تفسير الإمام ابن عرفة

الم (1)

قوله تعالى: {الم}
قال ابن عطية: اختلف في الحروف التي في أوائل السور فقال الشعبي وسفيان الثوري وجماعة: إنّها من المتشابه الذى انفرد الله بعلمه.
قال ابن عرفة: قال الفخر في المحصول: اختلفوا هل يرد في القرآن ما لا يفهم أو لا على قولين؟

(1/109)


قال (السراج) : في اختصاره إنما ذلك في الألفاظ الحادثة (وأما) الكلام القديم الأزلي فمجمع عليه.
قال ابن عرفة: وهذا لا يحتاج إليه إلاّ لو قال: اختلفوا هل يصح أن يرد في القرآن اللفظ المهمل الذي لا معنى له؟ وقوله: ما لا يفهم دليل على أنه عنده معنى ودلالة لم تفهم.
قال ابن عطية: (والجمهور) على أن لها معاني اختلفوا فيها على اثني عشر قولا.
قال ابن عرفة: اعلم أن قول الصحابي إذا كان مخالفا للقياس هو عندهم من قبيل المسند لأن التجاسر (على) التفسير بمثل هذا

(1/110)


لا يكون إلا عن توقيف من نصّ أو إجماع. وقال قوم: هو بحساب (أبجد) (دليل) على مدة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وذكر السهيلي في الروض الأنف حديثا استخرج منه المدة ومن أوائل السور وأسقط المتكرر من الحروف.
وقال قوم هي أمارة على أن الله تعالى وعد أهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتابا في أول كل سورة منه حروف مقطعة.
قال ابن عرفة: يقال له: ما معنى تلك الحروف؟ (فلم يزل) الإشكال فيها، (وهذه الم مبنية على الوقف) .
فإن قلت: إنما تكون موقوفة قبل الترتيب مثل: واحد - اثنان - ثلاثة - إذا أردت مجرد العَدَدِ (وهذه) جزء كلام (وقع) الإسناد (فيزول) الوقف (ويعرف) .
قال: (في) الجواب (إنها) محكية مثل سائر الأسماء المحكية.

(1/111)


ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)

قوله تعالى: {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ}
أورد الزمخشري هنا سؤالا قال: الإشارة بذلك للبعيد وهو هنا قريب. وأجاب بأن المراد القرب المعنوي.
قال ابن عرفة: السؤال غير وارد لأنه أجاب في غير هذا الموضع في قوله تعالى {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} وفي قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} لأن الإشارة بلفظ (البعيد) للقريب على سبيل التَّعظيم وهو معنى (يذكره) البيانيون.
قال: وعبر عنه باسم الإشارة دون ضمير الغيبة تنبيها على أنه كالمحسوس المشار إليه فهو دليل على عظمته في النفوس.
وقوله تعالى: لاَ رَيْبَ فِيهِ: إما خبر في هذا معنى النهي وإما خبر على بابه والمراد إما نفي وقوع ذلك حقيقة. فيكون عاما مخصوصا بمن ارتاب فيه، أو المراد لا ينبغي فيه ريب أي ليس بأهل لأن يرتاب فيه (أحد) .
قال: ومن الناس من يقف على (لاَ رَيْبَ) وكان بعضهم يتعقبه بأن فيه شبه تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه، ومنهم من وقف

(1/112)


على {لاَ رَيْبَ فِيهِ} (وعادتهم بأنهم يصوّبونه بأنه يبتدئ) بقوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، (فجعله) خبر مبتدإ مضمر، أي هو هدى فيكون القرآن كله (هُدى) أي هو نفس الهدى، فهو أبلغ ممن جعل الهدى فيه.
فإن قلت: أخر المجرور هنا وقدمه في قوله: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} {وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} (فالجواب) أن المراد نفي الرّيب بالإطلاق. فيتناول جميع الكتب من التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فليس نفي الريب خاصا بالقرآن فقط بل هو (عام) بخلاف ما لو قيل لا (فيه ريب) ، (لأوهم) خصوص النفي به وبخلاف: {وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فإنّ الغشاوة خاصة بأبصارهم دون أبصار المؤمنين.

(1/113)


الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

قوله تعالى: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب ... }
(قال ابن عرفة) : الغيب ما (لم) يَنصبّ عليه دليل (فَمِنَ) الناس من أجاز النظر في علم النجوم وعلم الهيئة والكسوفات.

(1/113)


وقال أبو العز المقترح في عقيدته: أجمعوا على أن النظر في علم الهيئة محرم.
قال ابن عرفة: إنما ذلك إذا نظر (فيه) للحكم، أما إذا (نظره) ليعلم الكواكب (والنجوم) فجائز، لكن الاشتغال بالعبادة وتعلّم ما ينفعه أولى.
قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} .
قال القرطبي: الآية حجة على المعتزلة ويلزمهم الكفر في قولهم: إنّ لفظ الرزق لا يطلق إلا على الحلال لأن من تغذى من صغره إلى كبره بالحرام يلزمهم أن لا يدخل في عموم قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} قال ابن عرفة: يكون عاما مخصوصا (ان) سمّاه رزقا مجازا أو من باب التغليب باعتبار الأكثر فإنّ الأكثر حلال.
وقال غيره: هذا الخلاف لفظي لا يبنى عليه كفر أو إيمان.

(1/114)


وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

قوله تعالى: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ... }

(1/114)


قال الزمخشري: إن قلت إنْ عَنَى بما أنزل إليك كلّ القرآن فليس بماض وإن أراد بما سبق (إنزاله) منه فهو إيمان ببعض المنزل والإيمان بالجميع واجب.
(ورده) ابن عرفة: بأنه إنما يجب مع العلم بإنزال ما وسينزل منه. أما مع عدم العلم/ فلاَ يجب الإيمان إلا بما أنزل منه فقط. وأمّا ما لمْ يعلم في الحال بأنه سينزل (فلسنا) بمكلفين بالإيمان به.
وأجاب الزمخشري: أن المراد بالإيمان بالجميع، وعبر بالماضي تغليا لما أنزل على ما سينزل.
قال ابن عرفة: ويلزم على كلام الزمخشري استعمال اللّفظة الواحدة في حقيقتها ومجازها. وفيه خلاف عند الأصوليين.
قال ابن عرفة: أو يجاب بأن المراد إنزاله من اللّوح المحفوظ إلى سماء الدنيا وقد كان (حينئذ) ماضيا.
قال ابن عرفة: وعادة الشيوخ يوردون هنا سؤالا لم أره لأحد وهو هلا قيل: والذينَ يُؤْمِنونَ بما أنزل من قبلك وما أنزل إليك (فهو) الأَرْتَبُ ليكونَ الأَسْبَقَ في الوجود (متقدما) في اللّفظ؟

(1/115)


قال: وعادتهم يجيبون عنه بأن الإيمان بما أنزل على النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سبب في الإيمان بما أنزل من قبله، لأن المكلف إن آمن به يسمع القرآن المعجز والسنة المعجزة ويرى سائر المعجزات، فيطلع (من ذلك) على أخبار الكتب السّابقة وصحتها، فيؤمن بها إيمانا حقيقيا أقوى من إيمانه بها مستندا لأخبار اليهود وأخبار النصارى عنها:
قيل (له) : أو يجاب (عنه) : بأنه قدم لكونه أشرف وأحد أسباب تقدم الشرف.
قال: وهلا أخر ويكون (مترقيا) ؟
قوله تعالى: {وبالآخرة ... }
المنعوت إما النشأة الآخرة أو الدار الآخرة أو الملة (الآخرة) ، والموصوف لا يحذف إلا إذا كانت الصفة خاصة، وعموما (هذا) في نوع الموصوف فلا يمنع الخصوص.
قوله تعالى: {هُمْ يُوقِنُونَ}
إن قلنا: إن العلوم متفاوتة، فنقول: اليقين أعلاها. وإن قلنا: إنها لا تتفاوت في (أنفسها) ، فنقول: اليقين منها هو العلم الذي لا يقبل التشكيك (وغيره هو العلم القابل للتشكيك) وهو قسمان: بديهي، ونظري.

(1/116)


فالتشكيك في الأمور الضرورية البديهية غير قادح بوجه، والتشكيك في النظريات ممكن (شائع) . وبهذا يفهم اختلاف العلماء الذين هم مجتهدون فيصوب أحدهم قولا ويخطئه الآخر، (وقد) (أَلِفَ) الناس التشكيك على كتاب إقليدس في الهندسة.

(1/117)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)

قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ ... }
قال ابن عرفة: لما كان المخاطب في مادة (أن ينكر) مساواة (حالة) إنذارهم لحالة عدم الإنذار بل (نقول) : إنّها مظنة الانزجار والفلاح (والنجاح) احتيج إلى تأكيد المساواة بأن قال ابن عطية: قيل: (للزارع) كافر لأنه يغطي الحب ويقال: إذا غطى قلبه بالدين عن (الإيمان) أو غطى الحق بأقواله وأفعاله.

(1/117)


قال ابن عرفة: أما الأول فظاهر لأنّ الدّين يجامع القلب فيصح تغطيته إياه، واعتقاد الحق لا يجامع اعتقاد الباطل، بل هو نقيضه وستره (له) لا يكون إلا مع اجتماعه معه: والفرض أنه لا يجامعه وأما باعتبار الأفعال فظاهر.
قيل لابن عرفة: يصحّ اجتماعهما باعتبار اختلاف المتعلق؟
فقال: تحول المسألة وما (كلامه) إلا فيما إذا كان متعلق الكفر هو متعلق الإيمان، (فحينئذ) (تتعلق) التغطية.
قيل له: تكون التغطية مجازا، عبر به عن (معاندة) أحد الاعتقادين للآخر؟
فقال: إنما هو مخبر عن أصل العقيدة أي هذه اللفظة ممّاذَا هي مشتقة؟ فما حقه أن يأتي إلاّ الحقيقة اللّغوية، وأما المجاز فليس بأصلي.
واختلف الأصوليون في الألف واللام الداخلة على الموصول فقيل: إنها للجنس ويكون عاما مخصوصا كأكثر عمومات القرآن.
وقيل: إنها مطلقة فتكون للحقيقة أعني الماهية، فلا يحتاج إلى تخصيص، ويحتمل أن تكون للعهد.

(1/118)


ابن عطية: وقال الرّبيع بن أنس: (إنّ) الآية نزلت في قادة الأحزاب وهم أهمّ أهل القليب ببدر، وفي بعض النسخ وأهل القليب ببدر.
قال ابن عرفة: وهو الصحيح فإن غزوة الأحزاب متأخرة عن بدر، وأهل القليب ببدر قتلوا فلم يبق منهم أحد للأحزاب.
قال ابن عرفة: إلاّ أن يريد بالأحزاب الجماعة ولا يريد به الغزوة.
قال الإمام ابن الخطيب: والآية دليل على جواز تأخير البيان (عن) وقت الحاجة، فإنها لم (تبين) متعلقها.
ورده ابن عرفة بأنها ليس المراد بها التكليف (فيحتاج) إلى بيان وإنما هي تخويف وإنذار، والعموم أدعى (لحصول) التخويف من الخصوص.

(1/119)


قوله تعالى: {ءَأَنذَرْتَهُمْ ... }
أنكر الزمخشري هنا قراءة ورش وجعلها لحنا وكفره الطيبي. وظاهر كلام الطيبي هذا أن (السّبع) (قراءات) أخبار آحاد وليس بمتواتر.
قال ابن عرفة: وحاصل (كلام) (الناس) فيها أنها على وجهين: فأما ما يرجع إلى آحاد الكلم كملك

(1/120)


ومالك ويخدعون ويخادعون فهو متواتر اتفاقا من غير خلاف منصوص، إلا أن ظاهر كلام الدّاودي على ما نقل عنه (الأنباري) أنها غير متواترة. وأما ما يرجع إلى كيفية النطق بها من إعراب وإمالة وكيفية وقف ففيه ثلاثة أقوال:
الأول نقل (الأنباري) شارح البرهان عن أبي المعالي أنها متواترة وأنكره عليه وهو اختيار الشيخ أبي عبد الله محمد بن سلامة من أشياخنا.

(1/121)


(الثاني) أنّها متواترة عند القراء فقط (نقله المازري في شرح البرهان واختاره شيخنا ابن عرفة.
الثالث: أنها غير متواترة) قاله ابن العربي في العواصم والقواصم (والأنباري) وابن رشد في كتاب الصلاة الأول وفي كتاب (الجامع) الرابع من البيان والتحصيل.

(1/122)


قال ابن عرفة: وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق إبراهيم (الجزرى) وشيخنا القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد السلام وصاحبنا الفقيه أبي العباس أحمد بن إدريس (البجائي) .
ءَأنذَرْتَهُمْ: استفهام في معنى الخبر أو معنى المصدر أي إنذارك وعدم إنذارك سواء.
قال: (وسَوَاءٌ) مبتدأ وءَأَنذرْتَهُمْ إما فاعل وإما خبره (ويصح) أن يكون مبتدأ لأنه يكون الخبر أفاده المبتدأ، فلا فائدة (فيه) .
ورده ابن عرفة: بأنه يفيد التسوية إذْ لَعلّ المراد إنذارك وعدم إنذارك مختلفان.
قال ابن عرفة: والصواب أنه على/ حذف مضاف أي سواء عليهم جواب {ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} . ويكون استفهاما حقيقة لأن الاستفهام في قوله مجاز (والمصدر) يحتاج إلى (

(1/123)


أداة) (تصيّر) الفعل مقدرا بالمصدر وهو (بمنزلة) قول.
قيل: يشتمل على إنذار وجوابه (إمّا معه) أو قبله ولذلك هنا جواب (الأمرين) عندهم سواء.
قوله تعالى: {لاَ يُؤْمِنُونَ} .
هو احتراز لأنه قد يكون الاختيار (باستواء) الحالتين عندهم يقتضي مبادرتهم إلى الإيمان وعدم (توقّفهم) على الإنذار فاحترز من ذلك (ببيان) أنهم على العكس.
قيل لابن عرفة: إن (ابن فورك) أبطل بهذه الآية قاعدة التحسين والتقبيح؟
قال: لأن الله تعالى أخبر أن الإنذار لا ينفع فيهم، وقد أمر بإنذارهم، ومراعاةُ الأصلح (تقتضي) عدم تكليفهم وعدم إنذارهم.

(1/124)


(فقال) : (تقدم) ذلك في جواز تكليف ما لا يطاق وهذا متفق عليه فإنّ هؤلاء المخبر عنهم بذلك غير معيّنين فليست هذه كقضية أبي لهب وإنّما الخلاف يخبر عن معينين (بعدم) الإيمان وتكليفهم بالإيمان كقضية أبي لهب فليس في هذه الآية دليل بوجه.

(1/125)


خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

قوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ ... }
قرر ابن عرفة وجه المناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها (بأنها) سبب فيه، كأنه قيل: لِمَ لا ينفع الإنذار فيهم؟ فقيل: بسبب الختم على قلوبهم.
قال ابن عرفة: هكذا قرره بعضهم. ويرد عليه (أنه كان يكون الأوْلى تقدير هذه الآية على ما قبلها، لأنها سبب فيه وكان يمشي لنا فيه) إن كان تقرير المناسبة بأنّ امتناع تأثير الفعل في المفعول إما (لخلل) في الفاعل أو المَانِعِ في القابل فقد يضرب بالسيف شجاع قوي ويكون على المضروب مصفّح من حديد فلا يؤثر فيه شيئا، فأخبر هنا أن (تعذر) تأثير الإنذار فيهم لا

(1/125)


بتوهم أنه (لإخلال) (واقع في الرسول) في تبليغه بوجه بل لمانع فيهم هو (الطبع) على قلوبهم.
وفسر ابن عطية الختم بثلاثة أوجه:
الاول: أنه (حسي) حقيقة، فإن القلب على هيئة الكف ينقبض مع زيادة الضلال كما ينقبض الكف إصبعا إصبعا.
الثاني: أنّه مجاز (عبارة عن خلق الضّلال في قلوبهم) (وأنّ ما خلق الله في قلوبهم من الكفر والضلال والإعراض عن الإيمان سمّاه ختما) .
الثالث: إنّه مجاز في الإسناد كما (يقال) ، أهلك المال فلانا وإنّما أهلكه (سوء تصرفه فيه) .
قال ابن عرفة: وسكت ابن عطية عن هذا الثالث وهو إنما يناسب مذهب المعتزلة ولما جاءت الآية مصادمة لمذهبهم تأولها الزمخشري وأطال وقال: إنه مجاز واستعارة.

(1/126)


وقال ابن عرفة: فجعله تمثيلا. قال: والفرق بين التشبيه والتمثيل والاستعارة أن إطلاق الصفة على الموصوف إن كان بأداة التشبيه فهو تشبيه مثل: زيد كالأَسَدِ، وإلا فإن كان بواسطة ما يدل على التمثيل فهو تمثيل نحو: زيد الأسد، وإن لم يكن بواسطة فهو استعارة مثل: رأيت أسدا (يكرّ) ويفرّ في الحرب.
وظاهر كلام الطيبي أنّه لا فرق بين التشبيه والتمثيل.
قال: والآية حجة لمن يقول: إن العقل في القلب، ولو كان في الدماغ لقال: ختم الله على أدمغتهم. فإن قلت: لم قدم القلب والأصل تأخيره؟ قلت: لوجهين:
إما (لأنّ) السمع والبصر طريقان إليه فما يلزم من الختم (عليهما) الختم عليه، إذ لعلّه يعلم (المعقولات) بقلبه. ويلزم من الختم على القلب عدم الانتفاع بمدركات السمع؛ وإما لأن المدركات قسمان: وجدانيات ومحسوسات. فما يلزم من نفي المحسوسات نفي الوجدانيات (بخلاف) العكس.
(قال) : وأجاب (الطيبي) بأن (الأمور) المدركات على ثلاثة أقسام: معقولات، ومسموعات، ومبصرات

(1/127)


قال: فإن المعقولات أغمض وإدراكها (أصعب) والمحسوسات أبين وإدراكها أهون، فقدم الختم على القلب ليكون تأسيسا، إذ لا يلزم من عدم إدراكهم الدليل الصعب الغميض عدم إدراكهم الدليل البين الظاهر.
((وقال بعض الناس: (نص) أفلاطون وأرسطو وغيرهما على أن المعقولات فرع المحسوسات)) ، ونفي الفرع لا يستلزم نفي الأصل بخلاف العكس.
قوله تعالى: {وعلى سَمْعِهِمْ ... }
إفراد السمع إما لأمن اللبس أو لأنه مصدر (مبهم) (يحتمل القليل والكثير) . أو لإضافته إلى (المجموع فأغنى عن جمعه أو لأن الكلام على حذف مضاف قدره الزمخشري: (وعلى) حواس
سمعهم، وابن عطية: على (مواضع) سمعهم. (وضعف ابن عرفة الأول بأنه أمن اللبس أيضا في القلوب فهلا قيل: {خَتَمَ

(1/128)


الله على قُلُوبِهِمْ} وضعف الثاني بأن الختم إذا كان (حقيقة) كأول تأويلات ابن عطية: فيه أنه حسّي فلا يصح تعلقه (بالسمع) لأن (المصدر) معنى من المعاني إلا أن يتجوز في الختم، (أو) يتجوز في السمع فيراد به محله.
قال الزمخشري: (والبصر) نور العين، وهو ما يبصر به الرائي ويدرك به المرئيات، كما أنّ البصيرة نور القلب وهو ما (به) يستبصر ويتأمل.
قيل لابن عرفة: إنّ ابن (راشد) قال: (إنّ) هذا لا يجري على قواعده وإنما يتم على مذهب أهل السنة؟
(فقال) : بل هو (يحتمل) (الأمرين) ، لأن ذلك النور هل هو بأشعة تنفصل من الرائي للمرئي، أو يحتمل المذهبين؟

(1/129)


قال: وإعادة حرف الجر دليل على أن لكل واحد منهما (ختما) (يخصه) فهو يمنزله (الكلّية) لاَ الكل.
قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
قال ابن عرفة: (العَظِيمُ) للتّهكم.
قال الزمخشري: والعظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، والعظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير.
قال ابن عرفة: هذا ينتج له العكس (لأن) نفي (الأبلغ) يحصل (بثبوت) (أدون نقائضه) ، ونفي (احقر) العذاب يصدق (بثبوت) العذاب العظيم وإن كان في نفسه صغيرا، أما العذاب الصغير يصدق عليه أنه عذاب عظيم لأن نفي (الأبلغ) في الحقارة عنه منتف، فإذا كان ضد الحقير عظيما لزم أن يكون الكبير أعظم من العظيم قطعا، لأنه إذا انتفى عن العذاب اسم الحقارة ثبت له نقيضه وهو (العظم) وإن كان في نفسه صغيرا. ((وإذا

(1/130)


انتفى عنه ما فوق الحقارة وهو (الصغر) ثبت له ما فوق ذلك وهو (الكبر) (وكان) أعظم من العظيم. / ويؤيد ذلك (اختيارهم) في تكبير الصلاة عند الإحرام لفظ: الله أكبر (ولم يختاروا) الله العظيم فدل على أن الكبير أعظم من العظيم)) .
قلت: هذا عند مالك خلافا لأبي حنيفة فإنه أجاز دخول الصّلاة بالله العظيم أو السّميع أو الكبير ونحو ذلك والزمخشري حنفي المذهب.

(1/131)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)

قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُءَامَنَّا بالله ... }
قال ابن عرفة: ذكر أولا (المؤمنين) (أهل) التقوى والصفات الحسنة، ثم (الكافرين) أهل الضلال والصفات القبيحة ثم المتصفين بأقبح من ذلك وهو (النّفاق) الموجب للحلول في الدرك الأسفل من النار. أو يقال: ذكر أولا من اتصف بالإيمان البسيط

(1/131)


((ثم من (اتصف) بالكفر البسيط)) ، ثم من اتصف بالدّين المركب من أمرين وهو الإيمان ظاهرا والكفر باطنا، والمركب متأخر عن البسيط في (المرتبة) .
والألف وللام في «الناس» للعموم (في) أنواع بني آدم و «من» للتبعيض في أشخاص تلك الأنواع. وهذا القول إمّا من اليهود أو من المنافقين فإن كان من اليهود فهو قول (حقيقي) موافق للاعتقاد ومعناه: من يقول آمنّا بوجود الله واليوم (الآخر)
(وما هم بمؤمنين) لأنّهم (قد) ادّعوا (الشّريك)
فقالوا: {عُزَيْرٌ ابن الله} {قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} (وإن) كان من المنافقين فمعناه: وَمنَ النّاس من يقول آمنّا (بوحدانية) الله، ويجري هذا على الخلاف في (الكلام) (النفسي) ، هل يمكن فيه تعمّد الكذب، ويكون الاعتقاد فيه

(1/132)


مخالفا للعلم، أو لا يمكن ذلك؟ و (هي) مسألة تكلّم عليها الأصوليون لما قسّموا العلم إلى تصوّر وإلى تصديق.
فإن (قلنا) بجواز الكذب في الكلام النفسي، فيكون هذا قولا حقيقيا بألسنتهم وقلوبهم، وإن منعنا وقوع الكذب فيه، فيكون قولا باللسان فقط قال ابن (عرفة) : (ليس فيها دليل عليهم) وانظر كيف لم يصرحوا بالإيمان (بالرسول) مطابقة بل عبّروا بلفظ يدلّ عليه باللّزوم لا بالمطابقة (لأنّ مقصودهم) كفّ الأذى (عنهم) لا الإيمان حقيقة. قال ابن عطية. وفي الآية ردّ على الكراميّة في قولهم: إنّ الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب.
قال ابن عرفة: ليس فيها دليل عليهم لأنهم لم يقولوا: إنّ الإيمان قول باللّسان (يخالفه) ((الاعتقاد بالقلب، (وإنما قالوا: إنّه قول باللّسان) عري عن الاعتقاد بالقلب لا لأنّ الاعتقاد بالقلب يخالفه القول باللّسان)) ، بمعنى أنه يقوله

(1/133)


بلسانه، ولا (يعتقد) بقلبه شيئا لا هو ولا نقيضه (هكذا) حكى (عنهم) الشهرستاني في (النحل) والملل وليست الآية كذلك.
(قيل له) : نصّ الطبري هنا على أنّ مذهبهم كما قال ابن عطية وألزمهم نسبة الكذب إلى الله عزّ وجلّ.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قال عنهم (ءَامنّا) بلفظ الفعل وفي الردّ عليهم {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} بلفظ الاسم؟
(وأجاب) : ((إنّ مقصودهم الإخبار)) بالاتصاف بالإيمان، فردّ عليهم بأنّهم ليسوا من نوع المؤمنين، ولا من جنسهم بوجه.
قال ابن عرفة: وهذا الجواب ضعيف، وممّا يؤكّدُ السؤال أنّ الفعل أعمّ والاسم أخصّ، ونفي الأعمّ أخصّ من نفي الأخصّ.

(1/134)


(فهلا) كان الأمر بالعكس، فهو الأولى؟
قال: (والجواب) أنّ المنافقين لمّا (كان) مقصدهم التورية لم يعبّروا بلفظ صريح في الإيمان بل عبّروا بما يدل على (الاتصاف) بمطلق الإيمان لا (بأخصّه) ، و (أتوا) بالفعل الماضي ليدلّ على وقوعه وانقطاعه وعدم الدّوام عليه. ولما كان المقصود الرد عليهم وأنّهم لم يتّصفوا بالإيمان (النافع بل بإيمان لا ينفع، لم ينف عنهم مطلق) الإيمان لأنهم قد آمنوا ظاهرا فنفى عنهم الإيمان الشرعي (لأنّ الإيمان الشرعي) الموجب لعصمة دمائهم وأموالهم قد اتّصفوا (به) ظاهرا، فأخبر الله تعالى أنّ ذلك الإيمان النّافع لهم في الدنيا بالعصمة من القتل والسّبى لا ينفعهم في الآخرة فلذلك نفاه (عنهم) بلفظ الاسم.

(1/135)


يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)

قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ الله والذينءَامَنُواْ ... }
قال الزمخشري: (في) هذه الجملة إمّا تفسير لما قبلها أو استئناف.

(1/135)


قال الإمام ابن عرفة: الفرق بينهما أنه على الأوّل يكونون وَصفوا بأمرين: بعدم الإيمان (وبالخداع) . وعلى الثاني وصفوا بعدم الإيمان فكأنّ قائلا يقول: لم حكم عليهم بعدم الإيمان فقيل: لأنّهم يخادعون الله.
قال أبو حيّان ما نصّه: ((يخادعون (مستأنفة) ، أو بدل من (يقول) آمنّا ولا موضع لها، أو حال من فاعل يقول (فموضعها) نصب)) .
قال: وأجاز أبو البقاء كونها حالا من الضمير في المؤمنين.
قال: واعترض بأنه يلزم منه نفى الإيمان المقيَّد بالخداع، وهو فاسد لأن المقيَّد بقيد إذا نفى فله طريقان: إما نفي المقيِّد فقط وإثبات المقيَّد وهو الأكثر، فيلزم إثبات الإيمان، ونفي الخداع وهو فاسد. وإما نفيهما معا (فيلزم) نفي الإيمان (والخداع) وهو فاسد. قال: ومنع أن تكون الجملة حالا من الضمير في آمنّا لأن آمنّا محكي (بنقول) فيلزم أن يكونوا أخبروا عن أنفسهم بأنهم يخادعون وهو باطل، وأيضا فلو كان من قولهم لكان يخادع بالنون (انتهى) .

(1/136)


وأجاب ابن عرفة بأنك تقول: قال زيد: إنّ عمرا منطلق وهو كاذب، فالجملة الأخيرة في موضع الحال مع أنها ليست من قول زيد، (فلا) يلزم من ذلك أن يكون {يُخَادِعُونَ الله} مقولا لهم بوجه.
قلت: وردّ بعضهم هذا بأنّ المعنى يقول: «ءَامنّا» مخادعين الله (فبالضّرورة) انّها من قولهم.
قال: وإنّما يتمّ هذا الجواب (إن) لو كان «يُخَادِعُونَ» حالا من الضّمير الفاعل في «يَقُولُ» .
قال: وقوله يلزم إثبات الإيمان ونفي الخداع ليس كذلك، لأنّه إنما أخذه من المفهوم. ونحن نقول: لا مفهوم (له لأنّه مفهوم) خرج مخرج الغالب، إذِ الغالب عليهم الخداع، فلا يوجدون غير مخادعين، كما ورد: في سائمة الغنم الزّكاة أو يقال: إنّ المفهوم (منتفى) بالنص (على تفسير) في غير هذه الآية أو معلوم من السّياق.
وأورد الزمخشري سؤالا قال: كيف يصحّ وقوع الخديعة بالله مع أنه عالم بكلّ شيء؟ وكيف صحّ وقوعها (فيه) مع أنه يستحيل عليه القبيح؟

(1/137)


وأجاب (بأجوبة أحدها) بأنه (لمَّا) نعّمهم في الدّنيا وعصم دماءهم وأموالهم ثمّ عذّبهم في الآخرة (كان) ذلك شبه الخديعة. قال: وكذلك المؤمنون (معهم) .
قال ابن عرفة: لا (نتصوّر) الخديعة من المؤمنين لأنهم عصموهم في الدنيا خاصة، والآخرة لا حكم/ لهم (فيها) .
قيل (له) : قد يتصوّر باعتبار أنّهم عالمون بهم ومع هذا (تركوا) قتالهم.
قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون هنا سؤالا وهو أنه عبر عن (نفيهم) عن المؤمنين في قوله: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} بالوصف المقتضي (أعلى) درجات الفلاح، (فدل على اختصار الفلاح فيه) ، ولو أريد: وما هم بمؤمنين الإيمان الكامل، للزم عليه حصول بعض الفلاح لهم والغرض (أنهم) لم يحصل لهم من شيء (فإذا ثبت) أن الفلاح منحصر في مسمى المؤمنين لا في مسمى من آمن، فهلا قيل: يخادعون الله والمؤمنين، لأنّ المنافقين يصدق عليهم أنهم ممن آمن؟

(1/138)


قال: (والجواب أن المراد الإخبار عنهم بكونهم يخادعون الله تعالى) وكل من اتصف بمطلق الإيمان حتى أنهم (يخادعون) بعضهم فيظن بعضهم في بعض أنه غير منافق فيخادعه والكل منافقون.
قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} .
نفى عنهم الشعور، وهو مبادئ الإدراك. (فبنفي) (مبادئ) الإدراك ينتفي كل الإدراك من باب أحرى.

(1/139)


فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)

قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ... }
قال ابن عرفة: هذا احتراز لأنه لما أخبر (عنهم) أنهم يخادعون الله، والمخادع على نوعين فالغالب عليه أن يكون صاحب فكر ونظر ودهاء يدبر الأمور التي يخدع بها عدوه، ومنهم من يخادع على غير أصل وذلك موجب (الاستهزاء) به وعلامة على سخافة عقله فأخبر الله تعالى أن المنافقين من القسم الثاني.
وقال الطبري: إن في اعتقاد قلوبهم مرضا.
قال ابن عرفة: بل المرض في القلوب أنفسها كما قلناه.
قوله تعالى: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً ... }

(1/139)


الفاء للسبب (وفيه) العقوبة على الذنب بذنب أشدّ منه. فإن قلت: هذا مرض واحد والزّيادة عليه إن كانت مثله لزم اجتماع المثلين في المحلّ الواحد وهو باطل كما يمتنع اجتماع الضدّين والنَّقيضين: فأجيب بوجوه:
الاول: قال ابن عرفة: إنّما يمتنع ذلك في الواحد بالشّخص وهذا واحد بالنّوع أو بالجنس، فاشتركا في جنس المرض و (تغايرا) في الفصل (واجتماع الغيرين جائز) .
الثاني: قال ابن عرفة أيضا: الضّمير في زادهم عائد على ذواتهم لا على قلوبهم، إذ لو كان عائدا على القلوب لقال (فزادها) الله مرضا. وهو أولى. فإن نزل المرض بجميع ذواتهم فمحلّ الثاني (أوسع) من محلّ المثل الأوّل فصحّت الزّيادة، ولا يلزم منه اجتماع المثلين إلاّ أن يقال: إنّه على حذف مضاف تقديره فزاد الله قلوبهم (مرضا) .
الثالث: قال بعض الطّلبة: ذكر الإسفراييني وغيره في صحّة اجتماع المثلين (أنه) يخلق جوهرا آخر يكون فيه المثل الآخر زيادة في نعيم المنعّم وعذاب المعذّب.
قال ابن عرفة: إنّما ذلك في المثلين حقيقة، وهذان مختلفان في الفصل بينهم غير أنّ كما تقدم (لا مثلان) .

(1/140)


قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
إما بمعنى مؤلم كقولك «تحية بينهم ضرب وجيع» ، أو بمعنى مؤلَّم، فيكون الألم حالا (بالعذاب) مجازا أو تنبيها على شدّته «مثل. جَدّ جِدّه» - «وشِعْر شَاعر» .

