البحر المحيط في
التفسير عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ
(1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ
مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا
سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)
وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ
لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا
سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ
مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15)
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ
مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ
أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا
(19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ
جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22)
لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا
بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)
جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ
حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ
شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ
نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ
أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ
فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ
عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا
يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ
صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ
اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ
عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ
يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا
(40)
سورة النّبإ
[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 40]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)
الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
(4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ
مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ
أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ
مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12)
وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ
الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً
(16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ
السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19)
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ
كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ
فِيها أَحْقاباً (23) لَا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا
شَراباً (24)
إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26)
إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً
(29)
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32)
وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34)
لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً
مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ
مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ
صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ
وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ
اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39)
إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ
الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يَا
لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
(10/381)
السُّبَاتُ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ:
السُّبَاتُ أَصْلُهُ الْقَطْعُ وَالْمَدُّ، فَالنَّوْمُ قَطْعُ
الْأَشْغَالِ الشَّاقَّةِ، وَمِنَ الْمَدِّ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَإِنْ سَبَّتَتْهُ مَالَ حَبْلًا كَأَنَّهُ ... سَدَى
وَامِلَاتٍ مِنْ نَوَاسِجِ خَثْعَمَا
أَيْ: إِنْ مَدَّتْ شَعْرَهَا مَالَ وَالْتَفَّ كَالْتِفَافِ
السَّدَى بِأَيْدِي نِسَاءٍ نَاسِجَاتٍ. الْوَهَّاجُ:
الْمُتَوَقِّدُ الْمُتَلَأْلِئُ. الْمُعْصِرُ، قَالَ
الْفَرَّاءُ: السَّحَابُ الَّذِي يَجْلِبُ الْمَطَرَ، وَلَمَّا
يَجْتَمِعْ مِثْلَ الْجَارِيَةِ الْمُعْصِرِ، قَدْ كَادَتْ
تَحِيضُ وَلَمَّا تَحِضْ، وَقَالَ نَحْوَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ،
وَقَالَ أَبُو النَّجْمِ الْعِجْلِيُّ:
تَمْشِي الْهُوَيْنَا مَائِلًا خِمَارُهَا ... قَدْ أَعْصَرَتْ
أَوْ قَدْ دَنَا إِعْصَارُهَا
الثَّجُّ، قَالَ ثَعْلَبٌ: أَصْلُهُ شِدَّةُ الِانْصِبَابِ.
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَطَرٌ ثَجَّاجٌ: شَدِيدُ
الِانْصِبَابِ، ثَجَّ الْمَاءَ وَثَجَجْتُهُ ثَجًّا
وَثُجُوجًا: يَكُونُ لَازِمًا بِمَعْنَى الِانْصِبَابِ
وَوَاقِعًا بِمَعْنَى الصَّبِّ. قَالَ الشَّاعِرُ فِي وَصْفِ
الْغَيْثِ:
إِذَا رَمَقَتْ فِيهَا رَحًى مرجحنه ... تنعج ثجاجا عزير
الْحَوَافِلِ
أَلْفَافًا جَمْعُ لَفٍّ، ثُمَّ جُمِعَ لَفٌّ عَلَى أَلْفَافٍ.
الْكَوَاعِبُ جَمْعُ كَاعِبٍ: وَهِيَ الَّتِي بَرَزَ
نَهْدُهَا، وَمِنْهُ كَعْبُ الرَّجُلِ لِبُرُوزِهِ، وَمِنْهُ
الْكَعْبَةُ. قَالَ عَاصِمُ بْنُ قَيْسٍ الْمِنْقَرِيُّ:
وَكَمْ مِنْ حَصَانٍ قَدْ حَوَيْنَا كَرِيمَةٍ ... وَمِنْ
كَاعِبٍ لَمْ تَدْرِ مَا الْبُؤْسُ مُعْصِرِ
الدِّهَاقُ: الْمَلْأَى، مَأْخُوذٌ مِنَ الدَّهْقِ، وَهُوَ
ضَغْطُ الشَّيْءِ وَشَدُّهُ بِالْيَدِ كَأَنَّهُ
لِامْتِلَائِهِ انْضَغَطَ.
وَقِيلَ: الدِّهَاقُ: الْمُتَتَابِعَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَتَانَا عَامِرٌ يَبْغِي قِرَانَا ... فَأَتْرَعْنَا لَهُ
كَأْسًا دِهَاقَا
وَقَالَ آخَرُ:
لَأَنْتَ إِلَى الْفُؤَادِ أَحَبُّ قُرْبًا ... مِنَ الصَّادِي
إِلَى كَأْسٍ دِهَاقِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ
فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، كَلَّا سَيَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا
سَيَعْلَمُونَ، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً،
وَالْجِبالَ أَوْتاداً، وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً، وَجَعَلْنا
نَوْمَكُمْ سُباتاً، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً،
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً، وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً
شِداداً، وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً، وَأَنْزَلْنا مِنَ
الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً، لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا
وَنَباتاً، وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ
مِيقاتاً، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ
أَفْواجاً، وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً،
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً.
(10/382)
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
بُعِثَ، جَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ
فَيَقُولُونَ: مَا الَّذِي أَتَى بِهِ؟ وَيَتَجَادَلُونَ
فِيمَا بُعِثَ بِهِ، فَنَزَلَتْ.
وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ. لَمَّا
ذَكَرَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ «1» ، أَيْ
بَعْدَ الْحَدِيثِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ، وَكَانُوا
يَتَجَادَلُونَ فِيهِ وَيُسَائِلُونَ عَنْهُ، قَالَ: عَمَّ
يَتَساءَلُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَمَّ وعبد الله وأبيّ
وَعِكْرِمَةُ وَعِيسَى: عَمَّا بِالْأَلِفِ، وَهُوَ أَصْلُ
عَمَّ، وَالْأَكْثَرُ حَذْفُ الْأَلِفِ مِنْ مَا
الِاسْتِفْهَامِيَّةِ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ الْجَرِّ
وَأُضِيفَ إِلَيْهَا. وَمِنْ إِثْبَاتِ الْأَلِفِ قَوْلِهِ:
عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ
تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ
وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ: عَمَّهْ
بِهَاءِ السَّكْتِ، أَجْرَى الْوَصْلَ مُجْرَى الْوَقْفِ،
لِأَنَّ الْأَكْثَرَ فِي الْوَقْفِ عَلَى مَا
الِاسْتِفْهَامِيَّةِ هُوَ بِإِلْحَاقِ هَاءِ السكت، إلا إذا
أضيفت إِلَيْهَا فَلَا بُدَّ مِنَ الْهَاءِ فِي الْوَقْفِ،
نَحْوَ: بِحَيِّ مَهْ. وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ هَذَا فِيهِ
تَفْخِيمٌ وَتَهْوِيلٌ وَتَقْرِيرٌ وَتَعْجِيبٌ، كَمَا
تَقُولُ: أَيُّ رَجُلٍ زَيْدٌ؟ وَزَيْدٌ مَا زَيْدٌ، كَأَنَّهُ
لَمَّا كَانَ عَدِيمَ النَّظِيرِ أَوْ قَلِيلَهُ خَفِيَ
عَلَيْكَ جِنْسُهُ فَأَخَذْتَ تَسْتَفْهِمُ عَنْهُ. ثُمَّ
جَرَّدَ الْعِبَارَةَ عَنْ تَفْخِيمِ الشَّيْءِ، فَجَاءَ فِي
الْقُرْآنِ، وَالضَّمِيرُ فِي يَتَساءَلُونَ لِأَهْلِ مَكَّةَ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَتَساءَلُونَ عَنِ
النَّبَإِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ
الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ،
فَيَكُونُ الِاخْتِلَافُ تَصْدِيقَ الْمُؤْمِنِ وَتَكْذِيبَ
الْكَافِرِ. وَقِيلَ: الْمُتَسَاءَلُ فِيهِ الْبَعْثُ،
وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ عَمَّ مُتَعَلِّقٌ بيتساءلون. وَمَنْ
قَرَأَ عَمَّهْ بِالْهَاءِ فِي الْوَصْلِ فَقَدْ ذَكَرْنَا
أَنَّهُ يَكُونُ أَجْرَى الْوَصْلَ مُجْرَى الْوَقْفِ، وَعَنِ
النَّبَأِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ
النَّبَأِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ وَقَفَ
عَلَى عمه، ثم ابتدأ بيتسألون عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ عَلَى
أَنْ يُضْمِرَ لِعَمَّهْ يَتَسَاءَلُونَ، وَحُذِفَتْ
لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهَا عَلَيْهِ، كَشَيْءٍ مُبْهَمٍ ثُمَّ
يُفَسَّرُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ أَكْثَرُ
النُّحَاةِ قَوْلُهُ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ مُتَعَلِّقٌ
بيتساءلون، الظَّاهِرُ كَأَنَّهُ قَالَ: لِمَ يتساءلون عن
النبإ العظيم؟ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْكَلَامَ تَامٌّ فِي
قَوْلِهِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ، ثُمَّ كَانَ مُقْتَضَى
الْقَوْلِ أَنْ يُجِيبَ مُجِيبٌ فَيَقُولُ: يَتَسَاءَلُونَ
عَنِ النَّبَأِ، فَاقْتَضَى إِيجَازُ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَتُهُ
أَنْ يُبَادِرَ الْمُحْتَجُّ بِالْجَوَابِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ
الْحَالُ، وَالْمُجَاوَرَةُ اقْتِضَاءً بِالْحُجَّةِ
وَإِسْرَاعًا إِلَى مَوْضِعِ قَطْعِهِمْ. وَقَرَأَ عَبْدُ
اللَّهِ وَابْنُ جبير: يسألون بِغَيْرِ تَاءٍ وَشَدِّ
السِّينَ، وَأَصْلُهُ يَتَسَاءَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ،
فَأَدْغَمَ التَّاءَ الثَّانِيَةَ فِي السِّينِ. كَلَّا:
رَدْعٌ لِلْمُتَسَائِلِينَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِيَاءِ
الْغَيْبَةِ فِيهِمَا. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: الْأَوَّلُ
__________
(1) سورة المرسلات: 77/ 50. [.....]
(10/383)
بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَالثَّانِي
بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ. وَهَذَا التَّكْرَارُ تَوْكِيدٌ
فِي الْوَعِيدِ وَحَذْفُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِلْمُ عَلَى
سَبِيلِ التَّهْوِيلِ، أَيْ سَيَعْلَمُونَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ.
ثُمَّ قَرَّرَهُمْ تَعَالَى عَلَى النَّظَرِ فِي آيَاتِهِ
الْبَاهِرَةِ وَغَرَائِبِ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا
مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ، وَأَنَّ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ
يُفْضِي إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ
الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَقَالَ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ
مِهاداً، فَبَدَأَ بِمَا هُمْ دَائِمًا يُبَاشِرُونَهُ،
وَالْمِهَادُ: الْفِرَاشُ الْمُوَطَّأُ. وَقَرَأَ الجمهور:
مِهاداً ومجاهد وَعِيسَى وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: مَهْدًا،
بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَلَمْ يَنْسُبِ ابْنُ
عَطِيَّةَ عِيسَى فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ ابْنُ
خَالَوَيْهِ: مَهْدًا على التوحيد، مجاهدا وَعِيسَى
الْهَمْدَانِيُّ وَهُوَ الْحَوْفِيُّ، فَاحْتَمَلَ أَنْ
يَكُونَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ
كِنَايَةً عَنْ عِيسَى الْهَمْدَانِيِّ. وَإِذَا أَطْلَقُوا
عِيسَى، أَوْ قَالُوا عِيسَى الْبَصْرَةِ، فَهُوَ عِيسَى بْنُ
عُمَرَ الثَّقَفِيُّ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمِهَادِ
فِي الْبَقَرَةِ فِي أَوَّلِ حِزْبِ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ «1»
. وَالْجِبالَ أَوْتاداً: أَيْ ثَبَّتْنَا الْأَرْضَ
بِالْجِبَالِ، كَمَا ثُبِّتُ الْبَيْتَ بِالْأَوْتَادِ. قَالَ
الْأَفْوَهُ:
وَالْبَيْتُ لَا يَنْبَنِي إِلَّا لَهُ عُمُدٍ ... وَلَا
عِمَادَ إِذَا لَمْ تُرْسَ أَوْتَادُ
أَزْواجاً: أَيْ أَنْوَاعًا مِنَ اللَّوْنِ وَالصُّورَةِ
وَاللِّسَانِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: مُزْدَوِجِينَ،
ذَكَرًا وَأُنْثَى. سُباتاً: سُكُونًا وَرَاحَةً. سَبَتَ
الرَّجُلُ: اسْتَرَاحَ وَتَرَكَ الشُّغْلَ، وَالسُّبَاتُ
عِلَّةٌ مَعْرُوفَةٌ يُفْرَطُ عَلَى الْإِنْسَانِ السُّكُوتُ
حَتَّى يَصِيرَ قَاتِلًا، وَالنَّوْمُ شَبِيهٌ بِهِ إِلَّا فِي
الضَّرَرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: النَّائِمُ مَسْبُوتٌ لَا
يَعْقِلُ، كَأَنَّهُ مَيِّتٌ. لِباساً: أَيْ يَسْتَتِرُونَ
بِهِ عَنِ الْعُيُونِ فِيمَا لَا يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ
عَلَيْهِ. وَجَعَلْنَا النَّهارَ: قَابَلَ النَّوْمَ
بِالنَّهَارِ، إِذْ فِيهِ الْيَقَظَةُ. مَعاشاً:
وَقْتَ عَيْشٍ، وَهُوَ الْحَيَاةُ تَتَصَرَّفُونَ فِيهِ فِي
حوائجكم. سَبْعاً: أي سموات، شِداداً:
مُحْكَمَةَ الْخَلْقِ قَوِيَّةً لَا تَتَأَثَّرُ بِمُرُورِ
الْإِعْصَارِ إِلَّا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَمَّا جِئْتُهُ أَعْلَى مَحَلِّي ... وَأَجْلَسَنِي عَلَى
السَّبْعِ الشِّدَادِ
سِراجاً: هُوَ الشَّمْسُ، وَهَّاجاً: حَارًّا مُضْطَرِمَ
الِاتِّقَادِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو. الشمس فِي
السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، إِلَيْنَا ظَهْرُهَا، وَلَهِيبُهَا
يَضْطَرِمُ عُلُوًّا. مِنَ الْمُعْصِراتِ، قَالَ أُبَيٌّ
وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَزَيْدُ بْنُ أسلم وقتادة
ومقاتل: هي السموات.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ
وَالضَّحَّاكُ: السَّحَابُ الْقَاطِرَةُ، مَأْخُوذٌ مِنَ
الْعَصْرِ، لأن
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 203.
(10/384)
السَّحَابَ يَنْعَصِرُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ
الْمَاءُ. وَقِيلَ: السَّحَابُ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ وَلَمْ
تُمْطِرْ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنْ
حَيْثُ تُغِيثُ، فَهِيَ مِنَ الْعَصْرَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
وَفِيهِ يَعْصِرُونَ «1» . وَالْعَاصِرُ: الْمُغِيثُ، فَهُوَ
ثُلَاثِيٌّ وَجَاءَ هُنَا مِنْ أَعْصَرَ: أَيْ دَخَلَتْ فِي
حِينِ الْعَصْرِ، فَحَانَ لَهَا أَنْ تَعْصِرَ، وَأَفْعَلُ
لِلدُّخُولِ فِي الشَّيْءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا
ومجاهد وقتادة: الرِّيَاحُ لِأَنَّهَا تَعْصِرُ السَّحَابَ،
جَعَلَ الْإِنْزَالَ مِنْهَا لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا فِيهِ.
وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْفَضْلُ بْنُ
عَبَّاسٍ أَخُوهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ وعكرمة
وقتادة: بِالْمُعْصِرَاتِ، بِالْبَاءِ بَدَلَ مِنْ. قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ: فَهَذَا يُقَوِّي أَنَّهُ أَرَادَ
الرِّيَاحَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَنْ
يُرَادَ بِالرِّيَاحِ الَّتِي حَانَ لَهَا أَنْ تَعْصِرَ
السَّحَابَ، وَأَنْ يُرَادَ السَّحَابُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ
الْإِنْزَالُ مِنْهَا فَهُوَ بِهَا، كَمَا تَقُولُ: أَعْطَى
مِنْ يَدِهِ دِرْهَمًا، وَأَعْطَى بِيَدِهِ دِرْهَمًا.
