باهر البرهان فى معانى مشكلات القرآن

سورة آل عمران
(نزل عليك الكتاب)
بالتشديد لتكرير تنزيل القرآن.
(وأنزل التوراة والإنجيل)
لأنهما أنزلا دفعة كل واحد منهما.
وأعاد ذكر (الفرقان) وهو الكتاب [لما] في معني الفرق [بين] الحق والباطل من زيادة الفائدة.
والتوراة والإنجيل والفرقان من الأسماء المختلفة المباني، المؤتلفة المعاني؛ لأن التوراة فوعلة من ورى الزند، فيكون "وورية" فانقلبت الواو تاء وقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
والإنجيل: إفعيل، من نجل ينجل: إذا أبان واستخرج.
ونجل الرجل ولده؛ لأنه مستخرج من صلبه وبطن امرأته. فلإنجيل: لاستخراج علم الحلال والحرام منه.

(1/274)


والفرقان: فعلان من الفرق بين الحق والباطل.
فاختلفـ[ـت] المباني واتفقت المعاني من إظهار الأحكام وإبرازها والفرق بين [أشباهها].
(محكمات)
المحكم ما تبين واتفق تفسيره فيقطع على مراد الله به.
والمتشابه: ما اشتبه، واختلف تأويله فلا ينقطع المراد على واحد منها بعينه.
وقيل: المحكم: ما يعلم على التفصيل والوقت والمقدار، والمتشابه بخلافه، مثل: وقت الساعة وأشراطها ومعرفة الصغائر بأعيانها ومقادير الثواب والعقاب وصفة الحساب إلى غير ذلك.

(1/275)


فيكون الوقف على هذا عند قوله: (وما يعلم تأويله إلا الله). ومن وقف على قوله (والراسخون في العلم) كان (يقولون) في موضع الحال، أي: يعلمون تأويله قائلين: (ءامنا به كل من عند ربنا).
وهذا هو المدح الموجه والغاية في الإحماد؛ لهم لأنهم إذا علموه [وصدقوا] به فقد بلغوا في الإيمان كل مبلغ.
ونظيره من كلام العرب قول [يزيد] بن المفرغ:

(1/276)


237 - وشريت بردا ليتني ... من بعد برد كنت هامه

238 - [أو] هامة تدعو صدى ... بين المشقر واليمامه

239 - الريح تبكي شجوه ... والبرق يلمع في غمامه
كأنه قال: والبرق أيضا [يبكيه] لامعا في غمامه أي في لمعانه، وإلا لم يكن للكلام معنى.
وإنما كان الكلام المحكم أم الكتاب؛ لأنه كالأصل في رد المتشابه إليه، واستخراج علمه منه، وذلك كالاستواء في المتشابه إذ يكون بمعني الجلوس على السرير، وبمعني القدرة والاستيلاء وهذا يجوز على الله، والأول لا يجوز بدليل المحكم وهو

(1/277)


قولـ[ـه]: (ليس كمثله شيء).
والحكمة في المتشابه: البعث على النظر والبحث في علم القرآن؛ لئلا تهمل الأدلة العقلية.
(يرونهم مثليهم)
في قصة [بدر]، وكان المسلمون ثلاث مائة وبضعة عشر، والمشركون زهاء ألف، فأراهم الله في أعين المسلمين مثليهم، وقللهم لتثبيت قلوبهم.
والقنطار: من الدينا [رِ] ألف ومائتا مثاقيل.

(1/278)


وقيل: ملء مسك ثور ذهباً.
(المقنطرة)
المعدة المنضدة، على قياس الدنانير المدنرة، والدراهم المدرهمة، في إرادة الكثرة والمبالغة.
قال رؤبة:
240 - وجامع القطرين مطرخم
241 - بيض عينيه العمي المعمي

(1/279)


(المسومة)
المعلمة.
وقيل: السائمة: الراعية.
وقيل: إنها من الحسن، إذ السيما يكون بالحسن كما يكون بالعلامة.
(شهد الله)
قضى الله.

(1/280)


وقيل: شهادة الله إخبار، وشهادتنا: إقرار.
وقيل: شهادة الله في ما خلق من العالم لتكون مشاهدة آثار الصنعة فيه شهادة على صانعها الحكيم.
(قائما بالقسط)
على الحال من اسم الله، أي ثبت تقديره بالعدل واستقام تدبيره على الحق.
(إن الذين)
بالكسر على الاستئناف. وبالنصب على البدل من (أنه لا إله إلا هو).
(بغيا بينهم)
مفعول الاختلاف.
وقيل: مصدر فعل محذوف، أي بغوا بينهم بغياً.

