باهر البرهان فى
معانى مشكلات القرآن سورة التوبة
(فسيحوا في الأرض أربعة أشهر)
أولُها. عاشرُ ذِي الحجةِ منْ سنةِ تسعٍ، وأخيرُها: عاشرُ شهر
ربيعٍ
الأخر.
قالَ الحسنُ: كانت مدةُ النداءِ بالبراءةِ فِي الأربعةِ
[الأشهرِ] لِمَنْ ليسَ لهُ
عهدٌ، وأمَّا مَنْ لَهُ عهدٌ [فإِلى] تمام مِدتِه كمَا قالَ:
(فَأتمُّوَا إليهم عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ)
(1/577)
وقيلَ: كانَ منْهُمْ مَنْ عهدُه اْكثرُ منْ
أربعةِ أشهرٍ فَحُطَّ إليهَا، وهُمْ
[البادِئُونَ] بالعزمِ على النكثِ. ومَنْ كانَ عهدُه أقلَّ،
وهُمُ الأوفياءُ رُفِعَ إليهَا.
والمشركونَ الذينَ لا عهدَ لهُمْ فيقاتلونَ بعدَ انقضاءِ
الأشهِر الحرمِ المعهودةِ،
ولا ينظرونَ تمامَ النداءِ، وكانَ القتالُ إذْ ذاك في الأشهر
الحرمِ محرماً، كمَا
قالَ:
(فإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ)
(إلاَّ)
حلفًا وعهدًا.
(1/578)
وقيلَ: مودةً ووصلةً. وكِلا المعنَيَيْنِ
يحتملُه قولُ خفافٍ:
465 - أَعَبَّاسُ إِنَّ الَّذِي بَيْنَنَا ... أَبىَ أَنْ
[يُجَاوِزَهُ] الأَربَعُ
466 - عَلائِقُ مِنْ حَسِبٍ دَاخِلٍ ... معَ الإلِّ والنَّسَبِ
أَرفَعُ
وأعيدَ:
(لا يرقبون)
لأنَّ الأول فِي جميع الناقضينَ للعهدِ.
والثانِي: فِي الذِينَ اشتروا بآياتِ اللهِ، وهُمْ قومٌُ
أطعمَهُمْ أبُو سفيانَ
ليصدُّوا النَّاسَ عَن الإسلام.
(1/579)
(أَلاَ تُقَاتِلوُنَ قَوْمَاً نكَثُوا
أَيْمَانَهُمْ)
يعنِي قريشاً إذ غَدَرُوا بخزاعَة.
(ولَمَّا يَعْلَمِ اللهُ)
لمَّا يفعلْ: نفيُ الفعلِ معَ تقريبِ وقوعِه. ولمْ يفعلْ:
نفيٌّ بغيرِ إيذانٍ
بوقوعِه. ومعنَى الآيةِ: أمْ حسبْتُمْ أنْ تترَكُوا ولمْ
تجاهِدُوا؛ لأنَّهم إذَا جاهدُوا
علمَ اللهُ ذلكَ منْهُم.
(1/580)
(وَلِيجَةً)
خلطاءَ يناجونَهُم، الواحدُ والجماعةُ فيهِ سواءٌ.
وقيلَ: الوليجةُ: الدخيلةُ والبطانةُ، الَّذِي يدخلُ فِي باطنِ
أمرِ الرَّجلِ.
(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر)
وأهلُ الكتابِ يقرُّونَ بالنَّشْأةِ الآخرةِ، لكنَّ إيمانَهم
على غيرِ علمٍ ولاَ
استبصارٍ، وبِخلافِ مَا وصفَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم
- منْ أحوالِ اليومِ الآخرِ، ومِنْ مدَّةِ
العذاب.
(عَن يَدٍ)
عن قهرٍ واستعلاءٍ منكُمْ عليهِمْ.
قالَ أبُو عبيدةَ: كلُّ مَنْ أطاعَ لقاهرٍ بمَا يعطيِه عَنْ
ذلٍ وضرورةٍ، أَو هوىً
(1/581)
وصبابةٍ، فقَدْ أعطَاهُ عَنْ يدٍ. قالَ
الشاعُر:
467 - لَم [أَعْطُهَا] عَنْ يَدِي إِذْ بِتُّ اَرْشُفُهَا ...
