
وتوفي في صفر هذه السنة.
إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن حازم بن سنين أبو القاسم الختلي سمع داود
بن عمرو الضبي، وعلي بن الجعد، وخلقاً كثيراً. روى عنه الباغندي. وأبو
سهل بن زياد، وأبو بكر الشافعي، وذكره الدارقطني فقال: ليس بالقوي؛
وتوفي في هذه السنة وقد بلغ ثمانين سنة، وقد ذكرنا قبل هذا بسنتين
إسحاق بن إبراهيم الجبلي، وربما ظن من لا يعلم أنهما واحد، وأن إعجام
الحروف اختلط، وليس هما كذلك بل هما غيران.
جعفر بن محمد بن علي أبو القاسم الوراق المؤدب البلخي سكن بغداد، وحدث
بها، فروى عنه ابن مخلد. وتوفي في رمضان هذه السنة.
سهل بن عبد الله بن يونس أبو محمد التستري لقي ذا النون المصري وكان من
أهل الزهادة وله كلام حسن.
أخبرنا
عمر بن ظفر، أخبرنا جعفر بن أحمد، أخبرنا عبد العزيز بن علي، حدثنا ابن
جهضم، حدثنا المفيد، حدثنا محمد بن الحسن بن الصباح قال: سمعت سهل بن
عبد الله يقول: أمس قد مات، واليوم في النزع، وغداً لم يولد.
توفي سهل بفي هذه السنة، وقيل: في سنة ثلاث وسبعين ومائتين.
صالح بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن أبو الفضل الشيرازي كان يسكن
الجانب الشرقي ببغداد، وحدث عن عفان، وعلي بن الجعد، وخالد بن خداش.
روى عنه: أبو عمرو بن السماك، وأبو بكر الشافعي، وكان ثقة مأموناً
قارئاً للقرآن، يقول: قد ختمت أربعة آلاف ختمة. وتوفي في شوال هذه
السنة.
عبد الرحمن بن يوسف بن سعيد بن خراش، أبو محمد الحافظ مروزي الأصل. سمع
نصر بن علي الجهضمي، والدورقي، وعلي بن خشرم، وكان أحد الرحالين في
الحديث إلى الأمصار، وممن يوصف بالحفظ والمعرفة، إلا أنه ينبز بالرفض.
روى عنه: أبو العباس بن عقدة.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال: أخبرني محمد
بن أحمد بن يعقوب القزاز أخبرنا محمد بن نعيم الضبي قال: سمعت بكر بن
محمد بن حمدان يقول: سمعت عبد الرحمن بن يوسف يقول: شربت بولي في هذا
الشأن - يعني في الحديث - خمس مرات.
قال المصنف: يشير إلى اضطراره في السفر. توفي في رمضان هذه السنة.
علي بن محمد بن أبي الشوارب واسم أبي الشوارب: عبد الملك، ويكنى علي
أبا الحسن الأموي البصري قاضي سر من رأى وبغداد.
سمع أبا الوليد الطيالسي، وأبا عمر الحوضي، وغيرهما. روى عنه: ابن
صاعد، والنجاد، وابن قانع، وكان ثقة.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، أخبرنا علي بن المحسن،
أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر قال: لما مات إسماعيل بن إسحاق مكثت بغداد
بغير قاض ثلاثة أشهر وستة عشر يوماً، فاستقضي في يوم الخميس لعشر خلون
من ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين علي بن محمد بن عبد الملك على قضاء
المدينة، مضافاً إلى ما كان يتقلده من القضاء بسر من رأى وأعمالها.
قال: وقبل هذا كان على قضاء القضاة بسر من رأى في أيام المعتز
والمهتدي، فلما توفي الحسن وجه المعتمد بعبيد الله بن يحيى بن خاقان
إلى علي بن محمد فعزاه بأخيه، وهنأه بالقضاء، فامتنع من قبول ذلك، فلم
يبرح الوزير عبيد الله من عنده حتى قبل، وتقلد قضاء القضاة، ومكث يدعى
بذلك إلى أن توفي. وهو رجل صالح ضيق الستر، عظيم الخطر، ثقة أمين على
طريق الشيوخ المتقدمين، حمل الناس عنه حديثاً كثيراً.
وتوفي في شوال هذه السنة ببغداد، وحمل إلى سر من رأى، ودفن هناك.
علي بن العباس بن جريح، أبو الحسن مولى عبيد الله بن عيسى بن جعفر،
يعرف: بابن الرومي أحد الشعراء المكثرين.
أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا أبو عبد الله الحميدي قال: أنشدنا أبو
غالب بن بشران، أخبرنا أبو الحسين بن دينار قال: أنشدنا الناجم قال:
أنشدنا ابن الرومي لنفسه:
إذا ما مدحت الباخلين فإنما ... تذكرهم ما في سواهم من الفضل
وتهدي لهم غماً طويلاً وحسرة ... فإن منعوا منك النوال فبالعدل
ومن أبياته المستحسنة ما قال:
وما الحسب الموروث لادردره ... بمحتسب إلا بآخر مكتسب
فلا تتكل إلا على ما فعلته ... ولا تحسبن المجد يورث بالنسب
فليس يسود المرء إلا بنفسه ... وإن عد آباء كراماً ذوي حسب
إذا الغصن لم يثمر وإن كان شعبة ... من المثمرات اعتده الناس في الحطب
وللمجد قوم ساوروه بأنفس ... كرام ولم يعبوا بأم ولا بأب
وله أيضاً:
عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
إذا انقلب الصديق غداً عدواً ... مبيناً والأمور إلى انقلاب
ولو كان الكثير يطيب كانت ... مصاحبة الكثير من الصواب
ولكن قلما استكثرت إلا ... وقعت على ذئاب في ثياب
فدع عنك الكثير فكم كثير ... يعاف وكم قليل مستطاب
وما اللجج
الملاح بمرويات ... وتلقى الري في النطف العذاب
وله أيضاً:
إذا دام للمرء السواد وأخلقت ... محاسنه ظن السواد خضابا
وكيف يظن الشيخ أن خضابه ... يظن سواداً أو يخال شبابا
وله أيضاً:
إذا ما كساك الدهر سربال صحة ... ولم تخل من قوت يحل ويعذب
فلا تغبطن المترفين فإنه ... على قدر ما يكسوهم الدهر يسلب
وله أيضاً:
وفي أربع مني خلت منك أربع ... فلست بدارٍ أيها هاج لي كربي
أوجهك في عيني أم الريق في فمي ... أم النطق في سمعي أم الحب في قلبي
وله أيضاً:
إن للمجد سبيلاً وعراً ... ضيقاً مسلكها فيه صعود
ليس تثني بالأباطيل الطلى ... لا ولا توطأ بالهزل الخدود
بل بأن ينصب حر نفسه ... وبأن يسهر والناس رقود
وبأن يلقى بضاحي وجهه ... أوجهاً فيها عبوس وصدود
كلما عددت أثمان العلى ... ولما يبتاع منهن نقود
وله أيضاً في مديحه:
تحكى المكارم عنكم وهي شاهدة ... ليست بغيب ولن تحصى بتعديد
وما حكاية شيء لا خفاء به ... جاء القياس فألوى بالاسانيد
لا تحسبوني لشيء غير أنفسكم ... مغرى بتجديد مدح بعد تجديد
لكن كما راقت القمري جنته ... فظل يتبع تغريداً بتغريد
أحبكم لخلال لا لنعمتكم ... عندي وان أصبحت عون المجاهيد
أفسدتموني لا إفساد تنحية ... للخير عني بل إفساد تعويد
وزهدتني أياديكم وفضلكم ... في كل شيء سواها أي تزهيد
وله أيضاً في مديحه:
وفي الرقاب وسوم من صنائعكم ... إن نكرتها رجال بعد إقرار
تستعيدون بها الأحرار دهركم ... فكم عبيد لكم في الناس أحرار
تخادعون عن الدنيا مساترة ... كأن معروفكم إيداع أسرار
إن كان أورق أقوام فإنكم ... مفضلون بتنوير وإثمار
كأنما الناس في الدنيا بظلكم ... قد خيموا بين جنات وانهار
لكم خلائق لو تحظى السماء بها ... لما ألاحت نجوما غير أقمار
ومستخف بقدر الشعر قلت له ... لن ينفق العطر إلا عند عطار
ابني البديع واهديه الى ملك ... يبني الرفيع وما يبني بأحجار
يكسي المديح ولم يعور تجرده ... ككعبة الله لا تكسى لا عوار
وقال أيضاً:
ولي وطن آليت أن لا أبيعه ... بشيء ولا ألفي له الدهر مالكا
عهدت به شرخ الشباب ونعمة ... كنعمة قوم اصبحوا في ظلالكا
فقد ألفته النفس حتى كأنه ... لها جسد إن بان غدرت هالكا
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذالكا
وقال أيضاً:
تخذتكم درعا حصينا لتدفعوا ... نبال العدى عني فكنتم نصالها
وقد كنت أرجو منكم خير ناصر ... على حين خذلان اليمين شمالها
فان أنتم لم تحفظوا لمودتي ... ذماما فكونوا لا عليها ولا لها
قفوا موقف المعذور عني بمعزل ... وخلوا نباتي للعدى ونبالها
وقال أيضاً:
قلبي من الطرف السقيم سقيم ... لو أن من اشكوا إليه رحيم
من وجهها أبدا نهار واضح ... من فرعها ليل عليه بهيم
إن أقبلت فالبدر لاح وإن مشت ... فالغصن راح وإن رنت فالريم
نعمت بها عيني وطال عذابها ... ولكم عذاب قد جناه نعيم
نظرت فأقصدت الفؤاد بسهمها ... ثم انثنت نحوي فكدت أهيم
ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم
يا مستحل دمي محرم رحمتي ... ما أنصف التحليل والتحريم
أخبرنا
عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا أبو يعلى أحمد
بن عبد الواحد، أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران، حدثنا الحسن بن أحمد بن
السري، حدثنا علي بن العباس النوبختي قال: بلغني أن أبا الحسن علي بن
العباس بن جريج الرومي عليل، فمضيت إليه أعوده، فقلت له: أي شيء خبرك؟
قال: أي شيء خبر من يموت! فقلت: ما أرى سحنتك إلا صافية؛ قال: هكذا من
يموت يكون قبل ذلك بيوم حسن الوجه! فقلت: يعافي الله فقال: خذ حديثي،
فإن لم يقطع أن أموت في هذه العلة فاصنع ما شئت! أجبت أن أسكن في مدينة
أبي جعفر، فشاورت صديقاً لي يكنى أبا الفضل وهو مشتق من الإفضال، فقال
لي: إذا عبرت القنطرة فخذ عن يدك اليمني - وهو مشتق من اليمن - وسل عن
سكة النعيمية - وهو مشتق من النعيم - وسل عن دار أبي المعافى - وهو
مشتق من العافية - فخالفت لشؤمي، واقترب أجلي، فشاورت صديقاً يقال له
جعفر - وهو مشتق من الجوع والفرار - فقال لي: إذا عبرت القنطرة فخذ
يسرة - وهو مشتق من اليسر - وسل عن سكة العباس - وهو مشتق من العبوس -
وأسكن في دار أبي قليب - وهو مشتق من الانقلاب - وقد انقلبت بي الدنيا
كما ترى! وأعظم ما علي يجتمع في هذه السدرة في داري في كل يوم عصافير،
فيصيحون في وجهي سيق سيق، فأنا في السياق فعاودته من الغد، فإذا هو
مات.
توفي ابن الرومي في هذه السنة وقيل: في سنة أربع وثمانين.
العباس بن محمد بن عبد الله بن زياد بن عبد الرحمن بن شبيب أبو الفضل
البزاز، ويعرف بدبيس مروزي الأصل، سمع سريج بن النعمان، وعفان بن مسلم،
وسليمان بن حرب. روى عنه: أبو عمرو بن السماك، وكان ثقة يشهد عند
الحكام.
أخبرنا القزاز،أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، أخبرنا محمد بن عبد الواحد،
حدثنا محمد بن العباس: قرئ على ابن المنادي وأنا أسمع قال: العباس بن
محمد الفضل المعروف بدبيس أحد الشهود من الجانب الغربي، وكان العم قد
غلب على قلبه لحوادث لحقته فركب ذات يوم فأخذ به الحمار إلى طريق خارج
السور، فسقط فثبتت اليسرى من رجليه في الركاب، فإلى أن لحق مشى به
الحمار مجروراً فمات على ذلك، وحمل إلى منزله فدفن ليومين خليا من رجب
سنة ثلاث وثمانين.