(1/281)


(قل اللهم)
الميم بدل من ياء النداء، ولهذا لا يقال في الخبر: اللهم، ولا يجمع بينها وبين ياء النداء.
وقال الفراء: هو الله أم، أي أقصد بالخير.
ولو كان كذلك لا يجمع بينهما، ولا يقال: اللهم آمنا بالخير، كما لا يقال: يا اللهم.
(ترزق من تشاء بغير حساب)
العرب [تسمي] العطاء اليسير محسوبا كما قال قيس بن الخطيم:

(1/282)


241 - أنى سربت وكنت غير سروب ... في النوم غير مصرد محسوب
(يعلمه)
مجزوم بالشرط.
(ويعلم ما في السماوت)
مرفوع على الاستئناف.
(ءال إبراهيم)
أهل دينه من كل حنيف مسلم.
وإنما أبدلت هاء الأهل همزة فصار ءال، ثم أبدلت الهمزة ألفا فصار آل، ثم خص به الأكبر فالأكبر من المشهرين.

(1/283)


(وءال عمران)
موسى وهارون عن ابن عباس.
والمسيح وأمه مريم بنت عمران عن الحسن.
(ذرية)
نصبها على البد من آل إبراهيم.
وأصلها إما ذرأ، من ذرأ الله الخلق.

(1/284)


أوذر من الذر. في الخبر: "إن الخلق كان في القديم من الذر".
أو ذرو أو ذري من [ذروت] الحب وذريته، كقوله تعالى: (فأصبح هشيما تذروه الرياح) وذريتها.
وطريق الصنعة [فيها] على اختلاف هذه المواضع الأربعة يلطف عنه الكتاب.
(محررا)

(1/285)


مخلصا لله، على عادة الزمان في التبتل وحبس الأولاد على العبادة في بيت المقدس.
وقيل: عتيقا من أمر الدنيا ليتخلى بطاعة الله من تحرر الرقبة. (فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا)
المصدر على بناء الفعل. كما قال القطامي:

242 - وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعاً

243 - كذلك وما رأيت الناس إلا ... إلى [ما] جر [غاويهم] سراعاً

(1/286)


والقبول من المصادر الغريبة، مثل الولوع والوضوء يقال: توضأت وُضُوءا وَوَضُوءا، فالأول مصدر والثاني صفة.
(وكفلها)
بالتخفيف: قبلها وقام بأمرها.
وبالتثقيل: أمر إنسانا بتكفلها.
(هنالك)
عند ذلك، والأصل في هناك ظرف المكان، وبزيادة اللام تصير ظرف زمان: لأن اللام للتعريف، والزمان أدخل في التعريف.

(1/287)


(يبشرك)
خفيف: كنانية تهامية، ومنه البشير فعيل بمعني فاعل، ويبشرك: [تميمية]، ويبشرك: حجازية.
(مصدقا بكلمة من الله)
أي بعيسى، وسمى كلمة الله؛ لأنه كان بقول الله (كن) ولم يكن من أب، ولأنه كان يهتدي به كما يهتدي بكلمات الله، ولأن الله تكلم في التوراة بولادته من العذراء والبتول، وأنه [يتكلم] في المهد ويحيى الموتي.

(1/288)


والحصور: الذي لا يأتي النساء، والذي لا يذيع السر، والذي لا يخرج من الندامي شيئا.
(أنى يكون لي غلام)
على التعجب لا التشكك، كأنه استعظم قدرة الله على نقض العادة.

(1/289)


وقيل: إنه سؤال حال تكون له معها الولد، أيرد إلى الشباب وامرأته ولود، أم على حالهما في العقم والكبر.

فقال: (كذلك) على حالكما.
(رب اجعل لي ءاية)
أي: علامة لوقت الحمل، وذلك ليعجل السرور به، فكانت العلامة أن منع كلام الناس ولم يمنع من ذكر الله.
والرمز: الإيماء الخفي.
وتكرير الاصطفاء؛ لأن الأول: الاصطفاء بالعبادة والولاية. والثاني: بولادة عيسى عن غير ازدواج و [أمشاجٍ].

(1/290)


وإنما ألقوا الأقلام، وضربوا عليها بالقداح تفاديا عنها، وتدافعا لها؛ لأن السنين ألحت [عليهم]، والأزمان بلغت منهم.
وقيل: بل ألقى الله عليها محبة منه فتنافسوا في كفايتها. مقترعين فقرعهم زكريا.
والمسيح: من الأسماء المشتركة، فالمسيح: سبائك الذهب، والمسيح: مادون الفود من الرأس.

