باهر البرهان فى معانى مشكلات القرآن

سورة البقرة
المروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في الم ونظائرها أن كل حرف منها عبارة عن اسم من أسماء الله مفتتح بتلك الحروف وعن الشعبي أنها أنفسها أسماء الله وعن عكرمة أنها أقسام

(1/16)


وقيل هجاء ألم أي أنزل ذلك الكتاب وقيل أنها حروف الجمل الحسابية إشارة إلى مقادير أشياء وآجال قوم وقال قطرب كانت العرب تعاهدوا أن لا يسمعوا القرآن وبلغوا فيه فافتتح بما لا يعلم تطرقاً إلى استماع ما يعلم وقال ثعلب إن الافتتاح بما لا يعلم صحيح على مذهبهم كقولهم ألا

(1/17)


إنك كذا ولا معنى في ألا سوى استحضار قلب السامع فكذلك أمر هذه الحروف وأكثر هذه الأقاويل مدخولة لأنها ليست على نهج كلام العرب ولأنه لا يجوز في كلام الحكيم الأصوات الخالية من المعنى وإنما الصواب في أحد الأقوال الثلاثة أحدهما أنها من المتشابة الذي لا يعلم تأويله إلا الله وهو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال إن لكل كتاب سرا وسر الله في القرآن أوائل السور ولأنها سميت معجمة لإعجام بيانها وإبهام أمرها والقول الثاني ما قاله الحسن إنها أسماء للسور لأن الله أشار

(1/18)


بها هاهنا إلى الكتاب فإما أن يكون اسما للمشار إليه أو صفة وليس الموضع موضع الصفة لإنها لتحلية الموصوف بالمعاني المخصصة ولا معاني لهذه الحروف فتعينت أسماء أعلاماً فإن قيل فلم لم يعم جميع السور بالتسمية قلنا كما خص بعضها بتشريف في المعنى فإن قيل اشتركت سورتان وثلاث في تسمية قلنا كما يشترك جماعة من الناس في اسم واحد فإن قيل فيجب أن يكون غير السورة من حيث كان الاسم غير المسمي قلنا من يقول ذلك فإنما يقوله في الأشخاص التي حكمها حكم الألفاظ والقول الثالث أنها إشارة إلى أن ذلك الكتاب يتألف كم خذه الحروف كتأليف كلامهم فلو كان من عند غير الله لأتيتم بمثله ومعنى الإشارة في ذلك الكتاب الموعود إنزاله في الكتب السالفة من هذه الحروف وقيل معناه ذلك الكتاب الموعود بقوله

(1/19)


إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا وقال الأصم يعني ب ذلك ما تقدم من القرآن فقد سبق البقرة سور كثيرة قال المبرد وأمثال هذا التقدير الذي يقر ذلك على وضعه أولى من التحول إلى أن ذلك بمعنى هذا وهما غير أن حاضر وغائب إلا أنه جاء أن ذلك معناه هذا عن الضحاك وغير في الكتاب الموفق

(1/20)


قال أبو عبيدة لقيني ملحد مرة فقال يا أبا عبيدة ألم ذلك الكتاب وهو هذا الكتاب فأي شيء ذلك من هذا؟ فقلت إن قبلت الحجة العربية قال هات قلت قول خفاف بن ندبة إن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا وقلت له والرمح يأطر متنه تأمل خفافاً إنني أنا ذلكا

(1/21)


لا ريب فيه إخبار عن كون القرآن حقا مصدقا إذ أسباب الشك عنه زائلة وصفات التعقيد والتناقض منه بعيدة والإعجاز واقع والهدى حاصل والشيء إذا بلغ هذا المبلغ اتصف بأنه لا ريب فيه فيبطل بهذا سؤال من يقول إن المنكرين لا يقل ريبهم بالقول إنه لا ريب فيه واختصاص المتقين بهداهم على هذا الطريق وقيل إنه على جهة التعظيم لقدرهم والإشادة بذكرهم الذين يؤمنون بالغيب أي بما يغيب عن الحواس ولا يدرك إلا بالعقول وقيل بل المراد أنهم يؤمنون بالله ورسوله بظهر الغيب لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وهذا كقوله تعالى من خشى الرحمن بالغيب وقوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وقال الهذلي

(1/22)


أخالد ما راعيت من ذي قرابة فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي والجار والمجرور في بالغيب من البيت والآية في موضع حال أي تحفظني غائباً ويؤمنون غائبين عن مراءاة الناس ومخافتهم وعلى القول الأول في موضع المفعول به إن الذين كفروا سواء عليهم في قوم من الكفار أخبر الله بعلمه فيهم كما أخبر نوحا فقال أنه لن يؤمن من قومك والحكم في الإنذار مع العلم بالإصرار إقامة الحجة وقيل ليكون الإرسال عاما وقيل لثبات الرسول على محاجة المعاندين وإنما جرى لفظ الاستفهام في ءأنذرتهم ومعناه الخبر لأن فيه التسوية التي في الاستفهام ألا ترى أنك إذا استفهمت فقلت أخرج زيد

(1/23)


أم قام فقد استوى الأمران عندك في الإبهام وعدمه على أحدهما بعينه كما إذا قلت في الخبر سواء على أخرجت أم أقمت كان الأمر في التسوية كذلك قال حسان ما أبالي أنب بالحزن تيس أم لحاني بظهر غيب لئيم وسمهم بسمة تعرفها الملائكة وفائدتها الوضع منهم والتبكيت كما أنه لما كتب الإيمان في قلوب المؤمنين كان تحلية لهم بما يرفعهم

(1/24)


آية على التشبيه لحالهم بحال المطبوع على قلبه المضروب على سمعه وبصره كما قال لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي وقال مجاهد الشيء إذا ختم ضم فالقلب إذا ران عليه المعاصي انضم ولم ينبسط بالإنذار ولم ينشرح بالإيمان وقيل إن المراد حفظ ما في قلوبهم للمجازاة إذ كل شيء يحفظ فإنه يختم وقيل إنه على الدعاء عليهم لا الخبر عنهم

(1/25)


وقيل بل المراد ظاهره وهو المنع ولكن المنع منعان منع بسلب القدرة ومنع بالخذلان والذي يجوز على الله منهما الخذلان وحبس التوفيق عقوبة لهم على كفرهم وإنما لم يجمع السمع لأنه أجرى مجرى المصدر أو لأنه توسط الجمعين فكان جمعا بدلالة القرينة مثل السموات والأرض والظلمات والنور يخدعون الله قد تكون المفاعلة من الواحد مثل عافاه الله وقاتله وعاقبت اللص وطارقت النعل ومعناه يعملون عمل المخادع وقيل إن المراد مخادعة الرسول والمؤمنين حين يساترونهم ما في قلوبهم لان الله لا يخفى عليه السرائر ولا يحتجب دونه الضمائر وهذا كقوله إن الذين يؤذون الله ورسوله أي يأذون أولياء الله

(1/26)


وأصل الخداع الاخفاء ومنه الحديث بين يدي الساعة سنون خداعة لأن امرها يخفى يظن بها الخصب فتجدب والدهر يقال له الخداع اخفاء صروفه ونلون خطوبه كما قال الأنصاري ذات أساهيج جمالية حشت بحاري وإقطاع أقضي بها الحاجات إن الفتى رهن بذي لونين خداع

(1/27)


وقيل معنى مخادعتهم إفسادهم ما بينهم وبين الله خدع الشيء فسد قال سويد حرة تجلو شتيتا واضحا كشعاع الشمس في الغيم سطع أبيض اللون لذيذا طعمه طيب الريق إذا الريق خدع وعلى هذا يطرد بمعنى وما يخادعون إلا أنفسهم لأن الإنسان يفسد نفسه ولكن لا يخفى عن نفسه شيئا يعلمه

(1/28)


في قلوبهم مرض أي شك قال البعيث فقلت لبشر إذ تبينت إنما يراد بنا في الأمر صماء صيلم تيقن فإن الشك داء وإنما ينجيك مصروم من الأمر مبرم وقيل غم وحزن كما قال حارثة بن بدر الغداني

(1/29)


إذا الهم أمسى وهو داء فأمضه ولست بممضيه وأنت تعادله وقل للفؤاد إذا نزا بك نزوة من الروع أفرخ أكثر الروع باطله وقيل مداجاة ونفاق كما قال أجامل أقواما حياء وقد أري صدورهم تغلى على مراضها وقيل معناه ظلمة وغمة كما قال

(1/30)


وليلة مرضت من كل ناحية فما يضيء لها شمس ولا قمر ولو أجرى المرض على ظاهره لكان أيضا قريبا فإن القلب جارحة من الجوارح يكون سليماً وسقيما وسويا وناقصا وإنما داؤه الجهل والفساد وودواؤه التعليم والإرشاد وأطباؤه الأنبياء ومن بعدهم العلماء قال السدي وزادهم عداوة الله مرضا فحذف المضاف كقوله فويل للقسية قلوبهم من ذكر الله أي من ترك ذكر الله وقيل زادهم الله بما فاتهم من حدود الشريعة وفروضها لأن من دعى إلى خير فلم يصلحه ازداد شرا إلى شر

(1/31)


ولهذا قيل إن القلب الغير التقي كلما هديته المراشد زدته فسادا كالبدن الغير نقي كلما غذوته الأطايب زدته سقاما وقيل زادهم مرضا زيادة تأييد الرسول وعلى القولين إضافة مرض قلوبهم إلى الله على طريق تسمية المسبب باسم السبب إذ الله لما كان هو الذي شرع الدين ونصر الرسول وهما سبب مرضهم جازت إضافة زيادة المرض إلى الله بسبب زيادة الآيات كما قال الفرزدق

(1/32)


سقتها خروق في المسامع لم تكن علاطا ولا موسومة في الملاغم أي لما سمعت السقاة أنها إبل فلان سقوها إتلالا فكان سبب السقي فعبر بالسبب عن المسبب بهذه الفصاحة وأنشد ابن السراج في مثل هذا الموضع شعر ذر الآكلين الماء ظلماً فما هم ينالون خيرا بعد أكلهم الماء

(1/33)


والماء لا تؤكل ولكنهم كانوا يبيعون شرب الأرض من صاحبها فيشترون بثمنه ما يأكلونه فاكتفي المسبب ومثله كثير الله يستهزئ بهم أي يجازيهم بالعقوبة على استهزائهم وقيل يرجع وبال استهزائهم عليهم وحمله ابن عباس رضي الله عنهما على استدراجهم والاستدراج زيادة النعم على التمادي في الخطيئات وقيل إنهم عوملوا في الدنيا بأحكام المسلمين وإذا دفعوا إلى أشد العذاب كان كالاستهزاء بهم وروى عدي بن حاتم في حديث طويل أنه يفتح لهم بابا الجنة ثم يرصفون إلى النار

(1/34)


وقيل إنه على مزاوجة الكلام كقوله تعالى وجزؤا سيئة سيئة قال تميم بن مقبل لعمر أبيك لقد شاقني خيال حزنت له أو حزن

(1/35)


وقال مزاحم العقيلي بكت درهم من نأيهم فتسرعت دموعي فأي الباكين ألوم أمستعبر يبكي من الهون والبلي أم آخر يبكي شجوه ويهيم وليس ثم حزن ولا بكاء ولكنهما مزاوجة ومكافأة ويمدهم في طغيانهم يملي لهم ويعمر عن ابن مسعود رضي الله عنه

(1/36)


وعن ابن عباس رضي الله عنهما يكلهم إلى نفوسهم ويخذلهم واختيارهم وقيل إنه على حذف المضاف أي يمدهم في جزاء طغيانهم ومد أمد واحد وقيل مد في الأمد وأمد في العدد وقال الفراء مد في الشيء له جاذب وفاعل وأمد من غيره والطغيان تعدي الطور وتجاوز القدر والهمة والحيرة

(1/37)


فما ربحت تجارتهم جاءت على سماعة العربية وإن كان الرابح هو التاجر كما قال جرير تعجب إذا فاجأني الشيب وارتقي إلى الرأس حتى ابيض مني المسائح فقد جعل المفروك لأنام ليله يحب حديثي والغيور والمشايح مثلهم كمثل الذي استوقد نارا قال السدي نزلت في قوم أسلموا ثم نافقوا

(1/38)


وقال سعيد بن جبير نزلت في اليهود كانوا ينتظرون مبعث النبي عليه السلام ويستفتحون به فذلك استضاءتهم ثم كفرهم به ذهاب نورهم ويندفع على التأويلين قول الطاعن كيف يمثل المنافق الذي لا نور له بمن أعطي نورا ثم شاب أو كصيب الصعيب فيعل من صاب يصوب كسيد من ساد يسود ومعناه ذو صوب فيجوز مطرا ويجوز سحابا

(1/39)


والرعد صوت الملك الذي يسوق السحاب والبرق ضربة السحاب بمخراق من على وعن ابن عباس رضي الله عنهم أن الرعد ريح تختنق في السحاب والبرق سقط السحاب إذا انقدحت بالريح

(1/40)


وقد جاء كثير بمثل هذا في شعره فقال تألف واحمؤمي وخيم بالربي أحم الذري ذو هيدب متراكب إذا زعزعته الريح أرزم جانب بلا خلف منه وأومض جانب

(1/41)


وأما الذي جرى له التمثيل بالصيب هو القرآن عند ابن عباس فإن ما فهيه من القصص والمواعظ والتسلية والبشارة وأسباب الهداية كالمطر الذي ينفع حيث يقع وما فيه من الوعيد والتحسير والذم للكافرين كالظلمات والصواعق وعند الحسن هو الإسلام وتقريب المماثلة بينهما أن المطر لا يتم منافعه إلا ومعه الرعد والبرق والظلمات فكذلك الإسلام تمامه باحتمال المتاعب في العبادات وتعريض النفس للقتل في الجهاد والمؤمنون يصبرون عليها والمنافقون يحذرون منها وتقريب آخر أن المطر وإن كان حياة الأرض فإذا وقع على هذه الأعراض راع المسافر وحيره فكذلك إيمان المنافق مع إسراره الكفر وقال في قوله يكاد البرق يخطف أبصرهم أن من لم يكن ضوءه إلا لمع بارق فالضوء عنه بعيد وقد كثر هذا المعني في أشعارهم قال جرير

(1/42)


منعت شفاء النفس ممن تركته به كالجوى مما تجن الجوانح وجدتك مثل البرق تحسب أنه قريب وأدنى ضوئه عنك نازح وقال كثير وإني وتهيامي بعزة بعد ما تخليت مما بيننا وتخلت لكالمرتجي ظل الغمامة كلما تبوأ منها للمقيل اضمحلت وقال ابن حطان أري أشقياء الناس لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجوع

(1/43)


أراها وإن كانت تحب كأنها سحابة صيف عن قليل تقشع لعلكم تتقون لكي تتقوا وهو معنى كل لعل في القرآن لأن الله يتعالى عن معاني الشك وقال المبرد بل هي على أصلها في الشك والرجاء من المخاطب أي أعبدوه على رجاء أن يتم لكم التقوى والترجية في مثل هذا أبلغ لأنه ترقيق للموعظة وتلطيف في العبارة وفائدة أخرى وهي أن لا يكون العبد من المدل بتقواه بل حريصا على العمل حذرا من الزلل

(1/44)


(فأتوا بسورة من مثله).
أي مثل ما نزلنا. وقيل: من مثل عبدنا من رجل لا يقرأ ولا يكتب.
والشهداء: الآلهة، وقيل: الأعوان.
(ولن تفعلوا)
اعتراض بين الشرط والجزاء. مثل: وأنت منهم في بيت كثير:

(1/45)


32 - لو أن المخلفين -وأنت منهم- ... رأوك تعلموا منك المطالا
وقال [عبيد] الله بن الحر:
34 - تعلم -ولو كاتمته الناس- أنني ... عليك -ولم أظلم بذلك- عاتب.
فقوله "ولو كاتمته الناس" اعتراض بين الفعل ومفعوله، "ولم أظلم بذلك" اعتراض بين اسم إن وخبرها.
والاعتراض في أشعار العرب كثير؛ لأنه يجري مجرى التوكيد.
ولنا فيه كتاب اسمه "قطع الرياض في بدع الاعتراض".
(وقودها الناس والحجارة)
قيل: إنها حجارة الكبريت فهي أشد توقداً.

(1/46)


وقيل: إنها الأصنام المعبودة فهي أشد تحسرا.
وقال الجاحظ: كأنه حذرهم نارا تشتعل لشدتها وعظم مادتها في الحجارة. كما قال القطامي:
35 - يمشين [رهوا] فلا الإعجاز خاذلة ... ولا [الصدور] على الأعجاز تتكل.
36 - حتى وردن ركيات الغوير وقد ... كاد الملاء من الكتان يشتعل.

(1/47)


فوصف الحر باشتعال الكتان منه مع نداوته وطراوته.
(وأتوا به متشبها)
أي: التذاذهم بجميع المطاعم والمشارب متساو ولا يتناقص ولا يتفاضل. وعن ابن عباس: متشابها في المنظر وإن اختلف في المطعم، فيقولون -ما لم يطعموه- هذا الذي رزقنا من قبل.
ولا يحمل على تشابهه بثمار الدنيا لأنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا (إنه ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء)
(إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا)
أي: لا يدع ولا يمتنع.

(1/48)


والاستحياء: عارض في الإنسان يمتنع عنده عما يعاب عليه، وذلك لا يجوز على الله، ولكن ضرب المثل بالحقير إذا تضمن جليل الحكمة لا يستحي عنه، فقارب جل اسمه الخطاب في التفهيم باللفظ المعتاد.
(مثلا ما بعوضة)
تقديره: أن يضرب مثلا ما، أي من الأمثال، فيتم الكلام على (ما). [ثم] (بعوضة) نصب على البدل.
وهذا هو الصواب تنزيهاً للقرآن من لفظ خال عن معنى.
وقال الكسائي: نصب بعوضة بمعني ما بين بعوضة فما فوقها، فلما ألقيت "بين" نصبت، كما تقول العرب: وهي أحسن الناس قرنا فقدما، أي: ما بين قرن فقدم.