محمد بن سليمان بن الحارث أبو بكر الواسطي، المعروف بالباغندي حدث عن
محمد بن عبد الله الأنصاري، وأبي نعيم، وقبيصة، وغيرهم. روى عنه:
القاضي المحاملي، وأبو عمرو بن السماك، وأحمد بن سلمان النجاد، وغيرهم،
وكان أبو داود السجستاني يسأل الباغندي عن الحديث.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال: سمعت أبا الفتح بن
أبي الفوارس، وسأله أبو محمد الخلال عن الباغندي، فقال: ضعيف الحديث.
وقال الدارقطني: لا بأس به. قال الخطيب: لا أعلم لأية علة ضعف، فإن
رواياته كلها مستقيمة، ولا أعلم في حديثه منكراً؛ وتوفي في ذي الحجة من
هذه السنة.
محمد بن غالب بن حرب أبو جعفر الضبي التمار، المعروف بتمتام ولد سنة
ثلاث وتسعين ومائة، وسكن بغداد فحدث بها عن عفان، والقعنبي، وقبيصة في
خلق كثير، وكان صدوقاً حافظاً، قال الدار قطني: هو ثقة مأمون، إلا أنه
كان يخطئ؛ توفي في رمضان هذه السنة.
يحيى بن المختار بن المنصور بن إسماعيل بن زكريا النيسابوري سكن بغداد،
وحدث بها عن جماعة، روى عنه: ابن مخلد، وابن المنادي، وكان صدوقاً توفي
في صفر هذه السنة.
ثم دخلت
سنة أربع وثمانين ومائتين
فمن الحوادث فيها: قدوم رسول عمرو بن الليث برأس رافع بن هرثمة في يوم
الخميس لأربع بقين من المحرم على المعتضد، فأمر بنصبه في الجانب الشرقي
إلى الظهر، ثم أمر بتحويله إلى الجانب الغربي، ونصبه هناك إلى الليل.
وفي يوم الخميس لأربع عشرة خلت من ربيع الأول: خلع على أبي عمر محمد بن
يوسف بن يعقوب، وقلد قضاء مدينة أبي جعفر، مكان علي بن محمد بن أبي
الشوارب، وقعد للخصوم في الجامع، ومكثت مدينة المنصور من لدن مات ابن
أبي الشوارب، إلى أن وليها أبو عمر بغير قاض، وذلك خمسة أشهر وأربعة
أيام.
وفي هذه
السنة: أخذ نصراني فشهد عليه أنه قد شتم النبي صلى الله عليه وسلم،
فحبس ثم اجتمع من الغد العوام بسبب النصراني، فصاحوا بالقاسم بن عبيد
الله، وطالبوه بإقامة الحد على النصراني، فلما كان يوم الأحد لثلاث
عشرة بقيت من الشهر اجتمع أهل باب الطاق، وما يليها من الأسواق، ومضوا
إلى دار السلطان، فلقيهم أبو الحسين بن الوزير، فصاحوا به، فأعلمهم أنه
قد أنهى خبره إلى المعتضد، فكذبوه وأسمعوه ما كره، ووثبوا بأعوانه حتى
هربوا منهم، ومضوا إلى دار المعتضد، فدخلوا من الباب الأول، والثاني،
فمنعوا فوثبوا على من منعهم، فخرج إليهم من سألهم عن خبرهم، فأخبروه،
فكتب به إلى المعتضد فأدخل إليه جماعة منهم وسألهم عن الخبر ، فذكر له،
فأرسل إلى يوسف القاضي لينظر في الأمور، فمضى معهم الرسول إلى القاضي،
فكادوا يقتلونه ويقتلون القاضي من كثرة الزحام، حتى دخل القاضي باباً
وأغلق دونهم.
وفي يوم الخميس لثلاث بقين من ربيع الآخر: ظهرت ظلمة بمصر، وحمرة في
السماء شديدة، حتى كان الرجل ينظر إلى وجه الآخر فيراه أحمر، وكذلك
الحيطان وغيرها، فمكثوا كذلك من العصر إلى العشاء، وخرج الناس يدعون
الله عز وجل ويتضرعون إليه.
وفي يوم الأربعاء لثلاث خلون من جمادى الأولى: نودي في الأرباع
والأسواق ببغداد بالنهي عن وقود النار ليلة النيروز، وعن صب الماء في
يومه، ونودي بمثل ذلك في يوم الخميس، فلما كانت عشية الخميس نودي على
باب صاحب الشرطة بالجانب الشرقي بأن أمير المؤمنين قد أطلق الناس في
وقود النيران، وصب الماء، ففعلت العامة في ذلك ما جاوز الحد، حتى صبوا
على أصحاب الشرطة فكان ذلك من أعظم الفتن.
وفي هذه السنة: أولعت العوام بأن يقولوا لمن رأوه من الخدم السود: يا
عقعق، فبالغوا في أذى الخدم، فتقدم بأخذ جماعة وضربهم.
وفيها: عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر، وأمر
بإنشاء كتاب يقرأ على الناس بذلك، فخوفه عبيد الله بن سليمان اضطراب
العامة، وحذره الفتنة، فلم يلتفت إلى قوله، وعملت النسخ، وقرئت
بالجانبين في يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى وتقدم إلى العوام
بترك العصبية ومنع القصاص من القعود في الجامع، وفي الطرقات، ومنعت
الباعة من القعود في رحابها، ومنع أهل الحلق في الفتيا وغيرهم من
القعود في المسجد، ونودي يوم الجمعة بنهي الناس عن الاجتماع على قاصٍ
أو غيره، وأنه قد برئت الذمة ممن اجتمع من الناس على مناظرة أو جدل،
فمن فعل ذلك أحل بنفسه الضرب، وتقدم إلى الذين يسقون الماء في الجامع
أن لا يترحموا على معاوية، ولا يذكروه، وخرج مكتوب فيه: قد انتهى إلى
أمير المؤمنين ما عليه جماعة من العامة من شبهة قد دخلتهم في أديانهم،
وفساد قد لحقهم في معتقدهم، وعصبية قد غلبت عليهم قلدوا فيها قادة
الضلال بلا بيتة، وخالفوا السنن المتبعة إلى الأهواء المبتدعة فأعظم
أمير المؤمنين ذلك، ورأى ترك إنكاره حرجاً عليه في الدين.
وفي شعبان ظهر شخص إنسان في يده سيف في دار المعتضد بالثريا فمضى إليه
بعض الخدم لينظر من هو فضربه الشخص بالسيف ضربة قطع بها منطقته، وبلغ
السيف إلى بدن الخادم، وهرب الخادم، ودخل الشخص في زرع في البستان
فتوارى فيه فطلب فلم يعرف له خبر، ولم يوقف له على أثر، فاستوحش
المعتضد من ذلك، ورجم الناس الظنون حتى قالوا: إنه من الجن، ثم عاد
الشخص للظهور مراراً كثيرة حتى وكل المعتضد بسور داره، وأحكم عمارة
السور وجيء يوم السبت لسبع خلون من رمضان بالمعزمين بسبب ذلك الشخص،
وجيء معهم بالمجانين وكانوا قد قالوا: نحن نعزم على بعض المجانين، فإذا
أسقط سأل الجني عن خبر ذلك الشخص، فصرعت امرأة، فأمر بصرفهم.
وذكر أبو
يوسف القزويني أنه لم يوقف له على أثر ولا عرفت حقيقة ذلك إلا في أيام
المقتدر، وأن ذلك الشخص كان خادماً أبيض يميل إلى بعض الجواري اللواتي
في دواخل دور الخدم، وكان قد اتخذ لحى على ألوان مختلفة، وكان إذا لبس
بعض اللحى لا يشك من رآه أنها لحية فكان يلبس في الوقت الذي يريده لحية
منها، ويظهر في ذلك الموضع وفي يده سيف أو غيره من السلاح، فإذا طلب
دخل بين الشجر، وفي بعض الممرات والعطفات ونزع اللحية، وجعلها في كمه
وبقي معه السلاح، كأنه لبعض الخدم الطالبين للشخص، فلا يرتاب به أحد
وسأل: هل رأيتم أحد؟ وكان إذا وقع مثل هذا خرج الجواري من داخل الدور،
فيرى هو تلك الجارية، ويخاطبها بما يريد، وإنما كان غرضه مخاطبة
الجارية، ومشاهدتها وكلامها، ثم خرج من الدار في أيام المقتدر ومضى إلى
طوس، فأقام بها إلى أن مات، وتحدثت الجارية بعد ذلك بحديثه.
وفي هذه السنة: وعد المنجمون الناس بغرق أكثر الأقاليم، وقالوا لا يسلم
من إقليم بابل إلا اليسير، وأن ذلك يكون لكثرة الأمطار، وزيادة المياه
في الأنهار، وقحط الناس في تلك السنة، ولم يروا من الأمطار إلا اليسير،
وغارت المياه في الأنهار والآبار، حتى احتاج الناس إلى الاستسقاء،
فاستسقوا ببغداد مراراً، وكذب الله عز وجل خبر المنجمين.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن عبد الله بن داود الهاشمي، المعروف
بأترجة.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن المبارك، أبو عمرو المستملي الزاهد النيسابوري، ويلقب، بحكمويه
العابد سمع قتيبة بن سعيد، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وسريج بن
يونس في خلق كثير، وكان راهب أهل عصره، يصوم النهار، ويحيي الليل،
واستملى على المشايخ ستاً وخمسين سنة وحدث.
أنبأنا زاهر بن طاهر قال: أنبأنا أبو بكر البيهقي، أخبرنا أبو عبد الله
محمد بن عبد الله الحاكم قال: سمعت الحسن بن علي بن محمد القاضي يقول:
حضرت مجلس أبي عثمان سعيد بن إسماعيل ودخل أبوعمرو المستملي وعليه
أثواب رثة، فبكى أبو عثمان، فلما كان يوم مجلس الذكر بكى أبو عثمان في
آخر مجلسه،ثم قال: دخل علي شيخ من مشايخ أهل العلم، فاشتغل قلبي برثاثة
حاله، ولولا أني أجله عن تسميته في هذا الموضع لسميته، فجعل الناس
يرمون بالخواتيم والدراهم والكسوة بين يديه وتجمع بين يديه، فقال أبو
عمرو المستملي على رؤوس الناس، وقال: أنا الذي ذكرني أبو عثمان برثاثة
الحال، ولولا أني كرهت أن يتهم في غيري فيأثم فيه لسترت ما ستر الله
علي، فتعجب أبو عثمان من إخلاصه، وأخذ جميع ما جمع له، وحمله معه وخرج
نحو الجامع فبلغ باب الجامع، وقد وهب الفقراء كل ما جمع له. وتوفي في
جمادى الآخرة من هذه السنة.
إبراهيم بن جعفر بن مسعر أبو إسحاق الكرماني قدم مصر وحدث بها وتوفي في
هذه السنة.
إبراهيم بن عبد العزيز بن صالح أبو إسحاق الصالحي حدث عن أبي سعيد
الأشج وغيره وروى عنه الباغندي في جماعة.
أخبرنا القزاز، أخبرنا أحمد بن علي، أخبرنا محمد بن عبد العزيز قال:
الصالحي من ولد صالح صاحب المصلى، كان يعرف بالطلب والصلاح، كتب الناس
عنه، ووثقوه، وكان ينزل درب سليمان بالرصافة، مات في جمادى الأولى سنة
أربع وثمانين.
إسحاق بن الحسن بن ميمون بن سعد أبو يعقوب الحربي سمع عفان، وهوذة بن
خليفة، والقعنبي، وأبا نعيم في آخرين. روى عنه: ابن صاعد، والنجاد،
وأبو بكر والشافعي، وابن الصواف، وكان أكبر من إبراهيم الحربي بثلاث
سنين، ووثقه إبراهيم، والدارقطني، وتوفي لأربع عشرة ليلة بقيت من شوال،
ونودي عليه في أكناف مدينة السلام، واجتمع خلق من الناس لحضور جنازته،
وغلط قوم فقصدوا منزل إبراهيم الحربي، فقال لهم إبراهيم: ليس إلى هذا
الموضع قصدتم، وغداً تأتونه أيضاً! وعاش إبراهيم الحربي بعده سنة دون
شهرين.