(1/291)


والمسيح: الكثير الجماع، والمسيح: المنديل الأخشن.
والمسيح: الذراع، والمسيح: العرق.
والمسيح: الكذاب، وبه سمي الدجال.
والمسيح: الصديق، وبه سمي عيسى عليه السلام.
وقيل: إنه سمي به لأنه مسح بالبركة.
وقيل: إنه من المسيح بالدهن، إذ كان في بني إسرائيل شرط القيام بالملك، وملك العالم -الذي هو النبوة- أولى بذلك.
وقيل: إن إيليا مسحة بالدهن فسمي مسيحاً.

(1/292)


فهو على هذه الأقاويل "فعيل" بمعني "مفعول" مثل: الصريع والجريح.
وقيل: إنه ما كان يمسح ذا عاهة إلا برأ، فهو بمعني الفاعل كالرحيم والعليم.
وقيل: إنه المصدق أي صدقه الحواريون، فهو فعيل بمعني مفعل كالوكيل [والوليد].
وإخبار الملائكة بكلام عيسى "كهلاً" على أنه يبلغ الكهولة.
وهذا علم الغيب، وفيه أيضا رد على النصارى، فإن من يختلف أحواله لا يكون إلهاً.
(ويكلم الناس)
في موضع النصب على وجيها، كأنه قيل: "وجيها ومكلما (في المهد وكهلا) كما قال:

(1/293)


244 - [بات يغشيها] بغضب باتر ... يقصد في أسوقها وجائر
أي: قاصد وجائر، صفتان للباتر.
والزجاج يقول: إن (ورسولا) ايضا عطف على هذا الموضع.
أي: يكلمهم في المهد وكهلا ورسولا.
وقال [الأخفش: الواو] زائدة، تقديره: ويعلمه الكتاب رسولا. (من أنصاري إلى الله)
أي: مع الله.

(1/294)


وإنما يستعمل الحروف بعضها مكان بعض بشريطة، وهي تقارب الأفعال، فإذا تقاربت، وكان بعضها يتعدى بحرف وبعضها بحرف آخر، فيوضع [أحد] الحرفين موضع [صاحبه] وإلا فلا يجوز: "سرت إلى زيد" وأنت تريد "معه" ووجه المقاربة في الآية [ما] في الحرفين من معني الإضافة والمصاحبة، كأنه قيل: من ينضاف في نصرتي إلى الله، فهو مثل: "من ينضاف في نصرتي مع الله". وكذلك معنى الإضافة في اللام وحاصل.
وتخفيف (الحواريون) في بعض [القراءات] يشكل لامتناع [ضمة] الياء [المكسور] ما قبلها، إلا أن يقال: إن أصل الياء في (الحواريون) مشددة، وإنما خففت استثقالا لتضعيف الياء، فكانت الحركة حالة التخفيف تنبيها على إرادة معني التشديد وتصويرا له.
(ومكر الله)

(1/295)


على مزاوجة الكلام.
أو على المعني الذي [استثنيناه] من ابتداء الكتاب في الصفات، أنها لا تكون على التوهم اللفظي بحسب المبتدأ، ولكنها بحسب المنتهي والتمام. فالمكر ابتداؤه منا: إرادة أن توقع الممكور به في شره، وتمامه يكون بتدبير خفي لا يطلع عليه.
فهو من الله: التدبير الخفي في ضرب يناله المستحق على وجه لم يحتسبه.
(إني متوفيك)
قابضك برفعك إلى السماء من غير موت.

(1/296)


يقال: توفيت منه حقي: تسلمته.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنه توفاه الموت، ثم أحياه ورفعه إلى سمائه ومحل كرامته".
وإنما أضاف الرفع إليه جل وعز للتفخيم والتعظيم، كقول إبراهيم: (إني ذاهب إلى ربي) وإنما ذهب من العراق إلى الشام.
(تعالوا)
أصله: تعاليوا، فسقطت الياء تخفيفاً، وبقيت الواو علامة للجمع.

(1/297)


وقرأ الحسن مع جماعة "تعالوا" بضم اللام، إشارة إلى حركة الياء المحذوفة.
وإنما يقال: تعالى في موضع تقدم؛ لأن التقدم: تعال، والتأخر انخفاض ألا ترى أن قولك: قدمته إلى الحاكم كقولك: [ترافعنا] إليه.
(نبتهل)
نخلص في الدعاء على الكاذب والمعاند.
ويقال: نلتعن. يقال [عليه] بهلة الله أي: لعنته.