(1/49)


(فما فوقها)
أي في الكبر من الذباب والعنكبوت؛ لأن إنكار اليهود كان لضرب الله المثل لمهانتهما.
وقيل: فما فوقها في الصغر؛ لأن القصد هو التمثيل بالحقير، فما كان أصغر كان إلى القصد أقرب، بل لا نتجاوز فيما زاد به التحقير إلا إلى ما هو أحقر وأصغر، فلا يقال: ماله على درهم ولا عشرة، ولكن درهم ولا دانق. فإن قيل: فكذلك لا يقال فوق والمراد به ما هو دونه.
قلنا: يقال، كقولك: فلانٌ قليل العقل، فيقال: وفوق ذلك.
(يضل به كثيرا)
حيث يحكم عنده بالضلال.
وقيل: حيث أضلهم عن جنته وثوابه.

(1/50)


وقيل: إضافة الإضلال إلى الله وإلى المثل المضروب -وإن كان حكمة- لوقوع الضلال عنده كقوله عز وجل في الأصنام: (رب إنهن أضللن كثيرا) لما ضلوا بسببها.
وقال الأخفش: وهذا كما يقال: أهلكته فلانة إذا هلك في عشقها. كذلك إذا ضلوا في دين الله.
وبعضهم على الإملاء فيه والإمهال.
وبعضهم على مصادفتهم عليه، من أضل ناقته: إذا ضلت هي.
قال ذو الرمة:
37 - أضله راعيا كلبية صدرا ... عن مطلب وطلى الأعناق تضطرب.

(1/51)


وقال آخر:
38 - هبوني امرءا منكم أضل بعيره ... له ذمة إن الذمام كبير
(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه)
عهده.
وميثاقه: ما أمر به في كتبه وعلى لسان رسله.
وقيل: هو حجة الله القائمة في عقل كل أحد على توحيده وعلى وجوب بعثه للرسل.
وقيل: المراد يمينهم في قوله: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذيرٌ).

(1/52)


وسيبويه لا يجيز إعادة الثاني مظهرا بغير لفظ الأول، فلا يجوز: زيد مررت بأبي محمد، وكنيته أبو محمد، ويجوز بلفظ الأول كقوله تعالى: (الحاقة ما الحاقة) و (القارعة ما القارعة).
قال ابن حطان:
39 - لا يعجز الموت شيء غير خالقه ... والموت فإن إذا ما حلَّهُ الأجل
40 - وكل شيء أمام الموت متضع ... للموت والموت فيما بعده جلل
فعلى مذهب سيبويه لا يكون الميثاق: العهد بل يكون صفة للعهد.
والأخفش يرد عليه ويقول: إنه إذا لم يعد لفظ الأول البتة، وعاد مخالفا للأول شابه بخلافه له المضمر الذي هو أبدا مخالف المظهر.

(1/53)


وهو أحسن، مثل قولك: زيد مررت. ألا ترى إلى قول كلحبة:
41 - أمرتكم [أمري] بمنعرج اللوى ... ولا أمر للمعصي إلا مضيعا.
42 - إن المرء لم يغش الكريهة أوشكت ... حبال الهوينا بالفتى أن تقطعا
فالفتى غير لفظ المرء، وهو المرء المذكور فكذلك الميثاق والعهد. (وكنتم أمواتا)
أي: نطفا في أصلاب آبائكم. أو أمواتا في القبور.

(1/54)


(فأحياكم) فيها للسؤال (ثم يميتكم) للبعث؛ لأن الموت ما كان عن حياة، إلا أن الموت ولا شيء سواء، فيجوز كنتم أمواتا أي لم تكونوا شيئا لا سيما وهو على مزاوجة الموتة [الحقيقة].
(ثم استوى إلى السماء)
قصد إلى خلقها.
وقال الحسن: ثم استوى أمره الذي بع تكونت الأشياء إلى السماء.
وقيل: ثم استوى تقديره إلى السماء؛ لأن القضاء بجميع أحوال العالم ينزل من السماء، فحذف الأمر والتقدير لدلالة الحال.

(1/55)


وقال الأصم: الاستواء صفة الدخان المحذوف الذي كانت منه السماء.
وفيه بعد لمعاندة الظاهر له.
وقال الفراء: معناه أقبل عليها تقول العرب، كان فلان ينظر إلى غير ثم استوى إلي.
وقيل: معناه استولى على ملك السماء ولم يجعلها كالأرض التي ملكها عباده. كما قال:
43 - فلما تولوا واستوينا عليهم ... تركناهم [صرعي] لنسر وكاسر.

(1/56)


وفي الآية ما يبطل الحمل على [الانتصاب]؛ لأنه لا يليق بذكر الإنعام بما خلق، ولأنه لا يتعلق به فسواهن.
فإن قيل: في هذه الآية خلق السماء بعد الأرض، وفي قوله (بعد ذلك دحاها) خلق الأرض بعد السماء.
قلنا: الدحو ليس من الخلق، وإنما هو البسط، فجاز أنه دحاها بعد أن خلقها وبني عليها، وكذلك التسوية ليس بخلق. فجائز أنه جعلها سبعا بعد خلق الأرض وكانت مخلوقة قبل كما في الحديث "أنها كانت دخانا".
(إني جاعل في الأرض خليفة)
قيل: كانت الخلافة عن الملائكة.

(1/57)


وقيل: عن الجان الذين أجلاهم الملائكة بسبب فسادهم.
وقي: ل المراد بالخليفة جميع بني آدم أن يخلف بعضهم بعضا.
وعن ابن مسعود: المراد أولو الأمر من عهد آدم إلى انقضاء العالم
.
فكلهم خلفاء الله في الحكم بين الخلق وتدبير ما على الأرض.
(أتجعل فيها من يفسد فيها)
قالوا ذلك على التألم والاغتمام لمن يفسد.
وقيل: على الاستعصام للمعصية مع عظيم النعمة.
وقيل: على الاستعلام لوجه التدبير فيه.

(1/58)


وقيل: على السؤال أن يجعلهم خلفاء الأرض [ليسبحوا] بدل من يفسد فقال عز وجل: (إني أعلم) من صلاح كل واحد (ما لا تعلمون) فدلهم [بذلك] أن صلاحهم في أن أختار لهم السماء وللبشر الأرض.
(وعلم ءادم الأسماء)
بمعانيها على اللغات المختلفة، فلما تفرق ولده تكلم كل قوم بلسان أحبه واعتاده وتناسوا غيره على الأيام. كما أن الله تعالى علمه الأسماء علمه الأفعال والحروف التي هي أصول الكلام؛ لأن المعني ينتظم بجميعها، والفضيلة بتصور المعني لا بتداول اللفظ، ولكنه لابد للكلام المفيد من الاسم، وقد يستغني عن الفعل والحروف، فلقوة الاسم وغلبته على الكلام جرى الاكتفاء بذكره مما هو قال له.
وهكذا كما قال المخزومي:
44 - الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد

(1/59)


45 - وعلمت أني إن أقاتل بعدهم ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهد
فخص الله بالذكر على معني أنه إذا علمه الله لا أبالي استشهدت غيره أولم أفعل، لا لأنه أمر خفي لا يعلمه غير الله، ألا ترى إلى عنترة وذكره علم الفوارس مع [علم] الله في قوله:
46 - الله يعلم والفوارس أنني ... فرقت جمعهم بطعنة فيصل.
وأما كيفية تعليم آدم الأسماء فينبغي أن يعلم أنه لا يجوز ذلك بالعلم الضروري؛ لأن المعرفة بالله وصفاته بالاستدلال، فكذلك بقصده وإرادته.

(1/60)


ولا يجوز ذلك بالمواضعة والإيماء؛ لأنه يتعالى عنه فيكون بالوحي [والتوقيف] حجة معجزة من خلقه في أول ما أعقله. إلا أن أول اللغة يكون بالمواضعة من الخلق، والاصطلاح عليها، ثم الله يغيرها ويكثرها بالوحي، بأن يوقف على مراتب الأسماء والمصادر، وكذلك مبادئ الأفعال والحروف ثم يهدي للتصرف للتصرف والاشتقاق.
(ثم عرضهم على الملائكة)
يعني المسميات، بدليل قوله:
(أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صدقين)
فيما هجس في نفوسكم أنكم أعلق الخلق وأفضلهم.
فإن قيل: كيف أمروا بالإنباء مع العلم أنهم لا يعلمون!!

(1/61)


قلنا: لأن القصد هو التقرير والتنبيه على مكان الحجة، ولأنه أمر [مشروط] على الحقيقة؛ لأنه متعلق بشرط كونهم صادقين، أي: عالمين، فإذا لم يكونوا عالمين [لم] يكونوا مأمورين.
وكان القاضي أبو القاسم الداودي يحتج بهذه الآية أن علم اللغة أفضل من التخلي [للعبادة]؛ لأن الملائكة تطاولت بالتسبيح والتقديس.
ففضل الله آدم عليهم بعلم اللغات، فإن كان الأمر على هذا في علم الألفاظ فكيف في المعالم الشرعية والمعارف الحكمية.

(1/62)


(قالوا سبحانك)
أي تنزيها لك أن يخفى عليك شيء. وهو نصب على المصدر، كقولك تسبيحا لك، وكذلك سائر المصادر العقيمة الغير المتصرفة، مثل معاذ الله، وعمرك الله، وقعدك الله، وأشباهه، كلها يجري مجرى المصادر المتصرفة المطلقة.
(إلا ما علمتنا)
في موضع الرفع؛ لأنه استثناء من مجحود.
(ألم أقل لكم)
ألف تنبيه وتقرير، لا تقريع وتوبيخ. كأنه أحضرهم ما علموه؛ لأن مكانهم أعلى، وعلمهم بالله أقوى من أن يخفى عليهم ذلك. وهو كما قال جرير:
47 - ألم يعلم الأقوام أن لست ظالما ... بريئا وأني للمتاحين متيح.
48 - فمنهم رمى قد أصيب فؤاد [هُ] ... وآخر يبغى صحة فمرنح.

(1/63)


(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)
قيل: إنه السجود اللغوي الذي هو: التذلل والخشوع، كما قال زيد الخيل:
49 - بني عامر هل يعلمون إذا غدا ... أبو مكنف قد شد عقد الدوابر
50 - بجمع يضل البلق في حجراته ... ترى الأكم منها سجدا للحوافر.
وقيل: إنه كان تعظيما لآدم لا عبادة.
وقيل: ما كان لآدم فيه من تعظيم، ولكنه كان قبلة، وكان السجود لله، ولكنه مع هذا لا يخلو عن ضرب من التعظيم.

(1/64)


والمروى عن ابن عباس في بعض الروايات: أن إبليس كان ملكاً من جنس المستثنى [منهم].
وعن الحسن: أن الملائكة هم لباب الخليقة، خلقوا من الأرواح الطاهرة، والأنوار الصافية لا يتناسلون، وإبليس شخص روحاني خلق من نار السموم وهو أبو الجن.
(وزوجك الجنة)
سقطت علامة التأنيث للاستغناء عنها بالإضافة المذكرة.

(1/65)


وابن بحر يذهب في الجنة أنها كانت بحيث شاء الله من الأرض؛ لأن جنة الخلد لا انتقال عنها، ولأن إبليس لم يكن ليدخلها حتى يزلهما عنها.
والصحيح: أنها كانت جنة الخلد لتواتر النقل، ولأجل لام التعريف.
وقوله:
(وقلنا اهبطوا)
أيضاً يدل على أنهم كانوا في السماء.
وأن إبليس لم يكن إذ ذاك ممنوعا عن السماء، كالجن عن استراق السمع إلى المبعث، فوسوس إبليس لهما وهو على القرب من باب الجنة، أو ناداهما وهما على عرف الجنة.
والرغد: الكثير الواسع الذي لا عناء فيه.

(1/66)


والشجرة المنهية: هي السنبلة رواه أبو بكر عن النبي عليه السلام.
ومنه قيل: كيف لا يعصى الإنسان وقوته من شجرة العصيان وكيف لا ينسى العهد واسمه من النسيان.
وعن ابن مسعود: أنها الكرم. ولذلك صارت فتنة؛ ولأن الشجر ماله ساق وغصن.
(فتكونا من الظالمين)
من حيث إحباط بعض الثواب؛ لأن ذم الأنبياء بالظلم لا يجوز إلا على تأويل صحيح.

(1/67)


وقيل: إن فاعل الصغيرة أيضا ظالم نفسه، من حيث ألزمها ما يشق من التوبة والتلافي، وكون الزلة صغيرة مغفورة لا ينافي وجوب التوبة كما لا ينافي ثبوت الحرمة.
(فأزلهما الشيطن عنها)
أي أكسبها الزلة.
وقيل: إنه متعدي زل أي عثر وإزلاله بوسوسته لهما.
وقيل: بأن قاسمهما على نصحه.
وزلة آدم عليه السلام كانت بالخطأ في التأويل، إما بحمل النهي على التنزيه دون التحريم، وإما بحمل اللام على التعريف لا الجنس.

(1/68)


إذ الظاهر دلالة النهي على عين المنهي عنه لا جنسه، إلا أنه تعالى أراد الجنس، ومكن آدم من علم الدليل فغفل عنه وظن أنه لا يلزمه ذلك.
وقيل: إن زلته أكله ناسيا بعض النسيان ربما يؤخذ على الأنبياء؛ لما يلزمهم من التحفظ والتيقظ كثير [اً]، فيكون صدوفهم عن تذكر النهي حينـ[ئذٍ] تفريطا.
و (قلنا اهبطوا منها)
الهبوط الأول من الجنة [إلى] السماء.
والثاني: من السماء إلى الأرض. والهبوط الأول وإن لم يكن نزولا -لأن الجنة في السماء- إلا أنه ما كان فيه انتقال المكان مع سقوط المرتبة كان كقول لبيد:

(1/69)


51 - كل بني حرة مصيرهم ... قل وإن كثروا من العدد
52 - إن [يغبطوا] يهبطوا وإن أمروا ... يوما فهم للفناء وإن أمروا يوما فهم للفناء والفند
وفي هذه القصة كل التحذير من المعاصي ليحضر العبد قلبه ما جرى على آدم بارتكاب صغير مع التأويل، فلا يرتكب الكبائر.
وقد تظمه بعضهم فقال:
53 - يا ساهرا ترنوا يعيني راقد ... ومشاهدا للأمر غير مشاهد
54 - تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درك الجنان ونيل ملك خالد

(1/70)


55 - ونسيت أن الله أخرج آدم ... منها إلى الدنيا بذنب واحد
(فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي)
جواب الشرط الأول محذوف، أي: فإما يأتينكم مني هدى فاتبعوه. وقال ابن سراج: الشرط وجوابه نظير المبتدأ والخبر، ويجوز خبر المبتدأ جملة هي خبر ومبتدأ، فكذلك جواب الشرطة جملة شرط وجواب.
(ولا تكونوا أول كافر به)
أي: أول حزب أو قبيل كافر به، كما قال:

(1/71)


56 - وإذا هم طعموا فألام طاعم ... وإذا هم جاعوا فشر جياع
وكأنه حذرهم أن يكونوا أئمة الكفر وقادة الضلال.
(ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا)
قال الحسن: هو الدنيا بحذافيرها.
وقال ابن عباس: كان لكعب بين الأشراف وغيره مأكله على اليهود في كل مكان سنة فغيروا صفة الرسول لها.
(واركعوا مع الركعين)
ذكر الركوع مع تقدم ذكر الصلاة تأكيدا؛ لأنه لا ركوع في صلاة أهل الكتاب.

(1/72)


وقيل: إن المراد به صلاة الجماعة، فعبر عنها بالركوع؛ لأنه أول ما يعرف به المرء مصليا.
وقيل: أراد الركوع اللغوي وهو التذلل والخضوع، أي: اخضعوا مع الخاضعين. قال السعدي:
57 - ولا تهين الكريم علك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه
(وإنها لكبيرة)
أي: الاستعانة بالصبر والصلاة وكل واحد منهما لكبيرة.
وقيل: بل رد اللفظ إلى أهم المذكورين أو إلى أقربهما، كما قال السعدي:

(1/73)


58 - لكل هم من الهموم سعة ... والمسى والصبح لا فلاح معه
(الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم)
أي: ملاقوه بذنوبهم وتقصيرهم.
وقيل: يظنون أنهم [ملاقوه] في كل حينٍ -لشدة مراقبتهم الموت- فيخافونه.
وقيل: يظنون أنهم ملاقو ثوابه، ويجب أن يكون ذلك على الظن والطمع، لا القطع عليه والحتم به كما في قول إبراهيم عليه السلام (والذي أطمع أنه يغفر لي خطيئتي) وإذا كان [لإجراء] الظن على [حقيقته] هذه الوجوه فلا

(1/74)


معنى لحمله على العلم وإن جاء ذلك كما قال دريد:
59 - ولما رأيت الخيل قبلا كأنها ... جراد تبارى وجهه الريح [مغتدي]
60 - فقلت لهم ظنوا بألفى مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد
(لا تجزي)
لا تغني، جزت: أغنت في الحجازية الفصحى، وفي التميمية أجزأت.

(1/75)


وقال المفضل: تجزي تقضي، وتجزأ مهموزة تكفي وتغني. والدليل على الأول قول أبي قيس بن الأسلت"
61 - لا نألم القتل ونجزي به ال ... أعداء كيل الصاع بالصاع
62 - [نذودهم] عنا بمستنة ... ذات عرانين ودفاع
وعلى [القول الثاني]:
63 - لقد آليت أغدر في جداع ... ولو منيت أمات الرباع.

(1/76)


64 - لأن الغدر في الأقوام عار ... وأن المرأيجزأ بالكراع
(بلاء من ربكم)
يقال في الاختيار بالخير والشر البلاء.
وقيل: البلاء في الشر، والإبلاء في الخير، واستعملهما زهير في الخير فقال:
65 - جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

(1/77)


والآية تحتمل المعنيين، في ذبح أبنائكم بلاء أي: محنة، وفي تنجيتكم من آل فرعون بلاء أي: نعمة.
(وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة)
أربعين ليلة ليس بظرفٍ؛ لأن الوعد ليس فيها كلها ولا بعضها، وإنما الوعد انقضاء الأربعين فيكون نصبها على أنه المفعول الثاني.
ومعنى المواعدة على أنه كان من موسى وعد أيضا، أو قبوله الوعد وتحريه للوفاء به كان [كالوعد].
وذم اليهود المخاطبين باتخاذ العجل وإن لم يفعلوا؛ لرضاهم بما فعلته أسلافهم، وكذلك المنة بقوله: (وإذ نجيناكم).

