البحر المحيط في التفسير

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

سورة التّكوير

[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 29]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
انْكَدَرَتِ النُّجُومُ: انْتَثَرَتْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: انْصَبَّتْ كَمَا تَنْصَبُّ الْقِعَابُ إِذَا كُسِرَتْ.
قَالَ الْعَجَّاجُ يَصِفُ صَقْرًا:
أَبْصَرَ حُرُمَاتِ فَلَاةٍ فَانْكَدَرْ ... تَقَصِّيَ الْبَازِيُّ إِذَا الْبَازِيُّ كَسَرْ
الْعِشَارُ جَمْعُ عُشَرَاءَ، وَهِيَ النَّاقَةُ الَّتِي مَرَّ لِحَمْلِهَا عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ هُوَ اسْمُهَا إِلَى أَنْ تَضَعَ فِي تَمَامِ السَّنَةِ. التَّعْطِيلُ: التَّفْرِيغُ وَالْإِهْمَالُ. الْوَحْشُ: حَيَوَانُ الْبَرِّ الَّذِي لَيْسَ فِي

(10/412)


طَبْعِهِ التَّآنُسُ بِبَنِي آدَمَ. الْمَوْءُودَةُ: الْبِنْتُ الَّتِي تُدْفَنُ حَيَّةً، وَأَصْلُهُ مِنَ النَّقْلِ، كَأَنَّهَا تُنْقَلُ مِنَ التُّرَابِ حَتَّى تَمُوتَ، وَمِنْهُ اتَّئِدْ: أَيْ تَوَقَّرْ وَأَثْقِلْ وَلَا تَخَفْ. الْكَشْطُ: التَّقْشِيرُ، كَشَطْتُ جِلْدَ الشَّاةِ: سَلَخْتُهُ عَنْهَا. الْخُنَّسُ جَمْعُ خَانِسٍ، وَالْخُنُوسُ: الِانْقِبَاضُ وَالِاسْتِخْفَاءُ. تَقُولُ خَنَسَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَانْخَنَسَ. الْكُنَّسُ جَمْعُ كَانِسٍ وَكَانِسَةٍ، يُقَالُ: كَنَسَ إِذَا دَخَلَ الْكِنَاسَ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي تَأْوِي إِلَيْهِ الظِّبَاءُ. وَالْخَنْسُ: تَأَخُّرُ الْأَنْفِ عَنِ الشَّفَةِ مَعَ ارْتِفَاعٍ قَلِيلٍ مِنَ الْأَرْنَبَةِ. عَسْعَسَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: عَسْعَسَ اللَّيْلُ وَعَسَسَ، إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: عَسْعَسَ اللَّيْلُ: أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ قُرْطٍ:
حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسَا ... وَانْجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وَعَسْعَسَا
وَقَالَ رُؤْبَةُ:
يَا هِنْدُ مَا أَسْرَعَ مَا تعسعسا ... من بعد ما كان فتى ترعرعا
التَّنَفُّسُ: خُرُوجُ النَّسِيمِ مِنَ الْجَوْفِ، وَاسْتُعِيرَ لِلصُّبْحِ وَمَعْنَاهُ: امْتِدَادُهُ حَتَّى يَصِيرَ نَهَارًا وَاضِحًا. الظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، ظَنَنْتُ الرَّجُلَ: اتَّهَمْتُهُ، وَالظَّنِينُ:
الْبَخِيلُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَجُودُ بِمَكْنُونِ الْحَدِيثِ وَإِنَّنِي ... بِسِرِّكَ عَنْ مَا سَأَلْتَنِي لَضَنِينُ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ، وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ، وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ، وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ، فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ، وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ، وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ، فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ. وَتَكْوِيرُ الشَّمْسِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِدْخَالُهَا فِي الْعَرْشِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: ذَهَابُ ضَوْئِهَا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ: رَمَى بِهَا، وَمِنْهُ: كَوَّرْتُهُ فَتَكَوَّرَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: نَكَسَتْ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا:
أَظْلَمَتْ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: اضْمَحَلَّتْ. وَقِيلَ: غَوَّرَتْ وَقِيلَ: يَلُفُّ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَيَرْمِي بِهَا

(10/413)


فِي الْبَحْرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُوِّرَتْ مِثْلَ تَكْوِيرِ الْعِمَامَةِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مِنْ كَارَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ يُكَوِّرُهَا، أَيْ لَاثَهَا وَجَمَعَهَا، فَهِيَ تُكَوَّرُ، ثُمَّ يَمْحِي ضَوْءَهَا، ثُمَّ يَرْمِي بِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوِ الْفَاعِلِيَّةِ؟ قُلْتُ: بَلْ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، رَافِعُهَا فِعْلٌ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ كُوِّرَتْ، لِأَنَّ إِذَا يَطْلُبُ الْفِعْلَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ.
انْتَهَى. وَمِنْ طَرِيقَتِهِ أَنَّهُ يُسَمِّي الْمَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَاعِلًا، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ. وَلَيْسَ مَا ذُكِرَ مِنِ الْإِعْرَابِ مُجْمَعًا عَلَى تَحَتُّمِهِ عِنْدَ النُّحَاةِ، بَلْ يَجُوزُ رَفْعُ الشَّمْسِ عَلَى الِابْتِدَاءِ عِنْدَ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ، لِأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ أَنْ تَجِيءَ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ بَعْدَ إِذَا، نَحْوُ: إِذَا زَيْدٌ يُكْرِمُكَ فَأَكْرِمْهُ.
انْكَدَرَتْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَسَاقَطَتْ وَعَنْهُ أَيْضًا: تَغَيَّرَتْ فَلَمْ يَبْقَ لَهَا ضَوْءٌ لِزَوَالِهَا عَنْ أَمَاكِنِهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَاءٌ كَدِرٌ: أَيْ مُتَغَيِّرٌ. وَتَسْيِيرُ الْجِبَالِ: أَيْ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، أَوْ سُيِّرَتْ فِي الْجَوِّ تَسْيِيرَ السَّحَابِ، كَقَوْلِهِ: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «1» ، وَهَذَا قَبْلُ نَسْفِهَا، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالْعِشَارُ: أَنْفَسُ مَا عِنْدَ الْعَرَبِ مِنَ الْمَالِ، وَتَعْطِيلُهَا: تَرْكُهَا مُسَيَّبَةً مُهْمَلَةً، أَوْ عَنِ الْحَلْبِ لِاشْتِغَالِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ عَنْ أَنْ يُحْمَلَ عَنْهَا الْفُحُولُ وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا عِشَارًا بِاعْتِبَارِ مَا سَبَقَ لَهَا ذَلِكَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الْمَثَلِ، لِأَنَّهُ فِي الْقِيَامَةِ لَا يَكُونُ عُشَرَاءُ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عُشَرَاءُ لَعَطَّلَهَا أَهْلُهَا وَاشْتَغَلُوا بِأَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: إِذَا قَامُوا مِنَ الْقُبُورِ شَاهَدُوا الْوُحُوشَ وَالدَّوَابَّ مَحْشُورَةً وَعِشَارُهُمْ فِيهَا الَّتِي كَانَتْ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، لم يعبأوا بِهَا لِشُغْلِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: الْعِشَارُ: السَّحَابُ، وَتَعْطِيلُهَا مِنَ الْمَاءِ فَلَا تُمْطِرُ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّحَابَ بِالْحَامِلِ. وَقِيلَ: الْعِشَارُ: الدِّيَارُ تُعَطَّلُ فَلَا تُسْكَنُ. وَقِيلَ: الْعِشَارُ: الْأَرْضُ الَّتِي يُعَشَّرُ زَرْعُهَا، تُعَطَّلُ فَلَا تُزْرَعُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عُطِّلَتْ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَمُضَرُ عَنِ الْيَزِيدِيِّ: بِتَخْفِيفِهَا، كَذَا فِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ، وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، قَالَ فِي اللَّوَامِحِ، وَقِيلَ: هُوَ وَهْمٌ إِنَّمَا هُوَ عَطَلَتْ بِفَتْحَتَيْنِ بِمَعْنَى تَعَطَّلَتْ، لِأَنَّ التَّشْدِيدَ فِيهِ التَّعَدِّي، يُقَالُ: مِنْهُ عَطَّلْتُ الشَّيْءَ وَأَعْطَلْتُهُ فَعَطِلَ بِنَفْسِهِ، وَعَطِلَتِ الْمَرْأَةُ فَهِيَ عَاطِلٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا الْحُلِيُّ، فَلَعَلَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ لُغَةٌ اسْتَوَى فِيهَا فَعِلَتْ وَأَفْعَلَتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّيمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ ... إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلَا بمعطل
__________
(1) سورة النمل: 27/ 88.

(10/414)


حُشِرَتْ: أَيْ جُمِعَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جُمِعَتْ بِالْمَوْتِ، فَلَا تُبْعَثُ وَلَا يَحْضُرُ فِي الْقِيَامَةِ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ. وَعَنْهُ وَعَنْ قَتَادَةَ وَجَمَاعَةٍ: يُحْشَرُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الذُّبَابُ. وَعَنْهُ: تُحْشَرُ الْوُحُوشُ حَتَّى يُقْتَصَّ مِنْ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، ثُمَّ يَقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهَا مُوتِي فَتَمُوتُ. وَقِيلَ: إِذَا قُضِيَ بَيْنَهَا رُدَّتْ تُرَابًا فَلَا يَبْقَى مِنْهَا إِلَّا مَا فِيهِ سُرُورٌ لِبَنِي آدَمَ وَإِعْجَابٌ بِصُورَتِهِ، كَالطَّاوُوسِ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ أُبَيٌّ: فِي الدُّنْيَا فِي أَوَّلِ الْهَوْلِ تَفِرُّ فِي الْأَرْضِ وَتَجْتَمِعُ إِلَى بَنِي آدَمَ تَآنُسًا بِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حُشِرَتْ بِخَفِّ الشِّينِ وَالْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: بِشَدِّهَا. وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ: تَقَدَّمَ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي سَجْرِ الْبَحْرِ فِي الطُّورِ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، وَفِي كِتَابِ لُغَاتِ الْقِرَاءَاتِ، سُجِّرَتْ: جُمِعَتْ، بِلُغَةِ خَثْعَمَ. وَقَالَ هُنَا ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مُلِكَتْ وَقُيِّدَ اضْطِرَابُهَا حَتَّى لَا تَخْرُجَ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْهَوْلِ، فَتَكُونَ اللَّفْظَةُ مَأْخُوذَةً مِنْ سَاجُورِ الْكَلْبِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: بِخَفِّ الْجِيمِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِشَدِّهَا.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ اسْتِعَارَاتٌ فِي كُلِّ ابْنِ آدَمَ وَأَحْوَالِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ. فَالشَّمْسُ نَفْسُهُ، وَالنُّجُومُ عَيْنَاهُ وَحَوَاسُّهُ، وَهَذَا قَوْلٌ ذَاهِبٌ إِلَى إِثْبَاتِ الرُّمُوزِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى. وَهَذَا مَذْهَبُ الْبَاطِنِيَّةِ، وَمَذَاهِبُ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِمْ فِي خُطْبَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ زَنَادِقَةٌ تَسَتَّرُوا بِالِانْتِمَاءِ إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ. وَكِتَابُ اللَّهِ جَاءَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، لَا رَمْزَ فِيهِ وَلَا لُغْزَ وَلَا بَاطِنَ، وَلَا إِيمَاءَ لِشَيْءٍ مِمَّا تَنْتَحِلُهُ الْفَلَاسِفَةُ وَلَا أَهْلُ الطَّبَائِعِ. وَلَقَدْ ضَمَّنَ تَفْسِيرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ خَطِيبِ الرَّيِّ أَشْيَاءَ مِمَّا قَالَهُ الْحُكَمَاءُ عِنْدَهُ وَأَصْحَابُ النُّجُومِ وَأَصْحَابُ الْهَيْئَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِمَعْزِلٍ عَنْ تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ فِي آخِرِ مَا يُفَسِّرُهُ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ كَلَامِ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى الصُّوفِ وَيُسَمِّيهَا الْحَقَائِقَ، وَفِيهَا مَا لَا يَحِلُّ كِتَابَتُهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعْتَقَدَ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ فِي دِينِنَا وَعَقَائِدِنَا وَمَا بِهِ قِوَامُ دِينِنَا وَدُنْيَانَا.
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ: أَيِ الْمُؤْمِنُ مَعَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرُ مَعَ الْكَافِرِ، كَقَوْلِهِ:
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً «1» ، قاله عمرو ابن عَبَّاسٍ أَوْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَزْوَاجِهِمْ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَغَيْرِهِنَّ، قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَوِ الْأَزْوَاجُ الْأَجْسَادُ، قاله عكرمة والضحاك
__________
(1) سورة الواقعة: 56/ 7.