إسحاق بن محمد أبو يعقوب مولى بني سدوس ولد بالبصرة سنة أربع وتسعين
ومائة، وكان صالحاً يتجر في الجوهر.
وتوفي بمصر في ذي الحجة من هذه السنة.
عبد الله بن محمد بن يحيى بن المبارك أبو القاسم العدوي المعروف بابن
اليزيدي سمع محمد بن منصور، وعبد الرحمن بن يحيى، والأصمعي، وكان ثقة.
وتوفي في محرم هذه السنة.
عبيد الله بن علي
بن الحسن
بن إسماعيل، أبو العباس الهاشمي كان الإمام في جامع الرصافة، وإليه
الحسبة ببغداد، وحدث عن نصر الجهضمي، روى عنه : أبو الحسين بن المنادي
، وتوفي في صفر هذه السنة.
عبد العزيز بن معاوية بن عبد الله بن أمية بن خالد بن عبد الرحمن بن
سعيد ابن عبد الرحمن بن عباد بن أسيد أبو خالد القرشي الأموي البصري
قدم بغداد، وحدث بهب عن أزهر السمان، وأبي عاصم النبيل. روى عنه: أبو
عمرو بن السماك. توفي في ربيع الآخر من هذه السنة.
يزيد بن الهيثم بن طهمان أبو خالد الدقاق، يعرف بالباد كذا يقول
المحدثون وصوابه: البادي بكسر الدال لأنه ولد هو وأخ له توأمان فكان هو
البادي في الولادة. سمع عاصم بن علي، ويحيى بن معين روى عنه: ابن صاعد،
وغيره. وكان ثقة. وتوفي في شوال هذه السنة.
ثم دخلت
سنة خمس وثمانين ومائتين
فمن الحوادث فيها: خروج صالح بن مدرك الطائي على الحاج بالأجفر يوم
الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرم، فأخذ الأموال والتجارات
والنساء والحرائر والمماليك، وذكر أنه أخذ من الناس ألفي ألف دينار.
ولسبع بقين من المحرم قرئ على جماعة من حاج خراسان في دار المعتضد كتاب
بتولية عمرو بن الليث الصفار ما وراء النهر - نهر بلخ - وعزل أحمد بن
إسماعيل.
وفي هذه السنة: كتب صاحب البريد من الكوفة، يذكر أن ريحاً صفراء ارتفعت
بنواحي الكوفة في ليلة الأحد لعشر بقين من ربيع الأول، فلم تزل إلى وقت
المغرب، ثم استحالت سوداء، فلم يزل الناس في تضرع إلى الله عز وجل، ثم
مطرت السماء بعقب ذلك مطراً شديداً برعود هائلة، وبروق متصلة، ومطرت
قرية تعرف بأحمد أباذ حجارة بيضاء وسوداء، مختلفة الألوان، وأنفذ منها
حجراً، فأخرج إلى الدواوين حتى رأوه، ثم ورد الخبر من البصرة أن ريحاً
ارتفعت بها بعد صلاة الجمعة لخمس بقين من ربيع الأول صفراء ثم استحالت
خضراء، ثم سوداء ثم تتابعت الأمطار بما لم يروا مثلها قط، ثم وقع برد
كبار، وزن البردة الواحدة مائة وخمسون درهماً، وأن الريح اقتلعت من نهر
الحسن خمسمائة نخلة أو أكثر، ومن نهر معقل مائة نخلة عدداً، وزادت دجلة
زيادة مفرطة، لم ير مثلها، فتهدمت أبنية كثيرة حولها، وخيف على
الجانبين.
وورد الخبر لثلاث خلون من شعبان أن راغباً الخادم مولى الموفق غزا في
البحر، فأظفره الله تعالى بمراكب كثيرة، وبجميع ما فيها من الروم، فضرب
أعناق ثلاثة آلاف منهم، وأحرق المراكب، وفتح حصوناً كثيرة من حصون
الروم.
وفي عشر من ذي الحجة دخل علي بن المعتضد من الري، فتلقاه الناس، ودخل
إلى المعتضد، فقال له: يا بني خرجت ولداً ورجعت أخاً! فقال: يا أمير
المؤمنين أبقاني الله تعالى لخدمتك، ولا أبقاني بعدك.
فأمر أن يخلع عليه بين يديه.
وفي ذي الحجة خرج المعتضد من بغداد قاصداً إلى آمد واستخلف ببغداد
صالحاً الحاجب، وصلى بالناس العيد ابنه علي، وانصرف إلى الدار، فعمل
بها سماطاً للناس.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن عبد الله بن داود الهاشمي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن أصرم بن خزيمة بن عباد بن عبد الله بن حسان بن عبد الله بن
مغفل أبو العباس المزني سمع أحمد بن حنبل، ويحيى، وغيرهما. روى عنه أبو
بكر النجاد الحزمي وغيره وكلن ثقة كبير الشأن.
توفي في جمادى الأولى في هذه السنة بدمشق.
إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن بشير بن عبد الله بن ديسم أبو إسحاق
الحربي أصله من مرو، ولد سنة ثمان وتسعين ومائة، وسمع أبا نعيم، وعفان
بن مسلم، وعلي بن الجعد، وأحمد بن حنبل وخلقاً كثيراً. روى عنه: ابن
صاعد، وابن أبي داود، وابن الأنباري، وغيرهم. وكان إماماً في العلم،
غاية في الزهد، عارفاً بالفقه، بصيراً بالأحكام، ماهراً في علم الحديث،
قيماً بالأدب واللغة. وصنف كتباً كثيرة.
وقال الدارقطني: إبراهيم الحربي إمام مصنف، عالم بكل شيء بارع في كل
علم، صدوق، كان يقاس بأحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه.
وقال إبراهيم الحربي: كان أخوالي نصارى، وأمي تغلبية، وصحبت قوماً من
الكرخ على سماع الحديث، فسموني الحربي، لأن عندهم من جاز القنطرة
العتيقة من الحربية.
أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرني
الجوهري قال: أخبرنا محمد بن العباس الخزاز، قال: سمعت أبا عمر اللغوي
يقول: سمعت ثعلباً، يقول ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس نحو أو لغة
خمسين سنة.
أنبأنا القزاز، أنبأنا الخطيب، قال: حدثني الأزهري، قال: سمعت أبا سعد
عبد الرحمن بن محمد الاسترباذي يقول: سمعت أبا أحمد بن عدي، يقول: سمعت
أبا عمران الأشيب، يقول: قال رجل لإبراهيم الحربي: كيف قويت على جمع
هذه الكتب؟ فغضب وقال: بلحمي ودمي؛ بلحمي ودمي!! أخبرنا أبو منصور
القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: حدثنا عبد العزيز بن علي
الوراق، قال: حدثنا علي بن عبد الله بن جهضم، قال: حدثنا الخلدي، قال:
حدثنا أحمد بن عبد الله بن خالد بن ماهان، قال: سمعت إبراهيم بن إسحاق
يقول: أجمع عقلاء كل أمة أنه من لم يجر مع القدر لم يتهنأ بعيشة، كأن
يكون قميصي أنظف قميص، وإزاري أوسخ إزار، ما حدثت نفسي أنهما يستويان
قط، وفرد عقبي مقطوع، والآخر صحيح، أمشي بهما وأدور بغداد كلها، هذا
الجانب، وذاك الجانب، لا أحدث نفسي أن أصلحها. وما شكوت إلى أمي، ولا
إلى أختي، ولا إلى بناتي قط حمى وجدتها.
وكان يقول: الرجل هو الذي يدخل غمه على نفسه ولا يغم عياله. وكان بي
شقيقة خمساً وأربعين سنة ما أخبرت بها أحداً قط، ولي عشر سنين أبصر
بفرد عين ما أخبرت بها أحداً قط، وأفنيت من عمري ثلاثين سنة برغيفين،
إن جاءتني بهما أمي أو أختي أكلت، وإلا بقيت جائعاً عطشان إلى الليلة
الثانية، وأفنيت ثلاثين سنة من عمري برغيف في اليوم والليلة، إن جاءتني
امرأتي أو إحدى بناتي به أكلت وإلا بقيت جائعاً عطشان إلى الليلة
الأخرى، والآن آكل نصف رغيف وأربع عشرة تمرة إن كان برنياً، أو نيفاً
وعشرين إن كان دقلاً، ومرضت ابنتي فمضت امرأتي فأقامت عندها شهراً،
فقال إفطاري في هذا الشهر بدرهم ودانقين ونصف، ودخلت الحمام واشتريت
صابوناً بدانقين، وكانت نفقة رمضان كله بدرهم وأربعة دوانيق ونصف.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرني عبيد
الله بن أبي الفتح، قال: أخبرنا عمر بن أحمد بن هارون المقرئ، أن أبا
القاسم بن بكير حدثه، قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: ما كنا نعرف من
هذه الأطبخة شيئاً، كنت أجيء من عشي إلى عشي، وقد هيأت لي أمي باذنجانة
مشوية، أو لعقة بن، أو باقة فجل.
قال عمر: سمعت أبا علي الخراط قال: كنت يوماً جالساً مع إبراهيم الحربي
على باب داره، فلما أن أصبحنا قال لي: يا أبا علي، قم إلى شغلك فإن
عندي فجلة قد أكلت البارحة خضرتها أقوم أتغدى بجزرتها.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت
قال: أخبرني أبو نصر: أحمد بن الحسين بن محمد بن عبد الله القاضي، قال:
حدثنا أبو بكر: أحمد بن محمد بن إسحاق السني، قال: سمعت أبا عثمان
الرازي يقول: جاء رجل من أصحاب المعتضد إلى إبراهيم الحربي بعشرة آلاف
درهم من عند المعتضد، يسأله عن أمر أمير المؤمنين تفرقة ذلك، فرده
فانصرف الرسول، ثم عاد فقال له: إن أمير المؤمنين يسألك أن تفرقه في
جيرانك؛ فقال: عافاك الله، هذا ما لم نشغل أنفسنا بجمعه، فلا نشغلها
بتفرقته، قل لأمير المؤمنين إن تركتنا وإلا تحولنا من جوارك.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
حدثني الأزهري، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن الحسن، قال: حدثنا أحمد
بن مروان، قال: أخبرنا أبو القاسم بن الجبلي، قال: اعتل إبراهيم الحربي
علة حتى أشرف على الموت، فدخلت إليه يوماً، فقال لي: يا أبا القاسم،
أنا في أمر عظيم مع ابنتي، ثم قال لها: قومي اخرجي إلى عمك، فخرجت
فألقت على وجهها خمارها، فقال: إبراهيم هذا عمك فكلميه، فقالت لي: يا
عم نحن في أمر عظيم، لا في الدنيا ولا في الآخرة، الشهر والدهر ما لنا
طعام إلا كسر يابسة وملح، وربما عدمنا الملح، وبالأمس قد وجه إليه
المعتضد مع بدر ألف دينار فلم يأخذها، ووجه إليه فلان وفلان فلم يأخذ
منهما شيئاً وهو عليل. فالتفت الحربي إليها وتبسم وقال: يا بنية إنما
خفت الفقر؟ قالت: نعم! قال: انظري إلى تلك الزاوية، فنظرت فإذا كتب،
فقال:
هناك اثنا
عشر ألف جزء لغة وغريب كتبتها بخطي، إذا مت فوجهي كل يوم بجزء فبيعيه
بدرهم، فمن كان عنده اثنا عشر ألف درهم ليس بفقير.