(1/78)


كما قال الأخطل لجرير:
66 - ولقد سما لكم الهنديل فنالكم ... بإراب حيث نفسم الأنفالا
67 - في فيلق يدعو الأراقم لم يكن ... فرسانه عزلا ولا أكفالا
ولم يدرك جرير الهذيل، وإنما كان ذلك يوما جاهليا لتغلب على تميم.
(وإذ ءاتينا موسى الكتب والفرقان)
ليس هو كالكلام المثنى الذي يفيد فائدة واحدة. كقولهم بعدا وسحقا، ولكن كقوله: (إنه حكيم عليم).

(1/79)


وقيل: الفرقان: فرق الله بهم البحر.
وقيل: إنه الفرج من الكرب كقوله: (يجعل لكم فرقانا) أي فرجا، ومخرجا.
وقيل: الفرقان صفة الكتاب والواو زائدة. كقول الشاعر:
68 - إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم.
(فاقتلوا أنفسكم)
ذلك عقوبة للذين لم ينكرو [ا] العجل مع العلم بفساده كراهة القتال.

(1/80)


وتأويله: قتل البعض بعضا، [أ] والاستسلام للقتل، ولا يجوز مباشرة كل واحد قتل نفسه؛ لأن الأوامر الشرعية مصالح، والمصلحة في المستقبل، وليس للمرء بعد قتله نفسه حال يصلح فيها، وإنما لم يسقط القتل بالتوبة؛ لأنه وجب حد [اً] لا جزاء، وحكى الحكم بن عمر الرعيني قال:

(1/81)


أرسلني خالد بن عبد الله القسري: إلى قتادة أسأله عن حروف من القرآن منها قوله (فاقتلوا أنفسكم) [فقال: إنما هو فاقتالوا] من الاستقالة، والرواية المعروفة عن قتادة "أنهم غشيتهم ظلمة فقاموا يتناحرون بالشفار، فلما بلغ الله نقمته منهم، انجلت الظلمة وسقطت الشفار من أيديهم، فكان ذلك للحي توبة [وللمقتول] شهادة ".

(1/82)


(ثم بعثنكم)
أحييانكم، وذلك أنهم لما سمعوا كلام الله لموسى قالوا:
ولكنا لا نعلم أنه كلام الله فليظهر لنا جهرة، أي عيانا لنشهد لك عند بني اسرائيل، فأماتهم الله بالصاعقة، ثم أحياهم إلى بقية آجالهم.
وقيل: أنهم سمعوا جرس الكلام، ولم يفهمه إلا موسى ولم يطلع موسى عليه أحداً، لقوله: (وقربنه نجيا) أي: ناجيناه على خلوة.
و (القرية)
التي أمروا بدخولها بيت المقدس.
و (الباب)
باب القبة التي كان بصلي إليها موسى.

(1/83)


(سجدا)
أي: ركعا خضعا. كما قال:
69 - فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ... كما سجدت نصرانة لم تحنف
وليس المراد السجود الشرعي -[و] هو إلصاق الوجه بالأرض- لأنه يمتنع الدخول معه. ولكن حالهم في طلب التوبة وحط الخطيئة توجب أن يدخلوه خاضعين.
(حطة)
أي: دخولنا الباب سجدا حطة لذنوبنا.

(1/84)


والذين بدلوا إما قولا، فإنهم قالوا "حنطة" بدل "حطة" استهزاءً، وإما فعلا فإنهم دخلوا على استاههم.
والرجز: العذاب من الرجز [و] هو داءٌ يصيب الإبل، وذلك العذاب أنهم طعنوا فهلك كبارهم.
وانفجار الماء من الحجر لا نقول: إنه كان فيه فظهر، ولكن إما أن يكون الله عز وجل جعل يخلقه ويجريه، أو يجعل بعض الأجسام المتصلة بذلك الحجر ماء بأعراض يخلقها فيه؛ لأن الجواهر واحدة في الطينة، ثم [تختلف وتتبدل] بالأعراض المخلوقة فيها. كما شرحنا هذا النوع من المعنى في كتاب "الغلالة"

(1/85)


"في مسألة اليمين على شرب ماء [من الكوز] ولا ماء في الكوز".
وإنما جاء في الأعراف (انبجست) والانبجاس: رشح الماء، وهاهنا انفجرت وهو خروجه بكثرة وغزارة؛ لأنه انبجس الماء ابتداء ثم انفجر كما قال في العصا مرة إنها جان، وهي الحية الصغيرة؛ لأنها ابتدأت كذلك، ومرة إنها ثعبان وهي الكبيرة؛ لأنها انتهت إليه.
(ولا تعثوا)
عاث وعثا: إذا أفسد فساد خبط وعدوان، وقال (مفسدين)؛ لأن بعض العيث باطنه صلاح، كخرق [الخضر] السفينة وقتله الغلام.
والفوم: الحنطة. حكي المبرد "فوموا لنا" وأنشد:

(1/86)


70 - قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا ... ورد المدينة عن زراعة فوم
[و] قيل: بل هو الثوم. فأبدلت الثاء فاء، كقولهم جدث [وجدف] وأنشد الكسائي:
71 - كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة ... فيها الفراديس والفومان والبصل
والفوم والبصل لا يليق بألفاظ القرآن في فصاحته [وجلالة مرتبته] ولكنها حكاية عنهم، وإخبار عن دناءة أنفسهم كما حكي قولهم [راعنا]

(1/87)


(وضربت عليهم الذلة)
أي: الجزية.
(والمسكنة)
الخضوع.
وذلك دأب اليهود، ولم تضرب عليهم الذلة بسؤالهم هذه الحبوب؛ لأنه أمر مباح، ولأن في شهوة الإنسان -التي هي من خلق الله- تلون الأطعمة عليه، وقلة الصبر على طعام واحد، ولذلك اتصلت بمسألتهم الإجابة بقوله: (فإن لكم ما سألتم) ولكن الذلة والمسكنة بما ذكره الله بعد، وهو (ذلك بأنهم كانوا يكفرون).
(إن الذين آمنوا والذين هادوا)
أي من آمن بمحمدٍ، ومن هو من أهل الكتاب كلهم سواء إذا آمنوا في مستقبل عمرهم وعملوا الصالحات (فلهم أجرهم) لا تختلف حال الآخر باختلاف الأحوال المتقدمة، وعلى هذا قوله: (يأيها الذين آمنوا ءامنوا بالله) أي: في مستقبل عمركم.

(1/88)


وسموا اليهود؛ لأنهم هادوا أي: تابوا.
وقيل: للنسبة إلى [يهوذا] بن يعقوب.
والنصاري: لنزول عيسى قرية ناصرة، فكان يقال له عيسى الناصري، ثم نسب قومه إليه.
والصابئون قوم يقرؤون الزبور، ويصلون [إلى] القبلة، لكنهم يعظمون الكواكب لا على وجه العبادة. وهذا مذهب أبي حنيفة رحمة الله فيهم حتى جوز التزوج بنسائهم.

(1/89)


وقيل: بل هم قوم انحرفوا ومالوا عن الأديان؛ لأنه مهموز من صبأت النجوم، وصبأ ناب الصبي، وصبأ الرجل إذا خرج عن أرضه.
فكأنهم خرجوا عن الأديان.
وغير مهموز وبه قرأ نافع من صبا يصبوا: إذا مال إلى الشيء. قال وضاح [اليمن]:
72 - صبا قلبي ومال إليك ميلا ... وأرقني خيالك يا أثيلا

(1/90)


73 - يمانية تلم بنا فتبدى ... دقيق محاسن وتُكنُّ غيّلا
فعلى هذا سموا صابئين لأنهم مالوا عن الأديان، ويجوز أن يكون الصابى غير مهموز بمعنى المهموز إلا أنه قلبت الهمزة، وقلب الهمز يجوز عند [غير] سيبويه، وسيبويه لا يجيزه فى غير الشعر.
قال أبو زيد: قلت لسيبويه: سمعتُ قريتَ وأخطيتَ، قال: فكيف تقول فى المضارع؟ قلت: أقرأُ.
فقال: حسبك: [قل] لى كيف يصح همز بعض الأمثلة وقلب بعض؟
وإنما ارتفع (ولا خوف) لأن الأحسن فى "لا، نكرة" أنه إذا

(1/91)


عطف على اسمها اسم أن يرتفعا على تقدير جواب السؤال.
قال:
74 - وما هجرتكِ حتى قلتِ معلنةً ... لا ناقةٌ لى في هذا ولا جملُ
(ورفعنا فوقكم الطور)
قيل: إنه واو الحال كأنه: وإذ أخذنا ميثاقكم فى حال رفع الطور.
[و] الأحسن أن تكون واو العطف، فإنها لا توجب الترتيب؛ لأن الماضى لايكون حالاً إلا بقد.
(خاسئي)
مبعدين، أي: عن الرحمة خسأت الكلبَ خسْأً فخسأ خُسُؤ [اً].

(1/92)


(فجعلنها)
أي: المسخة التى مسخوها، ويجوز أن يعود الضمير إلى العقوبة، فإن النكال: هى العقوبة التى ينكل بها عن [الإقدام]، من النكل وهو القيد.
(لما بين يديها وما خلفها)
من القرى.
وقيل: من الأمم الآتية والماضية.
(أتتخذنا هزوا)

(1/93)


الهزء حدث، فلا يصلح أن يكون مفعولا ثانيا إلا أن يكون التقدير أصحاب هزء، أو يكون الهزء المهزوء مثل خلق الله، وهذا [ضرب] بغداد، ومثل الصيد فى قوله: (أحل لكم صيد البحر)، وتخفيف الزاى من هزء لتوالي ضمتين، وقلب الهمز واو؛ لأنها أخف من همزة بعد ضمتين.
والفارض: المسنة.
والفاقع: الخالص الصفرة.
(لا شية)
لا علامة من لون آخر، يقال: وشَى يشِى وشْياً وشِيَة.
(وما كادوا يفعلون)
لغلاء ثمنها، وقيل: لخوف الفضيحة.

(1/94)


(فادارئتم)
تدافعتم، أى دفع كل قبيل عن نفسه، وكان أصله تدارأتم فأدغمت التاء فى الدال، وجلبت لسكونها ألف الوصل، وأصل هذه الكلمة من الدرء وهو الاعوجاج. قال الهذليُّ:
75 - تهال العقاب [أن] تمر بِرَيْدِهِ ... وتَرْمى دررُه دونَه بالأجادلِ
(فقلنا اضربوه ببعضها)
فيه حذف، وهو ليحيى فضرب فحيى، والحكمة فيه أن يكون الأمر فى

(1/95)


وقت إحيائه إليهم، ثم بضربهم إياه بمواتٍ، فيكون ظهور القتيل بالقتيل أقوم فى الحجة وأبعد من الظِّنةِ.
وسبب القصة: أن شيخا موسرا قتله ورثته بنو أخيه وألقوه فى محلة أخرى، وطلبوا الدية، فسألوا موسى فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فظنوه هزء [اً] بهم لمَّا لمْ يكن فى ظاهره جوابهم، فاستعاذ بالله من الهزء، وعدَّه من الجهل.

(1/96)


والتقديم والتأخير فى أشباه هذه الآيات على مذهب العرب
قال الأنصارى:
76 - قالت ولم تقصد لقيل الخنا ... مهلا لقد أبلغت أسماعي
77 - أنْكرتِهِ حين توسمْتِه ... والحرب غُول ذاتِ أوجاعِ
وذلك [أن] أبا قيس هذا، غاب فى [حرب] الأوس والخزرج عن أهله شهرا، حتى شَحُبَ وتغيَّر، فجاء ليلة إلى امرأته كبشة بنت ضمرة، فدفعتـ[ـهُ] وأنكرته، فعرفها نفسه فذلك قولها: ولم تقصد لقيل الخنا أنكرته حين توسمته، وجوابه وعذره عن التغير: مهلا لقد أبلغت أسماعي، والحرب غُول ذاتِ أوجاعِ،
وكذلك فى قصيدة تأبط شراً:

(1/97)


78 - [يا عيد] مالك من شوق وإبراق
أبيات تقديم وتأخير
.
(فهى كالحجارة أو أشد)
قال الفراء: معناه بل أشد.
كقول ذى الرمة:
79 - بَدَتْ مثل قرن الشمس في رونق الضُّحى ... وصورتِها أو أنتِ في العين أَمْلَح

(1/98)


وقال قطرب: هى بمعنى الواو كقول توبة بنت الحُمَيِّر:
80 - وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تُقاها أو عليها فجورها
والمبرد يرد ذلك عليهما، ويحملها على الشك كما هو وضعها.
ويقول: إن هذا الكلام خطاب من الله لخلقه، فكأنه قال: (أو أشد قسوة) عندكم، كقوله (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) وقوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ).

(1/99)


وأما البيتان فأو فيهما أيضا على أصلها من الشك، أما بيت ذي الرمة فإن الشك في مثله أدمث وأغزل كقوله:
81 - أيا ظبية الوعساء بين [جلاجل] ... وبين النقا أأنت أمْ أُمُّ سالمِ
وأما بيت توبة، فتقديره: لنفسى تقاها إن اتقت، وإن فجرت عليها فجورها. بين ذلك أن أحوال القلوب تختلف وقسوتها تزداد وتنتقص، فلم يخبر عنها بحال واحدة.
(يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)
قرأ قتادة يهبُطُ، على أصل الباب أن فَعَلَ المتعدى يجىء على يَفْعِلُ مكسور العين كضرب يضرب، و [حبس يحبس]، وفَعَلَ غير المتعدي يجىء على يَفْعُلُ مضموم العين، كقعد يقعد، وخرج يخرج.

(1/100)


وقيل: إن [هبط هنا] متعد ومعناه لما يهبط غيره [من طاعة الله]، أي: إذ رآه [الإنسان] خشع لطاعة الله، فحذف المفعول تخفيفا لدلالة [المكان] عليه. وقد جاء هبط متعديا كما جاء لازماً قال:
82 - ما راعني إلا جناح هابطا ... على البيوت قوطه العلابطا
فأعلمه في القوط، وأما من قال: إن يهبط لازم، فتأويل هبوط الحجارة من خشية الله -مع أنه جماد لا يعرف الخشية- ما قاله المبرد: إن الذي فيها من الهبوط والهوى لاسيما عند الرجفة العظيمة [والزلزلة] الهائلة، وانقياد لأمر الله الذي لو كان مثله من حي قادر لدل على أنه خاش لله، كما قال جرير:
83 - لما أتى خبر الزبير تهدمت ... سور المدينة والجبال الخشع

(1/101)


وقال آخر:
84 - لها حافر مثل قعب الوليد ... تتخذ الفأر فيه مغارا
أي: لو اتخذت فيه مغارا لغوره وتقعبه لوسعها؛ [لا أنها تتخذه]، ومثله مسألة الكتاب: "أخذتنا بالجود وفوقه" أي: لو كان فوق الجود شيء من المطر قد أخذتنا به.
فكلام العرب لمن عرفه -ومن الذي يعرفه-؟ ألطف من السحر وأنقى من غرة النجم، ألا ترى إلى عنترة كيف أسفر عن وجه هذا المعني فقال:
85 - لو كان يدري ما المحاورة اشتكي ... ولكان لو علم الكلام مكلمي

(1/102)


وقالت الأعرابية:
86 - وأبرزتني للناس حتى تركتني ... لهم غرضا أرمي وأنت سليم
87 - ولو أن قولا يكلم الجلد قد بدا ... بجلدي من قول الوشاة كلوم
وقال آخر:
88 - لو كان هذا الشمس تصبغ لمة ... صبغت شواتي طول ما أنا حاسر
89 - أو شاب عين شاب أسود ناظري ... من طول ما أنا في العجائب ناظر
(وأحاطت به خطيئته)

(1/103)


أهلكته وأربقته كقوله: (إلا أن يحاط بكم) (وأحيط بثمره).
وقيل: أحاطت بحسنته خطيئته فأحبطتها إذ كان المحيط أكثر من المحاط به.
(إلا أماني)
إلا أكاذيب.
وقيل: إلا التلاوة الظاهرة.
وقيل: إلا ما يقدرونه على رأيهم وأهوائهم، ومنه المنا وهو القدر.
(وقولوا للناس حسنا)

(1/104)


أي قولا ذا حسن.
وقيل: حُسْنا أي: حَسَنا، فأقيم المصدر مقام الاسم.
كقولك: رجل عدل ورضي، ويجوز أن يكون الحسن والحسن كلاهما اسما، كالعرب والعرب والعجم والعجم.
(أقررتم)
رضيتم. قال الفرزدق:
90 - ألست كليبيا إذا سيم سوءة ... أقر كإقرار الحليلة للبعل
91 - وكل كليبي صفيحة وجهه ... أذل لأقدام الرجال من النعل
(ثم أنتم هؤلاء)

(1/105)


أي يا هؤلاء.
وقيل: تقديره ثم أنتم تقتلون، وهؤلاء تأكيد لأنتم.
(وقفينا)
أتبعنا، قفوته سرت في قفاه.
وروح القدس: جبريل عن الحسن.

(1/106)


والإنجيل، عن ابن زيد. وعن ابن عباس: أنه الاسم الذي كان يحيى الموتي.
والأول أقرب؛ لأن الملائكة هم الأرواح الطاهرة؛ ولأن جبريل عليه السلام هو النازل بالوحي الذي يحيي به العقول حياة الأبدان بالأرواح الهوائية، وكذلك الإضافة إلى القدس توجب هذا على اختلافهم أنه الله، أو الطهر، أو البركة. وتخصيص جبريل بعيسى؛ لأنه أيد به وهو في المهد بل نفخه.

(1/107)


(غلف)
جمع أغلف وهو الذي لا يفهم كأن قلبه في غلاف يقال سيف أغلف وقوس غلفاء، ورجل أغلف لم يختن.
وقيل: غلف أوعية للعلم، أي: قلوبنا قد أمتلأت من العلم فلا موضع فيها [لما] تقول. فالأول صحيح؛ لأن كثرة العلم لا تمنع من المزيد بل تعين عليه.
(فقليلا ما يؤمنون)
أي: قليل منهم يؤمنون، كقوله (فلا يؤمنون إلا قليلا).
وقيل: معناه بقليل يؤمنون، فترجع القلة إلى ما يؤمنون به، وفي الأول إلى مؤمنيهم.