(1/298)


وامتنع المحاجون عن المباهلة، وهم نصارى نجران.
(إن هذا لهو القصص الحق)
خبر (هذا) (القصص)، و (لهو) عطف بيان، ويجيء في مثل هذا الموضع لتقرير المعنى.
والكوفيون يقولون لمثله: العماد، ولا يرون له موضعا من الإعراب.
وكذلك حكم (هؤلاء) في قوله: (هأنتم هؤلاء حججتم).
وإنما دخلت (من) في قوله (وما من إله إلا الله) لأنها ابتداء الغاية فلما اتصلت بالنفي عمت النفي من ابتداء الغاية إلى انتهائها. (وجه النهار)

(1/299)


أوله. قال الربيع بن زياد:

245 - من كان [مسرورا] بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه النهار

246 - يجد النساء حواسرا يندبنه ... بالصبح قبل تبلج الأسحار
(أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم)

(1/300)


يحتاج فيه إلى [تقدير]: "لا" أي إن هدى الله أيها المسلمون أن لا يؤتي أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب، وأن لا يحاجوكم. فتكون الجملة خبر (إن الهدى هدى الله) وهذا القول على تمام الكلام على حكاية قول اليهود: (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) ثم الابتداء بقوله: (إن الهدى).
وفيه قول آخر [للزجاج]: وهو أن الآية جميعها حكاية قول اليهود لقومهم "إنا والمسلمون على هدى، فلا تؤمنوا لهم لئلا يصدقهم المشركون بسب تصديقكم، ويحاجوا من أنكر عليهم إيمانهم لهم بإيمانكم".
(ليس علينا في الأمين سبيل)
أي: لا سبيل علينا في الذي أصبنا من مال العرب.

(1/301)


وقيل: إنها في أمانة أبي أن يردها بعض اليهود على صاحبها بعد ما أسلم، وقال: إن في كتابنا أن مالكم يحل إذا بدلتم دينكم. وعند نزولها قال عليه السلام "كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر".
[و] العرب أميون؛ لأنهم لا يكتبون فكأنهم على ما ولدتهم أمهم.
وقيل: بأنه نسبة إلى مكانهم بأم القرى مكة.

(1/302)


(بلى)
مكتفية بنفسها وعليها وقف تام [كأنه] "بلى عليهم سبيل".
(يلون ألسنتهم)
يحرفونها بالتبديل والتغيير.
وأصله يحركونها. قال الفرزدق:

247 - ولما بدا وادي القرى من أمامنا ... [وأشرق أقتار] البلاد القوائم

248 - لوى كل مشتاق من القوم رأسه ... بمغرورفات كالشنان الهزائم

(1/303)


(ربنين)
[بـ]ـالعلم، والربان: الذي [يربُّ] الأمر ويدبره، رب الشيء يربه فهو ربان [أو الرباني منسوب إلى الرب] فغير لياء الإضافي كالبحراني واللحياني.
وكما قالوا في أمس: إمسي، وفي حرم: حرمي، وقد قرى في بعض القراءات (ربيون).
(وإذ أخد الله ميثاق النبيين)
بأن أخذوا على قومهم تصديق محمد عليه السلام.
(ولما ءاتيتكم)

(1/304)


قال المبرد: هذه [لام] التحقيق دخلت على "ما" الجزاء، ومعناه: "لمهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول لتؤمنن به. ولام (لتؤمنن)
لام القسم. مثل قولك: لزيد والله لتأتينه.
وقيل: إن اللام الأولى: للقسم، أي والله لما آتيتكم، والثانية في (لتؤمنن): جواب القسم، على مثال قوله (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله) أي: والله لإن قتلتم لمغفرة من الله.
ومن قرآ (لما آتيتكم): كان من أجل ما آتيتكم؛ لأن من أوتي الكتاب أخذ عليه الميثاق بما فيه.

(1/305)


وقيل: إن هذه اللام المكسورة بمعني: بعد، أي: بعد ما آتيتكم كما تقول لثلاث خلون. قال النابغة:

249 - [توهمت] آيات لها [فعرفتها] ... لستة أعوام وذ [ا] العام سابع
وقال المثقب:

250 - لمن ظعن تطالع من صبيب ... فما خرجت من الوادي لحين
أي: بعد حين وإبطاء.