قال محمد بن عبد الله الكاتب: كنت يوماً عند المبرد فأنشد:
جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالجسم في غربة والروح في وطني
فليعجب الناس مني أن لي بدناً ... لا روح فيه ولي روح بلا بدن
وأنشد ثعلب:
غابوا فصار الجسم من بعدهم ... لا تنظر العين له فيا
بأي وجه أتلقاهم ... إذا رأوني بعدهم حيا؟
يا خجلتي منهم ومن قولهم ... ما ضرك الفقد لنا شيا
قال:
فأتيت إبراهيم الحربي فأنشدته، فقال:
ألا أنشدته:
يا حيائي ممن أحب إذا ما ... قال بعد الفراق أني حييت
وقال الحسن بن زكريا العدوي: أنشدني إبراهيم الحربي:
أنكرت ذلي فأي شيء ... أحسن من ذلة المحب؟
أليس شوقي وفيض دمعي ... وضعف جسمي شهود حبي؟
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: حدثني عبد
الغفار بن عبد الواحد الأرموي، قال: سمعت أبا يعلى الحافظ، يقول: سمعت
حمزة بن محمد العلوي، يقول: سمعت عيسى بن محمد الطوماري، يقول: دخلنا
على إبراهيم الحربي - وهو مريض ، وقد كان يحمل ماؤه إلى الطبيب وكان
يجيء إليه ويعالجه، فجاءت الجارية فردت الماء وقالت: مات الطبيب، فبكى
وأنشأ يقول:
إذا مات المعالج من سقام ... فيوشك للمعالج أن يموتا
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: حدثني الحسن بن
أبي طالب، قال: حدثنا عمر بن أحمد الواعظ، قال: حدثنا علي بن الحسن
البزاز، قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول وقد دخل عليه قوم يعودونه،
فقالوا: كيف تجدك؟ فقال: أجدني كما قال الشاعر:
دب في البلاء علواً وسفلاً ... وأراني أموت عضواً فعضوا
ذهبت جدتي بطاعة نفسي ... فتذكرت طاعة الله نضوا
توفي إبراهيم الحربي يوم الاثنين لتسع ليال بقين من ذي الحجة، ودفن يوم
الثلاثاء لثمان بقين من ذي الحجة سنة خمس وثمانين ومائتين وصلى عليه
يوسف بن يعقوب القاضي في شارع باب الأنبار، وكان الجمع كثيراً جداً
ودفن في بيته.
إسحاق بن المأمون بن إسحاق بن إبراهيم أبو سهل الطالقاني حدث عن
الكوسج، والربيع بن سليمان. روى عنه ابن مخلد، وكتب الناس عنه كتاب
الشافعي بروايته عن الربيع، ومن الحديث شيئاً صالحاً.
وتوفي في جمادى الأولى من هذه السنة.
بدر بن عبد الله أبو الحسن الجصاص الرومي حدث عن عاصم بن علي، وخليفة
بن خياط. روى عنه الخطبي، والنقاش.
وتوفي في محرم هذه السنة.
زكريا بن يحيى بن عبد الملك بن مروان أبو يحيى الناقد سمع خالد بن
خطاش، وأحمد بن حنبل، وغيرهما. روى عنه أبو الخلال، ومحمد بن مخلد،
وأبو سهل بن زياد، وغيرهم.
وكان أحد العباد المجتهدين، ومن أثبات المحدثين. قال فيه أحمد بن حنبل:
هذا رجل صالح. وقال الدارقطني: هو فاضل ثقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
حدثنا أبو نصر إبراهيم بن هبة الله الجرباذقاني، قال: حدثنا معمر بن
أحمد بن محمد بن زياد الأصبهاني، قال: قال أبو زرعة الطبري: قال أبو
يحيى الناقد: اشتريت من الله تعالى حوراء بأربعة آلاف ختمة، فلما كان
ختمة سمعت الخطاب من الحوراء وهي تقول: وفيت بعهدك فها أنا التي قد
اشتريتني فيقال: إنه مات.
توفي أبو يحيى الناقد ليلة الجمعة، ودفن يوم الجمعة لثمان بقين من ربيع
الآخر من هذه السنة.
سعيد بن محمد بن سعيد أبو عثمان الأنجداني سمع أبا عمر الحوضي روى عنه
أبو بكر الشافعي، وكان صدوقاً.
توفي في شوال هذه السنة.
عبد الله بن أحمد بن سوادة أبو طالب، مولى بني هاشم حدث عن مجاهد بن
موسى، وطالوت في جماعة. روى عنه أبو بكر بن مجاهد، وابن مخلد، وابن
عقدة، وكان صدوقاً.
وتوفي في هذه السنة بطرسوس.
عبيد الله بن عبد الواحد بن شريك أبو محمد البزاز
حدث عن
آدم بن أبي إياس، ونعيم بن حماد. روى عنه النجاد، والمحاملي، وقال
الدارقطني: هو صدوق.
وتوفي في رجب هذه السنة، ودفن عند قبر أحمد.
محمد بن بشير بن مطر أبو بكر الوراق أخو خطاب بن بشر المذكور: سمع عاصم
بن علي، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ويحيى بن يوسف الزمي، وغيرهم. روى
عنه ابن صاعد، وأبو جعفر بن بريه، وأبو بكر الشافعي، وغيرهم.
وقال إبراهيم الحربي: أخو خطاب صدوق لا يكذب، وقال الدارقطني: ثقة.
وتوفي في رمضان هذه السنة.
محمد بن حماد بن ماهان بن زياد أبو جعفر الدباغ سمع علي بن المديني،
وغيره. وكان ثقة.
وتوفي في جمادى الآخرة من هذه السنة.
محمد بن يزيد بن عبد الأكبر أبو العباس الأزدي الثمالي المعروف بالمبرد
له المعرفة التامة باللغة، وكان في نحو البصريين آية ولد سنة عشر
ومائتين، وقيل: سنة ست ومائتين وذكر ابن المرزبان أنه سئل: لم سميت
المبرد؟ فقال: كان سبب ذلك أن صاحب الشرطة طلبني للمنادمة فكرهت الذهاب
إليه، فدخلت على أبي حاتم السجستاني، فجاء رسول صاحب الشرطة يطلبني،
فقال لي أبو حاتم: ادخل في هذا يعني غلاف المزملة فارغ، فدخلت فيه وغطى
رأسه ثم خرج إلى الرسول، فقال أبو حاتم للرسول: ليس هو عندي، فقال:
أخبرت أنه دخل إليك، فقال: فادخل الدار ففتشها. فدخل فطاف كل موضع من
الدار ولم يفطن بغلاف المزملة، ثم خرج فجعل أبو حاتم يصفق بيديه وينادي
على المزملة: المبرد المبرد، وتسامع الناس ذلك فلهجوا به. وللمبرد
المعرفة التامة باللغة، وهو أوحد في نحو البصريين.
وروى عن المازني، وأبي حاتم، وغيرهما. وكان موثوقاً به في الرواية،
وكان بينه وبين ثعلب مفارقة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي الخطيب، قال:
أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا محمد بن العباس، قال: أنشدنا محمد بن
المرزبان لبعض أصحاب المبرد يمدحه:
بنفسي أنت يا ابن يزيد من ذا ... يساوي ثعلباً بك غير قين
إذا مازتكما العلماء يوماً ... رأت شأويكما متفاوتين
تفسر كل معضلة بحذق ... ويستر كل واضحةٍ بعين
كأن الشمس ما تمليه شرحاً ... وما يمليه همزة بين بين
توفي المبرد في هذه السنة.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا أحمد
بن محمد العتيقي، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن عمر التميمي، قال:
أنشدنا أحمد بن مروان المالكي، قال: أنشدني بعض أصحابنا لثعلب بن
المبرد حين مات:
مات المبرد وانقضت أيامه ... وسينقضي بعد المبرد ثعلب
بيت من الآداب أصبح نصفه ... خرباً وباقي نصفه فسيخرب
قال المصنف: هذا قدر مل روى لنا من هذه الطريق، وأنها لثعلب، وقد روي
لنا من طريق آخر أنها للحسين بن علي المعروف بابن العلاف، قالها يرثي
المبرد ويمدح ثعلباً، وهي:
مات المبرد وانقضت أيامه ... وسيذهبن مع المبرد ثعلب
بيت من الآداب أصبح نصفه ... خرباً وباقي بيته فسيخرب
فابكوا لما سلب الزمان ووطنوا ... للدهر أنفسكم على ما يسلب
غاب المبرد حيث لا ترجونه ... أبداً ومن ترجونه فمغيب
شملتكم أيدي الردى بمصيبة ... وتوعدت بمصيبة تترقب
فتزودوا من ثعلب فبكأس ما ... شرب المبرد عن قليل يشرب
وأرى لكم أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الأنفاس مما يكتب
فليلحقن بمن مضى متخلف ... من بعده وليذهبن ونذهب
قال المبرد: خرجت ومعي أصحاب لي نحو الرقة، فإذا نحن بدير كبير، فأقبل
إلي بعض أصحابي فقال: مل بنا إلى هذا الدير للنظر من فيه، ونحمد الله
سبحانه وتعالى على ما رزقنا من السلامة، فلما دخلنا الدير رأينا مجانين
مغللين، وهم في نهاية القذارة وإذا بينهم شاب عليه بقية ثياب ناعمة،
فلما بصر بنا قال: من أين أنتم يا فتيان حياكم الله؟ فقلنا: من العراق،
فقال: يا بأبي العراق وأهلها! بالله أنشدوني - أو أنشدكم - فقال
المبرد:
والله إن
الشعر من هذا لظريف، فقلنا: أنشدنا، فأنشأ يقول:
الله يعلم أنني كمد ... لا أستطيع أبث ما أجد
روحان لي روح تضمنها ... بلد وأخرى حازها بلد
وأرى المقيمة ليس ينفعها ... صبر ولا يقوى لها جلد
وأظن غائبتي كشاهدتي ... بمكانها تجد الذي أجد
قال المبرد والله إن هذا لظريف، بالله زدنا، فأنشأ يقول:
لما أناخوا قبيل الصبح عيرهم ... ورحلوها فثارت بالهوى الإبل
وأبرزت من خلال السجف ناظرها ... ترنو إلى ودمع العين منهمل
وودعت ببنان عقدها عنم ... ناديت لا حملت رجلاك يا جمل
ويلي من البين ماذا حل بي وبهم ... من نازل البين حان البين وارتحلوا
يا راحل العيس عجل كي أودعهم ... يا راحل العيس في ترحالك الأجل
إني على العهد لم أنقض مودتهم ... فليت شعري لطول العهد ما فعلوا
قال المبرد فقال رجل من البغضاء الذين معي: ماتوا! قال: أذن فأموت؟
فقال له: إن شئت فمت فتمطى واستند إلى السارية التي كان مشدودا فيها
ومات، فما برحنا حتى دفناه.
وتوفي المبرد في هذه السنة.
الوليد بن عبيد بن يحيى، أبو عبادة الطائي البحتري من أهل منبج، بها
ولد سنة ست ومائتين، وبها نشأ وتأدب، وخرج إلى العراق فمدح المتوكل
وخلقاً من الرؤساء والأكابر، وأقام ببغداد زماناً طويلاً، ثم رجع إلى
بلده فمات به، وكان فصيحاً نقي الكلام، وقد روى عنه من شعره المبرد،
وابن المرزبان، وابن دستوريه، وكان ينحو نحو أبي تمام ويقول أبو تمام
الأستاذ، وقيل له: إن الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام، فقال: والله
ما ينفعني هذا ولا يضر أبا تمام والله ما أكلت الخبز إلا به.