(10/415)


وَالشَّعْبِيُّ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ: زُووِجَتْ عَلَى فُوعِلَتْ، وَالْمُفَاعَلَةُ تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ.
وَالْجُمْهُورُ: بِوَاوٍ مُشَدَّدَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَدَ يَئِدُ، مَقْلُوبٌ مِنْ آدَ يَؤُدُ إِذَا أَثْقَلَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما «1» ، لِأَنَّهُ إِثْقَالٌ بِالتُّرَابِ. انْتَهَى. وَلَا يُدَّعَى فِي وَأَدَ أَنَّهُ مَقْلُوبٌ مِنْ آدَ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَامِلُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَاضِي وَالْأَمْرِ وَالْمُضَارِعِ وَالْمَصْدَرِ وَاسْمِ الْفَاعِلِ وَاسْمِ الْمَفْعُولِ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مُسَوِّغَاتِ ادِّعَاءِ الْقَلْبِ. وَالَّذِي يُعْلَمُ بِهِ الْأَصَالَةُ مِنَ الْقَلْبِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ النَّظْمَيْنِ فِيهِ حُكْمٌ يَشْهَدُ لَهُ بِالْأَصَالَةِ وَالْآخَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَوْ كَوْنُهُ مُجَرَّدًا مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ وَالْآخَرُ فِيهِ مَزِيدًا وَكَوْنُهُ أَكْثَرَ تَصَرُّفًا وَالْآخَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَوْ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا مِنَ الْآخَرِ، وَهَذَا عَلَى مَا قَرَّرُوا أَحْكَمُ فِي عِلْمِ التَّصْرِيفِ. فَالْأَوَّلُ كَيَئِسَ وَأَيِسَ، وَالثَّانِي كَطَأْمَنَ وَاطْمَأَنَّ، وَالثَّالِثُ كَشَوَايِعَ وَشَوَاعٍ، وَالرَّابِعُ كَلَعَمْرِي وَرَعَمْلِي.
وقرأ الجمهور: الْمَوْؤُدَةُ، بِهَمْزَةٍ بَيْنَ الْوَاوَيْنِ، اسْمُ مَفْعُولٍ. وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ فِي رواية: الموؤدة، بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ عَلَى الْوَاوِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الموؤدة كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، ثُمَّ نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ إِلَى الْوَاوِ بَعْدَ حَذْفِ الْهَمْزَةِ، ثُمَّ همز الْوَاوُ الْمَنْقُولُ إِلَيْهَا الْحَرَكَةُ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَفْعُولٍ مِنْ آدَ فَالْأَصْلُ مَأْوُودَةٌ، فَحُذِفَ إِحْدَى الْوَاوَيْنِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِيهِ الْمَحْذُوفُ وَاوُ الْمَدِّ أَوِ الْوَاوُ الَّتِي هِيَ عَيْنُ، نَحْوُ: مَقْوُولٌ، حَيْثُ قَالُوا: مقول. وقرىء الْمَوُودَةُ، بِضَمِّ الْوَاوِ الْأُولَى وَتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ، أَعْنِي التَّسْهِيلَ بِالْحَذْفِ، وَنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الْوَاوِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: الْمُودَةُ، بِسُكُونِ الْوَاوِ عَلَى وَزْنِ الْفُعْلَةِ، وَكَذَا وَقَفَ لِحَمْزَةَ بن مُجَاهِدٍ. وَنَقَلَ الْقُرَّاءُ أَنَّ حَمْزَةَ يَقِفُ عَلَيْهَا كَالْمَوُودَةِ لِأَجْلِ الْخَطِّ لِأَنَّهَا رُسِمَتْ كَذَلِكَ، وَالرَّسْمُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سُئِلَتْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ: كَذَلِكَ وَخَفِّ الْيَاءِ وَبِتَاءِ التَّأْنِيثِ فِيهِمَا، وَهَذَا السُّؤَالُ هُوَ لِتَوْبِيخِ الْفَاعِلِينَ لِلْوَأْدِ، لأن سؤالها يؤول إِلَى سُؤَالِ الْفَاعِلِينَ. وَجَاءَ قُتِلَتْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ إِخْبَارٌ عَنْهَا، وَلَوْ حُكِيَ مَا خُوطِبَتْ بِهِ حِينَ سُئِلَتْ لَقِيلَ: قُتِلَتْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ: سِئِلَتْ، بِكَسْرِ السِّينِ، وَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: سَالَ بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: بِشَدِّ الْيَاءِ، لِأَنَّ الموؤدة اسْمُ جِنْسٍ، فَنَاسَبَ التَّكْثِيرَ بِاعْتِبَارِ الْأَشْخَاصِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو الضحى ومجاهد: سَأَلَتْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، قُتِلْتُ بِسُكُونِ اللَّامِ وَضَمِّ التَّاءِ، حِكَايَةً لِكَلَامِهَا حِينَ سُئِلَتْ. وَعَنْ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا وَالرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ وَابْنِ يَعْمُرَ: سَأَلَتْ مَبْنِيًّا
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 255.

(10/416)


لِلْفَاعِلِ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ فِيهِمَا إِخْبَارًا عَنْهُمَا، وَلَوْ حُكِيَ كَلَامُهَا لَكَانَ قُتِلْتُ بِضَمِّ التَّاءِ.
وَكَانَ الْعَرَبُ إِذَا وُلِدَ لِأَحَدِهِمْ بِنْتٌ وَاسْتَحْيَاهَا، أَلْبَسَهَا جُبَّةً مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ وَتَرَكَهَا تَرْعَى الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، وَإِذَا أَرَادَ قَتْلَهَا تَرَكَهَا حَتَّى إِذَا صَارَتْ سُدَاسِيَّةً قَالَ لِأُمِّهَا: طَيِّبِيهَا وَلَيِّنِيهَا حَتَّى أَذْهَبَ بِهَا إِلَى أَحْمَائِهَا، وَقَدْ حَفَرَ حُفْرَةً أَوْ بِئْرًا فِي الصَّحْرَاءِ، فَيَذْهَبُ بِهَا إِلَيْهَا وَيَقُولُ لَهَا انْظُرِي فِيهَا ثُمَّ يَدْفَعُهَا مِنْ خَلْفِهَا وَيُهِيلُ عَلَيْهَا التُّرَابَ حَتَّى يَسْتَوِيَ بِالْأَرْضِ. وَقِيلَ:
كَانَتِ الْحَامِلُ إِذَا قَرُبَ وَضْعُهَا حَفَرَتْ حُفْرَةً فَتَمَخَّضَتْ عَلَى رَأْسِهَا، فَإِذَا وَلَدَتْ بِنْتًا رَمَتْ بِهَا فِي الْحُفْرَةِ، وَإِنْ وَلَدَتِ ابْنًا حَبَسَتْهُ. وَقَدِ افْتَخَرَ الْفَرَزْدَقُ، وَهُوَ أَبُو فِرَاسٍ هَمَّامُ بْنُ غَالِبِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ نَاجِيَةَ، بِجَدِّهِ صَعْصَعَةَ، إِذْ كَانَ مَنَعَ وَأْدَ الْبَنَاتِ فَقَالَ:
وَمِنَّا الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ ... فَأَحْيَا الْوَئِيدَ وَلَمْ يَوْئِدْ
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ: صُحُفُ الْأَعْمَالِ كَانَتْ مَطْوِيَّةً عَلَى الْأَعْمَالِ، فَنُشِرَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَقْرَأَ كُلُّ إِنْسَانٍ كِتَابَهُ. وَقِيلَ: الصُّحُفُ الَّتِي تَتَطَايَرُ بِالْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ بِالْجَزَاءِ، وَهِيَ صُحُفٌ غَيْرُ صُحُفِ الْأَعْمَالِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ وَشَيْبَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وعاصم: نُشِرَتْ بِخَفِّ الشِّينِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِشَدِّهَا. وَكَشْطُ السَّمَاءِ: طَيُّهَا كَطَيِّ السِّجِلِّ. وَقِيلَ: أُزِيلَتْ كَمَا يُكْشَطُ الْجِلْدُ عَنِ الذَّبِيحَةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: قُشِطَتْ بِالْقَافِ، وَهُمَا كَثِيرًا مَا يَتَعَاقَبَانِ، كَقَوْلِهِمْ: عَرَبِيٌّ قُحٌّ وَكُحٌّ، وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَتُهُ قَافُورًا، أَيْ كَافُورًا. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ: سُعِّرَتْ بِشَدِّ الْعَيْنِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِخَفِّهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ. قَالَ قَتَادَةُ: سَعَّرَهَا غَضَبُ اللَّهِ تَعَالَى وَذُنُوبُ بَنِي آدَمَ، وَجَوَابُ إِذَا وَمَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ: وَنَفْسٌ تَعُمُّ فِي الْإِثْبَاتِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، مَا أَحْضَرَتْ مِنْ خَيْرٍ تَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، أَوْ مِنْ شَرٍّ تَدْخُلُ بِهِ النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَقَعَ الْإِفْرَادُ لِيُنَبِّهَ الذِّهْنَ عَلَى حَقَارَةِ الْمَرْءِ الْوَاحِدِ وَقِلَّةِ دِفَاعِهِ عَنْ نَفْسِهِ. انْتَهَى.
وَقُرِئَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْقَارِئُ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «وا انقطاع ظَهْرَاهُ» . بِالْخُنَّسِ، قَالَ الْجُمْهُورُ: الدَّرَارِيُّ السَّبْعَةُ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَزُحَلُ، وَعُطَارِدٌ، وَالْمِرِّيخُ، وَالزُّهَرَةُ، وَالْمُشْتَرِي. وَقَالَ: عَلِيٌّ الْخَمْسَةُ دُونَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، تَجْرِي الْخَمْسَةُ مَعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَتَرْجِعُ حَتَّى تَخْفَى مَعَ ضَوْءِ الشَّمْسِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَخْنِسُ فِي جَرْيِهَا الَّتِي يُتَعَهَّدُ فِيهَا تَرَى الْعَيْنُ،

(10/417)


وَهِيَ جَوَارٍ فِي السَّمَاءِ، وَهِيَ تَكْنِسُ فِي أَبْرَاجِهَا، أَيْ تَسْتَتِرُ.
وَقَالَ عَلِيٌّ أَيْضًا وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ كُلُّهَا لِأَنَّهَا تَخْنِسُ وَتَكْنِسُ بِالنَّهَارِ حِينَ تَخْتَفِي.
وقال الزمخشري: أي تخنس بِالنَّهَارِ وَتَكْنِسُ بِاللَّيْلِ، أَيْ تَطْلُعُ فِي أَمَاكِنِهَا كَالْوَحْشِ فِي كُنُسِهَا. انْتَهَى. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَالنَّخَعِيُّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ: الْمُرَادُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ: بَقَرُ الْوَحْشِ، لِأَنَّهَا تَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِي كَنَائِسِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: هِيَ الظِّبَاءُ، وَالْخُنَّسُ مِنْ صِفَةِ الْأَنَوُقِ لِأَنَّهَا يَلْزَمُهَا الْخَنْسُ، وَكَذَا بَقَرُ الْوَحْشِ.
عَسْعَسَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَقْبَلَ ظَلَامُهُ، وَيُرَجِّحُهُ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ:
وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ، فَهُمَا حَالَتَانِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَقْسَمَ بِإِقْبَالِهِ وَإِدْبَارِهِ وَتَنَفُّسُهُ كَوْنُهُ يَجِيءُ مَعَهُ رَوْحٌ وَنَسِيمٌ، فَكَأَنَّهُ نَفَسٌ لَهُ عَلَى الْمَجَازِ. إِنَّهُ: أَيْ إِنَّ هَذَا الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ، أَيْ إِنَّ الْقُرْآنَ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ الْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ:
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَرِيمٌ صِفَةٌ تَقْتَضِي نَفْيَ الْمَذَامِّ كُلِّهَا وَإِثْبَاتَ صِفَاتِ الْمَدْحِ اللَّائِقَةِ بِهِ. ذِي قُوَّةٍ: كَقَوْلِهِ: شَدِيدُ الْقُوى «1» . عِنْدَ ذِي: الْكَيْنُونَةُ اللَّائِقَةُ مِنْ شَرَفِ الْمَنْزِلَةِ وَعِظَمِ الْمَكَانَةِ. وَقِيلَ: الْعَرْشُ مُتَعَلِّقٌ بِمَكِينٍ مُطَاعٍ. ثُمَّ إِشَارَةٌ إِلَى عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ: أَيْ إِنَّهُ مُطَاعٌ فِي مَلَائِكَةِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ يَصْدُرُونَ عَنْ أَمْرِهِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو الْبَرَهْسَمِ وَابْنُ مِقْسَمٍ: ثُمَّ، بضم الثاء: حرف عطف، وَالْجُمْهُورُ: ثَمَّ بِفَتْحِهَا، ظَرْفُ مَكَانٍ لِلْبَعِيدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقرىء ثَمَّ تَعْظِيمًا لِلْأَمَانَةِ وَبَيَانًا لِأَنَّهَا أَفْضَلُ صِفَاتِهِ الْمَعْدُودَةِ.
انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: بِمَعْنَى مُطَاعٍ وَأَمِينٍ، وَإِنَّمَا صَارَتْ ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ بَعْدَ أَنَّ مُوَاضَعَتَهَا لِلْمُهْلَةِ وَالتَّرَاخِي عَطْفًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بِالصِّفَتَيْنِ مَعًا فَي حَالٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى التَّرْتِيبِ وَالْمُهْلَةِ فِي هَذَا الْعَطْفِ بِمَعْنَى مُطَاعٍ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، ثَمَّ أَمِينٍ عِنْدَ انْفِصَالِهِ عَنْهُمْ، حَالَ وَحْيِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَجَازَ أَنْ لَوْ وَرَدَ بِهِ أَثَرٌ انْتَهَى. أَمِينٍ: مَقْبُولِ القول يصدق فِيمَا يَقُولُهُ، مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا يُرْسَلُ بِهِ مِنْ وَحْيٍ وَامْتِثَالِ أَمْرٍ. وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ: نَفَى عَنْهُ مَا كَانُوا يَنْسُبُونَهُ إِلَيْهِ وَيَبْهَتُونَهُ بِهِ مِنَ الْجُنُونِ.
وَلَقَدْ رَآهُ: أَيْ رَأَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ بَعْدَ أَمْرِ غَارِ حِرَاءَ حِينَ رَآهُ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ. وَقِيلَ: هِيَ الرُّؤْيَةُ الَّتِي رَآهُ فِيهَا عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ أُفُقًا مَجَازًا. وَقَدْ كَانَتْ له
__________
(1) سورة النجم: 53/ 5.

