باهر البرهان فى معانى مشكلات القرآن

سورة الأنفال
قالَ ابنُ عباسٍ: لمَّا كانَ يومُ بدرٍ، قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من صنعَ كذَا فلَهُ
كذَا فتسارعَ إليهَا الشبّانُ، ثُمَّ أرادُوا استصفاءَ الغنيمةِ لهُمْ. فقالَ الشيوخُ: لاَ
تستأثرُوا علينَا فإنَّا كنَّا لكُمْ ردْءاً فنزلَ:
(يسألونك عن الأنفال) الآية.
وعنْ عبادة بن الصامت قالَ: فينَا نزلَ معشرَ البدريين حينَ اختلفنَا في
النَّفَلِ، من حارسٍ لرسولِ اللهِ، ومن محاربٍ، وساءَتْ فيهِ أخلاقُنا، فنزعَهُ اللهُ

(1/553)


منْ بينِ أيدينَا، وجعلَهُ إلى رسولِ اللهِ فقسمَهُ بيننَا عنْ بواءٍ، أَيْ: سواءٍ.
وأنَّثَ (ذَاتَ بينكم) [إِذْ] أرادَ حالَ بينِكم، أو ألفةَ بينِكم، قالَ خواتُ
بنُ جبيرٍ الأنصاريُّ:
448 - وَأهلُ خِبَاءٍ صَالحٍ ذَاتُ بينهِمْ ... قَد احْتَرَبُوا في عاجلِ أنَا آجِلُهْ
449 - فَأقْبَلْتُ فِي الساعِينَ أسألُ عَنْهُم ... سؤاَلكَ [بالشَّيءِ] الَّذِى أَنْتَ جَاهِلُهْ

(1/554)


(كما أخرجك ربك)
أي: جعلَ الظَّفَرَ والنَّفلَ لكَ كمَا أخرجكَ عنْ وطنِك فِي طاعتِه وبعضُهم
كارهونَ.
(كأنما يساقون إلى الموت)
لعدُولهِ عليهِ السلامُ [عن العيرِ إلى النفيرِ].

(1/555)


(وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم)
لما أقبلَتْ عيرُ قريشٍ من الشام معَ أبِي سفيانَ، سارَ إليها رسولُ اللهِ
فخرجَتْ نفيرُ قريشٍ وهُمْ ذاتُ الشوكةِ إليَها.
(لِيُحِقَّ الحقَّ)
ليظهرَهُ لكُمْ لأنَّه لمْ يكنْ كذلكَ.
(مُردفين)
تابعين، رَدِفَ وأردفَ: تَبِعَ، قال خزيمة بنُ نهدٍ:
450 - إذَا الجوَزاءُ أَردَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظَنَنْتُ بآلِ فاطمةَ [الـ]ـظُّنُوَنا
451 - ظَنَنْتُ بها وظَنُّ المرءِ حُوبٌ ... وإِنْ أَوفَي وإنْ سكنَ [الحُجُوَنا]

(1/556)


ويجوز (مُردِفِينَ): [مجرورةً] على الوصفِ للألفِ، ومنصوبة على
الحالِ مِن الملائكةِ، وأمَّا [الجرُّ] فعلى الوصفِ للألفِ، أي: أردفَ بعضُهم
بعضاً، فكانُوا زمراً زمراً.
(إذ يُغَشِّيكُمُ النُعُاسَ آمَنَةً)
كمَا يقالُ: إنَّ الأمنَ منيمٌ والخوفَ مسهرٌ، فثبَّتَهم اللهُ بالأمنِ المنيم،
واستجمَّ بالنوم قِواهُم وأرسلَ عليهم غمامةً طهَّرَتْ أبدَانَهم مِن الأحداثِ،
وقلوبَهم مِنْ وساوِسِ الشيطانِ وقنوطِه، واستجلدَ بِها الأرضَ، وتلبَّدَ الرملُّ
حتَّى ثبتَتْ الأقدامُ.