إلا تطَاوَلَ غُصْنِ الجيدِ للجِيدِ
468 - كمَا تطَاعَمَ فِي خَضراءَ نَاعَمةٍ ... مُطَوَّقَانِ
أَصَاخَا بَعْدَ تَغْرِيدِ
وقيلِ: إنَّ المرادَ يدُ المَؤدِّي، فإن الذِّمِيَّ يلبَّبُ،
ويقامُ بينَ يدَيْ مَنْ يأخذُ
الجزيةَ حتى يؤدِّيها عَنْ يدِهِ. وهذَا تأويلُ الصغارِ.
وعَن هذَا سقطَتْ بالموتِ والإسلامِ عندَنا؛ لأَنَّ الاستيفاءَ
عَنْ يدهِ
(1/582)
-وعلى هذِه الصورةِ- لا يُتَصَوَّرُ
فكأنَّه تعاَلى قالَ: قاتلُوهُمْ حتَّى يذلُّوا ذلاً يبقَى
على الأيامِ، وِفي أقلِّ هذا الهوانِ ما يزيدُ على كثيرٍ مِن
العذابِ والقتلِ. فسقطَ
قولُ الطاعنِ فِي سقوطِ القتلِ عنهُم بعرَضٍ يسيرٍ لا يعبأُ
به.
469 - أَلَمْ تَرَ أنِّي لا تُبَلُّ رَمِيَّتِي ... [فَمَنْ]
أَرْم لا [تُخْطِيء] مقَاتِلُـ[ـه] نَبْلِي
470 - رأَيْتُكَ لا تحْمِي عِقَالاً ولَمْ تُرِدْ ...
[قِتَالاً] [فمَا لاقَيْتَ] شَرّ مِن القَتْلِ
ألا ترَى أنَّ بنِي تغلبَ لمَّا عثَرَتْ على هذا [الذُّلِّ]
المبير المبينِ كيفَ أَبَتْ
(1/583)
عنها إلى القتالِ، وأرسلَتْ [إلى] عمرَ
رضيَ الله عنهُ: بأنَّا أشرعْنَا [إليكَ
الأَسِنَّةَ] الرهاقَ دونَها. فأجابَ عمرُ: إذاً أجزُرُكُمْ
جزرَ العُبْرِ المعافيرِ،
كعادة اللهِ في سَواكُم، ثُمَّ رضُوا بالخمسِ من المعشورِ،
والضعفِ مِن المصدرقِ
، وهيَ على الاضعافِ مِنْ جِزَاهُمْ، وأرسلَ عمرُ بالمصدقِ
إليهِم، ولمْ يكلفْهُم أَن
يعطُوها عَنْ يدٍ كمَا قالَ بعضُ مصدِّقيهِ:
471 - غَدَتْ منْ أُوَى فَيْحَانَ [مَلْمُومةُ] الذُّرىَ ...
غرائِبُ مِنْ آلِ تَغْلِبَ والنَّمِرْ
(1/584)
472 - يَؤُمُّ أبَا حَفْصٍ ودُوَن لِقَائِه
... قُرَى النيبِ فالصَّمَّانِ مِن جَبَلَيْ حَجزْ
وجريُرٌ كثيرُ التنبيهِ على معارِّ الجِزْية مِثلُ قوله:
473 - أَدِّ الجِزَى وَدعِ الفَخَارَ بتَغْلِبٍ ... واخْسَأْ
بِمَنزلِةِ الَّذليِلِ الصَّاغِرِ
وقولهِ:
474 - أُرِيدَكُمُ مسَيحَ الصَّلِيبِ إذَا دَنَا ... هِلاَلُ
الجِزَى فاسْتَعْجِلُوا بالَدَّرَاهِم
475 - لنَا كُلَّ عامٍ جزيُة [تَتَّقِي] بِهَا ... عَليْكَ وما
تَلقىَ مِن الذُّلِّ أَبْرَحُ
(1/585)
وقولهِ:
476 - ويسْعَى الَتغِلبِيُّ إذَا اجْتَبَيْنَا ... بِجزيتِهِ
وَينْتَظِرُ الهِلالاَ
وقولهِ:
477 - فَخَلِّ الفَخْرَ يا [ا] بنَ أَبِي خُليْدٍ ... وَأَدِّ
خَرَاجَ رَأسِكِ كُلَّ عَام
إلى غيرِ ذلكَ مِنْ معانِي بديعةٍ، وألفاظٍ فصيحةٍ كلِّها
معانِي قولهِ عزَّ وجلَّ:
(عَنْ يَدٍ) وهُوَ أربعةُ أحرفٍ.