ثَجَّاجاً: مُنْصَبًّا بِكَثْرَةٍ، وَمِنْهُ أَفْضَلُ الْحَجِّ
الْعَجُّ وَالثَّجُّ: أَيْ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ
وَصَبُّ دِمَاءِ الْهَدْيِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ:
ثَجَّاحًا بِالْحَاءِ: آخِرًا، وَمَسَاجِحُ الْمَاءِ:
مَصَابُّهُ، وَالْمَاءُ يَنْثَجِحُ فِي الْوَادِي. حَبًّا
وَنَباتاً:
بَدَأَ بِالْحَبِّ لِأَنَّهُ الَّذِي يُتَقَوَّتُ بِهِ،
كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَثَنَّى بِالنَّبَاتِ فَشَمِلَ
كُلَّ مَا يَنْبُتُ مِنْ شَجَرٍ وَحَشِيشٍ وَدَخَلَ فِيهِ
الْحَبُّ. أَلْفافاً: مُلْتَفَّةً، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَلَا وَاحِدَ لَهُ، كَالْأَوْزَاعِ وَالْأَخْيَافِ. وَقِيلَ:
الْوَاحِدُ لف: قال صَاحِبُ الْإِقْلِيدِ: أَنْشَدَنِي
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الطُّوسِيُّ:
جَنَّةٌ لَفٌّ وَعَيْشٌ مُغْدِقُ ... وَنَدَامَى كُلُّهُمْ
بِيضٌ زُهْرُ
وَلَوْ قِيلَ: هُوَ جَمْعُ مُلْتَفَّةٍ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ
الزَّوَائِدِ لَكَانَ قَوْلًا وَجِيهًا. انْتَهَى. وَلَا
حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ وَلَا إِلَى وَجَاهَتِهِ،
فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْمُفْرَدَاتِ أَنَّ مُفْرَدَهُ لِفٌّ
بِكَسْرِ اللَّامِ، وَأَنَّهُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ
اللُّغَةِ. إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كانَ مِيقاتاً:
أَيْ فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ تُؤَقَّتُ بِهِ
الدُّنْيَا وَتَنْتَهِي عِنْدَهُ أَوْ حَدًّا لِلْخَلَائِقِ
يَنْتَهُونَ إِلَيْهِ.
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ: بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْفَصْلِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَتَقَدَّمَ
الْكَلَامُ فِي الصُّورِ. وَقَرَأَ أَبُو عِيَاضٍ: فِي
الصُّورِ بِفَتْحِ الْوَاوِ جَمْعُ صُورَةٍ، أَيْ يَرُدُّ
اللَّهُ الْأَرْوَاحَ إِلَى الْأَبْدَانِ وَالْجُمْهُورُ:
بِسُكُونِ الْوَاوِ. وفَتَأْتُونَ مِنَ الْقُبُورِ إِلَى
الْمَوْقِفِ أُمَمًا، كُلُّ أُمَّةٍ بِإِمَامِهَا. وَقِيلَ:
جَمَاعَاتٍ مُخْتَلِفَةً. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ حَدِيثًا
فِي كَيْفِيَّاتٍ قَبِيحَةٍ لِعَشَرَةِ أَصْنَافٍ يُخْلَقُونَ
عَلَيْهَا، وَسَبَبُ خَلْقِهِ مَنْ خَلَقَ عَلَى تِلْكَ
الْكَيْفِيَّةِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. وَقَرَأَ
الْكُوفِيُّونَ:
وَفُتِحَتِ: خُفَّ وَالْجُمْهُورُ: بِالتَّشْدِيدِ، فَكانَتْ
أَبْواباً تَنْشَقُّ حَتَّى يَكُونَ فِيهَا فُتُوحٌ
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 49.
(10/385)
كالأبواب في الجدران. وَقِيلَ: يَنْقَطِعُ
قِطَعًا صِغَارًا حَتَّى تَكُونَ كَالْأَلْوَاحِ، الْأَبْوَابُ
الْمَعْهُودَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فُتِحَتِ السَّماءُ
فَكانَتْ أَبْواباً: أَيْ كَثُرَتْ أَبْوَابُهَا لِنُزُولِ
الْمَلَائِكَةِ، كَأَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا أَبْوَابًا
مُفَتَّحَةً، كَقَوْلِهِ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً «1»
، كَأَنَّ كُلَّهَا عُيُونٌ تَنْفَجِرُ.
وَقِيلَ: الْأَبْوَابُ: الطُّرُقُ وَالْمَسَالِكُ، أَيْ
تُكْشَطُ فَيَنْفَتِحُ مَكَانُهَا وَتَصِيرُ طُرُقًا لَا
يَسُدُّهَا شَيْءٌ.
فَكانَتْ سَراباً: أَيْ تَصِيرُ شَيْئًا كَلَا شَيْءٍ لتفرق
أجزائها وانبثات جَوَاهِرِهَا. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ
عَطِيَّةَ: عِبَارَةٌ عَنْ تَلَاشِيهَا وَفَنَائِهَا بَعْدَ
كَوْنِهَا هَبَاءً مُنْبَثًّا، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ الْجِبَالَ
تُشْبِهُ الْمَاءَ عَلَى بُعْدٍ مِنَ النَّاظِرِ إِلَيْهَا.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَاتُ
أَبْوَابٍ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً،
لِلطَّاغِينَ مَآباً، لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً، لَا
يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً، إِلَّا حَمِيماً
وَغَسَّاقاً، جَزاءً وِفاقاً، إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ
حِساباً، وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً، وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْناهُ كِتاباً، فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا
عَذاباً، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً، حَدائِقَ وَأَعْناباً،
وَكَواعِبَ أَتْراباً، وَكَأْساً دِهاقاً، لَا يَسْمَعُونَ
فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً، جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً
حِساباً، رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا
الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً، يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا
مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً، ذلِكَ الْيَوْمُ
الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً، إِنَّا
أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ
مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يَا لَيْتَنِي
كُنْتُ تُراباً.
مِرْصاداً: مِفْعَالٌ مِنَ الرَّصْدِ، تَرْصُدُ مَنْ حَقَّتْ
عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
مَجْلِسًا لِلْأَعْدَاءِ وَمَمَرًّا لِلْأَوْلِيَاءِ،
وَمِفْعَالٌ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِغَيْرِ تَاءٍ
وَفِيهِ مَعْنَى النَّسَبِ، أَيْ ذَاتُ رَصَدٍ، وَكُلُّ مَا
جَاءَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالصِّفَاتِ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ
فِيهِ التَّكْثِيرُ وَاللُّزُومُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ:
الْمِرْصَادُ: الْمَكَانُ الَّذِي يُرْصَدُ فِيهِ الْعَدُوُّ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِلَّا أَنَّ عَلَى النَّارِ الْمِرْصَادَ.
فَمَنْ جَاءَ بِجَوَازٍ جَازَ، وَمَنْ لم يجىء بِجَوَازٍ
احْتُبِسَ. وَقَرَأَ أَبُو عُمَرَ وَالْمِنْقَرِيُّ وَابْنُ
يَعْمَرَ: أن جهنم، يفتح الْهَمْزَةِ وَالْجُمْهُورُ:
بِكَسْرِهَا مَآباً: مَرْجِعًا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ
وَعَلْقَمَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ وَثَّابٍ
وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَعَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ
وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَقُتَيْبَةُ وَسَوْرَةُ
وَرَوْحٌ: لَبِثِينَ، بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ اللَّامِ
وَالْجُمْهُورُ: بِأَلِفٍ بَعْدَهَا، وَفَاعِلٌ يَدُلُّ عَلَى
مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْفِعْلُ، وَفَعِلٌ عَلَى مَنْ شَأْنُهُ
ذَلِكَ، كَحَاذِرٍ وَحَذِرٍ. أَحْقاباً: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ
عَلَيْهِ فِي الْكَهْفِ عِنْدَ: أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً «2» ،
وَالْمَعْنَى هُنَا: حُقُبًا بَعْدَ حُقُبٍ، كُلَّمَا
__________
(1) سورة القمر: 54/ 12.
(2) سورة الكهف: 18/ 60.
(10/386)
مَضَى تَبِعَهُ آخَرُ إِلَى غَيْرِ
نِهَايَةٍ، وَلَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ الْحُقُبُ إِلَّا
حَيْثُ يُرَادُ تَتَابُعُ الْأَزْمِنَةِ، كَقَوْلِ أَبِي
تَمَّامٍ:
لَقَدْ أَخَذَتْ مِنْ دَارِ مَاوِيَّةَ الْحُقُبُ ... أنحل
المغاني لليلى أَمْ هِيَ نَهْبُ
وَيَجُوزُ أن يتعلق للطاغين بمرصادا، ويجوز أن يتعلق بمآبا.
ولبثين حال من الطاغين، وأحقابا نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ
يَكُونَ مِنْ حَقِبَ عَامُنَا إِذَا قَلَّ مَطَرُهُ
وَخَيْرُهُ، وَحَقِبَ إِذَا أَخْطَأَ الرِّزْقَ فَهُوَ حَقِبٌ،
وَجَمْعُهُ أَحْقَابٌ، فَيَنْتَصِبُ حَالًا عنهم، يعني لبثين
فِيهَا حَقِبِينَ جَحِدِينَ. وَقَوْلُهُ: لَا يَذُوقُونَ فِيها
بَرْداً وَلا شَراباً تَفْسِيرٌ لَهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ
مُنْقَطِعٌ، يَعْنِي: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَرَوْحًا
يُنَفِّسُ عَنْهُمْ حَرَّ النَّارِ، ولا شراب يُسَكِّنُ مِنْ
عَطَشِهِمْ، وَلَكِنْ يَذُوقُونَ فِيهَا حَمِيماً وَغَسَّاقاً.
انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ قَبْلَ هَذَا الْوَجْهِ مَا
نَصُّهُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا
غَيْرَ ذَائِقِينَ بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا
وَغَسَّاقًا، ثُمَّ يُبَدَّلُونَ بَعْدَ الْأَحْقَابِ غَيْرَ
الْحَمِيمِ، وَالْغَسَّاقِ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ مِنَ الْعَذَابِ.
انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ قَوْلٌ
لِلْمُتَقَدِّمِينَ، حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ: وَقَالَ
آخَرُونَ إِنَّمَا الْمَعْنَى لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا
غَيْرَ ذَائِقِينَ بَرْدًا ولا شرابا، فهذه الْحَالِ
يَلْبَثُونَ أَحْقَابًا، ثُمَّ يَبْقَى الْعَذَابُ سَرْمَدًا
وَهُمْ يَشْرَبُونَ أَشْرِبَةَ جَهَنَّمَ. وَالَّذِي يَظْهَرُ
أَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَذُوقُونَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَلَيْسَ
في موضع الحال، وإِلَّا حَمِيماً اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ
قَوْلِهِ: وَلا شَراباً، وَأَنَّ أَحْقاباً مَنْصُوبٌ عَلَى
الظَّرْفِ حَمْلًا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ،
لَا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ الَّتِي
لَيْسَتْ مَشْهُورَةً. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ
الْمَوْصُوفِينَ بِاللَّبْثِ أَحْقَابًا هُمْ عُصَاةُ
الْمُؤْمِنِينَ، أَوَاخِرُ الْآيِ يَدْفَعُهُ وَقَوْلُ
مُقَاتِلٍ: إِنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: فَذُوقُوا
فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً، فَاسِدٌ. وَالظَّاهِرُ،
وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، أَنَّ الْبَرْدَ هُوَ مَسُّ
الْهَوَاءِ الْقُرِّ، أَيْ لَا يَمَسُّهُمْ مِنْهُ مَا
يُسْتَلَذُّ وَيَكْسِرُ شِدَّةَ الْحَرِّ. وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَضْلُ بْنُ خَالِدٍ
وَمُعَاذٌ النَّحْوِيُّ: الْبَرْدُ هُنَا النَّوْمُ،
وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُبَرِّدُ سَوْرَةَ
الْعَطَشِ، وَمِنْ كَلَامِهِمْ: مَنَعَ الْبَرْدُ الْبَرْدَ،
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَوْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ... وَإِنْ
شِئْتِ لَمْ أُطْعَمْ نُقَاخًا وَلَا بَرْدًا
النُّقَاخُ: الْمَاءُ، وَالْبَرْدُ: النَّوْمُ. وَفِي كِتَابِ
اللُّغَاتِ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْبَرْدَ هُوَ النَّوْمُ
بِلُغَةِ هُذَيْلٍ، وَالذَّوْقُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ
مَجَازٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبَرْدُ: الشَّرَابُ
الْبَارِدُ الْمُسْتَلَذُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ
ثَابِتٍ:
(10/387)
يسقون من ورد البريض عَلَيْهِمُ ...
بَرْدًا يُصَفِّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
أَمَانِيُّ مِنْ سُعْدَى حِسَانٌ كَأَنَّمَا ... سَقَتْكَ
بِهَا سُعْدَى عَلَى ظَمَأٍ بَرْدَا
وَالذَّوْقُ عَلَى هَذَا حَقِيقَةٌ، وَالنَّحْوِيُّونَ
يُنْشِدُونَ عَلَى هَذَا بَيْتَ حَسَّانَ. بَرَدَى، بِفَتْحِ
الرَّاءِ وَالدَّالِ بَعْدَهَا أَلِفُ التَّأْنِيثِ: وَهُوَ
نَهْرٌ فِي دِمَشْقَ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَمِيمِ
وَالْغَسَّاقِ، وَخُلْفُ الْقُرَّاءِ فِي شِدَّةِ الشِّينِ
وَخِفَّتِهَا. وِفاقاً: أَيْ لِأَعْمَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ،
وُصِفَ الْجَزَاءُ بِالْمَصْدَرِ لِوَافَقَ، أَوْ عَلَى حَذْفِ
مُضَافٍ، أَيْ ذَا وِفَاقٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ جَمْعُ
وِفْقٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِخَفِّ الْفَاءِ وَأَبُو
حَيْوَةَ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ:
بِشَدِّهَا مِنْ وَفَّقَهُ كَذَا.
لَا يَرْجُونَ: لَا يَخَافُونَ أَوْ لَا يُؤْمِنُونَ،
وَالرَّجَاءُ وَالْأَمَلُ مُفْتَرِقَانِ، وَالْمَعْنَى هُنَا:
لَا يُصَدِّقُونَ بِالْحِسَابِ، فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا
يَخَافُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كِذَّاباً بِشَدِّ
الذَّالِ مَصْدَرُ كَذَّبَ، وَهِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ
يَمَانِيَّةٌ. يَقُولُونَ فِي مَصْدَرِ فَعَلَ فِعَالًا،
وَغَيْرُهُمْ يَجْعَلُ مَصْدَرَهُ عَلَى تَفْعِيلٍ، نَحْوَ
تَكْذِيبٍ. وَمِنْ تِلْكَ اللُّغَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَقَدْ طَالَ مَا ثَبَّطَتْنِي عَنْ صَحَابَتِي ... وَعَنْ
حَاجَةٍ قَضَاؤُهَا مِنْ شِفَائِيَا
وَمِنْ كَلَامِ أَحَدِهِمْ وَهُوَ يَسْتَفْتِي: الْحَلْقُ
أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمِ الْقِصَارُ، يُرِيدُ التَّقْصِيرَ،
يَعْنِي فِي الْحَجِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِعَالٌ
فِي بَابِ فَعَلَ كُلِّهِ فَاشٍ فِي كَلَامِ فُصَحَاءَ مِنَ
الْعَرَبِ لَا يَقُولُونَ غَيْرَهُ، وَسَمِعَنِي بَعْضُهُمْ
أُفَسِّرُ آيَةً فَقَالَ: لَقَدْ فَسَّرْتَهَا فِسَارًا مَا
سُمِعَ بِمِثْلِهِ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ
وَالْأَعْمَشُ وَعِيسَى بِخِلَافٍ عَنْهُ بِخَفِّ الذَّالِ.
قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَلَى، وَعِيسَى الْبَصْرَةِ،
وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ: كِذَابًا، كِلَاهُمَا
بِالتَّخْفِيفِ، وَذَلِكَ لُغَةُ الْيَمَنِ بِأَنْ يَجْعَلُوا
مَصْدَرَ كَذِبَ مُخَفَّفًا، كِذَابًا بِالتَّخْفِيفِ مِثْلَ
كَتَبَ كِتَابًا، فَصَارَ الْمَصْدَرُ هُنَا مِنْ مَعْنَى
الْفِعْلِ دُونَ لَفْظِهِ، مِثْلَ أُعْطَيْتُهُ عَطَاءً.