(1/108)


(مصدق لما معهم)
من صفة الرسول المخبر به في التوراة، وأنهم به ينصرون، فكانوا يستفتحون بمبعثه، ويستنصرون حتى قال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء: اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد وتصفونه.
وجواب (لما جاءهم) محذوف عند الأخفض لدلالة الحال عليه، وعند المبرد جوابه وجواب (فلما جاءهم) المكرر تأكيد [اً] هو قوله (كفروا به).
وقال الفراء: فاء (فلما) جواب (ولما)، و (كفروا) جواب (فلما) وكقولك قوله: (فإما يأتينكم مني هدي فمن تبع هداي).

(1/109)


(بئسما اشتروا به)
أي بئس [شيئا] اشتروا به أي باعوا به (أنفسهم) لأن الغرض واحد، وهو إبدال ملك بملك.
وموضع (أن يكفروا) خفض على موضع الهاء في (به) على البدل عند البصريين، والتكرير عند الكوفيين.
ويجوز فعله على قولك: نعم رجلا زيد، كأنه قيل: من الممدوح؟ فقلت: هو زيد.
(وهو الحق مصدقا)
انتصب مصدقا بمعنى الحال، والعامل فيه معني الفعل، كقولك هو زيد حقا، وهو زيد معروفا، فأما هو زيد قائما، فلا يصح حالا؛ لأن الحال لا يعمل فيها إلا فعل أو معني فعلٍ، وصح هو زيد معروفا؛ لأن تقديره: أعرف ذلك عرفانا.

(1/110)


وإنما جاز (فلم تقتلون)، (من قبل) والمراد: لم قتلتم؛ لأنه كالصفة اللازمة لهم، كقولك [لـ] لكذاب لم تكذب؟ وأنت تريد: لما كذبت؟ ولأن قرينة الحال تصرف اللفظ إلى الماضي وإن كانت الصيغة للاستقبال، كقولك: من دخل داري -إذا علقت به الجزاء- انصرفت إلى المستقبل.
(ولن يتمنوه أبدا)
اعترض ابن الرواندي بأنهم ربما تمنوا بقلوبهم، فمن أين علم أنهن لن يتمنوا بالقلوب، فيبطل التحدي بالتمني.
والجواب: أن التمني لا يعرف إلا بالقول، وله صيغة في اللغة وهي ليت، وهي لا يخاطب بالتمني والمراد مالا يمكن الوقوف [عليه].

(1/111)


(بمزحزحه)
بمباعده. قال [المتلمس]:
92 - على كلهم أسى وللأصل زلفة ... فزحزح عن الأدنين أن يتصدعوا
93 - وقد كان إخواني كريما جوارهم ... ولكن أصل العود من حيث [ينزع].
(فإنه نزله على قلبك)
ردا لمعاداتهم جبريل، أي: لو نزله غير جبريل لنزله أيضا على الحدِّ.

(1/112)


(أو كلما عهدوا)
العهد الذي نبد أنهم أعانوا قريشا يوم الأحزاب.
(واتبعوا)
يعني اليهود.
(ما تتلوا الشياطين)
يعني شياطين الإنس من السحر.
(وما كفر سليمن)
ما سحر؛ لأن السحر عند الله كفر، وذلك أن اليهود تنكر نيوة سليمان عليه السلام، [وتزعم] أنه ظهر بعد موته من تحت كرسيه كتب السحرة، وهو إما فعلها سليمان لئلا يعمل بها الناس.

(1/113)


أو السحرة بعده افتعلو [ها] لتفخيم السحر تمويها أنه كان يستسخر الجن والإنس؛ به ولذلك قال: (تتلوا [الشياطين] على ملك سليمان) تنبيها على كذبهم؛ لأن في الصديق يقال تلا عنه، وفي الكذب تلا عليه، كما قال الفرزدق في رجل كان يخطئه في بعض شعر [هِ] ويلحنُهُ:
94 - لقد كان في مغدان والفيل زاجر ... لعنبسة الراوي على القصائدا
والسحر: تخييل قلب الشيء عن حقيقته بسبب خفي، وهو من نتائج الكلمات المؤلفة من الشرك، والأفعال الصادرة عن الإفك مع تعظيم شياطين

(1/114)


الجن. وهذا لا يليق شيء منه بملك سليمان.
(وما أنزل على الملكين)
أي: واتبعوا ما أنزل على الملكين، والذي أنزل على لسان الملكين من السحر؛ ليعلما ما السحر؟ وكيف [الاحتيال] به؟ إذ كانت السحرة كثروا في ذلك الزمان، فأُنزلا ليعلِّما الناس فساد السحر ليجتنبوه، كما روي أن رجلا قال لعمر: أما أن فلا أعرف الشر. فقال: أوشك أن تقع فيه، ومنه قيل:
95 - عرفت الشر لا للشـ ... ـرِّ ولكن لتوقِّيهِ
96 - ومن لا يعرف الشر من الـ ... ـناس يقع فيه

(1/115)


(إنما نحن فتنة)
خبرة، فتنت الذهب [اختبرته] أي: يظهر بما [تتعلمون] منا حالكم في اجتناب السحر الذي نعلم فساده والعمل، به كما يظهر حال المكلف المبتلى بكل ما نهي عنه.
(فيتعلمون منهما)
أي مكان ما علماهم من تقبيح السحر، وفساده والاحتراس من مضارِّه، ما يفرقون به، كقول الشاعر:
97 - جمعت من الخيرات وطبا وعلبةً ... [وصرا] لأخلاف المضابرة البزل
98 - ومن [كل] أخلاق الكرام [نميمة] ... وسعيا على الجار المجاور بالمحل

(1/116)


وقال آخر:
99 - كأن قد حضرت الناس يوم تقـ ... ـسمت مكارمهم فاخترت منهن أربعا
100 - إعارة سمع كل مغتاب صاحب ... وتأبي لعيب الناس إلا تتبعا
101 - وأعظم من هذين أنك تدعي ... البراءة من عيب البرية أجمعا
102 - وأنك لو قارفت فعل إساءة ... وجوزيت بالحسن جحدتهما معا
وتفريق الساحر بين المرء وزوجه بالتبغيض.
وقيل: إذا عمل بالسحر كفر، فحرمت عليه زوجته.
وابن بحر يذهب إلى الجحد في (ما أنزل) ويصرف (فيتعلمون منهما) إلى السحر والكفر إذ تقدم الدليل عليهما وهو: (ولكن الشياطين كفروا).

(1/117)


وإنما دعاه إلى ترك الظاهر، ومخالفة من يقدمه، تحاشيه من إضافة السحر إلى الملائكة وأنه أضاف القبيح، وإنزاله إلى الله، و [لم] يحضروه أن تعليم القبيح [للاجتناب] عنه واجب، وأن علمه لا يناسب العمل.
(بإذن الله)
بعلم الله.
وقيل: بتخلية الله.
وقيل: بفعل الله وإرادته؛ لأن الضرر الحاصل بالسحر -وإن كان لا يرضاه الله- فهو من فعله عند السبب الواقع من الساحر، كما لو سقاه سما فهلك به.
وإنما قال: (لو كانوا يعلمون) مع قوله: (ولقد علموا) لأنه في فريقين: فريق عاند، وفريق جهل.

(1/118)


وقيل: إنما نفي العلم عنهم مع علمهم؛ لأنهم لم يعلموا بما علموا، فكأنهم لم يعلموا، كما وصف كعب بن زهير ذئباً تبعاه ليصيبا من زاده:
103 - لنا راعيا سوء مضيعان منهما ... أبو جعدة العادي وعرفاء جيأل
104 - إذا حضراني قلت لو تعلمانه ... ألم تعلما أني من الزاد مرمل؟
(ولو أنهم ءامنوا)
محذوف الجواب؛ لأن شرط الفعل بلو يقتضي الجواب بالفعل، كأنه قيل: ولو أنهم آمنوا لأثيبوا.
ولام (لمثوبة) لام الابتداء، كقولك: علمت لأنت خير منه.

(1/119)


(رعنا)
أي: ارعنا سمعك كما نرعيك، فنهوا عن لفظ المفاعلة [لأنها] تنبئ عن المماثلة.
(انظرنا)
افهمنا.
وقيل: انظر إلينا.
وقيل: انتظرنا كقول المثقب:
105 - فإن يك صدر هذا اليوم ولى ... فإن غدا لناظره قريب

(1/120)


(ما ننسخ من ءاية)
النسخ رفع حكم شرعي إلى بدل منه كنسخ الشمس بالظل. وقيل: إنه بيان مدة المصلحة، والمصالح تختلف بالأوقات والأعيان والأحوال، فكذلك الأحكام، ألا ترى أن الله يصرف بين السراء والضراء [لمصالح] العباد.
وقول ابن بحر في امتناع نسخ من القرآن ظاهر الخلاف، وتأويله بين التعسف. وهذه الآية بعد نزول السور الكثيرة على وجه الشرط والجزاء الخالص للاستقبال، وعلى أنها نزلت منبهة على جميع حكم النسخ وأقسامه، من إثبات حكمه أبدا وإلى غاية، ومن إزالة حكمه ببدل، ومن إزالته إلى بدل، وإلى المثل، وإلى الخير، ونمن إزالة نفس الحفظ والكتابة، وعلى أن الآية إذا أطلقت فهم بها آيات القرآن، وعلى أنه إذا لم يمتنع نسخ ما تقدم من الكتب بالقرآن، لا يمتنع نسخ بعضه ببعض، وعلى أن نسخ القبلة الأولى، وثبات الواحد [للعشرة]، والتخيير في الصوم، وتقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول، ومهادنة المشركين، وإتيان الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا، وعدة

(1/121)


المتوفى عنها زوجها إلى الحول، كلها في القرآن.
وقراءة (ما ننسخ) لا وجه لها؛ لأنه إن قيل: نسخ وأنسخ واحد فلم نسمع بذلك.
وإن قيل: إنه همزة النقل: أي ما ننزل من آية أو ننسها نأت بخير منها، فليس كل ما أنزل من القرآن أتي بخير منه.
وإن قيل: نحمل على نسخها كقوله (فأجاءها المخاض) أي: حملها على المجئ، فليس غير الله ينسخ؛ ليكون هو حامل الناسخ على النسخ.

(1/122)


وكذلك: نجدها منسوخة، كقوله (حتى أنسوكم ذكري) أي: وجدوكم ناسين تاركين؛ لأنه يقتضي أن يكون النسخ من الغير، أو متقدما على وجوده كذلك.
وإن قيل: نجعل لها نسخا، كقوله: (ثم أماته فأقبره) أي: جعل له قبرا فهو بعيد من الاستعمال أيضا.
(أو ننسها) أو نتركها فلا نبدلها كقوله: (نسوا الله فنسيهم)، أي: تركوا طاعته، فترك رحمتهم، وكقوله: (واذكر ربك إذا نسيت)، أي: تركت، إذ لا يمكن الذكر مع النسيان.

(1/123)


قال:
106 - وما نسي الرامون لي في أديمكم ... مصحا ولكني أرى [مترقعا]
وقيل: ننسها من قلوب الحافظين، وذلك إما بترك تلاوته فنسي على الأيام، أو في الحال معجزة القرآن، وننسأها: نؤخرُها فلا ننسخها، يقال: نسأته.
قال ابن هرمه:

(1/124)


107 - أعلم أني طريق عالية ... من المنايا قد كنت أنسأها
108 - إن مصاب المنون يتبعه ... ولو تمادي لابد مخطؤها
وهذا التأخير على أوجه: تأخير التلاوة والحكم فلا ينزل ألبتة، وتأخير التلاوة مع بقاء الحكم كآية الرجم، وتأخير الحكم مع بقاء التلاوة كسائر ما ننسخ من القرآن.
(نأت بخير منها)
في التخفيف، كالأمر بقتال الواحد العشرة نسخ بقتال الواحد الاثنين، كما قال عز وجل: (الآن خفف الله عنكم).
وقيل: بخير منها في المصلحة، وهذا أولى؛ لأن الله يدبر عباده على ما هو أصلح لهم، لا على ما هو أخف عليهم، ولأن الأخف داخل في الأصلح.
(أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سُئِلَ موسى)

(1/125)


وذلك أن قريشا سألت أن يحول لهم الصفا ذهبا، فقال: لكم كالمائدة لبني اسرائيل فسكتوا.
(فاعفوا)
فاتركوهم (واصفحوا) أعرضوا بصفحة وجوهكم عنهم، فيكون الصفح بمعنى: إعراض الصفحة، كما أن الإعراض بها إقبال في قول الشاعر:
109 - أفاطم أعرضي قبل المنايا ... كفى بالموت صدا واجتنابا أي: أقبلي بعرض وجهك.
(هودا)
يهوداً أُسقطت الياء الزائدة.

(1/126)


وقال الأخفش: هو جمع هائد كحول وحائل.
(أسلم وجهه لله)
أخلص عبادته كقوله (رجلا سالما) أي: خالصا. قال زيد بن عمرو بن نفيل:
110 - فأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا
111 - وأسلمت نفسي لمن أسلمت ... له المزن تحمل ماء زلالا
وإنما وحد (فله أجره) وجمع (ولا خوف عليهم) لأن (من) من أسماء الجنس. قال الفرزدق:

(1/127)


112 - وأطلس عسال وما كان صاحبا ... رفعت أثاري موهنا فأتاني
113 - تعش فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من ياذئب يصطحبان
(فأينما تولوا)
قال ابن عباس: نزلت في سفر من الصحابة صلوا بالتحري في ليلة مظلمة [لغير] القبلة.

(1/128)


وعن [ابن] عمر: أنه أنها في صلاة السفر راكبا، وصلاة الخوف إذا تزاحفوا وتسايفوا.
وقيل: أنه في تقرر معني نسخ القبلة الأولى، حين اعترضت اليهود عليه، فكأنه قيل: أن المشرق والمغرب لله الذي له ولا مكان في موضع منهما، ووجوه الأشياء وجهات الأماكن كلها له، فأينما تولوا فثم الوجه الذي يتقربون به إلى

(1/129)


الله، أو فثمَّ [الاتجاه] إلى الله، فوضع الفعل مكان الافتعال، والاسم موضع المصدر، كما قال:
114 - استغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل
والواسع: من سعة الرحمة والنعمة، فيصرف عباده على ما هو أصلح لهم وأعود عليهم.
(كل له قنتون)
دائمون تحت تدبيره وتقديره، فيدخل فيه البر والفاجر، والصامت والناطق.
وكذلك على تأويل من قال: خاضعون لقدرته وشاهدون بما فيهم من آثار الصنعة على وحدانيته. كما قيل:
115 - ولله في كل تحريكة ... وتسكينة أبدا شاهد

(1/130)


116 - وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
(أمراً فإنما يقول له كن فيكون)
قيل: إنه حقيقة في الأمر، وأن الأمر من الله جل وعز جامع لكل ما يحدثه عن إبداع واختراع، أو يخلقه على توليد وترتيب، فكل بأمره عند قوله (كن).
وقيل: أنه على التمثيل أي يطيع الكون لأمره في الحال، كالشيء الذي يقال له كن فيكون، إلا أن هناك [قول].
كقول الشاعر:
117 - فقالت له العينان سمعا وطاعة ... وحدرتا كالدر لما يثقب
ونظائره كثيرة.

(1/131)


وارتفاع (فيكون) إما على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي فهو يكون وإما على العطف وذلك أن (كن) أمر لفظا ولكن معناه الخبر، كقوله (اسمع بهم) أي: [ما أسمعهم] وتقديره: يقول له يكون، فيكون. ولا يجوز حمله على جواب الأمر؛ لأن الأمر وجوابه فيهما شرط وجزاء ولهذا يكون "إن" مقدرة فيها، وليس ذلك في (كن فيكون) ولأن جواب الأمر غير الأمر، مثل قولك: زرني فأكرمك.
وقوله: (كن فيكون) واحد؛ لأن الكون الموجود هو الكون المأمور.
والكسائي ينصب (فيكون) في سورتي النحل ويس [لا] على جواب الأمر بالفاء، ولكن بالعطف على قوله: (أن نقول) و (أن يقول)

(1/132)


(أو تأتينا آية)
إنما لم يؤتوا ما سألوا؛ لأن صلاحهم فيها، أو فسادهم أو هلاكهم إذا عصوا بعدها، إو إصرارهم على التكذيب معها كما فعلته ثمود، أو لا يعلمه إلا الله.
(وإذا ابتلى إبراهيم ربه)
الابتلاء حقيقته الاختبار، ومجازه من الله تكليف ما يشق على الإنسان لينال بفعله الثواب.
ولما كان أكثر ما يكلف بعضنا بعضا يجري على الاختبار والامتحان خاطبنا الله بما نتفاهم [به] في مثل هذا الموضع.
وقال أبو بكر الرازي: من العدل أن يعاملنا الله في أوامره معاملة الممتحن المبتلى، لا [العالم] الخبير ليقع جزاؤه على عملنا، لا على علمه بنا.

(1/133)


والكلمات التي ابتلى بها هي: السنن العشر، خمسا في الجسد، وخمسا في الرأس وحده.
وقيل: مناسك الحج.
وقيل: بالنجوم حين استدل بها على التوحيد.
وقيل: بالهجرة عن الوطن وبقري الأضياف في المال وبالذبح في الولد، وبالنار في البدن.

(1/134)


(مثابة)
موضعا للثواب.
وقيل: مرجعا ومصيرا.
وأصله: مثوبة مفعلة من ثاب يثوب: إذا رجع، وذلك بما جعل الله في القلوب من تعظيم البيت، والحج [من] البلاد النائية والمواضع القاصية، ومن الرجوع إليه مرة بعد مرة وعاما بعد عام، قال الشاعر:
118 - مثابا لأفناء القبائل كلها ... تخب إليه اليعملات الذوامل

(1/135)


(وأمنا)
أي: من ظهور الجبابرة عليه، وصد الحجيج عنه.
وقيل: أمنا للخائف إذا عاذ به. [ولجأ] إليه، فقد كانت الجاهلية والإسلام يرى للحرم في الإنسان وغيره.
قال الفرزدق:
119 - ألم يأته أني تخلل ناقتي ... بمكة أطراف الأراك النواعم
120 - مقلدة ترعى الأراك ورحلها ... بمكة ملقى عائذ بالمحارم

(1/136)


وقال كثير:
121 - [فدعني] أكن مادمت حيا حمامة ... من القاطنات البيت غير الروائم
122 - ونحن بحمد الله نتلو كتابه ... حلولا بهذا الخيف خيف المحارم
123 - بحيث الحمام أمن الروع ساكن ... وحيث العدو كالصديق المسالم
(واتخذوا)
الواو عطف على معني: (وإذ جعلنا البيت مثابة) لأنه يضمن ثوبوا إليه واتخذوا.
و (مقام إبراهيم)

(1/137)


الموضع الذي فيه أثر قدمه عن الحسن، وعن ابن عباس "أن الحج كله مقام إبراهيم".
(وارزق أهله من الثمرات من ءامن)
كان عليه السلام سأل -لما جعله الله إماماً- أن يجعل ذريته كذلك، فقال عز وجل.
(لا ينال عهدي الظالمين)
فصار ذلك تعليما له في المسألة، وتأديبا، فتأدب به وخص بالدعاء المؤمنين.
(واجعلنا مسلمين لك)
أمدَّنا من التوفيق بما نبقى معه على الإسلام.