(10/418)


عَلَيْهِ السَّلَامُ، رُؤْيَةٌ ثَانِيَةٌ بِالْمَدِينَةِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ. وَوُصِفَ الْأُفُقُ بِالْمُبِينِ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَشْرِقِ مِنْ حَيْثُ تَطْلُعُ الشَّمْسُ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَسُفْيَانُ. وَأَيْضًا فَكُلُّ أُفُقٍ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ.
وَقِيلَ: فِي أُفُقِ السَّمَاءِ الْغَرْبِيِّ، حَكَاهُ ابْنُ شَجَرَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رَآهُ نَحْوَ جِيَادٍ، وَهُوَ مَشْرِقُ مَكَّةَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزبير وَعَائِشَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعُرْوَةُ وَهِشَامُ بْنُ جندب ومجاهد وَغَيْرُهُمْ، وَمِنَ السَّبْعَةِ النَّحْوِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ: بِظَنِينٍ بِالظَّاءِ، أَيْ بِمُتَّهَمٍ، وَهَذَا نَظِيرُ الْوَصْفِ السَّابِقِ بِأَمِينٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِضَعِيفِ الْقُوَّةِ عَلَى التَّبْلِيغِ مِنْ قَوْلِهِمْ: بِئْرٌ ظَنُونٌ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةَ الْمَاءِ، وَكَذَا هُوَ بِالظَّاءِ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ عُثْمَانُ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُمْ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِالضَّادِ، أَيْ بِبَخِيلٍ يَشِحُّ بِهِ لَا يُبَلِّغُ مَا قِيلَ لَهُ وَيَبْخَلُ، كَمَا يَفْعَلُ الْكَاهِنُ حَتَّى يُعْطَى حُلْوَانَهُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَبِالضَّادِ خُطُوطُ الْمَصَاحِفِ كُلِّهَا.
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ: أَيِ الَّذِي يَتَرَاءَى لَهُ إِنَّمَا هُوَ مَلَكٌ لَا مِثْلَ الَّذِي يَتَرَاءَى لِلْكُهَّانِ. فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ: اسْتِضْلَالٌ لَهُمْ، حَيْثُ نَسَبُوهُ مَرَّةً إِلَى الْجُنُونِ، وَمَرَّةً إِلَى الْكَهَانَةِ، وَمَرَّةً إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا يُقَالُ لِتَارِكِ الْجَادَّةِ اعْتِسَافًا أَوْ ذَهَابًا فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ: أي تَذْهَبُ؟ مُثِّلَتْ حَالُهُمْ بِحَالِهِ فِي تَرْكِهِمُ الْحَقَّ وَعُدُولِهِمْ عَنْهُ إِلَى الْبَاطِلِ. انْتَهَى. ذِكْرٌ: تَذْكِرَةٌ وَعِظَةٌ، لِمَنْ شاءَ: بَدَلٌ مِنْ لِلْعالَمِينَ، ثم عذق مَشِيئَةَ الْعَبِيدِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ خَصَّصَ تَعَالَى مَنْ شَاءَ الِاسْتِقَامَةَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا وَتَنْبِيهًا وَذِكْرًا لِتَلَبُّسِهِمْ بِأَفْعَالِ الِاسْتِقَامَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ تَكَسُّبَ الْعَبْدِ عَلَى الْعُمُومِ فِي اسْتِقَامَةٍ وَغَيْرِهَا إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتِرَاعِهِ الْإِيمَانَ فِي صَدْرِ الْمَرْءِ. انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا أَبْدَلُوا مِنْهُمْ لِأَنَّ الَّذِينَ شَاءُوا الِاسْتِقَامَةَ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالذِّكْرِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوعَظْ بِهِ غَيْرُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مَوْعُوظِينَ جَمِيعًا. وَما تَشاؤُنَ الِاسْتِقَامَةَ يَا مَنْ يَشَاؤُهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى ولطفه، أو مَا تَشَاءُونَهَا أَنْتُمْ يَا مَنْ لَا يَشَاؤُهَا إِلَّا بِقَسْرِ اللَّهِ وَإِلْجَائِهِ. انْتَهَى. فَفَسَّرَ كُلٌّ مِنِ ابْنِ عطية والزمخشري الْمَشِيئَةَ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا شَاءَتِ الْعَرَبُ الْإِسْلَامَ حَتَّى شَاءَ اللَّهُ لها.

(10/419)


إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

سورة الانفطار

[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
بَعْثَرْتُ الْمَتَاعَ: قَلَبْتُهُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، وَبَعْثَرْتُ الْحَوْضَ وَبَحْثَرْتُهُ: هَدَمْتُهُ وَجَعَلْتُ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ.
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ، يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ، كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ، إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ، وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ، وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ.

(10/420)


هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَانْفِطَارُهَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَانْتِثَارُ الْكَوَاكِبِ: سُقُوطُهَا مِنْ مَوَاضِعِهَا كَالنِّظَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فُجِّرَتْ بتشديد الجيم ومجاهد وَالرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ وَالزَّعْفَرَانِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: بِخَفِّهَا، وَتَفْجِيرُهَا مِنَ امْتِلَائِهَا، فَتُفَجَّرُ مِنْ أَعْلَاهَا وَتَفِيضُ عَلَى مَا يَلِيهَا، أَوْ مِنْ أَسْفَلِهَا فَيُذْهِبُ اللَّهُ مَاءَهَا حَيْثُ أَرَادَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: فَجَرَتْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مُخَفَّفًا بِمَعْنَى: بَغَتْ لِزَوَالِ الْبَرْزَخِ نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَبْغِيانِ»
، لأن البغي والفجور مُتَقَابِلَانِ. بُعْثِرَتْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بُحِثَتْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أُثِيرَتْ لِبَعْثِ الْأَمْوَاتِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أُخْرِجَ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْثَرَ وَبَحْثَرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُمَا مُرَكَّبَانِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْبَحْثِ مَعَ رَاءٍ مَضْمُومَةٍ إِلَيْهِمَا، وَالْمَعْنَى: بُحِثَتْ وَأُخْرِجَ مَوْتَاهَا. وَقِيلَ: لِبَرَاءَةَ الْمُبَعْثِرَةُ، لِأَنَّهَا بَعْثَرَتْ أَسْرَارَ الْمُنَافِقِينَ. انْتَهَى. فَظَاهِرُ قَوْلِهِ أَنَّهُمَا مُرَكَّبَانِ أَنَّ مَادَّتَهُمَا مَا ذُكِرَ، وَأَنَّ الرَّاءَ ضُمَّتْ إِلَى هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَالْأَمْرُ لَيْسَ كَمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُ، لِأَنَّ الرَّاءَ لَيْسَتْ مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ، بَلْ هُمَا مَادَّتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ وَإِنِ اتَّفَقَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَأَمَّا أَنَّ إِحْدَاهُمَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَذَا فَلَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ: دَمِثٌ وَدِمَثْرٌ وَسَبِطٌ وَسِبَطْرٌ.
مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شَبَهِهِ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا غَرَّكَ، فَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالْأَعْمَشُ: مَا أَغَرَّكَ بهمزة، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَعَجُّبًا، وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً، وَأَغَرَّكَ بِمَعْنَى أَدْخَلَكَ في الغرة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ قَوْلِكَ غَرَّ الرَّجُلُ فَهُوَ غَارٌّ. إِذَا غَفَلَ مِنْ قَوْلِكَ بَيْنَهُمُ الْعَدُوُّ وَهُمْ غَارُّونَ، وَأَغَرَّهُ غَيْرُهُ: جَعَلَهُ غَارًّا. انْتَهَى.
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَرَأَ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، فَقَالَ: جَهْلُهُ
وَقَالَهُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقَرَأَ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، وَهَذَا يَتَرَتَّبُ فِي الْكَافِرِ وَالْعَاصِي. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَدُوُّهُ الْمُسَلَّطُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: سَتْرُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: كَرَمُ اللَّهِ وَلُطْفُهُ يُلَقِّنُ هَذَا الْجَوَابَ، فَهَذَا لُطْفٌ بِالْعَاصِي الْمُؤْمِنِ. وَقِيلَ: عَفْوُهُ عَنْهُ إِنْ لَمْ يُعَاقِبْهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سِتْرُهُ الْمُرَخَى. وَقَالَ ابْنُ السِّمَاكِ:
يَا كَاتِمَ الذَّنْبِ أَمَا تَسْتَحِي ... وَاللَّهُ فِي الْخَلْوَةِ رَائِيكَا
غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إِمْهَالُهُ ... وَسَتْرُهُ طُولَ مَسَاوِيكَا
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي جَوَابِ الْفُضَيْلِ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِرَافِ بِالْخَطَأِ.
بِالِاغْتِرَارِ: بِالسَّتْرِ، وَلَيْسَ بِاعْتِذَارٍ كَمَا يَظُنُّهُ الطَّمَّاعُ، وَيَظُنُّ بِهِ قُصَّاصُ الْحَشْوِيَّةِ، ويروون
__________
(1) سورة الرحمن: 55/ 20.