(1/306)


(وله أسلم)
استسلم وانقاد.
قال الحسن: أهل السموات طوعا، وأهل الأرض بعضهم طوعا وبعضهم كرها، إما من خوف السيف في حالة الاختيار أو لدى المعاينة عند الاضطرار.
(إلا ما حرم إسرائيل على نفسه)
سبب تحريم يعقوب عليه السلام لحوم الإبل على نفسه أنها كانت أحب الطعام إليه، فنذر إن شفاه الله من عرق النسا، أن يحرم أحب الطعام إليه.

(1/307)


ثم قيل: إن ذلك التحريم كان بإذن الله، إذ التحريم والتحليل إلى الله.
وقيل: كان بالاجتهاد، لإضافة التحريم إليه.
والاجتهاد للأنبياء جائز، وكذلك تحريم الحلال جائز في شريعتنا وموجبة الكفارة [كـ]ـاليمين، قال الله تعالى (يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك).
ويجوز أن يكون يعقوب توهم في لحوم الإبل زيادة العلة عليه فحرمها على نفسه بواحدة قطعا للشهوة وتصميما للعزيمة.
(بكة)

(1/308)


مكة عن مجاهد، وموضع البيت عن إبراهيم.
وبطن مكة عن أبي عبيد [ة]، وهي من التباك: أي الازدحام [وقيل]: لأنها تبك أعناق الجبابرة. كما قالت الأعرابية في الجاهلية:

251 - أبني لا تظلم بمكـ ... ـة لا الصغير ولا الكبير

(1/309)


252 - أبني من يظلم بمكـ ... ـة يلقى في الظلم الشرور
(فيه ءايت بينات)
من اجتماع [الغزلان] والذؤبان حتى إذا خرجت من الحرم عاد الذئب إلى الصياد، والغزال إلى النفار، ومن إهلاك من عتا فيه، ومن قصة أصحاب الفيل، ومن انجمار أثر الجمار مع طول مدة الرمي وكثرته، ومن امتناع الطير من الوقوع على البيت، وإذا غامت في أيام الباكور ناحية الركن

(1/310)


اليماني سقيت اليمن ذلك العام، وإن غامت [ناحية] الشامي [سقيت] الشام، وإذا عم البيت سقى البلاد، إلى غير ذلك من بئر زمزم وأثر قدمي إبراهيم في [المقام].
(شهداء)
عقلاء، كقوله: (أو ألقى السمع وهو شهيد).
(تبغونها عوجا)
تبغون لها عوجا، كقوله: (يبغونكم الفتنة).
فالعوج في القول والعمل والأرض، والعوج في الحيطان والسواري.
(وأنتم مسلمون)
مستسلمون لأمر الله ورسوله.
(شفا حفرة)

(1/311)


شفيرها وحرفها.
(كنتم خير أمة)
أي: [فيما] تتسامعه الأمم من تواتر البشارة بكم.
قيل: إن كان هذه تامة، أي حدثتم خير أمة.
وقيل: إن كنتم وأنتم سواء، ودخول كان وخروجها بمنزلة، إلا ما يفيد من تأكيد وقوع الأمر، بمنزل ما قد كان في الحقيقة.
(إلا أذى)
إلا كلاماً مؤذياً.

(1/312)


(بحبل)
بعهد.
(ليسوا سواء من أهل الكتب أمة قائمة)
لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة معه، قالوا: لم يسلم إلا شرارنا.
والضمير في (ليسوا) يعود على أهل الكتاب لتقدم ذكرهم.
وعن أبي عبيدة: أنه على أكلوني البراغيث.
(فلن تكفروه)

(1/313)


لا يستر عنكم ثوابه، سمى منع الثواب على المجاز كفرا، كما سمي ثواب الله شكرا فقيل لله: شاكر.
(صِرٌّ)
صوت ريح باردة، من الصرير. قال حاتم طئ:

253 - الليل يا واقد [ليل] قر
254 - والريح يا واقد ريح صر
255 - أوقد [ير] نارك من يمر
256 - إن جلبت ضيفا فأنت حر
(بطانة)

(1/314)


دخلاء [يستنبطون] أمر الرجل.
(لا يألونكم خبالاً)
لا يقصرون في أموركم شرا وفسادا.
وقيل: نقصانا واضطرابا، ومنه يقال للمضطرب: مخبل. ويقال:
دماء و [خبول]، فالخبول: ما دون النفس لاضطراب هيئة البنية عند ذهاب أطرافه.
قال الزجاج في عروضه: ومنه المستفعلن إذا حذف سينه وفاؤه فنقل إلى "فعلتن" [مخبول].