(1/141)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض ... }
هذا القول واقع (فيما مضى) ودائم في المستقبل، ودوامه محقق ولذلك دخلت عليه إذا لأنه من باب تغيير (المنكر) فهو واجب. وحذف الفاعل قصدا للعموم والشيوع (في القائل) ولأن القائل عظيما أو حقيرا لا يقبلون منه. وفائدة ذكر المجرور وهو في الأرض (التنبيه) على أن إفسادهم عام في الاعتقاد الديني وفي الأمر الدنيوي، والفساد (يعمّ) في جلب المؤلم ودفع (الملائم) شرعا.
قال ابن عطيّة: و «إذا» ظَرف زمان، وحكى المبرد أنها للمفاجأة نحو: خرجت فإذا زيد، ظرف مكان لتضمّنها (الجهة) ، وظرف الزمان لا يكون إخبارا عن (الجثة) .

(1/141)


قال ابن عرفة: (وتقدم لنا) إبطال كونها ظرف مكان لأنه يلزم عليه مفاجأة من بالمشرق لمن بالمغرب) ولا يلزم ذلك في الزمان.
ابن عطية: وقال سلمان (الفارسي) لم (يجئ) هؤلاء بعد.
ابن عطية: ومعناه لم ينقرضوا بل يجيئون في كل زمان.
قال ابن عرفة: والقول: إما لفظي وهو الأظهر، (وبعيد) أن يكون نفسيا ولا يمتنع لاحتمال (أن يخلق الله جل جلاله) في خواطرهم النهي عن ذلك وعدم امتثال ذلك النهي.
وأورد الزمخشري سؤالا قال: كيف يصح أن يقام مقام الفاعل جملة (الجملة) لا تكون فاعلة؟
وردّه ابن عرفة بأنّهم نَصّوا في باب الحكاية على عمل القول في الجملة المحكية مثل: قال زيد إن عمرا منطلق. واحتجوا بقوله:

(1/142)


مَتَى تَقُول القلص الرّواسما ... يدنين أمّ قاسم وقاسما
فإذا صح تعدي (القول إلى) الجملة على المفعولية صح إقامة ذلك المفعول مقام الفاعل.

(1/143)


أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)

قوله تعالى: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ... }
قال ابن عرفة: أَلاَ تنبيه والتنبيه لا يؤتى إلا في الأمر الغريب وكونهم لا يشعرون من الأمر الغريب.

(1/143)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْءَامِنُواْ كَمَآءَامَنَ الناس ... }
قال الفخر (الخطيب) : بدأ بالنهى عن الفساد لأنه راجع لدفع المؤلم ثم عقبه بالأمر بالإيمان لرجوعه إلى جلب المصالح، لأن دفع المفاسد آكد من جلب المصالح.
قال ابن عرفة: والآية عندي حجة لمن يقول: إنّ النظر واجب (بالعقل) (إذ لو كان واجبا) بالشرع لما كلفوا بالإيمان بل كانوا يكلفون بالنظر.
فإن قلت: ليس هذا بأول تكليفهم فلعلهم كلّفوا به بخطاب آخر قبل هذا؟ (قلنا) : الآية خرجت مخرج ذمّهم والذّم (الأغلب) فيه أنه إنما يقع على المخالفة في الأصل لا في الفرع.

(1/143)


قال ابن عرفة: ولكن يمكن أن يجاب عنه بوجهين:
الأول: أن الآية خرجت مخرج التقسيم بين الشيء وضدّه. (والإيمان) نقيض الكفر، وليس بينهما اشتراك، والنظر لا (يناقض) الكفر لأنه يكون صحيحا ويكون فاسدا، (فقد) ينظر المكلف فيهتدي، وقد ينظر فيضل. فالنظر اشتراك بين الكفر والإيمان فلأجله لم يقل: وَإِذَا قِيلَ (لَهُمْ) انظروا كما نظر الناس، (لأنّه) لا يدل صريحا على تكليفهم بالنظر الصحيح.
الثاني: إن النفوس مجبولة على النظر في غرائب الأمور فلو كلفوا بالنظر لأشبه ذلك (تحصيل الحاصل) .
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن تكليفهم بالإيمان وذمهم على عدمه يستلزم تكليفهم بالنظر.
قال: (والكاف) منهم من جعلها (نعتا) (لمصدر) (محذوف) أي إيمانا (شبيها) (بإيمان)

(1/144)


الناس والمشبه بالشيء والمشبه بالشيء لا يقوى قوته، ففيه حجة لمن يقول: إن الإيمان يزيد وينقص (فكلفوهم) بتحصيل أقل ما يكفي منه، فلم يقبلوا ذلك.
قال أبو حيان: ومنهم من أعربه حالا من الإيمان أي آمنوا الإيمان كما آمن الناس لأن الإيمان المقدر يعرف بالألف واللام.
قال ابن عرفة: ولا يحتاج إلى (هذا) (لأن) سيبويه قال في قوله تعالى: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} إن رُوَيدا حال من المصدر المقدر وهو إمهال وصحّ إتيانها منه وإنْ كان نكرة (لأنه) لما ينطق به أشبه المضمر في المعرفة، (فكذلك يكون هذا) .
قوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ كَمَآءَامَنَ السفهآء ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ... }
أجابوا بعدم الامثتال مع ذكر الموجب لذلك، فأما أن يريدوا بالسفهاء المؤمنين فيكون (جرأة) منهم ومباهتة: أي أنتم

(1/145)


سفهاء ضعفاء فلا نتبعكم، أو لم يقصدوا أعيان المؤمنين بل قالوا هذا على سبيل المبالغة والجدل فيقول لهم المؤمنون على: هذا نعم، نقول بموجبه: (ونحن) لم نأمركم بإيمان السّفهاء فلسنا بسفهاء، وعلى الأول (لا) يحسن أن يقول لهم ذلك المؤمنون لأنهم (مباهتون) ويقولون: أنتم هم السفهاء.
قال الزمخشري: وإنما أطلقوا عليهم ذلك باعتبار الغالب لأن أتباع النبي صلّى الله عليه وسلم في أول الإسلام كان أكثرهم فقراء.
قيل لابن عرفة: إنما كان هذا في المدينة.
(قال) : كان أكثر المهاجرين معه فقراء.
قال الزمخشري: وختمت الآية بقوله: {ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} ، وتلك {لاَّ يَشْعُرُونَ} إما لأن الفساد في الأرض (أمر) محسوس فناسب الشعور الذي هو (أوائل) الإدراك والإيمان معنوي يناسب العلم، (وإما لتقدم السفه وهو جهل، فناسب ذكر العلم طباقا) .

(1/146)


قال ابن عرفة وانظر هل فيها دليل على أن التقليد كاف لقوله: {آمِنُواْ كَمَآءَامَنَ الناس} . (الظاهر أنه ليس فيها دليل لأن المراد: انظروا لتؤمنوا كما آمن الناس) لأن الأمر بالإيمان أمر بما هو من لوازمه، ومقدماته، ومفعول «يعلمون» إما عاقبة أمرهم أو المراد لا يعلمون صحة ما أمروا (به) أو لا يعلمون علما نافعا، وحذف المفعول (قصدا) لهذا العموم.
قال ابن عرفة: وفي هذه آيتان، آية من الله تعالى بعلمه ذلك (مع أنهم) أخفوه: وآية أخرى بإعلامه به محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.

(1/147)


وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)

وقال جل ذكره: {وَإِذَا لَقُواْ الذينءَامَنُواْ قالواءَامَنَّا ... }
(إنما) اعبر بإذا اعتبارا بالأمر العادى لأنهم (مجاورون) لهم (وقريبون منهم) فهم في مظنة أن يكون لقاؤهم لهم محقق الوقوع. فإن قلت لم قال: {وَإِذَا لَقُواْ الذينءَامَنُواْ قالواءَامَنَّا} . ولم يقل إذا لقيهم الذين آمنوا، وأي فرق بين قولك: لقيني زيد ولقيت زيدا، مع أنه أمر نسبي، فإن من لقيته لقيك؟
قال ابن عرفة: فرق بعضهم بينهما بأن المتلاقيين إن كانت لأحدهما مندوحة عن اللقاء، ويجد ملجأ أو مقرا فهو مفعول، والآخر الذي لم يجد ملجأ ولا مقرا بل اضطر إلى لقاء صاحبه يستحسن أن

(1/147)


يكون فاعلا للقاء، والمنافقون كانوا يكرهون لقاء المؤمنين، وإذا لقوهم في طريق يحيدون عنهم، فلذلك كانوا في الآية فاعلين لأنهم مضطرون إلى اللّقاء.
قال جل ذكره: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ ... }
قال الزمخشري: لم عبّر في الأول بالفعل وفي الثاني بالاسم؟
وأجاب بأنهم عبروا بالفعل (لأنّ) مقصودهم الإخبار بتحصيل مطلق الإيمان، ولم يلتزموا تحصيل أعلاه، وأخبروا أشياطينهم بحقيقة أمرهم على جهة الثبوت.
قال ابن عرفة: وتقدّم الجواب عنهم بأنّهم (إنّما) عبّروا بالفعل لكونهم نزّلوا أنفسهم منزلة البريء الذي يقبل قوله ولا يتّهم، فلو أكّدوا كلامهم لكانوا مقرّين بأنَّ المؤمنين يتهمونهم بالكفر وينكرون عليهم زعمهم أنهم مؤمنون، فأرادوا أن لا يوقعوا لأنفسهم ريبة، بل يخبرون بذلك على البراءة الأصلية خبر من يكتفي منهم بأدنى (العبارة) ويقبل كلامه، ولا ينكر عليه.
وقولهم لشياطينهم: «إِنَّا مَعَكُمْ» أكدوا ذلك لأمرين: إما لكون (ذلك محبوبا لهم) ، فبالغوا فيه كما (يبالغ)

(1/148)


الإنسان (في مدح ما) هو محبوب (له) ، وإما تقرير لمعذرتهم لأنّهم أظهروا الإسلام (فخشوا أن) يتوهّم فيهم أصحابهم أنّهم مسلمون، فبالغوا في تمهيد العذر (لنيّتهم) .
قال ابن عطية: قال الشّافعي وأصحابه: إنما منع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قتل المنافقين (لما) كانوا يظهرونه من الإسلام بألسنتهم مع العلم بنفاقهم لأن الإسلام يجبّ ما كان قبله فمن قال: إن عقوبة الزنادقة أشد من عقوبة الكفار فقد خالف الكتاب والسنة.
قال الشافعي: إنّما كفّ رسول الله عليه وسلّم عن قتل المنافقين مع العلم بهم، لأنّ الله نَهَاهم عن قتلهم إذا أظهروا الإيمان فكذلك هو الزنديق.
قال ابن عرفة: الفرق بينهما أنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم كان يعلم أن المنافقين يموتون على نفاقهم وكفرهم والزنديق لا يقدر أحد منا أن يعلم وفاته على الزندقة.

(1/149)


اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

قوله تعالى: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ... }

(1/149)


قال ابن عرفة: هذا تشريف واعتناء بمقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث (تولى) الله عقوبتهم (بنفسه) ولم يقل: ملائكة الله يستهزئون بهم.
قال (ابن عرفة) (وأوردوا) هنا سؤالا في إسناد الاستهزاء إلى الله (فقدّره) المعتزلة (بأنّه) قبيح، وصدور القبح من الله تعالى محال، (وقدّره) أهل السنة/ بأنّ الاستهزاء ملزوم بالجهل لقوله تعالى: {قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} والجهل على الله تعالى محال فالاستهزاء في حقه محال.
وأجاب ابن عطية بثلاثة أوجه: إما أنه مجاز (المقابلة) كقولك:
قَالُوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا.

(1/150)


وقول لبيد:
أَلا لا يَجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وإما بأنه يفعل بهم من الإملاء بالنعم كفعل المستهزئ، أو يفعل بهم في الآخرة ما هو في (تأويل) البشر كفعل المستهزئ، حسبما روي أن النار تجمد كما تجمد الأهالة وهي الشحم (فيمشون) عليها يظنونها منجاة فتخسف بهم.
قال الزمخشري: هلا قيل: الله مستهزئ بهم كما قالوا هم: إنما نحن مستهزؤون؟ وأجاب بأن الفعل يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتا بعد وقت.
(فرده) ابن عرفة بأن دوامه عليهم أشد وأشنع.
قال: ويجاب عليه بأن التجدّد يقتضي تنويعه واختلافه عليهم

(1/151)


شيئا بعد شيء فلا يستهزئ بهم بنوع واحد.
وأجاب الطيبي بأن دوام العذاب فيه توطين لهم، فقد تألفه نفوسهم وتدرّب عليه بخلاف تجدّده فإنه إذا ارتفع عنهم يرجون انقطاعه (وإذا) عاد إليهم كان أشد عليهم.
قيل لابن عرفة: نقل بعض الشيوخ عن الأستاذ ابن نزار أنه كان ينهى عن الوقف على {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} لأن قوله {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} مقابل لما قبله فالصواب إيصاله (به) ؟
فقال ابن عرفة: كان غيره يختار في مثل هذا الوقف في الفصل بين كلام الله وكلامهم كما ينهى عن الوقف على «إنَّا مَعَكُمْ» .

(1/152)


أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)

قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ... }
الإشارة بلفظ البعيد إلى القريب (للبعد) من جهة المعنى. وفسر ابن عطية الشراء بأوجه متقاربة، إنها عبارات مختلفة فالأولان في كلامه راجعان لنفس المعنى، والأخيران (لكيفية) (صدق) اللّفظ على ذلك المعنى.

(1/152)


قال ابن عرفة: وأدخل الذين للحصر.
قال أبو حيان: ودخول الفاء في خبر الموصول لا يجوز إلا إذا كان الموصول عاما. (ويشترط) أن يكون فيه معنى التعليل للخبر وعادتهم يردون عليه بقوله تعالى: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} لأنه ليس بعام ولا (هو) علة في الخبر، إذ ليس (الخلق) علة في الهداية وإلا لزم عليه مذهب المعتزلة.
قال: وهنا سؤال وهو لِمَ أثبت الضلالة دون الهدى والمناسب العكس أو كان يقال اشتروا (الضلال) بالهدى (فهو) أبلغ في الذّمّ لاقتضائه أنهم اشتروا الضلال الكثير بخلاف الضلالة الواحدة فإنها لا تفيد ذلك الذم؟
قال: والجواب بوجهين:
أحدهما: أنهم إذا ذمّوا على أخذ الواحدة من الضلال (فأحرى) أن يذموا على كثيره.
الثاني: أن هذا أشنع من حيث إنهم بدّلوا الهدى الكثير الشريف فأخذوا عوضه الشيء القليل من مقداره الحقير في ذاته.
فإن قلت: الهدى الذين اشتروا الضلالة به لم يكن لهم بوجه؟ قلنا: إمّا أنه يعد حاصلا لأجل تمكنهم منه أو هو حاصل

(1/153)


بالفعل لحديث: «كل مولود يولد على الفطرة» أو المراد المنافقون وقد حصل لهم الهدى (بالنطق) اللّساني فخالفوا بالفكر الاعتقادي (وبكفرهم) بلسانهم عند خلوّهم مع شياطينهم.
قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ ... }
فإن قلت: هلا قيل: فخسرت تجارتهم، فهو أصرح لأن عدم الربح لا يستلزم الخسران؟ .
قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأنّهم إذا ذمّوا على عدم الربح فأحرى أن يذموا على الخسران.
قوله تعالى: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}
(قال ابن عطية: قيل: معناه في شرائهم هذا، وقيل معناه على الإطلاق، وقيل: في سابق علم الله) .
قال ابن عرفة: وتقدم لنا أن الصواب غير هذا كلّه وهو أن الخسارة في التجارة تارة تكون لأجل حوالة الأسواق برخص أو لأجل الجهل بمحاولة البيع والشراء أو لأجل الفساد وتبذير المال بإنفاقه في غير مصلحة أو فيما لا يحل، فلما أخبر عن هؤلاء بالخسارة في (تجارتهم) (بقي) أن يتوهم أنهم من القسم الأول الذين

(1/154)


لهم عذر في الخسارة لأن ذلك أمر جبري (ليس من قبلهم ولا لهم فيه اختيار بوجه فاحترز عن ذلك بقوله: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} حتى يتيقن أنهم من قسم من كانت خسارته في التجارة من قبل نفسه وسبب فساده وقبح تصرفه وهذا أصوب من قول الزمخشري: إذ المراد بذلك إضاعتهم رأس المال ونظره ابن عطية بمنع مالك الاشتراء على أن (يتخير) المبتاع فيما تختلف (آحاده) ويمتنع التفاضل فيه.
ابن عرفة: الخيار والاختيار في آخر كتاب الخيار منع فيها أن يشتري الرجل عدد شجرة شجرة مثمرة يختاره اتّفق الجنس أو اختلف، وتدخله المفاضلة في الجنس الواحد وبيع الطعام قبل قبضه إن كان على الكيل، لأن من خير بين شيئين يعد متنقلا فيدع هذه وقد ملك اختيارها أو يأخذ هذه وبينهما فضل في الكيل، وكذلك منعه في الجنس الواحد المختلف الثمن من غير الطعام للفرد فإن اتفقت حاده أو استوت قيمته جاز الاختيار وان اختلف منع.

(1/155)


مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)

قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً ... }
قال ابن عرفة: كيف شبه (الجمع) بالواحد. فأجيب بأنّه كلية روعي فيها آحادها، أو المراد بالموصول الجمع أو هو واحد

(1/155)


بالنوع لا بالشخص، والتشبيه يستدعي مشبها ومشبها به ووجه التشبيه نتيجتة، كما أن القياس التمثيلي يقتضي فرعا وأصلا وعلة جامعة ونتيجة وهي الحكم، فالمشبه المنافقون والمشبه به مستوقد النار. ووجه التشبيه حكى فيه ابن عطية حمسة أقوال (ونتيجته) هو الخسران والندم.
قوله تعالى: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ ... }
قال السهيلي في الروض: إن قلت: لم عداه هنا بالباء. وقال في سورة الأحزاب: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت} فعداه بنفسه؟
فأجاب بأن الباء تقتضي الصاحب، فإذا قلت: ذهبت بزيد، فأنت أذهبته وذهبت معه والنور محبوب شرعا فناسب اسناد الذهاب إليه باعتبار الفهم والتصور وإن كان في حق الله تعالى محالا لكنه على معنى يليق به، كما وصف نفسه بالمجيء في قوله: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} والرّجس مذموم شرعا وطبعا فناسب إبعاده عنه (وعدم) إسناده إليه.
قال ابن عرفة: وفي (التعدية) بالباء التي للمصاحبة نوع زيادة وإشعاره (بدوام) الذهاب، وملازمته بسبب ملازمة

(1/156)


فاعل الذهاب له، فلا يزال ذاهبا عنهم فهو أشد في عقوبتهم حتى لا يتصور رجوعه (إليهم) بوجه. وتكلم الطيبى (هنا) (في الضياء) والنور.
قال الزمخشري: النور ضوء النهار وضوء كل شيء، وهو نقيض الظلمة، والضياء إفراط الإنارة، فالنور عنده زيادة في الضياء. قال تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً ... } وقدره صاحب المثل السائر بأنّ الضياء هنا (مثبت) والنور منفي.
والقاعدة استعمال الأخص في الثبوت والأعم في النفي فإذا ثبت أعلى الضياء فأحرى أدناه، وإذا انتفى أقل النور (ومبادِئُهُ)

(1/157)


فأحرى أكثره أعلاه.
وتعقب عليه صاحب الفلك الدائر بأن يعقوب ابن السكيت نص في (إصلاح) المنطق على أن الضياء هو النور لا فرق بينهما.
وقال بعضهم: قول: من قال: إن القمر مستمد من نور الشمس مخالف لمذهب أهل السنة، ولا يتم إلا على مذهب الطبائعية. ورد بعضهم على الفخر الخطيب في سورة النور عند قول الله تعالى: {الله نُورُ السماوات والأرض} قال فيها: إن النور هو الضوء الفياض من الشمس.
(قال) : ما يتمّ إلا على القول بالطّبع والطبيعة.
وأجاب ابن عرفة بأنه أخطأ في العبارة فقط، ومراده أنه نور يخلقه الله في القمر عند مقابلة الشمس، ومذهب أكثر أهل السنة أن الظلمة أمر وجودي، وذهب الحكماء والفلاسفة إلى أنها أمر عدمي.
قوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ... }

(1/158)


صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)

قول الله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ... } الآية

(1/158)


قال ابن عطية: الأصم هو من لا يسمع. والأبكم من لا ينطق ولا يفهم، والأخرس من (يفهم) ولا ينطق. وقيل: الأبكم والأخرس واحد.
قال ابن عرفة: تقدم في الأصول أنه إذا (تعارض الترادف) والتباين (فالتباين) أولى وانظر (ما معنى) كونهما سواء هل يرد الأبكم إلى الأخرس او بالعكس (وعادتهم) يقررونه بأن معنى كونهما سواء أن الأبكم والأخرس هو الذي لا ينطق سواء فهم أو لم يفهم، ولو فسرناه برد الأخرس إلى الأبكم للزم عليه الإهمال والتعطيل، لأنّه يكون الأصم من لا يسمع والأخرس والأبكم من لا ينطق ولا يفهم، (ويبقى) من يفهم ولا ينطق واسطة بينهما مهملا.
قيل (له) : إنا نجد الأخرس هكذا؟
(فقال) : قد يكون في الشيوخ الصم من تعطل فهمه.
قال: والترتيب في الآية (قدوره) بوجهين: إما أنه على حساب الوجود الخارجي لأن المكلف يسمع قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:

(1/159)


أني رسول من عند الله فينطق ويقول له: ما دليل صدقك (فيريه) انشقاق القمر (أو غَيره) من الآيات. وإما لأن الأمور منها (ما يصدرُ) عن الشخص وهو منفعل، ومنها ما (يصدر) عنه وهو فاعل، فحاسة السمع من (قبيل) قسم المنفعل لا من قسم الفاعل، لأن الإنسان يسمع الشيء من غيره، وليس له فعل، وحاسة النطق من (قسم) الفاعل لأنه لا يتكلم إلا باختياره إن أراد (تكلم) وإلا سكت، وحاسة البصر جامعة (للامرين) فالنظرة الفجائية من قسم المنفعل لا من قسم الفاعل لا تسبب (للإنسان) فيها، وما عداها من قسم الفاعل. فبدأ أولا (بقسم المنفعل) لأن الكلام في شيء مخلوق حادث والأصل في الحادث الانفعال لا الفعل، وهما خبر مبتدأ محذوف، وحسن حذف المبتدأ لكون الخبر لا يصح إلا له وتعدد الجنس فيه خلاف فمنعه بعضهم، وأجازه آخرون بشرط كون الجميع في معنى خبر واحد، ومنهمْ من كان يجعله خلافا ومنهم من يجمع بين القولين بأنّ الذي منع من التعدد إنما منع حيث يكون الخبران متناقضين كقولك: زيد قائم قاعد، أو متحرك ساكن. والذي أجازه بشرط الجمعية معنى واحد، هكذا مراده، لأن النقيضين لا يجتمعان في معنى واحد بوجه.
قال الله تعالى: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}

(1/160)


قال أبو البقاء: جملة مستأنفة، وقيل: في موضع نصب على الحال فتعقبه أبو حيان بأن ما بعد الفاء لا يكون حالا. قال: لأنّ الفاء للترتيب، والحال مقارنة لا ترتيب فيها.
قال ابن عرفة: الحكم بكون الفاء تمنع عمل ما قبلها فيما بعدها صحيح إلا أن هذا التعليل باطل لأنا نقول: تكون الحال مقدرة لا محصلة قال: وقوله: فهم لا يرجعون.
قيل: إنه خبر وقيل دعاء.
قال ابن عرفة: لا يتمّ كونه دعاء إلا أنّهم صمّ حقيقة، فإن أريد به المجاز فلا يصح الدعاء عليهم به.
قيل لابن عرفة: ولا يصح كونه حقيقة لأن مقتضاه لم يقع.
فقال: الدّعاء ليس من الله (فيلزم حصول متعلقه) بل هو (أمر) للنّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والملائكة. فالدّعاء عليهم بهذا اللفظ لا يلزم وقوعه فإنه تحصل للدّاعي مطلوبه، وقد لا يستجاب له، ويثاب على الدّعاء.
قال ابن عطية: وقال غيره، معناه: لا يرجعون، ما داموا على الحال التي (وصفهم بها) .
قال ابن عرفة: هذا تحصيل الحاصل.

(1/161)


قيل له: قد قال أهل المنطق: كل كاتب محرك يده ما دام كاتبا، ولم يجعلوه تحصيل الحاصل. فقال: (هؤلاء) ينظرون إلى المعنى، والنحوي كلامه في صحة تركيب (الألفاظ) (والاصطلاحان) متباينان.

(1/162)


أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)

قال الله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء ... }
قالوا: أو هنا (تحتمل معانيها) الخمسة.
قال ابن عرفة: وجعلها للتفصيل أصوب من جعلها للشك فإن الشكّ من حيث ذاته يحتمل ثلاثة معان وإن كان ذلك احتمالا ضعيفا.
تقول: زيد قائم أو قاعد تشك: هل هو قائم أم لا؟ ثم تشك هل هو قاعد أم لا؟ ويحتمل أن يكون غير ذلك ولا ينحصر الأمر إلا في دخولها بين نقيضين مثل زيد متحرك أو ساكن، ويبعد كونها للتخيير أو الإباحة لأنهما أكثر ما يكونان في الطلب، وهذا خبر، ويبعد الجمع بينهما هنا باعتبار الزمان لأن الناظر أولا ينظر/ إلى مستوقد النار فيشبههم به ثم ينظر إلى المطر النازل في الظلمات فيشبههم به، وهو على حذف مضاف. .
فإن جعلنا الذي اسْتَوْقَدَ النَّار جمعا (في التقدير) قلنا: أو كأهل صيّب، وإن جعلناه واحدا بالنوع قدرنا المضاف أو كذي صيّب.

(1/162)


وأورد الزمخشري سؤالا قال: ما الفائدة في قوله: (من) السماء؟ وكأنه إخبار بالمعلوم (كقولك) : الماء فوقنا والأرض تحتنا ولذلك منع سيبويه الابتداء بالنكرة كقولك: رجل قائم، إذ لا فائدة فيه. وأجاب بجواب لا ينهض.
قال شيخنا الإمام ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن فائدة التنبيه على كثرة ما فيه من الهول لأن حصول الألم والتأثير بشيء ينزل من موضع مرتفع بعيد الارتفاع أشد من حصوله مما ينزل من موضع دونه فى الارتفاع، فأخبر الله تعالى أن هذا المطر ينزل من السماء البعيدة، فيكون تأثيره وتأثير رعده، وبرقه وصواعقه أشد.
قال الله تعالى: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ ... }
(يحتمل أن يكون من باب القلب لأن المطر ينزل في الظلمات لأن الظلمات فيه) يحتمل أن يكون الظلمات في المطر حقيقة والأول أظهر و (كذا) تقدم لنا في قوله تعالى: {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل} وفي قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْنَاقِهِمْ

(1/163)


أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأذقان فَهُم مُّقْمَحُونَ} وتقدم لنا أنه من باب القلب (فإن أعناقهم) هي التي في الأغلال لا العكس، وتقدم الجواب عنه بأنه (حقيقة) على أنّ الأغلال ضيقة جدا (فتحصر) أعناقهم وتدخل فيها حتى تصير الأغلال مضروبة في أعناقهم.
قوله تعالى: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ... }
هذا الترتيب باعتبار الأعم الأغلب في الوجود لوجود الظلام في كل دورة لأن كل يوم معه ليلة، وذكر الرعد بعده لأنه أكثر وجود من البرق لأن البرق لا بد معه من الرعد، والرعد قد يكون معه برق وقد لا يكون، أو لأن الرعد في (الظّلمة) أشد على النفوس من الرّعد في (الظّلمة) أشد على النفوس من الرّعد في الضوء، (والآية خرجت) مخرج التخويف فابتدأ (فيها) بما هو أشد (في) التخويف.
قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ ... }
ولم يقل: أنامل أصابعهم والمجعول إنما هي الأنامل إشارة إلى شدة جعلها وقوة الشدّ لها، حتى كأنّهم يجعلون الإصبع كلّها.

(1/164)


وقال ابن عرفة: وجمع الأصابع إشارة إلى شدة تحيرهم وخوفهم وأنّهم لم يتأمّلوا ويهتدوا حتى يجعلوا إصبعا واحدة ((وهي السبابة فهم تارة يجعلون هذا وتارة هذا حتى (يجعلوا) الجميع)) .
قوله تعالى: {مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت ... }
أي حذرا من أن يقرع ذلك الصوت أسماعهم فيموتون.
قال ابن عرفة: واختلفوا في وجه التشبيه (فهو عندي كما قرره) بعضهم راجع لتشبيه محسوس أي: أن المنافقين في خوفهم وفي حيرتهم مشبهون بمن يدركه هذا الصيب والرعد والبرق.
قوله تعالى: {والله مُحِيطٌ بالكافرين}
(هذه) تسلية للنّبي صلى الله عليه وسلّم. والمراد بالكافرين إمّا المنافقين أي لا تهتم بأمرهم فالله يكفيكهم فإنه محيط بهم إحاطة هلاك في الدنيا (وعذاب) في الآخرة، أو المراد عموم الكافرين هؤلاء منهم، وهذا كالاحتراس لأنه لما أخبر عنهم أنّهم في غاية الخوف والحذر من المؤمنين شبّههم بمن (يسدّ أذنيه خشية) الموت، والخائف في (مظنة) (السلامة لأنه يكون على حذر من عدوه وتحرز منه ويرتكب أسباب النجاة فأخبر الله تعالى أنّهم ليسوا من هذا القبيل

(1/165)


بل لا نجاة لهم مما هم خائفون منه فالله محيط بهم إحاطة إهلاك وانتقام.

(1/166)


يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

قوله تعالى: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ... }
قال ابن عرفة: هذا من (تمام) قوله: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} فصل بينهما بجملة اعتراض وهي قوله {والله مُحِيطٌ بالكافرين} أتت (مشددة) لما قبلها.
قال: واختلفوا في كاد فقيل: (نفيها) إيجاب، وإيجابها نفي.
قال ابن الحاجب: إذا دخل النفي عليها فهي كالأفعال (على الاصح وقيل: إنها تقتضي الثبوت مع الماضي والمستقبل، وقيل: مع الماضي للاثبات ومع الاستقبال كالأفعال) وانظر أبا حيان.

(1/166)


قال ابن عرفة: الظّاهر عندي أن (الخلاف) لفظي يرجع إلى (الوفاق) فمن رده النفي إلى المقاربة جعلها كسائر الأفعال ومن رده إلى نفس الفعل الذي تعلقت به المقاربة قال نفيها إثبات وإثباتها نفي.
فإن قلت: هلا قال: كلما أنار لهم مشواْ فيه؟
(والجواب: أنه لشدة) الظّلمة (لا يزيلها) إلاّ شدة الضوء (وقليل) النور لا يزيلها، أو لشدّة (الضوء) عقب شدة الظلمة إذ هو (أشد في التخويف) .
(فإن قلت) : هلا قيل: وإذا ذهب ضوؤه عنهم قاموا فإن ذهاب الضوء يكون بحصول مطلق (الظلمة) حسبما تقدم أن الضوء هو إفراط الإنارة.
والجواب بأنّ الحالتين لا واسطة بينهما: فإما ظلام شديد وإما ضوء شديد وهذا أبلغ في التخويف، وهو معاقبة ظلام شديد (بضوء شديد) سريع الذهاب يعقبه أيضا ظلام شديد.
فإن قلت: ما أفاد قوله فيه مع أن المعنى يهدي إليه؟

(1/167)


قلنا: أفاد أنهم لا يمشون إلا في موضع الضوء خاصة، ولا يستطيعون المشي في غيره.
فإن قلت: ما أفاد قوله «عَلَيْهمْ» ؟
قلنا: التنبيه على أنّ تلك الظّلمات عقوبة فهي ظلمة عليهم ولأجلهم فليست على غيرهم بوجه.
قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ... }
فإن قلت: هلا علقت المشيئة بما (تحذروا) منه، وهو الموت لأنهم لم يتحذروا من الصمم والعمى؟
والجواب: أن الموت أمر غالب عام متكرر في العادة ليس لأحد مقدرة عن التحرز منه (وأما ذهاب السمع والبصر فهو نادر ليس بعام يمكن المخالفة فيه وادّعاء الحذر منه) (بالتحرز) والتحصن بأسباب النجاة فلذلك أسندت (المشيئات) إليه.
قلت: (أو) لأنهم لم يتحرّزوا من الموت ألاّ بسدّ سمعهم فلذلك أسند الذهاب إليه.
قال الطيبي: والآية حجّة لمن يقول: إن القدرة (تتعلق) بالعدم الإضافي لأن المعنى: لو شاء الله أن يعدم سمعهم لعدمه.