(10/421)


عَنْ أَئِمَّتِهِمْ إِنَّمَا قَالَ: بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ دُونَ سَائِرِ صِفَاتِهِ، لِيُلَقِّنَ عَبْدَهُ الْجَوَابَ حَتَّى يَقُولَ:
غَرَّنِي كَوْنُهُ الْكَرِيمَ. انْتَهَى. وَهُوَ عَادَتِهِ فِي الطَّعْنِ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ. فَسَوَّاكَ: جَعَلَكَ سَوِيًّا فِي أَعْضَائِكَ، فَعَدَلَكَ: صَيَّرَكَ مُعْتَدِلًا مُتَنَاسِبَ الْخَلْقِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنِ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَعِيسَى وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْكُوفِيُّونَ: بِخَفِّ الدَّالِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِشَدِّهَا. وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ كَقِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ، أَيْ عَدَلَ بَعْضَ أَعْضَائِكَ بِبَعْضٍ حَتَّى اعْتَدَلَتْ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَصَرَفَكَ. يُقَالُ: عَدَلَهُ عَنِ الطَّرِيقِ: أَيْ عَدَلَكَ عَنْ خِلْقَةِ غَيْرِكَ إِلَى خِلْقَةٍ حَسَنَةٍ مُفَارِقَةٍ لِسَائِرِ الْخَلْقِ، أَوْ فَعَدَلَكَ إِلَى بَعْضِ الْأَشْكَالِ وَالْهَيْئَاتِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ:
فِي أَيِّ صُورَةٍ يَتَعَلَّقُ بِرَبِّكَ، أَيْ وَضَعَكَ في صورة اقتضتها مشيئة مِنْ حُسْنٍ وَطُولٍ وَذُكُورَةٍ، وَشَبَهٍ بِبَعْضِ الْأَقَارِبِ أَوْ مُقَابِلِ ذَلِكَ. وَمَا زَائِدَةٌ، وَشَاءَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِصُورَةٍ، وَلَمْ يَعْطِفْ رَكَّبَكَ بِالْفَاءِ كَالَّذِي قَبْلَهُ، لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِعَدَلَكَ، وَكَوْنُ فِي أَيِّ صُورَةٍ مُتَعَلِّقًا بِرَبِّكَ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ رَكَّبَكَ حَاصِلًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ: إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: فَعَدَلَكَ، أَيْ: فَعَدَلَكَ فِي صُورَةٍ، أَيَّ صُورَةِ وَأَيُّ تَقْتَضِي التَّعْجِيبَ وَالتَّعْظِيمَ، فَلَمْ يَجْعَلْكَ فِي صُورَةِ خِنْزِيرٍ أَوْ حِمَارٍ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَا منصوبة بشاء، كَأَنَّهُ قَالَ: أَيَّ تَرْكِيبٍ حَسَنٍ شَاءَ رَكَّبَكَ، وَالتَّرْكِيبُ: التَّأْلِيفُ وَجَمْعُ شَيْءٍ إِلَى شيء. وأدغم حارجة عَنْ نَافِعٍ رَكَّبَكْ كَلَّا، كَأَبِي عَمْرٍو فِي إِدْغَامِهِ الْكَبِيرِ. وَكَلَّا:
رَدْعٌ وَزَجْرٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ اغْتِرَارِهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَ كَلَّا مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ وَالدِّينِ أَوْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالتَّاءِ، خِطَابًا لِلْكُفَّارِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَأَبُو بِشْرٍ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ.
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ: اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ، أَيْ عَلَيْهِمْ مَنْ يَحْفَظُ أَعْمَالَهُمْ وَيَضْبُطُهَا.
وَيَظْهَرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ تُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ. وَالْكَاتِبُونَ: الْحَفَظَةُ يَضْبُطُونَ أَعْمَالَكُمْ لِأَنْ تُجَازَوْا عَلَيْهَا، وَفِي تَعْظِيمِ الْكَتَبَةِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ الْجَزَاءِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَصْلَوْنَها، مُضَارِعُ صَلِيَ مُخَفَّفًا وَابْنُ مِقْسَمٍ: مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ، فَيَكْتُبُونَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْجَزَاءُ. قَالَ الْحَسَنُ: يَعْلَمُونَ مَا ظَهَرَ دُونَ حَدِيثِ النَّفْسِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: إِذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِالْحَسَنَةِ أَوِ السَّيِّئَةِ، وَجَدَ الْكَاتِبَانِ رِيحَهَا. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: حَيْثُ قَالَ يَعْلَمُونَ وَلَمْ يَقُلْ يَكْتُبُونَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ الْجَمِيعَ فَيَخْرُجُ عَنْهُ السَّهْوُ وَالْخَطَأُ وَمَا لَا تَبِعَةَ فِيهِ. وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ: أَيْ عَنِ الْجَحِيمِ، أَيْ

(10/422)


لَا يُمْكِنُهُمُ الْغَيْبَةُ، كَقَوْلِهِ: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ «1» . وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مُشَاهِدُوهَا فِي الْبَرْزَخِ. لَمَّا أَخْبَرَ عن صليهم يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْبَرَ بِانْتِفَاءِ غَيْبَتِهِمْ عَنْهَا قَبْلَ الصَّلْيِ، أَيْ يَرَوْنَ مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ.
وَما أَدْراكَ: تَعْظِيمٌ لِهَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى وَابْنُ جُنْدُبٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ بِرَفْعِ الْمِيمِ، أَيْ هُوَ يَوْمٌ، وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِمَّا قَبْلَهُ. وَقَرَأَ مَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: يَوْمٌ لَا تَمْلِكُ عَلَى التَّنْكِيرِ مُنَوَّنًا مَرْفُوعًا فَكَّهُ عَنِ الْإِضَافَةِ وَارْتِفَاعُهُ عَلَى هُوَ يَوْمٌ، وَلَا تَمْلِكُ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَا تَمْلِكُ فِيهِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْرَجُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: يَوْمَ بِالْفَتْحِ عَلَى الظَّرْفِ، فَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هِيَ حَرَكَةُ إِعْرَابٍ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَرَكَةَ بِنَاءٍ، وَهُوَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرٍ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ: الْجَزَاءُ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ، أَوْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ، أَيْ يُدَانُونَ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيِ اذْكُرْ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ. وَيَجُوزُ عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجِيزُ بِنَاءَهُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رفع خبر المبتدأ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ. يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً
: عَامٌّ كَقَوْلِهِ: فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا «2» . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِنَفْسٍ كَافِرَةٍ شَيْئًا مِنَ الْمَنْفَعَةِ.
وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ، قَالَ قَتَادَةُ: وَكَذَلِكَ هُوَ الْيَوْمُ، لَكِنَّهُ هُنَاكَ لَا يَدَّعِي أَحَدٌ مُنَازَعَةً، وَلَا يُمَكِّنُ هُوَ أَحَدًا مِمَّا كَانَ مَلَّكَهُ فِي الدنيا.
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 167.
(2) سورة سبأ: 34/ 42.

(10/423)


وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

سورة المطفّفين

[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 36]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)
كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (36)

(10/424)


التَّطْفِيفُ النُّقْصَانُ وَأَصْلُهُ مِنَ الطَّفِيفِ وَهُوَ النُّزُلُ الْحَقِيرُ وَالْمُطَفِّفُ الْآخِذُ فِي وَزْنٍ أَوْ كَيْلٍ طَفِيفًا أَيْ شَيْئًا حَقِيرًا خَفِيًّا. رَانَ غَطَّى وَغَشَّى كَالصَّدَأِ يُغَشِّي السَّيْفَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكَمْ رَانَ مِنْ ذَنْبٍ عَلَى قَلْبِ فَاجِرٍ ... فَتَابَ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي رَانَ فَانْجَلَا
وَأَصْلُ الرَّيْنِ الْغَلَبَةُ يُقَالُ رَانَتِ الْخَمْرُ عَلَى عَقْلِ شَارِبِهَا وَرَانَ الْغَشْيُ عَلَى عَقْلِ الْمَرِيضِ. قَالَ أَبُو ربيد:
ثُمَّ لَمَّا رَآهُ رَانَتْ بِهِ الْخَمْرُ وَأَنْ لَا يَرِينَهُ بِانْتِقَاءِ وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ رِينَ بِالرَّجُلِ يُرَانُ بِهِ رَيْنًا إِذَا وَقَعَ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ مِنْهُ الْخُرُوجَ.
الرَّحِيقُ قَالَ الْخَلِيلُ أَجْوَدُ الْخَمْرِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ الشَّرَابُ الَّذِي لَا غِشَّ فِيهِ. قَالَ حَسَّانَ:
بَرَدَى يُصَفِّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ نَافَسَ فِي الشَّيْءِ رَغِبَ فِيهِ وَنَفُسْتُ عَلَيْهِ بِالشَّيْءِ أَنْفُسُ نَفَاسَةً إِذَا بَخِلْتَ بِهِ عَلَيْهِ وَلَمْ تُحِبَّ أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ. التَّسْنِيمُ أَصْلُهُ الِارْتِفَاعُ وَمِنْهُ تَسْنِيمُ الْقَبْرِ وَسَنَامُ الْبَعِيرِ وَتَسَنَّمْتُهُ عَلَوْتَ سَنَامَهُ. الْغَمْزُ الْإِشَارَةُ بِالْعَيْنِ وَالْحَاجِبِ.
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ، كِتابٌ مَرْقُومٌ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ، ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ، مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَمُقَاتِلٍ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مَدَنِيَّةٌ إِلَّا مِنْ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إِلَى آخِرِهَا، فَهُوَ مَكِّيٌّ، ثَمَانِ آيَاتٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلٌ يُكَنَّى أَبَا جُهَيْنَةَ، لَهُ مَكِيلَانِ، يَأْخُذُ بِالْأَوْفَى وَيُعْطِي بِالْأَنْقَصِ، فَنَزَلَتْ. وَيُقَالُ: إِنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ.

(10/425)


وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَ بَعْضُهَا بِمَكَّةَ، وَنَزَلَ أَمْرُ التَّطْفِيفِ بِالْمَدِينَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ فَسَادًا فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَأَصْلَحَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ السُّورَةِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِيُصْلِحَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَهُمْ قَبْلَ ورود رسوله صلى الله عليه وسلّم. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ ظَاهِرَةٌ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى السُّعَدَاءَ وَالْأَشْقِيَاءَ وَيَوْمَ الْجَزَاءِ وَعَظَّمَ شَأْنَ يَوْمِهِ، ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِبَعْضِ الْعُصَاةِ، وَذَكَّرَهُمْ بِأَخَسِّ مَا يَقَعُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَهِيَ التَّطْفِيفُ الَّذِي لَا يَكَادُ يُجْدِي شَيْئًا فِي تَثْمِيرِ الْمَالِ وَتَنْمِيَتِهِ.
إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ: قَبَضُوا لَهُمْ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ، أَقْبَضُوهُمْ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مِنْ وَعَلَى يَعْتَقِبَانِ هُنَا، اكْتَلْتُ عَلَى النَّاسِ، وَاكْتَلْتُ مِنَ النَّاسِ. فَإِذَا قَالَ:
اكْتَلْتُ مِنْكَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اسْتَوْفَيْتُ مِنْكَ وَإِذَا قَالَ: اكْتَلْتُ عَلَيْكَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَخَذْتُ مَا عَلَيْكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَلَى مُتَعَلِّقٌ باكتالوا كما قررنا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا كَانَ اكْتِيَالُهُمْ مِنَ النَّاسِ اكْتِيَالًا يَضُرُّهُمْ وَيُتَحَامَلُ فِيهِ عَلَيْهِمْ، أَبْدَلَ عَلَى مَكَانٍ مِنْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ وَيَجُوزُ أَنْ يتعلق بيستوفون، أَيْ يَسْتَوْفُونَ عَلَى النَّاسِ خَاصَّةً، فَأَمَّا أَنْفُسُهُمْ فَيَسْتَوْفُونَ لَهَا. انْتَهَى.
وَكَالَ وَوَزَنَ مِمَّا يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، فَتَقُولُ: كِلْتُ لَكَ وَوَزَنْتُ لَكَ، وَيَجُوزُ حَذْفُ اللَّامِ، كَقَوْلِكَ: نَصَحْتُ لَكَ وَنَصَحْتُكَ، وَشَكَرْتُ لَكَ وَشَكَرْتُكَ وَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ نَصْبٍ، أَيْ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ، فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ وَوَصَلَ الْفِعْلَ بِنَفْسِهِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ. وَعَنْ عِيسَى وَحَمْزَةَ: الْمَكِيلُ لَهُ وَالْمَوْزُونُ لَهُ مَحْذُوفٌ، وَهُمْ ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي هُوَ الْوَاوُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مَرْفُوعًا لِلْمُطَفِّفِينَ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يَخْرُجُ بِهِ إِلَى نَظْمٍ فَاسِدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى: إِذَا أَخَذُوا مِنَ النَّاسِ اسْتَوْفَوْا، وَإِذَا أَعْطَوْهُمْ أَخْسَرُوا. وَإِنْ جَعَلْتَ الضَّمِيرَ لِلْمُطَفِّفِينَ، انْقَلَبَ إِلَى قَوْلِكَ:
إِذَا أَخَذُوا مِنَ النَّاسِ اسْتَوْفَوْا، وَإِذَا تَوَلَّوُا الْكَيْلَ أَوِ الْوَزْنَ هُمْ عَلَى الْخُصُوصِ أَخْسَرُوا، وَهُوَ كَلَامٌ مُتَنَافِرٌ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَاقِعٌ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْمُبَاشِرِ. انْتَهَى. وَلَا تَنَافُرَ فِيهِ بِوَجْهٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُؤَكَّدَ الضَّمِيرُ وَأَنْ لَا يُؤَكَّدَ، وَالْحَدِيثُ وَاقِعٌ فِي الْفِعْلِ. غَايَةُ مَا فِي هَذَا أَنْ مُتَعَلِّقَ الِاسْتِيفَاءِ، وَهُوَ عَلَى النَّاسِ، مَذْكُورٌ وَهُوَ فِي كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ، مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يُخْسِرُونَ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ إِذَا كَانَ لِأَنْفُسِهِمْ، إِنَّمَا يُخْسِرُونَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ لَا. قِيلَ أَوِ اتَّزَنُوا، كَمَا قِيلَ أَوْ وَزَنُوهُمْ؟ قُلْتُ:
كَأَنَّ الْمُطَفِّفِينَ كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ إِلَّا بِالْمَكَايِيلِ دُونَ الْمَوَازِينِ لِتَمَكُّنِهِمْ بِالِاكْتِيَالِ مِنِ الِاسْتِيفَاءِ وَالسَّرِقَةِ، لِأَنَّهُمْ يُدَعْدِعُونَ وَيَحْتَالُونَ فِي الْمَلْءِ، وَإِذَا أَعْطَوْا كَالُوا أَوْ