(1/138)


وقيل: إن المراد تسليم النفس وإخلاص العمل لله.
(وتب علينا)
أشعرنا التحرر عما تكرهه.
وقيل: إنه على وجه السنة والتعليم ليقتدي بهما فيه.
(ربنا وابعث فيهم)
أي: في ذريتهم التي سأل أن يجعلها مسلمة وهم أمة محمد. (رسولاً)
وهو محمد صلى الله عليه وباتفاق جميع المفسرين. ولذلك قال عليه السلام: "أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة [أخي] عيسى". (سَفِهَ نفسه)

(1/139)


قال ابن الأعرابي: سفه الرجل يسفه سفاهة وسفاها إذا جهل، وسفه نفسه يسفهها إذا جهلها وأنشد:
124 - هيهات قد سفهت أمية رأيها ... فاستجهلت حلماؤها سفهاؤها
كلاهما بالرفع كما نشرحه في كتاب بعد هذا مفرد في معاني أبيات هذا الكتاب.
وقال الفراء: في انتصاب نفسه أنها على التشبيه بالتمييز، كقوله عز وجل:
(فإذا طبن لكم عن شيء منه نفساً)

(1/140)


وأنكر [عليه] الزجاج وقال: لا يحتمل التمييز التعريف، والإضافة عرفت النفس.
واعتذر للفراء: أن الانفصال مقدر في هذه الإضافة كما تقول: مررت برجل مثلك، أي مثل لك.
وقال أبو عبيدة: سفه نفسه: أوبقها وأهلكها. ووجدت في شعر قيس بن عاصمٍ:
125 - رأيت الخمر طيبة وفيها ... خصائص تفسد الرجل الكريما
126 - فلا والله أشربها حياتي ... ولا أدعوا لها أبدا نديما
127 - إذا دارك حمياها تعلت ... طوالع تسفه الرجل الحليما

(1/141)


وقال الزجاج: معناه: سفه في نفسه [فلما] حذفت في، [انتصب الاسم] بنزع الخافض، كقوله تعالى: (أن تسترضغوا أولادكم) أي: لأولادكم، (ولا تعزموا عقدة النكاح) أي عليها.
وقال الشاعر:
128 - نُغالي اللحم للأضياف نيئاً ... ونبدره إذا نضج القدور
أي باللحم.
وأصوب هذه الأقاويل وأمثالها، أن سفه نفسه بمعني جهلها؛ لأن الفعل إذا كان بمعنى آخر، تتسع العرب فتوقع أحدهما موقع الآخر. كما قال الله تعالى: (بطرت معيشتها) أي سخطتها؛ لأن البطر ساخط للنعمة يتعرض لزوالها، ألا ترى إلى [إجراء] المصدر على غير فعل إذا كان في معناه.

(1/142)


نحو قوله:
129 - . .... .... .... ... وإن شئتم تعاودنا عوادا ومنه قوله تعالى: (وتبتل إليه تبتيلا) قال النابغة:
130 - إذا رضيت على بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها أي: إذا رضيت عني ولكنه إذا رضيت عنه أحبته وأقبلت عليه.

(1/143)


وقال آخر:
131 - إذا ما امرؤ ولى [على] بوده ... وأدبر لم يصدد بإدبار [هِ] ودي
أي ولى عني، ولكنه إذا ولى عنه صار عليه ولم يبق له.
وقال بعض بني طيء في أحد جبليها:
132 - نلوذ في أم لنا ما تغتصب ... من الغمام ترتدي وتنتقب
لأنه إذا كان لائذا به كان فيه، فكذلك من سفهت نفسه فقد جهل أمر نفسه، فجاء سفه نفسه على مثال جهل نفسه.
(أم كنتم شهداء)
معني أم هنا الجحد، وتقديرها الصناعي أنها منقطعة، ولا تكون منقطعة إلا بعد كلام متقدم عليها، فيجيء عند ذلك بمعني بل وألف الاستفهام، كأنه

(1/144)


قيل: بل أكنتم، أي: ما كنتم شهداء.
(إذ حضر يعقوب الموت)
وأنه وصى باليهودية فلا تنحلوا أنبيائي النحلة اليهودية فإنهم كلهم حنفاء.
وأصل الحنف، الميل في الرجل، تميل كل واحدة من الإبهامين إلى صاحبتها، وكانت أم الأحنف ترقصه وتقول:
133 - والله لولا حنف برجله
134 - ودقة في ساقه من هزله
135 - ما كان في فتيانكم من مثله
فكأن الملة الحنيفية مالت من الأديان الباطلة إلى الحق.
وقيل: إن أصله الاستقامة. قال عمر رضي الله عنه:

(1/145)


136 - حمدت الله حين [هدى] فؤادي ... إلى الإسلام والدين الحنيف
ثم المغوج الإبهامي [يدعى] أحنف إما عن [طريق] السلب، كالتمريض والتقذية، والإشكاء والإعتاب في سلب هذه المعاني وإزالتها، وإما على طريق النقل بالضد كما يقال للمهلكة: المفازة وللديغ: السليم.
السبط عند المبرد: من سبط عليه العطاء إذا أكثر ووالى كأنه مقلوب بسط، وكلاهما من الكثرة. وهذه هي طريقة الاشتقاق الأكبر، وهي رجوع

(1/146)


معاني الكلمة على اختلاف تركيبها مثلا في الثلاثي إذا تصرف على ستة قوالب إلى أصل واحد ومادة واحدة.
(فإن ءامنوا بمثل ما ءامنتم)
قيل: إن الباء زائدة، أي مثل إيمانكم. وقيل: بل المثل زائد أي فإن آمنوا بما آمنتم. وهكذا كتب في مصحف بن مسعود وابن أنس وأبي صالح ولأنه ليس الله مثل، والمراد: الإيمان به عز وجل، إلا أن العرب تأتي بمثل في نحو هذا توكيدا، يقول الرجل: مثلي لا يفعل هذا، أي أنا لا أفعله.
والشقاق: الاختلاف والافتراق: لأن كل مخالف في شق غير شق صاحبه، ويسوم صاحبه ما يشق عليه.
(صبغة الله)
دين الله. وكأن ما يظهر في المسلم من نور الطهارة وبهجة العبادة وسيما الزهادة شبيه باللون الذي يظهر في الشيء عند الصبغ.

(1/147)


(ومن أحسن من الله صبغة)
وهي بما للإسلام من الخصائص والهيئات التي [تفضله] على سائل الشرائع، كما قيل:
137 - تلوح من دولة الأيام دولتكم ... كأنه ملة الإسلام في الملل
(أمة وسطا)
عدلا، قد اعتدلت أموركم فلا إفراط ولا تفريط. وقيل: وسطا خيارا.
قال أبو النجم:

(1/148)


138 - كأنما أبكؤها أضفاها
139 - يجزيك من أبعدها أدناها
140 - ولو تخطيت إلى أقصاها
141 - لم تعرف الحجرة من وسطاها
(لتكونوا شهداء على الناس)
أي على أهل الكتاب في تبليغ محمد صلى الله عليه.
وقيل: في تبليغ جميع الرسل، كما سمعتم من الرسول الصادق. وقيل: إنها الشهادة التي هي بيان الحجة وظهور الدلالة، أي ليبينوا للناس الحق، ويكون قولكم وإجماعكم حجة على كل أحد وفي كل وقت.
ويوضح هذا قوله:
(ويكون الرسول عليكم شهيدا)
وتسمية الشهادة بينة لهذا، ولذلك التأويل الأول داخل في هذا؛ لأنهم إذا بينوا الحق للناس، وشاهدوا من قبل ومن رد، شهدوا على ذلك يوم القيامة كما أن الشاهد في الدنيا يتحمل ما شهد ثم يؤدي إلى الحاكم بعده.

(1/149)


(إلا لنعلم)
قد مضى تأويله في قوله: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه).
وقيل: إلا ليعلم رسولنا وحزبنا، [كما] يقال: بني الأمير، وجبي الوزير.
وقيل: معناه إلا لنرى، فأقيم العلم مقام الرؤية كما أقيمت الرؤية مقام العلم في قوله (ألم تر كيف فعل ربك بأصحب الفيل) وكان مولده عليه السلام بعد عام الفيل بخمسين يوما، وقيل: إنه على ملاطفة الخطاب لمن لا

(1/150)


يعلم، كقولك لمن ينكر ذوب الذهب: فلينفخ عليه بالنار لنعلم أيذوب. قال كثير:
142 - تعان فاستنصف ليعلم أينا ... على عدوان الدار والنأي أوصل
143 - أمسته رزق العينين بالشرب لو دعا ... بعبرته الأروى لظلت تنزل
144 - أم السادر اللاهي الذي جل همه ... إذا ما جلا مزالة والتكحل
وقيل [المعني]: لكي يكون الموجود كما نعلم؛ لأن الموجود لا يخالف معلومه عز وجل، فتعلق الموجود بالمعلوم، أشد من تعلق المسبب بالسبب.
(قد نرى تقلب وجهك في السماء)
سببه سببه أن الله كان أخبره بتحويل قبلة بيت المقدس، وكان يقلب الوجه تشوقا للوحي وتوقعا، لا تحريا للهوى وتتبعا إذ كان يقينا عنده صلى الله عليه أن الخير والصلاح فيما يؤمر به لا فيما يهواه أو يكرهه.

(1/151)


وعن ابن عباس: أنه كان يحب التوجيه إلى الكعبة لا عن هوى النفس ولكن لأنها [قبلة] العرب، فيكون في التحويل إليها [توفر] دواعي العرب إلى الإيمان ومباينة اليهود ولا سيما المنافين منهم.
إلا أنه كان [يقلب] وجهه، ولم يكن يدعو به؛ لأن الأنبياء لا يدعون إلا بعد أن يؤذن لهم لئلا يكون ردهم -إذا خالف دعاؤهم جهة المصلحة- فتنة لقومهم.
(شطر المسجد الحرام)
هو الكعبة: لأن الشطر هو النصف، والكعبة موضعها من المسجد الحرم في النصف من كل جهة.
(ولكلٍ وجهةٌ)

(1/152)


أي: شرعة ومنهاج. عن الحسن، وغيره: قبلة. [أي] لكل فرقة من أهل الأديان، أو لكل أهل بلدة من المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها وجهة إلى القبلة، وقوله: (فاستبقوا الخيرات) يوضح هذا التأويل. (هو مُوَلِّيها) أي موليها [قصده]، والضمير في هو [لله] أي: الله موليها إياه، بمعنى موليه إياها.
وقيل: مولي إليها على ضد مولي عنها، فيكون الضمير لكل. وتكرر.
(فول وجهك شطر المسجد الحرام)
لتأكيد أمر القبلة حين [تلاح] المشركون واليهود فيه. وخاضوا كل مخاض.

(1/153)


(لئلا يكون للناس عليكم حجة)
في خلاف ما في التوراة من صرف قبلتكم إلى الكعبة.
(إلا الذين ظلموا)
إلا أن يظلموكم في كتمانه.
وقيل: إنه استثناء منقطع بمعني لكن، أي: لكن الذين ظلموا يضعون الشبهة موضع الحجة، كقوله (مالهم به من علم إلا اتباع الظن). أي: لكنهم يتبعون الظن ولا يعلمون، قال الهذلي:
145 - أهاجك مغني دمنة ورسوم ... لخولة منها حادث وقديم

(1/154)


146 - فإن تك قد شطت وشط مزارها ... فإني بها إلا العزاء سقيم
أي: لكنني اتعزى عنها.
وقال أبو عبيدة: معنا لئلا يكون للناس عيكم حجة ولا الذين ظلموا، فيكون إلا بمعنى الواو. قال:
147 - [و] كل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان وقال قطرب: معناه إلا على الذين ظلموا فحذف على.

(1/155)


(بل أحياء)
ذكر أبو بكر الرازي فيه وجهين:
أحدهما: أن المراد به أرواحهم، وأن حقيقة الحياة للروح الذي هو جسم لطيف ملابس للجسد الكثيف، وذلك الروح هو الإنسان على الحقيقة، وإنما الجسد له كالجنة والوقاية.
الثاني: أن الله يلطف -بعد الموت والقتل- ما تقوم به البنية الحيوانية [فـ]ـيجعله بحيث يشاء من عليين أو سجين لينال ما يستحق من النعيم أو البؤس، وهذا القول أشبه بمذهب أهل الإسلام. والأول على مذهب الأوائل. ولأن الروح الحيوانية بمجردها لا تكون حية؛ لأنها من جنس الريح والهواء. بل الهواء إذا حصل في البنية الحيوانية ودخل منافذها وانبسط في مخارقها وأمدته الرطوبة الذهنية التي حول القلب يقال له الروح ولذلك وصفه الله بالنفخ والقبض.
فالأصح أن يحيى الله أجزاء من الشهيد، ومن هو مثل أهل ثوابه وكرامته، ويصل إليها [طرف] من النعيم، فتكون الحال كحال النائم على

(1/156)


سرور ورفاهية في روضة طيبة، ناغتها رياح السحر وفاح فيها نسيم الزهر، كما في الحديث: "أنه يفتح له مد البصر ثم يقال له نم نومة العروس".
(شعائر الله)
معالم دينه وأعلام شرعه، من شعرت وعلمت، ومنه إشعار الهدى ليعلم ذلك.
(فلا جناح عليه أن يطوف بهما)
قال ذلك مع أن السعي [عبادة] لمكان صنمين عليهما، يقال لهما: إساف ونائلة فكان المشركون يطيفون بهما، كما قال أبو طالب:
148 - وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم ... بمفضي السيول من إساف ونائل

(1/157)


فظنَّ المسلمون عليهم إثما في الطوف بهما لأجل الصنمين.
وقيل: معناه أنهما -أي الصفا والمروة- من شعائر الحج والعمرة وإلا كان الطواف بهما بدعة وجناحا كالتطوف بسائر الأماكن. (فإن الله شاكر)
أي مجازي بالحسني؛ لأن الجزاء في مقابلة [العمل، كالشكر في مقابلة] النعمة.
(إن في خلق السموات والأرض واختلف الليل والنهار)
أي: يخلف كل واحد منهما صاحبه على التعاقب والتناوب. وقيل: بل المراد الاختلاف في النور والظلمة والطول والقصر بعد الاعتدالين، وهما في جميع ذلك يجريان على قدر مقدور لا زيادة ولا نقصان.
(والفلك)
وإن كانت من صنع الخلق وتركيبهم بخلاف سائر الأدلة من هذه الآية، فإن دلالتها على التوحيد من حيث لولا تمكين الله إيانا من الفلك وآلاتها التي تعمل

(1/158)


بها لما أمكن ركوب البحر ولفاتت [منافع] الجلب والامتياز من عامة البلدان، وكذلك لولا لطف الله في رقة المياه وامتياعها ووفورها في البحر لما جرت الفلك، ولولا الرياح السهلة لما أسرعت ولو أفرطت في الهبوب لما سلمت. ولولا أن الله ربط على القلوب لما عبر خلق ضعيف خلقا عظيما. وإنما هو دود عود في [غمار] من الهلاك ودفاع من الموت.
وفي الفلك آية أخرى تشهد بها عامة من ركب البحر وهو [أنها] إذا لعبت بها العواصف، وأظلمت السحائب وصارت الحيلة مغلوبة، والمسكة مسلوبة فإن أجيبت دعوتهم ظهرت على نصل النشابة المشدودة بالدقل علامة [ككوكب] ضخم، آية للنجاة لا تخطئ البتة فترتج السفينة بالاستبشار وإن كانوا في حاق [الأمواج].

(1/159)


(ولو يرى الذين ظلموا)
لو إذا ورد بعدها أمر يشوق إليه أو يخوف لا يوصل بجواب؛ ليذهب القلب فيه إلى كل مذهب كما قال الراعي:
149 - لو أن حق القوم منكم إقامَهُ ... وإن كان سرب قد مضى فتسرعا
أي: لو كان أحد أحق بالإقامة منكم -وإن كان سربكم وهو المال قد مضى- أقام لكنه لا أحد أحق بالإقامة منكم وإن كان [كما قال]:
150 - [ردينة] لو شهدت غداة جئنا ... على أضماتنا وقد اختوينا

(1/160)


151 - وأرسلنا أبا عمرو ربيئا ... فقال ألا انعموا بالقول علينا
(خطوات الشيطن)
أعماله ووساوسه.
وقيل: هي أن يتخطَّى.
(أو لو كان ءاباؤهم)
ألف توبيخ في صورة الاستفهام.
(كمثل الذي ينعق)
أي: ومثل داعي الذين كفروا إلى الله كمثل الناعق بما لا يسمع.