انْتَهَى. وَقَالَ الْأَعْشَى:
فَصَدَقْتُهَا وَكَذَبْتُهَا ... وَالْمَرْءُ يَنْفَعُهُ
كِذَابُهُ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْبَتَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «1» يَعْنِي: وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
فَكَذَبُوا كِذَابًا، أَوْ تَنْصِبُهُ بِكَذَبُوا لَا
يَتَضَمَّنُ مَعْنَى كَذَّبُوا، لِأَنَّ كُلَّ مُكَذِّبٍ
بِالْحَقِّ كَاذِبٌ وَإِنْ جَعَلْتَهُ بِمَعْنَى
الْمُكَاذَبَةِ فَمَعْنَاهُ: وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
فَكَاذَبُوا مُكَاذَبَةً، أَوْ كَذَّبُوا بِهَا مُكَاذِبِينَ
لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَاذِبِينَ
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَهُمْ كَاذِبِينَ فَبَيْنَهُمْ
مكاذبة، أو لأنهم
__________
(1) سورة نوح: 71/ 17.
(10/388)
يَتَكَلَّمُونَ بِمَا هُوَ إِفْرَاطٌ فِي
الْكَذِبِ، فِعْلَ مَنْ يُغَالِبُ فِي أَمْرٍ فَيَبْلُغُ فِيهِ
أَقْصَى جُهْدِهِ. انْتَهَى.
وَالْأَظْهَرُ الْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ وَمَا سِوَاهُ
تَكَلُّفٌ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَكِتَابِ
اللَّوَامِحِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر بن عبد
العزيز: وَفِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ عمر بن عبد العزيز
وَالْمَاجِشُونُ، ثُمَّ اتَّفَقُوا كُذَّابًا بِضَمِّ الْكَافِ
وَشَدِّ الذَّالِ، فَخَرَجَ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ كَاذِبٍ
وَانْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ، وَعَلَى أَنَّهُ
مُفْرَدٌ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ، أَيْ تَكْذِيبًا كُذَّابًا
مُفْرِطًا فِي التَّكْذِيبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَكُلَّ
شَيْءٍ بِالنَّصْبِ: وَأَبُو السَّمَّالِ: بِالرَّفْعِ،
وَانْتَصَبَ كِتاباً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ مَعْنَى
أَحْصَيْناهُ أَيْ إِحْصَاءً، أَوْ يَكُونُ أَحْصَيْناهُ فِي
مَعْنَى كَتَبْنَاهُ. وَالتَّجَوُّزُ إِمَّا فِي الْمَصْدَرِ
وَإِمَّا فِي الْفِعْلِ وَذَلِكَ لِالْتِقَائِهِمَا فِي
مَعْنَى الضَّبْطِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ
الْحَالِ، أَوْ مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ وَفِي مُصْحَفِ
الْحَفَظَةِ. وَكُلَّ شَيْءٍ عَامٌّ مَخْصُوصٌ، أَيْ كُلُّ
شَيْءٍ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ،
وَهِيَ جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ مُعْتَرِضَةٌ، وَفَذُوقُوا
مُسَبَّبٌ عَنْ كُفْرِهِمْ بِالْحِسَابِ، فَتَكْذِيبِهُمْ
بِالْآيَاتِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: وَمَا نَزَلَتْ فِي
أَهْلِ النَّارِ آيَةٌ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو
بُرْدَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَمَّا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ، ذَكَرَ
مَا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
مَفازاً:
أَيْ مَوْضِعَ فَوْزٍ وَظَفَرٍ، حَيْثُ زُحْزِحُوا عَنِ
النَّارِ وَأُدْخِلُوا الجنة. وحَدائِقَ بَدَلٌ مِنْ مَفازاً
وَفَوْزًا، فَيَكُونُ أَبْدَلَ الْجِرْمُ مِنَ الْمَعْنَى
عَلَى حَذْفٍ، أَيْ فَوْزَ حَدَائِقَ، أَيْ بِهَا.
دِهاقاً، قَالَ الْجُمْهُورُ: مُتْرَعَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ
وَابْنُ جُبَيْرٍ: مُتَتَابِعَةً. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا
كِذَّاباً بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالتَّخْفِيفِ، كَاللَّفْظِ
الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا
كِذَّاباً، مَصْدَرُ كَذَّبَ وَمَصْدَرُ كَاذَبَ. قَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ:
جَزاءً: مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ مَنْصُوبٌ بِمَعْنَى قَوْلِهِ:
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً، كَأَنَّهُ قَالَ: جَازَى
الْمُتَّقِينَ بِمَفَازٍ وَعَطَاءٍ نُصِبَ بِجَزَاءٍ نَصْبَ
الْمَفْعُولِ بِهِ، أَيْ جَزَاءَهُمْ عَطَاءً. انْتَهَى.
وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا
لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
مَفازاً، وَالْمَصْدَرُ الْمُؤَكِّدُ لَا يَعْمَلُ، لِأَنَّهُ
لَيْسَ يَنْحَلُّ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ، وَلَا
نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
حِساباً، وَهُوَ صِفَةٌ لِعَطَاءٍ، أَيْ كَافِيًا مِنْ
قَوْلِهِمْ: أَحْسَبَنِي الشَّيْءُ: أَيْ كَفَانِي. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: مَعْنَى حِسَابًا هُنَا بِتَقْسِيطٍ عَلَى
الْأَعْمَالِ، أَوْ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِرَحْمَةِ اللَّهِ
وَالدَّرَجَاتُ فِيهَا عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ،
فَالْحِسَابُ هُنَا بِمُوَازَنَةِ الْأَعْمَالِ. وَقَرَأَ
ابْنُ قُطَيْبٍ: حَسَّابًا، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَشَدِّ
السِّينِ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: بَنَى فَعَّالًا مِنْ
أَفْعَلَ، كَدَرَّاكِ مِنْ أَدْرَكَ. انْتَهَى، فَمَعْنَاهُ
مَحْسِبًا، أَيْ كَافِيًا. وَقَرَأَ شُرَيْحُ بْنُ يَزِيدَ
الْحِمْصِيُّ وَأَبُو الْبَرَهْسَمِ:
(10/389)
بِكَسْرِ الْحَاءِ وَشَدِّ السِّينِ،
وَهُوَ مَصْدَرٌ مِثْلُ كِذَّابٍ أُقِيمَ مَقَامَ الصِّفَةِ،
أَيْ إِعْطَاءً مُحَسَّبًا، أَيْ كَافِيًا. وَقَرَأَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَسَرَاحٌ: حَسَنًا بِالنُّونِ مِنَ الْحُسْنِ،
وَحَكَى عَنْهُ الَمَهْدَوِيُّ حَسْبًا بِفَتْحِ الْحَاءِ
وَسُكُونِ السِّينِ وَالْبَاءِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: حَسْبُكَ
كَذَا، أَيْ كَافِيكَ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ
وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ:
رَبِّ وَالرَّحْمَنِ بِالْجَرِّ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو
جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْحَرَمِيَّانِ
بِرَفْعِهِمَا وَالْأَخَوَانِ: رَبِّ بالجر، والرحمن
بِالرَّفْعِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَابْنِ وَثَّابٍ
وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا فِي
الْجَرَّ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ ربك، والرحمن صِفَةٌ أَوْ
بَدَلٌ مِنْ رَبِّ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَهَلْ يَكُونُ
بَدَلًا مِنْ رَبِّكَ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْبَدَلَ
الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ فَيَكُونُ كَالصِّفَاتِ،
وَالرَّفْعَ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ رَبُّ، أَوْ عَلَى
الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ لَا يَمْلِكُونَ، وَالضَّمِيرُ فِي
لَا يَمْلِكُونَ عَائِدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَهُ
عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ لَا يُخَاطِبُ
الْمُشْرِكُونَ اللَّهَ. أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيَشْفَعُونَ
وَيَقْبَلُ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ لَا يَمْلِكُونَ أَنْ يُخَاطِبُوهُ فِي
أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ
عَدْلٌ مِنْهُ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى أهل السموات
وَالْأَرْضِ.
وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَائِدٌ عَلَيْهِ تَعَالَى،
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِنَ اللَّهِ أَنْ
يُخَاطِبُوهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الثَّوَابِ. وَالْعِقَابِ
خِطَابَ وَاحِدٍ يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ،
فَيَزِيدُونَ فِيهِ أَوْ يَنْقُصُونَ مِنْهُ. وَالْعَامِلُ فِي
يَوْمَ إِمَّا لَا يَمْلِكُونَ. وَإِمَّا لَا يَتَكَلَّمُونَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الرُّوحُ، أَهُوَ جِبْرِيلُ
أَمْ مَلَكٌ أَكْبَرُ الْمَلَائِكَةِ خِلْقَةً؟ أَوْ خَلْقٌ
عَلَى صُورَةِ بَنِي آدَمَ، أَوْ خَلْقٌ حُفَظَةٌ عَلَى
الْمَلَائِكَةِ، أَوْ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ، أَوِ الْقُرْآنُ
وَقِيَامُهُ، مَجَازٌ يَعْنِي بِهِ ظُهُورَ آثَارِهِ
الْكَائِنَةِ عَنْ تَصْدِيقِهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ. وَالظَّاهِرُ
عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي لَا يَتَكَلَّمُونَ عَلَى الرُّوحُ
وَالْمَلائِكَةُ. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَائِدٌ عَلَى
النَّاسِ، فَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ
تَعَالَى. وَنَطَقَ بِالصَّوَابِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
الصَّوَابُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَيْ قَالَهَا فِي
الدُّنْيَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
هُمَا شَرِيطَتَانِ: أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ مِنْهُمْ
مَأْذُونًا لهم فِي الْكَلَامِ، وَأَنْ يَتَكَلَّمَ
بِالصَّوَابِ فَلَا يَشْفَعُ لِغَيْرِ مُرْتَضًى لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «1» .
انْتَهَى.
ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ: أَيْ كِيَانُهُ وَوُجُودُهُ، فَمَنْ
شاءَ: وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ، وَالْخِطَابُ في نْذَرْناكُمْ
لِمَنْ حَضَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَانْدَرَجَ فِيهِ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ، ذاباً
: هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، وَكُلُّ آتٍ
قَرِيبٌ. وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ
: عَامٌّ فِي المؤمن والكافر.
قَدَّمَتْ يَداهُ
مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ وَعَلَيْهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وقاله قبله عطاء:
__________
(1) سورة الأنبياء: 21/ 28.
(10/390)
الْمَرْءُ هُوَ الْكَافِرُ لِقَوْلِهِ:
نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
، وَالْكَافِرُ ظَاهِرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لزيادة
الذم. ومعنى اقَدَّمَتْ يَداهُ
مِنَ الشَّرِّ لِقَوْلِهِ: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ، ذلِكَ
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ «1» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: الْمَرْءُ هُنَا الْمُؤْمِنُ،
كَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى مُقَابِلِهِ فِي قوله: يَقُولُ
الْكافِرُ
. وقرأ الجمهور: ْمَرْءُ
بِفَتْحِ الْمِيمِ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِضَمِّهَا
وَضَعَّفَهَا أَبُو حَاتِمٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُضَعَّفَ
لِأَنَّهَا لُغَةٌ يُتْبِعُونَ حَرَكَةَ الْمِيمِ لِحَرَكَةِ
الْهَمْزَةِ فَيَقُولُونَ: مُرْؤٌ وَمَرْأً وَمِرْءٍ عَلَى
حَسَبِ الْإِعْرَابِ، وَمَا منصوب بينظر وَمَعْنَاهُ:
يَنْتَظِرُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، فَمَا مَوْصُولَةٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَنْظُرُ مِنَ النَّظَرِ، وَعُلِّقَ
عَنِ الْجُمْلَةِ فَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ
إِسْقَاطِ الْخَافِضِ، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ مَنْصُوبَةٌ
تَقَدَّمَتْ، وَتَمَنِّيهِ ذَلِكَ، أَيْ تُرَابًا فِي
الدُّنْيَا، وَلَمْ يُخْلَقْ أَوْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى يُحْضِرُ الْبَهَائِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَيَقْتَصُّ مِنْ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، ثُمَّ يَقُولُ لَهَا
بَعْدَ ذَلِكَ: كُونِي تُرَابًا، فَتَعُودُ جَمِيعُهَا
تُرَابًا، فَإِذَا رَأَى الْكَافِرُ ذَلِكَ تَمَنَّى مِثْلَهُ.
وَقِيلَ: الْكَافِرُ هَنَا إِبْلِيسُ، إِذَا رَأَى مَا حَصَلَ
لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الثواب قال: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
كَآدَمَ الَّذِي خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ وَاحْتَقَرَهُ هو أوّلا.
وقيل: راباً
: أَيْ مُتَوَاضِعًا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا
جَبَّارًا وَلَا متكبرا.
__________
(1) سورة الأنفال: 8/ 50- 51.
(10/391)
وَالنَّازِعَاتِ
غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ
سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ
أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا
الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)
أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا
لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا
نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ
نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ
إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى
أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21)
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ
أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ
الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً
لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ
السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ
بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا
وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا
لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ
الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى
(35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ
طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ
الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ
رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ
الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا
أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا
(46)
سورة النّازعات
[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 46]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2)
وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ
(6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ
(8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10)
أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً
كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13)
فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ
الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى
(17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ
إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ
أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا
رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ
فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها
فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها
وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ
وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى
(34)
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى (35) وَبُرِّزَتِ
الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ
الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى
(39)
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ
الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ
أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44)
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ
يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ
ضُحاها (46)
(10/392)
أَغْرَقَ فِي الشَّيْءِ: بَالَغَ فِيهِ
وَأَنْهَاهُ، وَأَغْرَقَ النَّازِعُ فِي الْقَوْسِ: بَلَغَ
غَايَةَ الْمَدِّ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى النَّصْلِ.
وَالِاسْتِغْرَاقُ: الِاسْتِيعَابُ، وَالْغَرْقَى: قِشْرَةُ
الْبَيْضَةِ. نَشَطَ الْبَعِيرَ وَالْإِنْسَانَ رَبَطَهُ
وَأَنْشَطَهُ: حَلَّهُ، وَمِنْهُ: وَكَأَنَّمَا أُنْشِطَ مِنْ
عِقَالٍ. وَنَشِطَ: ذَهَبَ مَنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ،
وَلِذَلِكَ قِيلَ لِبَقْرِ الْوَحْشِ النَّوَاشِطُ،
لِأَنَّهُنَّ يَذْهَبْنَ بِسُرْعَةٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى
مَكَانٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ، وَهُوَ هِمْيَانُ بْنُ
قُحَافَةَ:
أَرَى هُمُومِي تُنْشِطُ الْمَنَاشِطَا ... الشَّامَ بِي
طَوْرًا وَطَوْرًا وَاسِطَا
وَكَأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّشَاطِ.
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: نَشَطْتُ الْحَبْلَ أَنْشَطُهُ نَشْطًا:
عَقَدْتُهُ أُنْشُوطَةً، وَأَنْشَطْتُهُ: حَلَلْتُهُ،
وَأَنْشَطْتُ الْحَبْلَ: مَدَدْتُهُ. وَقَالَ اللَّيْثُ:
أَنْشَطْتُهُ بِأُنْشُوطَةٍ: أَيْ وَثَّقْتُهُ، وَأَنْشَطْتُ
الْعِقَالَ: مَدَدْتُ أُنْشُوطَتَهُ فَانْحَلَّتْ، وَيُقَالُ:
نَشِطَ بِمَعْنَى أَنْشَطَ، وَالْأُنْشُوطَةُ: عُقْدَةٌ يسهل
انحلالها إذا جدبت كَعُقْدَةِ التِّكَّةِ. وَجَفَ الْقَلْبُ
وَجِيفًا:
اضْطَرَبَ مِنْ شَدَّةِ الْفَزَعِ، وَكَذَلِكَ وَجَبَ
وَجِيبًا. وَفِي كِتَابِ لُغَاتِ الْقُرْآنِ الْمَرْوِيُّ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاجِفَةٌ: خَائِفَةٌ، بِلُغَةِ هَمْدَانَ.