(1/168)


وردّه ابن عرفة: بأن القدرة إنما تعلقت بإيجاد نقيض السمع والبصر في المحل، فانعدم السمع والبصر إذ ذاك لوجود نقيضهما لا لكون القدرة تعلقت بإعدامهما.
قال الطيبي: في مناسبة هذه الآية إنّه لما تقدم أن الرعد سبب/ لإذهاب سمعهم والبرق سبب لإذهاب سمعهم والبرق سبب لإذهاب بصرهم نبّه بهذا على أنّه ليس بسبب عقلي فيلزم ولا ينفك بل هو سبب عادي بخلق الله تعالى ولم يقع ولو شاء أن يقع لوقع.
قوله تعالى: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
قال ابن التلمساني: لا خلاف لأن المعدوم باعتبار التقرر في الأزل لا يصدق عليه شيء واختلفوا في الإطلاق اللّفظي (فذهب المعتزلة إلى أنه يطلق عليه شيء) ومنعه أهل السنة.
قلت: وقال الآمدي في أبكار الأفكار: هما مسألتان:
- أحدهما: هل يطلق على المعدوم شيء أم لا ولا (ينبني عليها) كفر ولا إيمان؟
والثانية: هل المعدوم تقرر في الأزل أم لا؟

(1/169)


فذهب المعتزلة إلى أنّ له تقررا في الأزل ويلزمهم الكفر وقدم العالم.
قال الزمخشري: (في) أن الشيء يطلق على الممكن والمستحيل.
وظاهر الآية حجة المعتزلة لأنه لو كان المراد أن الله على كل (شيء) موجودٍ قديرٌ للزم تحصيل الحاصل.
فإن قلت: يصح تعليق القدرة بالموجود عند من (يقول) : إن (العَرض) لا يبقى زمانين؟
(قلت) : إن كانت القدرة متعلقة (بالعرض الموجود) فيلزم تحصيل الحاصل، وإن تعلقت بإيجاد العرض الذي يخلقه (هو) حين التعلق معدوم فيلزم تعلقها بالمعدوم.
قلت: وأجيب بثلاثة أوجه:
الجواب الأول: أجاب القرافي في شرح الأربعين لابن الخطيب بأن المشتق كاسم الفاعل لا خلاف في صحة (صدقه)

(1/170)


حقيقة في الحال (مجاز) في الاستقبال. (واختلفوا) في صدقه عن الماضي. قال: هذا إذا كان (محكوما) به، وأما إذا كان متعلق الحكم فلا خلاف في صحة صدقه على الأزمنة الثلاثة حقيقة (نحو القائم في الدار) (قال) : وكذلك لفظة شيء إن كان محكوما به كقولنا: المعدوم شيء، ففيه التفصيل المتقدم، وإن كان متعلق الحكم كهذه الآية فلا خلاف أنه يصدق على المستقبل حقيقة.
الجواب الثاني: قال ابن عرفة: القدرة تتعلق بالممكن لعدم المقدر الموجود كما يفهم (من) معنى قوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} المراد من حصل منه الزنا (بالفعل) ، ومن سيحصل منه الزنا يصدق عليه في الحال أنّه زان (باعتبار) على تقدير (وجوده) ، وهذا كما (يقول) المنطقيون: القضية الخارجية والقضية الحقيقية ويجعلون (القضية) الخارجية عامة في الأزمنة الثلاثة مثل كل أسود مجمع للبصر وكل أبيض (مفرق) للبصر. والمراد (به) كل موصوف بالسّواد مطلقا في الماضي والحال والاستقبال.

(1/171)


فإن قلت: (هلا) يلزمكم تخصيصه بالممكن الذي علم الله تعالى أنه يوجد ولا (يصدق) (على الممكن الذي علم الله) أنه لا يوجد؟
قلنا: نعم وصح إطلاق الحدوث عليه لأن الآية خطاب للعوام ولو كان خطابا للخواص لتناولت الممكن بالإطلاق الذي علم لله أنه (لم يوجد) فالمراد: الله قادر على كل شيء موجود لأن الخطاب للعوام. ونظيره الوجهان (المذكوران) في الاستدلال على وجود الصانع.
قالوا: ثم دليل الإمكان يخاطب به الخواص، ودليل الحدوث بخاطب به الجميع.
وأشار الطيبي إلى هذا وزاد جوابا آخر، وهو ثالث، وهو الجواب الثالث: أن لفظة شيء تصدق على الموجود عند (وجود) أول جزء منه فيصح تعلق القدرة به (إذ ذَاك) .
قالوا: وهذا العموم مخصوص بالمستحيل.

(1/172)


وقال ابن فورك: لا يحتاج إلى تخصيصه لأنك إذا قلت (للآخر) كل مما في هذا البيت فلا (تأكل) إلا مما هو مطعوم، وما ليس بمطعوم لا تأكله. وكذلك هو الذي وقع به التخصيص اللّفظُ يأباه فلا يحتاج إلى إخراجه منه.
قال ابن عرفة: «إنّا إن اعتبرنا لفظ شيء من حيث الإفراد وجب التخصيص (وإن) اعتبرناه من حيث التركيب لم يحتج إلى تخصيصه.
قال ابن الخطيب:» لو كان (لفظ) شيء عاما في الموجود والمعدوم لما صدق على الموجود شيء لأن الآية دلّت على أن تعلق القدرة في العدم فلا يصدق عليه بعد الوجود شيء «.
وأبطله ابن عرفة بأنه ما صار موجودا حتى ثبت له ذلك الاسم (في) العدم وتعلقت به القدرة وصدق عليه لفظ شيء» .

(1/173)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)

قوله تعالى: {ياأيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ ... }
قال ابن عرفة: هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب لأنه تقدم الكلام بين المسلمين والمنافقين بلفظ الغيبة ثم أقبل على الجميع بالنداء وهو خطاب لمشركي مكة.
قال القاضي العماد: « (في) هذا اضطراب وتناقض لأن جعله التفاتا يقتضي خطاب جميع الناس مسلمهم وكافرهم» .

(1/173)


وأجاب ابن عرفة: بأنه خطاب لجميع الناس الذين منهم مشركو مكة.
قال: وإذا قلنا إن السورة مدنية كيف يخاطب مشركو مكة؟ إلا أن يقال: إنه خطاب للجميع ويتناول مشركي مكة وإن كانوا غالبين من باب تغليب المخاطب على الغائب.
قال: وحرف النداء اما اسم فعل لأنادي وأنادي إما خبر أو إنشاء والصحيح أنه إنشاء في معنى الخبر يدل عليه قول الفقهاء: إن من قال لرجل: «يا زان» إنّه يحدّ.
(قال) : ويَا نداء للبعيد ويستعمل في القريب مجازا.
وقيل إنه (وضع) أيضا للقريب فيكون مشتركا فيتعارض الاشتراك والمجاز فالمجاز (أولى) .
وعلى ما قال ابن الخطيب في القدر المشترك: يكون للقدر المشترك بينهما وهو أول من تكلّم به أعني ابن الخطيب.
وقال بعضهم: لم تعرف العرب القدر المشترك بوجه. ورده بعضهم بتفريق الجزولي بين علم الجنس وعلم الشخص.
قال: وحرف النداء جرى مجرى أداة التعريف فلذلك لم تدخل على ما فيه الألف واللام إلا بواسطة أي.

(1/174)


قال (ابن عرفة) : وعادتهم يردّون بقولك: يا/ رَجُل فلو كان (للتعريف) (لما صحّ) دخوله على النكرة.
وأجاب بأن النكرة غير مقبل عليها، والتعريف في المنادى إنما هو (بما فيه من) معنى الإقبال.
والنّاسُ (إن) أريد به أهل مكة فيدخل غيرهم من باب خطاب التسوية، (لأنّهم) يتناولهم التكليف كما قال اللّخمي في أول كتاب النكاح.
قال مجاهد: {ياأيها الناس} حيث وقع (فهو) مكي و {ياأيها الذينءَامَنُواْ} مدني.
(قال الطّيبي) أكثر اقتران النّاس بلفظ الرّبّ.
قال ابن عرفة: لأنه تكليف للجميع من المؤمنين والكافرين، فحسن فيه وصف التربية (بالإحسان) والإنعام على سبيل التهييج

(1/175)


للامتثال. ولما كان الآخر خطابا لمن حصل له الإيمان بالفعل لم يحتج إلى ذلك التأكيد.
وَاعْبُدُو: حمله ابن عطية على التوحيد. وحمله الزمخشري على الطاعات.
قال الطّبري: وفيها حجة لأهل السنة القائلين بوقوع تكليف مالا يطاق (لأنّ) من جملة الناس المنافقون المخبر عنهم بأن الله ختم على قلوبهم (وسمعهم) .
(وردّه ابن عرفة بأن هذا ليس من محل النزاع) .
فقد استثنى ابن التلمساني في شرح المعالم (الفقهية) في المسألة الرابعة عشر من باب الأوامر استثناء المحال عقلا كالكون في محلين في وقت واحد، والمحال عادة. كالطيران في الهواء فقال: هذا لا يصحّ التكليف به (إلاّ مع التمكن ومع القدرة عليه.
كما يحكى عن الركراكي وغيره من الصالحين وهذا) (

(1/176)


ليس) من ذلك القبيل بل يصح التكليف به وإن كان غير واقع في علم الله تعالى.
وحمل الزمخشري (الترجي) على الوجوب وهو المناسب لمذهب المعتزلة لأنهم يقولون: إن الطائع يجب على الله أن يثيبه وكما قالوا في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} قال ابن عرفة: وإذا فسّرنا العبادة بالتوحيد كما قال ابن عطية بيكون في الآية دليل على أن النظر واجب بالعقل، ولو وجب بالشرع لأمروا أولا بالنظر ثم بالتوحيد.
فإن فسرنا العبادة بفعل التكاليف الشرعية من الصلاة والزكاة وغير ذلك كما قال الزمخشري فيكون فيها دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة إلا أن يقال: إنهم كلفوا بالايمان وبفروعه ضربة واحدة.

(1/177)


الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

قوله تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً ... }
أخبرهم أنّ الله تعالى خلقهم، وعقّبه ببيان ما هو من ضروريات الأجسام المخلوقة وهو الخبر. وعبّر عنه بالفراش تنبيها على أنه نعمة لهم كالفراش الذي ينام عليه الإنسان، ويتلذذ به، ويطمئن إليه.

(1/177)


قال الزمخشري: والموصول إما منصوب صفة للنعت كالذي خلقكم أو على المدح والتعظيم أو رفع على الابتداء وفيه ما في النصب من المدح.
قال ابن عرفة: لا يكون فيه ما في النصب إلا إذا كان خبرا (لمبتدإ) مضمر لأن معناه الممدوح الذي جعل لكم وأما إذا كان مبتدأ فلا يفيد ذلك التعظيم الذي في النصب بل دونه لأنه إذا جعله خبرا يقدر المبتدأ معرفا بالألف واللام فيفيد الحصر والتعظيم، وإن جعله مبتدأ (يقدر) خبره نكرة.
فإن قلت: هلا قيل: الذي جعل لكم ولمن قبلكم (كما قيل {الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ) } فالجَواب من أوجه.
قال ابن عرفة: إمّا أن يجاب بأنه من (الحذف) من (الثاني) لدلالة (الأول) عليه، أو (بأن) حصول العلم بخلق الله لهم لا يستلزم العلم بخلق الله لمن قبلهم لزوما عقليا، بخلاف

(1/178)


الاخبار بجعل الأرض فراشا لهم بعد أن ذكر أن الله (خلقهم) وخلق من قبلهم فإنه لا يستلزم عقلا (جعلها فراشا لمن قبلهم كما جعلت فراشا لهم) أو يجاب (بأنه من تغليب المخاطب على الغائب) . أو بأن الآية خرجت مخرج الامتنان (بما هو مأوى المخاطبين) فامتنّ عليهم بخلقهم، ثمّ بخلق آبائهم الذين هم سبب فيهم، ثم جعل الأرض لهم فراشا (لأنها) سبب في دوام وجودهم ونعمة لهم، ولم، يحتج إلى ذكر كونها فراشا لمن قبلهم لأن الامتنان (إنما) هو لها، وإنّما المخاطبون (الأحياء، ومن) قبلهم قد ماتوا وانتفى عنهم التكليف.
قال ابن عرفة: والأرض (كرويّة) والكرة الحقيقية لا يمكن أن (يوجد) فيها خط مستقيم بوجه حسبما برهن عليه إقليدس.
قال ابن الخطيب في الأربعين: لما استدل على بطلان الجوهر الفرد قال: إن الكرة الحقيقية إذا ما مسّت جزءا من الأرض فإن قلنا:

(1/179)


إنّ ذلك الجزء لا ينقسم فهو الجوهر الفرد وإن قلنا: إنه ينقسم لزم أن يكون في الكرة خط مستقيم وهو باطل.
قال ابن عرفة: فالصواب أن الكرة محددة (بكور) أخر (وضع عليها) (كما تأخذ) رطلا من شمع فتصنع من نصفه كرة وتأخذ (باقيه) تضعه على أجنابها (تسويها به) وكذا تعرض الأرض قال: (قبة أزين) في وسط الأرض.
وذكروا أنه لا يعيش هناك أحد لكثرة ما فيها من الحرارة.
قلت: وقال الشيخ عبد الخالق: والحكماء لما قاسوا الأرض اختلف عليهم وسطها الحقيقي لكن الاختلاف في مواضع قريب بعضها من بعض فبنوا عليه القبة على مواضع مسافتها ثلاثة أميال حتى

(1/180)


تحققوا أنها احتوت على وسط الأرض الحقيقي قال: ورأيت رجلا رجلا أعجميا أخبر أنه رآها وسمع فيها الأفلاك ودوي حركتها.
وأخبروا عن الحكيم (فيتاغوش) أنه أتى عليه وقت تروحن فيه وصعد إلى قريب السماء فسمع حس الأفلاك (قال) : ويسمع أحسن من ذلك الحس فنزل (واستنبط صنعة الديباج) مما رأى في السماء والله أعلم.
وقبة (أزين) بينها وبين جبل سرنديب درجتان لأن عرضه درجتان في الإقليم الأول وهو عامر والدرج يقابله في الأميال مائة ميل على ما عليه الأكثرون وصحّحوه. وقيل: مائة وثمانية وقيل: ستة وستون. ومن يكن في القبة يظهر له القطبان محاذيين للأفق.

(1/181)


قيل لابن عرفة: إن الفخر في المباحث المشرقية ذكر أن الأرض على الماء (وجهتها الموالية) للماء كروية وأعلاها مسطح ولولا ذلك لما استقرت على الماء والله أعلم.
قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ ... }
المراد بالرزق المباح فهو عند المعتزلة من مادة اللّفظ على أصلهم وعندنا من (ناحية) أن الآية خرجت مخرج الامتنان والامتنان إنما يكون بالحلال (لا بالحرام) .
قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}
أي وأنتم تعلمون الله.
قيل لابن عرفة: فيه دليل على أن كفرهم عناد؟
قال: لا. بل هم عارفون بالله لأنهم قالوا في الأصنام {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله} وهم جاهلون بما يبطل عبادتهم الأصنام للتقرب أو (نقول) (المعنى)

(1/182)


وأنتم تعلمون الآيات والدلائل التي تدلكم على عبادته، (لكنّهم) لم يهتدوا (للعثور على الوجه) الذي منه يدل (الدليل إن كان ارتباط الدليل بالمدلول عقلا أو يقول: علموا الدليل، وعثروا على الوجه الذي منه يدل) ، ولم يحصل لهم العلم بالمدلول بناء على ارتباط الدليل بالمدلول عادي.

(1/183)


وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)

قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ ... }
قال ابن عرفة: لمّا تقدم الكلام معهم في الإيمان بتوحيد الله والإيمان بالرسالة عقب ذلك بما جرت به العادة (في المخاطبة) بالجدل، وهو (أنكم) وقع منكم شك في البرهان الذي أتاكم به الرسول دليلا على صحة رسالته فعارضوه، وهذا أحد أنواع الجدل وهو إما القدح في دليل الخصم، أو معارضته بدليل آخر.
(قيل) : لابن عرفة: هم ادعوا أن القدح في الدليل فهلا عجزوا بذلك؟
فقال: (قد) نجد الخصم يدعي دعاوي (جملة) ويقدح في دعاوي خصمه، ولا يقبل منها شيّا إلا ما يمكن أن يكون فيه شبهة.
قال: والأظهر أن الريب هو عدم الجزم بالشيء، فتناول الظن والشك والوهم، لأن الإيمان لا يحصل إلا بالجزم اليقيني، وما عداه كله ليس بإيمان.

(1/183)


قال: وعبّر ب «إن» دون إِذَا لأن المراد (التنبيه) عن حالهم، وانها مذمومة شرعا فعبر عنها لما يقتضي عدم الوقوع وإن كانت واقعة.
وأورد الزمخشري أن نزّل يقتضي التنجيم، وأنزل يقتضي الإنزال دفعة واحدة. وأجاب (عن ذلك) بأن المراد أنه نزل شيئا بعد شيء.
قال ابن عرفة: ونقضوا هذا بقوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً وَاحِدَةً} وتقدم الجواب عنه.
قال التلمساني: من أن اللّفظ (قد) يدل على المعنى بظاهره ولا (يظهر) (بخلافه) في بعض الصور.
فإن قلت: ما الحكمة في تنزيله منجما؟
(قلنا) : علله بعضهم بما في الآية وهي: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}

(1/184)


قال ابن عرفة: يرد عليه أنه من الجائز أن يثبت الله تعالى به فؤادك صلّى الله عليه وسلم مع نزوله جملة واحدة.
قال: ويمكن تعليله بأن ذلك الأظهر فيه كمال الدلالة على صدقه لأن العادة أن رسول الملك إذا كذب عليه إنما يكذب مرّة واحدة وبعيد أن (يكرر) الكذب خشية التفطن منه والعلم به فلو أنزل عليه في مرة واحدة لقويت التهمة في حقه فلما تكرر إنزاله مرارا كان ذلك ادعى لجواب تصديقه.
قوله تعالى: {على عَبْدِنَا ... }
ولم يقل على رسولنا تنبيها على ما يقوله أهل السّنة من أنّ الرّسول من جنس البشر وعلى طبعهم (وأنّ وصف الرسالة أمر اختص) الله به من شاء من عباده وليست في ذواتهم زيادة (موجبة) بوجه.
وقال القرطبي: إنما قال ذلك لأن العبودية تقتضي التذلل والخضوع ولا شك أن التذلل للبارئ جل وعلا هو أشرف الأشياء.
قال ابن عرفة: نمنع ذلك بل (وصف الرسالة أفضل منه) فهلا قيل: مما نزلنا على رسولنا؟
وقال بعضهم: إنما ذلك تنبيها على أنّهم إذا ذموا على مخالفته مع استحضار كونه عبدا فأحرى أن يذموا على ذلك مع استحضار كونه رسولا من عند الله.
و

(1/185)


(قرئ) {مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} . فإن قلت: إنما هم في ريب مما نَزَلَ على عبدنا هذا فقط،
قلنا: الشك في المنزل على هذا شك في المنزل على من قبله لأن الكل رسل من عند الله يصدق بعضهم بعضا فالشكّ في أحدهم شكّ في الجميع.
قوله تعالى: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ... }
قال ابن عرفة: (قال ابن عطية) : قال الأكثرون: مثل نظمه ووصفه وفصاحة معانيه ولا يعجزهم إلا (التأليف) الذي خص الله به القرآن، وبه وقع الإعجاز عند الحذاق.
وقال بعضهم: من مثله في غيوبه وصدقه وقدمه (في التحدي وقع عند هؤلاء بالقديم) .
قال ابن عرفة: إن قلت: هذا (الخلاف) مخالف لما (نصّ) عليه الفخر وإمام الحرمين في الإرشاد من أن المعجزة

(1/186)


من شرطها أن تكون حادثة لأنها (إن) كانت قديمة استحال أن يأتي بها الرسول، (أو تكون) دليلا على صدقه لأن الرسول حادث.
(قلت) : القديم هنا ليس هو كل المتحدى به هو جزء من أجزاء المعجزة التي تحدّى بها الرسول، فالرسول تحدى بكلام لا مثل له في صدقه وإخباره بالغيوب وأن مدلوله (هو القديم) .
قال المقترح وابن بزيزة في شرح الإرشاد: اختلفوا هل يجوز أن تعلم صحة الرسالة بغير المعجزة (أم لا) ؟

(1/187)


فأجاز القاضي أبو بكر الباقلاني وابن فورك في تأليفه في الأصول ومنعه إمام الحرمين هذا في الجواز. وأما الوقوع فلم يقع في الوجود إلا مع المعجزة (اتفاقا) وكان بعضهم يقول: هذا إنما لا ينبغي الخوض فيه لأنه كلام لغير فائدة لا ينبغي عليه كفر ولا إيمان.
(وكان الشيخ الصالح الزاهد أبو محمد عبد الهادي نقل عنه بعضهم أنه قال: يجوز في العقل أن يخلق الله خلقا أكرم عليه من نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسمع بذلك) الشيخ الصالح أبو الحسن علي بن المنتصر الصوفي فأنكره الإنكار التام وألزمه إلزاما

(1/188)


شنيعا. واجتمع بابن عبد السلام القاضي فخفف أمره حتى وقعت بين الشيخين وحشة عظيمة/ بسبب قوله يجوز أن يخلق الله عقلا أكرم من نبيّه محمد صلى الله عليه وسلّم.
(قوله تعالى: {وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
يحتمل أن يريد بالشهادة أي الاستصراخ للاجتماع والتعاون على الإتيان بمثله ويحتمل أن يريد فأتوا بمثله واستحضروا شهداءكم لا شاهدا واحدا يشهدون لكم أنه من عند الله. وعبّر «بإِنْ» تنبيها على أن صدقهم في ذلك محال) .

(1/189)


فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ ... }
قال ابن عرفة: لما أمرهم بالعبادة على لسان نبيه المقارنة للبرهان الدال على صدقه (وهو القرآن) وعجزهم بأنّهم إن لم (يفعلوا) ذلك (فليأتوا) بسورة من مثله قال هنا: فإن عجزتم ولم تقدروا على معارضته فاعلموا أن الرسول صادق فيجب عليكم الإيمان به (ثم قال) : {فاتقوا النار} (فأقام) مقام السبب الذي هو منه في ثالث رتبة أي: فإن لم تفعلوا تبين لكم أن ذلك معجزة وإذا تبين أنه معجزة دل ذلك على صدقه فمهما أخبر به، (فيكون سببا في الإيمان به) وفي تصديقه والإيمان به سبب في اتّقاء النار.

(1/189)


قال الزّمخشري: فإن قلت: امتناع معارضتهم القرآن واجب هلا قيل: فإذا لم تفعلوا؟
وأجاب بوجهين: الأول أنه ساق ذلك على حسب نيتهم وقصدهم وأنهم كانوا يزعمون أنهم يقدرون على معارضته.
الثاني: انّه تهكّم بهم كقول الفارس النحرير لمن دونه: «إن غلبتك في كذا» .
قال ابن عرفة: وأنكر الشيخ أبو علي عمر بن خليل السّكوني هذا الإطلاق (لئلا) يلزم عليه أن يسمي الله تعالى متهكما، وأسماؤه تعالى توقيفية.
وكان بعضهم يرد عليه بإجماع المسلمين على ورود المجاز في القرآن مع امتناع أن يقال فيه سبحانه وتعالى متجوز.

(1/190)


فقال ابن عرفة: والصحيح أن التهكّم يطلق على معنيين: تقول تارة هذه القصيدة التي هي (للمعري: هو فيها) متهكم وتارة تقول فهمنا منها التهكم، ولا يلزم منه أن يكون (المعري) هو فيها متهكم بل التهكم باعتبار ما فهمنا نحن وعلى الأول يكون هو متهكما، فإطلاق التهكم على البارء جلّ وعلا بالمعنى الأول باطلا قطعا، وبالثاني (حق) .
قال ابن عرفة: ويظهر (لي) عن السؤال جواب ثالث، وهو أن هذا على سبيل التعظيم بالمخاطبات، وهو أن يظهر أحد الخصمين لآخر أنه مغلوب، أو شاك في الغلبة أو متوقع لها ولا (يريه) انه محقق أنه الغالب له لئلا (يتحرز منه) أو يرجع عن مخاصمته بدليل قوله تعالى «وَلَن تَفْعَلُواْ» .
قال القرطبي: معناه فإنْ لَّمْ تَفْعَلُواْ في الماضي وَلَن تَفْعَلُواْ في المستقبل.
قال ابن عرفة: فإن قلت: لم تخلص الفعل للماضي (وإن) تخلصه للاستقبال وهما متباينان؟

(1/191)


فالجواب: أنّ «لم» خلصت الفعل ( «ولن» ) دخلت على الجملة فخلصتها.
قال بعض الناس: فإذا قلت: إن لم يقم زيد قام عمرو فلم يقم مستقبل باعتبار ما مضى. والمعنى أن يقدر في المستقبل أنه لم يقم (زيد) فيما مضى فقد قام عمرو. ونظيره ما أجابوا به في قوله تعالى {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} لأن الشرط يخلص الفعل للاستقبال والمعنى يدل على أنه ماض.
قالوا: المراد أن (يقول) في المستقبل إني إن قلته فيما مضى فقد عملته فكذلك هنا. فإن قلت: لم عدلوا في قولك: إن قام زيد قام عمرو إلى لفظ الماضى والأصل أن يعبروا بالمستقبل لفظا ومعنى؟
قلت: إما لتحقيق قيامه في المستقبل حتى كأنه واقع أو التفاؤل بذلك أو للتنبيه على أن قيامه محبوب مراد وقوعه.
فإن قلت: (كان يلزمهم) أن يعبروا بإذا (موضع إن) ؟
قلت: إذا لا تدخل إلا على المحقق وقوعه وإن تدخل على الممكن وقوعه، وعلى المحال مثل {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} فإن أعم من أن تكون في هذا وفي هذا.

(1/192)


قوله تعالى: {فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة ... }
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هي حجارة الكبريت.
((قال) بن عرفة: معناه مقارنة الناس لها أي هي نار شديدة دائمة (حالة) حلول أجسامهم الرطبة فيها كما لو كان فيها) فإنها لا تزال أبدا تشتعل كاشتعال النّار في الوقود.
وقال الزمخشري: عرف النار هنا ونكرها في سورة التحريم لأن تلك الاية نزلت أولا بمكة وهذه نزلت بالمدينة بعد ما عرفوا (النار) وتقررت عندهم.
قيل لابن عرفة: هذا مردود بما تقدم للزمخشري عن ابراهيم بن علقمة ولابن عطية عن مجاهد أن كل شيء نزل فيه يا أيها الناس فهو مكي ويا أيها الذين آمنوا فهو مدني وصوب ابن عطية (قوله) في يا أيَهَا الَّذِينَ آمَنُوا بخلاف قوله في أيها الناس

(1/193)


فقال ابن عرفة: قال ابن عطية: ان سورة التحريم مدنية بإجماع لكن يقول الزّمخشري إن تلك الآية منها فقط نزلت بمكة، فيكون دليلا على تقدم نزولها على هذه وهو المراد.

(1/194)


وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)

قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الذينءَامَنُواْ ... }

(1/194)


قال الزمخشري: معطوف إما على {فاتقوا النار} أو على الجملة (كلها) .
واعترض أبو حيّان الأول بأن «فاتقوا» جواب الشرط وموضعه جزم وبشر لا يصح أن يكون جوابا لأنَّه أمر بالبشارة مطلقا مطلقا إلا على تقدير أن لم تفعلوا.
ورده المختصر بوجهين: الأول نص الفارسي وجماعة في مثل زيد ضربته وعمرو كلمته أنه معطوف على الجملة الصغرى مع أن عمرو كلمته يمتنع أن يون خبرا (عن) زيد لعدم الرابط فكذا لا يصح أن يعطف على الجواب ما ليس جوابا.
قال ابن عرفة: ونظيره رب شاة وسلخها مع أن ربّ لا تدخل إلا على النكرة.
وأجاب المختصر عن قوله لأنه أمر بالبشارة مطلقا (بأن) الواقع عدم الفعل جزما (ولهذا قال) : «وَلَن تَفْعَلُواْ» فليس ثم تقدير: إن فعلتم فلا (تبشير واقع بل) الأمر بالبشارة واقع مطلقا.
وارتضى ابن عرفة الأول، وضعف الثاني بالفرق بين جواب الشرط وغيره، فإن المشاركة في العطف جواب الشرط المعنى يقتضيها [و]

(1/195)


بخلاف العطف (على غيره) فإنه قد يكون مراعاة/ لمقتضى اللفظ وأما الشرط فالمعنى فيه يؤكد الارتباط.
قلت: ورد غيره الأول بأن (الصغرى عاطفة) على الكبرى لعدم الرّابط إلا أن يقول: وعمرو أكرمته في داره.
قال: وقول سيبويه: إنه (معطوف) على الصغرى ليس على ظاهره إن لم يتعرض لإصلاح اللّفظ ولو سئل عنه لقال لا بد من الربط.
وقال الفارسي: إنه محمول على الصغرى في النصب ومعطوف على الكبرى ولا يلزم من الحمل على الصغرى أن يكون معطوفا عليها إنّما روعي في المشاركة اللّفظية فقط.
(ابن عرفة) : نص عليه ابن الصفار وابن عصفور في شرح الإيضاح وشرح الجمل الكبير.

(1/196)


قال: وأما رب شاة وسلخها فضمير النكرة عندهم نكرة كما تقول (ربه رجلا) .
قلت: واحتج ابن عصفور (للفارسي) بأن العرب لاحظوا المناسبة في كثير من كلامهم واختاروا التصب في «ضربت القوم حتى زيدا ضربته» مع أنه غير معطوف لأن حتى لا تعطف الجمل وكذلك اختاروا في زيد ضربته إذا كان جوابا لمن قال: أيهم ضربت، بالرفع أن يرتفع، وبالنّصب أن ينتصب، فقد لاحظوا المناسبة في عدم العطف وهذا كله (نصّ) على أنه ليس معطوفا على الصغرى (بوجه بل محمولا عليها في النصب للمشاركة بين (الجملة) وبين ما يليها خاصة) .
قال ابن عطية: الأغلب استعمال البشارة في الخير وقد تستعمل في الشر مقيدة به فمتى أطلقت فهي في الخبر.
قال الزمخشري: البشارة الإخبار بما يظهر سرور المخبر به أو عنه.
قال: و (أما) {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المسْتَهْزَإ به وتألمه.

(1/197)


قال ابن عرفة: جعله الزمخشري من قسم المنفرد، وابن عطية من قسم المشترك.
نص الأصوليون في التعارض أن الإفراد (أولى) .
قال الزمخشري: ومن ثم قال العلماء فيمن قال لعبيدِه: «أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر» ، فبشروه فرادى فعتق أولهم، ولو قال: أيكم أخبرني (بقدوم فلان فهو حر) م، فأخبروه فرادى عتقوا كلهم.
قال ابن عرفة: عوائدهم يقولون: لا فرق بينهما فإن الإخبار الثاني بعد الأول لم يفد شيئا فهو تحصيل الحاصل فليس بإخبار في الحقيقة.
قال: لكن يجاب عنه بأن في الإيمان والنذور من المدونة ما نصه: «ومن حلف لرجل إن علِم كذا ليعلّمنّه أو ليخبرنّه» فعلماه جميعا لم يبرّ حتى يعلمه أو يخبره (مع أن) إخباره لم يفد شيئا. قال: فإن كتب إليه وأرسل إليه رسولا برّ ولو أسر إليه رجلٍ (سرا) وأحلفه لتكتمنّه ثم أسره المسرّ (لآخر) فذكره الاخر للحالف فقال الحالف: ما ظننت أنه أسره لغيري حَنَث مع أن الحالف لم يخبره بشيء بل أفهمه بما هو تحصيل الحاصل. . «وفي كتاب العتق الثاني من المدونة» . ومن قال لأمته: أول ولد تلدينه حر. فولدت

(1/198)


ولدين في بطن واحد عتق أولهما خروجا، فإن خرج الأول ميتا لم يعتق الثاني عند مالك.
وقال ابن شهاب: يعتق الثاني إذ لا يقع على الميت عتق.
قال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين لام الجنس الداخلة على المفرد والداخلة على المجموع؟ وأجاب بما حاصله أنّها إذا دخلت على المجموع تفيد العموم في أنواع ملك المجموع لا في أفراده وإذا دخلت على المفرد أفادت العموم في الأشخاص وفي الجمع وهو نوع من جوابه في قوله تعالى {رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي} ولم يقل العظام. وذلك أن الصالحات أصله صالحات فيحتمل أن يكون مخرجي الزكاة فقط لأنهم عملوا الصالحات وبعد دخول الألف واللام صار يتناول مخرجي الزكاة والمصلي والصائم إلى غير ذلك. قال: (وعملوا) الصّالحات يتناول الفعل والقول والإعتقاد لأن العلماء فهموا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنما الأعمال بالنيات» على العموم لأن الفخر في المحصول قال: أجمع الناس على أنه مخصوص بالنية والنظر، فلولا أن العمل يصدق على النية لما احتاجوا إلى استثنائها من الحديث فيكون في الآية عطف العام على الخاص.