ولما سمع أبو تمام شعره، قال: نعيت إلي نفسي، فإنه ليس بطول عمري وقد
نشأ لطيء مثلك فمات أبو تمام بعد سنة، وكان شعر البحتري في المديح أجود
من المراثي، فسئل عن سبب ذلك، فقال: كنا نقول للرجاء ونحن الآن نعمل
للوفاء، وبينهما بعد.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرني أبو يعلى: أحمد بن عبد الواحد الوكيل، قال: أخبرنا أبو الحسن
محمد بن جعفر التميمي، قال: أخبرنا أبو بكر الصولي، عن ابن البحتري،
قال: دخل أبي علي بعض العمال قد ذكره في حبس المتوكل وهو يطالب بما لا
يقدر عليه من الأموال فأنشا يقول:
جعلت فداك الدهر ليس بمنفك ... من الحادث المشكو والنازل المشكي
وما هذه الأيام إلا منازل ... فمن منزل رجب ومن منزل ضنك
وقد هذبتك الحادثات وإنما ... صفا الذهب الإبريز قبلك بالسبك
أما في نبي الله يوسف أسوة ... لمثلك مسجوناً على الزوار والإفك
أقام جميل الصبر في السجن برهة ... فأمسكه الصبر الجميل إلى الملك
ومن شعره أيضاً:
ألا لا تذكرني الحمى إن ذكره ... جوى للمشوق المستهام المعذب
أتت دون ذاك العهد أيام جرهم ... فطارت بذاك العيش عنقاء معغرب
ويا لائمي في عبرة قد سفحتها ... لبين وأخرى قبلها للتجنيب
تحاول مني شيمة غير شيمتي ... وتطلب عندي مذهباً غير مذهبي
ولما تزايلنا من الجزع وانتأى ... مشرق ركب مصعد من مغرب
تبينت أن لا دار من بعد عالج ... تسر، وأن لا خلة بعد زينب
وقال أيضاً:
سلام عليكم لا وفاء ولا عهد ... أما لكم من هجر خلانكم بد؟
أأحبابنا قد أنجز الدهر وعده ... وشيكاً ولم ينجز لنا منكم وعد
أأطلال دار العامرية باللوى ... سقت ربعك الأنواء ما فعلت هند؟
بنفسي من عذبت نفسي بحبه ... وإن لم يكن منه وصال ولا ود
حبيب من الأحباب شطت به النوى ... وأي حبيب ما أتى دونه البعد
إذا جزت صحراء الغوير مغرباً ... وجازك بطحاء السواجير يا سعد
فقل لبني
الضحاك مهلاً فإنني ... أنا الأفعوان الصل والضيغم الورد
وله أيضاً:
إن جرى بيننا وبينك عتب ... أو تناءت منا ومنك الديار
فالغليل الذي علمت مقيم ... والدموع التي عهدت غزار
وقال أيضاً:
أقول له عند توديعنا ... وكل بعبرته مبلس
لئن قعدت عنك أجسامنا ... لقد سافرت معك الأنفس
وله أيضاً:
ترون بلوغ المجد أن ثيابكم ... يلوح عليها حسنها وبصيصها
وليس العلى دراعة ورداؤها ... ولا جبة موشية وقميصها
وله أيضاً:
تنكر العيش حتى صار أكدره ... يأتي نظاماً ويأتي صفوه لمعا
فقد الشقيق غرام ما يرام وفي ... فقد التجمل وهن يعقب الظلعا
كلاهما عبء مكروه إذا افترقا ... فكيف يقلهما الواهي إذا اجتمعا
ليس المصيبة في الثاوي مضى قدراً ... بل المصيبة في الباقي هوى جزعا
إن البكاء على الماضين مكرمة ... لو كان ماض إذا بكيته رجعا
صعوبة الرزء تلفي في توقعه ... مستقبلا وانقضاء الرزء أن يقعا
هم ونحن سواء غير أنهم ... أضحوا لنا سلفاً نمشي لهم تبعا
وله:
عجب الناس لاغترابي وفي الأط ... راف تغشى منازل الأشراف
وجلوسي عن التصرف والأر ... ض لمثلي رحيبة الأطراف
ليس لي ثروة بلغت مداها ... غير أني امرؤ كفاني كفافي
قد رأى الأصيد المنكب عني ... صيدي عن فنائه وانصرافي
وغبي الأقوام من بات يرجو ... فضل من لا يجود بالأنصاف
أن تنل قدرة فقد نلت صوناً ... والتغاني بين الرجال تكافي
وله:
مضى أهلك الأخيار إلا أقلهم ... وبادوا كما بادت أوائل جرهم
وله:
قبور بأطراف الثغور كأنما ... مواقعها منها مواقع أنجم
ولما رأوا أن الحياة مذلة ... عليهم وعز الموت غير مجرم
أبوا أن يذوقوا العيش والذم واقع ... عليه وماتوا ميتة لم تذمم
مساع عظام ليس يبلى جديدها ... وإن بليت منها رمائم أعظم
سلام على تلك الخلائق أنها ... مسلمة من كل عار ومأثم
ولا عجب للأسد إذ ظفرت بها ... كلاب الأعادي من فصيح وأعجم
فحربة وحشي سقت حمزة الردى ... وحتف علي في حسام ابن ملجم
توفي البحتري في هذه السنة، زقيل في سنة ثلاث وثمانين، وقد بلغ
الثمانين سنة.
هارون بن عيسى بن يحيى أبو محمد الصيرفي روى عن أبي عبد الرحمن المقري،
وعبد الله بن عبد الحكم.
وكان من عقلاء الناس ثقة في الحديث.
وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة.
ثم دخلت
سنة ست وثمانين ومائتين
فمن الحوادث فيها: ورود الخبر في ربيع الآخر أن المعتضد وصل إلى آمد،
فأناخ بجنده عليها، وحاصرها، ونصب المجانيق عليها واقتتلوا، فبعث
رئيسها يطلب الأمان فأمنه، فخرج إليه فخلع عليه، ووصل رسول من هارون بن
خمارويه إلى المعتضد وهو بآمد يخبره أنه قد بذل أنه إن سلمت إليه أعمال
قنسرين والعواصم حمل إلى بيت المال في كل سنة أربعمائة ألف دينار
وخمسين ألف دينار وأنه يسأل أن يجدد له ولاية مصر والشام، فأجيب إلى
ذلك، فأقام المعتضد بآمد بقية جمادى الأولى وعشرين يوماً من جمادى
الآخرة، ثم ارتحل عنها، وأمر بهدم سورها، فهدم بعضه ولم يقدر على هدم
الباقي.
فقال ابن المعتز يهنئه بفتح آمد:
اسلم أمير المؤمنين ودم ... في غبطة وليهنك النصر
فلرب حادثة نهضت لها ... متقدماً فتأخر الدهر
ليث فرائسه الليوث فما ... يبيض من دمها له ظفر
وحكى أبو بكر الصولي: أنه كان مع المعتضد أعرابي فصيح يقال له شعلة بن
شهاب اليشكري، وكان يأنس به، فأرسله إلى محمد بن عيسى بن شيخ ليرغبه في
الطاعة ويحذره العصيان، قال:
فصرت إليه
فخاطبته فلم يجبني، فوجهت إلى عمته فصرت إليها، فقالت: يا أبا شهاب كيف
خلفت أمير المؤمنين؟ فقلت: خلفته أماراً بالمعروف فعالاً للخير.
فقالت: أهل ذلك ومستحقه، وكيف لا يكون كذلك وهو ظل الله تعالى الممدود
على بلاده، وخليفته المؤتمن على عباده، فكيف رأيت صاحبنا؟ قلت: رأيت
غلاماً حدثاً معجباً قد استحوذ عليه السفهاء واستبد بآرائهم يزخرفون له
الكذب، فقالت: هل لك أن ترجع إليه بكتابي قبل لقاء أمير المؤمنين؟ قلت:
أفعل.
فكتبت إليه كتاباً لطيفاً أجزلت فيه الموعظة، وكتبت في آخره:
أقبل نصيحة أم قبلها وجل ... خوفاً عليك وإشفاقاً وقل سدداً
واستعمل الفكر في قولي فإنك إن ... فكرت ألفيت في قولي لك الرشدا
ولا تثق برجال في قلوبهم ... ضغائن تبعث الشنآن والحسدا
مثل النعاج خمولاً في بيوتهم ... حتى إذا أمنوا ألفيتهم أسدا
وداو داءك والأدواء ممكنة ... وإذ طبيبك قد ألقى عليك يدا
واعط الخليفة ما يرضيه منك ولا ... تمنعه مالاً ولا أهلاً ولا ولدا
واردد أخا يشكر رداً يكون له ... رداً من السوء لا تشمت به أحدا
قال: فأخذت الكتاب وصرت إليه، فلما نظر فيه رمى به إلي، ثم قال: يا أخا
بني يشكر، ما بآراء النساء تتم الدول، ولا بعقولهن يساس الملك، ارجع
إلى صاحبك.
فرجعت إلى المعتضد فأخبرته الخبر، فأخذ الكتاب فقرأه فأعجبه شعرها
وعقلها، ثم قال: إني لأرجو أن أشفعها في كثير من القوم.
فلما كان من فتح آمد ما كان أرسل إلي المعتضد فقال: هل عنك علم من تلك
كالمرأة؟ قلت: لا! قال: فامض مع هذا الخادم فإنك ستجدها في جملة
نسائها، فمضيت فلما بصرت بي من بعد أسفرت عن وجهها، وجعلت تقول:
أريب الزمان وصرفه ... وعناده كشف القناعا
وأذل بعد العز منا ... الصعب والبطل الشجاعا
ولكم نصحت وما أطعت ... وكم حرصت بأن أطاعا
فأبى بنا المقدور إلا ... أن نقسم أو نباعا
يا ليت شعري هل نرى ... من بعد فرقتنا اجتماعا
ثم بكت حتى علا صوتها، وضربت بيدها على الأخرى، وقالت: إنا لله وإنا
إليه راجعون، كأني والله كنت أرى ما أنا فيه، فقلت لها: إن أمير
المؤمنين وجه بي إليك وما ذاك إلا لجميل رأيه فيك، فقالت: فهل لك أن
توصل لي رقعة إليه؟ قلت: نعم، فدفعت إلي رقعة فيها مكتوب:
قل للخليفة والإمام المرتضى ... وابن الخلائف من قريش الأبطح
علم الهدى ومناره وسراجه ... مفتاح كل عظيمة لم تفتح
بك أصلح الله البلاد وأهلها ... بعد الفساد وطال ما لم تصلح
فتزحزحت بك هضبة العرب التي ... لولاك بعد الله لم تتزحزح
أعطاك ربك ما تحب فأعطه ... ما قد يحب وجد بعفوك واصفح
يا بهجة الدنيا وبدر ملوكها ... هب ظالمي ومفسدي لمصلح
قال: فصرت بها إلى المعتضد، فلما قرأها ضحك، وقال: لقد نصحت لو قبل
منها، وأمر أن يحمل إليها خمسون ألف درهم، وخمسون تختاً من الثياب،
وأمر أن يحمل مثل ذلك إلى ابن عيسى.
ووردت الأخبار يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة هدية عمرو بن
الليث من نيسابور، وكان مبلغ المال الذي وجه به أربعة آلاف درهم،
وعشرين من الدواب، بسروج ولجم محلاة، ومائة وخمسين دابة بجلال مشهورة،
وكسوة حسنة، وطيباً وبزاة وطرف.
وفي هذه السنة: عبر إسماعيل بن أحمد نهر بلخ، يريد عمرو بن الليث
الصفار، فظفر به، وذلك أن أهل بلخ ملوه وضجروا منه ومن نزول أصحابه في
منازلهم، ومد يده إلى أموالهم، وكان أصحاب عمرو قد خرجوا يوماً من بلخ
فحمل عليهم أصحاب إسماعيل فانهزموا فانهزم عمرو، فأخذ وجيء به إلى
إسماعيل، فقام إليه، وقبل بين عينيه، وقال: عزيز علي يا أخي ما نالك؛
وغسل وجهه وخلع عليه وحلف له أنه لا يؤذيه ولا يسلمه، فجاءه كتاب
المعتضد بأن يسلم عمرو بن الليث، فسلمه.
وكان عمرو يقول:
لو أردت
أن أعمل جسراً من ذهب على نهر بلخ لفعلت، وكان يحمل فرشه، ومطبخه على
ستمائة جمل، فآل به الأمر إلى القيد والذل.
وفي هذه السنة ظهر رجل من القرامطة يكنى أبا سعيد، فاجتمع إليه جماعة
منهم ومن الأعراب، وكثر أصحابه وذلك في جمادى الآخرة، وقوي أمره، فقتل
من حوله من أهل القرى، ثم صار إلى موضع يقال له: القطيف، بينه وبين
البصرة مراحل، وقيل: إنه يريد البصرة، فكتب أحمد بن محمد الواثقي، وكان
يتقلد معادن البصرة وكور دجلة إلى السلطان بما قد عزم عليه القرامطة،
فكتب إليه في عمل سور على البصرة فقدرت النفقة عليه أربعة عشر ألف
دينار، فبني، وغلب أبو سعيد على هجر وأمن أهلها.