(يُضَاهِئُونَ)
يشابِهُونَ. امرأةٌ ضهياءُ لا تحيضُ يُشَبِّهُهَا بالرِّجالِ.
(قاتلهم الله)
(1/586)
كما قالَ عَبِيد بنُ الأبرصِ:
478 - قاتَلَها الله تلحَاِني وقَدْ عَلِمَتْ ... أَنّي
لِنَفْسِي إِفسَادِي وِإصْلاحِي
(يُحمى عليها)
يوقدُ عليَها.
(في كتاب الله)
[أي]: اللَّوحُ المحفوظُ.
(1/587)
(ذلك الدين القيم)
الحسابُ [الـ] مستقيمُ.
(فلا تظلموا فيهن أنفسكم)
[بإحلالِها].
وقيلَ: بمعصيةِ اللهِ فِيهَا.
وقيلَ: بأَنْ تتركُوا فِيها قتالَ عدِّوكُمْ.
(إنما النسيءُ)
(1/588)
يجوزُ مصدرَاً بمعنَى النَساءِ [كالنذيرِ].
وفاعلاً كالبشيرِ. أيْ: النَّاسيءُ
ذو زيادةٍ فِي الكفرِ، وهوُ النَّاسيُء لا الَّذِي هوَ خلافُ
الذاكرِ.
ويجوزُ مفعولاً كالقتيلِ والجريح، أيْ. الشهرُ المؤخرُ زيادةٌ
فِي الكفرِ.
وكانوُا يؤخروَن تحريَم المحرَّم سِنةً؛ لحاجتِهم إلى القتالِ
فيه.
وقيلَ: يؤخرونَ أشهَر الحجِّ كأنّهَم يستنسِؤُونَ ذلك كما
تُسْتَنْسَأُ
الديونُ.
(انفِرُوا)
اخرجُوا كافةً. والنَّفْرُ والنَّفِيرُ: الخروجُ إلى الشيء
لسببٍ [يبعثُ] عليهِ
[ويدعُو] إليهِ.
(1/589)
(اثَّاقلتم إلى الأرض)
تثاقَلتُم إلى أوطانِكم. فأُدْغِمَتْ التاءُ في الثاءِ،
ودخلَتْ ألفُ الوصلِ
للابتداء.
قالَ الواقديُّ: إنها نزلَتْ فِي منافقِيّ الأنصارِ
[المتخلفيَن] عَنْ
تبوك.
(ثانيَ اثنين)
العربُ تقولُ: خامسُ خمسةٍ، ورُبَّما تقولُ: خامسُ أربعةٍ. هذا
أشهرُ.
والأولُ أفصحُ. قالَ حميدُ بنُ ثورٍ:
(1/590)
479 - لِقحَ العِجَافُ له [لِسَابِع]
سَبْعَةٍ ... وَشَرِبْنَ بعدَ [تَحَلُّوٍ] فَرَوِينَا
480 - غَيْثٌ إذَا سِمعَ السَّحابُ هديرَهُ ... جاءَتْ
تَوالِيهِ يَحِنُّ حَنِينَا
(انفِرُوا خِفَافَاً وَثِقَالاً)
أيْ: شباناً وشيوخاً.
وقيلَ: ركباناً ومشاةً.
وقيلَ: [خفافاً:] مسرعينَ، مِنْ [خَفَّ خفوفاً].
(1/591)
وقيلَ: خفافاً مِن الثقلِ والسلاح.
(عَرَضَاً قريباً)
متاعاً قريبَ المأخذِ.
(وَسَفَرَاً قَاصِدَاً)
[سهلاً] مقتصداً.
وقيلَ: ذا قصدٍ، أي: عدلٍ، غيرَ قريبٍ ولاَ بعيدٍ.