(1/315)


(هأنتم)
تنبيه، و (أولاء) خطاب للمنافقين ليظهر فائدة التكرير.
(لا يضركم)
جواب شرط حذف فاؤه لدلالة الكلام عليها.
وقيل: إنه كان لا يضرركم مجزماً بجواب الشرط، فأدغمت الراء في الراء، ونقلت ضمة الأولى إلى الضاد، وضمت الراء الأخير اتبا [عاً] لضمة الضاد كما قالوا في "أمدد" مد يا فتي.
(وإذ غدوت من أهلك)
في يوم أحد عن ابن عباس.
(إذ همت طائفتان)

(1/316)


هما بنو سلمة، وبنو حارثة حيان من الأنصار.
(والله وليهما)
أي: كيف يفشل من الله وليه.
(من فورهم)
من وجههم.
وقيل: من غضبهم تشبيها لاضطراب الغضبان وثورانه بفوران القدر.
(مسومين)

(1/317)


أي: ارسلوا إلى الكفار كالسائمة في الرعي.
[وقيل]: إنه من السومة، أي سوموا وأعلموا.
وكانت سؤمتهم عمائم بيض، وسومة خيلهم [الأصواف الخضر في نواصيها].
(إلا بشرى لكم)
أي: دلالة على أنكم على الحق.
(ليقطع طرفا من الذين كفروا)
في يوم بدر صناديد الكفر وقلادة الضلال.

(1/318)


(أو يكبتهم)
يخزيهم.
وقيل: يصرعهم على وجوههم.
(أو يتوب عليهم)
حتى يتوب عليهم.
[أو] إلا أن [يتوب] عليهم.
والأحسن أنه عطف على (أو يكبتهم) ليبقي اللفظ على وضعه، ثم يكون (ليس لك من الأمر شيء) اعتراضاً.

(1/319)


(أضعافا مضاعفة)
كلما جاء أجله أجلوه ثانيا وزادوا على الأصل والفضل ربا.
(وجنة عرضها السماوات والأرض)
أي: إذا بسط وضم بعضها إلى بعض. وقيل للنبي عليه السلام: إذا كانت الجنة عرضها السموات والأرض، فأين النار؟ فقال: "سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل".
وتعسف ابن بحر في تأويلها فقال" عرضها ثمنها لو جاز بيعها من المعاوضة في عقود البياعات.

(1/320)


(الذين ينفقون في السراء والضراء)
خصهما بالذكر لأنهما داعيتا البخل.
وحب المال يكون في حالتين:
عند كثرته منافسة فيه، أو عند قلته حاجة إليه.
الأول: مثل [قول] الشاعر:

257 - إذ [ا] البقل في أصلاب شول بن مسهر ... نما لم يزدها البقل إلا تكرما

258 - إذ [ا] أخذت شول [البخيل] رماحها ... [دحا] برماح [الشول] حتى تحطما
والثاني: مثل قول [أبي] محجن:

(1/321)


259 - لا تسألي القوم عن مالي وكثرته ... وسائلي القوم عن ديني وعن خلقي
260 - فقد أجود وما مالي بذي ... فنع وأكتم السر فيه ضربة العنق
وإنما قال:
(إن كنتم مؤمنين)
وهم مؤمنون ليعلم أن من صدق الإيمان ألا يهن المؤمن ولا يحزن لثقته بالله.
(فرح)
بالفتح: جراح، وبالضم: ألم الجراح.

(1/322)


وقيل: إن الفتح مصدر والضم اسم.
(نداولها)
نصرفها بتخفيف المحنة وتشد يدها.
ولم يرد مداولة النصر بين المؤمنين والكافرين؛ لأنه لو نصر الكافرين لكان أحبهم، وإنما لم يكن الأيام أبداً لأولياء الله؛ لأنه ادعى إلى احتقار الدنيا الفانية الغير الوافية والعبد منه أعرف [لقيمة] الظفر وحسن العاقبة.
(وليمحص)
يخلص ويصفى من الذنوب، من محصت الماشية تمحص محصا إذا املصت وذهب وبرها، ولما كان محص الذنوب كمحق النفوس في النفاذ والذهاب تطابقا في الذكر وتوازناً.