(1/557)


(سأُلقي في قلوب الذين كفروا الرعبَ)
قالَ المنهزمون منهم: انهزمْنَا ونحنُ [نحشُّ] فِي قُلُوبِنَا كوقعِ الحصى فِي
الطِّسَاس.
(فوق الأعناق)
أي: الرؤوس.
وقيلَ: [على] الأعناق.
(كُلَّ بَنَانٍ)

(1/558)


مَفْصِلٍ، منْ قولِهم: أَبَنَّ بالمكانِ إذَا أقامَ بِه، فكلُّ مَفْصِلٍ أُقيمَ عليهِ

عضو.
(ذلكم فذوقوه)
اعتراضٌ.
(وأن للكافرين عذابَ النار)
عطفٌ على (ذلك بأنهم شاقُّوا اللهَ)
وقالَ: فذوقُوه؛ لأنَّ الذائقَ أشدُّ إحساساً بالطعم مِن المستمرِ على الأكلِ،
فكأنَّ [حالَهم] أبداً حالُ الذائقِ في إحساسِهم العذابَ.
(زَحْفاً)
قريباً.
(مُتحيزاً)
طالبَ حيِّزٍ يقوَى بِه.

(1/559)


(وما رميت)
أخذَ - صلى الله عليه وسلم - قبضةً منْ ترابٍ فحثَاهُ فِي وجوهِهِم، وقالَ: شاهتَ الوجُوُه،
فكانَت الهزيمةُ.
(وليبلي المؤمنين منه بلاءً حَسَناً)
أيْ: ولينعمَ عليهِنم نعمةً عظيمة.
(إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتحُ)
نزلَتْ فِي المشركيَن استنصرُوا يومَ بدرٍ، وقالُوا: مَنْ كانَ أقطعَنا للرحمِ
وأظلمَنا فانصرْ عليهِم.

(1/560)


(لأسْمَعَهُمْ)
أيْ: كلامَ الَّذينَ طلبُوا [إحياءهم] مِنْ قصيِّ بنِ كلابٍ وغيرِه.
وقيلَ: هوَ فِي دلائلِ الله وآياتِه. أيْ: لو علمَ الله أنَّهم يصلحُونَ يها
لأسمعَهُمْ إيَّاهَا.
(يحولُ بين المرءِ وقَلْبِهِ)

(1/561)


أيْ: بالوفاةِ وغيرِها مِن الآَفاتِ فلاَ يمكنُه تلافِي ما فاتَ.
وقيلَ: يحولُ بينَ المرءِ ومَا يتمنَّاه بقلبِه مِنْ طولِ العمرِ والأملِ ودوامِ
الدنيَا.
452 - يَؤَمِّلُ دُنيَا لِتَنقَى لَهُ ... فوافَى المَنِيَّةَ دونَ الأَملْ
وفي معنَى القولينِ، أنشدَ أبُو عمروٍ:
453 - تَراه يُرَوِّي أُصُولَ الفَسِيلِ ... فعاشَ الفَسيلُ وماتَ الرَّجُلْ
وقيلَ: معنى الآيةِ: حولُه تعالَى بيَن القلبِ وما يعزمُ عليهِ
وفي معناهُ:
454 - ما القلبُ إلَّا ما أَنشاهُ فِي حُجُبٍ ... وحقُّهُ بِمُنَى تقوىَ وآمالِ

(1/562)


455 - تَقوَى بَقلبِكَ أوطاراً وينْقُضُها ... ُمقَلِّبُ القَلْبِ من حالٍ إلى حالِ
وقدْ رُوِيَ عنِ النبي عليهِ السلامُ أنَّ معنَاهَا: "ما يحولُ بِه بيَن المؤمنِ
والمعاصِي مِنْ إِصلاحِهِ للقلوبِ". وَفِي معنَاهُ:
456 - أقولُ والنّفْسُ سَكرَى في تحيّرِها ... ياذَا المعارِج أِوْضِحْ كُلَّ مُشْتبَهِ
457 - أَنْتَ الطَّبيبُ لأَدْوَاءِ القُلُوبِ فيَا ... طَبِيبُها دَاوِ قلْبِي مِنْ تَقَلُّبِهِ
(لا تصيبن الذين ظلموا)
في معنَى النَّهي لا [الخبِر]، لتكونَ الفتنةُ خاصةً بالظالمينَ. ولوْ كانَ تأويلُ

(1/563)