(كره الله انبعاثهم)
أيْ: خروجهم إليهَا ونهوضَهم بها.
(فَثَبَّطَهُمْ)
وقفَهم وأقعدَهم (مَعَ اَلقعِدِين) النساءِ والصبيانِ.
(خَبَالاً)
(1/592)
فساداً.
وقيلَ: اضطراباً فِي الرَّأي.
فالأولُ أوجَهُ فِي اللغةِ. قالَ الأخطلُ:
481 - وإذَا دعَوْنَكَ عَمَّهُنَّ فإِنَّهُ ... نَسَبٌ
يَزيدُكَ عِنْدَهُنَّ خَبَالاَ
(ولأوضعوا خلالكم)
أسرعُوا بينَكُم بالتخليطِ والإفسادِ.
وأصلُ الإيضاعِ: الإسراعُ فِي السيرِ. قالَ المخزوميُّ:
482 - فَلَمَّا تَوَافَقْنَا وسَلّمْتُ أَقْبَلَتْ ... وُجُوهٌ
زَهَاهَا الحُسْنُ أنْ تَتَقَنَّعاَ
483 - تبَاَلْهنَ بالعِرْفَانِ لمّا [عَرَفْنَنِي] ...
وَقُلْنَ امْرُؤٌ بَاغٍ أكَلَّ وأَوْضَعَا
(1/593)
(ولا تَفْتِنِّي)
فِي جدِّ بنِ قيسٍ، قالَ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
لا تفتنِّي ببناتِ الرُّوم فِإنِّي مستهترٌ
بالنساءِ. قالَ ذلك لقربِ تبوكَ [مِن] الروم.
(1/594)
(لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا)
أيْ: بحفطها والحزنِ عليها، والمصائبِ فيها معَ عدم
[الانتفاعِ] بها.
وقيلَ: بالحسرةِ عليهَا عندَ اغتنام اِلمؤمنيَن.
(وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ)
تهلَكُ وتبطلُ. [واللاُم] للعاقبةِ، فإنَّ العبَد إذَا كانَ من
اللهِ فِي استدراجٍ
كثَّرَ اللهُ مالَهُ وولدَهُ وفتنَةِ بهِمَا.
(مَلْجَئاً)
(1/595)
قوماً يلجؤُوَن إليهِم.
(أوْ مَغاراتٍ)
غيرانا فِي الجبال.
(مُدَّخَلاً)
سرباً فِي الأرضِ يدخلوَنهُ.
(يَلْمِزُكَ)
يعيبُكَ.
وهُوَ ثعلبةُ بنُ حاطبٍ قالَ: إنَّما يُعْطِي محمدٌ مَنْ
يحبُّ.
(1/596)
(للفقراءِ والمساكينِ)
(1/597)
[عن] ابن عباسٍ: الفقيرُ: المحتاجُ
المتعففُ عن المسألة، والمسكين
: المحتاجُ السائلُ
وقيلَ. الفقيرُ الَّذِي فَقَرَهُ الفَقرُ، كأنَّه أصابَ
فقارَهُ. والمسكينُ [الذِي]
أسكنَة العدمُ وذهبَ بحركتِه.
وفِي الحقيقةِ هُمَا متقاربانِ وتكرُّرُهما [لتوكيدِ] الوصيةِ
بانعادم (7)
العاقل.
(1/598)
(وَاَلعاملِينَ عَلَيْهَا)
أيْ: [السعاةُ] على الصدقاتِ.
(والمؤلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ)
مثلُ أِبي سفيانَ وابنهِ معاويةَ، والأقرعِ بنِ حابسٍ، وعيينةَ
بنِ حصنٍ.
[وحكيم] بنِ حزامٍ، وأشباهِهم.
(1/599)
(وَفِي الرِّقَابِ)
يعنِي المكاتبينَ يعانُونَ على بدلِ الكتابة.
وقيلَ: هُم عبيدٌ يُشترونَ بهذَا السهم فِيعتقونَ.
(وَاَلْغَرمِينَ)
الَّذِينَ لا يفِي مالُهم بدَيْنِهِم.
(1/600)
(هوَ أُذُنٌ)
أيْ: صاحبُ أذنٍ يصغِي إلى كلِّ أحدٍ.