(1/323)


(ولما يعلم الله)
معناه حدوث معلوم، لا حدوث علم.
(ويعلم الصابرين)
نصب (ويعلم) على الصرف على العطف، إذ ليس المعنى نفي الثاني حتى يكون عطفا على نفي الأول، وإنما هو على منع اجتماع الثاني والأول، [كما] في قول المتوكل الليثي:

261 - لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم

262 - وأقم لمن صافيت وجها واحدا ... وخليقة إن الكريم قؤوم

(1/324)


(تمنون الموت)
غاب رجل عن بدر فتمنوا الشهادة ثم تولوا في أحد.
(وما محمد إلا رسول)
أشيع موته عليه السلام يوم أحد وقالوا: لو كان نبيا ما مات.
(وكأين)
فيها أربع لغات: كَأَيِّن، وكَائِن بوزن كَاعِنٍ، وكَأْيِن الهمزة بعد الكاف

(1/325)


وزن كعْين، وكَئِنْ في وزن كَعِنْ، وأصل كلمة كَأَيِّن في معنى" كم"، وزعم يونس في كائن إلى أنه فاعل من الكون، ولو كان كذلك لأعرب.
(قاتل معه ربيون)
في موضع الجر على الوصف لنبي، [أو] موضع النصب على الحال.
والربيون: العلماء الصبر عن الحسن.

(1/326)


وقال يونس وقطرب: هم جماعات في فرق.
(تحسونهم)
تستأصلونهم قتلا.
(وعصيتم)
إذ أخلت الرماة بالموضع الذي وصاهم النبي عليه السلام.
(منكم من يريد الدنيا)
النهب والغنم.
(إذ تصعدون)
تعلون طريق المدينة.
والإصعاد: الابتداء بالسير نحو صعود من الأرض.

(1/327)


وقيل: بل الإصعاد: الإبعاد في الذهاب. كقول سلمة بن الخرشب:
263 - وأصعدت الحطاب حتى تقاربوا ... على خشب الطرفاء فوق العواقر
وقول بشر:

264 - وأصعدت الرباب فليس منها ... بصارات ولا بالحبس نار

(1/328)


265 - فحاطونا [القصا] ولقد [رأونا] ... قريبا حيث يستمع السرار
يقال: أصعد الرجل: ارتفع. وأفرع: هبط، وفرع مثل أصعد.
وإنما يريد إبعادهم في السير بسبب عزهم حتى جاوزوا بلادهم في طلب الحطب [آمنين].
ولأنها نزلت في قوم من المسلمين استنبطوا الشعب آخذين طريق مكة ورسول الله فوقهم في الجبل يدعوهم فلا يجيبونه.

(1/329)


(غما بغم)
أي: على غم، كقولك: نزلت ببني فلان أي: عليهم.
والغم الأول: بما نيل منهم، والثاني بما أرجف من قتل الرسول.
(وطائفة قد أهمتهم أنفسهم)
أي: المنافقون حضروا للغنيمة وظنوا ظنا جاهليا أن الله لا يبتلي المؤمنين بالتمحيص والشهادة.
(إن الأمر كله لله)
نصب (كله) على التأكيد لأمر، أي: إن الأمر أجمع، ويجوز على

(1/330)


الصفة، أي: الأمر جميعه.
ويجوز على البدل من الأمر، أي: إن كل الأمر لله.
ورفع (كله) على أنه مبتدأ و (لله) خبره، والجملة من المبتدأ وخبره خبر إن.
(غزى)
جمع غاز، كشاهد وشهد وعائد وعود.
(ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون)
اللام الأولى حلف من أنفسهم، والثانية: جواب كأنه "والله إن متم لتحشرون".

(1/331)


(فبما رحمة من الله)
أي: فبأي رحمة من الله، تعظيما للنعمة عليه فيما أعانه من اللين لهم في ذلك المقام، ولو غلظ إذ ذاك لانفضوا عنه هيبة وخوفا فيطمع العدو فيه.
والفظ: الجافي الغليط، ومنه الافتظاظ لشرب ماء الكرش لجفائه على الطبع. قال:

(1/332)


266 - [وأي] فتى صبر على [الأين والظلما] ... إذا اعتصروا اللوح [ماء] فظاظها
267 - إذا ضربوها ساعة بدمائها ... [وحل عن] الكوماء عقد شظاظها
قال الفرزدق:
268 - أمسكين أبكي الله عينك إنما ... جرى في ضلال دمعها إذ تحدرا
269 - بكيت امرءاً فظا غليظا مبغضا ... ككسرى على عدانه أو كقيصرا
(أن يغل)

(1/333)


أن يخون، وأن يغل: يخان.
وقيل: أن يوجد غالا كقولك: أجبته وأبخلته.
وقيل: أن يقال له غللت، من قولك: أكذبته وأكفرته.
(ومن يغلل يأت بما غل)
أي: حاملا خيانته على ظهره.
وقيل: إنه لا يكفره إلا رده على صاحبه.