ومن الحوادث فيها: ما أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا
أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، قال: حدثنا
محمد بن نعيم الضبي، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد بن موسى
القاضي، يقول: حضرت مجلس موسى بن إسحاق القاضي بالري سنة ست وثمانين
ومائتين، فتقدمت امرأة فادعى وليها على زوجها خمسمائة دينار مهراً،
فأنكر، فقال القاضي: شهودك، قال: قد أحضرتهم، فاستدعى بعض الشهود أن
ينظر إلى المرأة ليشير إليها في شهادته، فقام الشاهد وقال للمرأة:
قومي! فقال الزوج: تفعلون ماذا؟ قال الوكيل: ينظرون إلى امرأتك وهي
مسفرة لتصح عندهم معرفتها، فقال الزوج: فإني أشهد القاضي أن لها علي
هذا المهر الذي تدعيه ولا يسفر عن وجهها، فأخبرت المرأة بما كان من
زوجها، فقالت: فإني أشهد القاضي أني قد وهبت له هذا المهر، وأبرأته منه
في الدنيا والآخرة! فقال القاضي: يكتب هذا في مكارم الأخلاق.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إسماعيل بن الفضل بن موسى بن مسمار بن هانئ أبو بكر البلخي سكن بغداد،
وحدث بها عن أبي كريب وغيره، روى عنه أبو عمرو بن السماك، وأبو بكر
الشافعي، وابن مخلد وغيرهم. وكان ثقة.
توفي في رجب هذه السنة.
إسماعيل بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران أبو بكر السراج النيسابوري مولى
ثقيف: سمع إسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وكان له به اختصاص، وكان
ثقة.
توفي في هذه السنة.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب قال:
أخبرني محمد بن علي المقرئ، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، قال:
سمعت أبا الوليد: حسان بن محمد الفقيه، يقول: سمعت أبا العباس محمد بن
إسحاق السراج، يقول: واأسفا على بغداد! فقيل له: ما الذي حملك على
الخروج منها؟ قال: أقام بها أخي إسماعيل خمسين سنة فلما توفي ورفعت
جنازته سمعت رجلاً على باب الدرب، يقول لآخر: من هذا الميت؟ قال: غريب
كان ها هنا! فحملتني هذه الكلمة على الانصراف إلى الوطن.
إسحاق بن محمد بن أحمد بن أبان، أبو يعقوب النخعي وهو إسحاق الأحمر حدث
عن عبيد الله بن محمد بن عائشة، وإبراهيم بن بشار الرمادي، وأبي عثمان
المازني وغيرهم. والغالب على رواياته الأخبار والحكايات. روى عنه محمد
بن خلف وكيع.
أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد
بن علي بن ثابت الخطيب قال: سمعت أبا القاسم عبد الواحد بن علي بن
برهان الأسدي، يقول: إسحاق بن محمد بن أبان النخعي الأحمر كان خبيث
المذهب، رديء الإعتقاد، يقول: إن علياً هو الله عز وجل قال: وكان أبرص
فكان يطلي البرص بما يغير لونه فسمي الأحمر لذلك. قال: وبالمدائن جماعة
من الغلاة يعرفون بالإسحاقية ينتسبون إليه.
قال الخطيب: سألت بعض الشيعة ممن يعرف مذاهبهم ويخبر أحوال شيوخهم عن
إسحاق، فقال لي مثل مقالة عبد الواحد بن علي سواء، وقال: لإسحاق مصنفات
في المقالة المنسوبة إليه التي يعتقدها الإسحاقية.
قال الخطيب: ثم وقع إلي كتاب لأبي محمد الحسن بن يحيى النوبختي من
تصنيفه في الرد على الغلاة وكان النوبختي هذا من متكلمي الشيعة
الإمامية، فذكر أصناف مقالات الغلاة إلى أن قال: وقد كان ممن جرد الجور
في الغلو في عصرنا إسحاق بن محمد المعروف بالأحمر، وكان ممن يزعم أن
علياً هو الله عز وجل، وأنه يظهر في وقت هو الحسن، وفي وقت هو الحسين.
وهو الذي بعث بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال في كتاب له:
لو كانوا
ألفاً لكانوا واحداً. وعمل كتاباً ذكر أنه كتاب التوحيد، فجاء فيه
بجنون وتخليط لا يتوهمان، فضلاً عن أن يدل عليهما.
وكان يقول: باطن صلاة الظهر محمد صلى الله عليه وسلم لإظهاره الدعوة،
قال: ولو كان باطنها هو هذه التي هي الركوع والسجود لم يكن لقوله: " إن
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " معنى؛ لأن النهي لا يكون إلا من حي
قادر. وقد أورد النوبختي عن إسحاق أشياء كان يحتج بها على مقالته أقلها
يوجب الخروج عن الملة، نعوذ بالله من الخذلان.
الحسين بن بشار بن موسى أبو علي الخياط سمع أبا بلال الأشعري، وروى عنه
أبو بكر الشافعي، وكان ثقة صدوقاً أخبرنا أبو منصور القزاز، قال:
أخبرنا أبو بكر: أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي
جعفر الأخرم، قال: حدثنا عيسى بن محمد الطوماري، قال: سمعت أبا عمر:
محمد بن يوسف القاضي، يقول: اعتل أبي علة شهوراً، فأتيته ذات يوم فدعا
بي وبأخوي: أبي بكر، وأبي عبد الله، فقال لنا: رأيت في النوم كأن
قائلاً يقول: كل لا، واشرب لا، فإنك تبرأ، فقال لي أخي أبو بكر: إن لا
كلمة وليست بجسم وما ندري ما معنى ذلك؛ وكان بباب الشام رجل يعرف بأبي
علي الخياط، حسن المعرفة بعبارة الرؤيا، فجئنا به، فقص عليه المنام
فقال: ما أعرف تفسير ذلك، ولكني أقرأ في كل ليلة نصف القرآن، فأخلوني
الليلة حتى أقرأ رسمي من القرآن وأفكر في ذلك.
فلما كان من الغد جاءنا، فقال: مررت البارحة وأنا أقرأ على هذه الآية:
" من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية " فنظرت إلى لا وهي تتردد
فيها وهي شجرة الزيتون اسقوه زيتاً وأطعموه زيتاً، قال: ففعلنا ذلك،
فكان سبب عافيته.
زكريا بن داود بن بكر أبو يحيى الخفاف النيسابوري قدم بغداد، وحدث بها،
فروى عنه ابن مخلد، وأبو سهل بن زياد. وكان ثقة.
وتوفي بنيسابور في جمادى الآخرة من هذه السنة.
زياد بن الخليل أبو سهل التستري قدم بغداد، وحدث بها عن إبراهيم بن
المنذر الحزامي، ومسدد، وإبراهيم بن بشار الرمادي. روى عنه أبو بكر
الشافعي.
ثم صار إلى البصرة، وتوفي بعسفان في طريق المدينة قبل أن يدخل مكة، في
ذي القعدة من هذه السنة.
محمد بن الحسين بن إبراهيم بن زياد بن عجلان أبو الشيخ الأصبهاني سكن
بغداد، وحدث بها عن أبي بكر الأترم، والحسن بن محمد الزعفراني. روى عنه
أبو بكر الشافعي، وكان ثقة.
وتوفي ببغداد في هذه السنة.
محمد بن يونس بن موسى بن سليمان بن عبيد بن ربيعة بن كديم أبو بكر
العباس القرشي البصري المعروف بالكديمي ولد في سنة ثلاث وثمانين ومائة،
وهو ابن امرأة روح بن عبادة، سمع عبد الله بن داود الخريبي، ومحمد بن
عبد الله الأنصاري، وأزهر السمان، وأبا داود الطيالسي، وأبا زيد
النحوي، والأصمعي، وأبا عبيدة، وعفان بن مسلم، وأبا نعيم وخلقاً
كثيراً، ورحل في طلب العلم، وحج أربعين حجة وسكن بغداد، وكان حافظاً
للحديث كثير الحديث. روى عنه ابن أبي الدنيا، وابن الأنباري، وابن
السماك، وأحمد بن سليمان وابن النجاد، وآخر من روى عنه أبو بكر بن مالك
القطيعي.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: لم
يزل الكديمي معروفاً عند أهل العلم بالحفظ، مشهوراً بالطلب، مقدماً في
الحديث حتى أكثر روايات الغرائب والمناكير، فتوقف إذ ذاك بعض الناس
عنه، ولم ينشطوا للسماع منه.
فأنبأني أبو بكر أحمد بن علي اليزيدي، قال: أخبرنا أبو أحمد محمد بن
محمد الحافظ، قال: محمد بن يونس ذاهب الحديث، تركه يحيى بن صاعد، وأحمد
بن محمد بن سعيد، وكان أبو داود يطلق عليه الكذب، وكان موسى بن هارون
يقول: الكديمي كذاب يضع الحديث.
وقال سليمان الشاذكوني: الكديمي وأخوه وابنه بيت الكذب. وأراد
بالكديمي: يونس، وبأخيه: موسى، وكان يلقب بالحادي.
قال الدارقطني: كان الكديمي يتهم بوضع الحديث.
قال المصنف: ليس محل الكديمي عندنا الكذب، وإنما كان كثير الغرائب،
ولقد حدث عن شاصونة بن عبيد، قال: حدثنا شاصونة منصرفاً من عدن؛ فلم
يعرفوا شاصونة، فقالوا: هذا حديث عمن لم يخلق؛ فجاء قوم بعد وفاته من
عدن، فقالوا:
دخلنا
قرية يقال لها الجردة، فلقينا بها شيخاً فسألناه: أعندك شيء من الحديث؟
فقال: نعم، فكتبنا عنه، وقلنا له: ما اسمك؟ فقال: محمد بن شاصونة بن
عبيد، وأملى علينا الحديث الذي ذكره الكديمي.
وقد روي لنا حديث شاصونة من غير طريق الكديمي: أخبرنا عبد الرحمن بن
محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أخبرني القاضي أبو العلاء
الواسطي، قال: أخبرنا محمد بن حمدويه، قال: سمعت أبا بكر بن إسحاق
الضبعي يقول: ما سمعت أحداً من أهل العلم يتهم الكديمي في لقيه كل من
روى عنه.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
حدثني الخلال، قال: حدثنا علي بن محمد الإيادي، قال: حدثنا أبو بكر
الشافعي، قال: سمعت جعفر الطيالسي، يقول: الكديمي ثقة، ولكن أهل البصرة
يحدثون بكل ما يسمعون.
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا ابن رزق، قال: أخبرنا إسماعيل بن علي الخطبي، قال: مات الكديمي
يوم الخميس، ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة، للنصف من جمادى الآخرة سنة ست
وثمانين ومائتين، وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي، وكان ثقة.
محمد بن يوسف أبو عبد الله البناء لقي ستمائة شيخ، وكتب الحديث الكثير،
وكان يبني للناس بالأجرة فيأخذ منها دانقين لنفقته، ويتصدق بالباقي،
ويختم كل يوم ختمة.
وتوفي رحمه الله في هذه السنة.
يعقوب بن إسحاق بن تحية أبو يوسف الواسطي سمع يزيد بن هارون، ونزل
بغداد بالجانب الشرقي في سوق الثلاثاء، وحدث بأربعة أحاديث، ووعدهم أن
يحدثهم من الغد، فمات وله مائة واثنتا عشرة سنة، رحمه الله.
ثم دخلت
سنة سبع وثمانين ومائتين
فمن الحوادث فيها: أن المعتضد دخل من متنزهه ببراز الروز إلى بغداد
وأمر ببناء قصر في موضع اختاره من براز الروز، فحملت إليه الآلات،
وابتدئ بعمله.
وفي شهر ربيع الأول غلظ أمر القرامطة بالبحرين، وأغاروا على نواحي هجر،
وقرب بعضهم من نواحي البصرة فوجه أمير المؤمنين المعتضد إليهم جيشاً.
وفي شهر ربيع الآخر ولى المعتضد عباس بن عمرو الغنوي اليمامة والبحرين،
ومحاربة أبي سعيد القرمطي، وضم إليه زهاء ألفي رجل، فسار نحو القرامطة
فاقتتلوا، فأسر العباس، وقتل أصحابه، فانزعج أهل البصرة وهموا بالجلاء
عنها ثم أطلق العباس.
ومن العجائب أنه كان مع العباس عشرة آلاف في محاربة أبي سعيد القرمطي
فقبض عليهم أبو سعيد فنجا العباس وحده وقتل الباقون، وأن عمرو بن الليث
مضى في خمسين ألفاً إلى محاربة إسماعيل بن أحمد، فأخذ هو ونجا الباقون.
ولإحدى عشرة ليلة خلت من رجب، ولي حامد بن العباس الخراج والضياع
بفارس، وكانت في يد عمرو بن الليث، ودفعت كتبه بالولاية إلى أخيه أحمد
بن العباس، وكان حامد مقيماً بواسط لأنه كان يليها.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن عباد بن داود.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط أبو جعفر الأشجعي كوفي قدم
مصر، وحدث بها عن أبيه عن جده.