(1/199)


قوله تعالى: {جَنَّاتٍ ... }
قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا ... }
قال ابن عرفة: قدّم ذكر الجنّات وأنهارها على الأكل لوجهين إما لأن منفعة (التنعيم) بالنظر إليها سابقة على منفعة الأكل منها وإما لأن الأنهار مصلحة لثمرها وسبب في تكونه قال: وعموم «كلما» إن أريد به الإطلاق في ثمار الجنة فتكون القبيلة صادقة على ما سوى أول مأكول منها لأنه ليس قبله شيء.
(قال) : وقولهم في «كُلَّما» إنها في موضع الحال إن أريد به أنهم بحيث (لو رزقوا منها شيئا قالوا ذلك فتكون حالا محصلة، وإن أريد أنهم رزقوا بالفعل فتكون حالا مقدرة لأنهم لم يحصل لهم جميعه في الحال)
قال الزمخشري: كلما، وإما، صفة أو استئناف أو خبر مبتدإ.
قال ابن عرفة: كونها خبر مبتدأ لا يخرج عن الإعرابين الأولين لأنه حينئذ يصلح أن تكون الجملة صفة أو استئنافا.
قال ابن عطية: في الآية رد على من يقول: إن الرزق من شرطه التملك، ذكره بعض الأصوليون، قال ابن عطية: وليس عنده ببيّن.

(1/200)


قل ابن عرفة: انظر هل معناه أنّ القول غير بيّن أو أنّ الرد عليه بالآية غير بيّن وليس المراد المسألة التي اختلف فيها أهل السنة والمعتزلة فقالت المعتزلة: الرزق لا يطلق إلا على الحلال وقالت أهل السنة: الرزق يطلق على الحلال وعلى الحرام.
قال ابن عرفة: لأن الخلاف هنا أخص من ذلك الخلاف لأنه تحرز (منه رُدَّ بقوله) من شرطه (التملك) فمن رزق شيئا ينتفع به (ولا يملكه كالضيف عند الإنسان إذا قدم له طعاما فإنه يأكل منه ولا يحل/ له أن يتصدق منه بشيء، ولا يعطي منه لقمة لأنه لا يملك) غير الانتفاع به فقط.
قال مالك: الانتفاع تارة يكون مؤبّدا كالحبس، وتارة يكون موققا كالعارية ونحوها.
قوله تعالى: {مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً ... }
قال الزمخشري: «مِن» الثّانية لابتداء الغاية، أو البيان، كقولك: رأيت منك أسدا تريد أنت أسد. وتعقبه أبو حيان بأن «مِنْ» البيانية لم يثبتها المحققون ولو صحت لامتنعت هنا إذ ليس قبلها ما تكون بيانا له لاَ معْرفة، مثل قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} ولا نكرة مثل: من تَضْرِب من رجل. (وقدروها) مع المعرفة بالذي هُو، ومع النكرة بضمير عائد عليها أي هو رجل. فإن قال: تكون بيانا للنكرة بعدها (أى

(1/201)


كلما رزقوا منها من ثمرة) (خلاف) الأصل بالتقديم والتأخير، وأما رأيت منك أسدا ف «من» لابتداء الغاية أو للغاية ابتدائها وانتهائها.
وأجاب ابن عرفة: بأنه (لا يريد) وأنها لبيان الجنس بل للتبيين وسماه بعضهم التجريد. ونقل بعض الطلبة أن ابن مالك جعل في قوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} للبيان.
قلت: وقال بعضهم: لم يذكر أحد أنها للتبيين، وما معناها إلا (بيان) الجنس. وذكر البيانيون أنها تكون للتجريد وهو للتبعيض مثل: لي من زيد صديق حميم، كأنك جردت عن صفاته رجلا صديقا وكذا قوله عَزَّ وَجَلَّ: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} وقوله {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخلد} وأنشد عليه ابن عطية في سورة آل عمران في قوله {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} قوله الشاعر:
أفاءت بنو مروان ظلما دماءنا ... وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل

(1/202)


وكأنه جرد من صفات الله تعالى حاكما عدلا.
قال الزمخشري: ومعناه هذا مثل الذى رزقناه إذ لا يصح أن يكون (ذات الحاضر عندهم) الذات الذي رزقوه ذات في الدنيا.
قال ابن عرفة: ومعناه أن هذا الذي أكلناه هو الذي رزقناه أولا، وهو الذي شاهدناه حين الأكل، على ما ورد أنّ الإنسان إذا أكل شيئا يرجع كما كان أولا) .
قال ابن عرفة: وعلى القول بإجازة إعادة المعدوم بعينه يصح ذلك وهو مذهبنا.
قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ... }
أي مخلصة من الشين والدنس المعنوي والحسي المتصل والمنفصل فليس (لهن) ذنوب ولا نتن رائحة ولا حيض ولا بصاق ولا مخاط بوجه.
قال الزمخشري: فإن قلت: هلا جاءت الصفة مجموعة لموصوفها؟ قلت: (هما لغتان) يقال: النساء فعلن، والنساء فاعلات.

(1/203)


قال ابن عرفة: يرد عليه أن النساء اسم جمع لفظه مفرد، بخلاف هذا فإنه جمع صريح. وإنما يجاب بما قال المبرد في المقتضب: من أن جمع السلامة لا ينعت إلا بالجمع وجمع التكسير ينعت بالمفرد والجمع.
الزمخشري: إنما قال «مطهرة» ولم يقل طاهرة، إشارة إلى أن تطهيرهن من قبل الله تعالى ليس لهن فيه تكسب ولا اختيار بوجه.
قال ابن عرفة: وهذا كله تقدم إما على التوزيع أو لكل واحد منهم أزواج وهو الظاهر.
قال: والبيانيون منهم من يختار في مثل هذه (المجرورات) والضمائر، (الفصل) ومنهم من يختار (الوصل) وعليه أنشد:
وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... صبوح لها منها عليها شواهد
وكان يقول على الأول: ولهم أزواج مطهرة (فيها)

(1/204)


قال: وأورد الزمخشري سؤالا في قوله تعالى في الأنعام: {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ} قال: النكرة إذا وصفت في الأصل تقدم خبرها المجرور عليها.
قلنا: وهذه الآية جاءت على الأصل الذي قال (فلا سؤال فيها) .

(1/205)


إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)

قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا ... }
قال ابن عرفة: الحياء هو (استقباح) فعل الشيء بحالة ما دون نقص فيه، والاستحياء (استقباح) فعله لنقص فيه.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف وصف به القديم ولا يجوز عليه التغير والخوف؟ وفي حديث سلمان قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنّ الله كريم حي يستحي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا»

(1/205)


أجاب أنه على سبيل التمثيل مثل تركه كتغييب العبد من العطاء بترك من يمتنع من رد المحتاج حياء منه. والمعنى هنا لا يترك ضرب المثل بالبعوض ترك من يستحى أن يتمثل بها.
قال ابن عرفة: فجعله من باب العدم و (الهلكة) ، مثل زيد لا (يبصر) لا من السلب والإيجاب مِثل الحائط لا يبصر.
وقال صاحب المثل السائر في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت» إنه يفهم على وجهين: إما إذا لم تفعل فعلا تستحي منه فاصنع ما شئت على سبيل التخبير والإباحة، وإما إذا لم تتصف بالحياء لأجل جرمك وتعديك الحدود الشرعية ولم تبال ما أتت فاعل فاصنع ما شئت على سبيل التهديد والوعيد والإنذار.
قال: وفسر «يَضْرِبَ» (في الآية) بوجهين: إما بمعنى يذكر مثلا، وإمّا بمعنى يصوغ كضرب الصائغ الدراهم بمعنى صاغها.
قال: وحكمة ضرب المثل بهذا أن لفظ القرآن صحيح فصيح فضرب الله المثل فيه ابتلاء لعباده، فالمحق يأخذ بالقبول، والمبطل يعانده فيه. وهذا جرى على (السّنن) المألوف عند (العرب) الفصحاء في صحيح الأمثال فحق المنصف منهم (أن يقبل المثل) (

(1/206)


وعلى) هذا فردهم لذلك فيه ومعاندتهم فيه محض مباهتة، وهي طريقة المغلوب إذا لم يجد ملجأ.
قوله تعالى: {فَمَا فَوْقَهَا ... }
قيل: أي، ما دونها، وقيل: ما هو أعظم منها.
وانتقد ابن الصائغ على ابن عصفور حدّه (التنازع) (أن يتقدم اسم ويتأخر عنه عاملان) فصاعدا، وقال: إنّه غير جامع، لا يتناول الأسئلة تكون فيها ثلاثة عوامل، لأن (الفاء) تقتضي الجمع. ومنهم من جعلها بمعنى «أَوْ» فعلى ما ق ابن الصائغ لا يفسّر إلا بمعنى الاول، وهو أن المراد ما دون (البعوضة) فيتم المثل وعلى أنّ (الفاء) بمعنى (أو) (ويصحّ) تفسير الفوقية بالأمرين.
قوله تعالى: {فَأَمَّا الذينءَامَنُواْ ... }

(1/207)


وقال الزمخشري: «أما» حرف فيه معنى (الشرط) ولذلك/ يجاب بالفاء وفائدته أنه يزيد الكلام تأكيدا.
قال: وفي (قولك) : أما زيد فذاهب. معناه عند سيبويه مهما يكن من شيء فزيد ذاهب وتفسيره يفيد أمرين: التأكيد والشرطية.
(قال ابن عرفة: أراد أنه يفيد ملزومية الشرط للجزاء أي زيد ملازم للذهاب، فكأنه لم يزل ذاهبا) وفائدة دخول الفاء على «أمّا» أنّه لما تقدم (الإخبار) بأن الله تعالى لا يستحي أن يضرب مثلا وكان الإخبار بذلك لا يقتضي وقوع ضرب المثل بل جوازه في حقّه، وأنّه لا يمتنع منه عقّبه ببيان أن ذلك واقع منه لقوله تعالى {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق} .
وعبر عن المؤمنين بالفعل تنبيها على أن من أتّصف بمطلق الإيمان يعلم ذلك فأحرى من حصل له الإيمان القوي الكامل ويستفاد من عمومه في المؤمنين أن الاعتقاد الحاصل للمقلد عِلْمٌ (لاَ ظنّ) وهو الصحيح عندهم.
قوله تعالى: {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق ... }
قال ابن عرفة: الحق في القرآن كثيرا كقوله تعالى: {مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} فمن يفهمه على ظاهره يعتزل لأن مذهب المعتزلة مراعاة الأصلح

(1/208)


على قاعدة التحسين والتقبيح، فالصواب أن يقال في تفسير «الحق» هو الأمر الثابت في نفس الأمر الذي دل الدليل الشرعي على ثبوته، أو يقال: (إنما هو) الثابت بدليل شرعي، أو مدلول الكلام القديم الأزلي.
قال ابن العربي في شرح الأسماء الحسنى: الحق في اللغة هو الموجودُ ويعم الاعتقاد والقول والعمل ثم قال: والمختار أن الحق ما له فائدة مقصودة، والباطل (ضده) سواء كان (موجودا) أو معدوما قال تعالى: {مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} أي لفائدة مقصودة وهي الثواب والعقاب لقوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} وقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} وانظر ما قيدته في الزمر والأحقاف والتغابن وعم.
قال أبو حيان: والفاء الداخلة على جواب «أما» فحقها التقديم فيقال: أما زيد فذاهب، لأنه هو الجواب لكنها لو قدمت للزم عليه وجود المعطوف دون المعطوف عليه.

(1/209)


وكذا قال الفارسي وأبو البقاء وابن هشام: «أَمَّا» فيها معنى الشرط، والفاء كذلك فكرهوا اجتماع (حرفي) شرط، كما كرهوا اجتماع حرفي تأكيد.
قال ابن عرفة: إِنَّمَا امتنع عندي لما فيه من إيهام الإتيان بالجزاء دون الشرط.
قوله تعالى: {مِن رَّبِّهِمْ ... }
لم يقل من الله تنبيها على أنه رحمة منه ونعمة لهم، (لكونه) نصب لهم عليه الأدلة والطرق إلى العلم به.
قوله تعالى: {وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً ... }
الآية (فيها) حذف التقابل أي فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقّ مِنْ رَبِّهِمْ ويقولون ذلك بألسنتهم، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا (مَثَلا. ويعتقدون

(1/210)


ذلك بقلوبهم ولذلك لم يقل في الكافرين: بماذا أراد ربنا بهذا مثلا) ويمكن أن تكون هذه الجملة في موضع الحال من الأولى، وهو أصوب مو كونها استئنافا، لأن (المؤمنين) إذا (اعتقدوا) أنه الحق حالة وجود المخالف والمعاند (لهم) فيه فأحرى أن يعتقدوا صحته مع عدم المخالف.
قال ابن عرفة: وسلكوا في هذه العبارة طريق الجدل (عند الجدليين) لأنهم لو قالوا ذلك (أمرنا بالرد) عليهم، فالضرب في رجوعهم بالمباهتة والتبكيت.
(وأتوا) في الجواب بلفظ ظاهره الاستفهام ومعناه الإنكار كما يأتي المجادل المغلوب بلفظ (يموه به ويحيد به) عن الجواب.
وقوله: {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} قال الزمخشري: فيه وجهان: إما أن (ذا) اسم موصول بمعنى الذي مرفوع على الابتداء أو خبره مع صلته، وإما أن (ماذا) كلمة واحدة كلها وهي في موضع نصب بأن إذا.

(1/211)


قال ابن عرفة: وكان ابن الحباب يحكى عن (بعضهم) أنه كان يقول في قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين} (بالرفع: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً} قال: النصب في جهة المؤمنين أرجح، والرفع للكافرين أرجح كما هو في الآية. ووجهه أنه حيده منهم عن الجواب لأن الكافرين لو نصبوا أساطير الأولين لكان المعنى أنزل) أساطير الأولين فيكونوا مقرين بالإنزال (وإذا) رفعوه فيكون المعنى هو أساطير الأولين، وحادوا عن الجواب على مقتضى السؤال والمؤمنون أجابوا على مقتضى السؤال فقالوا: أنزل خيرا فأقروا بالإنزال، وأنه خير في نفسه، فحصلوا المطلوب وزيادة. وكذلك (يجيء الرفع في هذه الآية أرجح في جهة الكافرين) ، ويحتمل أن يكون «ماذا أراد الله» في موضع الحال، ويحتمل أن يوقف على «ماذا» .
قال ابن عرفة: وَ «مَثَلا» إما تمييز أو حال، وإما منصوب على المخالفة كما قال ابن منصور في شرح مقربه لما (عدّ) المنصوبات.

(1/212)


قال ابن عطية: ومعنى كلامهم هذا الإنكار بلفظ الاستفهام.
وقال الزمخشري في قولهم «مَاذَا» استرذال واستحقار.
وقال ابن عرفة: (عادة) ابن المنير ينتقد عليه ذلك لأنه إساءة أدب لا بنبغي أن يفسر القرآن به ولا (يحكي) عن (الكافرين) في الكلام القبيح إلا ما هو نص كلامهم مثل {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً ... }
قال ابن عرفة: هذا لف ونشر لأنه لما تقدم ذكر المثل وذكر (بعده) الفريقين عقبه ببيان أنَّه يضل به قوما، ويهدي به آخرين. واللَّف والنشر قسمان: موافق كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار} ومخالف كقوله تعالى {يَوْمَ

(1/213)


تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} قال: وحكمة ذلك في (الجمع) الاهتمام بمقام التخويف والإنذار، فلذلك بدأ بأهل الشقاوة في الآيتين.
وقال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: هذه الآية إذا (بنينا) على (القول) الصحيح فإن ارتباط الدليل بالمدلول عادي وهو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، وقد نصوا على أن الحق لا يستلزم الباطل بوجه، وإنما يستلزم حقا مثله. وجاءت هذه الآية بعد ذكر ضرب المثل الذي جعله الله دليلا للمكلفين على صحة الرسالة، ثم عقبه ببيان أنه دليل (حق ثم قال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً} ، فجعل الدليل الحق مستلزما للضلال فإذا بنينا على أن ارتباط الدليل بالمدلول عادي يكون/ الحق بهذه الآية قد يستلزم الضلال كما قالوا إنه) يستلزم الحق. وغاية ما فيه أن يقال: الغالب (عليه) استلزم الحق وقد يستلزم الباطل. ((قال ابن عرفة واقتضت الآية أنّ المثل الذي هدى الله به المؤمنين أضل به بقية الكافرين، وهو سبب في الشيء ونقيضه،

(1/214)


وهذا هو عين مذهب أهل (السنة) ، لأن جميع الأشياء كائنة بإرادة الله وقدرته. وأراد الزمخشري سؤالاً (أ) قال: إن قلت: لم قال: " يضل به كثيراً " وهم قليلون قال تعالى: {وقليلٌ مِنْ عِبّادِيَ الشَّكُورُ} وقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَليِلٌ مَّا هُمْ} ؟ قال ابن عرفة: السؤال غير وارد لأن الشكور أخص من الشاكر، والشاكر مهدي فلا يلزم من كون الشاكر قليلاً أن يكون المهدي قليلاً. قال: والآية الأخرى تقتضي نسبة العلة لمن آمن وعمل الصّالحات وهو أخص ممن اتصف بمطلق الإيمان ومطلق الاهتداء فلو قدر السؤال بقوله تعالى: {ومَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين} . لكان صحيحاً متوجها. قيل لابن عرفة: إنما السؤال غير وارد على مذهبنا، وأما عند الزمخشري وسائر المعتزلة فهو وارد لأن المؤمن عندهم هو الذي عمل. قال: بل هو غير وارد عندهم لأن من آمن الإيمان الحقيقي الكامل (واخترمته المنية) إثر ذلك ولم يمض عليه زمن عمل (فيه) الصّالحات هو مؤمن باتفاق منا ومنهم.

(1/215)


زاد الزمخشري في تمثيل القليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النّاس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة. قال كذلك (قوله) وجدت الناس أخبر تقله أي أخبر أحدهم ببعضه. قال ابن عرفة: وهو تسليم للسؤال. فأجابه عنه الزمخشري: بأنهم كثيرون في أنفسهم. لا سيما فيما قالوا في جمع الكثرة: إنه يتناول مع العشرة فما دون ذلك والقلة (هي) فما في الترجيح في العدالة إنه ترجح التي هي أعدل لشرفها. وإسناد فعل الإضلال إلى الله تعالى حقيقه. وجعله الزمخشري مجازاً على قاعدة التحسين والتقبيح عندهم ثم استدل لذلك بحكاية عن مالك بن دينار أنّه دخل على محبوس مقيد بين يديه (دجاج) (وأخبصه) فقال له: هذه وضعت القيود على رجلك.

(1/216)


ابن عرفة: وهذا من أنواع الدليل (المسمى) في علم المنطق بالخطأ، لأنه جعل (استحالة) نسبة الأضلال إلى الله تعالى كاستحالة نسبة وضع القيد في رجل المحبوس إلى الدجاج (وللأخبصة) قال: فكما أطلقه هناك مجازاً فكذلك هنا (استحقاقاً) لمذهبه (وجرياً) على عادته الفاسدة. قوله تعالى: {ومَا يُضِلّ بِهِ إلاّ الفَاسِقينَ} . تقدم للزمخشري في قوله تعالى: {هُدى للمُتَّقِينَ} سؤال، قال: المتقي مهتد فكونها هدى له (تحصيل) الحاصل، وأجاب بأن المراد الصائرين (للتقوى) وهو هُدى بإعتبار الزيادة في الهداية. وكذا السؤال هنا وجوابه قول تعالى: {فَأَمَّا الَّذينَ ءامَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيِمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذيِنَ ءامَنُوا مَّرَضٌ فَزَادتَتْهُمْ رِجْسًا} .

(1/217)


الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)

قوله تعالى: {الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ... }

(1/217)


حكى ابن عطية في هذه الجملة خلافا هل هي استئأنفا أو من تمام ما قبلها؟
قال ابن عرفة: إن راعينا مقام التخويف وترتّب الذّم على كل وصف من هذه الأوصاف جعلناه كلاما آخر مستأنفا، وإن راعينا مناسبة اللَّفظ فترد لما قبلها. واختلفوا في العهد ما هو؟
ابن عرفة: والظاهر أن نقض العهد راجع إلى الإقرار بوحدانية الله تعالى. وقطع ما أمر الله به أن يوصل راجع إلى الإقرار بالرسالة.
وأشار إليه ابن عطية فهم مكلفون بشهادة أن لا إلاه إلا الله وأن (يصلوها) بشهادة أن محمدا رسول الله فخالفوا في الأمرين فعهد الله هو الدليل الدال على وحدانيته ونقضه هو المخالفة فيه.
ابن عطية: وقال بعض المتأوّلين إنّ العهد هو ما أخذه الله تعالى على (بني آدم حين أخرجهم من ظهر آدم كالذرّ {وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُواْ بلى} وضعفه الفخر بأنهم حينّذ ليسوا مكلفين فلا يعاقبون على نقض ذلك العهد) .
وأجاب ابن عرفة بأن قال: لا مانع من أنهم كلفوا (حينئذ) بالإيمان فآمنوا والتزموا العهد ونسوه، ثم ذكروا بذلك في الدنيا بهذه الآية وأنظارها، فمنهم من تذكر وآمن، ومنهم من بقي فيعاقب لأجل

(1/218)


ذلك (ونظيره) عندنا أن القاضي إذا حكم بحكم ونسيه فذكره فيه شاهد واحد فإنه ينفذه بشهادته ويرجع إليه وكذلك هذا.
قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ... }
أي من بعد توثقه وإبرامه.
ابن عطية قيل: إنّها لأهل الكتاب، وقيل: لجميع الكفار، وقيل: لمن آمن (ثم) كفر.
ابن عرفة: الظاهر تناولها لكل من صلح صدق هذا اللفظ عليه، قيل: لتدل على مبادرتهم بالنقص في أول (أزمنته البعيدة) .
أبو البقاء: «من» لابتداء الغاية في الزمان عند من أجازه وزائدة عند من منعه وهو ضعيف (لا متناع) زيادتها في الواجب.
قال الصفاقسي: هذا ليس بشيء لأن القبلية والبعدية من صفات الزمان، فكأن «من» (تدخل) على الزمان فلا يحتاج إلى زيادتها

(1/219)


قال ابن عرفة: لا يليق به على علمه فإن ابن عصفور وغيره قد تأولوها في مثل هذا على حذف مضاف تقديره مصدرا، وأعربوا «قبل» و «بعد» إذا انتصبا ظرفي زمان صريحين وقالوا: ظرف الزمان هو اسم الزمان أو عدده أو ما قام مقامه نحو: أتيتك طلوع الشمس أو ما أضيف إليه إذا كان هو أو بعضه.
قوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ ... }
قال ابن عرفة: فيه عندي حجة لمن يقول إن لفظ أمر إنما يطلق على الواجب فقط، وأما المندوب فغير مأمور به إن زعم أنه لإجماعنا على المراد به هنا (الوجوب) لترينه الذمّ (فمن) يقول: إن المندوب مأمور به إن زعم أنّه حقيقة لزمه الاشتراك.
وإن جعله مجازا لزمه المجاز، وهما معا على خلاف الأصل.
ابن عرفة: والصحيح عندي في الأمر اشتراط الاستعلاء فقط (لاَ) العلو خلافا للمعتزلة وبعض أهل السنة.
قوله تعالى: {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض ... }
إن أراد بالفساد الأمر الأعم من القول والفعل والاعتقاد فيكون ذلك من عطف العام على الخاص (وإن أريد به) الفعل فقط فتكون من عطف الشيء على ما هو مغاير له.
قوله تعالى: {أولئك هُمُ الخاسرون}

(1/220)


عبر بالخسران لأنهم بالعهد والميثاق حصل لهم الفوز والنجاة، فلما نقضوه (شبّهوا) بمن اشترى سلعة للتجارة وكان بحيث إن بادر بيعها لربح فيها ربحا كثيرا فتركها حتى كسد سوقها وباعها بالبخس والخسران.
قيل لابن عرفة: هذه الآية تدل على أنّ مرتكب الكبيرة غير مخلد في النار لاقتضائها حصر الخسران في هؤلاء لأن البناء على المضمر يفيد الحصر؟
فقال: يقول الزمخشري: إنه لمطلق الربط لا للحصر كما قال في {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار}

(1/221)


كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)

قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله ... }
قال (ابن عطية) : هذه الآية دليل على أنّ المراد بما قبلها المخالفة في توحيد الله تعالى والإيمان به إمّا على سبيل الخصوصية أو مع غيره وهو الأصل (وغيره تابع له) .
الزمخشري: «كَيْفَ» سؤال عن حال ومعناها معنى الهمزة (لكن السؤال بالهمزة) عن الذات، والسؤال بكيف عن صفة الذات فيستلزم السؤال عنها.

(1/221)


قال ابن عرفة: فإن قلت: لم وبّخوا بكيف، وهلا وبّخوا بالهمزة؟
وأجاب: بأنه إذا أنكر عليهم الكفر في حال من الأحوال فيلزم إنكار نفس الكفر من باب أحرى، لأن كل موجود لا ينفك عن صفة فنفي الصفة يستلزم نفيه بطريق البرهان.
ق ابن عرفة: هذا استدلال بنفي الملزوم على نفي اللازم وهو باطل عندهم ويقال له: الصفة تابعة لموصوفها، ولا يلزم من نفي التابع نفي المتبوع بل العكس (الذي يلزم)
قيل لابن عرفة: هذا تابع لازم لا ينفك عنه (المتبوع) فنفيه يستلزم نفيه؟
فقال: قصارى أمره أنه دلّ على نفي المتبوع باللزوم لأن دلالته عليه بواسطة نفي الصفة والهمزة تدل على نفيه بالمطابقة.
قيل لابن عرفة: الكفر في ذاته لا ينفك عن (حال) من الأحوال فعموم النفي في حالاته يستلزم (انتفاءه هو معها بخلاف نفيه هو في ذاته؟
فقال: نفيه في ذاته يستلزم انتفاء حالاته، وأيضا فالهمزة تدل على إنكار نفي الكفر بالمطابقة، وكيف بواسطة دلالتها على (إنكار) نفي صفته ودلالة المطابقة أقوى من دلالة الالتزام.

(1/222)


(قال) : وكان (يظهر) لنا في الجواب عنه تقدير بأن النّفي بالهمزة مطلق في الشيء والنّفي بكيف عام في جميع حالات الشيء. ودلالة العام أقوى من دلالة المطلق لأن الهمزة تدل على إنكار كفرهم في حالة ما، وكيف تدل على إنكار جميع أحوال كفرهم. وتقريبه بالمثال أنّ الميتة والخمر عندنا محرمان، لكن الميتة مباحة للمضطر بخلاف الخمر على المشهور. ونص في كتاب الصلاة الأول (من العتبية) في أول رسم تأخير صلاة العشاء، فتقول للانسان: أتأكل الميتة وهي محرمة؟ ولا تقول له: كيف تأكل الميتة وهي محرمة، ولا تقول له: أتشرب الخمر وهو محرم؟ هذا المختار عندهم.
قلت: وبدليل من غص بلقمة ولم يجد ما (يدفعها) به إلا الخمر (وخاف الموت) .
قال ابن رشد: الظاهر من قول أصبغ أنّ ذلك (لا) يجوز له وأجازه غيره غيره.

(1/223)


قال ابن عرفة: ومثله الزمخشري بقولك (أتطير) بغير جناح؟ وكيف تطير بغير جناح؟
قال ابن عرفة: هذا المثال لا يطابق الآية، إنّما (يطابقها) أن يقول: أتطير وأنت مكسور الجناح من غير ضرورة تدعوك لذلك لأن الطيران بلا جناح مستحيل بالبديهة، (وكفر هؤلاء) ليس بمحال.
(قلت) : والحاصل أن الزمخشري والشّيخ ابن عرفة اتّفقا على أنّ «كَيْفَ» سؤال عن جميع الأحوال (واختلفا) في الهمزة فهي عند الزمخشري سؤال عن حقيقة الشيء، وعند ابن عرفة مطلقة في السؤال عن ذاته وعن أحواله تصدق بصورة من صور ذلك.
وقال بعض الشّيوخ: ومن ظنّي أن كلام سيبويه موافق لما قال ابن عرفة.
قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ... }
قال ابن عرفة: إن قلت ما الفرق بين هذا وبين ما تقدم في قوله تعالى: {ياأيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} وهل هو تكرار أم لا؟ قلنا: ليس

(1/224)


بتكرار وتلك إرشاد للنظر في دليل الوحدانية والإيمان، وبعد (تقرر) (الإيمان) ذلك جاءت هذه توبيخا لمن نظر في الدليل ولم يعمل بمقتضاه.
ابن عرفة: وفي قوله: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً} دليل على أن الموت أمر عدمي، فإنه أخبر أنهم كانوا متّصفين بالموت حالة كونهم عدما صرفا، والوجود لا يجامع العدم على المشهور، وإنما يجامع وجودا مثله.
قال ابن عرفة: وأتى في الدليل بأمرين: أحدهما (مروي) مشاهد، وهو وجودهم بعد عدمهم، وموتهم بعد ذلك ثم عطف عليه أمرا آخر نظريا لا يعلم إلا من جهة الرسل وهو حياتهم بعد ذلك، ورجوعهم إلى الله، والعطف يقتضي التسوية فهو إشارة إلى أن ذلك الأمر النظري اعتقدوه حقا كأنه ضروري (فليكن) (عندهم) مساويا للضرورة. ونظيره العطف في قوله تعالى {وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} (قالوا: أفاد عطف الكبيرة التسوية في الإحصاء بينها وبين الصغيرة فالمراد أنه لا يدع شيئاً إلا أحصاه) .
قال الزمخشري: فإن قلت: لم عطف «فَأَحْيَاكُمْ» بالفاء {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بثم؟

(1/225)


فأجاب بأن الإحياء الأول غير متراخ عن الموت، ولذلك كان الإحياء الثاني متراخ عن الموت ورده ابن عرفة: بأنّه إن أراد أول أزمنة الموت فالإحياء الأول متراخ عنه فهلا عطف بثم؟ (وإن) أراد آخر أزمنة الموت فالإحياء الثاني (عقيبه) من غير تراخ بوجه.
قيل له: الإحياء الأول ليس بينه وبين الموت الذي قبله فاصل بوجه، وبينه وبين الموت الذي بعده فواصل، وهي التكاليف التي أمرنا الشرع بها. فلما كانت معتبرة شرعا جعل زمن الحياة (ممتدّا) متراخيا، فعطف عليه الموت بثم.
قال ابن عرفة: هذا (يعكر) عليكم في قوله تعالى: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} لأنه ليس بينه وبين الموت الذي قبله أيضا فاصل. قال: وإن كان (يظهر) لنا الجواب عن ذلك السؤال بأن الموت الأول لسنا نشاهده، ولا (نحن) نعلمه إلا من جهة الخبر والعلم به إن تطاول زمانه يأتينا دفعة واحدة يجعل (كأنه شيء واحد والحياة الدنيا مشاهدة لنا ضرورية وزمانها لا نعلمه دفعة واحدة) وإنما نعلمه شيئا بعد شيء إذ لا يدري أحدنا مقدار عمره ما هو؟ فالإماتة متراخية عنه فاعتبر (فيه) التراخي، والحياة الثانية أيضا إنما

(1/226)


نعلمها من جهة الشرع وهو إنما أخبر بها بعد حصول الموت الأول وتقرره في جميع الناس حتى لا يبقى أحدهم منهم إلا مات فحياة أولهم موت متأخر عن موت آخرهم فاعتبروا فيها التراخي لهذا المعنى.
قلت: وقرر بعض الشيوخ كلام الزمخشري بأن الموت الأول لا (بداية) له بوجه فهو عدم مستمر غير مسبوق بشيء فروعي فيه آخره وأنه شيء واحد فعطفت عليه (الحياة) (بالفاء) إشارة إلى سرعة التكوين والحياة الأولى (زمنها) متطاول والخطاب (بالآية) إنما هو (للاحياء) فهو مدة حياتهم، وقد بقيت منها بقية ولها مبدأ ومنتهى، فاعتبر فيها التراخي، والموت الثاني عدم مسبوق بوجود قبله ومرتفع بوجود بعده فهو (محصول له) مبدأ ومنتهى فُروعي أيضا فيه التراخي فلذلك عطفت عليه الحياة الثانية بثم والله أعلم.
وأورد الزمخشري سؤالا على مذهبه (في اشتراط البنية) فقال: كيف قيل: لهم أموات في حال كونهم جمادا، وإنّما يقال: ميّت فيما تصح فيه الحياة من (البناء) . وهذا على مذهبه

(1/227)


اشتراط البنية وهي (البلة) والرطوبة المزاجية (ولا يرد السؤال على مذهبنا بوجه) .