(1/334)


(هم درجات)
أي: مراتب، أهل [الثواب] والعقاب، النار دركات والجنة درجات.
وفي الحديث: "إن أهل الجنة ليرون أهل عليين كما يرى النجم في السماء".
ولما اختلفت أعمالهم جعلت كاختلاف الذوات في تفاوت الدرجات.
كقول ابن هرمة:

(1/335)


270 - أنصب للمنية تعتريهم ... رجالي أم هم درج السيول
(قد أصبتم مثليها)
كان يوم أحد، قتل سبعون من المسلمين وقد قتلوا يوم بدر سبعين من المشركين وأسروا سبعين.
(أو ادفعوا)
أي: بتكثير السواد إن لم يقاتلوا.
(يقولون بأفواههم)
فإن قيل: معلوم أن القول لا يكون إلا بالأفواه!؟

(1/336)


قلنا: إن القول يحتمل باللسان، وبالقلب، فيكون بمعنى الظن والاعتقاد.
قال توبة:
271 - ألا يا صفي النفس كيف تقولها ... لو أن طريدا خائفا يستجيرها
272 - يخبر إن شطت بها غربة النوى ... ستنقم ليلي أو يفك أسيرها
(ويستبشرون بالذين لم يلحقوا)
يطلبون السرور في البشارة بمن [يقدم] عليهم من إخوانهم كما يبشر بقدوم الغائب أهله.
(الذين قال لهم الناس)
هو نعيم بن مسعود الأشجعي حين ضمن له أبو سفيان مالا ليجبن

(1/337)


المسلمين ويثبطهم حتى يكون التأخر من المسلمين لا منه.
إقامة الواحد مقام الجمع إما لتفخيم الأمر، وإما لابتداء القول أو العمل، كما إذا انتظرت قوماً فجاء واحدٌ منهم، قلت: جاء الناس.
(يخوف أولياءه)
أي: يخوفكم أولياءه، أو يخوف بأوليائه، كقوله: (لينذر بأسا شديدا)
(أنما نملي لهم خير لأنفسهم)
وقع موقع المفعولين لقوله: (ولا تحسبن الذين كفروا) أي: لا تحسبوا

(1/338)


إملاءنا خير لأنفسهم. وهذا كقولك: حسبت أن زيدا قائم، فإنه في حكم مفعولين، لأنه حديث ومحدث عنه.
والإمالة: إطالة المدة، والملاوة: الدهر.
(ليزدادوا إثما)
أي: لتكون عاقبة أمرهم ازدياد الإثم.
(وما كان الله ليطلعكم على الغيب)
في تمييز المؤمنين من المنافقين؛ لما في ذلك من رفع المحنة، ولكن يطلع أنبياءه (على الغيب) على بعض الغيب بقدر المصلحة.
(بقربان)
القربان: هو التقرب، مصدر من الرجحان والخسران، ثم سمي المتقرب به توسعا.

(1/339)


وإنما جمع بين الزبر والكتاب؛ لأن أصلهما مختلف؛ لأنه زبور لما فيه من الزبر، أي الزجر عن خلاف الحق.
وهو كتاب؛ لأنه ضم الحروف بعضها إلى بعض.
و (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا)
أي اليهود الذين فرحوا بتكذيب النبي عليه السلام والاجتماع على كتمان أمره.
وخبر لا يحسبن الأولى: (بمفازة من العذاب) ودخل بينهما (لا تحسبنهم) لطول الكلام.

(1/340)


(سمعنا مناديا)
القرآن.
(لا يغرنك)
أي: أيها السامع.
(تقلب الذين كفروا في البلاد)
أي: بالنعم غير مأخوذين بكفرهم.
(نزلا من عند الله)
على معنى المصدر؛ لأن خلودهم فيها يقتضي نزولهم نزلا.
وقيل: على التفسير، كقولك: هو لك هبة أو صدقة.
(إن الله سريع الحساب)
أي: سريع المجازاة على الأعمال، وأن وقت الجزاء قريب.
أو معناه محاسبة جميع الخلق في وقت واحد، ويقال: إن مقدار ذلك: مقدار حلب شاة؛ لأنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن.

(1/341)


(اصبروا)
أي: على طاعة الله. (وصابروا) أي: أعداء الله.
(ورابطوا)
أي: في سبيل الله.
والمرابطة والرباط كلاهما ربط الخيل في الثغر، والإقامة فيه لدفاع العدو.
قال الأخطل:
273 - مازال فينا رباط الخيل معلمة ... وفي كليب رباط اللؤم والعار
274 - النازلين بدار الذل إن نزلوا ... و [تستبيح] كليب حرمة الجار
[تمت سورة آل عمران]

(1/342)