(10/426)


وَزَنُوا لِتَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْبَخْسِ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا. يُخْسِرُونَ: ينقصون. انتهى.
ويخسرون مُعَدًّى بِالْهَمْزَةِ، يُقَالُ: خَسِرَ الرَّجُلُ وَأَخْسَرَهُ غَيْرُهُ.
أَلا يَظُنُّ: تَوْقِيفٌ عَلَى أَمْرِ الْقِيَامَةِ وَإِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ فِي فِعْلِهِمْ ذَلِكَ، أَيْ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ويوم ظَرْفٌ، الْعَامِلُ فِيهِ مُقَدَّرٌ، أَيْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مَبْعُوثُونَ، وَيَكُونَ مَعْنَى لِيَوْمٍ: أَيْ لِحِسَابِ يَوْمٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ عَظِيمٍ، لَكِنَّهُ بني وقرىء يَوْمَ يَقُومُ بِالْجَرِّ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ لِيَوْمٍ، حَكَاهُ أبو معاد. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَوْمُ بِالرَّفْعِ، أَيْ ذَلِكَ يَوْمٌ، وَيَظُنُّ بِمَعْنَى يُوقِنُ، أَوْ هُوَ عَلَى وَضْعِهِ مِنَ التَّرْجِيحِ. وَفِي هَذَا الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، وَوَصْفِ الْيَوْمِ بِالْعِظَمِ، وَقِيَامِ النَّاسِ لِلَّهِ خَاضِعِينَ، وَوَصْفِهِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ هَذَا الذَّنْبِ وَهُوَ التَّطْفِيفُ. كَلَّا:
رَدْعٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّطْفِيفِ،
وَهَذَا الْقِيَامُ تَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهِ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ، وَفِي هَذَا الْقِيَامِ إِلْجَامُ الْعَرَقِ لِلنَّاسِ، وَأَحْوَالُهُمْ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.
وَالْفُجَّارُ:
الْكُفَّارُ، وَكِتَابُهُمْ هُوَ الَّذِي فِيهِ تحصيل أعمالهم. سِجِّينٌ، قَالَ الْجُمْهُورُ: فِعِّيلٌ مِنَ السِّجْنِ، كَسِكِّيرٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ سَاجِنٍ، فَجَاءَ بِنَاءَ مُبَالَغَةٍ، فَسَجِّينٌ عَلَى هَذَا صِفَةٌ لِمَوْضِعِ الْمَحْذُوفِ. قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
وَرُفْقَةٌ يَضْرِبُونَ الْبَيْضَ ضَاحِيَةً ... ضَرْبًا تَوَاصَتْ بِهِ الْأَبْطَالُ سِجِّينَا
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا سِجِّينٌ، أَصِفَةٌ هُوَ أَمِ اسْمٌ؟ قُلْتُ: بَلْ هُوَ اسْمُ عَلَمٍ مَنْقُولٍ مِنْ وَصْفٍ كَحَاتِمٍ، وَهُوَ مُنْصَرِفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا سَبَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّعْرِيفُ.
انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ أَنَّهُ كِتَابٌ جَامِعٌ، وَهُوَ دِيوَانُ الشَّرِّ، دَوَّنَ اللَّهُ فِيهِ أَعْمَالَ الشَّيَاطِينِ وَأَعْمَالَ الْكَفَرَةِ وَالْفَسَقَةِ مِنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَهُوَ: كِتابٌ مَرْقُومٌ: مَسْطُورٌ بَيْنَ الْكِتَابَةِ، أَوْ مُعَلَّمٌ يَعْلَمُ مَنْ رَآهُ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا كُتِبَ مِنْ أَعْمَالِ الْفُجَّارِ مُثْبَتٌ فِي ذَلِكَ الدِّيوَانِ. انْتَهَى. وَاخْتَلَفُوا فِي سِجِّينٍ إِذَا كَانَ مَكَانًا اخْتِلَافًا مُضْطَرِبًا حَذَفْنَا ذِكْرَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ سِجِّينًا هُوَ كِتَابٌ، وَلِذَلِكَ أُبْدِلَ مِنْهُ كِتابٌ مَرْقُومٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سِجِّينٌ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَسَارِ وَالْهَوَانِ، كَمَا تَقُولُ: بَلَغَ فُلَانٌ الْحَضِيضَ إِذَا صَارَ فِي غَايَةِ الْجُمُودِ. وَقَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: سِجِّينٌ، نُونُهُ بَدَلٌ مِنْ لَامٍ، وَهُوَ مِنَ السِّجِّيلِ، فَتَلَخَّصَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أن سجين نُونُهُ أَصْلِيَّةٌ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ لَامٍ. وَإِذَا كَانَتْ أَصْلِيَّةً، فَاشْتِقَاقُهُ مِنَ السِّجْنِ. وَقِيلَ: هُوَ مَكَانٌ، فَيَكُونُ كِتابٌ مَرْقُومٌ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ كِتَابٌ. وَعَنَى بِالضَّمِيرِ عَوْدَهُ عَلَى كِتابَ الفُجَّارِ، أَوْ عَلَى سِجِّينٌ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ هُوَ مَحَلُّ كِتابٌ مَرْقُومٌ، وكِتابٌ

(10/427)


مَرْقُومٌ
تَفْسِيرٌ لَهُ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ. وَالضَّمِيرُ الْمُقَدَّرُ الَّذِي هُوَ عَائِدٌ عَلَى سِجِّينٌ، أَوْ كِنَايَةٌ عَنِ الْخَسَارِ وَالْهَوَانِ، هَلْ هُوَ صِفَةٌ أَوْ عَلَمٌ؟ وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ:
أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا كُنْتَ تَعْلَمُ. مَرْقُومٌ: أَيْ مُثْبَتٌ كَالرَّقْمِ لَا يَبْلَى وَلَا يُمْحَى. قَالَ قَتَادَةُ: رُقِمَ لَهُمْ: بِشَرٍّ، لَا يُزَادُ فِيهِمْ أَحَدٌ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: مَرْقُومٌ:
مَخْتُومٌ بِلُغَةِ حِمْيَرَ، وَأَصْلُ الرَّقْمِ الْكِتَابَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
سَأَرْقُمُ فِي الْمَاءِ الْقُرَاحِ إِلَيْكُمْ ... عَلَى بُعْدِكُمْ إِنْ كَانَ لِلْمَاءِ رَاقِمُ
وَتَبَيَّنَ مِنَ الْإِعْرَابِ السَّابِقِ أَنَّ كِتابٌ مَرْقُومٌ بَدَلٌ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَكَانَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَدْ قَالَ: إِنَّ سِجِّينًا مَوْضِعُ سَاجِنٍ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَعِبَارَةٌ عَنِ الْخَسَارِ عَلَى قَوْلِ عِكْرِمَةَ، ثم قَالَ: كِتابٌ مَرْقُومٌ. مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي سِجِّينٍ، فَكِتَابٌ مُرْتَفِعٌ عِنْدَهُ عَلَى خَبَرِ إِنَّ، وَالظَّرْفُ الَّذِي هُوَ لَفِي سِجِّينٍ مُلْغًى. وَمَنْ قَالَ فِي سِجِّينٍ بِالْقَوْلِ الثَّانِي، فَكِتَابٌ مَرْقُومٌ عَلَى خَبَرِ ابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ التَّقْدِيرُ هُوَ كِتابٌ مَرْقُومٌ، وَيَكُونُ هَذَا الْكِتَابُ مُفَسِّرًا لِسِجِّينٍ مَا هُوَ. انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: وَالظَّرْفُ الَّذِي هُوَ لَفِي سِجِّينٍ مُلْغًى قَوْلٌ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ اللَّامَ الَّتِي فِي لَفِي سِجِّينٍ دَاخِلَةٌ عَلَى الْخَبَرِ، وَإِذَا كَانَتْ دَاخِلَةً عَلَى الْخَبَرِ، فَلَا إِلْغَاءَ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، بَلْ هُوَ الْخَبَرُ. وَلَا جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّامُ دَخَلَتْ فِي لَفِي سِجِّينٍ عَلَى فَضْلَةٍ هِيَ مَعْمُولَةٌ لِلْخَبَرِ أَوْ لِصِفَةِ الْخَبَرِ، فَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُلْغًى لَا خَبَرًا، لِأَنَّ كِتَابٌ مَوْصُوفٌ بِمَرْقُومٍ فَلَا يَعْمَلُ، وَلِأَنَّ مَرْقُومًا الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لِكِتَابٍ لَا يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ اللَّامُ فِي مَعْمُولِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَعْمُولُهُ عَلَى الْمَوْصُوفِ، فَتَعَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: لَفِي سِجِّينٍ هُوَ خَبَرُ إِنَّ.
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ: صِفَةُ ذَمٍّ، كُلُّ مُعْتَدٍ: مُتَجَاوِزِ الْحَدِّ، أَثِيمٍ: صِفَةُ مُبَالَغَةٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِذا وَالْحَسَنُ: أَئِذَا بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَالْجُمْهُورُ: تُتْلى بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ مِقْسَمٍ: بِالْيَاءِ. قِيلَ: وَنَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَرْثِ. بَلْ رانَ، قُرِئَ بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي الرَّاءِ، وَبِالْإِظْهَارِ وَقَفَ حَمْزَةُ عَلَى بل وقفا خفيفا يسير التبيين الْإِظْهَارِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْبَاذِشِ: وَأَجْمَعُوا، يَعْنِي الْقُرَّاءَ، عَلَى إِدْغَامِ اللَّامِ فِي الرَّاءِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سَكْتِ حَفْصٍ عَلَى بَلْ، ثُمَّ يَقُولُ: رانَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ مِنَ الْإِجْمَاعِ. فَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ عَنْ قَالُونَ: مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ إِظْهَارُ اللَّامِ عِنْدَ الرَّاءِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ «1» ، بَلْ رَبُّكُمْ «2» . وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَقَرَأَ نَافِعٌ: بَلْ رانَ
__________
(1) سورة النساء: 4/ 158. [.....]
(2) سورة الأنبياء: 21/ 56.

(10/428)