(1/228)


هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم ... }
أتت هذه غير (مفصولة) وحقها أن تكون مفصولة بحرف العطف لمغايرتها لما قبلها. لكن يجاب: بأنّها أتت تفسيرا ودليلا على الجزء الأخير من الجملة (المتقدمة) وهي قوله {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي الدليل على (إعادتهم ورجوعهم) إليه أنه خلق جميع ما في الأرض ومن (قدر) على خلق الجميع اولا لا يستحيل عليه إعادتهم ثانيا.
قيل لابن عرفة: أو يقال: الأول دليل على الخلق، وهذه دليل على العلم والأصوليون ما استدلوا على ثبوت العلم إلا بالخلق والقدرة؟
قال ابن عرفة: (والضمائر) منهم من قال: إنها كلية، وقيل: إنها (جزئية) والصحيح أنها بالإطلاق الأعم كلية (وأما بالاستعمال) الأخص فضمير المتكلم والمخاطب جزئيان

(1/228)


وضمير (الغائب) إن عاد على كلي فهو كلي مثل الإنسان هو حيوان ناطق. وإن عاد على جزئي فهو جزئي مثل: زيد هو قائم.
وقوله تعالى: «لَكُمْ» قال الزمخشري: اللاّم للتعليل، وهو اعتزال. وقدره بعض المأخرين على مذهب أهل السنة بأنه مجاز والمراد بأن ذلك بحيث لو (صدر) من غيره لكان لأجل مصلحتكم (وانتفاعكم) وراعى في هذا الأمر المناسب الملائم للانسان.
قال ابن عرفة: وهذا هو تعليل أفعال الله، وفيه خلاف، وأما أحكامه فمعللة.
قال ابن عطية: واحتج بها من يقول: إن الأشياء على الإباحة و (قيه) ثلاث أقوال: ثالثها الوقف.
وقال الطيبي: لا حجة في ذلك إذْ لعله خطاب المجموع بالمجموع وردّه ابن عرفة بوجهين:
-

(1/229)


الأول: أنه إحداث قول لم يقل به أحد، وهو أن بعض الأشياء على الحظر أي المنع، وبعضها على الإباحة.
- الثاني: ان (المضمرات) كلّية لا كلّ (فالخطاب) بالمجموع لكل واحدة لا للمجموع.
قال ابن عطية: ويرد على القائلين بلاباحة بكل حظر في القرآن وعلى القائلين بالحظر بكل إباحة في القرآن.
قال ابن عرفة: هذا (يلزمهم) ولهم أن يقولوا: إن الأشياء على الحظر ما لم يرد النّص على الإباحة. ويقول: الآخرون على الإباحة ما لم (يقع) النص على الحظر.
قال ابن عرفة: والقول بالوقف هو مذهب المعتزلة وهو المختار عند أهل السنة لكن ديلنا نحن يعارض الدّلائل السّمعية. ودليل المعتزلة (شبهة) تعارض الدلائل العقلية.
(قال ابن عرفة) : وهذا إن كان مجرد الإنعام والامتنان بالأمر الدنيوي فالمخاطبون (ب «لَكُمْ» ) غير داخلين في عموم ما في الأرض، وإن أريد به الاعتبار (الدّيني) فهم داخلون قال تعالى: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}

(1/230)


قوله تعالى: {مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ... }
قيل لابن عرفة: هذا معارض لقوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ}
قال ابن عرفة: خلق بعضها مجتمعا وبعضها (متفرقا) ووقع التنكير في هذه الآية (فما) خلق منها مجتمعا فهو أبلغ وأدل على كمال القدرة، لأن من قدر على أحداث أشياء مجتمعة في حالة

(1/231)


واحدة (هو قادر على احداثها متفرقة شيئا بعد شيء من باب أحرى.
قلت: ووجه السؤال المتقدم أن ظاهر هذه الآية أن الأرض وما فيها خلقت مجتمعة في حالة واحدة، (وظاهر هذا) أنها خلقت مفرقة وجميعا هنا، فيقتضي الاجتماع في حالة واحدة، فوقع النصّ على ما خلق منها (مجتمعا) ، (فقد قال أبو حيان: «جميعا» حال من الموصول، وهو ما أتى مجتمعا) وترادف كلا في العموم ولا تفيد الاجتماع في الزمان بخلاف جميعا. وعدها ابن مالك في ألفاظ التأكيد قال: ونبّه سيبويه على أنها بمنزلة كُلّ معنى واستعمالا واستشهد له أبو حيان بقول: امرأة ترقص ولدها.
فداك حي خولان جميعهم وهمذان وكذلك آل قحطان والأكرمون عدنان
(قال المختصر) : فعلى رأيه تعرب جميعا هنا توكيدا للمفعول ونظيره قوله تعالى: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} قال ابن عصفور: وفيها أن التأكيد بكل يقتضي الإحاطة، والتأكيد بأجمع يقتضي الاجتماع في حالة واحدة.
قال ابن عرفة: وتقدم لنا الرد عليه أنه لو اقتضى الجمعية في الزمان للزم انتصابه على الحال.

(1/232)


وكذا قال الزمخشري في قوله تعالى في سورة يس {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} (الزمخشري) إن قلت: هذه الآية تقتضي تقدم خلق الأرض على خلق السماء، وقوله في سورة النازعات: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَآ} يقتضي تأخر (خلق) الأرض على (خلق) السّماء،) (والآيتان متعارضتان) ؟
فالجواب: بأن (خلق الأرض متقدم على خلق السماء) ودحوها وتسويتها متأخر عن خلق السماء.
ورده القاضي العماد بأن هذه الآية تقتضي تقدم (خلق) جميع ما في الأرض على خلق السماء، وخلق ما في الأرض متأخر عن (دَحوِها) وتسويتها بلا شك، فيكون دحوُها متقدما على خلق السماوات فما زال السؤال واردا. وكذلك قوله في فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} ثم قال: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ} ولا جواب عنه إلا أن يكون ثم للمهلة المعنوية، وهي بعد ما بين المنزلتين.

(1/233)


قيل لابن عرفة: أو يجاب بعكس ما قال الزمخشري، وهو أنه خُلِقت السماوات والأرض ملتصقة، ثم خلقت الأرض ودحيت، ثم فصلت السماوات وصيرت سبعا والله أعلم؟
فقال: هذا يمكن لكن (الأثر) الذي أورده هنا أنّ الأرض خلقت كالفهر وعلاها الدخان فخلقت منه السماوات يرده ما ذكره الشيخ الزمخشري ونقله عن الحسن وللفخر في الأربعين في ذلك كلام طويل وليس فيه خبر صحيح.
قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}

(1/234)


وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ ... }
قال ابن عرفة: ( {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ} هذه لنا فيها وجه مناسبة لما قبلها) هو أنه لما قدم الامتنان عليهم بخلقهم وجعل الأرض لهم فراشا عقبه ببيان السبب فيهم وفي خلق أهلهم وهو آدم (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) .

(1/234)


وقرر الطيبي وجه المناسبة بأمرين إما أنه ترّق فمن عليهم بأمرين خلقهم ثم خلق أباهم آدم عليه السلام. ورده ابن عرفة بأنّه داخل في عموم قوله {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} قال: فما المناسبة إلا ما (قلناه) .
قال أبو حيان: والظرفية لازمة لإِذْ، إن يضاف إليها زمان نحو يَوْمَئِذٍ، {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} قال ابن عرفة: بل هو ظرف مطلقا إذ لا يمتنع إضافة الزمان وتكون من إضافة الأعم إلى الأخص أو الأخص إلى الأعم أو يكون بينهما عموم وخصوص من وجه دون وجه كقولك: جئتك في أول ساعة من يوم الجمعة فأول أخص من ساعة.
وذكر أبو حيّان في إعراب «إِذْ» ثمانية أقوال، رابعها أنه ظرف في موضع خبر المبتدأ (تقديره) ابتدأ خلقكم إِذْ قَالَ رَبُّكَ.
(ورده) ابن عرفة بأن زمن الابتداء ليس هو زمن هذه المقالة بل بعدها قال: فيكون الصواب أنّ تقديره (سبب) ابتداء خلقكم. قال: والأصح أن العامل فيها {قَالُواْ أَتَجْعَلُ} .
قال ابن عرفة: يرد عليه أن قولهم ذلك إنما كان جوابا عن قوله تعالى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} فليس مقارنا له بل هو بعده بلا شك إلا أن يقال: إن ما قارب الشيء (له) حكمه

(1/235)


وهذا مع قطع النظر عن الكلام القديم الأزلي لأنه يستحيل عليه الزمان ويستحيل نسبة (التقدم) والتأخر إليه.
ق ابن عطية: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: كانت الجن قبل بني آدم (في الأرض) فأفسدوا، وسفكوا الدّماء، فبعث الله إليهم قبيلا من الملائكة، فقتلت بعضهم وهربت باقيهم، وحصروهم إلى البحار، ورؤوس الجبال، وجعل آدم وذريته خليفة.
ق ابن عرفة: هذا يدل على أن الجنّ أجسام كبني آدم لأجل القتل والمبالغة فيه.
قيل لابن عرفة: كيف يفهم هذا مع قوله تعالى {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} إنّ اللاّم في «لَكُم» تقتضي اختصاصه بنا؟ فقال: لعل اللاّم هنا ليست للاختصاص ولو سلمنا أنها للاختصاص يكون ما في الأرض لهم، (ويلزم منه) كونه قاصرا عليهم فهو خلق لهم ولا ينافي أن يكون (خلقا) لغيوهم.
قال ابن عرفة: وظاهره أنه (قيل) لهم ذلك مباشرة (ونص المحدثون) على أن الراوي إذا قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنه من قبيل المسند لكنه عندهم يحتمل السّماع مباشرة أو بواسطة (لكن الصحابي) إنما يروى عن صحابي

(1/236)


فلذلك عدوّه من المسند، وفي هذه زيادة اللام (في) للمقول له كقولك: قال لي فلان: كذا.
فهو أصرح في الدلالة على المباشرة من (الأول) .
قوله تعالى: {خَلِيفَةً ... }
قال الحسن: سماه خليفة لأن كل قرن وجيل يخلفه الجيل الذي قبله والأول مخلوف وما بعده خالف.
وقال ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: معناه خليفة في الحكم بين عبادي بالحق (وبأوامري) يعنى آدم ومن قام مقامه من ذريته.
قال ابن عرفة: إنما يتناول هذا الأنبياء فقط لأنهم هم الَّذين (يتلقون) الذكر مع الملائكة وغيرهم لا يرى الملائكة بوجه.

(1/237)


قوله تعالى: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ... }
فسره ابن عطية بوجوه.
قال ابن عرفة: أظهرها أن الملائكة طلبوا أن يكون الخليفة منهم، فأثنوا على أنفسهم وذموا غيرهم.
قوله تعالى: {وَيَسْفِكُ الدمآء ... }
هذا (العطف) كما هو في قوله تعالى {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} فجعله بعض الأصوليين من عطف الخاص على العام/، وجعله بعض المتأخرين من عطف (المقيد على المطلق) ، وهو المعبر عنه بعطف الأخص على الأعم. قال: لأن «فاكهة» نكرة في سياق الثبوت فلا تعم، وكذلك الفعل هنا موجب فهو مطلق.
قيل لابن عرفة: أخذ بعضهم من هذه الآية أنه يجوز للانسان أن يتحدث بما هو يفعل من أفعال الخير والطاعة، كما قال يوسف عليه السلام {اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}

(1/238)


وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)

فقال ابن عرفة: ليس في هذه الآية دليل لأن الله تعالى عالم بكل شيء، فما أخبروه إلا بما هو عالم به، أو تقول إنما معنى الآية أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن إذ ذاك (نسبح) بحمدك ونقدس لك، ولا يمنعنا إفساده من ذلك لأن الملائكة معصومون فيكون استفهاما (عن) بقاء تسبيحهم (معه) .
واختلفوا في كيفية عصمة الملائكة فقيل: إنهم لا يستطيعون فعل الشر بوجه، وهو قول من فضّلهم على جميع بني آدم.
وقيل: إنهم متمكنون من فعل الشر، وعصموا منه وهو الصحيح.
قيل لابن عرفة: الجواب {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} غير مطابق (للسؤال) لهذا التفسير.
قال: (سألوا عن جزأين) : وهما هل يكون الخليفة مفسدا؟ وهل يكونون إذ ذاك هم يسبحون؟ فأجيبوا عن الجزء الأول فقط.
قوله
تعالى
: {وَعَلَّمَءَادَمَ
الأسمآء كُلَّهَا ... }
قال ابن عرفة: فيه دليل على أفضلية العلم، وأنه أشرف الأشياء، لأن الله تعالى جعل السبب في استحقاقه للخلافة كونه عالما مع وجود أن الملائكة شُرفوا بالقوة العملية وهي التسبيح والتقديس، ولكن القوة العملية لا تنفع إلاّ (بالعلم) وآدم أعلم منهم. وقال الله تعالى:

(1/239)


{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ((فهو يتناول المخلوقات كلها إذ لا ينبغي الكمال إلا لله فهو المختص بالعلوم، وليس فوقه شيء. وجعل بعضهم عمومها مخصوصا (خوف) التسلسل)) . والصواب أنها باقية على عمومها، والقوقية أمر اعتباري. فإذا نسبت بعض الطلبة إلى بعض تجد أحدهم أعلم بالفقه، وآخر أعلم منه بالنحو، وآخر بأصول الدين، فيصدق أن فوق كل ذي علم عليم (بالإطلاق) .
ولقد اختلف الأصوليون في (واضع) اللّغة على (تسعة) مذاهب:
الأول: مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فورك وأتباعهما أن الواضع هو الله تعالى وضعها، (ووقف عباده عليها) بأن علّمها بالوحي إلى بعض الأنبياء، أو خلق الأصوات والحروف في جسم وأسمع ذلك الجسم واحدا أو جماعة، أو خلق الأصوات والحروف في جسم وأسمع ذلك الجسم واحدا أو جماعة، أو خلق علما ضروريا لبعض الناس، (بأن واضعا) وضع تلك الألفاظ بإزاء تلك المعاني ثم الذي حصل له العلم بها علّم غيره كحال الوالدات مع (أولادهن)

(1/240)


الثاني: أن الوضع اصطلاحي من الناس وهو مذهب أبي هاشم المعتزلي ومن وافقه.
الثالث: قول الأستاذ أبي اسحاق الإسفراييني يعني أن البداية من الله (والتتمة) من الناس، وهو مذهب قوم، ونقل أيضا عنه قول آخر: إن القدر المحتاج إليه من الله وغيره محتمل نقله عنه الشيخ ابن الحاجب في مختصريه الكبير والصغير وشمس الدين الدمشقي والقول الذي قبله نقله عنه ابن الخطيب في المحصول وتاج الدين في (الحاصل) والقرافي.
الرابع: أن البداية (من الله) (والتتمة) من الله وهو مذهب قوم.
الخامس: مذهب عباد ابن سلمان الصّميري المعتزلي أن (الألفاظ) تدلّ على المعاني بذواتها دلالة طبيعية من غير وضع.

(1/241)


قال ابن يونس في العتق الأول في فصل ما يلزم من ألفاظ العتق وما لا يلزم ما نصه: واختلفوا فيمن أراد أن يقول ادخلي الدار فقال: أنت حرة أو أنت طالق فقيل: يلزمه ولا يعذر بالغلط وقيل: لا يلزمه.
قال ابن عرفة: القول باللّزوم لا يتم إلا على مذهب عباد (الصميري) الذي يجعل بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية.
قال القرافي: عزاه (الآمدي) لأرباب علم التكسير وهم أهل علم الرياض في الهندسة والمساحة من فنون الحساب وهذا تفريع على مذهب من يعتقد أن الحروف مشتملة على (الحرارة) والبرودة والرطوبة واليبوسة والخواص الغريبة وأنها صالحة لمداواة الأمراض وأحداثها.
السادس: للقاضي أبي بكر الباقلاني والإمام فخر الدين في المحصول الوقف في الجميع إلا في فساد مذهب عباد.
قال القرافي في شرح المحصول: قال المازري فائدة الخلاف في هذه المسألة يقع في جواز قلب اللّغة أما ما يتعلق بالأحكام الشرعية فقلبه محرم اتفاقا وما لا تعلق له بالشرع. فإن قلنا: إن اللّغة توقيفية

(1/242)


امتنع تغيرها، وإن قلنا: اصطلاحية جاز تغيرها. وعلى القول بتجويز الأمرين وهو الوقف اختلفوا. فقال بعضهم: يجوز التغير ومنعه عبد الجليل الصابوني لاحتمال (التوقيف) (فإن الله) أوجب على السّامعين أن لا ينطقوا إلا بالموضوع الرّباني. وقال الغزالي في البسيط في كتاب النكاح: إذا أظهروا (الصدق) (البين) وعبروا بها عن ألف (الجمع) فيخرج جواز ذلك على كون اللّغة توقيفية أو اصطلاحية، انتهى:
وقال ابن عبد النور في شرح الحاصل: منهم من قال: فائدة الخلاف لو سب أحد واضع اللغة وقال: هذه لغة سوء أو أن واضعها كذا، فإن قلنا أنها توقيفية (قتل) وإلا أدّب.
وقال القاضي عبد الحميد بن أبي الدنيا: في شرح عقيدته ليس لهذا الاختلاف إلا فائدة واحدة وهي أنه إذا قال قائل: قتل فلان فلانا. فإن قلنا: إنه توقيف فيكون ذلك مجازا، وإن قلنا: اصطلاحا (

(1/243)


فمن) لم يثبت (إلا فعل) الله يقول: أخطأ المصطلحون لأن القتل والإحياء وكل فعل إنما هو بخلق الله وهو القاتل. وأبطل ابن الحاجب وغيره مذهب عباد بأنه لو كان بين الاسم والمسمى ارتباط طبيعي لما صح وضع اللفظ لشيء ونقيضه على سبيل البدل، وقد وجدنا القرء موضوعا للطهر والحيض وهما نقيضان (أو ضدّان) على طرفي النقيض وليس بين الشيء وضدّه أو نقيضه مناسبة طبيعية
وقال ابن الحاجب: احتج الأشعرية بدليلين أحدهما قوله تعالى {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا} فأسند تعليمها ((إليه وكذلك الأفعال والحروف إذ لا قائل بالفرق ولو أنها كانت اصطلاحية لما أسند (تعليمها) إليه)) واعترض عليه بوجوه:
الأول: أن ذلك (إعلام) لا تعليم أعني أنه فعل يصلح لأن ينشأ عنه العلم ولذلك يقال: علَّمته فتعلم (أو) لم يتعلّم.
الثاني: أن المراد إيجاد العلم لكن المراد (تعلم) شيء ثبت باصطلاح قوم خلقهم الله قبل آدم فعلمه تلك الاصطلاحات السابقة كما يعلم أحدنا الطّلبة النحو والفقه (والطب) .

(1/244)


الثالث: لم (لا) يجوز أن يكون مراده الإعلام بحقائق الأشياء ومنافعها، مثل أن يعلّمه أن (حقيقة) الخيل (تصلح) لكذا، أو أنها (تصلح للركوب) (وللكرّ والفرّ) والجمل للحمولة ويعين ذلك قوله {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} ولو (أريد) الأسماء لقلل عرضها واجاب الشّيخ ابن الحاجب عن الجميع بأن ذلك خلاف (الظاهر، لأن) الأصل (بالتعليم) إيجاد العلم (لا الإلهام) والأصل عدم اصطلاح سابق والمراد بالأسماء الألفاظ لا الحقائق لقوله جل ذكره: {أَنبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء} فأضاف الأسماء إلى هؤلاء، فلو كان المراد الحقائق للزم إضافة الشيء إلى نفسه والضمير في «عَرَضَهُمْ» للمسميات.
قال ابن عطية: قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: أي علّمه اسم كل شيء من جميع المخلوقات.
قال ابن عرفة: في هذه العبارة نظر. والصواب ان كان يبدل (المخلوقات بالمعلومات) ليدخل تحتها (المعدوم) الممكن والمستحيل فإنه قد علمه اسمه وليس مخلوقا لله.

(1/245)


قال ابن عرفة: وهذا بناء على أن المراد بالاسم التسمية لا المسمى.
قيل لابن عرفة: كيف فضل آدم عليهم مع أنّ الله علّمه ولم يعلمهم، وما كان تقوم الحجة عليهم إلا لو علّموا فلم يتعلّموا وعلّم آدم فتعلم؟
فقال في جوابه: هذا تفضيل من قبل ذات المعلم والتفضيل هنا وقع بالاختصاص من الله تعالى فقط
قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
اقتضت الآية أن الثابت في نفس الأمور صدق ذلك وهو عدم صدقهم مع أنهم معصومون من الكذب وغيره.
وأجيب بأن الكذب عندنا هو الخبر غير المطابق لما في نفس الأمر سواء كان عمدا أو سهوا.
قال ابن عرفة: لا يحتاج إلى هذا (وكانوا يجيبون عن) السؤال بأن الأصل الذي (يعرض) فيه التصديق والتكذيب منتف عنهم فإنهم لا يجيبون بشيء، (فلم يعتقدوا) خبرا (حتى) يقال فيهم: إنّ اعتقادهم مخالف لما في نفس الأمر فيكون الإخبار عنه كذبا، أو موافقا فيكون الإخبار عنه صدقا (بوجه) .

(1/246)


قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)

قوله تعالى: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ ... }

(1/246)


(أتى) (بالتنزيه) المقتضي لنفي ما (قد) يتوهم من (آن) الله تعالى طلب منهم الجواب عما علم أنّهم جاهلون به والواحد (منا) إذا سأل صاحبه عن مسألة يعلم منه أنّه (يجهلها) فإنه يتوهم فيه أنّه إنّما سأله اختبارا وتعجيزا له واستحقارا به.
فقالوا: ننزهك (عن) أن ينسبك أحد لمثل هذا ويتوهم فيك شيئا منه. وأيضا يكون التسبيح نفيا للشبهة العارضة في تكليف ما لا يطاق لأن مذهبنا جوازه، وأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ومنعه المعتزلة لهذه الشبهة وهي حجة تكليف الله الخلق بما يعلم أنهم لا يقدرون عليه.
قيل لابن عرفة: لعل مراد الملائكة تتزيهه عن عدم العلم الثابت لهم؟
فقال: ما قلت لكم أنسب.
قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنتَ العليم الحكيم}
قال ابن عرفة: الوصف بالحكيم إشارة إلى الوجه الذي اختص به (آدم) بالعلم دونهم فمعناه: أنت تضع الأشياء في محلها أو يكون المراد (الامتنان) بالعلم ودليل العلم وهو الحكمة لأن الأصوليين عدوها من أسباب العلم.

(1/247)


قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

قوله تعالى: {قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ ... }
قال ابن عرفة: إذا قدّم النداء على الأمر فيكون المراد تنبيه المخاطب واستحضار ذهنه لما يلقى إليه، وإن قدم الأمر على النداء كان ذلك دليلا على تأكيد طلبه وأنه هو (الاسم) (المقصود) كما ورد في الحديث الصحيح في غزوة بدر لما برز من صف المشركين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وطلبوا أن يكون المباشر (لهم) بالقتال مثلهم من بني عمّهم فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة بن الحارث» وكذلك في حديث الأنصار حيث قام منهم خطيب فقال النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قل (يا أباحية) » .
قوله تعالى: {فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ ... }

(1/248)


(فإن قلت: هلاّ قيل: فأنبأهم بأسمائهم. فقال: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ} الآية؟
قلت: الجواب ما قال بعضهم: من أن حكمته الإشعار بترتيب المجازات على الفعل (فيؤخذ) منه جواز (الثناء) على الإنسان بما فيه من المحاسن لكن في غيبته لئلا يقع (في نفسه) كبر وعجب وإن كان (الإنسان) هنا سالما من ذلك.
قال الطيبي: ويؤخذ من الآية أن علم اللغَة والحِكْمة أفضل من علم العبادة فضلا عن علم الشريعة/ لأن آدم عليه السلام فضل على الملائكة لاختصاصه بعلم الأسماء وهذا راجع إلى حفظ اللغة وهم لم يحتجوا إلا بكمال التسبيح والتقديس.
فقال ابن عرفة: إنّما يؤخذ منه أن علم اللّغة له فضل وشرف لا أنه أفضل من العبادة.
قال ابن عطية: قال بعض العلماء في قوله تعالى: {فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ} نبوءة (لآدم) عليه السلام إذ أمره الله أن ينبيء الملائكة بما ليس عندهم من علم الله عَزَّ وَجَلَّ.
وكذا قال ابن الخطيب: إنّه احتجّ بها من قال: إنّ آدم عليه السلام رسول، ورد هذا (بوجوه) :
الأول: قال الفخر الرازي: الأنبياء معصومون وهو قد أهبط بعد ذلك من الجنة لأكله من الشجرة فلا يصح كونه رسولا.

(1/249)


الثاني: قال ابن عرفة: الرسول مأمور بتبليغ التكاليف لأمته، والملائكة ليسوا مكلفين بإجماع، وأيضا فالتبليغ إنما هو مع الغيبة والله تعالى خاطب الملائكة خطاب مشافهة فلا فائدة في الإرسال إليهم.
قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} .

(1/250)


قال ابن عرفة: كان الشيخ ابن عبد السلام رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى يقول في هذه الآية الكريمة: إنه لم يتقدم في الآية (التي قبلها) أنه قال لهم هذا لأن المتقدم إنما هو {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء} إلى قوله {تعلمونَ} قال الشيخ ابن عبد السلام: ينبغي عندي أن يوقف عند قوله {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ} أي (أَلَمْ) أَقُل لَّكُمْ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ.
ثم يبتدئ: {إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض} ؟
قلت: والظاهر عندي أن الوقف عند قوله: {غَيْبَ السماوات والأرض} لأنّ {غَيْبَ السماوات والأرض} ، لا يعلمونه هم فكأنه قال: إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ويبتدئ {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} لأن هذا لا يتسلط عليه القول إذ لم يقله لهم أصلا.
قوله تعالى: {مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}
قال ابن عرفة: عادتهم يوردون هنا سؤالا مذكورا في جنس الائتلاف وهو: لِمَ جَاءَ هذا هكذا (مع) صلاحية الأربعة أوجه إمّا حَذْف كان من الفعلين، أو ذكرهما فيهما معا أو ذكرها مع الأول دون الثاني، أو العكس. فلم اختص اختص بها الثاني دون الأول؟
قال: وتقدم لنا الجواب عنه بأنه قصد بالعطف التسوية بين علم الله تعالى الظاهر والخفي كما في قوله تعالى {مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} وعلم الأمر الظاهري في الحال أقرب من علم ما كان ماضيا في الباطن وجهل الأمر الماضي الخفيّ أشدّ من جهل الأمر الحالي الخفي (فقرن) علمه الظّاهر الّّذي في أعلى درجات (الجلاء) والوضوح بعلمه الأمر الخفي الباطن الذي في أنهى درجات الخفاء إشارة إلى استواء علمه فيهما، وأنه ليس بينهما عندي في ذلك تفاوت بوجه فلذلك قرنت كان ب «تَكْتُمُونَ» دون «تُبْدُونَ» .
قيل لابن عرفة: ولو (قصد) التّسوية لبدأ «بِمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ» لأن معرفة الخفي يستلزم (معرفة) الجلي، فلا تكون للعطف فائدة إلا التسوية وأما الآن فالعطف تأسيس وفائدة ظاهرة.
قال ابن عرفة: جاء هذا على الأصل فلا سؤال فيه.

(1/251)


وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمَ}

(1/251)


قال: (اختلفوا) هل المراد السجود حقيقة أو الإيماء إليه أو الخضوع؟ وسبب الخلاف أن الخضوع بكون بأمور، ففسره بأقصاها وهو السجود لاستلزامه الخضوع فعبّر عن الخضوع بلوازمه وهذا (يشبه) ما قالوه (في تعارض) الحقيقة المرجوحة والمجاز، لأن القاعدة الثابتة المقررة في أن السجود حقيقة إنما هو بوضع الجبهة في الأرض فإطلاقه (هنا) على الخضوع مجاز راجح استصحابا لتلك القاعدة، وكون المراد به حقيقة هو نسبة المشبه، لكن (إِنْ) نظرنا إلى (أنّ) هذه الأمور جعلية شرعية فنقول: إنّ الله تبارك وتعالى أمر بالسّجود لآدم (فنأخذ) الأمر على حقيقته والمعتزلة على (قاعدة) التحسين والتقبيح يقولون: إن السجود ليس حقيقة بل هو بمعنى الخضوع. ومنهم من جعله تكرمة وجعل آدم كالقبلة فكما أن الصلاة للقبلة تكرمة لها فكذلك هذا، واحتج بعضهم بهذا أن الأنبياء أفضل من الملائكة.
قال ابن عرفة: إنما يؤخذ منه تشريف آدم وتكرمته، لا أنه أفضل وإنما يلزم ذلك لو كان السجود له لذاته.
ونقل ابن عطية: أن الأكثرين على الملائكة أفضل من بني آدم وعكس الفخر الخطيب.

(1/252)


قوله تعالى: {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ ... }
حكى الآمدي في شرح الجزولية قولا: بأن الاستثناء من الإثبات ليس بنفي.
قال الرازي في المعالم: اتفق الناس على أن الاستثناء من الإثبات نفي واختلفوا في العكس. قلت: وحصل بعضهم فيه ثلاثة أقوال: قيل: الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات، نفي وقيل: ليس بإثبات وليس بنفي، وقيل: من الإثبات نفي ومن النفي ليس بإثبات.
قال القرافي في شرح المحصول: ذهب بعض الأدباء إلى أن الاستثناء من الإثبات اثبات واحتج بقوله تعالى {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ} أي فلو كان نفيا لما احتيج إلى قوله «أَبَى» .
وكان الشيخ ابن عبد السلام يرده بأنها أفادت أن امتناعه من السجود لم يكن لعجز (بعذر) ولا لأنه أكره عليه بل استكبارا وعنادا لعنه الله.
وقال الآمدي: قيل أنه إثبات في الوجهين، وقيل: نفي في/ الوجهين، وقيل: من الإثبات نفي، ومن النفي ليس بإثبات.

(1/253)


وقال الطيبي: إن الترتيب هنا معنوي وفي قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} باعتبار اللفظ والأمر الحسّي الوجودي.
قال ابن عطية: قال جمهور المتأولين: كان من الكافرين في علم الله تعالى.
قال ابن عرفة: إن أرادوا أنّه إذ ذاك كفر بهذا الفعل وكان قبل ذلك مؤمنا (بالحسّ) (وكان) كافرا في علم الله تعالى وقيل: إنه كان كافرا بالحس، وشؤم كفره أوجب متناعه من السجود.
واختلف هل كفره عناد (أم لا) ؟ فمنهم من قال: يستحيل صدور المعصية من العالم حالة كونه عالما لأن العلم يقتضي ترجيح (طرق السلامة) (على طريق الهلاك) فأبطل الكفر عنادا وهي قاعدة الفخر وغيره.
ومنهم من قال: إنّ كفره كان عنادا.
قيل لابن عرفة: ويمكن تقرير هذا بما قالوا: من أنّ ارتباط الدليل بالمدلول هل هو عقلي أو عادي فقد يعلم الدليل ولا ينتج له العلم بالمدلول؟
فقال: نعم ولكن ما ذكروا (هنا) إلا الأول.

(1/254)


قال ابن عطية: روى ابن القاسم عن الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إن أول معصية كاتت الحسد والكبر والشح، حسد إبليس آدم وتكبر عليه (وشح آدم في أكله من شجرة قد نهى على قربها) .
قلت: وهذا بعينه من كتاب الجامع الأول من العتبية. وقال فيه ابن رشد: الحسد من (الذنوب) العظام وهو أن (يكره) أن يرى النعمة على غيره، ويتمنى انتقالها عنه إليه، والغبطة أن يتمنى مثلها فقط مع بقائها عند صاحبها فالغبطة مباحة والحسد محظور قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا حسد إلا في اثنين رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه آناء اللّيل وأطراف النهار» انتهي.
والاستثناء في الآية منقطع. ومنهم من يرى الحسد على وجهين:
- محظور إن كان فيه (بغي) . وهو أن يريد الإضرار (بالمحسود) بزوال النعمة عنه.
-

(1/255)


وجائز إن لم يكن معه بغي كالحسد في الخير فإنه مرغب فيه إذ لا بغي فيه والحسد في المال إن لم يكن معه بغي جاز: والشح قسمان: فالشح بالواجبات حرام، وبالمندوبات مكروه.
قال: وقوله في آدم «فَشَحّ» أي فَشح أن يأكل من ثمار الجنة التي أباح الله له الأكل منها فلم يأكل منها (ابقاء عليها) وشحّا بها.

(1/256)


وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)

قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ ... } .
قال ابن عرفة: (الجمع) من قوله تعالى، وزيادة «قلنا» في بعض الآيات تنبيها على تشريف القول وتعظيمه والاهتمام به. فرد عليه بقوله تعالى: {وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً} {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} والتعظيم للقول لا للمفعول له، ففيه تهويل وتفخيم لذلك الأمر. والسكنى لا تفيد التأبيد.
قال في المدونة في أواخر كتاب الهبات: ومن قال لرجل: داري هذه لك صدقة سكنى فإنما له السكنى فقط دون رقبتها، وأما إن قال هذه الدار لك ولعقبك سكناها فإنها ترجع إليه ملكا بعد اتقراضهم. فإن مات فأولى الناس به يوم مات وإلى ورثتهم لأنهم هم ورثته.