الْحَافِرَةُ، يُقَالُ: رَجَعَ فُلَانٌ فِي حَافِرَتِهِ: أَيْ
فِي طَرِيقِهِ الَّتِي جَاءَ مِنْهَا، فَحَفَرَهَا: أَيْ
أَثَّرَ فِيهَا بِمَشْيِهِ فِيهَا، جَعَلَ أَثَرَ قَدَمَيْهِ
حَفْرًا، وَتُوقِعُهَا الْعَرَبُ عَلَى أَوَّلِ أَمْرٍ
يُرْجَعُ إِلَيْهِ مِنْ آخِرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَحَافِرَةٌ عَلَى صَلَعٍ وَشَيْبٍ ... مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ
سَفَهٍ وَعَارِ
أَيْ: أَأَرْجِعُ إِلَى الصِّبَا بَعْدَ الصَّلَعِ
وَالشَّيْبِ؟ النَّاخِرَةُ: الْمُصَوِّتَةُ بِالرِّيحِ
الْمُجَوَّفَةُ، وَالنَّخِرَةُ بِمَعْنَاهَا، كَطَامِعٍ
وَطَمِعٍ، وَحَاذِرٍ وَحَذِرٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَأَبُو
عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَجَمَاعَةٌ.
وَقِيلَ: النَّخِرَةُ: الْبَالِيَةُ الْمُتَعَفِّنَةُ
الصَّائِرَةُ رَمِيمًا. نَخِرَ الْعُودُ وَالْعَظْمُ: بَلِيَ
وَتَفَتَّتَ، فَمَعْنَاهُ مُغَايِرٌ لِلنَّاخِرَةِ، وَهُوَ
قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ
الْعَلَاءِ: النَّاخِرَةُ: الَّتِي لَمْ تَنْخَرْ بَعْدُ،
وَالنَّخِرَةُ: الَّتِي قَدْ بَلِيَتْ. قَالَ الرَّاجِزُ
لِفَرَسِهِ:
أَقْدِمْ أَخَا نِهْمٍ عَلَى الْأَسَاوِرَهْ ... وَلَا
تَهُولَنَّكَ رؤوس نَادِرَهْ
فَإِنَّمَا قَصْرُكَ تُرْبُ السَّاهِرَهْ ... حَتَّى تَعُودَ
بَعْدَهَا فِي الْحَافِرَهْ
مِنْ بَعْدِ مَا صِرْتَ عِظَامًا نَاخِرَهْ وَقَالَ
الشَّاعِرُ:
وَأَخْلَيْتُهَا مِنْ مُخِّهَا فَكَأَنَّهَا ... قَوَارِيرُ
فِي أَجْوَافِهَا الرِّيحُ تَنْخِرُ
وَيُرْوَى: تُصَفِّرُ وَنُخْرَةُ الرِّيحِ، بِضَمِّ النُّونِ:
شِدَّةُ هُبُوبِهَا، وَالنُّخْرَةُ أَيْضًا: مُقَدَّمُ أَنْفِ
(10/393)
الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ وَالْخِنْزِيرِ،
يُقَالُ: هَشَّمَ نُخْرَتَهُ. السَّاهِرَةُ: وَجْهُ الْأَرْضِ
وَالْفَلَاةُ، وُصِفَتْ بِمَا يَقَعُ فِيهَا وَهُوَ السَّهَرُ
لِلْخَوْفِ. وَقَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
وَفِيهَا لَحْمُ سَاهِرَةٍ وَبَحْرٍ ... وَمَا فَاهُوا بِهِ
لَهُمُ مُقِيمُ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ:
يَرْتَدْنَ سَاهِرَةً كَأَنَّ جَمِيمَهَا ... وَعَمِيمَهَا
أَسْدَافُ لَيْلٍ مُظْلِمِ
وَالسَّاهُورُ كَالْغِلَافِ لِلْقَمَرِ يَدْخُلُ فِيهِ إِذَا
كَسَفَ. وَقَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
وَبَثَّ الْخَلْقَ فِيهَا إِذْ دَحَاهَا ... فَهُمْ
قُطَّانُهَا حَتَّى التَّنَادِي
وَقِيلَ: دَحَاهَا: سَوَّاهَا، قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو:
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ
تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالَا
دَحَاهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا ... بِأَيْدٍ وَأَرْسَى
عَلَيْهَا الْجِبَالَا
الطَّامَّةُ: الدَّاهِيَةُ الَّتِي تَطِمُّ عَلَى الدَّوَاهِي،
أَيْ تَعْلُو وَتَغْلِبُ. وَفِي أَمْثَالِهِمْ: أَجْرَى
الْوَادِيَ فَطَمَّ عَلَى الْقُرَى، وَيُقَالُ: طَمَّ
السَّيْلُ الرَّكِيَّةَ إِذَا دَفَنَهَا، وَالطَّمُّ:
الدَّفْنُ وَالْعُلُوُّ.
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً،
وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً،
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً، يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ،
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ،
أَبْصارُها خاشِعَةٌ، يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي
الْحافِرَةِ، أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً، قالُوا تِلْكَ
إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ، فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ،
فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ، هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى، إِذْ
ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً، اذْهَبْ إِلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ
تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى، فَأَراهُ
الْآيَةَ الْكُبْرى، فَكَذَّبَ وَعَصى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى،
فَحَشَرَ فَنادى، فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى،
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى، إِنَّ فِي
ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِي آخِرِ مَا
قَبْلَهَا الْإِنْذَارَ بِالْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
أَقْسَمَ فِي هَذِهِ عَلَى الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْمَوْصُوفَاتُ الْمُقْسَمُ بِهَا
مَحْذُوفَاتٍ وَأُقِيمَتْ صِفَاتُهَا مَقَامَهَا، وَكَانَ
لِهَذِهِ الصِّفَاتِ تَعَلُّقَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ اخْتَلَفُوا
فِي الْمُرَادِ بِهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ
عَبَّاسٍ النَّازِعاتِ: الْمَلَائِكَةُ تَنْزِعُ نفوس بني آدم،
وغَرْقاً: إِغْرَاقًا، وَهِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي الفعل،
أو غرقا فِي جَهَنَّمَ، يَعْنِي نُفُوسَ الْكُفَّارِ، قَالَهُ
عَلِيٌّ
وَابْنُ عَبَّاسٍ. وقال الحسن وقتادة وَأَبُو عُبَيْدَةَ
وَابْنُ كَيْسَانَ وَالْأَخْفَشُ: هِيَ النُّجُومُ تَنْزِعُ
مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ:
تَنْزِعُ بِالْمَوْتِ إِلَى رَبِّهَا، وَغَرْقًا: أَيْ
إِغْرَاقًا فِي الصَّدْرِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا:
(10/394)
النُّفُوسُ تَحِنُّ إِلَى أَوْطَانِهَا
وَتَنْزِعُ إِلَى مَذَاهِبِهَا، وَلَهَا نَزْعٌ عِنْدَ
الْمَوْتِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ:
الْقِسِيُّ أَنْفُسُهَا تُنْزَعُ بِالسِّهَامِ. وَقَالَ
عَطَاءٌ أَيْضًا: الْجَمَاعَاتُ النَّازِعَاتُ بِالْقِسِيِّ
وَغَيْرِهَا إِغْرَاقًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَنَايَا
تَنْزِعُ النُّفُوسَ. وَقِيلَ: النَّازِعَاتُ: الْوَحْشُ
تَنْزِعُ إِلَى الْكَلَأِ، حَكَاهُ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ.
وَقِيلَ: جَعَلَ الْغُزَاةَ الَّتِي تَنْزِعُ فِي أَعِنَّتِهَا
نَزْعًا تَغْرَقُ فِيهِ الْأَعِنَّةُ لِطُولِ أَعْنَاقِهَا
لِأَنَّهَا عِرَابٌ، وَالَّتِي تَخْرُجُ مِنْ دَارِ
الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ.
وَالنَّاشِطاتِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ:
الْمَلَائِكَةُ تَنْشَطُ النُّفُوسَ عِنْدَ الْمَوْتِ، أَيْ
تَحُلُّهَا وَتَنْشَطُ بِأَمْرِ اللَّهِ إِلَى حَيْثُ كَانَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وقتادة وَالْحَسَنُ
وَالْأَخْفَشُ:
النُّجُومُ تَنْشَطُ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ، تَذْهَبُ
وَتَسِيرُ بِسُرْعَةٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا:
الْمَنَايَا. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْبَقَرُ الْوَحْشِيَّةُ وَمَا
جَرَى مَجْرَاهَا مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَنْشَطُ مَنْ
قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا:
النُّفُوسُ الْمُؤْمِنَةُ تَنْشَطُ عِنْدَ الْمَوْتِ
لِلْخُرُوجِ. وَقِيلَ: الَّتِي تَنْشَطُ لِلْإِزْهَاقِ.
وَالسَّابِحاتِ،
قَالَ عَلِيٌّ وَمُجَاهِدٌ: الْمَلَائِكَةُ تَتَصَرَّفُ فِي
الْآفَاقِ بِأَمْرِ اللَّهِ، تَجِيءُ وَتَذْهَبُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: النُّجُومُ تَسْبَحُ فِي
الْأَفْلَاكِ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ:
الْخَيْلُ، يُقَالُ لِلْفَرَسِ سَابِحٌ. وَقِيلَ: السَّحَابُ
لِأَنَّهَا كَالْعَائِمَةِ فِي الْهَوَاءِ. وَقِيلَ:
الْحِيتَانُ دَوَابُّ الْبَحْرِ فَمَا دُونَهَا وَذَلِكَ مِنْ
عِظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَيُبْدِي أَنَّهُ تَعَالَى أَمَدَّ
فِي الدُّنْيَا نَوْعًا مِنَ الْحَيَوَانِ، مِنْهَا
أَرْبَعُمِائَةٍ فِي الْبَرِّ وَسِتُّمِائَةٍ فِي الْبَحْرِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا: السُّفُنُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ
أَيْضًا: الْمَنَايَا تَسْبَحُ فِي نُفُوسِ الْحَيَوَانِ.
فَالسَّابِقاتِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَلَائِكَةُ سَبَقَتْ
بَنِي آدَمَ بِالْخَيْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقَالَهُ
أَبُو رَوْقٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنْفُسُ
الْمُؤْمِنِينَ تَسْبِقُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ
يَقْبِضُونَهَا، وَقَدْ عَايَنَتِ السُّرُورَ شَوْقًا إِلَى
لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْخَيْلُ،
وَقِيلَ: النُّجُومُ، وَقِيلَ: الْمَنَايَا تَسْبِقُ
الْآمَالَ. فَالْمُدَبِّراتِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَا
أَحْفَظُ خِلَافًا أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، وَمَعْنَاهُ
أَنَّهَا الَّتِي تُدَبِّرُ الْأُمُورَ الَّتِي سَخَّرَهَا
اللَّهُ تَعَالَى وَصَرَّفَهَا فِيهَا، كَالرِّيَاحِ
وَالسَّحَابِ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ. انْتَهَى. وَقِيلَ:
الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْأَحْوَالِ: جِبْرِيلُ
لِلْوَحْيِ، وَمِيكَائِيلُ لِلْمَطَرِ، وَإِسْرَافِيلُ
لِلنَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَعِزْرَائِيلُ لِقَبْضِ
الْأَرْوَاحِ. وَقِيلَ: تَدْبِيرُهَا: نُزُولُهَا بِالْحَلَالِ
وَالْحَرَامِ. وَقَالَ مُعَاذٌ: هِيَ الْكَوَاكِبُ
السَّبْعَةُ، وَإِضَافَةُ التَّدْبِيرِ إِلَيْهَا مَجَازٌ،
أَيْ يَظْهَرُ تَقَلُّبُ الْأَحْوَالِ عِنْدَ قِرَانِهَا
وَتَرْبِيعِهَا وَتَسْدِيسِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلَفَّقَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ
أَقْوَالًا اخْتَارَهَا وَأَدَارَهَا أَوَّلًا عَلَى
ثَلَاثَةٍ: الْمَلَائِكَةُ أَوِ
(10/395)
الْخَيْلُ أَوِ النُّجُومُ. وَرَتَّبَ
جَمِيعَ الْأَوْصَافِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ،
فَقَالَ: أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِطَوَائِفِ الْمَلَائِكَةِ
الَّتِي هِيَ تَنْزِعُ الْأَرْوَاحَ مِنَ الْأَجْسَادِ،
وَبِالطَّوَائِفِ الَّتِي تُنْشِطُهَا، أَيْ تُخْرِجُهَا مِنْ
نَشَطَ الدَّلْوَ مِنِ الْبِئْرِ إِذَا أَخْرَجَهَا،
وَبِالطَّوَائِفِ الَّتِي تَسْبَحُ فِي مُضِيِّهَا، أَيْ
تُسْرِعُ فَتَسْبِقُ إِلَى مَا أُمِرُوا بِهِ فَتُدَبِّرُ
أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الْعِبَادِ مِمَّا يُصْلِحُهُمْ فِي
دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ كَمَا رُسِمَ لَهُمْ غَرْقًا، أَيْ
إِغْرَاقًا فِي النَّزْعِ، أَيْ تَنْزِعُهَا مِنْ أَقَاصِي
الْأَجْسَادِ مِنْ أَنَامِلِهَا وأظفارها.
أَوْ أَقْسَمَ بِخَيْلِ الْغُزَاةِ الَّتِي تَنْزِعُ فِي
أَعِنَّتِهَا إِلَى آخِرِ مَا نَقَلْنَاهُ ثُمَّ قَالَ: مِنْ
قَوْلِكَ: ثَوْرٌ نَاشِطٌ، إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى
بَلَدٍ، وَالَّتِي تَسْبَحُ فِي جِرْيَتِهَا فَتَسْبِقُ إِلَى
الْغَايَةِ فَتُدَبِّرُ أَمْرَ الْغَلَبَةِ وَالظَّفَرِ،
وَإِسْنَادُ التَّدْبِيرِ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا مِنْ
أَسْبَابِهِ. أَوْ أَقْسَمَ بِالنُّجُومِ الَّتِي تَنْزِعُ
مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَإِغْرَاقُهَا فِي
النَّزْعِ أَنْ تَقْطَعَ الْفَلَكَ كُلَّهُ حَتَّى تَنْحَطَّ
مِنْ أَقْصَى الْمَغْرِبِ، وَالَّتِي تَخْرُجُ مِنْ بُرْجٍ
إِلَى بُرْجٍ، وَالَّتِي تَسْبَحُ فِي الْفَلَكِ مِنَ
السَّيَّارَةِ فَتَسْبِقُ فَتُدَبِّرُ أَمْرًا فِي عِلْمِ
الْحِسَابِ.