الآيةِ عمومَ الفتنةِ لقالَ: "لا تصيبُ الَّذينَ ظلمُوا منْكمْ خاصةً".
وقالَ الكساِئيُّ: هُوَ نهيٌّ فِي معنَى الجزاءِ، مثلُ قوِلكَْ اِنزلْ عن الدابةِ لاَ
يطرحنَّكَ. ولو كان جزاءً خالصاً ما دخَلتْهُ النونُ، كقولِكَ قُمْ أضربْكَ.
(تخافون أن يتخطفكم الناس)
المؤمنونَ فِي أوّلِ الإسلام.
وقيلَ: قريشٌ وكانُوا قليلاً أيامَ جرهُمٍ. وخراعةَ.
(يجعل لكم فرقاناً)

(1/564)


مخرجاً.
وقيلَ: فتحاً لقولهِ: (يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)
(ليُثْبِتُوكَ)
أي: فِي الوثاقِ والحبسِ.
وقيلَ: يثخنوكَ. رماهُ فأثبَتَهُ.
(أو يخرجوك)
قالَ أبو البُخْترِي: [نخرجُه] على بعيرٍ شرودٍ، يُطْرَدُ حتَّى يهلكَ.

(1/565)


وقالَ أبوُ جهلٍ: تجتمعُ عليهِ القبائلُ فلاَ يقاومُهُمْ بنُو هاشمٍ فيرضَوْنَ
بالديةِ، فحينئذ خرجَ إلى الغارِ وهاجرَ.
المُكَاُء: صوتُ الُمكَّاءِ، شبَّهَ الصفيَر بهِ لشدةِ صوِتها.
قالَ القَطَامِيُّ:
458 - قَفْرٌ يَظَلُّ مكَاكِيُّ النَّهَارِ به ... كأَنَّ أصواتَها أصواتُ نُشَّادِ
والتصديةُ: التصفيقُ.

(1/566)


وقيلَ: تصديةٌ عَن البيتِ، مِنْ صَدَدَ يصدُدُ، فأبدلتْ الدَّالُ ياءً كمَا في
التظنّي، وَ:
459 - تَقضِّيَ البَارزِّي ..... .....
وقيلَ: إنَّه منْ صَدَدَ يَصِدُّ إذَا ضَجَّ [كقولهِ]: (إذا قومُك منه
يَصِدُّون).
(فَيَرْكُمَهُ)
[يجعلَ] بعضَهُ فوقَ بعضٍ كالرَّملِ الرُّكَام وِالسَّحاب الركامِ.
(فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ)

(1/567)


أيْ لبيتِ الله، وكانَ رسولُ الله يضربُ يدَهُ فِي خمسِ الغنيمةِ، فيأخذُ منْهُ
قبضة للكعبة.
وقيلَ: سهمُ اللهِ وسهمُ الرسولِ واحدٌ. وذكرُ اللهِ لتشريفِ السَّهمِ، أوْ
لافتتاح الذكر.
الَعُِدْوةُ: شفيرُ الوادِي، بضمِّ العينِ وكسرِها وفتحِها.

(1/568)


(والرَّكبُ أسفل منكم)
أبُو سفيانَ وأصحابُه.
(ولو تَوَاعَدتُّمْ)
أيْ: من غيرِ عونِ اللهِ وإرادتِه (لاختلفتم)، (ولكن ليقضي الله)
وقد اقتبسَهُ أبُو غالبٍ الواسطيِّ:
460 - لمَّا رأَيْتُ سُلُوِّي غيرَ مُتَّجِهٍ ... وأَنْ غَرْبَ اصْطِبَارِي [عادَ مَفْلُولا]
461 - دَخَلْتُ بالرَّغْم مِنِّي تَحْتَ طَاعَتِكِمْ ... لِيَقضيَ الله أمرًا كانَ مَفعوَلا
(ويحيى من حَيَّ)

(1/569)


كانَ حَيِيَ يحيَى، مثلُ: عِلمَ يَعلمُ، وقد قُرِئَ بِها، إلا أنه شَدَّدَ الياءَ
تخفيفاً كمَا قالُوا: عيَّ بأمرِه، ألاَ ترَى أنَّ مِن العربِ مَنْ يقولُ: عَلْمَ زيدٌ،
يعنِي عِلمَ تخفيفاً فِيما ليس بِمِثْلَيْنِ، فأولَى فِي المثلينِ.
(في مَنَامِكَ قَلِيلاً)
في عينِك؛ لأنَّها موضعُ النَّومِ، كالمقام موضعَ الإقامةِ.
وقيلَ: إنَّه رؤَيا النَّوم [لتجرِئَةِ] المسلمينَ.
(ويُقَلِلُكُمْ في أعْيُنِهِمْ)
لئلاّ يستعدُّوا لَكُمْ.
(وَتَذهَبَ ريِحُكُمْ)