(1/161)


كما قال الحارثي:
152 - وقفت على الديار [فكلمتني] ... فما ملكت مدامعها القلوص
أي: راكب القلوص.
وقيل: إنه على القلب، إذ المعنى هو المنعوق به وإن كان اللفظ الناعق كقوله تعالى: (لتنوأ بالعصبة) ثم العصبة تنوء بها. ولكن المعنى لا يخفي في الموضعين:
وقيل: إن الناعق هو مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم؛ لأن النعيق صياح الراعي بالغنم، وهو صفة ذم فأولى بها الكافرون. قال الأخطل:
153 - فانعق بضأنك يا جرير فإنما ... منتك نفسك في الخلاء [ضلالاً]

(1/162)


154 - منتك نفسك ان تكون كدارم ... [أو أن توازن] حاجبا وعقالا
(إنما حرم عليكم الميتة)
نصب (الميتة) على معني الكافة في إنما، وإنما إثبات للمذكور ونفي لما عداه. قال: القول: ما حرم الله عليكم إلا كذا، يدل عليه أن "إن"

(1/163)


للتحقيق و "ما" [للنفي فتحقق] "إن" الشيء، وتنفي "ما" سواه. (وما أهل به)
الإهلال رفع الصوت بالدعاء، كما قال الشاعر:
155 - يهل بالفرقد ركبانها ... كما يهل الراكب المعتمر
وقال النابغة:

(1/164)


156 - أو درة صدفية غواصها ... بهج، متى يرها يهل [ويسجد]
(غير باغ)
على الإمام.
(ولا عادٍ)
بسفر حرامٍ.
وهذا ضعيف لأن السفر الحلال لا يبيح الميتة ولا ضرورة، والحبس في الحضر يبيح ولا سفر. ولأن الميتة للمضطر كالذكية للواجد. ثم الباغي يأكل الذكية كالعادل؛ ولأنه يجب على الباغي حفظ النفس من التلف.
(ما أصبرهم على النار)

(1/165)


ما الذي [جرأهم] على العمل الذي يدخلهم النار.
حكى الفراء [عن] قاضي اليمن أن أحد الخصمين حلف عنده. فقال له صاحبه: ما أصبرك على الله.
وقال المبرد: هو استفهام بمعني التوبيخ لهم والتعجيب لنا من [جراءتهم] على النار.
(ولكن البر من ءامن بالله)
أي: ولكن البر بر من آمن بالله.

(1/166)


كقول النابغة:
157 - وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل ذي المطارة عاقل
أي: مخافة وعلٍ.
وقيل: تقديره: ولكن ذا البر، كقوله: (هم درجت) أي: ذوو درجات.
والقولان وإن [كانا] على حذف المضاف فالأول أجود؛ لأن حذف المضاف ضرب من الاتساع والخبر أولى به من المبتدأ؛ لأن الاتساع بالإعجاز أليق منه [بـ]ـالصدور.
وقيل: تقديره ولكن البار، كقول الخنساء:

(1/167)


158 - ما أم سقب على بو تطيف به ... قد ساعدتها على التحنان أظار
159 - ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
أي: مقبلة تارة ومدبرة أخرى.
وقال المبرد: لو كنت من القراء لقرأت (ولكن البر) بفتح الباء والبر والبار واحد.
(وءاتي المال على حبه)

(1/168)


أي: على حب المال أو على حب الإيتاء، كما قال الأنصاري:
160 - هلا سألت الخيل إذ قلصت ... ما كان [إبطائي] وإسراعي
161 - هل أبذل المال على حبه ... فيهم وآتي دعوة الداعي (وفي الرقاب)
أي: المكاتبين، أي: من البر إعانتهم على بذل الكتابة.
وقيل: المراد هو عتق الرقاب.

(1/169)


و (البأساء)
[الفقر] والمسكنة.
(والضراء)
السقم.
(وحين البأس)
حين القتال.
(والموفون بعهدهم)
على تقدير: ولكن ذا البر من آمن والموفون.
(والصبرين)
عند الكسائي نصبت بإيتاء المال كأنه وأتى المال ذوي القربي والصابرين.

(1/170)


والأصح أنه نصب على المدح كما قال:
162 - لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداوة وآفة الجزر
163 - النازلون بكل معترك ... والطيبين معاقد الأزر
ولأن على قول الكسائي يكون (وأقام الصلاة) و (الموفون) كل ذلك اعتراضا بين العطف والمعطوف، والاعتراض لا يكون معتمد الكلام ولا يعمل فيه شيء ولهذا منع أبو على في قول الشاعر:

(1/171)


164 - أتنسى -لا هداك الله- ليلى ... وعهد شبابها الحسن
الجميل
165 - كأن -وقد أتي حول جديد- ........
اعتراضا؛ لأن موضعه نصب بما في "كأن" من معني التشبيه فمعناه [أشبهت] وقد مضى حول حمامات [مثولا].
(فمن عفى له من أخيه شيء)
أي: القاتل، إذا عفا ولى القتيل عن القصاص وصالحه على المال، أو عفا بعض الأولياء، أو الولي عفا عن بعض القصاص ليظهر التقييد بشيء.
(فاتباع بالمعروف)
أي: وليُّ القتيل يطلب الدية بالمعروف وينظر القاتل إن أعسر ولا يشدد عليه.

(1/172)


(وأداء إليه بإحسن)
أي يؤدي القاتل إليه المال ولا ينقصه ولا يماطله.
ورفع "اتباع" على الخبر عن ابتداء محذوف أي فحكمة اتباع. أو هو ابتداء خبره محذوف، أي: فاتباع عليه.
وأما قوله: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) فالأجود نصب "ضرب الرقاب" على الإغراء؛ لأن "إذا" يجلب الفعل. (فمن بدله)
أي الوصية، [إذ] الوصية والإيصاء واحد او فمن بدل قول الموصي والجنف والإثم: التوصية في غير القرابة عن الحسن.
وعن ابن عباس: التفاوت في مقادير الوصية بحكم الهوى والميل.

(1/173)


وعن عطاء: إنه إعطاء البعض وحرمان البعض.
وقيل: الجنف في القول وحده، والإثم في القول والفعل فيكون الجنف بالوصية قولا، والإثم بالإعطاء في المرض. قال جرير:
166 - هو الخليفة فارضوا ما قضى لكم ... بالحق يصدع ما في قوله جنف

167 - يقضى القضاء الذي يشقي النفاق [به] ... فاستبشر الناس بالحق الذي عرفوا
وقال القتبي: خاف بمعني علم؛ لأن الخوف بمعني الخشية للمستقبل والوصية هاهنا وقعت، واستشهد بقول أبي محجن الثقفي:

(1/174)


168 - إذا من فادفني إلى أصل كرمة ... [تروى] عظامي بعد موتي عروقها

169 - ولا تدفنني بالفضاء فإنني ... أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
(فمن تطوع خيرا)
أطعم أكثر من مسكين.
وقيل: صام مع الفدية.
(ولتكملوا العدة)
أي عدة أيام الشهر للمطيق وعدة القضاء لغيره.
(ولتكبروا الله على ما هداكم)

(1/175)


قيل: إنه التكبير في يوم الفطر.
وقيل: إنه تعظيم الله على ما هدى إليه من عبادته.
(فليستجيبوا لي)
قال أبو عبيدة: الاستجابة والإجابة واحدة، كما قال الغنوي:

170 - وداع دعا [يا من يجيب] إلى الندى ... فلم يستجبه عند [ذاك] مجيب

(1/176)


فكان المراد فليجيبوا أوامري بالقبول والامتثال لأجيب دعاءهم.
وقال المبرد: المراد بالاستجابة الانقياد والإذعان في كل ما أوجبه الله حتى إذا استجاب الله في أوامره، أجابه الله في مسائله.
وهذا القول أجرى على الأصل؛ لأن في معنى الإذعان معنى طلب الفعل، ولأن الإذعان شرط من الدعاء، كما أن الإيمان والتفويض وصدق الرجاء ومعرفة ما يدعو به أهو حسن، وأنه خير وصلاح، ومعرفة الوجه الذي عليه يحسن الدعاء، وأن تعجيل الإجابة أو تأخيره على حسب مصالح الداعي، وأن الله يرى ويسمع كلامه، واختيار الله -فيما يخيره- للداعي. وخير له من الإجابة، كل ذلك شرط.
و (الرفث)
الجماع [و] في غير هذا الموضع الحديث عن النساء بقول فاحش.
(الخيط الأبيض)
الصبح أول ما يبدو كما قال أبو دؤاد:

(1/177)


171 - ولما أضاءت لنا سدفة ... ولا من الصبح خيط أنارا فإن قيل: أليس الأبيض هو الكاذب في الحديث والشعر. قال:

172 - [ترى] السر حان مفترشا يديه ... [كأن بياض لبته الصديع]
وقال صلى الله عليه: "لا [يهيدنكم] المصفر فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر"؟!!

(1/178)


قلنا: إذا استطار طلوع البياض ظهرت أوائل الحمرة.
قال المخزومي:

173 - فلما تقضي الليل إلا أقله ... وكادت توالي نجمه [تتغور]

174 - فما راني إلا مناد تحملوا ... وقد لاح معروف من الفجر أشقر
وأبين من هذا قول اليشكري:

175 - يسحب الليل نجوما ظلعا ... فتواليها [بطيئات] التبع

176 - ويزجيها على إبطائها ... مغرب اللون إذا اللون انقشع

(1/179)


المغرب في الخيل والإبل هو أن تحمر [أرفاغ] الفرس وحماليقه ووجهه من شدة البياض فعبر به عن الصبح.
(وتدلوا بها إلى الحكام)
أدليت الدلو أرسلتها لتملأها ودلوتها انتزعتها ملأى، قال ابن هرمة:
177 - ولن ترني إلا أخا ملك ... أدلى إليه دلوى فأدلوها
178 - سهل المحيا تلفى خلائقه ... مثل وحي السلام تقروها ومعنى الآية: أن المدلى كما أن قصده استقاء الماء فكذلك المتوسل إلى الحاكم قصده احتجان المال، فيجعل الحاكم سببا إلى غرضه كسبب الدلو، ويدخل فيه الإدلاء بالحجة الباطلة عند الحكام، ومصانعتهم بدفع شيء إليهم، والإقدام على اليمين الفاجرة التي يقطع الحاكم الأمر على ظاهرها، واقتطاع ما يمكن من المال ثم دفع الباقي إلى الحاكم لقطع الخصومة والمقالة.

(1/180)


و (يسئلونك عن الأهلة)
أي: في زيادتها ونقصانها.
(قل هي مواقيت للناس والحج)
وهذا بيان جملة ما في الأهلة من مصالح الدنيا والدين، من مواقيت المعاملات والمداينات والتواريخ الحالية والمواعيد المضروبة والآجال المحدودة والأيام المعدودة في الصوم والفطر ومناسك الحج.
(وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها)
كانت العرب في الجاهلية إذا أحرمت نقبت في ظهور بيوتها للدخول والخروج.
وقيل: إنه على وجه المثال في إتيان الشيء من وجهه والدخول في الأمر من بابه كما قال:

(1/181)


179 - لا أدخل البيت [أحبو] من مؤخره ... ولا أكثر في ابن العم [أظفاري]
180 - أعوذ بالله من أمر يزين لي ... شتم العشيرة أو يدني من العار
(ثقفتموهم)
ظفرتم بهم، ثقفته إذا وقعت له فظفرت به.
قال الشماخ:

181 - فهمت [بورد] القنتين فصدها ... حوامي الكراع والقنان اللواهز

(1/182)


182 - ولو ثقفاها ضرخت من دمائها ... كما جللت نضو [القرام] الرجائز
(الشهر الحرام بالشهر الحرام)
أي: القتال في الشهر الحرام قصاص الكفر في الشهر الحرام. فأن يكبر الكفر فيه وينكر أولي من [أن] ينكر القتال.
(والحرمات قصاص)
أي: متفقة متساوية فكيف [يحرم] القتال ولا يحرم الكفر.
وقال مجاهدٌ: صدت قريش النبي عليه السلام عن المسجد الحرام في ذي القعدة من العام المقبل فقضى عمرته فذلك قوله: (الشهر الحرام بالشهر الحرام).

(1/183)


(فإن أحصرتم)
قال الشافعي رحمه الله: الإحصار منع العدو؛ لأنها نزلت في عمرة الحديبية عام صد النبي عليه السلام ولأنه قال: (فإذا أمنتم). وعندنا يكون الإحصار بالمرض أيضا وهو مذهب ابن عباس وابن مسعود.
وخطَّأ أبو عبيدة واسماعيل بن إسحاق القاضي الشافعي وقالا:

(1/184)


الإحصار في المرض، والحصر في العدو. وقال المبرد: وحصر حبس.
قال الهذلي:
183 - فجاء خليلاه إليها كلاهما ... يفيض دموعاً غربهن سجوم

184 - [فقالوا عهدنا] القوم قد [حصروا] به ... فلا ريب [أن] قد كان ثم لحيم

(1/185)


[وأحصر: عرض للحبس] على الأصل كقوله: أقتله عرضه للقتل.
وأقبره: جعل له القبر.
(فما استيسر من الهدي)
عن ابن عباس "أنه شاة" وهو مذهبنا.
(حتى يبلغ الهدي محله)
أي الحرم عن عامة المفسرين.

(1/186)


وعند الشافعي محله موضع الإحصار. وهو على مذهب الكسائي أن المحل بالكسر هو [الإحلال] من الإحرام. والمحل بالفتح موضع الحلول.
والمتمتع بالعمرة إلى الحج: هو المحرم بالعمرة في شهر الحج إذا أحرم بالحج بعد الفراغ من العمر [من غير] أن يلم بأهله في قول العبادلة بمذهب الفقهاء.

(1/187)


وقال السدي: "هو الذي فسخ الحج بالعمرة".
وقال ابن [الزبير]: "هو المحصر إذا دخل مكة بعد فوت الحج". (فصيام ثلاثة أيام في الحج)
أي: قبل [النحر] ما بين إحرامه في أشهر الحج إلى يوم عرفة.

(1/188)


(وسبعة إذا رجعتم)
وهو عندنا إذا رجع [المتمتع] من الحج حتى لو صامها بعد الفراغ من الحج قبل الرجوع إلى الأهل أجزأه.
(تلك عشرة كاملة)
في الأجر.
وقيل: في قيامها مقام الهدي.
وقيل: إنه على الإفادة لجملة العددين إذ كانت العرب [لا تعرف] الحساب. وقال الفرزدق:

185 - ثلاث واثنتان فهمن خمس ... وواحدة تميل إلى شمامي

(1/189)


186 - فبتن بجانبي مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختام وحاضرو المسجد الحرام هم أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة وليس لهم أن يتمتعوا عندنا، ولو فعلوا لزمهم دم الجناية لا دم المتعة.
(الحج أشهر معلومات)
أي: أشهر الحج أشهر معلومات. فحذف المضاف.
أو الحج حج أشهر معلومات. فحذف المصدر المضاف.
أو جعل الأشهر الحج، لما كان الحج فيها كقولهم: ليل نائم ونهار صائم.

(1/190)


وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. جمعت ببعض الثالث، والفعل إذا وقع في بعض يوم الجمعة صح القول بأنه في يوم الجمعة، كما صح أنه في وقت كذا منه.
وعن مجاهد وقتادة: أن ذا الحجة داخل فيها بأسره. ومنه قول [الراعي]:

187 - قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... ودعا فلم أر مثله مقتولا

(1/191)


وكان قتله في السابع عشر من ذي الحجة.
(فمن فرض فيهن الحج)
أوجب على نفسه، أي: أحرم.
والرفث: الجماع ودواعيه وذكره عند ذكر النساء.
والفسوق: السباب.
وقيل: المعاصي كلها.

(1/192)


والجدال: الملاحاة مع أهل الرفقة.
وقيل:
(لا جدال في الحج)
لا خلاف فيه أنه في ذي الحجة.
وهذا القول هو وجه امتناع (لا جدال) بالتنوين، وإن قرئ به (لا رفث ولا فسوق)؛ لأن قوله (لا جدال) نفي إذ لم يجادلوا أن الحج في ذي الحجة، ولا رفث نهي؛ إذ كانوا ربما يأتونه فكأن لا [في] الجدال نافية، وفي الرفث والفسوق بمعنى ليس.
(أفضتم من عرفات)
دفعتم بكثرةٍ منها إلى مزدلفة كفيض الإناء عند الامتلاء.

(1/193)


وصرف عرفات مع التأنيث والتعريف لأنه اسم واحد على حكاية الجمع.
ومن قال: إنها جمع عرفة، صرفه معنى الجمع الجماعة ولا تأنيث في لفظة الجمع.
واسم عرفات من تعارف الناس عند التقائهم في ذلك المجمع العظيم.
وقيل: إن جبريل كان يرى ابراهيم المناسك فلما صارا بعرفات قال ابراهيم: عرفت فسميت بهذا الاسم.
وقيل: إنه من اجتماع آدم وحواء وتعارفهما.
و (المشعر الحرام)
ما بين جبلي مزدلفة. عن ابن عباس.

(1/194)


وعن إبراهيم: هو الجبل الذي يقف [عليه] الإمام [بجمع]
(ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)
أمر لقريش وحلفائهم -وهم الحُمس- بالإضافة من عرفات إلى جمع، وكانوا يقفون [بجمع] ويقولون: نحن أهل حرم الله لا نخرج عنه.
وقيل: بل هذه الإضافة من جمع إلى منى، لأن الإضافة من عرفات مذكورة، وهذه معطوفة عليها فلا يصح هي بعينها فيكون المراد بقوله: (من حيث أفاض الناس) إبراهيم ومن تبعه. (فاذكروا الله كذكركم ءاباءكم)

(1/195)


كانت [العرب في] الجاهلية إذا وقفت بعرفات ومزدلفة تعد مآثرها ومفاخر آبائها كما ذكره الفرزدق:

188 - إذا ذكر الناس المآثر أشرفت ... روابي أبي حرب على من يطاول

189 - إليهم تناهي مجد كل قبيلة ... وصار لهم منها الذرى والكواهل

190 - وأنتم زمام ابني نزار كليهما ... إذا عد عند المشعرين الفضائل
(من خلاقٍ)

(1/196)


من نصيب من [الخلافة] التي هي الاختصاص. أو الخليقة التي لها التقدير والتثبيت [للشيء].
والأيام المعدودات: أيام التشريق. ثلاثة بعد المعلومات التي هي عشر ذي الحجة. والسبب في الاسمين: أن المعلومات لاشتهارها يحرض الناس على معرفتها للحج، والمعدودات لقلتها بالقياس إلى المعلومات كالمعدودات، التي نسخها شهر رمضان فإنها كانت ثلاثة أيام من كل شهر؛ ولأن القلة معينة على الإسراع في التعديد.
وذكر الله في المعدودات: التكبير.