(1/256)


قال ابن عطية: اختلف (مَتَى) خلقت حواء من ضلع آدم؟ ثم قال: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه سألوه لم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي.
ق ابن عرفة: قال بعضهم: المناسب لهذا أن (كان) يكون اسمها حيا؟ وأجيب بأنه اشتقاق أكبر، ومنهم من قال: سميت حواء لأن امرأة الرجل تحوي عليه وتستحمله، فيدخل طوعها ويسمع منها في أغالب أمره.
قوله تعالى: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً ... } .
قال ابن عرفة: رأيت تأليفا للشيخ عزّ الدين بن عبد السلام في إعجاز القرآن وغيره قال: إنه على حذف مضاف تقديره: وكُلاَ من ثمارها رغدا.
قال ابن عرفة: هذا إن اعربنا «رغدا» نعتا للمصدر فتكون «من» للتبعيض والثمر ليس هو بعض الجنة إنما الجنة هي الأشجار والأرض بدليل أن من باع جنة فيها ثمر قد أبرّ فإنه للبائع ولا يتناوله البيع إلا بالشرط فليس الأكل من الجنة.

(1/257)


قيل لابن عرفة: هذه حقيقة شرعية؟ فقال الأصل موافقة الشيء للغة حتى يدل الدليل على خلاف ذلك. قال وإن أعربنا «رغدا: (نعنا) للمفعول مقدرا أي {وَكُلاَ مِنْهَا} (مأكولا) رغدا وتكون» من «للغاية أعني لابتدائها وانتهائها فلا يحتاج إلى تقدير المضاف وقال في الأعراف {وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} فعطف بالفاء وهنا بالواو.
قال ابن عرفة: يجاب بأن تكون هذه نزلت قبل تلك الاية فعبر هنا باللَّفظ الأعم وهو الواو المحتلة لأن يكون الأكل عقب السكنى وبعدها بتراخ ثمّ خوطب هناك باللفظ الأخص الدال على إباحة الأكل بعقب السكنى ليكون الكلام تأسيسا مقيدا.
وأجاب الفخر في درة التنزيل: بأن الأكل من الموضع لا يكون إلا بعد دخوله له إما قبل سكناه أو بعده والأعراف وردت بعد قوله: {اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً} (خطابا للشيطان) ثم قال: {وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة} معناه: ادخلْها أنت دخول سكنى وهي الإقامة مع طول مكث فناسب العطف بالفاء لأن (الدّخول) متقدم في الرتبة على الأكل وآية البقرة لم يتقدم فيها ما يدل على الدخول، فالمراد اسكن حقيقة.
وتأخر الأكل على السكنى ليس بلازم.

(1/258)


قوله تعالى: {حَيْثُ شِئْتُمَا ... }
قال ابن عرفة: / قالوا: إنه على التوزيع أي يأكل واحد منكما من حيث شاء، لأن الأكل متوقف على اجتماعهما معا على المشيئة لأن المضمرات عندنا كلية (وصيغة) الأمر هنا للامتنان، وعبر عنه ابن عطية بالإذن.
قال الشيخ الفخر: إمّا للندب أو الإباحة والظاهر ما قلناه.
قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة ... }
قال ابن عطية: قال بعض الحذاق: إن الله لما أراد النّهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ يقتضي الأكل والقرب منه.
قال ابن عطية: وهذا مثال لسد الذرائع.
قال ابن عرفة: فرق بين سد الذرائع وبين النّهي عن الشيء لأجل غيره وهو النهي عما هو سبب في غيره، فسد الذرائع هو الامتناع مما لم ينه عنه خشية الوقوع في ما نهى عنه، ومنها (بياعات) الآجال المختلف فيها التي هي ذريعة للوقوع في المحرم ولولا أنّها مختلف فيها ما كان ذريعة فالذريعة (هنا) هو أن يقارب قرب الأكل من الشجرة لأنه نهى عن قرب القرب.
قال ابن الخطيب: والنّهي على الكراهة.

(1/259)


قال ابن عرفة: بل على التحريم لقوله {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} والظلم الخروج عن الحد إما بكفر أو ارتكاب أمور أدناها الصّغائر.

(1/260)


فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)

قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا ... }
أي فسكنا، وأكلا حيث شَاءَا، فأَزَلَّهُمَا، فسَّرُوهُ بأمرين إما (أوقعهما) في الزلَّة والإثم فالضمير في «عنها» للجنة، أو للشجرة فهو معنوي، وإما حسي من الزوال فالضمير في «عنها» للجنّة.
وقرأ حمزة، فَأَزَلَّهُمَا وهو نص في الزوال الحسي فتكون (مرجّحة) (لإرادته) في القراءة الأولى.
قال ابن عطية: لما دخل إبليس لآدم سأله عن حاله فقال (له) : ما أحسن هذا لو أن خلدا (كان) فوجد به السبيل إلى إغوائه.
قال ابن عرفة: هذا إلهام (للنطق) بما وقع في الوجود حيث قال ابليس {هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد} كما قال

(1/260)


يعقوب عليه السلام لبنيه {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} فقالوا له: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذئب} (وكما قال الشاعر:
احفظ لسانك أن تقول فتبتلى)
إنّ البلاء موكل بالمنطق
وأكله من الشجرة إما لظنه أنّ النهي للكراهة أو المنهي عنها شجرة واحدة بالشخص وهذه من نوعها فقط.
زاد ابن عطية: إن حواء سقته الخمر فأكل في حال السكر.
قيل لابن عرفة: خمر الجنة لا يسكر فقال: إن تلك الجنة (التي) من دخلها (يؤمّن) من الخروج (منها) ولعلّ هذه إذ ذاك (كان) خمرها مسكرا.
قلت: أو كان الخمر من غيرها وأدخل (فسقي منها) قال: ومذهب مالك أنّ جميع ما يصدر عن السّكران من طلاق وقذف وقتل وزنا وسرقة كلّه يلزمه ويؤاخذ به وهي (أول) مسألة في العتبية من النكاح الأول.

(1/261)


قيل له: إنما هذا اللزوم بعد تحريم الخمر وقد كانت حينئذ حلالا فيعذر شاربها؟
فقال: حفظ العقول من الكليات الخمس التي اتفقت جميع الملل عليها فالسّكر حرام وإنما يجوز فيها ما لا يسكر.
قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهبطوا ... } .
الأنسب أن يكون الخطاب بواسطة وهو الأغلب فيمن يواقع الأمر المرجوح.
قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ... }
ابن عطية: هو في موضع الحال فألزمه أبو حيان أن تكون العداوة مأمورا بها لأن الحال داخله في الأمر.
وأجاب ابن عرفة: بأن ذلك حيث يكون الحال غير (واقعة) حين الخطاب بالأمر (إلا) إذا كانت واقعة فالأمر بها تحصيل الحاصل كقولك: وزيد (ضاحك) . أكرم زيدا ضَاحِكا. والعداوة حينئذ بين آدم وإبليس موجودة. أو تقول: إنها مأمور بها ولا يلزم عليه شيء لكن هذا إن كان إبليس داخلا في الأمر.

(1/262)


قال ابن عطية: المخاطب بالهبوط آدم وحواء وإبليس والحية؟
وقال الحسن: آدم وحواء والوسوسة.
قال: (ابن عرفة: أي عدو الوسوسة) . وقال غيره: والحية. لأن إبليس قد كان إهبط.
قال: وإذا قلنا: (إنّ) الأمر لآدم وحواء وإبليس، فيكون في الآية دليل على جواز إطلاق (لفظ البعض) على أكثر من النصف.

(1/263)


فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)

قوله تعالى: {فتلقىءَادَمُ ... } .
معطوف على قلنا: والفاء للتعقيب أي (يعقب) إن قلنا له ذلك تلقّى فهي إشارة إلى سرعة إلهام الله تعالى له المبادرة بالتوبة.
قال ابن عطية: تلقاها إما بإقباله عليها أو إلهامه إليها.
قال ابن عرفة: والإلهام إما حضور ذلك (بباله) من (غير) تكلّف نظر أو علمه بها بعد تكلّف النّظر. قال: والتفعل يقتضي إمّا (تكلف) الفعل بمشقة وإما للتَّناهِي إلى أعلى درجاته وهو هنا يحتمل الأمرين وتقدم المجرور للتشريف.

(1/263)


وقرأ ابن كثير: «آدَمَ» بالنّصب «وكَلِمَاتٌ» بالرفع.
قال ابن عرفة: قراءة الجماعة بالرّفع ظاهرة لأنه هو فاعل التلقي (فكلفه) التلقي والقصد إليه و (إمعان) النظر (فيه ظاهر) ، وأمّا قراءءة ابن كثير فتقتضي أن آدم عليه السلام أتاه التلقي هجما من غير نظر، فيمكن (فهمه) على أنه أتته أَوَائِل درجات النظر بالبديهة لأن المعقولات فرع المحسوسات، فأول درجات النظر مدرك معلوم بالبديهة لا يفتقر إلى تقدم شيء قبله (لئلا) يلزم عليه التسلسل، وتنكير «كلمات» للتشريف والتعظيم كما قال الزمخشري في قوله تعالى: {والفجر وَلَيَالٍ عَشْرٍ} وقال: نكّرت لأنّها معيّنات معلومات فرد عليه/ بمنافاة التنكير للتعيين. وأجيب بأنها لشرفها وعظمها صارت معلومات في الذهن فلم تحتج إلى تعريف وكذلك هنا.
قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم}
تنبيه على أن توبته (لا تخص آدم) بل توبته ورحمته عامة.

(1/264)


قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً ... }
قال الزمخشري: إن قلت لم جِيءَ بكلمة الشك وإتيان الهدى كائن لا محالة لوجوبه، قلت: فائدته الإعلام (بأن الإيمان) بالله (وتوحيده) لا يشترط فيه بعثة الرسل؟
قال ابن عرفة: هذا السؤال إنما يرد على مذهبه لأنه يقول: إنّ إرسال الرّسل واجب عقلا. وجوابه ضعيف، بل هو مؤكد للسؤال (وبيانه) أن يقول: إتيان الهُدى محقق الوقوع إمَّا من جهة العقل المقتضي لوجوب بعثة الرسل، (أو) من جهة (الوجود) الخارجي لأن التوحيد موجود (فإتيان) الهدى محقق.
قال: فحقه (كان) أن يجيب بما (عادته) أن (يجيب) به. وهو أنّ هذا على عادة الملوك (في خطاباتهم أن يعبروا عن الأمر المحقق الوقوع باللفظ المحتمل) لأن خطاباتهم كلّها محققة.

(1/265)


وأجاب الطيبي: أن الشك راجع (إلى اتّباع الهدى) لا إلى نفس الهدى والإتباع غير محقق.
قال ابن عرفة: وهذا كله لا يحتاج إليه على مذهبنا لأن إرسال الرسل إنما يجب (عندنا) بالشرع لا بالعقل، ولم يكن حينئذ شرع بوجه فكان الأمر محتملا.
قال الطيبي: أكد أول الفعل ب «إما» وأخره بالنون الشديدة.
قال ابن عرفة: قد قالوا في قول ابن دريد في مقصورته:
أما ترى رأسي (حكى) لونه ... طرّة صبح تحت أذيال الدجى
( «إما» زائدة للتأكيد) ونابت مناب تكرير الفعل فكأنه قال: إنْ تَرَ تَرَ. وكذلك هنا تأكيد أوله مناف تكريره وتأكيد آخره راجع إلى تحقيق وقوعه وتثبيته.
قوله تعالى: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}

(1/266)


قالوا: سبب الخوف مستقبل وسبب الحزن ماض فإن قلت: على هذا كان يقال: فلا (حزن) عليهم ولا يخافون فهو أرتب ليعبر عن المستقبل (بصيغة) المستقبل.
(قال) : فالجواب عن ذلك أنه إشارة إلى (تكرر) الحزن منهم المرة بعد المرة، وتذكر الإنسان أمرا (مضى) أقرب من تذكره أمرا مستقبلا وتأسفه على الماضي المحقق الوقوع أشد من حزنه على المستقبل، لأنّه (يتكرّر تذكره الماضي) شيئا بعد شيء، (بل) فمهما تذكره يحزن عليه فعبر عنه بالفعل المقتضي للتجدد وليس كذلك المستقبل بوجه.

(1/267)


وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)

قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ ... } .

(1/267)


قال ابن عطية: أفاد قوله «كذّبوا» أن المراد (بالكفر) (الشرك) فيخرج (كفر) النّعم والمعاصي.
قال ابن عرفة: وفي الآية عندي حذف التقابل والمعنى: فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَأوُلئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وَلاَ خَوْفَ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (أي لا حزن عليهم) وَالَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وعليهم الخوف وهم يحزنون.

(1/268)


وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)

قوله تعالى: {وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ ... } .
قال ابن عرفة: الظّاهر أن المراد به تصديق (الرّسل والإيمان بهم) والمراد بقوله «وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي» الإيمان بالله وتوحيده. والعهد يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} قيل لابن عرفة: الإيمان (بالرسل) يستلزم التوحيد؟
فقال: الصحيح أن التوحيد واجب بالعقل لا بالسمع.

(1/268)


فقال الطيبي: هذا من عطف الخاص على العام (أو من عطف الأخص على الأعم) لأن الوفاء بالعهد مطلق.
قوله تعالى: {وَلاَ تكونوا ... } .
دليل لمن يقول: إن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، لأنه داخل في ضمن قوله {وَءَامِنُواْ} .
قال ابن عطية: وهذا (من) مفهوم الخطاب الذي المذكور فيه والمسكوت عنه حكمها واحد.
قال ابن عرفة: (بمعنى) أنه يدل بمفهوم الموافقة، وهو مفهوم أحرى على (النهي) على كفرهم (على الإطلاق) .
قال ابن عرفة: ليس هذا مفهوم الموافقة (وإنّما هو فهم مثل الحكم) المنطوق به في المسكوت عنه، ذكره ابن التلمساني في المسألة السابعة من باب الأوامر (ونسبه) إلى ظن وقطع.
قال الزمخشري: ومعنى الآية: ولا تكونوا مثل أول كافر به.

(1/269)


قال ابن عرفة: إنما قال ذلك لأن كفرهم به قد وقع في الوجود إما قبل كفر غيرهم أو بعده، فالنهي عنه من تكليف ما لا يطاق وهو (عنده) غير جائز فلذلك قدر المضاف.
قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ... } .
عظم الآيات بالجمع والإضافة إليه إضافة تشريف وحقر الثمن بالإفراد، والوصف بالقلة، فهو حقير في قدره (وفي صفته) .

(1/270)


أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)

قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر ... }
الاستفهام معناه التقرير والتوبيخ.
قال ابن عرفة: فرق بعضهم بينهما بأن التقرير لمن أنعمت عليه ولم يحسن إليك. والتوبيخ لمن أحسنت إليه وأساء إليك. وجمع الأنفس جمع قلة تحقيرا لها، لأن الآية خرجت مخرج الذّمّ، والواو في «تنسون» يجب (أو يترجح) أن يكون واو الحال (إذ) لو لم تكن من تمام (الأول) للزم عليه تسلط الإنكار على كل واحدة من الجملتين على انفرادها، والأمر بالمعروف مطلوب شرعا لا يوبخ أحد (على) فعله فما الإنكار إلا على من يأمر بالبر حالة عدم اتصافه به. فإن قلت / المضارع لا يقع حالا إلا بغير واو إلاّ فيما شذّ من قولهم: (قمت وأصك عينه) ؟ قلنا: هو على اضمار المبتدأ أي وأنتُمْ تَنسَوْنَ أنفُسَكُمْ.

(1/270)


(قيل) لابن عرفة: لعل الإنكار تسلط على الجمع بين الأمرين أي أتجمعون بين الأمر بالبر ونسيان أنفسكم؟
(فقال) : ظاهر اللفظ بالاتصاف أن دلالته على ذلك المعنى إنما هو من ناحية كون تلك الجملة حالا فقط.
قلت: وأيضا فما يدل على إنكار الجمع بينهما إلا لو كان «تنسون» منصوبا كما قالوا في: لاَ تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ.
قوله تعالى: {وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}
أي العقل الذي يصدكم عن ارتكاب ما منع الشرع منه وهو العقل النافع وليس المراد العقل التكليفي لأنه ثابت، وهذا هو الذي اختص منه منتفٍ عنهم لأن المعنى: أتجهلون فلا تعقلون؟ انتهى.

(1/271)


وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)

قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} .
الإعلام بذلك حين التكليف ليكون المكلّف على تأهّب وبصبرة فلا يظهر له حين العمل الا ما دخل عليه، والخشوع هو استحضار التقصير في العمل وفق المجازاة عليه.
قلت: بل الخشوع رقة في القلب سببها الخوف، وانظر في أسئلة الشيخ ابن رشد في أول مسألة من كتاب الصلاة.

(1/271)


الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)

قوله تعالى: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ ... } .

(1/271)


قالوا: معناه يعلمون.
قال ابن عرفة: (الذي يظهر) لي أن الظنّ على بابه مصروف لزمن (الملاقاة) أي هم يستحضرون الموت ويظنونه في كل زمن واقعا بهم.
قال القشيري أبو طالب: إنّ أبا بكر وعمر جلسا ذات يوم مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إني إذا أصبحت ما أدري هل أمسي أم لا؟ وقال سيّدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إذا أمسيت لا أدري هل أصبح أم لا؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: وإذا صعدت النفس لا أدري هل أرده أم لا؟ (لأنهم يعتقدون المعاد علما لا ظنّا. فقال: يكون مثل: علفتها تبنا وماء باردا، وتعلمون أنّهم إليه راجعون) .
قال ابن عرفة: فإن قلت: جاء في الآية التصديق قبل التّصور لأنه حكم على الخاشعين بأن الصلاة ليست عليهم كبيرة قبل أن يبين حقيقتهم وما أراد بهم.

(1/272)


فالجواب أَنّا (إذا) جعلنا {الذين يَظُنُّونَ} نعتا للخاشعين فلا سؤال، لأنه من تمامه وكأنه شيء واحد، وإن جعلناه مقطوعا للرفع أو للنصب فالسؤال وارد.
قلت: وتقدم لنا غير مرة أن التصور باعتبار حقيقة الماهية والإحاطة بها لا يشترط تقدمه على التصديق.

(1/273)


يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)

قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ... } .
الذكر باللسان والقلب. واختلفوا في الذكر باللسان فقط هل هو معتبر (أم) لا؟ ووجه مناسبتها لما قبلها أن الله تعالى كلفهم بالصلاة (وأعلمهم) بمشقتها وكان ذلك سببا في قنوطهم (وإياسهم) ، وقلة (طمعهم) في الوفاء بها والخروج من عهدتها، وعقب ذلك ببيان أن الله تعالى منّ عليهم نعما في الماضي فليتذكروها لتذهب عنهم الأمور العادية، ويكونوا على بصيرة من الطمع والرجاء في فضل الله تعالى وإنعامه عليهم في المستقبل بالإعانة على تحصيل تلك العبادة من غير مشقة (وجهد) . قال: وإنما نسبهم إلى يعقوب إن كان لهم أجداد غيره أنبياء لأنه أقرب جدّ إليهم. لأن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام وعليهم. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى} ثم قال

(1/273)


{وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} فإن قلت: ما الفائدة في قوله: {التي أَنْعَمْتُ (عَلَيْكُمْ} ) ولو أسقطت لقيل: اذكروا نعمتي (عليكم) لما اختل المعنى؟
فالجواب: أنه أفاد اختصاص تلك النعمة بهم، وأنهم مقصودون بها، أي اذكروا نعمتي التي جعلتها خاصة لكم، لأنه أنعم عليهم نعما كثيرة، وذكرهم بما اختصهم به منها دون ما (شاركهم) الغير (فيه) ، وأيضا فالإنعام على الشخص يطلق على ما ناله مباشرة وبواسطة كالإنعام على قريبه وصديقه (فذكّروا) بما أنالهم من النعمة مباشرة.
قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} .
قال ابن عطية: أي على (عالمي) زمانهم.

(1/274)


قال الزمخشري: أي على الجمّ الغفير.
قال ابن عرفة: جعله ابن عطية عاما في الأشخاص، خاصا في الأزمان (وجعله) الزمخشري بالعكس، والتخصيص في الزمان أولى لأن العام في الأشخاص مطلق في الأزمنة والأحوال، وفرق المنطقيون بين الكلية الدائمة والكلية المطلقة.
(قرره) ابن عرفة مرة أخرى فقال: الألف (واللام) عند ابن عطية للعهد، وعند الزمخشري للجنس، ونظيره كقولك: كل إنسان أبيض، إن أردت (اعتبار) الأمر الذهني فهو كاذب، وإن (كان) باعتبار الوجود الخارجي فهو صادق إذا كان أهل زمانك كلهم بيضا. زاد الفخر الرازي: أنه عام في الأشخاص والأزمان / مطلق في أنواع التفضيل. فلعلّهم فضّلوا عليهم (لفرع) واحد إما بالتنصيص على أن منهم الأنبياء والملوك قال تعالى {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً} فقال ابن عرفة: «هذه دلالة ظاهرة (وليست نصا) ولا ينبغي أن يصرح بكونهم أفضل من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا في خصلة واحدة.

(1/275)


قال ابن عرفة: والنعمة تحتمل أن يراد بها أمر حسي والتفضيل معنوي فيكون الكلام تأسيسا، أو أن يكون عاما في جميع النصح فيكون وأنّي فضلتكم من عطف الخاص على العام أو مطلقة تصدق على واحدة غير معينة فيكون من عطف الأخص على الأعم وهو المقيد على المطلق.

(1/276)


وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

قوله تعالى: {واتقوا يَوْماً ... } .
أي اتّقوا عذاب يوم.
قال ابن عرفة: لا بد من تقدير (هذا) المضاف لأن اليوم إن أعربته مفعولا لزمك تكليف ما لا يطاق لأن يوم القيامة لا بد لهم منه، فلا يصح تكليفهم بأن يجعلوا بينهم وبينه وقاية، وإن أعربته ظرفا لم يصح أمرهم بالتقوى فيه لأنّه ليس محلا.
قوله تعالى: {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ... } .
أي جزاء (تستقل به فيبطل استدلال المعتزلة بها على نفي الشفاعة العظمى أو الجزاء راجع إلى) النصرة لأن الإنسان لا (يفزع) إلى الشفاعة إلا إذا لم يقدر على النصرة لا بيده ولا بجنده، فإن علم أنه عاجز تشفع، فإن لم يقبل منه افتدى بالمال.

(1/276)


قال ابن عطية: وهذه إنما هي في الكافرين للإجماع ولتواتر الحديث بالشفاعة.
قال ابن عرفة: قال ابن الصلاح: لم يصح من (أحاديث) الشفاعة غير حديثين.
قال ابن عرفة: فعلى هذا يكون التواتر فيها معنويا لا لفظيا لتواتر شجاعة عليّ وجُود حَاتم. وقال هنا: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} (وفي الآية الأخرى) {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} فأخّر (الفداء) بالمال هنا عن الشفاعة وقدمه (هناك) .
قلت: ولقد أجاب الفخر الخطيب (عن ذلك) بأنّ ذلك على حسب حال الناس فواحد يرغب في المال (ويشح به) فيأتي بالشفيع، وآخر يرغب في (الجاه والحرمة) فيهون عليه (بذل) المال صيانة لحرمته.

(1/277)


وأجاب الفقيه أبو جعفر أحمد بن ابراهيم (ابن الزبير) العاصمي الثقفي بأن هذه الآية تقدمها {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} مظنة الامتثال والقبول فيكون مظنة لترجي الأمرين بالبر، (وأن يشفع) فيهم يوم القيامة من امتثل أمرهم ألا ترى قوله تعالى في المنافقين {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} فقد نسبوا المؤمنين بالكون معهم فأحرى أن يتعلق هؤلاء بالحظ على الخير والدلالة عليه فكان الآكد هنا نفي الشفاعة، فبدأ (به) ولم يتقدم في الآية الأخرى ما يستدعي هذا فبدأ بالفدية التي عهد في الدنيا أنها أمكن في التّخلص.
قال ابن عرفة: واحتجّ بها المعتزلة على إنكار الشفاعة وحملها أهل السنّة على أنها في الكفار خاصة (بهم) لما تقدم.
قال الإمام الرازي: بل هي حجة على المعتزلة.
قال ابن عرفة: لا يُنْفَى إلا ما هو قابل للنفي والكفار ليسوا بقابلين للشفاعة بوجه بخلاف العصاة.

(1/278)


وأجاب ابن عرفة: بأنهم قابلون لها باعتبار الدّعوى لقولهم: {هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} فقد ادعوا أن لهم شفعاء.

(1/279)


وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْءَالِ فِرْعَوْنَ ... } .
قال ابن عرفة: معطوف على «اذْكُرُوا» (عطف الجملة) أو على «نِعْمَتِيَ» (فالعامل) فيه «اذْكُرُوا» (المتقدم) على الفعل في المفعول به، أو عطف على «عَلَيْكُمْ» (فالعامل) فيه «أنعمت» (عمل) الفعل في الظرف.
قلت: وهذا (باطل) لأن «أنعمت» في صلة الموصول فكذلك معمولها وما عطف عليه وقد (فصل) بينهما بأجنبي وهو {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا} قوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب ... } .
قال الطيبي: السّوم مفرد في اللّفظ مركّب في المعنى لأنه طلب (البغي) على الغير فمعناه مركب من الطلب (والإضرار) بالغير.

(1/279)


قال ابن عرفة: لا يسمى هذا مركبا إنما المركب عندهم (ما كان) كلفظ مركب ولفظ مجمل ولفظ النسبة. (فإنها) لا تعقل إلا بالشيئين المناسبين.
قال ابن عطية: وإنما نسب الفعل إلى (آل فرعون وهم) إنما فعلوه بأمره (لمباشرتهم ذلك) .
قال الطبري: إن من أمره ظالم بقتل أحد فقتل إنه المأخوذ به (لا) الآمر.
قال ابن عرفة: هذا هو المشهور عندنا وذكره الشيخ ابن رشد في البيان والتحصيل وأظنه في كتاب السلطان واللّخمي في (الغصب) وذكره ابن يونس فر فروع آخر الغصب عن ابن أبي زيد (من أخبر لصوصا أو غاصبا بظهر رجل، ومن قدّم رجلا إلى ظالم إنّه يغرمه مالا يجب عليه، انظرها) ، وفي الحج الثالث إذا دل محرم على صيد محرما أو حلالا فقتله المدلول

(1/280)


عليه فلا شيء على الدال وإن أمر بقتله فعليه جزاء واحد وإن كان المأمور عبدا وإلاّ فلا. هذا هو المشهور.
ونقل ابن يونس عن أشهب في كتاب ابن المواز: أنه إن دل محرما على صيد فقتله فعلى كل واحد منهما جزاء وإن دل حلالا فلا شيء على الدال.
وقال التونسي: الصواب بأن الجزاء لئلا يبقى الصيد بلا جزاء لأنه إذا وجب (الجزاء) حيث يكون المدلول محرما فأحرى إذا كان حلالا وهو عكس/ المشهور.
وذكر ابن بشير الأول والثالث وزاد إن دل حلالا وجبت عليه (الدية) إذ لا يمكن إسقاطها. وإن دل حراما لم تجب لاستقلال المدلول بها فجاءت أربعة أقوال. وإن أمسك الصيد لرجل فقتله قال في المدونة: إن كان القاتل حلالا أدّاه الماسك وإن كان حراما (أدّاه) القاتل.

(1/281)


وقال سحنون: لا شيء على الماسك.
ابن يونس: وقال التونسي: وانظر هل يلزم على مذهب أشهب إذا دل أحد على مال رجل فأخذه، أو على قتله فقتله؟ فإنه يقتص منه ويغرم المال لأنه لم يتوصل إليه إلا بدلالته.
قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ ... }
كانوا أضروهم بقتل الذكور لانقطاع النسل وإحياء النساء للإذلال والمعرة وقد كانوا هم (يكرهون) استحياءهم خوف المعرة والإذلال.
وقال في سورة إبراهيم: {وَيُذَبِّحُونَ} بالواو وهنا بغير واو.
قال ابن عرفة: الجواب (إما) بأن العطف بالواو (تفسير) كما قال الشيخ ابن رشد في المقدمات في قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} وإما بأن يكون «وَيُذَبِّحُونَ» معطوفا على فعل مقدر يكون ذلك الفعل تفسير الأول، وإلا فالقصة واحدة.

(1/282)


فإما أن يكون الثاني هو الأول فيهما، أو مغايرا (له فيهما) لأن العطف يقتضي (المغايرة، وعدم العطف) يقتضي الموافقة فكيف الجمع بينهما؟
قلت: وتقدم لنا الجواب في الختمة الثانية في سورة إبراهيم حيث قال ابن عرفة: (وعادتهم) يجيبون بأن (المنّة في) آية البقرة (وقعت من الله تعالى) «نَجَّيْنَاكُمْ» فأسند الفعل إلى نفسه (والملك) (لكل) الأشياء (عنده) حقير فلذلك أتى بالجملة «يذبحون» مفسرة للأول غير معطوفة فكأنها شيء واحد إذ لا يستعظم الأشياء إلا العاجز فالألف دينار لا قدر لها عند الغني وهي عند الفقير (مال جليل) .
وأما سورة إبراهيم فالامتنان فيها من موسى عليه السلام لأن أول الآية ( {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} فهي حكاية صدرت من موسى لقومه) ، فناسب المبالغة بالعطف (فيها) المقتضي (للتعدد) والمغايرة لتكثر أسباب الامتنان.

(1/283)


قلت: وأجاب صاحب درة التنزيل بأن آية إبراهيم وقعت في خبر عطف على خبر آخر قبله وهو {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ} {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} فيبقى معنى العطف في «َيُذَبِّحُونَ» لأنه هو وما عطف عليه داخل في جملة معطوفة فالمقام مقام فصل وأما آية البقرة أخبر فيها بخبر واحد وهو إخباره عن (نفسه) بإنجائه بني إسرائيل فلذلك لم يعطف وأخبر في إبراهيم بخبرين معطوفين فلذلك عطف.
قلت: وأيضا فالجمل المتقدمة في البقرة طلبية وهي {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا} «واتَّقُواْ» ، وجملة «يُذَبِّحونَ» خبرية فليست مشاكلة لها بخلاف في سورة إبراهيم فإنها كلها خبرية وقد نص ابن أبي الربيع على أن المشهور أنه لا يعطف الخبرية على الطلبية ولا العكس.
وأجاب القاضي أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بأن هذه الآية مشتملة على استيفاء القصص، وسورة إبراهيم على إيجاز القصص، والأمران سائغان عند العرب قال شاعرهم:
يرمون (بالخطب) الطوال وتارة
(رمي) الملاحظ خيفة الرقباء

(1/284)


فذكر في البقرة سوء العذاب مجملا، (ثم) البينة (بذبح) الذكور وإحياء النّساء لأن القصد الإطناب بدليل زياده {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} وأشار في السورة الأخرى بقوله: {يَسُومُونَكُمْ (سواء العذاب} ) إلى جملة ما (امتحنوا) به من فرعون وقومه من استخدامهم وإذلالهم بالأعمال الشاقة وذبح الذكور واستحياء النساء ثم جرد منها (أعظمها) امتحانا، فعطفه لأنه مغاير لما قبله فقال: «وَيُذَبِّحُونَ» إشعارا (بشدة) الأمر فيه، وهو مما أجمل فيه، كما ورد في قوله تعالى:
{مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} خصصهما بالذكر إعلاما بمكانهما.
قال ابن عرفة: فإن قلت: لم قال هنا: «نَجَّيْنَا» وفي الأعراف ( {أَنجَيْنَا) } فالجواب: بأن القصد هنا كثرة تعداد وجوه الإنعام (فيه) (فبدأ) ب {ياأيها الناس (اعبدوا) رَبَّكُمُ} إلى آخرها

(1/285)


وكلها إنعام، ثم قال: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ} فلما كان موضع تعداد النعم ناسب التضعيف في «نَجَّيْنَاكُمْ» وأيضا فهو مناسب للتضعيف في «يُذَبِّحُونَ» الأعراف إنما فيها «يُقَتِّلُونَ» فرُوعِيَ مناسبة اللّفظ فيما بعد، والمعنى فيما قبل، انتهى.
قال ابن عرفة: وإنما قال: «نِساؤُكُمْ» ولم يقل: ببناتكم كما قال: «أَبْنَآءَكُمْ» تسمية للشيء بما يؤول إليه، وإشارة إلى قصدهم المعرة، واستحقار (بناتكم) .
قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكُم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}
البلاء: إما قدر مشترك بين الخير والشر أو لفظ مشترك، ويجيء فيه تعميم المشترك (فيبتلى الإنسان) بالخير ليشكر، و (الشر) ليصبر. قال الله تعالى {هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلونياءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} قال ابن عطية: (معناه) الامتحان والاختبار.
قال ابن عرفة: في هذه العبارة قلق، وينبغي أن يفهم (بما) قال الزمخشري في غير هذا الموضع: إنه يفعل بهم فعل المختبر لأن الاختبار من لوازمه الجهل، وهو مستحيل عن الله عَزَّ وَجَلَّ.