غَيْرَ مُدْغَمٍ، وَفِيهِ أَيْضًا: وَقَرَأَ نَافِعٌ أَيْضًا بِالْإِدْغَامِ وَالْإِمَالَةِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: اللَّامُ مَعَ الرَّاءِ نَحْوَ: أَسْفَلُ رَحِمِهِ الْبَيَانُ وَالْإِدْغَامُ حَسَنَانِ. وقال الزمخشري: وقرى بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي الرَّاءِ، وَبِالْإِظْهَارِ وَالْإِدْغَامُ أَجْوَدُ، وَأُمِيلَتِ الْأَلِفُ وَفُخِّمَتْ. انْتَهَى. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: فَإِذَا كَانَتْ، يَعْنِي اللَّامَ، غَيْرَ لَامِ الْمَعْرِفَةِ، نَحْوَ لَامِ هَلْ وَبَلْ، فَإِنَّ الْإِدْغَامَ فِي بَعْضِهَا أَحْسَنُ، وَذَلِكَ نَحْوُ:
هَلْ رَأَيْتَ؟ فَإِنْ لَمْ تُدْغِمْ فَقُلْتَ: هَلْ رَأَيْتَ؟ فَهِيَ لُغَةٌ لِأَهْلِ الْحِجَازِ، وَهِيَ غَرِيبَةٌ جَائِزَةٌ.
انْتَهَى. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حَتَّى يَمُوتَ قَلْبُهُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ. وَفِي الْحَدِيثِ نَحْوٌ مِنْ هَذَا. فَقَالَ الْكَلْبِيُّ: طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ سَلَّامٍ: غَطَّى. مَا كانُوا يَكْسِبُونَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَّقَ اللَّوْمَ بِهِمْ فِيمَا كَسَبُوهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِخَلْقٍ مِنْهُ تَعَالَى وَاخْتِرَاعٍ، لِأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُتَعَلِّقَانِ بِكَسْبِ الْعَبْدِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لِلْكُفَّارِ. فَمَنْ قَالَ بِالرُّؤْيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ، قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، فَهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنْهُ. وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَالِكٌ عَلَى سَبِيلِهِ الرُّؤْيَةُ مِنْ جِهَةِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَإِلَّا فَلَوْ حَجَبَ الْكُلَّ لَمَا أَغْنَى هَذَا التَّخْصِيصُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمَّا حَجَبَ قَوْمًا بِالسُّخْطِ، دَلَّ عَلَى أَنْ قَوْمًا يَرَوْنَهُ بِالرِّضَا. وَمَنْ قَالَ بِأَنْ لَا رُؤْيَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالَ: إِنَّهُمْ يُحْجَبُونَ عَنْ رَبِّهِمْ وَغُفْرَانِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: لَمَّا حَجَبَ أَعْدَاءَهُ فَلَمْ يَرَوْهُ، تَجَلَّى لِأَوْلِيَائِهِ حَتَّى رَأَوْهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَلَّا رَدْعٌ عَنِ الْكَسْبِ الراثن عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَكَوْنُهُمْ مَحْجُوبِينَ عَنْهُ تَمْثِيلٌ لِلِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ وَإِهَانَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْذَنُ عَلَى الْمُلُوكِ إِلَّا لِلْوُجَهَاءِ الْمُكَرَّمِينَ لَدَيْهِمْ، وَلَا يُحْجَبُ عَنْهُمْ إِلَّا الْأَدْنِيَاءُ الْمُهَانُونَ عِنْدَهُمْ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا اعْتَرَوْا بَابَ ذِي عَيْبَةٍ رُحِّبُوا ... وَالنَّاسُ مَا بَيْنَ مَرْحُوبٍ وَمَحْجُوبِ
وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: مَحْجُوبِينَ عَنْ رَحْمَتِهِ. وَعَنْ ابْنِ كَيْسَانَ: عَنْ كَرَامَتِهِ. انْتَهَى. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْمَعْنَى مَحْجُوبُونَ عَنْ كَرَامَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَعَنْ رَبِّهِمْ مُتَعَلِّقٌ بمحجوبون، وَهُوَ الْعَامِلُ فِي يَوْمَئِذٍ، وَالتَّنْوِينُ تَنْوِينُ الْعِوَضِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، وَلَمْ تَتَقَدَّمْ جُمْلَةٌ قَرِيبَةٌ يَكُونُ عِوَضًا مِنْهَا، لَكِنَّهُ تَقَدَّمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، فَهُوَ عِوَضٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ إِذِ يَقُومُ النَّاسُ. ثُمَّ هُمْ مَعَ الْحِجَابِ عَنِ اللَّهِ هم صالوا النَّارِ، وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الْحِجَابِ. ثُمَّ يُقالُ: أَيْ تَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ النَّارِ. هذَا، أَيِ الْعَذَابُ وَصَلْيُ النَّارِ وَهَذَا الْيَوْمُ، الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هذَا الَّذِي، يَعْنِي الْجُمْلَةُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لِأَنَّهُ قَوْلٌ بُنِيَ لَهُ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ يُقَالُ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ

(10/429)


عَلَى نَحْوِ هَذَا فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «1» .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ، كِتابٌ مَرْقُومٌ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ، إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ، وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ. عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ، إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ، وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ، وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ. وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ، فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَمْرَ كِتَابِ الْفُجَّارِ، عَقَّبَهُ بِذِكْرِ كِتَابِ ضِدِّهِمْ لِيَتَبَيَّنَ الْفَرْقُ. عِلِّيُّونَ:
جَمْعٌ وَاحِدُهُ عَلِيٌّ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ، قَالَهُ يُونُسُ وَابْنُ جِنِّيٍّ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ:
وَسَبِيلُهُ أَنْ يُقَالَ عِلِّيَّةٌ، كَمَا قَالُوا لِلْغُرْفَةِ عِلِّيَّةٌ، فَلَمَّا حُذِفَتِ التَّاءُ عَوَّضُوا مِنْهَا الْجَمْعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَقِيلَ: هُوَ وَصْفٌ لِلْمَلَائِكَةِ، فَلِذَلِكَ جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ عَلَى صِفَةِ الْجَمْعِ، وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، كَقَوْلِهِ: عِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ وَالْعَرَبُ إِذَا جَمَعَتْ جَمْعًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِنَاءٌ مِنْ وَاحِدِهِ وَلَا تَثْنِيَةٌ، قَالُوا فِي الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أُعْرِبَ هَذَا الِاسْمُ كَإِعْرَابِ الْجَمْعِ، هَذِهِ قَنْسَرُونَ، وَرَأَيْتُ قَنْسَرِينَ.
وَعِلِّيُّونَ: الْمَلَائِكَةُ، أَوِ الْمَوَاضِعُ الْعَلِيَّةُ، أَوْ عَلَمٌ لِدِيوَانِ الْخَيْرِ الَّذِي دُوِّنَ فِيهِ كُلُّ مَا عَلِمَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَصُلَحَاءُ الثَّقَلَيْنِ، أَوْ عُلُوٌّ فِي عُلُوٍّ مُضَاعَفٍ، أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ لِلزَّمَخْشَرِيِّ.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: كِتابَ الْأَبْرارِ: كِتَابَةَ أَعْمَالِهِمْ، لَفِي عِلِّيِّينَ. ثُمَّ وَصَفَ عِلِّيِّينَ بِأَنَّهُ كِتابٌ مَرْقُومٌ فِيهِ جَمِيعُ أَعْمَالِ الْأَبْرَارِ. وَإِذَا كَانَ مَكَانًا فَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ اخْتِلَافًا مُضْطَرِبًا رَغِبْنَا عَنْ ذِكْرِهِ. وَإِعْرَابُ لَفِي عِلِّيِّينَ، وكِتابٌ مَرْقُومٌ كَإِعْرَابِ لَفِي سِجِّينٍ، وكِتابٌ مَرْقُومٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وكِتابٌ مَرْقُومٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَبَرَ أَنَّ وَالظَّرْفُ مُلْغًى. انْتَهَى. هَذَا كَمَا قَالَ فِي لَفِي سِجِّينٍ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهَذَا مِثْلُهُ.
وَالْمُقَرَّبُونَ هُنَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ، يَنْظُرُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: إِلَى مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَاتِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَى أَهْلِ النَّارِ.
وَقِيلَ: يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَعْرِفُ بتاء الْخِطَابُ، لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، أو
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 11.

(10/430)


لِلنَّاظِرِ. نَضْرَةَ النَّعِيمِ، نَصْبًا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَطَلْحَةُ وَشَيْبَةُ وَيَعْقُوبُ وَالزَّعْفَرَانِيُّ: تُعْرَفُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، نَضْرَةُ رَفْعًا وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ قَرَأَ: يُعْرَفُ بِالْيَاءِ، إِذْ تَأْنِيثُ نَضْرَةٍ مَجَازِيٌّ وَالنَّضْرَةُ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي قَوْلِهِ: نَضْرَةً وَسُرُوراً «1» .
مَخْتُومٍ، الظَّاهِرُ أَنَّ الرَّحِيقَ خُتِمَ عَلَيْهِ تَهَمُّمًا وَتَنَظُّفًا بِالرَّائِحَةِ الْمِسْكِيَّةِ، كَمَا فَسَّرَهُ مَا بَعْدَهُ. وَقِيلَ: تُخْتَمُ أَوَانِيهِ مِنَ الْأَكْوَابِ وَالْأَبَارِيقِ بِمِسْكٍ مَكَانَ الطِّينَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
خِتامُهُ: أَيْ خَلْطُهُ وَمِزَاجُهُ، قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ وَعَلْقَمَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ:
مَعْنَاهُ خَاتِمَتُهُ، أَيْ يَجِدُ الرَّائِحَةَ عِنْدَ خَاتِمَةِ الشَّرَابِ، رَائِحَةَ الْمِسْكِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: أَيْ أَبْزَارُهُ الْمُقَطَّعُ وَذَكَاءُ الرَّائِحَةِ مَعَ طِيبِ الطَّعْمِ. وَقِيلَ: يُمْزَجُ بِالْكَافُورِ وَيُخْتَمُ مِزَاجُهُ بِالْمِسْكِ. وَفِي الصِّحَاحِ: الْخِتَامُ: الطِّينُ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: خُتِمَ إِنَاؤُهُ بِالْمِسْكِ بَدَلَ الطِّينِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ مُشَعْشَعًا مِنْ خَمْرِ بصرى ... نمته البحت مَشْدُودُ الْخِتَامِ
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالنَّخَعِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْكِسَائِيُّ:
خَاتَمُهُ، بَعْدَ الْخَاءِ أَلِفٌ وَفَتَحَ التَّاءَ
، وَهَذِهِ بَيِّنَةُ الْمَعْنَى، إِنَّهُ يُرَادُ بِهَا الطَّبْعُ عَلَى الرَّحِيقِ.
وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَعِيسَى وَأَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ: كَسْرُ التَّاءِ، أَيْ آخِرُهُ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ «2» ، وَفِيهِ حَذْفٌ، أَيْ خَاتِمُ رَائِحَتِهِ الْمِسْكُ أَوْ خَاتَمُهُ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ وَيُقْطَعُ. مِنْ تَسْنِيمٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَشْرَفُ شَرَابِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ اسْمٌ مُذَّكَّرٌ لِمَاءِ عَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَسْنِيمٍ: عَلَمٌ لَعِينٌ بِعَيْنِهَا، سُمِّيَتْ بِالتَّسْنِيمِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ سنمه إذا رفعه. وعَيْناً نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَى الْحَالِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يُسْقَوْنَ عَيْنًا، يَشْرَبُ بِهَا: أَيْ يَشْرَبُهَا أَوْ مِنْهَا، أَوْ ضَمَّنَ يَشْرَبُ مَعْنَى يُرْوَى بِهَا أَقْوَالٌ. الْمُقَرَّبُونَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو صَالِحٍ: يَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا وَيُمْزَجُ لِلْأَبْرَارِ. وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: الْأَبْرَارُ هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَأَنَّ الْمُقَرَّبِينَ هُمُ السَّابِقُونَ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْأَبْرَارُ وَالْمُقَرَّبُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ يَقَعُ لِكُلِّ مَنْ نُعِّمَ فِي الْجَنَّةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا وَجَمْعًا مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَرُّوا بِجَمْعٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَضَحِكُوا مِنْهُمْ وَاسْتَخَفُّوا بِهِمْ عَبَثًا، فَنَزَلَتْ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا، قَبْلَ أَنْ يَصِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
__________
(1) سورة الإنسان: 76/ 11.
(2) سورة الأحزاب: 33/ 40.

(10/431)


إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، وَكُفَّارُ مَكَّةَ هَؤُلَاءِ قِيلَ هُمْ: أَبُو جَهْلٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ وَالْمُؤْمِنُونَ: عَمَّارٌ، وَصُهَيْبٌ، وَخَبَّابٌ، وَبِلَالٌ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مَرُّوا
عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ أَجْرَمُوا، إِذْ فِي ذَلِكَ تَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ لِوَاحِدٍ.
وَقِيلَ: لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ وَإِذَا مَرَّ الْمُؤْمِنُونَ بِالْكَافِرِينَ يَتَغَامَزُ الْكَافِرُونَ، أي يشيرون بأعينهم.
وفَكِهِينَ: أَيْ مُتَلَذِّذِينَ بِذِكْرِهِمْ وَبِالضَّحِكِ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَاكِهِينَ بِالْأَلِفِ، أَيْ أَصْحَابُ فَاكِهَةٍ ومرح وَسُرُورٍ بِاسْتِخْفَافِهِمْ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ وأبو رجاء والحسن وعكرمة وَأَبُو جَعْفَرٍ وَحَفْصٌ: بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي رَأَوْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، أَيْ إِذَا رَأَوُا الْمُؤْمِنِينَ نَسَبُوهُمْ إِلَى الضَّلَالِ، وَهُمْ مُحِقُّونَ فِي نِسْبَتِهِمْ إِلَيْهِ.
وَما أُرْسِلُوا عَلَى الْكُفَّارِ، حافِظِينَ. وَفِي الْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ إِثَارَةٌ لِلْكَلَامِ بَيْنَهُمْ. وَكَانَ فِي الْآيَةِ بَعْضُ مُوَادَعَةٍ، أَيْ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُرْسَلُوا حَافِظِينَ عَلَى الْكُفَّارِ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّهُمْ لَمْ يُرْسَلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ، إِنْكَارًا لِصَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ، وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَجِدِّهِمْ فِي ذَلِكَ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قِيلَ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا، واليوم منصوب بيضحكون منهم في الآخرة، وينظرون حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَضْحَكُونَ، أَيْ يَضْحَكُونَ نَاظِرِينَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْهَوَانِ وَالْعَذَابِ بَعْدَ الْعِزَّةِ وَالنَّعِيمِ. وَقَالَ كَعْبٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: كُوًى يَنْظُرُونَ مِنْهَا إِلَى أَهْلِ النَّارِ. وَقِيلَ: سِتْرٌ شَفَّافٌ بَيْنَهُمْ يَرَوْنَ مِنْهُ حَالَهُمْ. هَلْ ثُوِّبَ: أَيْ هَلْ جُوزِيَ؟ يُقَالُ: ثَوَّبَهُ وَأَثَابَهُ إِذَا جَازَاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
سَأَجْزِيكَ أَوْ يَجْزِيكَ عَنِّي مُثَوِّبٌ ... وَحَسْبُكَ أَنْ يُثْنَى عَلَيْكَ وَتُحْمَدَ
وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ هَلْ جُوزُوا بِهَا؟ وَقِيلَ: هَلْ ثُوِّبَ مُتَعَلِّقٌ بينظرون، وَيَنْظُرُونَ مُعَلَّقٌ بِالْجُمْلَةِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَعْدَ إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ إِلَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: هَلْ ثُوِّبَ بِإِظْهَارِ لَامِ هَلْ وَالنَّحْوِيَّانِ وَحَمْزَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ:
بِإِدْغَامِهَا فِي الثَّاءِ وَفِي قَوْلِهِ: مَا كانُوا حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ جَزَاءَ أَوْ عِقَابَ: مَا كانُوا يَفْعَلُونَ.