وقيلَ: أذنُ أيْ: لا يقبلُ إلا الوحيَ.
(قُل أُذُنُ خَيرٍ)
أي: يستمعُ للخيرِ ويعملُ بِه.
(ويؤمن للمؤمنين)
يصدقُهُم. كقولِه: (رَدِفَ لَكُم).
وقيلَ: إنَّه لامُ الفرقِ بينَ إيمانِ التصديقِ وإيمانِ
[الأمان].
(ورحمةٌٍ).
(1/601)
عطفٌ على (أُذُنُ [خيرٍ) أيْ: مستمعُ خيرٍ
ورحمةٍ.
ورفعُه على تقدير]: أيْ قُلْ: هُوَ مستمعُ خيرٍ وُهوَ رحمة.
كقوله:
(وما أرسلناك إلا رحمة ً للعالمين)
وقيلَ: إنَّ معنَاُه ذُو رحمةٍ.
(يُحادِدِ اللهَ)
يكونُ في حدٍّ غير حدِّهِ.
(وخضتم كالذي خاضوا)
إشارةٌ إلى ما خاضُوا فيه.
(1/602)
وقيلَ: أرادَ كالذينَ خاصوا، فحذف النونَ
تخفيفاً لطولِ الاسم بِالصلةِ.
كمَا قالَ الأشهبُ بنُ رميلةَ، شعر:
484 - إِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفلْجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ
القَوْمُ كلُّ القَوْم يِا أُمَّ خَالدِ
485 - هُمُ ساعدُ الدَّهرِ الذَّي يُتَّقَى بهِ ... وما خيرُ
كَفِّ لَمِ يُؤيََّدْ بِسَاعِدِ.
(ورضوانٌ من الله أكبرُ)
منْ جميعِ النِّعَم، سرورُ المؤمنُ بما يتحَققُهُ مِنْ رضوانِ
اللهِ أكبر مِنْ جميعِ
النِّعَمِ.
(1/603)
وروَى معاذٌ عَن النبيِّ عليهِ السلامُ:
"إنَّ جنةَ العدنِ مِن السماءِ العليا
لا يدخلُها إلا نبيٌّ أَوْ صديقٌ أو شهيدٌ، أَوْ إمامٌ عدلٌ أو
محكمٌ فِي نفسِه.
وجنّةُ المأْوَى في السماءِ الدُّنيا يأْوِي إليَها أرواحُ
المؤمنينَ.
(1/604)
(يحلفون بالله)
في الجُلاَسِ بنِ سويدِ بنِ الصامت قالَ: إنْ كانَ قولُ محمدٍ
حقاً لنحنُ
شرٌّ مِن الحميرِ، فَرُفِعَ ذلكَ للنبيِّ عليهِ السلامُ، فحلفَ
أنَّه لم يقلْ.
(وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَهُمُ اللهُ)
وذلكَ أنَّ مولَى للجُلاَسِ قُتِلَ، فأمرَ لَهُ النبيّ عليهِ
السلامُ بديتِه، فاستغنَى
بها.
(فأعْقَبَهُمْ نِفَاقاً)
(1/605)
أيْ: بخلُهم بحقوقِ اللهِ، إلى يوم
يِلقَونَ بخلَهُم.
وقيلَ: أعقبَهُم الله ذلكَ بالخذلانِ وحرمانِ التوبة.
وقيلَ: معناهُ جازَاهُم ببخلِهم وكفرِهم. كمَا قالَ النابغةُ:
486 - فَمَنْ أَطَاعَ فَأَعْقبهُ بِطَاعَتِهِ ... كمَا
أطَاعَكَ وَدلِّلْهُ علَى الرُّشْدِ
(الذين يَلْمِزُون المُطَّوِّعِينَ)
ترافدَ المسلمون بالنفقاتِ في غزوةِ تبوك على أقدارِهم، فجاءَ
علبةُ بنُ زيدٍ
الحارِثيُّ بصاعٍ مِن تمرٍ، وقالَ: إنِّي أجَّرْتُ نفسِي
بصاعَيْنِ ذهبتُ بأحدِهما
(1/606)
لعيالِي وجِئْتُ بالآخرِ صدقة. فسخرَ منهُ
المنافقونَ.