وتوفي بالجيزة من مصر هذه السنة.
إسماعيل بن نميل بن زكريا أبو علي الخلال سمع أبا الوليد الطيالسي في
آخرين، وروى عنه ابن مخلد، والطبراني، وغيرهما وكان صدوقاً.
إسحاق بن مروان أبو يعقوب الدهان حدث عن عبد الأعلى بن حماد، روى عنه
الطبراني وتوفي في رجب هذه السنة.
جعفر بن محمد بن عرفة أبو الفضل المعدل حدث عنه عبد الصمد الطستي
وغيره، وكان ثقة مقبولاًعند الحكام.
توفي في منصرفه من الحج بالعمق لسبع بقين من ذي الحجة من هذه السنة،
وجيء به إلى بغداد فدفن بها.
الحسين بن السميدع بن إبراهيم أبو بكر البجلي من أهل أنطاكية، قدم
بغداد، وحدث بها عن محمد بن المبارك الصوري، وإسماعيل بن محمد الصفار.
وكان ثقة توفي في هذه السنة.
قطر الندى بنت خمارويه تزوجها المعتضد بالله، وتوفيت لسبع خلون من رجب
هذه السنة، ودفنت داخل قصر الرصافة.
موسى بن الحسن بن عباد بن أبي عباد أبو السري الأنصاري المعروف
بالجلاجلي نسائي الأصل، سمع روح بن عبادة، وعفان بن مسلم، وأبا نعيم،
والقعنبي.
وكان قد
قدمه القعنبي في صلاة التراويح فأعجبه صوته، فقال: كأن صوتك الجلاجل
فلقب بذلك.
وكان ثقة روى عنه أبو بكر الآدمي القارئ، وابن مخلد، والنجاد.
وتوفي في صفر هذه السنة.
يحيى بن أبي نصر أبو سعيد الهروي سمع ابن راهويه، وأحمد بن حنبل، وابن
المديني. روى عنه أبو عمرو بن السماك، وكان ثقة حافظاً زاهداً صالحاً.
توفي في شعبان هذه السنة.
يعقوب بن يوسف بن أيوب أبو بكر المطوعي سمع أحمد بن حنبل، وعلي بن
المديني. وروى عنه النجاد، والخلدي.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن الخطيب،
قال: حدثنا عبد العزيز بن علي الوراق، قال: سمعت علي بن عبد الله بن
الحسن الهمذاني، يقول: سمعت جعفراً الخلدي، يقول: سمعت أبا بكر
المطوعي، يقول: كان وردي في شيبتي أقرأ في كل يوم وليلة: " قل هو الله
أحد " إحدى وثلاثين ألف مرة - أو إحدى وأربعين ألف مرة شك جعفر.
توفي المطوعي في رجب هذه السنة، ودفن بباب البردان.
يوسف بن يزيد بن كامل بن حكيم أبو يزيد القراطيسي روى عن أسد بن موسى،
ورأى الشافعي، وكان ثقة صدوقاً، وبلغ مائة سنة إلا أربعة أشهر. وتوفي
في ربيع الأول من هذه السنة رحمه الله وإيانا وجميع المسلمين بمنه
وكرمه.
ثم دخلت
سنة ثمان وثمانين ومائتين
فمن الحوادث فيها: ورود الخبر بوقوع الوباء بآذربيجان، فمات به خلق
كثير إلى أن فقد الناس ما يكفنون به الموتى، وكفنوا في الأكيسة والجلود
واللبود ثم صاروا إلى أن لم يجدوا من يدفن الموتى، فكانوا يتركونهم في
الطريق على حالهم.
وفيها: غزا نزار بن محمد عامل الحسن بن علي على كورة الصائفة، ففتح
حصوناً كثيرة للروم، وأدخل طرسوس مائة علج ونيفاً وستين علجاً من
الشمامسة وصلباناً كثيرة وأعلاماً.
ولا ثنتي عشرة خلت من ذي الحجة وردت كتب التجار من الرقة أن الروم قد
وافوا في مراكب كثيرة، وجاء منهم قوم على الظهر إلى ناحية كيسوم،
فاستاقوا من المسلمين أكثر من خمسة عشر ألف إنسان، ما بين رجل وصبي،
فمضوا بهم وأخذوا فيهم قوماً من أهل الذمة.
وفي هذه السنة: كسفت الشمس، فظهرت الظلمة ساعات، ثم هبت وقت العصر ريح
بناحية دبيل سوداء إلى ثلث الليل ثم زلزلوا، وخسف بهم فلم ينج إلا
اليسير.
وورد الخبر بأنه قد مات تحت الهدم في يوم واحد أكثر من ثلاثين ألف
إنسان. ودام هذا عليهم أياماً، فبلغ من هلك خمسون ومائة ألف إنسان.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
إبراهيم بن حبيب أبو إسحاق الأنصاري الزاهد مغربي الأصل توفي بمصر في
ذي الحجة من هذه السنة.
أنيس بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبان أبو عمر المقرئ سمع أبا نصر
التمار، وغيره. روى عنه المحاملي، وابن السماك، وأبو بكر الشافعي. وكان
ثقة.
وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة وقيل بل في سنة سبع.
بشر بن موسى بن صالح أبو علي الأسدي ولد سنة تسعين ومائة وسمع من روح
بن عبادة حديثاً واحداً، ومن حفص بنعمر العدني حديثاً واحداً وسمع
الكثير من هوذة بن خليفة، والحسن بن موسى الأشيب، وأبي نعيم، وعلي بن
الجعد، والأصمعي، وغيرهم. روى عنه ابن صاعد، وابن مخلد، وابن المنادي،
والنجاد، وأبو عمر الزاهد، وجعفر بالخلدي، والخطبي، والشافعي، وابن
الصواف، وغيرهم.
وكان آباؤه من أهل البيوتات والفضل والرياسة والنبل، وكان هو في نفسه
ثقة أميناً عاقلاً ركيناً. وكان أحمد بن حنبل يكرمه.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر: أحمد بن علي بن ثابت،
قال: أخبرنا الخلال، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران، قال: أنشدني
أحمد بن خلف، قال: أنشدني بشر بن موسى لنفسه:
ضعفت ومن جاز الثمانين يضعف ... وينكر منه كل ما كان يعرف
ويمشي رويداً كالأسير مقيداً ... تداني خطاه في الحديد ويرسف
توفي بشر في ربيع الأول من هذه السنة، وصلى عليه محمد بن هارون بن
العباس الهاشمي صاحب الصلاة، ودفن في مقربة باب التبن وكان الجمع
كثيراً.
ثابت بن قرة أبو الحسن الصابئ الطيب ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين.
توفي هذه
السنة، وكان غاية في علم الطب والفلسفة والهندسة.
جعفر بن محمد بن سوار أبو محمد النيسابوري حدث عن قتيبة، وعلي بن حجر،
وكان ثقة.
وتوفي في ذي القعدة من هذه السنة.
الحسن بن عمرو بن الجهم أبو الحسين الشيعي حدث عن علي بن المديني،
وحكايات عن بشر الحافي. روى عنه أبو عمرو بن السماك، وقال: السبيعي،
وإنما هو الشيعي من شيعة المنصور.
توفي في هذه السنة.
عبد الله بن محمد بن عزيز أبو محمد التميمي الموصلي حدث عن غسان بن
الربيع. روى عنه إسماعيل الخطبي، وقال: توفي في رجب هذه السنة.
العباس بن حمزة بن عبد الله بن أشرس أبو الفضل الواعظ النيسابوري سمع
قتيبة بن سعيد، وأحمد بن حنبل، وعبيد الله بن عمر القواريري، وغيرهم.
وصحب أحمد بن أبي الحواري.
ودخل على ذي النون وكان شديد الاجتهاد يصوم النهار ويقوم الليل، وكان
يقول: لقد لحقتني بركة ذي النون، وكان مجاب الدعوة، وسئل عن الزهد
فقال: ترك ما يشغلك عن الله تعالى أخذه وأخذ ما يبعدك عن الله تركه.
توفي العباس في ربيع الأول من هذه السنة.
محمد بن أحمد بن روح بن حرب أبو عبد الله الكسائي حدث عن محمد بن عباد
المكي وغيره.
وتوفي ربيع الأول من هذه السنة.
محمد بن بشر بن مروان أبو عبد الله الصيرفي حدث عن محمد بن حسان
السمتي، وغيره. روى عنه ابن صاعد، وابن قانع، وغيرهما أحاديث مستقيمة.
هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى أبو موسى الهاشمي أمام
الناس في الحج سمع وحدث.
وتوفي بمصر في رمضان هذه السنة، وكان ثقة عدلاً رحمه الله.
ثم دخلت
سنة تسع وثمانين ومائتين
فمن الحوادث فيها: انتشار القرامطة بسواد الكوفة، فوقع بعض العمال
بجماعة منهم وبعث رئيساً لهم إلى المعتضد، فأمر به فقلعت أضراسه،ثم
خلعت عظام يده، ثم قطعت يداه ورجلاه، وقتل، وصلب.
ولليلتين خلتا من شهر ربيع الأول أخرج من كانت له دار وحانوت بباب
الشماسية عن داره وحانوته، وقيل لهم: خذوا أنقاضكم واخرجوا؛ وذلك أن
المعتضد كان قد قدر أن يبني لنفسه هنالك داراً يسكنها، فخط موضع السور،
وحفر بعضه وابتدأ في بناء دكة على دجلة، وكان أمير المؤمنين المعتضد قد
أمر ببنائها لينتقل فيقيم فيها إلى أن يفرغ من بناء الدار والقصر، فمرض
المعتضد بالله فأرجف به، فقال عبد الله بن المعتز:
طار قلبي بجناح الوجيب ... جزعاً من حادثات الخطوب
وحذراً من أن يشاك بسوء ... أسد الملك وسيف الحروب
لم يزل أشيب وهو ابن عشر ... بغبار الحروب قبل المشيب
ثم راضته التجارب حتى ... ما عجيب عنده بعجيب
جال شيطان الأراجيف فينا ... بحديث مؤلم للقلوب
وكأن الناس أغنام راع ... غاب عنها فأحسست بذيب
ثم هبت نعمة الله بشرى ... كشفت عنا غطاء الكروب
وقعت منا مواقع ماء ... في حريق مشعل ذي لهيب
رب أصحبة سلامة جسم ... وأحبه منك بعمر رحيب
وفي شهر ربيع الآخر: توفي أمير المؤمنين المعتضد بالله رحمه الله،
واستخلف ابنه المكتفي بالله.
وكثرت في هذه السنة الزلازل، فكان في رجب زلزلة شديدة، وانقضت الكواكب
لثمان خلون من رمضان من جميع السماء في وقت السحر، فلم تزل على ذلك إلى
أن طلعت الشمس.
آخر هذا الجزء المبارك والله أعلم. ووافق الفراغ منه في صفر المبارك
عام خمسة وثمانمائة وقت أذان الظهر، ووافق وقت فراغه الدعاء لمالكه
بالتأييد والنصر والسلامة في الأهل والمال والولد والعفو والعافية في
الدين والآخرة ولمن كتبه أو نظر فيه ولجميع المسلمين.
يتلوه في الجزء الذي بعده: باب ذكر الخلافة المكتفي بالله، والحمد لله
رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
أجمعين. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
باب ذكر خلافة المكتفي بالله
واسمه علي بن المعتضد، ويكنى أبا محمد، وليس في الخلفاء من يكنى أبا
محمد إلا الحسن بن علي وموسى الهادي، والمكتفي، والمستضيء بأمر الله،
ولا من اسمه علي غير بن أبي طالب رضي الله عنه والمكتفي.
ولد في
رجب سنة أربع وستين، وكان المعتضد لما اشتدت علته أمر بأخذ البيعة
لابنه علي بالخلافة من بعده، فأخذت البيعة بذلك على الناس ببغداد. في
عشية يوم الجمعة لإحدى عشرة بقيت من ربيع الآخر من هذه السنة قبل موت
المعتضد بأربعة أيام، ثم جددت له البيعة صبيحة الليلة التي مات المعتضد
فيها، وكان المكتفي بالرقة، فلما بلغه الخبر أخذ البيعة على من عنده،
ثم انحدر إلى بغداد.