(10/432)


إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

سورة الانشقاق

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 25]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)
فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24)
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
الْكَدْحُ: جَهْدُ النَّفْسِ فِي الْعَمَلِ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِيهَا، مِنْ كَدَحَ جِلْدَهُ إِذَا خَدَشَهُ، قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
وَمَا الدَّهْرُ إِلَّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا ... أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي الْعَيْشَ أَكْدَحُ
وَقَالَ آخَرُ:
وَمَضَتْ بَشَاشَةُ كُلِّ عَيْشٍ صَالِحٍ ... وَبَقِيتُ أَكْدَحُ لِلْحَيَاةِ وَأَنْصَبُ

(10/433)


حَارَ: رَجَعَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَا الْمَرْءُ إِلَّا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ ... يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ
الشَّفَقُ: الْحُمْرَةُ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ حِينَ تَأْتِي صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةُ. قِيلَ: أَصْلُهُ مِنْ رِقَّةِ الشَّيْءِ، يُقَالُ شَيْءٌ شَفَقٌ: أَيْ لَا يَتَمَاسَكُ لِرِقَّتِهِ، وَمِنْهُ أَشْفَقَ عَلَيْهِ: رَقَّ قَلْبُهُ، وَالشَّفَقَةُ:
الِاسْمُ مِنِ الشِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ الشَّفَقُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتَهَا شَفَقًا ... وَالْمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الْحُرَمِ
وَسَقَ: ضَمَّ وَجَمَعَ، وَمِنْهُ الْوَسَقُ: الْأَصْوَاعُ الْمَجْمُوعَةُ، وَهِيَ سِتُّونَ صَاعًا، وَطَعَامٌ مَوْسُوقٌ: أَيْ مَجْمُوعٌ، وَإِبِلٌ مُسْتَوْسِقَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَنَّ لَنَا قَلَائِصًا حَقَائِقَا ... مُسْتَوْسِقَاتٍ لَوْ يَجِدْنَ سَائِقَا
اتَّسَقَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: اتِّسَاقُ الْقَمَرِ: امْتِلَاؤُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ لَيَالِيَ الْبَدْرِ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْوَسْقِ الَّذِي هُوَ الْجَمْعُ، يُقَالُ: وَسَقْتُهُ. فَاتَّسَقَ، وَيُقَالُ: أَمْرُ فُلَانٍ مُتَّسِقٌ: أَيْ مُجْتَمِعٌ عَلَى الصَّلَاحِ مُنْتَظِمٌ. طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ: حَالٌ بَعْدَ حَالٍ، وَالطَّبَقُ: مَا طَابَقَ غَيْرَهُ، وَأَطْبَاقُ الثَّرَى: مَا تَطَابَقَ مِنْهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْغِطَاءِ الطَّبَقُ. قَالَ الْأَعْرَجُ بْنُ حَابِسٍ:
إِنِّي امْرُؤٌ قَدْ حَلَبْتُ الدَّهْرَ أَشْطُرَهُ ... وَسَاقَنِي طَبَقٌ مِنْهُ إِلَى طَبَقِ
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
دِيمَةٌ هَطْلَاءُ فِيهَا وَطَفٌ ... طَبَقٌ لِلْأَرْضِ تَجْرِي وَتَذُرُّ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ، وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ، يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً، وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً، وَيَصْلى سَعِيراً، إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً، إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ، بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً، فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ، فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَاتِّصَالُهَا بِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: انْشَقَّتْ تَنْشَقُّ: أَيْ

(10/434)


تَتَصَدَّعُ بِالْغَمَامِ، وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: تَنْشَقُّ لِهَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ «1» . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِسُكُونِ تَاءِ انْشَقَّتْ وَمَا بَعْدَهَا وَصْلًا وَوَقْفًا.
وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عَقِيلٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بإشمام الكسر وقفا بعد ما لَمْ تَخْتَلِفْ فِي الْوَصْلِ إِسْكَانًا. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَهَذَا مِنَ التَّغْيِيرَاتِ الَّتِي تَلْحَقُ الرَّوِيَّ فِي الْقَوَافِي، وَفِي هَذَا الْإِشْمَامِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ التَّاءَ مِنْ عَلَامَةِ تَرْتِيبِ الْفِعْلِ لِلْإِنَاثِ، وَلَيْسَتْ مِمَّا تَنْقَلِبُ فِي الْأَسْمَاءِ، فَصَارَ ذَلِكَ فَارِقًا بَيْنَ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ فِيمَنْ وَقَفَ عَلَى مَا فِي الْأَسْمَاءِ بِالتَّاءِ، وَذَلِكَ لُغَةُ طيىء وَقَدْ حُمِلَ فِي الْمَصَاحِفِ بَعْضُ التَّاءَاتِ عَلَى ذَلِكَ، انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ بِكَسْرِ التَّاءِ، عُبَيْدٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَقَرَأَ أبو عمرو:
انْشَقَّتْ، يَقِفُ عَلَى التَّاءِ كَأَنَّهُ يُشِمُّهَا شَيْئًا مِنَ الْجَرِّ، وَكَذَلِكَ فِي أَخَوَاتِهَا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا فَصِيحًا فِي بِلَادِ قَيْسٍ يَكْسِرُ هَذِهِ التَّاءَاتِ، وَهِيَ لُغَةٌ. انْتَهَى. وَذَلِكَ أَنَّ الْفَوَاصِلَ قَدْ تُجْرَى مُجْرَى الْقَوَافِي. فَكَمَا أَنَّ هَذِهِ التَّاءَ تُكْسَرُ فِي الْقَوَافِي، تُكْسَرُ فِي الْفَوَاصِلِ وَمِثَالُ كَسْرِهَا فِي الْقَوَافِي قَوْلُ كُثَيِّرِ عَزَّةَ:
وَمَا أَنَا بِالدَّاعِي لِعَزَّةَ بِالرَّدَى ... وَلَا شَامِتٍ إِنْ نَعْلُ عَزَّةَ زَلَّتِ
وَكَذَلِكَ بَاقِي الْقَصِيدَةِ. وَإِجْرَاءُ الْفَوَاصِلِ فِي الْوَقْفِ مُجْرَى الْقَوَافِي مَهْيَعٌ مَعْرُوفٌ، كقوله تعالى: الظُّنُونَا «2» ، والرَّسُولَا «3» فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ. وَحَمْلُ الْوَصْفِ عَلَى حَالَةِ الْوَقْفِ أَيْضًا مَوْجُودٌ فِي الْفَوَاصِلِ. وَأَذِنَتْ: أَيِ اسْتَمَعَتْ وَسَمِعَتْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ بِشَيْءٍ إِذْنَهُ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» .
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ ... وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
وَقَالَ قَعْنَبٌ:
إِنْ يَأْذَنُوا رِيبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا ... وَمَا هُمْ أَذِنُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا
وَقَالَ الْحَجَّافُ بْنُ حَكِيمٍ:
أَذِنْتُ لَكُمْ لِمَا سَمِعْتُ هَرِيرَكُمْ وَإِذْنُهَا: انْقِيَادُهَا لِلَّهِ تَعَالَى حِينَ أَرَادَ انْشِقَاقَهَا، فِعْلَ الْمُطِيعِ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْمُطَاعِ أَنْصَتَ وَانْقَادَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «4» . وَحُقَّتْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ
__________
(1) سورة الحاقة: 69/ 16.
(2) سورة الأحزاب: 33/ 10.
(3) سورة الأحزاب: 33/ 66.
(4) سورة فصلت: 41/ 11.

(10/435)


وَابْنُ جُبَيْرٍ: وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَسْمَعَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَطَاعَتْ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْفِعْلُ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ وَحَقَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا الِاسْتِمَاعَ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ مَحْقُوقٌ بِكَذَا وَحَقِيقٌ بِكَذَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي جِرْمِ السَّمَاءِ مَا يَمْنَعُ مِنْ تَأْثِيرِ الْقُدْرَةِ فِي انْشِقَاقِهِ وَتَفْرِيقِ أَجْزَائِهِ وَإِعْدَامِهِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ: وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَنْشَقَّ لِشِدَّةِ الْهَوْلِ وَخَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهِيَ حَقِيقَةٌ بِأَنْ تَنْقَادَ وَلَا تَمْتَنِعَ، وَمَعْنَاهُ: الْإِيذَانُ بِأَنَّ الْقَادِرَ الذَّاتِ يَجِبُ أَنْ يَتَأَتَّى لَهُ كُلُّ مَقْدُورٍ وَيَحِقَّ ذَلِكَ، انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ الْقَادِرُ الذَّاتِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَمَا أُولِعَ هَذَا الرَّجُلُ بِمَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ، يَدُسُّهُ مَتَى أَمْكَنَهُ فِي كُلِّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ.
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: سُوِّيَتْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بُسِطَتْ بِانْدِكَاكِ جِبَالِهَا، وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ: تُمَدُّ الْأَرْضُ مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ حَتَّى لَا يَكُونَ لِبَشَرٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ»
، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَدِيمَ إِذَا مُدَّ زَالَ مَا فِيهِ مِنْ تِئْنٍ وَانْبَسَطَ، فَتَصِيرُ الْأَرْضُ إِذْ ذَاكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَاعًا صَفْصَفاً، لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً «1» . وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ، قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَالْجُمْهُورُ: أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ، وَتَخَلَّتْ مِمَّنْ عَلَى ظَهْرِهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ. وَقِيلَ: تَخَلَّتْ مِمَّا عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ جِبَالِهَا وَبِحَارِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَمِنَ الْكُنُوزِ، وَضُعِّفَ هَذَا بِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ وَقْتَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَإِنَّمَا تُلْقِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَوْتَى.
وَتَخَلَّتْ: أَيْ عَنْ مَا كَانَ فِيهَا، لَمْ تَتَمَسَّكْ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ. وَجَاءَ تَخَلَّتْ: أَيْ تَكَلَّفَتْ أَقْصَى جُهْدِهَا فِي الْخُلُوِّ. كَمَا تَقُولُ: تَكَرَّمَ الْكَرِيمُ: بَلَغَ جُهْدَهُ فِي الْكَرَمِ وَتَكَلَّفَ فَوْقَ مَا فِي طَبْعِهِ، وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى الْأَرْضِ نِسْبَةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ مِنْ بَاطِنِهَا. وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ، فَإِمَّا أَنْ يُقَدِّرَهُ الَّذِي خَرَجَ بِهِ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ أَوْ الِانْفِطَارِ، أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ: إِنَّكَ كادِحٌ، أَيْ لَاقَى كُلُّ إِنْسَانٍ كَدْحَهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالْمُبَرِّدُ: هُوَ مُلَاقِيهِ، إِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَأَنْتَ مُلَاقِيهِ. وَقِيلَ: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ، عَلَى حَذْفِ الْفَاءِ تقديره: يا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ. وَقِيلَ: وَأَذِنَتْ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ وَعَنِ الْأَخْفَشِ:
إِذَا السَّماءُ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ وَإِذَا الْأَرْضُ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ: الْجَوَابُ إِمَّا الْمَحْذُوفُ الَّذِي قَدَّرُوهُ، وَإِمَّا الظَّاهِرُ الَّذِي قِيلَ إِنَّهُ جَوَابٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: الْعَامِلُ انْشَقَّتْ، وَأَبَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ، لِأَنَّ إِذَا مُضَافَةٌ إِلَى انْشَقَّتْ، وَمَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ تَضْعُفُ عِنْدَهُ الْإِضَافَةُ وَيَقْوَى مَعْنَى الْجَزَاءِ، انْتَهَى. وَهَذَا
__________
(1) سورة طه: 20/ 106- 107.