(1/286)


وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

قوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاكُمْ ... }
قال البسيلي: في تفسير قوله تعالى: «فأنجيناكم» قدم الإنجاء وإن كان دفع المؤلم آكد مراعاة للترتيب الوجودي لأن الإنجاء متقدم على إغراق آل فرعون.

(1/287)


وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)

قوله تعالى/: {وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ... }
قال ابن عرفة: يمتنع أن يكون أربعين ليلة (ظرفا) لأن ظرف الزمان المحدود (العمل) فيه كله، ويمتنع أن يكون (مفعولا) ، لأنها ليست هي (الموعودة) إنما الموعود موسى عليه السلام.
قال الزمخشري: وعده الله الوحي، ووعده موسى (المجيء للميقات) ، (فكأنه) مواعدة من الجانبين، وأبطله الطيبي بأن فيه تقدير مضافين معطوفين. وهو باطل.
قال ابن عرفة: إنما يريد واعدنا موسى مناجاة أربعين (ليلة) ، وملاقاة أربعين ليلة، والمناجاة تستلزم مجيء موسى إلى الميقات، لأنها بعد الأربعين لأن الله تعالى جعل له عبادة هذه الأربعين

(1/287)


ليلة (و) وِصَال صيامها كلها ليلا ونهارا سببا في مناجاته إياه بعدها بما طلب من التوراة والصحف والألواح.
قوله تعالى: {ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ ... }
منع أبو حيان عود الضمير إلى الوعد للتناقض، لأن «ثُمَّ» للتراخي و «مِن» في «مِن بَعْدِهِ» (تقتضي) ابتداء الغاية فهي لأول أزمنة البعدية.
وأجاب ابن عرفة: بأن الأولية مقولة بالتشكيك، ألا تراهم يؤرخون بأوائل الشهر في العشرة (الأول) كلّها.
(قيل له) : ابتداء الغاية ما (يصدق) إلا على أول جزء.
قوله تعالى: {وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ}
أي لا شبهة لكم في اتخاذه، بل ذلك محض ظلم منكم وتعنت.

(1/288)


ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)

قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
قال ابن عطية: الترجي مصروف للمخاطب أي (عَفَوْنَا) (

(1/288)


عنكم) لتكونوا بحيث (يترجى) المخاطب (بها) شكركم عليه.
وفسره الزمخشري على مذهبه بالإرادة.

(1/289)


وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم ... }
الظلم هنا المراد به الكفر لتقيّده (باتخاذ) العجل. قال الله تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وقال جلّ ذكره: {الذينءَامَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} هو مطلق فلذلك أشكل على الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، وَقَالوا: أيُّنَا لم يلبس إيمانه بظلم؟
قال ابن عرفة: وقدم المجرور هنا على المفعول، والأصل تأخيره عنه، ولا (يقدم) إلا لنكتة (تتوخى) والحكمة في ذلك أن النداء إقبال على المنادى، وتخصيص له فلو قيل: (وإذ) قال موسى: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم لقومه. لما كان

(1/289)


لقومه فائدة بخلاف قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ} فإن تقديم المجرور هناك (بمعنى) آخر وهو الاعتناء بالمقول له وتشريفه، والاهتمام به وتخصيصه بتلك المقالة دون غيره، وبين (بقوله) : {ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُم} أن الله تعالى منزه عن أن يناله شيء من ظلمهم، وإنما ضرر ذلك راجع (إليهم) .
قال ابن عرفة: وهذا (يشبه المحدود) ، فإنه لا تنفع فيه الشفاعة، ولا (تسقطه) التوبة كما قال الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في المحارب: إذا قتل (أحدا) فعفا عنه وليه، أنّ الحد لا يرتفع لأن الحق لله تعالى، فلذلك قال: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} وهذا بيان للتوبة، (و) الفاء (للتسبيب أو للتعقيب) .
قوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ... }
الإشارة

(1/290)


إلى التوبة بشرطها، وهو القتل، و (خير) هذا إما (فعل) ، لأن (ضده) وهو عدم التوبة لا خير فيه، أو أفعل مِن، لأنّ ضده المشارك له في مطلق الخيرية هو التوبة مع علم قتل الأنفس.
قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ ... }
إما علم أنكم تتوبون، وإما على المعنى ألهمكم (للتوبة) أو يسرّها لكم.
قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم}
قال ابن عرفة: الوصف بالرحيم دليل لنا على المعتزلة في إبطال قاعدة التحسين والتقبيح، وأن الله تعالى لا يجب عليه شيء لاقتضائها أن توبته على (العصاة) محض رحمة منه وتفضل (لأن) الدليل اقتضى وجوب ذلك عليه، قال الإمام فخر الدين الرازي.
قال ابن عرفة: يقال: إنه إنما لم يقل: فقتلوا لأن توبتهم (ملزومة) لقتلهم (أنفسهم) ، فلا يبق للقتل بعد ذلك محل، لأنهم قد ماتوا حين التوبة.

(1/291)


وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ ... }
أي لن ندوم على الإيمان لك فليس هو ردة، لأنّه من قول السبعين، وقد كانوا آمنوا به، وفيه دليل على أن رؤية الله سبحانه وتعالى ممكنة جائزة عقلا لطلبهم ذلك.
فإن قلت: لم يقم الدليل على صحة طلبهم، فلعلهم آخطؤوا في الطلب؟
قلنا: نص العميدي في الجدل وغيره إذا وقع الشك في شيء إنما يحمل على الأمر الغالب فيه، والغالب في هؤلاء أنهم ما يطلبون إلا الأمر الممكن عقلا، فأخبر الشارع أنه غير واقع.
قال ابن عرفة: واستشكل القرطبي تكليفهم بعد إحيائهم من الصعق (لسقوط) التكليف بالصعق وإذا سقط لا يرجع.
قال ابن عرفة: (وعندي) لا إشكال (فيه) وهو كمن أحرم بالحج وعنده طائر في قفص، فإنه مكلف (بإرساله، فإذا أزال إحرامه عادت الإباحة، كما كانت أول مرة. وكذلك النائم حالة نومه غير مكلف) فإذا استيقيظ عاد التكليف.
قوله تعالى: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}

(1/292)


قال (ابن عرفة) : (حال) من الضمير المفعول في «أَخَذَتْكُم» فهي إشارة إلى أن (الصّاعقة) نالتهم/ على غفلة فصادفتهم ثابتين في النظر والأبصار والعقول، ولو علموا بها قبل ذلك لأذهب الوهم عنهم أبصَارَهُم وبصائرهم فلم تصادف عندهم إثباتا بوجه، والمراد بذلك أو أجزاء (الصاعقة) .

(1/293)


وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية ... }
قال ابن عرفة: هذا إما خطاب لهم مباشرة أو بواسطة.
والأول: (يمتنع) لأنّ الله تعالى لم يباشرهم بالخطاب إلا على لسان نبيه إلا أن يكون الخطاب لجماعة أنبياء وهو بعيد.
والثاني: أيضا ممتنع لأنهم غائبون عن الخطاب، وفعل الآمر الغائب إنما يكون باللام فكيف (يقول) : «ادْخُلُوا» .
وأجيب باختيار أنه مباشرة، وأن قول الرّسول لهم منزل منزلة خطاب الله لهم قال الله تعالى: {مَّن يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} وكما يقول الملك: بنيت داري، وكاتبت فلانا (بكذا) وهو لم يفعله بنفسه، إنما فعله أعوانه وخدمه.

(1/293)


قال ابن عرفة: والقرية إن أريد بها بيت المقدس فصيغة أفعل للطلب، وإن أريد بها (أريحا) فهي للاباحة.
قيل لابن عرفة: هذا أمر ورد عقب الحظر فهو للإباحة (مطلقا) ؟
فقال: لم يرد عقب الحظر القولي، وإنما (ورد) عقب (الحظر) الجبري (المعلن) بالبقاء في أرض وعدم التمكن في الخروج عنها أربعين سنة ولم يقع هنالك نهي بالقول حتى يكون هذا أمر بعده.
قيل له: قد قال تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} فقال: هذا إخبار عن واقع، لأنهم كلفوا بالبقاء فيها وعدم الخروج بل منعوا من ذلك فمقامهم ليس باختيارهم لأجل التكليف به، بل جبرا واضطرارا لأجل عدم قدرتهم على الخروج.
قال ابن عرفة: وعموم «حيث شئتم» مخصوص بالمساجد، (فإنه) يمتنع الأكل فيها.

(1/294)


قوله تعالى: {وادخلوا الباب سُجَّداً ... }
أعيد لفظ «ادْخُلُوا» (لأجل وصفهم) سجدا فليس بتكرار، والمراد بالسجود الركوع لتعذر الدخول حالة السجود أو يكون حالا مقدرة، فيكون الدخول سابقا على السجود.
واحتج ابن التلمساني على أن الواو لا تفيد ترتيبا بكون المقدم هنا مؤخرا في سورة الأعراف، فلو كانت الواو للترتيب للزم عليه: إما التنافي بين الآيتين، أو المجاز في أحدهما، وأجاب بأنه قصد تكليفهم ((بأن يقولوا: حطة (حال كونهم) قبل السجود وبعده، وأجاب أبو جعفر (الزّبير) بأنه قصد تكليفهم)) بالجمع بين السجود والقول في حالة واحدة لأن كلا الأمرين حصل له وصف (الاهتمام) بالتقديم.
قوله تعالى: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ... }
قال الفخر الرّازي: يحتج بها على المعتزلة في قولهم: إن قبول التوبة واجب عقلا لأجل ما اشتملت عليه من أوصاف الامتنان بتعداد (

(1/295)


النعم) ، فغفران الخطايا نعمة وتفضل (لا انّه) واجب لأجل التوبة.
ورده ابن عرفة: بأنهم يقولون: إن الامتنان بهذه النعمة سبب لطريق التوبة والخطايا مرتفعة بالتوبة.
قوله تعالى: {وَسَنَزِيدُ المحسنين}
قال ابن عرفة: لما تضمّن الكلام السابق حصول المغفرة لهؤلاء وعدم المؤاخذة بالذنب فقط من غير زيادة على ذلك أفاد هذا أن المحسنين لهم مع ذلك ثواب جزيل وعبر عنهم بالاسم تهييجا على الاتصاف بذلك وإشارة إلى (أنّ) الزيادة إنما هي لمن بالغ في الإحسان وحصل منه الحظ (الوافر) (لينَالَها) من حصل مطلقة وأدناه.
فإن قلت: لم قال هنا: {وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ} ، وفي الأعراف {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية وَكُلُواْ} قلت: نقل (لي) عن القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد السلام أنه قَال: إن كانت القصة واحدة، وتلك مكررة بهذه، فعبر

(1/296)


فيها ب «قيل لهم» عن «قُلْنَا» التي في هذه، وأخبر بما بعد الدخول وهو السكنى (لالتزامها) إيّاه وان (كانا) قصتين فتلك بعد هذه. وأجاب أبو جعفر (الزبير) بأنهم أمروا أولا بالوسيلة وهو الدخول، ثم أمروا (بالمقصد) وهو السكنى.
قال الشيخ أبو جعفر: وعطف هنا بالفاء لأن الأكل من الموضع (لا يكون) إلا بعد الدخول عليه وعطف في الأعراف (بالواو) لأنّ السكنى قد تقارن الأكل، وقد يتأخر عنه، وقد يتقدم (عليه)
قال ابن عبد السلام: أو هما قصتان أو يقال: لما فيهم التعقيب من الأول لم يحتج إلى إعادته في الثانية وقال هنا: {حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً} . وأسقط في الأعراف (رغدا) لأن السكنى يفهم منها الملازمة والدوام وعطفها على الأمر بالأكل من حيث شاء، وأشعر بدوام الأكل من غير مانع (فتحصل) فيه معنى الرغد (فأغنى) عن ذكره هناك وقال هنا {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} ،

(1/297)


وفي الأعراف على قراءة الجماعة غير أبي عمرو وابن عامر، (نَغْفِرْ لَكُمْ) خَطَايَاكُمْ، مجموعة جمع سلامة ولأن آية البقرة (بنيت) على كثرة تعداد النعم فناسبت جمع الكثرة وآية الأعراف لم يبالغ فيها بكثرة تعداد النعم فناسبت جمع القلة وهو جمع السلامة.
وقلت: ونقل/ لي عن القاضي ابن عبد السلام أجاب بأن آية البقرة صدرت ب «إِذْ قُلْنَا» المكنى به عن الله تعالى فناسب جمع الكثرة (ولما ذكر) هنا {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} بحذف الفاعل فناسب جمع القلة، وقال هناك «وَسَنَزِيدُ» بالواو وفي الأعراف بغير واو لأن البقرة بولغ فيها بتعداد ما لم يبالغ في الأعراف، أي ولنجزي المُحْسِنِينَ على مَا تَقَدّم من تعداد النعم بالعفو وزيادة الإحسان.

(1/298)


فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)

قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ ... }

(1/298)


قال ابن عرفة: يكون القول بذاته مصروفا (لنقيض) الشّيء، فينصرف إلى ذلك الشيء باعتبار حال المخاطب، وعَبّر ب «الَّذِينَ ظَلَمُواْ» ولم يقل: فَبَدَّلَ الظالمون، لأن تعليق الذم على الوصف الأعم يستلزم الذم على الأخص من باب أحرى، (وكذلك ذمّهم على) تبديل القول يستلزم (ذمهم) على تبديل الكلام (من باب أحرى) لأنه إذا (بدل) أحد قرار المركب انتفى عنه التركيب. فإن قلت: هؤلاء إنما بدلوا غير القول الذي قيل لهم، ومن بدل غير (ما) قيل له يذم، وإنّما يذم من بدل لا ما قيل له (بغيره) ؟
فالجواب بوجوه: إما بأن في الآية حذفا، أي فبدل الذين ظلموا فقالوا قولا غير الذي قيل لهم، ويكون ذلك تفسيرا للتبديل كيف هو، وإما بأن (يشوب) «بدل» معنى أتى أي فأتى الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم، وإما بأن يكون «بدل» (تعدى) إلى الثاني على إسقاط حرف الجر أي فبدل الذين ظلموا قولا بغير الذي قيل لهم.
وذكر أبو حيان أن البدل قد يتعدى إلى المبدل وهو المعطي بنفسه وإلى (المبدل به) وهو المأخوذ بواسطة حرف الجر وأنشد عليه:

(1/299)


وبدلت والدهر ذو تبدل
(هيفا) دبورا بالصبا والشمأل
والتقدير هنا فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم بالقول الذي قيل لهم.
قال ابن عرفة: وهو كقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} ق ابن عرفة: وأخذ منه منع نقل الحديث بالمعنى، (ورد بأنهم) إنما ذموا على تبديل اللّفظ والمعنى. و (أجيب) بأن الذم إنما علل (بتبديلهم القول، والقول إنما يطلق على اللفظ فقط) وأيضا فلعل هذه اللّفظة متعبد بها فلذلك ذموا على تبديلها.
(ورده) ابن عرفة (بأنه يلزمكم) التعليل بأمرين.
قال القاضي أبو جعفر بن الزبير: وقال هنا {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} فعمم ثم خصص ذلك العموم بالأعراف بزيادة منهم لأن المخاطبين ليسوا سواء في الامتثال قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} ولذلك أعاد الظاهر فقال: {فَأَنزَلْنَا

(1/300)


عَلَى الذين ظَلَمُواْ} (التختص) العقوبة بالظالمين، ولو قال: عليهم لاحتمل العموم وهو غير مقصود.
قال: فإن قلت لم قال هنا: {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} وفي الأعراف {بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} وأجاب بأنه في البقرة وصفهم أولا بالوصف الأعم الصادق على أدنى المعاصي وأعلاها وهو الظلم ثم بالأخص وهو الفسق فقال: {وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ثم قال هنا: {رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} وفي الأعراف وصفهم بالظلم في قوله: {بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} ثم بالفسق فقال: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر} إلى قوله {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}

(1/301)


وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

قوله تعالى: {وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر ... }
أخذ منه الإمام المازري جواز استسقاء المخصب للمجدب لأن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم ينله من الاحتياج وقد استسقى لهم.
ورده ابن عرفة بأنه نبي مرسل إليهم وهو معهم فليس مثل هذا.

(1/301)


قوله تعالى: {فانفجرت ... }
أجاز الزمخشري أن تكون الفاء جواب شرط مقدر أي فإن ضربت فقد (انفجرت) .
ورده أبو حيان بأن الشرط لا يحذف، وإن سلم (فيلزمه) فساد المعنى والتركيب لأن الشرط وجوابه مستقبلان «وانفجرت» ماض لفظا ومعنى (إذ لا تدخل الفاء على الماضي إلا إذا كان دعاء أو ماضيا لفظا ومعنى) ولأنه المفهوم من الآية.
(وأجاب المختصر) بأنّ «اضرب» أمر مُضَمَّنٌ معنى الشرط فليس فيه حذف، ومنع فساد المعنى والتركيب بأنه كقوله تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} قال فجوابه محذوف أي فإن كذبوك فاصبر لأنه كذبت رسل من قبلك. وان ضربت فسّر أو لم ينكر ونحوه، فإنه قد انفجرت، أي أردنا وحكمنا أنها انفجرت.

(1/302)


قال ابن عرفة: وقد يقال إن يكذبوك (فعل) ماضٍ وعبر عنه بالمستقبل لأجل (التصديق) فهو حكاية مستقبل مضى، أي كان مستقبلا فصار ماضيا، ولا سيما أنهم حين نزول الآية كان التكذيب قد وقع منهم لأنها ليست من أول ما نزل وكذلك قوله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ} قالوا: أنزلت في غزوة بدر، وقد كان ذلك واقعا قبلها. ويمكن أن يكون معنى (تلك) الآية وأن يدوموا على تكذيبك ولا يزال الشرط مستقبلا، وقول الصفاقسي: أنَّ «اضرب» مضمن معنى الشرط.
قال الزمخشري: جعل الفاء جواب الشرط (مقدر) لأنها جواب شرط مفهوم من الأمر فلم يتوارد على محل واحد.

(1/303)


وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ ... }
الإقبال بالخطاب تأكيد لما تضمنه الكلام من المدح والإكرام أو الذم والتوبيخ. (قوله) . {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ} (أنظر ما فيه) من الجفاء والغلظة والجهل لقولهم: «لَن نَّصْبِرَ» ولقولهم «رَبَّكَ» ولم يقولوا «رَبَّنَا» وجعلوه واحدا إما

(1/303)


من جهة أنه كله (خبز) (أو) إدام للخبز، وليس فيه خبز بوجه، وإما من (أجل) تكرر كل يوم بعينه من غير أن يتبدل.
قوله تعالى: {مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا ... } .
قيل/ لابن عرفة: هل هذا ترق بدأوا بالبقل ثم بالفوم وهو القمح؟
فقال: (بعيد) لقوله «وبصلها» فهو في هذا تدلٍّ.
قوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ ... } .
قال ابن عرفة: كان الشيخ أبو عبد الله بن سلام يقول: إن هؤلاء لم يطلبوا ذلك بدلا من طعامهم بل زيادة عليه لقولهم: {لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} ولم يقولوا: لن نحب هذا الطعام فكيف أنكر عليهم استبداله؟
قال: وتقدم الجواب عنه بأنهم إذا أكلوا من الطّعام الذي طلبوه فإنه ينقص أكلهم من الطّعام الأول بقدر ما أكلوا من هذا فقد حصلت لهم (المبادلة) في ذلك المقدار فمن كان يأكل رطلا من المنّ

(1/304)


والسلوى قبل ذلك يصير الآن يأكل (منه) نصف رطل أو أقل. نعم إنهم (يجتمعون) في ملك واحد. وحَوْز واحد ولا يجتمع ذلك في (بطن) واحد إلاّ على الصفة التي ذكرنا.
قيل لابن عرفة: قد (لا) يأكل الإنسان من (الخبز) والإدام، والخبز أكثر (مما) يأكل من كل (واحد) منها على انفراده؟
فقال: وكذلك (أيضا) يأكل من العسل إذا (عقد) وصنع (خبيصا أو نحوه) كثيرا.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأنهم طلبوا النقلة من ذلك الموضع (إلى موضع ينبت فيه البقل والقثاء والفوم وما قام الدليل على أن ذلك الموضع) المنتقل إليه ينزل عليهم فيه المن والسلوى وكأنهم طلبوا الاستبدال.

(1/305)


فقال (ابن عرفة) : هذا صحيح لو كان (هذا) من كلامهم لأن {اهبطوا مِصْراً} من كلام موسى عليه السلام عن الله تعالى، فالذم إنما هو على طلبهم الاستبدال وطلب (الاستبدال) ليس من كلامهم. ((بل (من) دلالة الحال والأمر العادي)) فهو لازم قولهم، لأن تلك الأرض لم تجر العادة بإنباتها تلك الأشياء (فطلبهم تلك الأشياء) يستلزم طلبهم النقلة منها إلى أرض تُنبِتُها ولا ينزل فيه المن والسلوى. والذم إنما هو على سؤالهم.
قيل لابن عرفة: هذا كله على تسليم السؤال، ولنا أن نمنعه ونقول: إن سؤالهم ليس بنصّ في أنهم طلبوا الزيادة بل (هو) ظاهر في ذلك فقط؟
والجواب (أنهم لهم) نص في طلبهم الاستبدال وإنما عبّروا عنه بلفظة محتملة احتمالا مرجوحا، وربما ينافيه.
ومعنى كلامهم: لن نصبر على هذا الطعام لأنه طعام واحد بل نرجع إلى أطعمتنا المعتادة المتعودة.
فقال ابن عرفة: هذا هو الحق والله أعلم.
قوله تعالى: {الذي هُوَ أدنى ... } .

(1/306)


سماه «أَدْنَى» لكونه يأتيهم بعد تكليف ومشقة، والمنّ والسلوى ينزل عليهم بلا كلفة، (أو) أنه حلال محض أو بأنه ألذّ وأطيب، أو أنه الذي أمرهم الله به ففي أكله الشكر عليه نعمة وأجر.
قلت لشيخنا ابن عرفة: مساق الآية يقتضي أنه فيه دناءة قليلة مع أنه خير كله؟
فقال: لا يريد الذي هو أدنى من طعامكم (هذا، بل يريد الذي هو أدنى) بالإطلاق فليس في المن والسلوى دناءة.
قال القرطبي: يؤخذ من الآية تفضيل المستلذات الدنيوية، وأنها مباحة راجحة ليس فيها مرجوحية بوجه لأجل وصفها بالخير.
(فرده) ابن عرفة بأنه يلزم من ذلك رجحانها، فلعل وصفها بالخير لأجل أنها تنال بلا مشقة ولا تكلف.
قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة ... } .
(قال ابن عرفة) : المسكنة إن كانت من أقسام الفقر فهي مغايرة (للذلة) ، وإن لم تكن من أقسامه فيكون المسكين هو الذي يسأل، والذلة مسكنة من غير سؤال، وضرب الذلة عليهم يطلق يصدق بصورة إما في عصر من الأعصار وهو زمن بعثة نبينا

(1/307)


سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الآن (وكذا) تعمّ الذلة اليهود في كل بلد، أو يكون في بعض البلاد، أو في زمن عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وما بعده إلى الآن وسجل عليهم بوصف الغضب، وكونه من الله تعالى فهو أشد عليهم.
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين ... } .
قال ابن عرفة: ذمّهم على قبح ما صدر منهم في (قوتهم) العلمية والعملية، و (جمع) الأنبياء مبالغة في كثرة قتلهم، وكذلك جمع الضمير في «يقتلون» ، أو يكون حقيقة.
وقد قال الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في جامع العتيبية: بلغني أنه مات في مسجد (الخيف) كذا كذا كذا نبي ماتوا كلهم بالقمل والجوع.
(قال ابن رشد) : لزهدهم في الدنيا أو لآن الله تعالى يبتلي عباده المؤمنين بالإذاية ليصبروا (فيه) فيعظم أجرهم عند الله.
قال ابن عطية: من همز النبيء فهو عنده من (الإنباء) إذا أخبر.

(1/308)


قال (ابن عرفة) : معناه كونه يخبر الناس بأنه يوحى إليه على الجملة. والرسول يبلغهم الأحكام والشرائع ويدعوهم إلى الإيمان.
قوله تعالى: {بِغَيْرِ الحق ... } .
ما الفائدة فيه مع أن قتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك؟
وأجاب الزمخشري بأنه الحق باعتبار الدّعوى، كما إذا تخاصم رجلان فكل واحد منهما يزعم أنه على الحق ولدعواه مرجح، (وهم يقتلون) ولا يستندون في (قتلهم) إلى شبهة بوجه، وهم بحيث لو سئلوا عن موجب ذلك لم يستحضروا له سببا.
وفي سورة آل عمران {بِغَيْرِ حَقٍّ} فهو مطلق وهذا (معرف) بالعهد أي بغير الحق المعهود في الدعاوى لا الحق الثابت في نفس الأمر لأن قتل النّبيئين لا يكون إلاّ بغير ذلك الحق.
قوله تعالى: {ذلك بِمَا عَصَواْ ... } .
و/ إن كانت الإشارة إلى المشار إليه أولا فهو من التعليل بعلتين فأكثر (فيجيء) فيه تعداد (العلل، والعلل) الشرعية يصحّ

(1/309)


تعدّدها مطلقا، وكذلك العقلية (تتعدد) لكن بالنوع لا بالشخص، وإن كانت الإشارة إلى العلة الأولى فيكون من تعليل المعصية بمعصية أخرى. فإن قلت: إذا كانتا علتين فهلا عطف بالواو ولم (يكرر) سم الإشارة بكأن يقال: وبما عصوا؟ فالجواب: أنه إشارة إلى أن كل واحدة منهما علة مستقلة يحسن التعليل بها. فإن قلت: لم أُكّدت الأولى دون الثانية بأن؟
قلنا: (الغرابة) القتل، وعدم تكرره بخلاف المعصية والاعتداء فإنّه يكثر تكرره، ويتجدّد شيئا فشيئا، ونفي (أكثريته) لا يدعيه أحد.
قال الطيبي: على أن القتل والاعتداء علتان (تكون) الأولى للمصاحبة بمعنى مع، والثانية للسبب. وفيه (تقديم) وتأخير، أي ذلك بكفرهم (وعصيانهم) مع قتلهم النبيئين بغير الحق.
قال ابن عرفة: الصواب إنما للسبب مطلقا ولا يحتاج إلى تقديم ولا (إلى) تأخير.

(1/310)


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

قوله تعالى: {مَنْءَامَنَ بالله واليوم الأخر ... }

(1/310)


بدل من {الذينءَامَنُواْ} و (مَا) عطف عليه فجيء فيه استعمال اللفظ (الواحد) في حقيقته ومجازه، لأن المؤمنين (حصّلوا) الإيمان، فقوله: {مَنْءَامَنَ} مجاز في حقهم، عبّر به المداومة على الإيمان (وإيمان اليهود والنصارى والصّابئين إن شاء فهو حقيقة. ويمكن أن يراد بالجميع المداومة على الإيمان) ، لأن النصارى إذا داموا على الإيمان بملة نبيهم يؤمنون (بمحمد) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن (من) ملة نبيهم عليه السلام الإيمان بملة سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإن لم يؤمنوا به فلم يؤمنوا بملّتهم (قط) انتهى.
قوله تعالى: {وَعَمِلَ صَالِحاً ... } .
قال (ابن عرفة) : أي فيمن لم (تخترمه) المنية.
قوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ... } .
هذا ثواب (تفضلى) سماه أجرا إشعارا بتأكده حتى كأنه واجب كأجرة الأجير على عمله.

(1/311)


قوله تعالى: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} .
عبر عن الخوف بالاسم، وعن الحزن بالفعل، لأن الخوف يتعلق بالمستقبل، والحزن بالماضي، وتذكر الإنسان للأمر المستقبل وتألمه منه وخوفه أشد من تألمه من الماضي يعرض له التناسي إذا بعد أمره، والمستقبل يشتدّ (الخوف) منه متى قرب أمره، ويتزايد أمره ويتأكد ثبوته في النفس، ففي كل واحد منهما على ما هو عليه. فإن قلت: هلا كان بالفعل لأنّه (يتجدد زيادة) ؟
قلنا: التجديد تأكيد لثبوت الخوف (في النفس) ، وليس هو (أمرا) مغايرا للأول.

(1/312)


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ... }
قال ابن عرفة: الواو إما عاطفة، والعامل فيه «اذْكُرُوا» المتقدم أو استئناف (والعامل فيه «اذكروا» ) مقدر. (والَّذي قرره المفسرون) عند قول الله عَزَّ وَجَلَّ ّ: {خُذُواْ مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} . الآية.
وقدر الفخر ابن الخطيب وجه مناسبتها لما قبلها (بأنها) نعمة.

(1/312)


قال ابن عرفة: الصواب أنها وعظ، لأن قبلها { (إنَّ) الذينءَامَنُواْ والذين هَادُواْ} إلى آخره، وهو وعظ ونعمة (لجميع الملل) . ولما كانت بنو إسرائيل أقرب الناس إلى الإيمان والاتباع لوجهين: إما لأن ملّتهم أقدم من (ملة) النّصارى، وإما لأنهم كانوا أكثر أهل المدينة، فإيمانهم سبب في إيمان غيرهم وتعنتهم (وفرارهم) سبب في امتناع غيرهم أكّد ذلك بإعادة الوعظ لهم بخصوصيتهم في هذه الآية، ولذلك (كررت) قصّتهم في القرآن (في) غير ما سورة أكثر (مما) تكرر غيرها من القصص.
وقوله تعالى: {مِيثَاقَكُمْ} إما أن يريد ميثاق آبائكم، (أو) المراد المخاطبون (الموحدون) (حين) ما أنالوه، والمراد الجميع لأن أخذ الميثاق كان على آبائهم، وعلى من يأتي (بعدهم) من ذريتهم إلى قيام الساعة.
وضعف الثاني بقوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور ... } .
وأجاب ابن عرفة: بأنّ المراد رفعنا فوق آبائكم وفوقكم.

(1/313)


قال أبو حيان: حال من الطور. وضعف كونه حالا من الضمير في «رفعنا» لما يلزم عليه من إيهام كون الرافع في مكان.
فإن (قلت) : الفوقية تستلزم الرفع؟ قلنا: قد يكون إنسان فوق آخر بمقدار قامة فيقال (رفعته) عليه إذا علوت (به) عليه مقدار قامتين.
قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا ... } .
قال ابن عرفة: إما حال، أي أخذنا ميثاقكم في هذه الحالة أو المراد أخذنا عليكم الميثاق فلم تقبلوا، فرفعنا فوقكم الطور. كما قال المفسرون في سبب نزول الآية.
قال ابن عطية: خلق الله وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم، لأنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة.
قال ابن عرفة: المذهب لاعتبار الإيمان الجبري، ولذا يجبر الكفار على الإيمان (ويقاتلون عليه) بالسيف، وإنّما (تعتبر) النية (والإرادة) في الثواب والقبول المرتب عليه، وكما قالوا في الزكاة: إنها تؤخذ من أربابها جبرا.

(1/314)


قال ابن عطية: الإيمان المتفق عليه الذي لا شبهة فيه ولا ريبة وليس قصده الإيمان المخرج من (عهدة) التكليف.
((قوله تعالى: {واذكروا مَا فِيهِ ... } .
ابن عطية: أي (تدبروه) ولا تنسوه، وامتثلوا أوامره (ووعيده)) ) .
قال ابن عرفة: أو اذكروه لغيركم وعلموه له.
قيل لابن عرفة: لا يناسب أن (يعلل) هذا بالتّقوى، فإنه قد يكون المعلم غير متَّقٍ (لله) ؟
فقال: قد يكون (تذكيره) لغيره سببا في (انزجاره هو) ، وتذكيره في نفسه.

(1/315)


ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)

قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم ... }
((قال ابن عرفة: «ثُمَّ» إما لبعدها ما بين منزلة (الإيمان والكفر) أو للمهلة حقيقة)) .

(1/315)


قيل لابن عرفة: الحقيقة متعذرة/ فإن «من» لابتداء الغاية، وليس بين أول أزمنة البعدية وآخر أزمنة (أخْذِ الميثاق) تراخ بوجه؟
قال ابن عرفة: الأولية مقولة بالتشكيك في أزمنة البعدية.
قيل لابن عرفة: هذا يرجح أن المراد أخذنا ميثاق آبائكم لأن المخاطبين لما (أسلموا) لم يرتد منهم أحد؟
فقال ابن عرفة: يفهم هذا كما يفْهم في قوله تعالى: {والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النور إِلَى الظلمات} لأنه لم يحصل لهم النور فقط، لكن لما كانت أدلته والآثار التي هي سبب فيه سهلة مُتيسرة (قريبة) لفهمهم لا مشقة عليهم (فيها) فصاروا كأنهم حصل لهم الإيمان بالفعل لحصول (أثره) أي شرائطه وأسبابه، (فعدم) إيمانهم كأنه ردّة وخروج من النور إلى الظلمات.
قوله تعالى: {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ... } .
قال ابن عرفة: هذا ليس بتكرار، بل فضل الله راجع إلى قبول التّوبة، (ورحمته) راجعة إلى نفس التوبة، أو أنّ فضل الله

(1/316)


راجع إلى الثواب والإنعام، ورحمته أعم من ذلك (تتناول) رفع المؤلم فقط، أو دفعه مع (جلب) الملائم، فهو من عطف الأعم على الأخص.