(1/197)


وابتداؤه عند ابن مسعود من صلاة الفجر من يوم عرفة في أدبار الصلوات الثمان آخرها صلاة العصر من يوم القربان. وهو مذهب أبي حنيفة.
وفي قول: ثلاث وعشرون صلاة، آخرها عصر رابع من النحر عشية النفر.
وأيام التشريق، يسمى الأول منها: يوم القر؛ لاستقرار الناس بمنى، والثاني: يوم النفر؛ لأنهم ينفرون ويخرجون إلى أهاليهم وهو المراد بقوله:
(فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه)
أي: تعجل الخروج في النفر الأول.
(ومن تأخر)
إلى النفر الثاني -وهو الثالث من أيام منى.
(فلا إثم عليه)

(1/198)


وهذا يوم الثالث يسمى أيضا يوم الصدر، ويسمى أيضا صرما، يسمى النفر الأول [قرما]. وقد اختلف في الكتب أسماؤها وترتيبها.
(فلا إثم عليه لمن اتقى)
في كل ما تقدم من إتمام أفعال الحج واجتناب محظوراته، عن ابن عباس:
وقال السدي: لمن اتقى في بقية عمره لئلا يحبط عمله.

(1/199)


(ومن الناس من يعجبك قوله)
في الأخنس [بن] شريق، هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونافقه ثم خرج [فأحرق] لبعض المسلمين كدسا وعقر حِمَارا. والألد: الكثير الخصومة، واللديدان صفحتا العنق.
كأن الألد [يقلب] القول صفحة إلى صفحة كما قال ثعلبة بن صغير المازني:

(1/200)


191 - ولرب خصم جاهدين ذوي [شذى] ... [تقذى] صدورهم بهتر [هاتر]

192 - لدٍّ ظأرتهم على ما ساءهم ... وخسأت باطلهم بحق ظاهر
و (الخصام)
مصدر عند الخليل.
وعند الزجاج: جمع خصم كبحر وبحار.
(أخذته العزة بالإثم)
أي بسبب الإثم الذي في قلبه.
وقيل: معناه أخذته العزة بأن يأثم.

(1/201)


(يشري)
يبيع. ومنه تسمية أهل حرور أنفسهم بالشراة.
كما قال أبو [العيزار] الخارجي:

193 - يدنو وترفعه الرماح كأنه ... شلو تنشب في مخالب ضاري

194 - [فثوى] صريعا والسباع تنوشه ... إن الشراة قصيرة الأعمار

(1/202)


(ادخلوا في السلم كافة)
في طائفة أهل الكتاب أسلموا ولم يتركوا السبت.
وقيل: في المنافقين، أمروا أن يجعل باطنهم في الإسلام كظاهرهم. وقيل: بل هو أمر للمؤمنين بشرائع الإسلام جميعا.
وقال الحسن: هو أمر للمسلمين بالدوام على الإسلام لأن الفاعل للواجب في الحال مأمور بمثله في الاستقبال، فهو كقوله: (يأيها الذين آمنوا ءامنوا)
ومن قال: إن السلم بالفتح: الصلح لا غير، لم يمتنع على قوله أن يراد الإسلام بالصلح؛ لأن الإسلام صلح، والمسلمون يد واحدة في التناصر والتضافر.

(1/203)


(كافة)
جميعا، وكففت الشيء: جمعته، وكفة الميزان لجمعه ما فيه، وكف الثوب: طيه.
ويجوز أن يكون من الكف أي: المنع؛ لأنهم إذا اجتمعوا تمانعوا. (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله)
المراد: إتيان آيات الله، فذكر الله لتفخيم شأن الآيات.
وقيل: بل التقدير يأتيهم أمر الله فحذف المضاف كما هو في قوله:
(أو يأتي أمر ربك)
يبين ذلك: أن [في] الآيتين الإخبار عن حال القيامة فلما كان الأمر في أحدهما مذكورا، كان في الأخرى مقدرا مفهوماً.

(1/204)


وقيل: إن اللفظ وإن كان يثبت لإتيان فالفحوى ينفيه؛ لأن الحال على صورة من قدم إلى عبيدة بكل موعظة ورسول يستصلحهم بذلك، ثم يقول: -إذا لم يصلحوا- هل ينتظرون إلا أن آتيكم؟ على تقرر امتناع إتيانه في نفوسهم.
(زين للذين كفروا الحيوة الدنيا)
قيل: إن الشيطان هو الذي زينها لهم.
وقيل: بل الله يفعل ذلك لصح التكليف، وليعظم الثواب على تركها مع شهوتها.
(بغير حساب)

(1/205)


بغير استحقاق على جهة التفضل، وقوله (عطاء حسابا) أي الذي يقابل العمل ويكافئه.
[و] قول قطرب: بغير حساب عنده تعالى لسعة فضله، وهو بحساب أعمالنا، وكأنه يعطي المسحوب المعدود مالا يحسب ولا يعد.
(كان الناس أمة)
الأمة هنا: الملة، قال النابغة:

195 - [حلفت] فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأتمن ذو أمة وهو طائع
بحذف المضاف أي: أهل ملة.

(1/206)


وتلك الملة: الضلال. عن ابن عباس [و] الحسن. فهو الغالب عليهم وإن كانت الأرض لم تخل عن حجة الله.
ويجوز أن يكونوا [على الحق] متفقين [فاختلفوا] بعد.
(بغيا بينهم)
نصب على المفعول له أي: وما اختلفوا إلا للبغي.
(بإذنه)

(1/207)


أي: فاهتدوا بإذنه، أي: بعلمه.
(أم حسبتم)
"أم" يكون للابتداء والاستفهام، إلا أنه خلع عنها هنا معنى الاستفهام، كما خلع في الخبر من قولك: مررت برجل أي رجل. ولذلك أعربت أي.
ومثله واو العطف فإنها للعطف والجمع، فإذا وضعت موضع مع خلص للجمع في نحو: "استوى الماء والخشبة".
وكذلك [فاء العطف] للعطف والاتباع، وإذا [استعملت] في جواب الشرط [انخلعت] عن العطف، وخلصت [للاتباع] وذلك قولك: إن تقم [فأنا] أقوم.
(ولما يأتكم)

(1/208)


أي: ولم يأتكم، كقوله: (وءاخرين منهم لما يلحقوا) وأصل لما: لم، إلا أن لما بانفرادها تصلح جوابا لمن يقول لك: أقدم زيد؟ فتقول: لما. ولا يجوز لم.
(وزلزلوا)
ازعجوا بالخوف، وهو في يوم الأحزاب، وهو "زلوا" ضوعف لفظه لمضاعفة معناه، كقولهم صر وصرصر. قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة فقالوا: صر وفي صوت البازي تقطيعا فقالوا: صرصر.

(1/209)


(حتى يقول الرسول)
أي حتى يسأل النصر الموعود، وليس المراد الاستبطاء للنصر؛ لأن الرسول يعلم أن الله لا يؤخره عن وقت المصلحة. وكذلك كل من هو في شدة وغمه فلا ينبغي أن يستبطئ الفرج، بل يوقت بزوالها في الدنيا أو يموت عليها، فيظفر بالعوض العظيم في الآخرة، وذلك خير وأبقى.
ومن رفع (يقول) كان الكلام بمعنى: استدامة حال الصبر إلى وقت

(1/210)


النصر، وتقديره: "حتى الرسول قائل"،كما قال:

196 - [يغشون] حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل

197 - بيض الوجوه ..... ...... ... ....................
أي حتى هم الآن كذلك.

(1/211)


(يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه)
انخفاض (قتال) على البدل من الشهر، بدل الاشتمال، وهو الذي يكون الثاني فيه غير الأول في اللفظ، وهو داخل أو مقدر فيه، قال الأعشى:

198 - هريرة ودعها وإن لا لائم ... غداة غد أن أنت للبين واجم

199 - لقد كان في حول ثواء ثويته ... تقضي لبانات ويسأم سائم
ألا ترى أن الحول مشتمل على الثواء متناول.
(وصَدٌّ عن سبيل الله)

(1/212)


أي: القتل في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام يصد المسلمين عن الحج.
(يسئلونك ماذا ينفقون قل العفو)
أي: الفضل عند الحاجة.
وقيل: السهل الميسر. يقال [خذ] ما عفا. أي: سهل وصفا. وقيل: هو القصد الوسط.

(1/213)


وانتصاب (العفو) على أنه جواب المنصوب، وهو ماذا، وماذا اسم واحد؛ لأنك تقول: عماذا تسأل؟ لا تحذف الألف من "عما" كما حذفت من (عم يتساءلون) لما لم يكن آخر الاسم، فيكون (ماذا ينفقون) مثل: ما ينفقون، والجواب: ينفقون العفو. ومن يرفع (العفو) يجل ذا بمنزلة الذي ويجعلها اسمين، كأن القول: "ما الذي ينفقون".
(لأعنتكم)
لشدد عليكم في [مخالطتهم]، أو في جميع ما كلفكم فإن العبرة لعموم اللفظ.

(1/214)


كذلك فَسَّر أبو عبيدة الإعنات بالإهلاك.
وأصل العنت: الشدة والمشقة قال [مسلمة] بن عبد الملك:

200 - إني إذا الأصواب في القوم علت ... في موظن يخشى به القوم العنت

201 - موطن نفسي على ما خيلت ... بالصبر حتى تنجلي عما انجلت
(حتى يطهرن)
ينقطع دمهن، و (يطهرن): يتطهرن ويغتسلن فأُدغمت.

(1/215)


(أنى شئتم)
كيف شئتم.
وقيل: من أين شئتم بعد أن لا يخرج عن موضع الحرث بدليل (نساؤكم حرث لكم).
(وقدموا لأنفسكم)
قيل: إنه التسمية عند الجماع.
والأولى: اعتبار عموم اللفظ، كأنه أمر -عقيب ما أباح وحظر- بتقديم الأعمال الصالحة [والتوقي].
(عرضة لأيمانكم)
علة وحجة في ترك البر والتقوى والإصلاح فتخلفوا لتدفعوا وتعتلوا بها.

(1/216)


فكأن اليمين سبب يعرض فيمنع من البر والتقوى، أو سبب يوجب الإعراض عنهما. وهو كما قال جرير:

202 - ولا خبر في مستعجلات الملاوم ... ولا في صديق وصله غير دائم

203 - ولا خير في مال عليه ألية ... ولا في يمين غير ذات [مخارم]
وقيل: معناه: لا تجعلوا اليمين بذلة كلامكم من غير حاجة ويغير استثناء، مع أن العبد لا يملك أمره حتى يعزم [على] شيء في المستقبل.
(أن تبروا)

(1/217)


معناه على هذا القول: أن لا تبروا، فحذفت لا؛ لأنه في معنى القسم.
قال امرؤ القيس:

204 - فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
فحذف [أقسم] فعل القسم، وحرف القسم و [لا] النافية المقسم بها.

(1/218)


وموضع (أن تبروا) نصب عند سيبويه، لوصول الفعل إليه مع تقدير الجار.
وخفض عند الخليل؛ لأن التقدير: لأن تبروا.
(لا يؤاخذكم الله باللغو)
اللغو: اليمين على الظن إذ [ا] تبين خلافه، عن ابن عباس وأصحابه.

(1/219)


وعن عائشة: ما يسبق به اللسان من غير قصد وعقد قلب. كما قال الفرزدق:

205 - ولست بمأخوذ بقول تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم
والأصل في اللغو: ما لا يعتد به، كما قال:

(1/220)


206 - ويلغي دونه المرئي لغوا ... كما ألغيت في الدية الحوارا
إذ لا يعتد بالحوار في الدية، ومنه لغو الطائر: صوتها على غير استقامة وترجيع. قال المازني:

207 - أعمير ما يدريك أن رب فتية ... بيض الوجود ذوي ندى ومآثر

208 - باكرتهم بسباء [جون ذراع] ... قبل الصباح وقبل لغو الطائر

(1/221)


(يؤلون)
يحلفون، إيلاء وألية وألوة وإلوة.
والإيلاء هنا: قول الرجل لامرأته: "والله لا [أ] قربك أربعة أشهر".
أو قال من غير توقيت، أو حرمها على نفسه بنية هذا اليمين.
فإن فاء إليها بالجماع، أي: رجع قبل أربعة أشهر كفر عن اليمين، وإلا بانت بتطليقة.

(1/222)


والتربص: الانتظار.
وقيل: التصبر، كأنه فسر بمقلوبه.
(ثلاثة قروء)

(1/223)


القرء: الحيض [عن] أكثر الصحابة والفقهاء.
وعن بعضهم: الطهر.
وحكى الكسائي: أقرأت المرأة: حاضت، فهي مقرى، وأصل الكلمة إن كان الاجتماع بدليل القرآن، والقرية للنمل وللناس، وقرأ الماء في الحوض، فالاجتماع في حالة الحيض. إذ لو كان في الطهر لسال دفعة، وإن كان

(1/224)


الأصل الانتقال، من قول العرب: قرأت النجوم وأقرأت، فكذلك؛ لأن الحيض عارض منتقل إليه من الظهر الثابت.
(ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن)
أي: من الحيض والولد؛ لئلا ينقطع رجعة الزوج وشيء من القرء باق، ولئلا نلحق الولد بغيره كصنيع الجاهلية.
(الطلاق مرتان)
أي: الطلاق الرجعي.

(1/225)


وسأل رجل النبي عليه السلام عن الثالثة فقال: "أو تسريح بإحسان".
والطلاق الجاهلي أيضاً كان ثلاثا. كما سئل ابن عباس عنه فأنشد للأعشى:

209 - أيا جارتي بيني فإنك طالقة ... [كذاك] أمور الناس غاد وطارقه

210 - وبيني فإن البين خير من العصا ... وإن لا تزال فوق رأسك بارقة

(1/226)


211 - وبيني حصان الفرج غير ذميمة ... وموموقة عندي [كذاك] ووامقة
فذاك ثلاث تطليقات:
(إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله)
قال أبو عبيدة: يوقنا.
وقيل: يظنا.

(1/227)


(فبلغن أجلهن)
قارنه وشارفنه، أو بلغن أجل الرجعة.
(ولا تتخذوا ءايات الله هزوا)
أي: لا تستهزؤوا بهذه الآية المشتملة على أحكام النكاح والطلاق والرجعة والخلع مع كثرة فروعها، وتفنن شعبها.
وقال الحسن: كان الرجل يطلق ويعتق ثم يقول: كنت هازلا هازئا.
(فلا تعضلوهن)
العضل: المنع والتضييق، أعضل الأمر: أعيا، وعضلت المرأة وأعضلت: عسرت ولادتها.

(1/228)


قال الصلتان العبدي:

212 - هلا ليالي فوقه بزاته ... يغشى الأسنة فوق نهد قارح

213 - في جحفل لجب ترى أمثاله ... [منه] تعضل بالفضاء الفاسح
(وعلى الوارث مثل ذلك)
أي: على وارث الولد من النفقة مثل ما على المولود له، وهو الوالد إذا كان حيا، وذلك الوارث كل ذي رحم محرم.

(1/229)


(فإن أرادا فصالا)
أي: فطاما عن الرضاع.
والتراضي: لئلا يكون أحدهما للفطام كارها بما لا يعلمه الآخر. والتشاور: فلأنهما لو تراضيا من غير تفكر في حال الرضيع [لجاز] أن يكون الفطام ضارا به، فالحمد له سبحانه يؤدب الكبير ولا يهمل الصغير.
(وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم)
أي: لأولادكم إذ الاسترضاع لا يكون إلا للولد. وهذا إذا اشتغلت المرأة بحق الزوج عن الإرضاع، أو ينقطع لبنها، أو تطلق فتريد زوجا آخر.
(والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن)
أخبر الزوجات دون (الذين) وبهم ابتدأ، كما قال:

(1/230)


214 - لعلى إن ما لت بي [الريح] ميلة ... على ابن أبي ذبان أن [يتندما]
وتأنيث العشر لتغليب الليالي على الأيام فإن سني العرب هلالية، وأحكام الشرع تدور على الأهلة.
(عرضتم [به] من خطبة النساء)
وهو بكل كلام يدل على الرغبة فيها من غير إفصاح بنكاح. والإكنان: إضمار العزم على نكاحها.
و (لا تواعدوهن سرا)

(1/231)


أي: لا تساروهن بالنكاح.
وقيل: لا تواعدوهن سرا أن لا يتزوجن غيركم، وأكثر المعاهدة يكون سرا.
وقال ابن زيد: لا تنكحوهن سرا.
(حتى يبلغ الكتب أجله)
أي تنتهي العدة.

(1/232)


والكتاب: ما كتب عليها من الحداد والقرار في المنزل.
(لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن)
لأنه إذا مسها لا يطلقها في طهر المسيس.
وقيل: لا [جناح] عليكم في النفقة والمهر سوى متعة على قدر المكنة.
وتخصيص (المحسنين)
بالذكر: لأنهم هم الذين يقبلونه ويعملون به.
وانتصاب (متاعا) على المصدر من (متعوهن).
و (حقا) على الحال من قوله: (بالمعروف).
(أو يعفوا الذين بيده عقدة النكاح)
هو الزوج لا غيره.

(1/233)


وعفوه، إذا سلم منها كل الصداق: أن لا يرتجع النصف بالطلاق. وإن لم يسلم وفاه [كاملا] على [وجه] [الصلة] والإحسان.
كما روي أن الحسن بن على حمم امرأة عشرة آلاف -أي متعها- فأنشدت:

215 - ............. ... متاع قليل من حبيب مفارق

(1/234)


ولا يبلغ بالمتعة هذا المبلغ.
(والصلوة الوسطى)
من حيث إن الخمسة المبهمة لا واسطة لها معينة، كثر الاختلاف فيها.
فقيل: إنها الفجر؛ لأن الظهر والعصر قد يجمع بينهما، وكذلك العشاء والمغرب، [و] الفجر حامية جانبها عن [غيرها].