(1/607)
(إن تستغفر لهم سَبْعِينَ مَرَّةً)
جاءَ على المبالغِة دونَ التقدير؛ لأنَّ السبعةَ أكملُ
الأعدادِ؛ لأنها [جمعَتْ]
معاِنيَ العددِ كلِّه، لأن العددَ كلَّه أزواجٌ وأفرادٌ،
والأزواجُ منها أولُ وثاِني،
والثلاثةُ أولُ الأفرادِ، والخمسةُ فردٌ تالٍ، فإذَا جُمِعَ
فردٌ أولٌ إلى زوجٍ ثانٍ، [أو]
زوجٌ [أولٌ] إلى فردٍ ثانٍ كانت سبعةً.
يبينُ ذلكَ أنَّ الستةَ لأولُ عددٍ تامٍ، لأنَّه إذَا جُمِعَتْ
أجزاؤُها كانت مساويةً
لهَا؛ لأنَّّ لهَا نصفاً وهُوَ ثلاثةٌ، [وثلثاً] وهُو اثنانِ
وسدساً وهُوَ واحد. فإذَا
(1/608)
جُمِعَتْ هذِه الأجزاءُ كانَتْ ستةً سواءً.
ثمَّ أُخِذَ الواحدُ الَّذِي هُوَ أصلُ العددِ معَ
الستةِ التِي هيَ عددٌ تامٌ، كانت منهُمَا السبعةُ. وكانَت
[عدداً] [كاملاً] لأنَّه
ليسَ بعدَ [التمامِ] إلاَّ الكمالُ.
ولعلَّ واضعَ اللغةِ سمَّى الأسدَ بالسبعِ؛ لكمالِ قوتِه، كمَا
سمَّاهُ أسداً
لإسآدِهِ فِي السيرِ.
فإذَا ثبتَ هذا، فسبعينَ مرةً فِي الآيةِ يكونُ غايةَ الغايةِ
وكمالَ النهاية؛ لأنَّ
الآحادَ غايتُها العشراتِ، فكأنَّ المعنَى إنَّ الله لا يغفرُ
لهمُ وإنْ استغفرْتَ أبداً.
وهذا هُوَ الجوابُ عنْ قولهِ: (وَفُتحَت أَبْوابُهَا).
(وَثَامِنُهُم كَلْبُهُمْ)
فإنَّ واوَ الثمانيةِ واوُ الاستننافِ! لأنَّ الشيءَ إذَا
انتهَى إلى كماِله وجبَ
استئنافُ حاِله.
(1/609)
(خِلافَ رَسُولِ الله)
أيْ: على مخالفتِه.
وقيلَ: بعدَهُ وخلفَه. كمَا قالَ الهذليُّ:
487 - [فإِنْ] تَبْكِ فِي رَسْم اِلدِّيارِ فإِنَّها ...
دِيَارُ بَنِي عَوْفٍ وهَلْ عَنْهُمُ صَْبرُ
(1/610)
488 - فمَا كُنْتُ أَخْشَى أَنْ أَعِيشَ
خِلَافَهُمْ ... بِسِتَّةِ أَبْيَاتٍ كمَا نَبَتَ [الِعتْرُ]
(ولا تصلِّ على أحدٍ منهم)
فِي عبدِ اللهِ بنِ أبي بنِ سلولٍ.
(الخَوَالِفِ)
النساءِ والصبيانِ لتخلِفهِمْ عَن الجهادِ.
(1/611)
(وجاء المُعَذِّرُونَ)
أي: المقصرُونَ الذينَ يظهرونَ عذرَهُمْ ولا عذرَ.
يقالُ. أعذرَ فِي الأمرِ: بالغَ، وعذَّر: قصَّرَ.
489 - وإنْ شَلَّ رُعْيَانُ الجميع مخافةً ... يَقولُ جِهاراً
وْيَلكُمْ لا تُنَفِّرُ [و]
490 - علَى رِسْلِكُمْ إنَّا سنعدِي وَراَءكُمْ ... ونعذُرُ
إنْ يكُنْ سَِوانَا يَعذُر
(الأعراب أشدُّ كفراً)
أيْ: أهلُ البدوِ لمِاَ فِيهِم مِنْ [جفاءِ] الطبعِ وقسوِة
القلبِ.