وأم المكتفي تركية لم تدرك خلافته ويقال لها حيحق. وكان ربعة جميلاً،
رقيق اللون، حسن الشعر، وافر اللحية عريضها، وهنأه رجل فقال:
أجل الرزايا أن يموت إمام ... وأسنى العطايا أن يقوم إمام
فأسقى الذي مات الغمام وجاده ... ودامت تحيات له وسلام
وأبقى الذي قام الاله وزاده ... مواهب لا يفنى لهن دوام
وتمت له الآمال واتصلت بها ... فوائد موصول بهن تمام
هو المكتفي بالله يكفيه كل ما ... عناه بركن منه ليس يرام
وكان المكتفي يقول الشعر، قال الصولي: أنشدنا لنفسه:
إني كلفت فلا تلحوا بجارية ... كأنها الشمس بل زادت على الشمس
لها من الحسن أعلاه فرؤيتها ... سعدي وغيبتها عن مقلتي نحسي
ومن شعره:
من لي بأن يعلم ما ألقى ... فيعرف الصبوة والعشقا
ما زال عبداً وحبي له ... صيرني عبداً له حقا
أعتق من رقي ولكنني ... من حبه لا أملك العتقا
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرني الأزهري، قال حدثنا: أحمد بن إبراهيم، حدثنا إبراهيم بن محمد بن
عرفة قال: كان المكتفي بالله حين مات أبوه المعتضد، بالرقة فكتب إليه
بوفاته، فشخص نحو العراق فوافى مدينة السلام يوم الاثنين لثمان خلون من
جمادى الأولى سنة تسع وثمانين ومائتين، وصار في الماء إلى القصر
الحسني، ومر بالجيش على الظهر على غير تعبئة، وقد كان الجند تحركوا قبل
موافاته مدينة السلام فوضع القاسم بن عبيد الله فيهم العطاء، وأخذ
عليهم البيعة، وكان في بيت المال يومئذ عشرة آلاف ألف دينار وجوهر
قيمته عشرة آلاف ألف دينار، غير الآلات والخيل، وكان سن المكتفي يوم
بويع له خمساً وعشرين سنة وعشرين يوماً ووزر له القاسم بن عبيد الله،
ثم العباس بن الحسن، وكان القاضي يوسف بن يعقوب وابنه محمد بن يوسف.
وكان نقش خاتمه: " علي يتوكل على ربه " .
وكان له من الولد: محمد، وجعفر، وعبد الصمد، وموسى، وعبد الله، وهارون،
والفضل، وعيسى، والعباس، وعبد الملك.
وفي أيامه فتحت إنطاكية، وكان الروم قد استولوا عليها، فلما فتحت
استنقذ من المسلمين أربعة آلاف رجل، وقتل من أهلها خمسة آلاف. وأصاب كل
مسلم من هذه الوقعة ثلاثة آلاف دينار، وظفر للروم بستين مركباً عملوها
للغزو.
أخبرنا القزاز قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: كانت صلاة الجمعة
ببغداد لا تقام إلا في جامع المنصور، وجامع المهدي إلى أن استخلف
المعتضد، وأمر بعمارة القصر الحسني، وأمر ببناء مطامير في الدار، وكان
الناس يصلون الجمعة في الدار، وليس هناك رسم للمسجد إنما يؤذن للناس في
الدخول وقت الصلاة، ويخرجون عند انقضائها، فلما استخلف المكتفي في هذه
السنة نزل القصر، وأمر بهدم المطامير، وأن يجعل موضعها مسجداً جامعاً،
فاستقرت الصلاة في الجوامع الثلاثة إلى وقت خلافة المتقي، وفي يوم دخول
المكتفي إلى القصر الحسني أمر بإحضار القاسم بن عبيد الله، وخلع عليه
ست خلع، وقلده سيفاً، وحمل على فرس لجامه وسرجه من ذهب.
وفي رجب من هذه السنة زلزلت بغداد، ودامت الزلزلة بها أياماً وليالي
كثيرة.
وفي هذه السنة ظهر أقوام من القرامطة، وانتشروا في البلدان وقطعوا طريق
الحاج، وتسمى أحدهم بأمير المؤمنين، وأنفق المكتفي الأموال الكثيرة في
حربهم حتى استأصلهم.
وفي اليوم التاسع من ذي الحجة صلى الناس العصر ببغداد في ثياب الصيف
فهبت ريح وبرد الهواء حتى احتاج الناس إلى الاصطلاء بالنار، ولبس
المحشو، وجعل البرد يزداد حتى جمد الماء.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
أحمد بن
محمد المعتضد بالله أمير المؤمنين كانت علته تغير المزاج والجفاف من
كثرة الجماع، وكان يوصف له أن يقل الغذاء ويرطب معدته ولا يتعب، وكان
يستعمل ضد ما يوصف له، ويريهم أنه يحتمي، فإذا خرجوا دعا بالخبز
والزيتون والسمك، فسقطت قوته، واشتدت علته يوم الجمعة لاحدى عشرة ليلة
بقيت من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين، واجتمع الجند متسلحين.
وتوفي في يوم الاثنين لثمان بقين من ربيع الآخر من هذه السنة، وغسله
أحمد بن شيبة عند زوال الشمس، وصلى عليه يوسف بن يعقوب القاضي، وحضر
الوزير القاسم بن عبيد الله، وأبو حازم، وأبو عمر، وخواص الخدم، وكان
أوصى أن يدفن في دار محمد بن عبيد الله بن ظاهر، فحفر له فيها، وحمل من
قصره المعروف بالحسني ليلاً، فدفن.
وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام، وبلغ من السن خمساً
وأربعين سنة وعشرة أشهر وأياماً.
أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي أبو بكر بن ثابت،
أخبرنا أحمد بن عمر بن روح النهرواني أخبرنا المعافى بن زكريا، حدثنا
أحمد بن جعفر بن موسى البرمكي، قال: حدثنا صالح الحربي، قال: لما مات
المعتضد كفن والله في ثوبين قوهى قيمتهما ستة عشر قيراطاً.
بدر غلام المعتضد قيل: وكان سبب قتله أنه لما مات المعتضد هم القاسم بن
عبيد الوزير أن يجعل الخلافة في غير ولد المعتضد، فامتنع من ذلك بدر،
وكان صاحب جيش المعتضد والمستولي على الأمر، قال: ما كنت لأصرفها عن
أولاد مولاي فاضطغنها القاسم عليه، وعقد للمكتفي لما كان بين المكتفي
وبين بدر من التباعد في حياة أبيه، فقدم المكتفي من الرقة، وبدر بفارس
يحارب، فعمل القاسم في هلاك بدر خوفاً على نفسه من بدر أن يطلع المكتفي
على ما كان عزم عليه، فأرسل المكتفي إلى بدر يعرض عليه الولايات، فأبى،
وقال: لا بد لي من المصير إلى مولاي، فقال القاسم للمكتفي: إني لا آمنه
عليك، فإنه قد أظهر العصيان. فغيره عليه فبعث المكتفي إلى جماعة من
القواد الذين مع بدر، فأمرهم بفراقه، ففارقوه وقدموه على المكتفي، وقصد
بدر واسطاً، فوكل المكتفي بداره، وأمر بمحو اسمه من الأعلام والتراس،
ودعا القاسم أبا حازم القاضي وأمره بالمضي إلى بدر ولقائه وتطييب نفسه
ومخاطبته بالأمان من أمير المؤمنين على نفسه وماله وولده.
فقال أبو حازم: أحتاج إلى سماع ذلك من أمير المؤمنين حتى أؤديه إليه.
فقال: إني لسان أمير المؤمنين، وما أظنك تتهمني في الحكاية عنه. قال:
فأقول لبدر إن الوزير: قال كذا ؟ قال: لا قال فأكذب ؟ وكان قد دفع إليه
كتاب أمان من المكتفي ثم قال له: انصرف حتى أستأذن لك. ثم دعا أبا عمر
- محمد بن يوسف فأمره بمثل الذي أمر به أبا حازم، فسارع إلى إجابته،
واستقر الأمر أن يدخل بدر بغداد سامعاً مطيعاً، فلما قرب بعث القاسم
بعض خدم السلطان، فأخذه من السفينة ومضى به إلى جزيرة، ودعا بسيف فلما
تيقن القتل سأله: ان يمهله حتى يصلي ركعتين فأمهله فصلى، وأعتق جميع
مماليكه.
وقتل في رمضان هذه السنة، وأخذ رأسه وتركت جثته أياماً حتى وجه عياله،
فأخذوها سراً فحملوها أيام الموسم إلى مكة فدفنوها، وتسلم السلطان
ضياعه ودوره. ورجع أبو عمر القاضي إلى داره حزيناً كئيباً لما كان منه
في ذلك، فقال الشاعر:
قل لقاضي مدينة المنصور ... بم أحللت أخذ رأس الأمير؟
بعد إعطائه المواثيق والعه ... د وعقد الأمان في منشور
جعفر بن موسى أبو الفضل النحوي يعرف بابن الحداد أخبرنا أبو منصور
القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب، قال: أخبرنا محمد بن عبد
الواحد، حدثنا محمد بن العباس، قال: قرئ على ابن المنادي وأنا أسمع،
قال: وأبو الفضل جعفر بن موسى النحوي كتب الناس عنه شيئاً من اللغة
وغريب الحديث، وما كان من كتب أبي عبيد مما سمعه من أحمد بن يوسف
الثعلبي وغير ذلك، من ثقات المسلمين وخيارهم.
توفي يوم الأحد بالعشي ودفن في يوم الاثنين لثلاث خلون من شعبان سنة
تسع وثمانين، ودفن قرب منزله ظهر قنطرة البردان.
الحسن بن علي بن ياسر أبو علي الفقيه روى عنه الطبراني، وكان ثقة، مضى
إلى مصر وكتب عنه بها.
وتوفي في ربيع الآخر من هذه السنة.
الحسن بن العباس بن أبي مهران
أبو علي المقرئ الرازي ويعرف بالجمال سكن بغداد، وحدث بها عن جماعة.
وروى عنه ابن صاعد، وابن مخلد، والنقاش، وكان ثقة.
توفي في رمضان من هذه السنة.
الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن فهم بن محرز بن إبراهيم، أبو علي ولد
سنة إحدى عشرة ومائتين، وسمع من خلف بن هشام، ويحيى بن معين، ومحمد بن
سعد، وغيرهم. روى عنه أحمد بن معروف الخشاب، وابن كامل القاضي،
والخطبي، والطوماري، وكان عسراً في الرواية متمنعاً إلا لمن أكثر
ملازمته، وكان يسكن الجانب الشرقي في ناحية الرصافة.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال: حدثنا
الحسن بن أبي بكر، عن أحمد بن كامل القاضي، قال: كان الحسين بن محمد
متقناً في العلوم، كثير الحفظ للحديث مسنده ومقطوعه ولأصناف الأخبار
والنسب والشعر والمعرفة بالرجال فصيحاً، متوسطاً في الفقه، يميل إلى
مذهب العراقيين، وسمعته يقول: صحبت يحيى بن معين فأخذت عنه معرفة
الرجال وصحبت مصعب بن عبد الله فأخذت عنه معرفة النسب وصحبت أبا خيثمة
فأخذت عنه المسند، وصحبت الحسن بن حماد سجادة فأخذت عنه الفقه.
وتوفي في رجب سنة تسع وثمانين ومائتين وبلغ ثمانياً وسبعين سنة.
قال الخطبي: ودفن بباب البردان، وكان يومئذ ببغداد زلزلة شديدة.
وقال الدارقطني: ليس بالقوي.
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: أخبرنا الأزهري، حدثنا
عبد الرحمن بن عمر الخلال، قال: سمعت محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة
يقول: سمعت أبا بكر بن أبي خيثمة يقول: لما ولد فهم - يعني والد الحسين
بن فهم - أخذ أبوه المصحف فجعل يصفح فجعل كلما صفح ورقة يخرج " فهم لا
يعقلون " " فهم لا يعلمون " ، " فهم لا يبصرون " ، " فهم لا يسمعون "
فضجر فسماه فهماً.
عمارة بن وثيمة بن موسى أبو رفاعة الفارسي ولد بمصر، وحدث عن أبي صالح
كاتب الليث وغيره، وصنف تاريخاً على السنين، وحدث به.
وتوفي في جمادى الآخرة من هذه السنة.
عمرو بن الليث الصفار: من كبار الأمراء، توفي في هذه السنة، ودفن
قريباً من القصر الحسني. |