وَقِيلَ: النَّازِعَاتُ: أَيْدِي الْغُزَاةِ أَوْ أَنْفُسُهُمْ
تَنْزِعُ الْقِسِيَّ بِإِغْرَاقِ السِّهَامِ وَالَّتِي
تَنْشَطُ الْإِرْهَاقَ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ
مَا عُطِفَ بِالْفَاءِ هُوَ مِنْ وَصْفِ الْمُقْسَمِ بِهِ
قَبْلَ الْفَاءِ، وَأَنَّ المعطوف بالواو هو مُغَايِرٌ لِمَا
قَبْلَهُ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْمُرْسَلَاتِ، عَلَى
أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ المعطوف بالواو مِنْ عَطْفِ
الصِّفَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَالْمُخْتَارُ فِي
جَوَابِ الْقَسَمِ أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا وَتَقْدِيرُهُ:
لَتُبْعَثُنَّ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، قَالَهُ
الْفَرَّاءُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ الْحَكِيمُ
التِّرْمِذِيُّ: الْجَوَابُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً
لِمَنْ يَخْشى، وَالْمَعْنَى فِيمَا اقْتَصَصْتُ مِنْ ذِكْرِ
يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَذَكَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَفِرْعَوْنَ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا قَبِيحٌ
لِأَنَّ الْكَلَامَ قد طال. وقيل: الكلام الَّتِي تَلْقَى
بِهَا الْقَسَمَ مَحْذُوفَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَ تَرْجُفُ
الرَّاجِفَةُ، أَيْ لِيَوْمِ كَذَا، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ،
وَلَمْ تَدْخُلْ نُونُ التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ قَدْ فَصَلَ
بَيْنَ اللَّامِ الْمُقَدَّرَةِ وَالْفِعْلِ وَقَوْلُ أَبِي
حَاتِمٍ هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، كَأَنَّهُ
قَالَ: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ. وَالنَّازِعاتِ، قَالَ
ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: خَطَأٌ لِأَنَّ الْفَاءَ لَا
يُفْتَتَحُ بِهَا الْكَلَامُ. وَقِيلَ:
التَّقْدِيرُ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا
الرَّادِفَةُ، وَالنَّازِعاتِ عَلَى التَّقْدِيمِ
وَالتَّأْخِيرِ أَيْضًا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقِيلَ:
الْجَوَابُ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى، لِأَنَّهُ فِي
تَقْدِيرِ قَدْ أَتَاكَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَهَذَا كُلُّهُ
إِعْرَابُ مَنْ لَمْ يُحْكِمِ الْعَرَبِيَّةَ، وَحَذْفُ
الْجَوَابِ هُوَ الْوَجْهُ، وَيُقَرِّبُ الْقَوْلَ بِحَذْفِ
اللَّامِ مِنْ يَوْمَ تَرْجُفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: هُمَا الصَّيْحَتَانِ،
أَيِ النَّفْخَتَانِ، الْأُولَى تُمِيتُ كُلَّ شَيْءٍ، وَفِي
الثَّانِيَةِ تُحْيِي. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا:
الْوَاجِفَةُ:
(10/396)
الزَّلْزَلَةُ، وَالرَّادِفَةُ:
الصَّيْحَةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْوَاجِفَةُ: الْأَرْضُ،
وَالرَّادِفَةُ: السَّاعَةُ، وَالْعَامِلُ فِي يَوْمَ اذْكُرْ
مُضْمَرَةٌ، أَوْ لَتُبْعَثُنَّ الْمَحْذُوفُ وَالْيَوْمُ
مُتَّسِعٌ تَقَعُ فِيهِ النَّفْخَتَانِ، وَهُمْ يُبْعَثُونَ
فِي بَعْضِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمُتَّسِعِ، وَتَتْبَعُهَا
حَالٌ. قِيلَ: أَوْ مُسْتَأْنَفٌ. وَاجِفَةٌ: مُضْطَرِبَةٌ،
وَوَجِيفُ الْقَلْبِ يَكُونُ مِنَ الْفَزَعِ وَيَكُونُ مِنِ
الْإِشْفَاقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:
إِنَّ بَنِي حَجَبَا وَأُسْرَتَهُمْ ... أَكْبَادُنَا مِنْ
وَرَائِهِمْ تَجِفُ
قُلُوبٌ: مُبْتَدَأٌ، واجِفَةٌ: صِفَةٌ تَعْمَلُ فِي
يَوْمَئِذٍ، أَبْصارُها: أَيْ أَبْصَارُ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ،
خاشِعَةٌ: مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ قُلُوبٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَفْعُ قُلُوبٍ بِالِابْتِدَاءِ،
وَجَازَ ذَلِكَ، وَهِيَ نَكِرَةٌ لِأَنَّهَا قَدْ تَخَصَّصَتْ
بِقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ. انْتَهَى. وَلَا تَتَخَصَّصُ
الْأَجْرَامُ بِظُرُوفِ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا تَخَصَّصَتْ
بِقَوْلِهِ: واجِفَةٌ. يَقُولُونَ:
حِكَايَةُ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى: هم الذين
يقولون. والْحافِرَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى
مُفْعُولَةٍ. وَقِيلَ: عَلَى النَّسَبِ، أَيْ ذَاتُ حَفْرٍ،
وَالْمُرَادُ الْقُبُورُ، أَيْ لَمَرْدُودُونَ أَحْيَاءً فِي
قُبُورِنَا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْحَافِرَةُ:
النَّارُ. وَقِيلَ: جَمْعُ حَافِرَةٍ بِمَعْنَى الْقَدَمِ،
أَيْ أَحْيَاءً نَمْشِي عَلَى أَقْدَامِنَا وَنَطَأُ بِهَا
الْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَيَاةُ الثَّانِيَةُ
هِيَ أَوَّلُ الْأَمْرِ، وَتَقُولُ التُّجَّارُ: النَّقْدُ فِي
الْحَافِرَةِ، أَيْ فِي ابْتِدَاءِ السَّوْمِ. وَقَالَ
الشَّاعِرُ:
آلَيْتُ لَا أَنْسَاكُمْ فَاعْلَمُوا ... حَتَّى تَرِدَ
النَّاسُ فِي الْحَافِرَةِ
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو بَحْرِيَّةَ وَابْنُ أَبِي
عَبْلَةَ: فِي الْحَفِرَةِ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَالْجُمْهُورُ:
بِالْأَلِفِ.
وَقِيلَ: هَمَّا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقِيلَ: هي الأرض المنتنة
الْمُتَغَيِّرَةُ بِأَجْسَادِ مَوْتَاهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ:
حَفِرَتْ أَسْنَانُهُ إِذَا تَآكَلَتْ وَتَغَيَّرَتْ. وَقَرَأَ
عُمَرُ وأبي وَعَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وابن عباس
ومسروق ومجاهد وَالْأَخَوَانِ وَأَبُو بَكْرٍ: نَاخِرَةٌ
بِأَلِفٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو
جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالسُّلَمِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ
وَالنَّخَعِيُّ وقتادة وَابْنُ وَثَّابٍ وَأَيُّوبُ وَأَهْلُ
مَكَّةَ وَشِبْلٌ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِغَيْرِ أَلِفٍ.
قالُوا تِلْكَ إِذاً: أَيِ الرِّدَّةُ إِلَى الْحَافِرَةِ إِنْ
رُدِدْنَا، كَرَّةٌ خاسِرَةٌ: أَيْ قَالُوا ذَلِكَ
لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْغَيْبِ، أَيْ لَوْ كَانَ هَذَا حَقًّا،
لَكَانَتْ رِدَّتُنَا خَاسِرَةً، إِذْ هِيَ إِلَى النَّارِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: خَاسِرَةٌ: كَاذِبَةٌ، أَيْ لَيْسَتْ
بِكَافِيَةٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمُ اسْتِهْزَاءٌ.
وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ قَالَ ذَلِكَ.
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ لما تقدم. يَقُولُونَ
أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ:
تَضَمَّنُ قَوْلُهُمُ اسْتِبْعَادَ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ
وَاسْتِضْعَافَ أَمْرِهَا، فَجَاءَ قَوْلُهُ: فَإِنَّما
مُرَاعَاةً لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْتِبْعَادُهُمْ،
فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَيْسَ بِصَعْبٍ مَا تَقُولُونَ،
فَإِنَّمَا هِيَ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا هُمْ
مَنْشُورُونَ أَحْيَاءٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: السَّاهِرَةُ أَرْضٌ مِنْ فِضَّةٍ يَخْلُقُهَا
اللَّهُ
(10/397)
تَعَالَى. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ:
جَبَلٌ بِالشَّامِ يَمُدُّهُ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ
الْقِيَامَةِ لِحَشْرِ النَّاسِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ
وَسُفْيَانُ: أَرْضٌ قَرِيبَةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْضُ مَكَّةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
جَهَنَّمُ، لِأَنَّهُ لَا نَوْمَ لِمَنْ فِيهَا. رَأَى أَنَّ
الضَّمَائِرَ قَبْلَهَا إِنَّمَا هِيَ لِلْكُفَّارِ
فَفَسَّرَهَا بِجَهَنَّمَ. وَقِيلَ:
الْأَرْضُ السَّابِعَةُ يَأْتِي بِهَا اللَّهُ يُحَاسِبُ
عَلَيْهَا الْخَلَائِقَ.
وَلَمَّا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَتَمَرَّدُوا، شَقَّ ذَلِكَ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَصَّ تَعَالَى عَلَيْهِ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَتَمَرُّدَ فِرْعَوْنَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ حَتَّى ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَمَا آلَ إِلَيْهِ
حَالُ مُوسَى مِنَ النَّجَاةِ، وَحَالُ فِرْعَوْنَ مِنَ
الْهَلَاكِ، فَكَانَ ذَلِكَ مسلاة لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عليه وسلم وَتَبْشِيرًا بِهَلَاكِ مَنْ يُكَذِّبُهُ،
وَنَجَاتِهِ هُوَ مِنْ أَذَاهُمْ. فَقَالَ تَعَالَى: هَلْ
أَتاكَ، توفيقا لَهُ عَلَى جَمْعِ النَّفْسِ لِمَا يُلْقِيهِ
إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْوَادِي الْمُقَدَّسِ،
وَالْخِلَافُ فِي الْقِرَاءَاتِ فِي طُوىً. اذْهَبْ إِلى
فِرْعَوْنَ: تَفْسِيرٌ لِلنِّدَاءِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ
الْقَوْلِ، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى: لُطْفٌ فِي
الِاسْتِدْعَاءِ لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يُجِيبُ مِثْلَ هَذَا
السُّؤَالِ بِنَعَمْ، وَتَزَكَّى:
تَتَحَلَّى بِالْفَضَائِلِ وَتَتَطَهَّرُ مِنَ الرَّذَائِلِ،
وَالزَّكَاةُ هُنَا يَنْدَرِجُ فِيهَا الْإِسْلَامُ
وَتَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو: بِخِلَافٍ
تَزَّكَّى وَتَصَّدَّى، بِشَدِّ الزَّايِ وَالصَّادِ وَبَاقِي
السَّبْعَةِ:
بِخَفِّهَا. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: هَلْ لَكَ فِي كَذَا، أو هل
لك إِلَى كَذَا؟ فَيَحْذِفُونَ الْقَيْدَ الَّذِي تَتَعَلَّقُ
بِهِ إِلَى، أَيْ هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ أَوْ حَاجَةٌ إِلَى
كَذَا؟ أَوْ سَبِيلٌ إِلَى كَذَا؟ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَهَلْ لَكُمْ فِيهَا إِلَيَّ فَإِنَّنِي ... بَصِيرٌ بما أعيا
النطاسي خديما
وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى: هَذَا تَفْسِيرٌ
لِلتَّزْكِيَةِ، وَهِيَ الْهِدَايَةُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ
تَعَالَى وَمَعْرِفَتِهِ، فَتَخْشى: أَيْ تَخَافُهُ، لِأَنَّ
الْخَشْيَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ، إِنَّما
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «1» . وَذَكَرَ
الْخَشْيَةَ لِأَنَّهَا مِلَاكُ الْأَمْرِ، وَفِي الْكَلَامِ
حَذْفٌ، أَيْ فَذَهَبَ وَقَالَ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ
رَبُّهُ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْمُعْجِزَةِ الدَّالَّةِ عَلَى
صِدْقِهِ. فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى:
وَهِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ، جَعَلَهُمَا وَاحِدَةً، لِأَنَّ
الْيَدَ كَأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْعَصَا لِكَوْنِهَا
تَابِعَةً لَهَا، أَوِ الْعَصَا وَحْدَهَا لِأَنَّهَا كَانَتِ
الْمُقَدِّمَةَ وَالْأَصْلَ، وَالْيَدُ تَبَعٌ لَهَا،
لِأَنَّهُ كَانَ يَتَّقِيهَا بِيَدِهِ. وَقِيلَ لَهُ أَدْخِلْ
يَدَكَ فِي جَيْبِكَ «2» . فَكَذَّبَ: أَيْ فِرْعَوْنُ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا أَتَى بِهِ مِنَ الْمُعْجِزِ،
وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ السِّحْرِ، وَعَصى الله تعالى بعد
ما عَلِمَ صِحَّةَ مَا أَتَى بِهِ مُوسَى، وَإِنَّمَا أُوهِمَ
أَنَّهُ سِحْرٌ. ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى، قِيلَ: أَدْبَرَ
حَقِيقَةً، أَيْ قَامَ مِنْ مَكَانِهِ فارا
__________
(1) سورة فاطر: 35/ 28.
(2) سورة النمل: 27/ 12.
(10/398)
بِنَفْسِهِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ
كِنَايَةٌ عَنْ إِعْرَاضِهِ عَنِ الْإِيمَانِ. يَسْعى:
يَجْتَهِدُ فِي مكابدة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَحَشَرَ:
أَيْ جَمَعَ السَّحَرَةَ وَأَرْبَابَ دَوْلَتِهِ، فَنادى: أَيْ
قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، أَوْ فَنَادَى فِي الْمَقَامِ الَّذِي
اجْتَمَعُوا فِيهِ مَعَهُ. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى،
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُ فِرْعَوْنَ ذَلِكَ نِهَايَةٌ
فِي الْمَخْرَقَةِ، وَنَحْوُهَا بَاقٍ فِي مُلُوكِ مِصْرَ
وَأَتْبَاعِهِمْ. انْتَهَى.
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَلِكَ مِصْرَ فِي زَمَانِهِ
كَانَ إِسْمَاعِيلِيًّا، وَهُوَ مَذْهَبٌ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ
إِلَهِيَّةَ مُلُوكِهِمْ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ مَلَكَهَا
مِنْهُمُ الْمُعِزُّ بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد
الله، ولا هم الْعَاضِدُ وَطَهَّرَ اللَّهُ مِصْرَ مِنْ هَذَا
الْمَذْهَبِ الْمَلْعُونِ بِظُهُورِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ
صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ سَادِي، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى وَجَزَاهُ عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا.
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: الْآخِرَةُ قَوْلُهُ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ
إِلهٍ غَيْرِي «1» ، وَالْأُولَى قَوْلُهُ: أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلى. وَقِيلَ الْعَكْسُ، وَكَانَ بَيْنَ قَوْلَتَيْهِ
أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ:
نَكَالَ الْآخِرَةِ بِالْحَرْقِ، وَالْأُولَى يَعْنِي
الدُّنْيَا بِالْغَرَقِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَذَابُ آخِرَةِ حَيَاتِهِ وَأُولَاهَا.
وَقَالَ أَبُو زرين: الْأُولَى كُفْرُهُ وَعِصْيَانُهُ،
وَالْآخِرَةُ قَوْلُهُ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ عِبَارَةٌ عَنْ أَوَّلِ مَعَاصِيهِ، وَآخِرِهَا:
أَيْ نَكَّلَ بِالْجَمِيعِ، وَانْتَصَبَ نَكَالَ عَلَى
الْمَصْدَرِ وَالْعَامِلُ فِيهِ فَأَخَذَهُ لِأَنَّهُ فِي
مَعْنَاهُ وَعَلَى رَأْيِ الْمُبَرِّدِ: بِإِضْمَارِ فِعْلٍ
مِنْ لَفْظِهِ، أَيْ نكل نكال، وَالنَّكَالُ بِمَعْنَى
التَّنْكِيلِ، كَالسَّلَامِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: نَكالَ الْآخِرَةِ هُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ،
كَ وَعَدَ اللَّهُ «2» ، وصِبْغَةَ اللَّهِ «3» ، كَأَنَّهُ
قِيلَ: نَكَّلَ اللَّهُ بِهِ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى.
انْتَهَى. وَالْمَصْدَرُ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ
السَّابِقَةِ يُقَدَّرُ لَهُ عَامِلٌ مِنْ مَعْنَى
الْجُمْلَةِ. إِنَّ فِي ذلِكَ: فِيمَا جَرَى لِفِرْعَوْنَ
وَأَخْذِهِ تِلْكَ الْأَخْذَةَ، لَعِبْرَةً: لِعِظَةً، لِمَنْ
يَخْشى: أَيْ لِمَنْ يَخَافُ عُقُوبَةَ اللَّهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَفِي الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ
السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها، وَأَغْطَشَ
لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها،
أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها، وَالْجِبالَ أَرْساها،
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ، فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ
الْكُبْرى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى،
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى، فَأَمَّا مَنْ طَغى،
وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ
الْمَأْوى، وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى
النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى،
يَسْئَلُونَكَ عَنِ
__________
(1) سورة القصص: 28/ 38.
(2) سورة النساء: 4/ 122، وسورة يونس: 10/ 4.
(3) سورة البقرة: 2/ 138.
(10/399)
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، فِيمَ
أَنْتَ مِنْ ذِكْراها، إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها، إِنَّما
أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها
لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها.
الْخِطَابُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ، والمقصود الكفار منكر
والبعث، وَقَفَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى.