(1/235)


وقيل: إنها الظهر؛ لأنها وسط النهار وكانت تشق عليهم إقامتها في الهاجرة الحجازية التي تشوى كل شيء.
وقيل: إنها المغرب؛ لأنها وسط في الطول والقصر، ووقت العجلة للانكفاء إلى المنازل [فتشغل] عن الصلاة.
قال:

216 - رموت عليها الكسر من غير ريبة ... فلم أر إلا بذل تبن مترب

217 - فقلت بعيد منك تطلابك القرى ... وأجفلت عنها كالعجول المغرب

(1/236)


وقيل: إنها العصر؛ لأنها بين صلاتي النهار والليل، ولأنه وقت استعجال الأعمال؛ لإدبار النهار، كما قال الأخنس بن شهاب:

(1/237)


218 - تظل بها زبد النعام كأنها ... إماء تزجي بالعشي حواطب
وقال علقمة بن عبدة:

219 - فولى على آثارهن بحاصب ... وغيبة شؤبوب من الشد ملهب

220 - فأدركهن ثانيا من عنانه ... يمر كمر الرائح المتحلب وإنما أبهمت الصلاة الوسطى مع فضلها على غيرها، ليحافظ ذو الرغبة في الثواب على الصلوات، ولا يستند إلى واحدة، ولهذا اخفيت ليلة القدر؛ ولهذا لا

(1/238)


يعلم الصغير بعينها [المكفرة] باجتناب الكبائر، -فلا يضر فعلها إذا علمت فالأولى- أن لا يعلم لتجتنب الذنوب بأسرها.
(فإن خفتم فرجالا)
أي صلوا على أرجلكم، أو على ركابكم وقوفا ومشاة، والرجال جمع راجل مثل التجار والصحاب.
(وصية لأزواجهم)
نصب على المصدر، أي فليوصوا وصية.
أو على المفعول به أي: أوجب الله عليهم وصية.
ومن رفعها فعلى جهالة الفاعل.

(1/239)


أو حذف المبتدأ، أي: فرض عليكم وصية.
(غير إخراج)
نصب على صفة المتاع.
(فإن خرجن)
أي بعد الحول.
وقيل: [قبل] الحول إذا سكن في بيوتهن.
(فلا جناح عليكم)
في قطع نفقة السكنى.
والحكمان -أعني الوصية للأزواج والعدة إلى الحول- منسوخان.

(1/240)


وابن بحر يقول: إنها نزلت في وصيتهم على عادة الجاهلية، فبين الله أن وصيتهم لا تغير حكم الله في تربص أربعة أشهر وعشر، فلذلك قال: (فإن خرجن فلا جناح عليكم) أي: خرجن قبل الحول وبعد الأربعة الأشهر والعشر.
وإنما دعاه إلى هذا القول زعمه أنه لا نسخ في شيء من القرآن. (فيضاعفه)
رفعه للعطف على يقرض الله.

(1/241)


والنصب على جواب الاستفهام بالفاء، إلا أن في الكلام معنى الجزاء؛ لأن التقدير: "من يقرض الله فالله يضاعفه" وجواب الجزاء بالفاء مرفوع.
يقبض ويبصط يقبض الرزق على بعض ليأتلفوا بالاختلاف.
وقيل: يقبض الصدقات ويبسط الجزاء.
(الملإ)
أكابر القوم وأشرافهم.
(هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقتلوا [قالوا] ومالنا ألا نقتل)

(1/242)


[أي]: المعني أن نقاتل.
(إن ءاية ملكه أن يأتيكم التابوت)
إذ كانوا فقدوه فقال:
إنه كان صعد به إلى السماء فنزلت به الملائكة.
ويقال: إن عدوهم أخذوه منهم فردته الملائكة.
(فيه سكينة)
أي في إتيانه بعد الافتقاد كما قاله رسولهم.
وقيل: كانت فيه صورة مباركة [يتيمن] بها في الحروب والخطوب.

(1/243)


(وبقية مما ترك آل موسى)
قيل: إنها الكتب.
وقيل: إنها عصاه وعمامة هارون.
و (إن الله مبتليكم بنهر)
ذلك ليعلم الله أن من يخالف الرسول بالشرب من النهر لا يواقف العدو ليجردوا العسكر عنهم.

(1/244)


والغُرْفة والغَرْفة واحدة [كسدفة] الليل وسدفته، ولحمة الثوب ولحمته.
وقيل: الفتح لمرة واحدة، والضم اسم ما اغترف.
(يظنون أنهم ملاقوا الله)
يحدثون أنفسهم، وهو أصل الظن؛ ولذلك صلح الظن للشك واليقين.
والفئة: القطعة من القوم، من فأوت رأسه قطعته.

(1/245)


وقيل: من فاء أي رجع كأنهم يرجعون إلى منعةٍ.
(تلك الرسل فضلنا بعضهم)
بما استحقوه من ثواب في الآخرة، وفي الدنيا بحسب مصالح العباد، لا على الميل والمحاباة.
(ولو شاء الله ما اقتتلوا)
قال الحسن: "هي مشيئة القدرة بالإلجاء".
وقيل: هي مشيئة الصرفة. والصرفة مسألة [كلامية] مفتنة.

(1/246)


(من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه)
خص البيع لما في المبايعة من المعاوضة، فيكون ذلك كالفذاء من العذاب كقوله: (وإن تعدل كل عدل).
وقيل: إن البيع كناية عن وجوه المكاسب، كأنه أشار إلى أن المال لا ينفع، ولو نفع لما أمكن.
(القيوم)
القائم بتدبير خلقه، العالم بتصاريف ملكه.

(1/247)


والوصفان يوجبان انتفاء النوم والسنة -التي هي ترنيق النوم- كما قال العاملي:

221 - وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جاذر جاسم

222 - وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم
(وسع كرسيه السماوات)

(1/248)


علمه عن ابن عباس.
[وقيل: قدرته]؛ ولذلك وصله بقوله (ولا يؤده) أي لا يثقله. وقيل: هو الهواء الذي هو عماد السموات والأرض؛ لأن الكرسي في اللغة: العماد.
وقيل: إن الكرسي جسم عظيم يحيط بالسموات السبع إحاطة السماء بالأرض، وهو العرش.

(1/249)


وعند بعضهم العرش أعظم منه، كما أن الكرسي أعظم من السموات.
(الطاغوت)
الشيطان، وكل ما ورد من إنس وجان.
وهو فعلوت من الطغيان.
[وقيل]: بل فلعوت على هذا الوجه، وهو أن لام [طغيوت] قلبت إلى موضع العين فصارت طيغوت، فانقلبت ألفا لحركتها وانفتاح ما قبلها، فصار وزنها الآن بعد القلب فلعوت.

(1/250)


و (العروة الوثقى)
الإيمان بالله على وجه المثل والمجاز، كأنه شبه علقة الدين، وإن كانت لا تحس بالمحسوسة الوثيقة الثابتة، فعبر عن المعني بما يعبر به عن الشخص. قال الفرزدق:

223 - عمدت إليك خير الناس حيا ... لتنعش أو يكون بك اعتصامي

224 - وحبل الله حبلك من ينله ... فما لعري يديه من انفصام
وقال جرير:
225 - فما لمت البناة ولم يلوموا ... ذيادي حين جدبنا الزحام

226 - إذا مدوا بحبلهم مددنا ... بحبل ما لعروته انفصام

(1/251)


(أن ءاتاه الله الملك)
أي بموفور الحال، وجموم المال وجموع الرجال، لا بتمليك الأمر، بدليل قوله: (لا ينال عهدي الظالمين)، ولأن الاستصلاح بالفاسد محال.
(فإن الله يأتي بالشمس من المشرق)
ليس بانتقال عن الحجة الأولى، ولكن لما رأي عناد نمر وذحجة الأحياء، وتمويهه يتخليه واحد وقتل آخر، كلمة من وجه لم يمكنه [معاندته]، وذلك أنهم كانوا أصحاب تنجيم، وتعظيم للكواكب، وحركة الشمس وجميع الكواكب من المغرب إلى المشرق معلومة.

(1/252)


إلا أنها في الكواكب الثابتة الأبعاد قليلة المقدار.
وفي السيارة كثيرة ظاهرة، وفي القمر من جهة سرعته أبين، فإنه من عند [إهلاله] في الأفق الغربي يزداد كل ليلة من الشمس بعداً إلا أن يستقبلها ليلة انتصاف الشهر. فظهر أنه يسير من المغرب إلى المشرق.
كانت هذه حركة الكواكب الذاتية الطبيعية.

(1/253)


ثم إن الله بعظيم قدرته وعميم رحمته -كيلا يكون النهار سرمداً [ولمصالح] أخر- محركها بحركة أخرى قسرية قهرية من المشرق إلى المغرب. كتحريرك السفينة مثلا ركابها إلى جهة جريان الماء، وهم متحركون فيها إلى خلاف جهته، وهذه الحركة هي التي ترى الشمس، وكل كوكب طالعا ومرتفعا رويداً ثم غائباً، وإلى مطلعه الأول إنما دكيما وذلك عند [تمام] كل يوم وليلة، وإذا كان هذا مقررا لمن حاج إبراهيم كان وجه الحجة: أن ربي يحرك الشمس قسراً على غير حركتها، فأن كنت ربا فحركتها بحركتها لأن تقرير الشيء على طبعه أهون من نقله إلى ضده. (فـ) عند ذلك (بهت الذي كفر) أي دهش وتحير.
(أو كالذي مر على قرية)
قيل: لا يجوز أن يكون ذلك [المار] نبيا؛ لأن قوله: (أنى يحي هذه الله)

(1/254)


كلام شاك مستبعد، ولأن الآية على التعجب من قوله كالآية الأولى، ولأن قوله (فلما تبين) وقوله (أعلم) يدلان على شكه في الحال.
وقيل: يجوز أن يكون نبيا، وإنما قال ذلك قبل الوحي أو على الطريق التبين بالمشاهدة كقول إبراهيم: (أرني كيف تحيي الموتى).
ولأن الإعادة فيه وفي الحمار من المعجزات، ولأن في سياقة الآية (ولنجعلك ءاية)
(خاوية)
خربة خالية، خوى المنزل: خرب، وخوى النجم: سقط.

(1/255)


(على عروشها)
أبنيتها وسقوفها.
(لم يتسنه)
إن قلت [سانيته] مساناة. فالهاء للوقف.
وإذا وصلت قلت: لم يتسن.
وإن كان من [سانهت مسانهة] فالهاء: لام الفعل.
ويؤكد ذلك سنيهة في تصغير سنة. وقول حتان:

(1/256)


227 - وليست بسنهاء ولا رجبية ... ...................... ومعنى لم يتسنه: لم يتغير باختلاف السنين.
أو لم تعمل فيه السنة التي يراد بها الجدب لا الحول. كما قال (ولقد أخذنا ءال فرعون بالسنين) ومنه يقال: أسنتوا إذا أجدبوا.
(ننشزها)
نرفع بعضها إلى بعض.

(1/257)


والنشز: المكان المرتفع، ونشوز المرأة: ترفعها.
(وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتي)
سبب ذلك: أنه أرى جيفة مزقتها السباع واستهلكت أشلاؤها الرياح.
فأحب معاينة إحيائها، ليقوى علمه اليقيني بالحس والمشاهدة. فتكون على هذا ألف (أولم تؤمن) للتقرير وإن كانت صورتها للاستفهام أي: قد آمنت، فلم تسأل هذا؟
فقال: (ليطمئن قلبي) باجتماع المشاهدة مع العلم.
قال كثير في التقرير بلفظ الاستفهام:

(1/258)


228 - أليس أبي بالنضر أم ليس والدي ... لكل نجيب من خزاعة أزهر [ا]
(فصرهن إليك)
صرت: يقع على إمالة الشيء. وعلى قطعه.
صار [هُ] يصيره ويصوره إذا أماله.
والأصور: المائل العنق.
ومن القطع: الصور [ةُ]: النخلة الفردة المنقطعة عن أخواتها.

(1/259)


والصوار: القطيع من البقر، وصراه: قطعه، فيكون صاره مقلوبة.
ويجوز من الأصلين: الصورة لأنها تميل النفوس إليها، ولأنها على تقطيع وتقدير.
وكذلك الصوار: قطعة من المسك، فهو من القطع.
ومن حيث إنها تميل حاسة الشم إليها:

229 - ولو أن ركباً يمموك لقادهم ... نسيمك حتى يستدل بك الركب
فهو من الأصل الثاني، ومنه يقال: المسك كأنه لطيب رائحته يمسك الحاسة عليه.
فمن فسر قوله (فصرهن) بأملهن، كان في الكلام حذف كأن المعني فأملهن إليك وقطعهن بدليل قوله: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) لأن التجزئة بعد التقطيع.

(1/260)


(قول معروف)
أي رد حسن.
قال بشامة بن عقير المري:

230 - ألا يكن ورق يوما يجاد به ... [للخابطين] فإني [لين العودٍ

231 - لا يعدم السائلون الخير من خلقي ... إما نوالي وإما [حسن] مردود

(1/261)


(ومغفرة)
ستر الفقر على السائل.
وقيل: هي التجافي عما يبدر من السائل عند رده.
(فمثله كمثل صفوان)
وهو الحجر الأملس، أي: صفته صفة صفوان.
(أكلها)
بتخفيف الكاف وتثقيلها: طعامها.
وإنما جاء:
(أيود أحدكم أن تكون)
بلفظ المضارع (وأصابه الكبر) عطفا عليه بالماضي.

(1/262)


لأن معني أيود هنا: التمني. والتمني يصح في الماضي والمستقبل، وعلى أنه يجوز إطلاق الاسم على المعني وإن لم يحدث.
وقال جرير:

232 - لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع [بالنواقيس]
المعنى: انتظار أصواتها [لاستطالة] الليل، فأوقع عليه الاسم ولما يكن.
(إعصار)
أعاصير الرياح: وزوابعها، كأنها تلتف بالنار التفاف الثوب المعصور بالماء.
(ولا تيمموا الخبيث)

(1/263)


لا تقصدوا رذال المال وحشف التمر في الزكاة.
(إلا أن تغمضوا فيه)
بوكسٍ ونقصان في الثمن.

(1/264)


وقيل: إلا [أن] [تأتوا] غامضا من الأمر لتطلبوا بذلك التأول على أخذه.
فأغمض على هذا: أتى غامضا، كأعمن أتى عمان، وأعرق أتي العراق.
(فنعما هي)
أي نعم ما هي، على تقدير الفاعل.
ونصف ما على التفسير، أي نعم الشيء شيئاً هي.
وفيه أربع لغات مفردة: نَعِمّا ونِعِمَّا ونِعْمَّا ونِعَمَّا.
(للفقراء)
أي: الصدفة للفقراء، فيكون الفقراء نصبا على المفعول له.

(1/265)


(أحصروا)
احتبسوا.
الكسائي: أحصروا -بالمرض والجراحات المثخنة في الجهاد- عن الضرب في الأرض، لأنه لو كان من العدو لكان حصروا.
(لا يسئلون الناس إلحافاً)
لا يكون منهم سؤال فيكون منهم إلحاف، إذ لو سألوا لم يحسبهم الجاهل بهم أغنياء.
وهذا كما قال:

233 - ودوية لا يهتدى [لـ]ـمنارها ... إذا لوح الصبح أشجاد دليلها

234 - تراه مرمى بالضحى فإذا دجا ... له الليل لم يشكل عليه سبيلها

(1/266)


أي: ليس ثم [منار] يهتدى بها.
(يتخبطه الشيطان)
يضربه ويصرعه.
(من المس)
من الجنون. وهذا الصرع وإن كان بانسداد بطون الدماغ من الرطوبات الفجة سدا غير كامل، ولكن إضافته إلى الشيطان على مجاز إضافة الإغواء الذي يلقى المرء في مصارع وخيمة. (فأذنوا)
فاعلموا، وآذنوا: أعلموا، آذنتك بالشيء فأذنت به تأذن إذناً. أي: إنكم أذن حرب الله ورسوله.

(1/267)


(إذا تداينتم بدين)
ذكر الدين بعد التداين [للتقرير] والتوكيد.
(وليملك الذي عليه الحق)
أي على إقراره.
(ولا يبخس)
ليشهد عليه.
(أو لا يستطيع أن يمل هو)
أي لخرس أو صبي أو عته.
(أن تضل)
أن تنسى.
وقيل: لئلا تضل، ثم ابتدأ:
(فتذكر إحداهما الأخرى)

(1/268)


أي: [تجعلها] كذكر من الرجال.
(إلا أن تكون تجارة)
أي: تقع وتحدث.
وقيل: إن تجارة اسم كان، و (تديرونها) خبرها.
(فرهانٌ)
أي: الوثيقة رهانٌ.

(1/269)


(وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله)
أي: ما تضمروه من [معصية]، وتعزموا عليه من مفسدة.
وقال مجاهد: من الشكّ واليقين.
ولا يقال إنها [نُسِـ]ـخت بقوله: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)؛ لأن النسخ بيان مدة المصلحة في الشرائع لا في الأخبار والمواعيد، ولأن تكليف ما ليس في الوسع لم يكن قط حتى ينسخ.

(1/270)


وما روي أن الصحابة رضي الله عنهم عز عليهم نزولا وقالوا: "إنا لنحدث أنفسنا [بمالا] يمكننا أن ندرأه عنا، فقد كلفنا ما لا [نطيق]، فنزلت (لا يكلف الله) " فحديث صحيح، إلا أنها نزلت على إزالة التوهم لا على نسخ الخبر المتقدم.
(ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)
الخطأ والنسيان مرفوعان عن الإنسان، فيكون نسينا بمعني تركنا، وأخطأنا بمعني خطئنا، يقال [خطئ] خطأ: إذا تعمد الإثم، وأخطأ إذا لم

(1/271)


[يتعمد]، قال الله عز وجل: (لا يأكله إلا الخطئون). وقال: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به). فقوله: وأخطأنا على وجهين، إما لأنه لما جاء خطئنا في موضع أخطأنا، جاء أخطأنا في موضع خطئنا.
أو يكون أخطأنا: أتينا بخطئة، كقولك: أبدعت إذا أتيت ببدعة. قال النجاشي في أمير المؤمنين على رضي الله عنه:

235 - فمرنا بما تهوى [نجبك] إلى الرضي ... بصم العوالي والصفيح المعتد

236 - فإن نأت ما تهوى فذاك نريده ... به نخط ما تهوى فغير تعمد

(1/272)


وقيل: على ظاهره على طريق التعبد والتضرع عند المسألة وإن كنا نعلم أن الله لا يؤاخذنا بالخطأ والنسيان، كما جاء في الدعاء: (رب احكم بالحق) وكقوله (ربنا [و] ءاتنا ما وعدتنا على رسلك).
(لا تحمل علينا إصرا) الإصر هنا: الثقل العظيم من كلفة أمر أو وبال نهي.
وسمي في الأصل العهد إصرا، وكذلك الرحم؛ لأن القيام بحقهما ثقيل عظيم.
وبالله التوفيق ومنه العصمة.
[تمت سورة البقرة]

(1/273)