(10/436)


الْقَوْلُ نَحْنُ نَخْتَارُهُ، وَقَدِ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى صِحَّتِهِ فِيمَا كَتَبْنَاهُ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقْتُ انْشِقَاقِ السَّمَاءِ وَقْتُ مَدِّ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: لَا جَوَابَ لَهَا إِذْ هِيَ قَدْ نُصِبَتْ بِاذْكُرْ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ، فَلَيْسَتْ شَرْطًا.
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها: أَيْ فِي إِلْقَاءِ مَا فِي بَطْنِهَا وَتَخَلِّيهَا. وَالْإِنْسَانُ: يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، وَالتَّقْسِيمُ بَعْدَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ بِهِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالٍ الْمَخْزُومِيُّ، جَادَلَ أَخَاهُ أَبَا سَلَمَةَ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ، فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَالَّذِي خَلَقَكَ لَتَرْكَبَنَّ الطَّبَقَةَ وَلَتُوَافِيَنَّ الْعَقَبَةَ. فَقَالَ الْأَسْوَدُ فَأَيْنَ: الْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ وما جال النَّاسِ؟ انْتَهَى. وَكَانَ مُقَاتِلًا يُرِيدُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَسْوَدِ، وَهِيَ تَعُمُّ الْجِنْسَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، كَانَ يَكْدَحُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَإِيذَاءُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولإصرار عَلَى الْكُفْرِ. وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ تَكْدَحُ فِي إِبْلَاغِ رِسَالَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرْشَادِ عِبَادِهِ وَاحْتِمَالِ الضُّرِّ مِنَ الْكُفَّارِ، فَأَبْشِرْ فَإِنَّكَ تَلْقَى اللَّهَ بِهَذَا الْعَمَلِ، وَهُوَ غَيْرُ ضَائِعٍ عِنْدَهُ.
إِنَّكَ كادِحٌ: أَيْ جَاهِدٌ فِي عَمَلِكَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ إِلَى رَبِّكَ، أَيْ طُولَ حَيَاتِكَ إِلَى لِقَاءِ رَبِّكَ، وَهُوَ أَجَلُ مَوْتِكَ، فَمُلاقِيهِ: أَيْ جَزَاءَ كَدْحِكَ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَالْفَاءُ عَلَى هَذَا عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ الْكَلَامِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَنْتَ مُلَاقِيهِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَهُ، بَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى كَادِحٍ عَطْفَ الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ:
الضَّمِيرُ فِي مُلَاقِيهِ عَائِدٌ عَلَى رَبِّكَ، أَيْ فَمُلَاقِي جَزَائِهِ، فَاسْمُ الْفَاعِلِ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ. حِساباً يَسِيراً قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: يُقَرَّرُ ذُنُوبَهُ ثُمَّ يُتَجَاوَزُ عَنْهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: يُجَازَى بِالْحَسَنَةِ وَيُتَجَاوَزُ عَنِ السَّيِّئَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ» ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَأَمَّا مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ فَيَهْلِكُ» .
وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ: أَيْ إِلَى مَنْ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِنْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ وَمِنَ الْحُورِ الْعِينِ، أَوْ إِلَى عَشِيرَتِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيُخْبِرُهُمْ بِخَلَاصِهِ وَسَلَامَتِهِ، أَوْ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ هُمْ كُلُّهُمْ أَهْلُ إِيمَانٍ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَيُقْلَبُ مُضَارِعُ قُلِبَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.
وَراءَ ظَهْرِهِ: رُوِيَ أَنَّ شِمَالَهُ تَدْخُلُ مِنْ صَدْرِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، فَيَأْخُذُ كِتَابَهُ بِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا مَنْ يَنْفُذُ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ مِنْ عُصَاتِهِمْ، يَعْنِي عُصَاةَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ يُعْطَى كِتَابَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ النَّارِ. وَقَدْ جَوَّزَ قَوْمٌ أَنْ يُعْطَاهُ أَوَّلًا قَبْلَ دُخُولِهِ النَّارَ، وَهَذِهِ

(10/437)


الْآيَةُ تَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ انْقَسَمَ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْعُصَاةِ الَّذِينَ يُدْخِلُهُمُ الله النار. يَدْعُوا ثُبُوراً: يقول: وا ثبوراه، وَالثُّبُورُ:
الْهَلَاكُ، وَهُوَ جَامِعٌ لِأَنْوَاعِ الْمَكَارِهِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَعِيسَى وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ: وَيَصْلى بِفَتْحِ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو الشَّعْثَاءِ وَالْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ: بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَاللَّامِ مُشَدَّدَةً وَأَبُو الْأَشْهَبِ وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ، وَأَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَعِيسَى أَيْضًا وَالْعَتَكِيُّ وَجَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِضَمِّ الْيَاءِ سَاكِنِ الصَّادِ مُخَفَّفِ اللَّامِ، بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ مِنَ الْمُتَعَدِّي بِالْهَمْزَةِ، كَمَا بُنِيَ وَيُصَلَّى الْمُشَدَّدُ لِلْمَفْعُولِ مِنَ الْمُتَعَدِّي بِالتَّضْعِيفِ.
إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً: أَيْ فَرِحًا بَطِرًا مُتْرَفًا لَا يَعْرِفُ اللَّهَ وَلَا يُفَكِّرُ فِي عَاقِبَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ «1» ، بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ حَزِينٌ مُكْتَئِبٌ يَتَفَكَّرُ فِي الْآخِرَةِ. إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ: أَيْ أَنْ لَنْ يَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا تَكْذِيبٌ بِالْبَعْثِ. بَلى: إِيجَابٌ بَعْدَ النَّفْيِ، أَيْ بَلَى لَيَحُورَنَّ. إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً: أَيْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أَفْعَالُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَوْرِهِ وَمُجَازَاتِهِ.
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ: أَقْسَمَ تَعَالَى بِمَخْلُوقَاتِهِ تَشْرِيفًا لَهَا وَتَعْرِيضًا لِلِاعْتِبَارِ بِهَا، وَالشَّفَقُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. وَقَالَ أَبُو هريرة وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي يتلوه الحمزة. وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا إِلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: إِنَّ الشَّفَقَ هُنَا كَأَنَّهُ لَمَّا عَطَفَ عَلَيْهِ اللَّيْلَ قَالَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، انْتَهَى. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: هُوَ الشَّمْسُ وَعَنْ عِكْرِمَةَ: مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ. وَما وَسَقَ: مَا ضَمَّ مِنَ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ، إِذْ جَمِيعُ ذَلِكَ يَنْضَمُّ وَيَسْكُنُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَما وَسَقَ: أَيْ مَا غَطَّى عَلَيْهِ مِنَ الظُّلْمَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
وَمَا ضَمَّ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: وَمَا سَاقَ وَحَمَلَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: وَمَا عُمِلَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَيَوْمًا تَرَانَا صَالِحِينَ وَتَارَةً ... تَقُومُ بِنَا كَالْوَاسِقِ الْمُتَلَبِّبِ
وَقَالَ ابْنُ الْفَضْلِ: لَفَّ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى اللَّهِ، أَيْ سَكَنَ الْخَلْقُ إِلَيْهِ وَرَجَعَ كُلٌّ إِلَى مَا رَآهُ لِقَوْلِهِ: لِتَسْكُنُوا فِيهِ «2» . وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْأَسْوَدُ وابن جبير
__________
(1) سورة القصص: 28/ 76.
(2) سورة يونس: 10/ 76، وسورة القصص: 28/ 73، وسورة غافر: 40/ 61.

(10/438)


وَمَسْرُوقٌ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَعِيسَى وَالْأَخَوَانِ وَابْنُ كَثِيرٍ: بِتَاءِ الْخِطَابِ وَفَتْحِ الْبَاءِ. فَقِيلَ: خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مِنْ مُعَالَجَةِ الْكُفَّارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمَاءٌ بَعْدَ سَمَاءٍ فِي الْإِسْرَاءِ. وَقِيلَ: عِدَةٌ بِالنَّصْرِ، أَيْ لَتَرْكَبُنَّ أَمْرَ الْعَرَبِ قَبِيلًا بَعْدَ قَبِيلٍ وَفَتْحًا بَعْدَ فَتْحٍ كَمَا كَانَ وَوُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقرىء لَتَرْكَبُنَّ عَلَى خِطَابِ الْإِنْسَانِ في يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْمَعْنَى: لَتَرْكَبُنَّ السَّمَاءَ فِي أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، تَكُونُ كَالْمُهْلِ وَكَالدِّهَانِ وَتَنْفَطِرُ وَتَنْشَقُّ، فَالتَّاءُ لِلتَّأْنِيثِ، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنِ السَّمَاءِ بِمَا يَحْدُثُ لَهَا، وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ عَائِدٌ عَلَى السَّمَاءِ. وَقَرَأَ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلُ وَفَتَحَ الْبَاءِ عَلَى ذِكْرِ الْغَائِبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ الْغَائِبُ يَعُودُ عَلَى الْقَمَرِ، لِأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ أَحْوَالًا مِنْ إِسْرَارٍ وَاسْتِهْلَالٍ وَإِبْدَارٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَيَرْكَبَنَّ الْإِنْسَانُ. وَقَرَأَ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَاءِ الْخِطَابِ وَضَمِّ الْبَاءِ، أَيْ لَتَرْكَبَنَّ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَتَرْكَبُنَّ بِالضَّمِّ عَلَى خِطَابِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ النِّدَاءَ لِلْجِنْسِ، فَالْمَعْنَى: لَتَرْكَبُنَّ الشَّدَائِدَ: الْمَوْتَ وَالْبَعْثَ وَالْحِسَابَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، أَوْ يَكُونُ الْأَحْوَالُ مِنَ النُّطْفَةِ إِلَى الْهِرَمِ، كَمَا تَقُولُ: طَبَقَةٌ بَعْدَ طَبَقَةٍ. قَالَ نَحْوَهُ عِكْرِمَةُ. وَقِيلَ: عَنْ تَجِيءُ بِمَعْنَى بَعْدَ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَتَرْكَبُنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْأَرْ ... ضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفُقُ
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ ... إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ
وَقَالَ مَكْحُولٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَعْنَى لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى لَتَرْكَبُنَّ الْآخِرَةَ بَعْدَ الْأُولَى. وَقَرَأَ عُمَرُ أَيْضًا: لَيَرْكَبُنَّ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَضَمِّ الْبَاءِ. قِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْكُفَّارَ لَا بَيَانَ تَوْبِيخِهِمْ بَعْدَهُ، أَيْ يَرْكَبُونَ حَالًا بَعْدَ أُخْرَى مِنَ الْمَذَلَّةِ وَالْهَوَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: لَتِرْكَبُنَّ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ تَمِيمٍ. قِيلَ:
وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وقرىء بِالتَّاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ عَلَى خِطَابِ النَّفْسِ، وَطَبَقَ الشَّيْءُ مُطَابَقَةً لِأَنَّ كُلَّ حَالٍ مُطَابِقَةٌ لِلْأُخْرَى فِي الشِّدَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ، وَاحِدَةَ طَبَقَةٍ، وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: هُمْ على طبقات. وعَنْ طَبَقٍ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: طَبَقاً، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي لَتَرْكَبُنَّ. وَعَنْ مَكْحُولٍ، كُلُّ عِشْرِينَ عَامًا تَجِدُونَ أَمْرًا لَمْ تَكُونُوا عَلَيْهِ.

(10/439)


فَما لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ: تَعَجُّبٌ مِنَ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ وَقَدْ وَضَحَتِ الدَّلَائِلُ.
لَا يَسْجُدُونَ: لَا يَتَوَاضَعُونَ وَيَخْضَعُونَ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَا يُبَاشِرُونَ بِجِبَاهِهِمُ الْمُصَلَّى. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَا يُصَلُّونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُكَذِّبُونَ مُشَدَّدًا وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مُخَفَّفًا وَبِفَتْحِ الْيَاءِ. بِما يُوعُونَ: بِمَا يَجْمَعُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، كَأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ فِي أَوْعِيَةٍ وَعَيْتُ الْعِلْمَ وَأَوْعَيْتُ الْمَتَاعَ، قَالَ نَحْوَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِمَا تُضْمِرُونَ مِنْ عَدَاوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِمَا يَكْتُمُونَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: بِمَا يَعُونَ، مِنْ وَعَى يَعِي. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا: أَيْ سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ. غَيْرُ مَمْنُونٍ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَمْنُونٍ: مُعَدَّدٍ عَلَيْهِمْ، مَحْسُوبٍ مُنَغَّصٍ بِالْمَنِّ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي فُصِّلَتْ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

(10/440)