(الدَّوَائِرَ)
دولُ الأيام وِنوبُ الأقسامِ.
(1/612)
(قُرُباتٍ عند الله وصلواتِ الرَّسُولِ)
عليهِ السلامُ. أيْ: يتخذُ نفقَتَهُ ودعاءَ الرسولِ قربةً إلى
الله.
(والذين اتَّبَعُوهُم بإحْسَانٍ)
مَنْ تبِعَهُمْ مِن الصحابة.
وقيلَ: مِن التابعينَ.
(مَرَدُوا عَلىَ النِّفَاقِ)
مرنُوا عليهِ وتَجَرَّدُوا عَنْ غيره.
(سَنُعَذِّبُهُم مَرَّتَيْنِ)
فِي الدُّنيا بالجوِع والخوفِ وفِي القبرِ بالعذابِ.
(1/613)
وقيلَ: أحدُ العذابينِ أخذُ ماِلهم فِي
جهازِ الحربِ، والثانِي أمرُهم
بالجهادِ.
(وآخرون اعترفوا)
فِي نفرٍ تخلَّفُوا عَنْ تبوك.
(عَسَى اَللهُ)
خرجَ مخرجَ الإطماعِ والإشفاقِ ليأملُوا ولا يتكلُوا.
(إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لهم)
تثبيتٌ، يسكنونَ إليَها ويعلمونَ أنَّ توبتَهم قُبِلَتْ.
(مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللهِ)
مؤخرون محبوسونِ لِمَا ينزلُ مِن أمرِ اللهِ.
(1/614)
وهُم الثلاثةُ الَّذِينَ خلفُوا: هلالُ بنُ
أميَة. ومرارةُ بن الربيع، وكعبُ
ابنُ مالكٍ.
(والذين اتخذوا مسجدهم ضِراراً)
ابتداءٌ، وخبرُه (لا تَقُمْ فيه أبداً).
وكانُوا نفراً مِنْ منافِقي الأنصار بنُوا المسجدَ ليتفردُوا
بنجَواهُم الملعونةِ.
(1/615)
وقيلَ: إنَّ أبَا [عامرٍ] الراهبَ راسَلهُم
مِن الشام أِنْ يأتيُهم فبنَوا
مسجدَهُم إرصاداً لَهُ.
(وتفريقاً بين المؤمنين)
بأَنْ يصلِّي فيهِ قومٌ، وقومٌ فِي مسجدِ رسولِ اللهِ فبعثَ
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عاصمَ
بن عدي فهدَمَهُ وأحرَقَهُ.
(لمسجدٌ أُسِّسَ على التقوى)
(1/616)
يعنِي مسجدَ رسولِ الله.
وقيلَ: مسجدَ قباءَ، فإنَّه أولُ مسجدٍ بُنِيَ فِي الإسلامِ.
(1/617)
(شَفَا جُرُفٍ)
شفيرِ الوادِي، الذِي جرَف الماءُ أصلَه، فبقيَ واهياً لا
يثبتُ عليهِ البناءُ.
وَ (هَارٍ).
مقلوبُ هائرٍ، أَيْ: ساقطٍ.
وذهبَ ابنُ جنِّي: أَنَّ [تيهورةً]-وهيَ قطعةٌ مِن الرمل-
مقلوبة [هيوورَةٍ]
منْ هارَ الجُرُفُ وانهارَ.
وعن الشيباِنيِّ: ناقةٌ هايرٌ وهائرٌ إذَا سارَتْ أسرَعَتْ
كالجرفِ الهائر.
(1/618)
وأنشدَ الحامضُ:
491 - وتَحْتِي مِنْ بَنَاتِ العيد هارٍ ... اَضَرَّ بِطَرقِهِ
سَيْرٌ هجاجُ
492 - حَروجُ الِمنْكَبَيْنِ منَ المطَاَيا ... إذَا ما قِيلَ
لِلشُّجْعَانِ: عاج
وفِي معنَى الآيةِ قولُ الشماخِ:
493 - ولمَّا رَأَيتُ الأَمرَ عَرْشَ هَوَيَّةٍ ...