أَشَدُّ خَلْقاً: أَيْ أَصْعَبُ إنشاء، أَمِ السَّماءُ،
فالمسؤول عَنْ هَذَا يُجِيبُ وَلَا بُدَّ السَّمَاءُ، لِمَا
يَرَى مِنْ دَيْمُومَةِ بَقَائِهَا وَعَدَمِ تَأْثِيرِهَا.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ خَلْقِهَا. رَفَعَ
سَمْكَها: أَيْ جَعَلَ مِقْدَارَهَا بِهَا فِي الْعُلُوِّ
مَدِيدًا رَفِيعًا مِقْدَارَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ،
وَالسَّمْكُ: الِارْتِفَاعُ الَّذِي بَيْنَ سَطْحِ السَّمَاءِ
الَّتِي تَلِيهَا وَسَطْحِهَا الْأَعْلَى الَّذِي يَلِي مَا
فَوْقَهَا، فَسَوَّاها: أَيْ جَعَلَهَا مَلْسَاءَ
مُسْتَوِيَةً، لَيْسَ فِيهَا مُرْتَفِعٌ وَلَا مُنْخَفِضٌ،
أَوْ تَمَّمَهَا وَأَتْقَنَ إِنْشَاءَهَا بِحَيْثُ إِنَّهَا
مُحْكَمَةُ الصَّنْعَةِ. وَأَغْطَشَ: أَيْ أَظْلَمَ، لَيْلَها.
وَأَخْرَجَ: أَبْرَزَ ضَوْءَ شَمْسِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالشَّمْسِ وَضُحاها «1» ، وَقَوْلِهِمْ: وَقْتُ الضُّحَى:
الْوَقْتُ الَّذِي تُشْرِقُ فِيهِ الشَّمْسُ. وَأُضِيفَ
اللَّيْلُ وَالضُّحَى إِلَى السَّمَاءِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ
ظِلُّهَا، وَالضُّحَى هُوَ نُورُ سِرَاجِهَا.
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ: أَيْ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ
وَمَا فَعَلَ فِيهَا، دَحاها: أَيْ بَسَطَهَا، فَخَلَقَ
الْأَرْضَ ثُمَّ السَّمَاءَ ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ: وَالْأَرْضَ، وَالْجِبالَ بِنَصْبِهِمَا
وَالْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَابْنُ
أَبِي عَبْلَةَ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِرَفْعِهِمَا وَعِيسَى:
بِرَفْعِ الْأَرْضِ. وَأُضِيفَ الْمَاءُ وَالْمَرْعَى إِلَى
الْأَرْضِ لِأَنَّهُمَا يَظْهَرَانِ مِنْهَا.
وَالْجُمْهُورُ: مَتاعاً بِالنَّصْبِ، أَيْ فَعَلَ ذلك تمتيعا
لَكُمْ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالرَّفْعِ، أَيْ ذَلِكَ
مَتَاعٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا
أَدْخَلَ حَرْفَ الْعَطْفِ عَلَى أَخْرَجَ؟ قُلْتُ: فِيهِ
وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى دَحاها:
بَسَطَهَا وَمَهَّدَهَا لِلسُّكْنَى، ثُمَّ فَسَّرَ
التَّمْهِيدَ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَأَتِّي سُكْنَاهَا
مِنْ تَسْوِيَةِ أَمْرِ الْمَأْكَلِ وَالْمُشْرَبِ وَإِمْكَانِ
الْقَرَارِ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ أَخْرَجَ حَالًا بِإِضْمَارِ قَدْ، كَقَوْلِهِ:
أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ «2» . انْتَهَى.
وَإِضْمَارُ قَدْ قَوْلٌ لِلْبَصْرِيِّينَ وَمَذْهَبُ
الْكُوفِيِّينَ. وَالْأَخْفَشِ: أَنَّ الْمَاضِيَ يَقَعُ
حَالًا، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ قَدْ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ. فَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَقَعَ ذَلِكَ كَثِيرًا.
انْتَهَى. وَمَرْعاها:
مَفْعَلٌ مِنَ الرَّعْيِ، فَيَكُونُ مَكَانًا وَزَمَانًا
وَمَصْدَرًا، وَهُوَ هُنَا مَصْدَرٌ يُرَادُ بِهِ اسْمُ
الْمَفْعُولِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَرْعِيَّهَا: أَيِ
النَّبَاتُ الَّذِي يُرْعَى. وَقَدَّمَ الْمَاءَ عَلَى
الْمَرْعَى لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي وُجُودِ الْمَرْعَى، وَشَمِلَ
وَمَرْعاها مَا يَتَقَوَّتُ بِهِ الْآدَمِيُّ وَالْحَيَوَانُ
غَيْرُهُ، فَهُوَ في حق الآدمي
__________
(1) سورة الشمس: 91/ 1.
(2) سورة النساء: 4/ 90. [.....]
(10/400)
اسْتِعَارَةٌ، وَلِهَذَا قِيلَ: دَلَّ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِذِكْرِ الْمَاءِ
وَالْمَرْعَى عَلَى عَامَّةِ مَا يُرْتَفَقُ بِهِ
وَيُتَمَتَّعُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ حَتَّى
الْمِلْحِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمَاءِ.
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالضَّحَّاكُ: الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا
وَالْحَسَنُ: النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ. وَقَالَ الْقَاسِمُ:
وَقْتُ سَوْقِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَيْهَا، وَأَهْلِ النَّارِ
إِلَيْهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ. يَوْمَ
يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى: أَيْ عَمَلَهُ الَّذِي
كَانَ سَعَى فِيهِ فِي الدُّنْيَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَبُرِّزَتِ مبني لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدَ الرَّاءِ، لِمَنْ
يَرى بِيَاءِ الْغَيْبَةِ:
أَيْ لِكُلِّ أَحَدٍ، فَيَشْكُرُ الْمُؤْمِنُ نِعْمَةَ
اللَّهِ. وَقِيلَ: لِمَنْ يَرى هُوَ الْكَافِرُ وَعَائِشَةُ
وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعِكْرِمَةُ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ:
مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مُخَفَّفًا وَبِتَاءٍ، يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ خِطَابًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَيْ لِمَنْ تَرَى مِنْ أهلها، وأن يكون إخبار عَنِ
الْجَحِيمِ، فَهِيَ تَاءُ التَّأْنِيثِ. قَالَ تَعَالَى: إِذا
رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ «1» . وَقَالَ أَبُو نَهِيكٍ
وَأَبُو السَّمَّالِ وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو:
وَبَرَزَتْ مَبْنِيًّا وَمُخَفَّفًا، ويَوْمَ يَتَذَكَّرُ:
بَدَلٌ مِنْ فَإِذا وَجَوَابُ إِذَا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
فَإِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ. وَقِيلَ: عَايَنُوا وَعَلِمُوا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: انقسم الراؤول
قِسْمَيْنِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ: فَأَمَّا
وَمَا بَعْدَهُ، كَمَا تَقُولُ: إِذَا جَاءَكَ بَنُو تَمِيمٍ،
فَأَمَّا الْعَاصِي فَأَهِنْهُ، وَأَمَّا الطَّائِعُ
فَأَكْرِمْهُ.
طَغى: تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي عِصْيَانِهِ، وَآثَرَ الْحَياةَ
الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ، وَهِيَ مُبْتَدَأٌ أَوْ فَصْلٌ.
وَالْعَائِدُ عَلَى مَنْ مِنَ الْخَبَرِ مَحْذُوفٌ عَلَى
رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ، أَيِ الْمَأْوَى لَهُ، وَحَسَّنَ
حَذْفَهُ وُقُوعُ الْمَأْوَى فَاصِلَةً. وَأَمَّا
الْكُوفِيُّونَ فَمَذْهَبُهُمْ أَنَّ أَلْ عِوَضٌ مِنَ
الضَّمِيرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى فَإِنَّ
الْجَحِيمَ مَأْوَاهُ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: غُضَّ
الطَّرْفَ، تُرِيدُ طَرْفَكَ وَلَيْسَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ
بَدَلًا مِنِ الْإِضَافَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا عُلِمَ أَنَّ
الطَّاغِيَ هُوَ صَاحِبُ الْمَأْوَى، وَأَنَّهُ لَا يَغُضُّ
الرَّجُلُ طَرْفَ غَيْرِهِ، تُرِكَتِ الْإِضَافَةُ. وَدُخُولُ
حَرْفِ التَّعْرِيفِ فِي الْمَأْوَى، وَالطَّرْفِ
لِلتَّحْرِيفِ لِأَنَّهُمَا مُعَرَّفَانِ. انْتَهَى. وَهُوَ
كَلَامٌ لَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ الرَّابِطُ الْعَائِدُ عَلَى
الْمُبْتَدَأِ، إِذْ قَدْ نَفَى مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ،
وَلَمْ يُقَدِّرْ ضَمِيرًا مَحْذُوفًا، كَمَا قَدَّرَهُ
الْبَصْرِيُّونَ، فَرَامَ حُصُولَ الرَّبْطِ بِلَا رَابِطٍ.
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ: أَيْ مَقَامًا بَيْنَ
يَدَيْ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْجَزَاءِ وَفِي
إِضَافَةِ الْمَقَامِ إِلَى الرَّبِّ تَفْخِيمٌ لِلْمَقَامِ
وَتَهْوِيلٌ عَظِيمٌ وَاقِعٌ مِنَ النُّفُوسِ مَوْقِعًا عظيما.
قال ابن
__________
(1) سورة الفرقان: 25/ 12.
(10/401)
عباس: خافه عند ما هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ
فَانْتَهَى عَنْهَا. وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى: أَيْ
عَنْ شَهَوَاتِ النَّفْسِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ الْهَوَى
فِيمَا لَيْسَ بِمَحْمُودٍ. قَالَ سَهْلٌ: لَا يَسْلَمُ مِنَ
الْهَوَى إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ وَبَعْضُ الصِّدِّيقِينَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إِذَا أَرَدْتَ الصَّوَابَ
فَانْظُرْ هَوَاكَ فَخَالِفْهُ. وَقَالَ عِمْرَانُ
الْمِيرِتْلِيُّ:
فَخَالِفْ هَوَاهَا وَاعْصِهَا إِنَّ مَنْ يُطِعْ ... هَوَى
نَفْسِهِ تَنْزِعُ بِهِ كُلَّ مَنْزَعِ
وَمَنْ يُطِعِ النَّفْسَ اللَّجُوجَةَ تَرُدُّهُ ... وَتَرْمِ
بِهِ فِي مَصْرَعٍ أَيَّ مَصْرَعِ
وَقَالَ الْفُضَيْلُ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ خِلَافُ الْهَوَى،
وَهَذَا التَّفْضِيلُ هُوَ عَامٌّ فِي أَهْلُ الْجَنَّةِ
وَأَهْلُ النَّارِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَ ذَلِكَ فِي
أَبِي جَهْلٍ وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيِّ، رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وَعَنْهُ أَيْضًا: فَأَمَّا مَنْ طَغى، فَهُوَ أَخٌ لِمُصْعَبِ
بْنِ عُمَيْرٍ، أُسِرَ فَلَمْ يَشُدُّوا وَثَاقَهُ،
وَأَكْرَمُوهُ وَبَيَّتُوهُ عِنْدَهُمْ فَلَمَّا أَصْبَحُوا
حَدَّثُوا مُصْعَبًا، فَقَالَ: مَا هُوَ لِي بِأَخٍ، شُدُّوا
أَسِيرَكُمْ، فَإِنَّ أُمَّهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْبَطْحَاءِ
حُلِيًّا وَمَالًا فَأَوْثَقُوهُ. وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ فَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَقَى رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بِنَفْسِهِ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ
تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ حَتَّى نَفَذَتِ الْمَشَاقِصُ فِي
جَوْفِهِ، وَهِيَ السِّهَامُ. فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى الله عليه وسلّم مُتَشَحِّطًا فِي دَمِهِ قَالَ:
«عِنْدَ اللَّهِ أَحْتَسِبُكَ» ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ:
«لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ مَا تُعْرَفُ
قِيمَتُهُمَا، وَإِنَّ شِرَاكَ نَعْلِهِ مِنْ ذَهَبٍ» . قِيلَ:
وَاسْمُ أَخِيهِ عَامِرٌ.
وَفِي الْكَشَّافِ،
وَقِيلَ: الْآيَتَانِ نَزَلَتَا فِي أَبِي عزيز بْنِ عُمَيْرٍ
وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَقَدْ قَتَلَ مُصْعَبٌ أخاه أبا
عزيز يَوْمَ أُحُدٍ، وَوَقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلّم بِنَفْسِهِ حَتَّى نَفَذَتِ الْمَشَاقِصُ في
جوفه.
انتهى.
يَسْئَلُونَكَ: أَيْ قُرَيْشٌ، وَكَانُوا يُلِحُّونَ فِي
الْبَحْثِ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ، إِذْ كَانَ يَتَوَعَّدُهُمْ
بِهَا وَيُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
أَيَّانَ مُرْساها: مَتَى إِقَامَتُهَا؟ أَيْ متى يقيهما
اللَّهُ وَيُثْبِتُهَا وَيُكَوِّنُهَا؟ وَقِيلَ: أَيَّانَ
مُنْتَهَاهَا وَمُسْتَقَرُّهَا؟ كَمَا أَنَّ مَرْسَى
السَّفِينَةِ وَمُسْتَقَرَّهَا حَيْثُ تَنْتَهِي إِلَيْهِ.
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها،
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ
عَنِ السَّاعَةِ كَثِيرًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
انْتَهَى. وَالْمَعْنَى: فِي أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ مِنْ ذِكْرِ
تَحْدِيدِهَا وَوَقْتِهَا؟ أَيْ لَسْتَ مِنْ ذَلِكَ فِي
شَيْءٍ، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ.
إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها: أَيِ انْتِهَاءُ عِلْمِ وَقْتِهَا،
لَمْ يُؤْتَ علم ذلك أحدا مِنْ خَلْقِهِ. وَقِيلَ:
فِيمَ إِنْكَارٌ لِسُؤَالِهِمْ، أَيْ فِيمَ هَذَا السُّؤَالُ؟
ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ مِنْ ذِكْراها، وَعَلَامَةٌ مِنْ
عَلَامَاتِهَا، فَكَفَاهُمْ بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى
دُنُوِّهَا وَمُشَارَفَتِهَا وَوُجُوبِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا،
وَلَا مَعْنَى لِسُؤَالِهِمْ عَنْهَا.
(10/402)
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها:
أَيْ لَمْ تُبْعَثْ لِتُعْلِمَهُمْ بِوَقْتِ السَّاعَةِ
الَّذِي لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ، وَإِنَّمَا
بُعِثْتَ لِتُنْذِرَ مِنْ أَهْوَالِهَا مَنْ يَكُونُ
إِنْذَارُكَ لُطْفًا بِهِ فِي الْخَشْيَةِ مِنْهَا.
انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ
وَزَمَّكَهُ بِكَثْرَةِ أَلْفَاظِهِ، وَهُوَ تَفْكِيكٌ
لِلْكَلَامِ وَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ إِلَى
الْفَهْمِ، وَلَمْ يُخْلِهِ مِنْ دَسِيسَةِ الِاعْتِزَالِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُنْذِرُ مَنْ بِالْإِضَافَةِ.
وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو جَعْفَرٍ
وَشَيْبَةُ وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ وَابْنُ هُرْمُزَ وَعِيسَى
وَطَلْحَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو عُمَرَ فِي رِوَايَةٍ
وَابْنُ مِقْسَمٍ: مُنْذِرٌ بالتنوين. وقال الزمخشري:
وقرىء مُنْذِرٌ بِالتَّنْوِينِ، وَهُوَ الْأَصْلُ
وَالْإِضَافَةُ تَخْفِيفٌ، وَكِلَاهُمَا يَصْلُحُ لِلْحَالِ
وَالِاسْتِقْبَالِ فَإِذَا أُرِيدَ الْمَاضِي، فَلَيْسَ إِلَّا
الْإِضَافَةُ، كَقَوْلِكَ: هُوَ مُنْذِرُ زَيْدٍ أَمْسَ.
انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُهُ وَهُوَ الْأَصْلُ، يَعْنِي
التَّنْوِينَ، فَهُوَ قَوْلٌ قَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ
تَقَدَّمَ. وَقَدْ قَرَّرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَفِيمَا
كَتَبْنَاهُ فِي هَذَا الْعِلْمِ أَنَّ الْأَصْلَ
الْإِضَافَةُ، لِأَنَّ الْعَمَلَ إِنَّمَا هُوَ بِالشَّبَهِ،
وَالْإِضَافَةُ هِيَ أَصْلٌ فِي الْأَسْمَاءِ. وَأَمَّا
قَوْلُهُ: فَإِذَا أُرِيدَ الْمَاضِي، فَلَيْسَ إِلَّا
الْإِضَافَةُ، فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ مَذْكُورٌ
فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَخَصَّ مَنْ يَخْشاها لِأَنَّهُ هُوَ
الْمُنْتَفِعُ بِالْإِنْذَارِ. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها:
تَقْرِيبٌ وَتَقْرِيرٌ لِقِصَرِ مُقَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
لَمْ يَلْبَثُوا: لَمْ يُقِيمُوا فِي الدُّنْيَا، إِلَّا
عَشِيَّةً: يَوْمٌ أَوْ بُكْرَتُهُ، وَأَضَافَ الضُّحَى إِلَى
الْعَشِيَّةِ لِكَوْنِهَا طَرَفَيِ النَّهَارِ. بَدَأَ
بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا، فَأَضَافَ الْآخَرَ إِلَيْهِ تَجَوُّزًا
وَاتِّسَاعًا، وَحَسَّنَ الْإِضَافَةَ كَوْنُ الْكَلِمَةِ
فَاصِلَةً، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(10/403)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)
أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ
يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا
عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى
(8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا
إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي
صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ
الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
(18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ
السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا
أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا
الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27)
وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29)
وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا
لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ
(33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ
وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)
أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
سورة عبس
[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 42]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما
يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ
فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما
عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى
(8) وَهُوَ يَخْشى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11)
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)
مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ
الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
(18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ
(21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ
مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ
(24)
أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا
الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27)
وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29)
وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً
لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها
قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
تَصَدَّى: تَعَرَّضَ، قَالَ الرَّاعِي:
تَصَدَّى لِوَضَّاحٍ كَأَنَّ جبينه ... سراج الدجى يجيء
إِلَيْهِ الْأَسَاوِرُ
وَأَصْلُهُ: تَصَدَّدَ مِنَ الصَّدَدِ، وَهُوَ مَا
اسْتَقْبَلَكَ وَصَارَ قُبَالَتَكَ، يُقَالُ: دَارِي صَدَدُ
دَارِهِ:
أَيْ قُبَالَتُهَا. وَقِيلَ: مِنَ الصَّدَى، وَهُوَ الْعَطَشُ.
وَقِيلَ: مِنَ الصَّدَى، وَهُوَ الصَّوْتُ الَّذِي
(10/404)
تَسْمَعُهُ إِذَا تَكَلَّمْتَ مِنْ بُعْدٍ
فِي خَلَاءٍ كَالْجَبَلِ، وَالْمُصَادَاةُ: الْمُعَارَضَةُ.
السَّفَرَةُ: الْكَتَبَةُ، الْوَاحِدُ سَافِرٌ، وَسَفَرَتِ
الْمَرْأَةُ: كَشَفَتِ النِّقَابَ، وَسَفَرْتُ بَيْنَ
الْقَوْمِ أَسْفِرُ سِفَارَةً: أَصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ، قَالَهُ
الْفَرَّاءُ، الْوَاحِدُ سَفِيرٌ، وَالْجَمْعُ سُفَرَاءُ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
فَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمِي ... وَمَا أَسْعَى
بِغِشٍّ إِنْ مَشَيْتُ
الْقَضْبُ، قَالَ الْخَلِيلُ، الْفَصْفَصَةُ الرَّطْبَةُ،
وَيُقَالُ بِالسِّينِ، فَإِذَا يَبِسَتْ فَهِيَ الْقَتُّ.
قَالَ: وَالْقَضْبُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَا يَقَعُ مِنَ
أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ لِيُتَّخَذَ مِنْهَا سِهَامٌ أَوْ
قِسِيٌّ. الْغُلْبُ جَمْعُ غَلْبَاءَ، يُقَالُ: حَدِيقَةٌ
غَلْبَاءُ: غَلِيظَةُ الشَّجَرِ مُلْتَفَّةٌ، وَاغْلَوْلَبَ
الْعُشْبُ: بَلَغَ وَالْتَفَّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَرَجُلٌ
أَغْلَبُ: غَلِيظُ الرَّقَبَةِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا
الْوَصْفِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الرِّقَابِ، وَمِنْهُ قَوْلُ
عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ:
يَسْعَى بِهَا غُلْبُ الرِّقَابِ كَأَنَّهُمْ ... بُزْلٌ
كُسِينَ مِنَ الشُّعُورِ جِلَالَا
الْأَبُّ: الْمَرْعَى لِأَنَّهُ يُؤَبُّ، أَيْ يُؤَمُّ
وَيُنْتَجَعُ، وَالْأَبُّ وَالْأُمُّ أَخَوَانِ. قَالَ
الشَّاعِرُ:
جِذْمُنَا قَيْسٌ وَنَجْدٌ دَارُنَا ... وَلَنَا الْأَبُّ بِهِ
وَالْمَكْرَعُ
وَقِيلَ: مَا يَأْكُلُهُ الْآدَمِيُّونَ مِنَ النبات يسمى
الخصيد، وَمَا أَكَلَهُ غَيْرُهُمْ يُسَمَّى الْأَبَّ،
وَمِنْهُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَهُ دَعْوَةٌ مَيْمُونَةٌ رِيحُهَا الصَّبَا ... بِهَا
يُنْبِتُ اللَّهُ الْحَصِيدَةَ وَالْأَبَّا
الصَّاخَّةُ، قَالَ الْخَلِيلُ: صَيْحَةٌ تَصُخُّ الْآذَانَ
صَخًّا، أَيْ تَصُمُّهَا لِشِدَّةِ وَقْعَتِهَا. وَقِيلَ:
مَأْخُوذَةٌ مِنْ صَخَّهُ بِالْحَجَرِ إِذَا صَكَّهُ. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصَاخَ لِحَدِيثِهِ مِثْلَ أَصَاخَ لَهُ.
الْغَبَرَةُ: الْغُبَارُ. الْقَتَرَةُ: سَوَادٌ كَالدُّخَانِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْقَتَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ:
الْغُبَارُ، جَمْعُ الْقَتَرَةِ. وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
مُتَوَّجٌ بِرِدَاءِ الْمُلْكِ يَتْبَعُهُ ... فَوْجٌ تَرَى
فَوْقَهُ الرَّايَاتِ وَالْقَتَرَا
عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى، وَما يُدْرِيكَ
لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى،
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَما عَلَيْكَ
أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى، وَهُوَ
يَخْشى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ،
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ
مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ، قُتِلَ
الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، مِنْ
نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ،
ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ،
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ، فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ
إِلى طَعامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا، ثُمَّ
شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا،
وَعِنَباً
(10/405)
وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا،
وَحَدائِقَ غُلْباً، وَفاكِهَةً وَأَبًّا، مَتاعاً لَكُمْ
وَلِأَنْعامِكُمْ، فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ، يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ
وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ
يُغْنِيهِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ
مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ،
تَرْهَقُها قَتَرَةٌ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَجِيءُ
ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَيْهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ
التَّفْسِيرِ قِصَّتَهُ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا:
أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها
«1» ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ مَنْ يَنْفَعُهُ الْإِنْذَارُ وَمَنْ
لَمْ يَنْفَعْهُ الْإِنْذَارُ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاجِيهِمْ فِي
أَمْرِ الْإِسْلَامِ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وأبو جهل وأبي
وَأُمَيَّةُ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
أَنْ جاءَهُ: مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ لِأَنْ جَاءَهُ،
وَيَتَعَلَّقُ بتولي عَلَى مُخْتَارِ الْبَصْرِيِّينَ فِي
الأعمال، وبعبس عَلَى مُخْتَارِ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ عَبَسَ مُخَفَّفًا، أَنْ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ
وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِشَدِّ الْبَاءِ وَهُوَ وَالْحَسَنُ
وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ وَعِيسَى: أَآنْ بِهَمْزَةٍ
وَمَدَّةٍ بَعْدَهَا وَبَعْضُ الْقُرَّاءِ: بِهَمْزَتَيْنِ
مُحَقَّقَتَيْنِ، وَالْهَمْزَةُ فِي هَاتَيْنِ
الْقِرَاءَتَيْنِ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَفِيهِمَا يَقِفُ عَلَى
تَوَلَّى. وَالْمَعْنَى: أَلِأَنْ جَاءَهُ كَادَ كَذَا.
وَجَاءَ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي عَبَسَ وَتَوَلَّى
إِجْلَالًا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلُطْفًا
بِهِ أَنْ يُخَاطِبَهُ لِمَا فِي الْمُشَافَهَةِ بِتَاءِ
الْخِطَابِ مِمَّا لَا يَخْفَى. وَجَاءَ لَفْظُ الْأَعْمى
إِشْعَارًا بِمَا يُنَاسِبُ مِنَ الرِّفْقِ بِهِ وَالصَّغْوِ
لِمَا يَقْصِدُهُ، وَلِابْنِ عَطِيَّةَ هُنَا كَلَامٌ
أَضْرَبْتُ عَنْهُ صَفْحًا. وَالضَّمِيرُ فِي لَعَلَّهُ
عَائِدٌ عَلَى الْأَعْمى، أَيْ يَتَطَهَّرُ بِمَا يَتَلَقَّنُ
مِنِ الْعِلْمِ، أَوْ يَذَّكَّرُ: أَيْ يَتَّعِظُ،
فَتَنْفَعَهُ ذِكْرَاكَ، أي موعظتك. والظاهر مصب يُدْرِيكَ
عَلَى جُمْلَةِ التَّرَجِّي، فَالْمَعْنَى: لَا تَدْرِي مَا
هُوَ مُتَرَجًّى مِنْهُ مِنْ تَزَكٍّ أَوْ تَذَكُّرٍ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى وَمَا يُطْلِعُكَ عَلَى أَمْرِهِ وَعُقْبَى
حَالِهِ.
ثُمَّ ابْتَدَأَ الْقَوْلَ: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى: أَيْ تَنْمُو
بَرَكَتُهُ وَيَتَطَهَّرُ لِلَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَقِيلَ:
الضَّمِيرُ فِي لَعَلَّهُ لِلْكَافِرِ، يَعْنِي أَنَّكَ
طَمِعْتَ فِي أَنْ يَتَزَكَّى بِالْإِسْلَامِ. أَوْ يَذَّكَرَ
فَتُقَرِّبَهُ الذِّكْرَى إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ، وَمَا
يُدْرِيكَ أَنَّ مَا طَمِعَتْ فِيهِ كَائِنٌ. انْتَهَى.
وَهَذَا قَوْلٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ يَذَّكَّرُ بِشَدِّ الذَّالِ
وَالْكَافِ، وَأَصْلُهُ يَتَذَكَّرُ فَأُدْغِمَ وَالْأَعْرَجُ
وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةٍ: أَوْ يَذْكُرُ، بِسُكُونِ الذَّالِ
وَضَمِّ الْكَافِ. وقرأ الجمهور:
__________
(1) سورة النازعات: 79/ 45.
(10/406)
فَتَنْفَعَهُ، بِرَفْعِ الْعَيْنِ عَطْفًا
عَلَى أَوْ يَذَّكَّرُ وَعَاصِمٌ فِي الْمَشْهُورِ،
وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ
والزعفرني: بِنَصْبِهِمَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي جَوَابِ
التَّمَنِّي، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ يَذَّكَّرُ فِي حُكْمِ
قَوْلِهِ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ
تَمَنِّيًا، إِنَّمَا هُوَ تَرَجٍّ وَفَرْقٌ بَيْنَ
التَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَبِالنَّصْبِ جَوَابًا لِلَعَلَّ، كَقَوْلِهِ: فَأَطَّلِعَ
إِلى إِلهِ مُوسى «1» .
انْتَهَى. وَالتَّرَجِّي عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا جَوَابَ
لَهُ، فَيُنْصَبُ بِإِضْمَارِ أَنَّ بَعْدَ الْفَاءِ. وَأَمَّا
الْكُوفِيُّونَ فَيَقُولُونَ: يُنْصَبُ فِي جَوَابِ
التَّرَجِّي، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ
فِي قَوْلِهِ: فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى فِي قِرَاءَةِ
حَفْصٍ، وَوَجَّهْنَا مَذْهَبَ الْبَصْرِيِّينَ فِي نَصْبِ
الْمُضَارِعِ.
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى: ظَاهِرُهُ مَنْ كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ
وَغِنًى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عَنِ اللَّهِ. وَقِيلَ:
عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. قِيلَ: وَكَوْنُهُ بِمَعْنَى
الثَّرْوَةِ لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، وَيَدُلُّ
عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الثَّرْوَةِ لَكَانَ
الْمُقَابِلُ: وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ فَقِيرًا حَقِيرًا.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وقتادة وَالْأَعْرَجُ
وَعِيسَى وَالْأَعْمَشُ وَجُمْهُورُ السَّبْعَةِ: تَصَدَّى
بِخَفِّ الصَّادِ، وَأَصْلُهُ يَتَصَدَّى فَحَذَفَ
وَالْحَرَمِيَّانِ: بِشَدِّهَا، أَدْغَمَ التَّاءَ فِي
الصَّادِ وَأَبُو جَعْفَرٍ: تُصَدَّى، بِضَمِّ التَّاءِ
وَتَخْفِيفِ الصَّادِ، أَيْ يَصُدُّكَ حِرْصُكَ عَلَى
إِسْلَامِهِ. يُقَالُ: تُصَدَّى الرَّجُلُ وَصَدَّيْتُهُ،
وَهَذَا الْمُسْتَغْنِي هُوَ الْوَلِيدُ، أَوْ أُمَيَّةُ، أَوْ
عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ، أَوْ أُمَيَّةُ وَجَمِيعُ
الْمَذْكُورِينَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ، أَقْوَالٌ. قَالَ
الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا كُلُّهُ غَلَطٌ مِنَ المفسرين، لأنه
أُمَيَّةَ وَالْوَلِيدَ كَانَا بِمَكَّةَ، وَابْنَ أُمِّ
مَكْتُومٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مَا حَضَرَ مَعَهُمَا،
وَمَاتَا كَافِرَيْنِ، أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ
وَالْآخَرُ فِي بَدْرٍ، وَلَمْ يَقْصِدْ قَطُّ أُمَيَّةُ
الْمَدِينَةَ، وَلَا حَضَرَ مَعَهُ مُفْرَدًا وَلَا مَعَ
أَحَدٍ. انْتَهَى. وَالْغَلَطُ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ، كَيْفَ
يَنْفِي حُضُورَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ مَعَهُمَا؟ وَهُوَ
وَهْمٌ مِنْهُ، وَكُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ ابْنُ
أُمِّ مَكْتُومٍ بِهَا. وَالسُّورَةُ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ
بِالْإِجْمَاعِ. وَكَيْفَ يَقُولُ: وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ
بِالْمَدِينَةِ؟
كَانَ أَوَّلًا بِمَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ،
وَكَانُوا جَمِيعُهُمْ بِمَكَّةَ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ
الْآيَةِ. وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
سَرْحِ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ الْفِهْرِيُّ، مِنْ بَنِي
عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَأُمُّ مَكْتُومٍ أُمُّ أَبِيهِ
عَاتِكَةُ، وَهُوَ ابْنُ خَالِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا.
وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى: تَحْقِيرٌ لِأَمْرِ
الْكَافِرِ وَحَضٌّ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَتَرْكِ
الِاهْتِمَامِ بِهِ، أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ عَلَيْكَ فِي
كَوْنِهِ لَا يُفْلِحُ وَلَا يَتَطَهَّرُ مِنْ دَنَسِ
الْكُفْرِ؟ وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى: أَيْ يَمْشِي
بِسُرْعَةٍ فِي أَمْرِ دِينِهِ، وَهُوَ يَخْشى: أَيْ يَخَافُ
اللَّهَ، أَوْ يَخَافُ الْكُفَّارَ وَأَذَاهُمْ، أَوْ يَخَافُ
الْعِثَارَ وَالسُّقُوطَ لِكَوْنِهِ أَعْمَى، وَقَدْ جَاءَ
بِلَا قَائِدٍ يقوده. تَلَهَّى:
__________
(1) سورة غافر: 40/ 37.
(10/407)
تَشْتَغِلُ، يُقَالُ: لَهَا عَنِ الشَّيْءِ
يَلَهَّى، إِذَا اشْتَغَلَ عَنْهُ. قِيلَ: وَلَيْسَ مِنَ
اللَّهْوِ الَّذِي هُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ. انْتَهَى.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، لِأَنَّ مَا يُبْنَى عَلَى
فَعِلَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ تنقلب وَاوُهُ يَاءً لِكَسْرَةِ
مَا قَبْلَهَا، نَحْوَ: شَقِيَ يَشْقَى، فَإِنْ كَانَ
مَصْدَرُهُ جَاءَ بِالْيَاءِ، فَيَكُونُ مِنْ مَادَّةٍ غَيْرِ
مَادَّةِ اللَّهْوِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَلَهَّى
وَالْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: عنهو تلهى، بِإِدْغَامِ
تَاءِ الْمُضَارَعَةِ فِي تَاءِ تَفَعَّلَ وَأَبُو جَعْفَر:
بِضَمِّهَا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ يَشْغَلُكَ دُعَاءُ
الْكَافِرِ لِلْإِسْلَامِ وَطَلْحَةُ: بِتَاءَيْنِ وَعَنْهُ
بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ وَسُكُونِ اللَّامِ.