(1/570)


دولتُكُمْ، انشد أبو عبيدٍ لضرارٍ بن الخطَّابِ:
462 - قَدْ عُوِّدُوا كُلَّ يَوْمٍ أنْ تَكُونَ لَهم ... رِيحُ الِقتَالِ [وَأَسْلابُ] الَّذِينَ لَقُوا
(نَكَصَ على عَقِبَيْهِ)
رجعَ القهقرَى ذليلاً خاسئاً.
(تَثْقَفَنَّهُمْ)
[تجدنَّهم]، وأصلُه: [إدراكُ] الشيءِ والأخذ منْهُ، ومنهُ تثقيفُ
السهام. قالَ العامليَّ:
463 - وقَصِيدَةٍ قَدْ بِتُّ أَجْمَعُ بَينَها ... حتى أُقَوِّمَ مَيلَها وَسِنَادَها

(1/571)


464 - نَظَرَ المُثَقِّفِ فِي كُعُوب قِناتِهِ ... حتَّى يُقِيَم ثِقَافُه مُنْادَهًا
(فَشَرِّدْ بهم منْ خَلْفَهُمْ)
نكِّل بِهم تنكيلاً يشرُّد غيرَهم ويخوفُهُمْ.
(وإمَّا تخافَنَّ)
أي: إنْ خِفتَ. ونحنُ نُنْكِرُ "مَا" أَو غيرَها تجيُء زائدةً فِي القرآن.
فالمعنَى ها هنا: نقلُ الفعلِ مِن الماضِي إلى المستقبلِ معَ ما حدَثَ مِنْ حسنِ
اللفظ بالغنَّةِ الَّتِي يحدثُها اجتماعُ "إِنْ" معَ "الميم".
(فانبِذْ إليهم)
فألقِ إليهِم حديثَ [الحرب].
(على سواءٍ)

(1/572)


على استواءٍ فِي العلم مِنكَ ومنهُم.
وعنْ هذَا كانَتْ ألفاظُ السواء [والسوَى] والعدلِ والوسطِ والقسطِ
والقصدِ والنصفِ متقاربةَ المعاِني.
(وآخرين من دونهم)
بنُو قريظةَ.
وما [قبلُ]: بنُو قينقاعٍ.
(وألَّفَ بين قلوبهم)
يعنِي الأوسَ والخزرجَ وكانُوا يتفانوُنَ فِي الحروبِ.
(ما كان لنبيٍّ أن تكون له أسرى)

(1/573)


فِي أسارَى بدرٍ حيَن رأَى النبيُّ عليهِ السلاُم فيِهم الفداءَ، بعدَ شُورَى
الصحابة.
(حتى يُثْخِنَ)
[يكثرَ] مِن القتلِ.
ومتاعُ الدنيَا عرضٌ، لقلةِ بقائِه وَوَشْكِ فنائِه.
(لولا كتابٌ من الله سبق)
أنه لا يعذبُ إلا بعدَ مظاهرةِ البيان.
وقيلَ: إنَّه ستحلُّ لكُم الغنائمُ.

(1/574)


(فِي قُلُوبِكم خَيراً)
أيْ: بصيرةً وإنابةً.
(يؤتكم خيراً مما أُخِذَ منكم)
من الفداءِ، نزلت فِي العباسِ حينَ فدَى نفسَهُ وابنَي أخِيهِ عقيلاً ونوفلاً.
قالَ العباس: فآتانِي اللهُ خيراً منهُ مالاً كثيراً، منها عشرونَ عبداً، أدناهُمْ
يضربُ [بعشرينَ] ألفِ دينارٍ.

(1/575)


(من ولايتهم)
الاجتماعُ على التناصرِ والتصافِي.
(ورزقٌ كريم)
طعامُ الجنةِ لاَ يستحيلُ نجواً، بَلْ كالمسكِ رشحاً.
[تمت سورة الأنفال]

(1/576)