تَسَلَّيْتُ حَاجَاتِ النُّفُوسِ بشِمَّرَا
ومثلُه:
(1/619)
494 - سَاقِي عرْيجَاءَ على أهوالِ
495 - إِذَا تَتَنَزَّى فوقَ عرشٍ بالِ
(رِيبةً في قلوبهم)
خيانةً بِما أضمرُوه مِنْ تفريقِ كلمة رسولِ اللهِ.
وقيلَ: شكاً بسببِ ماراسلَهم فيهِ أبو عامرٍ، وفيهِ قول
النابغةِ:
496 - حَلفْتُ فلَم أَترُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... ولَيْسَ
وَراء اللهِ للمَرْءِ [مَذْهبُ]
497 - لَئِنْ كُنت قَدْ بُلِّغْتَ [عَنِّي] خِيَانَةً ...
لَمُبلِغُكَ الَواشِي أَغَشُّ وأَكذَبُ
(إنَّ الله اشترى)
هذا مجازٌ، لأنَّه إنَّما يشترِي مالاً يملكُه، ولكن المعنَى
تحقيقُ العوضِ فِي
النفوسِ.
(1/620)
(وَعْداً عليه)
نَصَبَ (وَعْداً)؛ لأنَّ قولَه: (اشترى) يدلُ على أنَّه وعدَ
وعداً. بَل
الوعدُ هو حقيقهُ المرادِ.
(حقّاً)
[أي]: واجباً؛ لأنَّه صارَ كالجزاءِ، وإلاَّ فقَدْ يكونُ فِي
الوعدِ ما ليسَ
بواجبٍ، وهوَ -وإنْ كانَ أوجبَهُ تعالى على نفسِه- تفضلٌ منه
علينَا.
(السائحون)
الصائمونَ. وقالَ عليهِ السلاُم: "سياحةُ أُمَّتي الصومُ".
وقيلَ: المهاجرونَ.
(1/621)
وعن عكرمةَ: أنَّهم الذينَ يسافرون فِي
طلبِ العلم.
(إلا عن موعدةٍ وعدها إياه)
كانَ أبرهُ وعدَه أنْ يؤمنَ [فـ]ـكانَ استغفارُه على هذا
الوجهِ أنْ يرزقَه
الإيمانَ ويغفرَ لهُ الشركَ.
(1/622)
(فلما تبين له أنه عدوٌّ لله)
بموته على شركِه.
(تبرأ منه)
أيْ: مِن أفعاِله.
وقيلَ: مِنْ استغفاِره لَهُ على هذا الوجهِ.
(لقد تاب الله على النبي والمهاجرين)
أمَّا على النبيِّ فلإذنِه المنافقينَ فِي التخلفِ عنْهُ.
وقيلَ: هوَ مفتاحُ كلامٍ لَما كانَ النبي سببَ توبتهم ذُكرَ
معَهُم. كقوله:
(فأنَّ لله خمسه).
(الذين اتبعوهم في ساعة العُسرة)
أيْ: وقتِ العسرةِ إذ كانُوا منْ غزوةِ تبوك في جهدٍ جهيدٍ منْ
العطش
وعوزِ الظهرِ.
(1/623)
(وَضَاقَت عَليهم أنفسهم)
أيْ: الذين خُلِّفُوا مِن النبوة والجفوةِ، حتَّى أمرَ نساءهُم
باعتزالِهم.
ونهَى الناسَ عَنْ مكالمتِهم.
(ثم تاب عليهم ليتوبوا)
ليدُوموا على التوبة.
وقيلَ: ليتوبَ الناسُ.
(وما كان المؤمنون لينفروا كافَّةً)
لمَّا نزلَتْ: (إِلا تنفروا يعذبكم) قالَ المنافقونَ: [هلكَ]
الَّذِينَ لمْ
(1/624)
ينفرَوا معه، وكانَ ناسٌ مِن الصحابةِ
خرجُوا إلى قومِهم يفقهونَهُم ويعلمونَهم
الشرائعَ فنزلَتْ هذِه.
(عزيزٌ عليه ما عنتم)
شديدٌ عليهِ ما شقَّ عليكُم.
وقيلَ: ما هلَكتمُ عليهِ.
وقيلَ: ما أثِمْتُم به.
[تمت سورة التوبة]
(1/625)
|