كَلَّا إِنَّها: أَيْ سُورَةُ الْقُرْآنِ وَالْآيَاتُ،
تَذْكِرَةٌ: عِظَةٌ يُنْتَفَعُ بِهَا. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ:
أَيْ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَذْكُرَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ
ذَكَرَهُ، أَتَى بِالضَّمِيرِ مُذَكَّرًا لِأَنَّ
التَّذْكِرَةَ هِيَ الذِّكْرُ، وَهِيَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ
تَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ
إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا «1» ، وَاعْتَرَضَتْ بَيْنَ تَذْكِرَةٌ
وَبَيْنَ صِفَتِهِ، أَيْ تَذْكِرَةٌ: كَائِنَةٌ. فِي صُحُفٍ،
قِيلَ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقِيلَ: صُحُفُ
الْأَوْلِيَاءِ الْمُنْزَلَةُ، وَقِيلَ: صُحُفُ
الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ إِخْبَارًا بِمُغَيَّبٍ، إِذْ لَمْ
يُكْتَبِ الْقُرْآنُ فِي صُحُفٍ زَمَانَ، كَوْنِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ بِمَكَّةَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، مكرمة عند
الله، ومرفوعة فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، قَالَهُ يَحْيَى
بْنُ سَلَامٍ، أَوْ مَرْفُوعَةٌ عَنِ الشُّبَهِ
وَالتَّنَاقُضِ، أَوْ مَرْفُوعَةُ الْمِقْدَارِ. مُطَهَّرَةٍ:
أَيْ مُنَزَّهَةٍ عَنْ كُلِّ دَنَسٍ، قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَقَالَ أَيْضًا: مُطَهَّرَةٌ مِنْ أَنْ تَنْزِلَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُنَزَّهَةٌ عَنْ
أَيْدِي الشَّيَاطِينِ، لَا تَمَسُّهَا إِلَّا أَيْدِي
مَلَائِكَةٍ مُطَهَّرَةٍ. سَفَرَةٍ: كَتَبَةٍ يَنْسَخُونَ
الْكُتُبَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
انْتَهَى. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ
الْمَلَائِكَةُ لِأَنَّهُمْ كَتَبَةٌ. وَقَالَ أَيْضًا:
لِأَنَّهُمْ يَسْفِرُونَ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى
وَأَنْبِيَائِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْقُرَّاءُ،
وَوَاحِدُ السَّفَرَةِ سَافِرٌ. وَقَالَ وَهْبٌ:
هُمُ الصَّحَابَةُ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَسْفِرُ إِلَى بَعْضٍ
فِي الْخَيْرِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْعِلْمِ.
قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ،
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ، غَاضَبَ
أَبَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ اسْتَصْلَحَهُ أَبُوهُ وَأَعْطَاهُ
مَالًا وَجَهَّزَهُ إِلَى الشَّامِ، فَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَافِرٌ
بِرَبِّ النَّجْمِ إِذَا هَوَى.
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«اللَّهُمَّ ابْعَثْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ يَأْكُلْهُ» . فَلَمَّا
انْتَهَى إِلَى الْغَاضِرَةِ ذَكَرَ الدُّعَاءَ، فَجَعَلَ
لِمَنْ مَعَهُ أَلْفَ دِينَارٍ إِنْ أَصْبَحَ حَيًّا،
فَجَعَلُوهُ وَسَطَ الرُّفْقَةِ وَالْمَتَاعُ حَوْلَهُ.
فَأَقْبَلَ الْأَسَدُ إِلَى الرجال وَوَثَبَ، فَإِذَا هُوَ
فَوْقَهُ فَمَزَّقَهُ، فَكَانَ أَبُوهُ يَنْدُبُهُ وَيَبْكِي
عَلَيْهِ، وَقَالَ: مَا قَالَ مُحَمَّدٌ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا
كَانَ
، وَالْآيَةُ، وَإِنْ نَزَلَتْ فِي مَخْصُوصٍ، فَالْإِنْسَانُ
يراد به
__________
(1) سورة المزمل: 73/ 19.
(10/408)
الْكَافِرُ. وَقُتِلَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ،
وَالْقَتْلُ أَعْظَمُ شَدَائِدِ الدُّنْيَا. مَا أَكْفَرَهُ،
الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَعَجُّبٌ مِنْ إِفْرَاطِ كُفْرِهِ،
وَالتَّعَجُّبُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَخْلُوقِينَ، إِذْ هُوَ
مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ هُوَ مِمَّنْ
يُقَالُ فِيهِ مَا أَكْفَرَهُ. وَقِيلَ: مَا اسْتِفْهَامُ
تَوْقِيفٍ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْفَرَهُ؟ أَيْ جَعَلَهُ
كَافِرًا، بِمَعْنَى لِأَيِّ شَيْءٍ يَسُوغُ لَهُ أَنْ
يَكْفُرَ.
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ: اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى
التَّقْرِيرِ عَلَى حَقَارَةِ مَا خُلِقَ مِنْهُ. ثُمَّ
بَيَّنَ ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ فَقَالَ: مِنْ
نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ: أَيْ فَهَيَّأَهُ لِمَا
يَصْلُحُ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ فِي بَطْنِ
أُمِّهِ، وَعَنْهُ قَدَّرَ أَعْضَاءَهُ، وَحَسَنًا وَدَمِيمًا
وَقَصِيرًا وَطَوِيلًا وَشَقِيًّا وَسَعِيدًا. وَقِيلَ: مِنْ
حَالٍ إِلَى حَالٍ، نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً، إِلَى أَنْ تَمَّ
خَلْقُهُ. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ:
أَيْ ثُمَّ يَسَّرَ السَّبِيلَ، أَيْ سَهَّلَ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ وَالسُّدِّيُّ: سَبِيلُ
النَّظَرِ الْقَوِيمِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِيمَانِ،
وَتَيْسِيرُهُ لَهُ هُوَ هِبَةُ الْعَقْلِ. وقال مجاهد والحسن
وعطاء وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ:
السَّبِيلُ الْعَامُّ اسْمُ الْجِنْسِ فِي هُدًى وَضَلَالٍ،
أَيْ يَسَّرَ قَوْمًا لِهَذَا، كَقَوْلِهِ: إِنَّا هَدَيْناهُ
السَّبِيلَ «1» الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَدَيْناهُ
النَّجْدَيْنِ «2» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَسَّرَهُ
لِلْخُرُوجِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ. ثُمَّ أَماتَهُ
فَأَقْبَرَهُ: أَيْ جَعَلَ لَهُ قَبْرًا صِيَانَةً لِجَسَدِهِ
أَنْ يَأْكُلَهُ الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ. قبره: ذفنه،
وَأَقْبَرَهُ: صَيَّرَهُ بِحَيْثُ يُقْبَرُ وَجَعَلَ لَهُ
قَبْرًا، وَالْقَابِرُ:
الدَّافِنُ بِيَدِهِ. قَالَ الْأَعْشَى:
لَوْ أَسْنَدْتَ مَيِّتًا إِلَى قَبْرِهَا ... عَاشَ وَلَمْ
يُنْقَلْ إِلَى قَابِرِ
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ: أَيْ إِذَا أَرَادَ إِنْشَارَهُ
أَنْشَرَهُ، وَالْمَعْنَى: إِذَا بَلَغَ الْوَقْتُ الَّذِي
قَدْ شَاءَهُ اللَّهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَفِي
كِتَابِ اللَّوَامِحِ شُعَيْبُ بْنُ الْحَبْحَابِ: شَاءَ
نَشَرَهُ، بِغَيْرِ هَمْزٍ قَبْلَ النُّونِ، وَهُمَا لُغَتَانِ
فِي الْإِحْيَاءِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ
شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ: شَاءَ نَشَرَهُ. كَلَّا: رَدْعٌ
لِلْإِنْسَانِ عَنْ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ
وَالطُّغْيَانِ. لَمَّا يَقْضِ: يَفِي مِنْ أَوَّلِ مُدَّةِ
تَكْلِيفِهِ إِلَى حِينِ إِقْبَارِهِ، مَا أَمَرَهُ بِهِ
اللَّهُ تَعَالَى، فَالضَّمِيرُ فِي يَقْضِ لِلْإِنْسَانِ.
وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ لَمْ يَقْضِ
اللَّهُ لِهَذَا الْكَافِرِ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ
الْإِيمَانِ، بَلْ أَمَرَهُ بِمَا لَمْ يَقْضِ لَهُ. وَلَمَّا
عَدَّدَ تَعَالَى نِعَمَهُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، ذَكَرَ
النِّعَمَ فِيمَا بِهِ قِوَامُ حَيَاتِهِ، وَأَمَرَهُ
بِالنَّظَرِ إِلَى طَعَامِهِ وَكَيْفِيَّاتِ الْأَحْوَالِ
الَّتِي اعْتَوَرَتْ عَلَى طَعَامِهِ حَتَّى صَارَ بِصَدَدِ
أَنْ يُطْعَمَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّعَامَ هُوَ الْمَطْعُومُ، وَكَيْفَ
يُيَسِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ
الْمَذْكُورَةِ من صب
__________
(1) سورة الإنسان: 76/ 3.
(2) سورة البلد: 90/ 10.
(10/409)
الْمَاءِ وَشَقِّ الْأَرْضِ
وَالْإِنْبَاتِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أُبَيٍّ
وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ: إِلى
طَعامِهِ: أَيْ إِذَا صَارَ رَجِيعًا لِيَتَأَمَّلَ عَاقِبَةَ
الدُّنْيَا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَتَفَانَى أَهْلُهَا. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ: إِنَّا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْأَعْرَجُ
وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَالْكُوفِيُّونَ وَرُوَيْسٌ:
أَنَّا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ
وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُمَا:
أَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مما لا
فَالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ فِي ذِكْرِ تَعْدَادِ
الْوُصُولِ إِلَى الطَّعَامِ، وَالْفَتْحُ قَالُوا عَلَى
الْبَدَلِ، وَرَدَّهُ قَوْمٌ، لِأَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ
الْأَوَّلَ. قِيلَ: وَلَيْسَ كَمَا رَدُّوا لِأَنَّ
الْمَعْنَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى إِنْعَامِنَا فِي
طَعَامِهِ، فَتَرَتَّبَ الْبَدَلُ وَصَحَّ. انْتَهَى.
كَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، وَالَّذِي
يَظْهَرُ أَنَّهُ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ. وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ
مُمَالًا عَلَى مَعْنَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ كَيْفَ
صَبَبْنَا.
وَأَسْنَدَ تَعَالَى الصَّبَّ وَالشَّقَّ إِلَى نَفْسِهِ
إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى السَّبَبِ، وَصَبُّ الْمَاءِ هُوَ
الْمَطَرُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّقَّ كِنَايَةٌ عَنْ شَقِّ الْفَلَّاحِ
بِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَشُقَّ بِهِ. وَقِيلَ: شَقُّ
الْأَرْضِ هُوَ بِالنَّبَاتِ. حَبًّا: يَشْمَلُ مَا يُسَمَّى
حَبًّا مِنْ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ وَذُرَةٍ وَسُلْتٍ وَعَدَسٍ
وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَضْباً، قَالَ الْحَسَنُ: الْعَلَفُ، وَأَهْلُ مَكَّةَ
يُسَمُّونَ الْقَتَّ الْقَضْبَ. وَقِيلَ: الْفَصْفَصَةُ،
وَضُعِّفَ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْأَبِّ. وَقِيلَ: مَا
يُقْضَبُ لِيَأْكُلَهُ ابْنُ آدَمَ غَضًّا مِنَ النَّبَاتِ،
كَالْبُقُولِ وَالْهِلْيَوْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ
الرُّطَبُ، لِأَنَّهُ يُقْضَبُ مِنَ النَّخْلِ، وَلِأَنَّهُ
ذَكَرَ الْعِنَبَ قَبْلَهُ.
غُلْباً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غِلَاظًا، وَعَنْهُ: طِوَالًا
وَعَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ: كِرَامًا وَفاكِهَةً: مَا
يَأْكُلُهُ النَّاسُ مِنْ ثَمَرِ الشَّجَرِ، كَالْخَوْخِ
وَالتِّينِ وَأَبًّا: مَا تَأْكُلُهُ الْبَهَائِمُ مِنَ
الْعُشْبِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: التِّبْنُ خَاصَّةً. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: كُلُّ نَبَاتٍ سِوَى الْفَاكِهَةِ رَطْبُهَا،
وَالْأَبُّ: يَابِسُهَا. الصَّاخَّةُ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ
القيامة يصم نبأها الْآذَانَ، تَقُولُ الْعَرَبُ:
صَخَّتْهُمُ الصَّاخَّةُ وَنَابَتْهُمُ النَّائِبَةُ، أَيِ
الدَّاهِيَةُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ:
الصَّاخَّةُ هِيَ الَّتِي تُورِثُ الصَّمَمَ، وَإِنَّهَا
لَمُسْمِعَةٌ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْفَصَاحَةِ، كَقَوْلِهِ:
أَصَمَّهُمْ سِرُّهُمْ أَيَّامَ فُرْقَتِهِمْ ... فَهَلْ
سَمِعْتُمْ بِسِرٍّ يُورِثُ الصَّمَمَا
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
أَصَمَّ بِكَ النَّاعِي وَإِنْ كَانَ أَسْمَعَا وَلَعَمْرُ
اللَّهِ إِنَّ صَيْحَةَ الْقِيَامَةِ مُسْمِعَةٌ تُصِمُّ عَنِ
الدُّنْيَا وَتُسْمِعُ أُمُورَ الْآخِرَةِ. انْتَهَى.
يَوْمَ يَفِرُّ: بَدَلٌ مِنْ إِذَا، وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ
تَقْدِيرُهُ: اشْتَغَلَ كُلُّ إِنْسَانٍ بِنَفْسِهِ، يَدُلُّ
عَلَيْهِ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ
يُغْنِيهِ، وَفِرَارُهُ مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، كَمَا جَاءَ
(10/410)
مِنْ
قَوْلِ الرُّسُلِ: «نَفْسِي نَفْسِي» .
وَقِيلَ: خَوْفُ التَّبِعَاتِ، لِأَنَّ الْمُلَابَسَةَ
تَقْتَضِي الْمُطَالَبَةَ.
يَقُولُ الْأَخُ: لَمْ تُوَاسِنِي بِمَالِكَ، وَالْأَبَوَانِ
قَصَّرْتَ فِي بِرِّنَا، وَالصَّاحِبَةُ أَطْعَمْتَنِي
الْحَرَامَ وَفَعَلْتَ وَصَنَعْتَ، وَالْبَنُونَ لَمْ
تُعَلِّمْنَا وَتُرْشِدْنَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
يُغْنِيهِ: أَيْ عَنِ النَّظَرِ فِي شَأْنِ الْآخَرِ مِنِ
الْإِغْنَاءِ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ أَبِي
عَبْلَةَ وَحُمَيْدٌ وابن السميفع: يَعْنِيهِ بِفَتْحِ
الْيَاءِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ:
عَنَانِي الْأَمْرُ: قَصَدَنِي. مُسْفِرَةٌ: مُضِيئَةٌ، مِنْ
أَسْفَرَ الصُّبْحُ: أَضَاءَ، وتَرْهَقُها: تَغْشَاهَا،
قَتَرَةٌ: أَيْ غُبَارٌ. وَالْأُولَى مَا يَغْشَاهُ مِنَ
الْعُبُوسِ عِنْدَ الْهَمِّ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ غُبَارِ
الْأَرْضِ. وَقِيلَ: غَبَرَةٌ: أَيْ مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ،
وَقَتَرَةٌ: سَوَادٌ كَالدُّخَانِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ
أَسْلَمَ: الْغَبَرَةُ: مَا انْحَطَّتْ إِلَى الْأَرْضِ،
وَالْقَتَرَةُ: مَا ارْتَفَعَتْ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَرَأَ
الْجُمْهُورُ: قَتَرَةٌ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَابْنُ أَبِي
عَبْلَةَ: بِإِسْكَانِهَا.
(10/411)
|