(1/317)


وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)

قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنكُمْ فِي السبت ... }
فرق الفخر في المحصول بين العلم والمعرفة، أن العلم من قسم التصديق والمعرفة من التصور.
(فردّ) عليه بقوله: عرفت زيدا أبا من هو؟ وأجيب بأن متعلق العلم تصديق ومتعلق المعرفة تصور. وانظر ما قيدت في سورة الرّحْمَان، انتهى.
قوله {فِي السبت} . (قال ابن عطية) : والسبت أي في يوم السّبت أو (في) حكم السّبت.
قال ابن عرفة: الاعتداء إنما يتعلق بحكم اليوم لا بنفس اليوم فلا بد من (تقرير) لفظ الحكم.

(1/317)


ابن عطية: السّبت إمّا من السّبوت وهو الراحة والدعة، وإما بمعنى القطع.
قال ابن عرفة: هما راجعان للقطع لأنّ الراحة إما تحصل بقطع الشواغل والمشوشات، أو هما متغايران تغاير العلة والمعلول فالقطع سبب في الراحة.
قال ابن عرفة: (واعلم أن) هذا انذار لهؤلاء الحاضرين أي (أولئك) عوقبوا بالمسخ مع أنهم مؤمنون بموسى، ومعصيتهم إنما هي بالتعدي في السبت (وفيها سوى الكفر) فهؤلاء الكافرون بالرسول الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فمعصيتهم أشد.
قوله تعالى: {خَاسِئِينَ} .
(قيل) : حال من فاعل «كُونُواْ» ومنع أبو حيان والطيبي أن يكون حالا من {قِرَدَةً} إذ لو كان حالا منها لقيل: خاسئة.
ورده ابن عرفة بجواز: من كانت أمك، ومن كان (أمك) ؟

(1/318)


فقد أجازوا تذكير اسم كان مراعاة للفظ (مع أن خبره مؤنث) فلذلك يصح إتيان الحال جمع سلامة بالياء والنون من خاسئة وإن كان جمع ما لا يعقل لكونه خبرا عن مذكر عاقل.
قال ابن عطية: وثبت أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام.
قال ابن عرفة: وقول الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إن القرد لا يؤكل لأنه مسخ يريد أنه شبيه (بالممسوخ) وعلى صفته.
وخرّج مسلم في كتاب (الزهد) والرقائق في صحيحه عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ « (فقدت) أمة من بني إسرائيل لا (يدرى) ما فعلت (وإني لأراها) إلا الفأرَ إذا وضع لها ألبان الإبل لا تشربه فإذا وضع لها ألبان الشاء شربته» قلت: وخرجه الإمام البخاري في كتابه.

(1/319)


(ابن عطية) : ظاهره أن الممسوخ ينسل، فإذا كان أراد هذا فهو ظن منه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لا مدخل له في التبليغ ثم أوحي إليه بعده أنه لا ينسل.
قلت: (وكذا تأوله ابن رشد في كتاب الجامع الثالث من البيان. ونظير هذا نزوله عليه السلام على مياه بدر، وأمره لهم بترك تذكير النّخل فلم يثمر ذلك العام إلا يسيرا فقال لهم عليه الصّلاة والسلام: «إذا أخبرتكم برأي من أمور دنياكم فإنما أنا بشر وأنتم أعلم بدنياكم» .
(قلت) : وخرّج مسلم في كتاب الصيد والذبائح عن جابر ابن عبد الله قال: أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بضب فأبى أن يأكل منه وقال: «لا أدري لعله من القرون التي مسخت» .
وخرج أيضا عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: «قال: رجل يا رسول الله إنّا بأرض مضبة فما تأمرنا؟ قال: ذكر لنا أن أمة من بني إسرائيل مسخت» (فلم يأمر ولم ينه) . وفي رواية «غضب: الله على (سبط) من بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض: فلا أدري لعل هذا منها، (فلست) آكلها ولا أنهى عنها» .

(1/320)


قال ابن عرفة: فإن قلت: يعارض حديث مسلم، أي هذا الحديث لأنه أفاد بأن (الممسوخ) لا يعيش أكثر من ثلاثة (أيام) ؟ فيجاب بأن مراده في الضب أنه مثل المسخ.
قيل لابن عرفة: (مثل المسخ) كونه شبيها لا يوجب تحريمه؟ فقال: حرمه لأنه مسخت أمة على صفته (فلولا أنه مستقبح مستكره عند الله لما مسخت تلك الأمة على صفته) .
فقيل له: أو يكون هذا الكلام منه قبل أن يوحى إليه لحديث: أن (الممسوخ) لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام والضبّ (حيوان) يشبه الحرضون إلا أن لونه أسود وسيره غير مسرع يكون في الصحاري.
قلت: وخرج مسلم في آخر كتاب القدر عن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال رجل: يا رسول الله القردة والخنازير هي مما مسخ؟ فقال/ النّبي صلى الله عليه وسلّم: «إن الله عَزَّ وَجَلَّ (لم) يهلك قوما ويعذب قوما فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك» .
(ذكره في باب ضرب الآجال وقسم الأرزاق، انتهى) .

(1/321)


وهذا إنذار للموجودين (حين) نزول الآية. أي القوم المتقدمون منكم عوقبوا مع أنهم مؤمنون بعيسى عليه السلام، ومعصيتهم إنما كانت في الفروع، وأنتم كافرون فمعصيتكم أشد وعقوبتكم أشد.
وجعل ابن التلمساني شارح المعالم صيغة أفعل هنا للتكوين كما قال ابن عطية.

(1/322)


فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا ... }
ابن عطية: المراد إما جعلنا العقوبة أو المسخة أو الأمة الممسوخة أو القردة أو القرية، وقيل: أو الحيتان وفيه بُعْدٌ.
قوله تعالى: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ... } .
ابن عطية: عن السدي قيل: لما قبلها من ذنوب القوم وما بعدها من يذنب بعد ذلك (مثل تلك الذنوب) . وقيل: لما بين يديها أي لما قبلها من الأمم، وما خلفها أي لما بعدها من الأمم، لأن (مسختهم) ذكرت في كتب من تقدمهم من الأمم، وعلموا بها فاعتبروا وانزجروا.

(1/322)


وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)

قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ... }

(1/322)


قال ابن عرفة: هذا الأمر (على الوجوب) على تقدير عدم العفو من أولياء القتيل لأن ما يتوصّل (إلى الواجب) إلاّ به فهو واجب.
قوله تعالى: {قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ... }
هذا على سبيل الغفلة والذهول من غير تأمل، (وإن) قالوه بعد تأمل فهو كفر، لأن نسبة الاستهزاء إلى النبيء كفر. وقوله تعالى: {الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} من مجاز المقابلة كَ {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ} لا أنه حقيقة، وقُرِىء «يَتَّخِذُنَا» بياء الغيبة، فإن كان فاعله عائدا على الله تعالى فهو أشد في الكفر والتعنت، وإن كان عائدا على موسى عليه السلام فهو أخف من (اقترانه) (بتاء) الخطاب لأنهم حينئذ (يكون) قالوا ذلك بعضهم لبعض في (حالة) غيبة موسى عنهم، ولم يباشروه بهذه المقالة.
قوله تعالى: {قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} .
من باب نفي الشيء بنفي لازمه، لأن الاستهزاء ملزوم للجهل فينتفي الأمران: الاستهزاء والجهل، وجميع ما هو من لوازم الجهل، ولو نفي الاستهزاء وحده لما نفي الجهل ولا ما (عد) من لوازمه.

(1/323)


قيل لابن عرفة: قد يكون الاستهزاء مع العلم؟
فقال: من غير (النبيء أما من النبيء المعصوم) فَلاَ، والاستعاذة بالله فيها إقرار بالتوحيد ونسبة كل الأمور إليه عَزَّ وَجَلَّ ّ.
قلت: ونظير الآية قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين}

(1/324)


قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)

قوله تعالى: {قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِيَ ... }
قال الطيبي: إنما يسأل ب «ما» عن جنس الشيء أو نوعه فكأنهم اعتقدوا أنها خارجة عن جنس البقرة إذ لم يعهد في البقرة إحياء الموتى.
قال ابن عرفة: هو مثل قول المنطقيين: الجنس هو المقول على كثيرين ((مختلفين بالحقيقة، في جواب ما هو؟ و (النّوع) المقول على كثيرين متفقين في الحقيقة)) في جواب ما هو؟ وكقول ابن مالك في أول المصباح: إن السؤال بما هو؟ يكون عن حقيقة الشيء.

(1/324)


وأورد الفخر هنا سؤالا قال: إن السؤال ب «ما» (إنما) هو عن الحقيقة فكيف سألوا عن الصفة؟
قال ابن عرفة: وجوابه ظاهر على مذهبه (لأنه) قال في تأليفه في المنطق كالآيات البينات والمحصول (وغيرهما) : (إن) الأمر اللازم العرضي حكمه كحكم الذاتي مثلا الألوان (فصحّ) السؤال (هنا) بما هي؟ لأن الصفة هناك كالذاتي وأما عندنا فنقول السؤال عن الذات بصفتها، أو السؤال عن حقيقة تلك الصفة (فهو) سؤال عن الحقيقة.
قوله تعالى: {فافعلوا مَا تُؤْمَرُونَ} .
قال ابن عرفة: اختلف الأصوليون في لفظ الأمر هل هو أبلغ من صيغة افعل أو لا؟
فقيل: أنّ أمرتك بالقيام أبلغ من قم، لأن صيغة افعل، قد تكون للإباحة (كما في قوله جل ذكره {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا}

(1/325)


وللوجوب بخلاف الأمر، فإن لفظ أمرتك لا يكون للإباحة) . وقيل: إن قم أبلغ، واستدلوا بهذه الآية. فلولا أنه أبلغ لما احتيج إلى قوله {فافعلوا مَا تُؤْمَرُونَ} وإلا (كان يلزم) عليه تأكيد الأقوى (بالأضعف) ؟ والجواب بأن القرينة هنا أفادت أن صيغة افعل للوجوب، فهو من تأكيد الأقوى بالقوي. واحتجّ بها بعض الأصوليين على (صحة) تأخير البيان عن وقت الحاجة. وقال الآخرون: بل هو تأخير إلى وقت الحاجة.
((أو يجاب) بقول ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (إنهم) إنما أمروا بذبح بقرة (على الإطلاق) ، فلو بادروا وذبحوا من غير سؤال لحصل لهم الغرض، ولكن شددوا فشدد (الله) عليهم.

(1/326)


قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)

قوله تعالى: {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا ... }
لم يقل فاقعة مع أنّه من صفة البقرة (جعلوه) مبالغة مثل: جدّ جدّه، وجعله الطيبي مجازا، ورده ابن عرفة بأنه آكد، والتأكيد ينافي المجاز ألا ترى أن أهل السنة)) استدلّوا على

(1/326)


وقوع الكلام من الله لموسى بقوله تعالى: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} لأنه (مؤكد) بالمصدر والتأكيد (ينفي) المجاز. ذكره الإمام المازري في شرح التلقين في كتاب الطهارة في قوله: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}

(1/327)


قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)

قوله تعالى: {وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ} .
احتج بها الفخر على أن جميع الأشياء من الخير والشر مخلوقة لله تعالى ومرادة له.
ورده ابن عرفة/ بإجماعنا على أن الداعي خلق الله تعالى فيقول الخصم: نحمل الآية عليه.

(1/327)


قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)

قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض ... }
فسره الزمخشري بوجهين: إما نفي الإشارة فهو على إضمار «لاَ» أي لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث، وإما على إثبات الإشارة ونفي السقي أي هي تحرث ولا تسقي. ورد هذا بأنها إذا انتفى عنها أنّها ذلول ثبت كونها صعبة غير مذللةٍ فلا تطاق لا إلى الحرث ولا إلى سقي. وأُجيب عنه بأن ذلولا من أبنية المبالغة فما انتفى عنها إلا الأخص

(1/327)


((من) الذلة فهو نفي (للاخص) ، ولم ينتف عنها مطلق الذلة (فهي متوسطة) فلولا كانت صعبة جدا ما حرثت ولا سقت، ولو كانت ذليلة)) فهي منقادة لا صعبة ولا مذللة.
وقال الطيبي: يحتمل أن يكون من نفي الشيء بنفي لازمه مثل قول امرىء القيس:
على لاَحِبٍ لا يهتدى بمناره ... ابن عطية: إنما ذلك حيث يذكر لازم الشيء فقط فيكون نفيه نفيا للملزوم وهنا (ذكر) (الملزوم) ولازمه منفيين فليس من ذلك القبيل إلا لو قيل: لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث ولم يقل: لا ذلول.
ورد هذا بأن مراد الطيبي (أنّ) نفي (الذلّة) عنها ونفي السقي يستلزمان نفي (إثارتها) الأرض، لأن الإثارة في (الآية) مثبتة غير منفية، وهو مثل قول الله تعالى: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}

(1/328)


قال الزمخشري: إنه مثل قوله.
على لاَحِب لا يهتدى بمناره
((أي ليس هناك خبير فينبئك، وكذا (كمثل) قولهم هذا يوم (لا) ينادي وليد أي ليس فيه وليد فينادي)) ومثل قول صاحب البردة:
فذلك حيِنَ بُلوغٍ من نُبُوَّتهِ ... فليس يُنْكَر حالُ محتلِمِ
أي ليست له حال محتلم فتنكر.
فإن قلت: الذّلة والإثارة متلازمان؟
قلنا: الذلة في الآية منفية، والإثارة مثبتة، و (لا) يتم ما قال الطيبي إلا إذا (أعرب) «تثير الأرض» صفة ل «ذلول» فمعناه لا ذلول مثيرة (الأرض) أي ليست مثيرة الأرض فيكون ذلولا كمعنى البيت المتقدم أي ليس له منار يهتدي (به) ، وإن أعربناه صفة للبقرة أو استئنافا أو حالا (فما يجيء) فيه ذلك التفسير، وإذا كان صفة ل «ذلول» فيكون النفي مسلطاً على الموصوف وصفته، (وقصده) ثبوت أحدهما فتكون إما ذلول غير مثيرة

(1/329)


ولا مسقية وإما ذلول فقط كقولك: لا رجل صالح في الدار. وضده احتمال كونه: فيها رجل غير صالح، (أو أنها ليس) فيها أحد.
قال ابن عرفة: وأخذوا من الآية أن الأمور الجزئية المشخّصة يمكن تعريفها بالخاصة، لأن التعريف بالخواص إنما يكفي عندهم في الأمور الكلية، أما الجزئية فإنها تعرف بتعيينها والإشارة إليها، إذ في الممكن أن يكون في الوجود غيرها مختصا بتلك الصفات.
قال: وعادتهم يجيبون بأن الزمان والمكان هنا معينان، فلذلك اكتفى بالتعريف بالخواص ولو كان الزمان (مُبْهَما) لقلنا: في الجائز أن يوجد من هو على تلك الصفة في زمن من الأزمان، أو في غير ذلك المكان إما في ذلك الزمان وإما في ذلك المكان (فيتعين) أن الموصوف شيء واحد لا يحتمل غيره.
واحتجوا بهذه الآية على أبي حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لأنه (يمنع) السلم في الحيوان على الصفة، وقال: لا (تخصصه) الصفة، فنقل عنه القرطبي هنا وابن يونس المنع في الحيوان بالإطلاق، ونقل عنه غيرهما أنه خصص ذلك (ببني) آدم.

(1/330)


قال ابن عرفة: وله أن يجيب بأن الغرور في البيع معتبر، وهذا ليس ببيع (فلا) يلزم من جواز الاكتفاء (بالصفة) هنا الاكتفاء بها هنالك. انتهى.

(1/331)


وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)

قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ... }
قال ابن عرفة: لِمَ نسب (القتل) إلى الجميع والقاتل إنّما هو واحد؟
قال: وأجيب بأنه راعى في ذلك من رضي (بفعله) .
قال ابن عرفة: إنّما يتمّ لو كان ظاهرا بحيث علم به البعض ورضي (بالقتل) أما هذا (فهو واحد منهم) ، وقد قتل واحد منهم غيلة فلم يعلم به أحد (حتى) يقال: إنّه رضي بقتله.
قال ابن عرفة: وإنما الجواب أنه جمعهم باعتبار الدعوى لأن المتهم (بالقتل) ينفيه عن نفسه ويدعيه (على) غيره وذلك الغير ينفيه أيضا عن نفسه ويدعيه (عليه) .

(1/331)


قال الزمخشري: (خوطبوا مخاطبة) الجماعة لوجود القتل فيهم.
قال: فإن قلت: لم يذكر القصة (على ترتيبها) ؟ فهلا قدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها؟ ثم قال: هلاّ قدم الأمر بالقتل ثم الذبح ثم الضرب؟
قال ابن عرفة: ظاهر كلامه هذا (متناقض) لأنه قال: الأولى بتقديم الضرب ثم رجع إلى أنّ الأولى تقديم الذّبح ولكن جوابه أنّ الأمر بالذبح (متقدم) على الذبح. انتهى.
قوله تعالى: {والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} .
لم يقل: ما كنتم تجحدون، لأن الجاحد للشيء المنكر له قد يكون على الحق فيكون موافقا لظاهره بخلاف الكاتم (فإن) باطنه مخالف لظاهره فهو على الباطل بلا شك.
قال الفخر الرازي: يؤخذ من عمومه أنّ الله تعالى يظهر جميع الأشياء من الخير والشر.
قال ابن عرفة: يلزم عليه (الخلف) في الحبر لأن الله تعالى يستر على العبيد كثيرا من المعاصي.

(1/332)


قال الرازي: هو عام مخصوص لأن المراد ما كنتم تكتمون / من أمر القتل، واحتج بها الفقهاء في قول القتيل: (دمي) عند فلان، إنّه (لَوْثٌ) يوجب القسامة.
قال ابن رشد في المقدمات في كتاب القسامة: قول الميّت: دمي عن فلان، لم يختلف قول الإمام مالك: إنه لوث في العمد يوجب القسامة والقَوَد عدلا أو مسخوطا. (وخالفه) الجمهور، وحجة الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه هذه الآية، وأبطله ابن عبد البرّ بأن هذه الآية (معجزة لنبي وآية له فلا يصح الاستدلال بها) .
وأجاب ابن رشد: بأن الآية إنما كانت في الإحياء، وأما في قوله بعد أن حيى: فلان قتلني، فليس فيه آية. وقد كان الله قادرا على أن يحيي غيره من الأموات فيقول: إن فلانا قتل فلانا.
(قلت) : ورده ابن عرفة بأن موسى عليه السلام أخبرهم أن الميت يحيا ويخبرهم بمن قتله فكان الأمر كذلك فكلا الأمرين آية.

(1/333)


وقد قال الأصوليون (إذا) قال النبي: دليل صدقي أن هذا الميّت يحيا (فصار حيا) . ((وقال: هذا الرجل كاذب. فقال القاضي أبو بكر الباقلاني: (إنّ) ذلك دليل على كذبه. وقال الإمام)) لا يكون دليلا على كذبه. قالوا: وأمّا إن قال: دليل صدقي أن هذا الميت يحيا ويقول لكم: إني صادق، (فيحيا) فيقول: إنه صادق، فلا خوف بينهم أنه دليل على صدقة. فكذلك هذا (هو) معجزة (بلا) شك، فهو خاص بهذه القضية لا يصحّ القياس عليه. وجعل الفقهاء وجود القتيل في محلة قوم لوثا يوجب القسامة. وكانوا يحكون أن مسجد الشماسين بتونس كان دار لبعض الموحدين وبجواره قوم لهم ولد صغير يجلس على باب الدار بكسوة رفيعة ففقدوه، فبحثوا عليه فوجدوه ميتا بمطمور تلك الدار، فرأوا ذلك لوثا فعوقب الموحد وهدمت داره وبنيت مسجدا.

(1/334)


فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا ... }

(1/334)


قال ابن عرفة: لم (يتعنّتوا) في هذا ولو مكن الله إبليس منهم لقالوا (لموسى) : عيّن لنا ذلك البعض ما هو؟ وانظر قضية عمر ابن عبد العزيز مع الأمير.
وأورد (ابن عرفة هنا سؤالا قائلا: لمّا أمروا بذبح بقرة مطلقة انتصبوا للسؤال: على أى بقرة هي، والأمر دائر بين أن يكون هذا منهم تعنتا أو استرشادا فإذا تقرر هذا فلأي شيء لم يسألوا هنا ما هو البعض الذي يضربون به ميتهم فيحيِيَ؟
وأجيب: بأن تفاوت أفراد الجنس والصنف ثابت بخلاف أجزاء الكلّ من حيث هو كل. وأجيب أيضا بأنهم قادرون على أن يضربوا بكل بعض من أبعاض تلك البقرة حتى يوافقوا البعض المراد بخلاف الآخر فإنهم غير قادرين على ذبح جميع البقر كلها.
قلت: وهذا قريب من الأول.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِ الله الموتى ... } .
أفرد الخطاب والمخاطبون جماعة: إما لقلة من يتأثر بهذه الآية (منهم) ، ثم جمعهم في قوله «وَيُرِيكُمْ» اعتبارا (بظاهر) الأمر، وإما لأن المخاطب واحد بالنوع. واستقرأ الفخر الرازي من الآية

(1/335)


فوائد كثيرة: منها أن الزيادة في خطاب نسخ له. ومنها أن النسخ قبل الفعل (جائز وإن لم يجز) قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى (البدء) .
وردّ ابن عرفة الأول بأنها زيادة على النص. والصحيح أنها ليست (بنصّ) خلافا لأبي حنيفة.
وقال الطيبي: إنه من باب (تقييد) المطلق، أو تخصيص العام، لأن البقرة مطلقة.

(1/336)


ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم ... }
جعل الزمخشري العطف ب «ثم» لبعد ما بين منزلة الإيمان والكفر.
قال ابن عرفة: ولا (يبعد) أن تكون على بابها. (فرد عليه بأن جعل) بعد ذلك لابتداء الغاية (فتناقض) مهلة «ثم» ؟
فأجاب بأن دلالة «ثمّ» على المهلة نص لا يحتمل غيره، فهو أقوى من دلالة «من» على ابتداء الغاية.

(1/336)


وقال ابو حيان: السياق يقتضي أنها لبعد ما بين المنزلتين.
ورده ابن عرفة بأن الأصوليين رجّحوا الدلالة باللّفظ على الدلالة المفهومة من السياق.
قيل لابن عرفة: يلزم (على ما قلت) أن يكونوا مرّ عليهم (زمَن) هم فيه مؤمنون؟ فقال: نعم وهو المناسب وهو الزمن الذي كان فيه الرّسول موسى بين أظهرهم، وظاهر الآية أن العقل في القلب.
قوله تعالى: {فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ... } .
منع أبو حيان أن تكون الكاف بمعنى «مثل» محتجا بأنه ليس مذهب سيبويه.
وأجاب ابن عرفة بأن ذلك إنما هو إذا جعلها حرفا. ونحن نقول: إنها اسم.
وأورد الشيخ الطيبي: ان القلوب شبهت بالحجارة مع أن المشبه بالحجارة إنما هو قسوتها (شبيهة) بقسوة الحجارة.
وأجاب: بأن التشبيه في الحقيقة راجع للقسوة، أي (صلبت) وخلت من (الإنابة) والإذعان (لآيات الله تعالى) .

(1/337)


قاله (ابن عطية) . قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المراد قلوب (ورثة) القتيل لَمّا (أخبرَ) بمن قتله ومات قالوا: كذب.
قال ابن عرفة: فالمراد أنّها دامت على القسوة، أو زادت قسوتها لأنهم لم يزالوا قبل ذلك منكرين للقتل، قال: ويضعف هذا بأنه لما قتل قاتل القتيل انقطعت تلك القسوة فلم يبق من هو متصف بها. وجعل السّكاكي هذا من (ترشيح) المجاز.
قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار ... } .
قال الطيبي: إنّها تذليل لما قبلها لأنها في معناها.
قال ابن عرفة: الصواب أنها تعليل أو بيان للوجه الّذي كانت به أشدّ من الحجارة ودليل عليه. وهذا تدلي أو ترقي الذّمّ وهو أولى من العكس لأن الحجارة التي تتفجر منها (الأنهار) أفضل وأعلى من الحجارة التي تنشق فيخرج منها الماء. ويلزم من كونها أشد قسوة من التي تنشق فيخرج منها الماء أن تكون أشد قسوة من المتفجرة عن الأنهار فلذلك أتى به بعده. ولو قيل: إن من الحجارة لما (ينشق) فيخرج (منها) الماء، وإن منها لما يتفجر منه الأنهار لكان تأكيدا. انتهى.

(1/338)


قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله ... } .
قال ابن عرفة: يؤخذ من الآية أنّ الأفضلية ثبتت للجنس بثبوتها لبعض أفراده لأنّ الحجارة الموصوفة بذلك هي بعض من كل، وقد ثبت التفضيل للجميع بقوله: فهي كالحجارة، ولم يقل فهي كالحجارة الموصوفة بكذا، والحجارة عام إما بالألف واللام (أو) بالسياق فقد فضل عليهم جميع الحجارة.
قيل لابن عرفة: هذا تقسيم مستوفى فليس (من الحجارة) شيء إلا داخل فيه؟
فقال: الحجارة التي تتفجر منها الأنهار، والتي تنشق عن الماء لا قساوة فيها بوجه، وهم إنّما ذُمّوا بمشاركتهم للأحجار في القساوة مع الزيادة عليها فقد فضلت عليهم الحجارة القاسية لكونها من جنس ما هو غير قاس.
قيل له: فكل ما نراه من الأحجار ساقطا من فوق، هلا تقول: إنه (هبط) من خشية الله؟ فقال: ((الآية إنما دلت على (أن) بعض الحجارة يهبط)) من خشية الله لا كلها، وكل ما نراه هابطا يجوز أن يكون هبوطه من خشية الله.
قال الفخر: وهذا مثل قوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله}

(1/339)


قال ابن عرفة: ليست مثلها لأن تلك شرطية، والشرط قد يتركب من المحال بخلاف هذه.
قال: وقوله: {مِنْ خَشْيَةِ الله} هو قيد في الجميع، لأن تفجر الأنهار أيضا من خشية الله.

(1/340)


أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)

قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ ... }
استفهام على (سبيل) الاستغراب فيتناول النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين، (أو على الإنكار فيتناول المؤمنين فقط) .
قوله تعالى: {يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ... } .
(ابن عطية: قال ابن إسحاق: وهم السبعون الّذين سمعوا كلام الله مع موسى، ثم بدلوه.
ابن عطية) : وهذا ضعيف وخطأ لأن فيها (إذهابا) لفضيلة موسى في اختصاصه (بالتّكليم) .
قال ابن عرفة: بل هو مقرر للفضيلة لأنهم (إنما) سمعوا كلام الله بحضرته من أجله وعلى سبيل التّبعية له. وقيل: المراد سماعهم تلاوة التوراة والصحف من موسى، وكونهم بدلوا فيها وغيّروا، فالسماع الأول حقيقة وهذا شبه مجاز في المسموع لا في

(1/340)


نفس السّماع، لأن مسموعهم ليس هو كلام الله تعالى، إنما هو كلام موسى عليه السلام، ومدلوله كلام الله، ونظيره سماعك كلام زيد من ناقل (نقله عنه) .
قال الزمخشري: والمراد (بالتحريف) ما يتلونه من التوراة، ثم يحرفونه كما حرفوا صفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وآية الرجم.
قيل لابن عرفة: لم يبدلوا آية الرجم إنما وضع مدرّسهم يده عليها فقط؟
فقال: المراد بالتحريف الكتم أو عدم العمل بمقتضاها.
قيل لابن عرفة: إن الشيخ أبا علي ناصر الدين البجائي المشذالي كان يحتج بهذه الآية على إثبات العمل بالقياس، وقرره بأنه سجل على هؤلاء بالكفر قياسا على أحبارهم ومن سلف (منهم) الذين شاهدوا الآيات البينات وسمعوا كلام الله إمّا مشافهة أو بواسطة؟
فقال ابن عرفة: إنما فيها استحالة ثبوت المعنى وهو الإيمان لوجود المانع (منه) وهو أحبارهم (يحدثونهم) بتحريف من سلف (منهم) وكفرهم.

(1/341)


واللام في قوله عَزَّ وَجَلَّ {يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} الأصوب (أن تكون بمعنى «مع» ويبعد كونها) للتعليل أي يؤمنوا لأجلكم لأن مفهومه حصول الإيمان منهم بسبب آخر غير المؤمنين.

(1/342)


وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)

قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الذينءَامَنُواْ ... }
عبر ب «إذا» مع أنهم يكرهون لقاء المؤمنين لوجهين: إما لعلم الله تعالى أنهم لا بد لهم من لقائهم، وإما لأنّ النبي عليه السلام مأمور بتبليغ الوحي لهم ولغيرهم فلا بدّ (لهم) من لقائه، وإنما قال {وَإِذَا لَقُواْ} ولم يقل وإذا أتوا، إشارة إلى أن لقاءهم للمؤمنين إنما يكون فجأة غير مقصود (ومن خبثهم أنّهم) {قالواءَامَنَّا} من غير تأكيد نزّلوا أنفسهم منزلة البريء (الغير متّهم) ، ولم يذكروا بمن آمنوا حتى يبقى الكلام مطلقا يفهمه المخاطب على شيء، ويقصد به المتكلم شيئا آخر.
قوله تعالى: {قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ... } .
قال ابن عرفة: هذا من رؤسائهم المنكرين عليهم قصور الإنكار والمناسب لحالهم المبالغة في الإنكار (عليهم) لأنهم ما أنكروا عليهم إلا التحدث الموجب للحاجة فمفهومه أنهم أباحوا (لهم) مطلق الحديث مع المؤمنين لكن يبقى النظر/ هل اللام في «لِيُحَآجُّوكُم» تعليل للحديث أو للإنكار؟ (وهل) اللام سابقة على الهمزة، (

(1/342)


ثم) دخلت الهمزة على الحديث لأجل (المصاحبة) فأنكرته بعلته أو الهمزة سابقة فدخل التعليل بعدها فكان علة الإنكار؟ (وهل) قبل حديثهم لأجل (المحاججة) هو المنكر أو المراد أن الحديث في (الإطلاق) وأنكر (خوف) المحاجة به؟
وجعل أبو حيان اللام في «لِيُحَآجُّوكُمْ» للصيرورة بناء عنده على أنه تعليل للتحدث وإذا جعلناها للإنكار (تبقى) اللام (على بابها) من التعليل الحقيقي ويكون الإنكار بليغا لا قصور فيه بوجه.
قلت: ورده بعضهم بأنه على هذا يكون المعنى لا تحدثوهم بما فتح الله عليكم لئلا يحاجوكم به عند ربكم، فيكون الرؤساء أقروا (أن) للمؤمنين عليهم حجة بذلك يوم القيامة، وهم إنما غرضهم (التمويه) على العوام، وتنفيرهم من الإيمان فكيف يقرون لهم بصحة هذا الدين؟

(1/343)


وأعرب الطيبي «عِندَ رَبِّكُمْ» بدلا (مما) {فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} لأنه هو.
ورده ابن عرفة: إنما يكون (هُوَ إن لَوْ) قيل: ليحاجوكم.
قوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} .
إما من كلام الله أو من (قول) المنكرين، وعلى هذا حمله ابن عطية على العقل التكليفي فقال: العقل علوم ضرورية.
قال ابن عرفة: والصواب أنه العقل النّافع أي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ من أجل هذا.

(1/344)


أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)

قوله تعالى: {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}
عطْف «يُعْلِنُونَ» على «يُسِرُّونَ» تأكيدٌ ليدل اللفظ عليه بالمطابقة واللّزوم، وأفاد العطف التسوية بين علمه السر (والجهر) كما قال الأصوليون في عطف صيغة افعل المحتملة للوجوب والندب على ما هو نص في أحدهما، وكما قال (ابن بشير) في سبب الخلاف في النوم: هل هو حدث أو سبب في الحدث؟

(1/344)


وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ ... }
قال ابن عطية: الأميون عامة اليهود وأتباعهم لا بطمع في إميانهم.
قال ابن عرفة: يؤخذ منه ذم التقليد لكن في الباطل، ولا نزاع فيه.
ابن عطية: وقيل: قوم ذهب كتابهم. وقيل: نصارى العرب. وعن عليّ هم المجوس.
واستبعده ابن عرفة لأنهم لا كتاب لهم، (وقد) جعلهم منهم.
ووجهه ابن عطية: بأن الضمير في «مِنْهُم» على هذا يرجع للكفار أجمعين (لا أنه) خاص بأهل الكتاب.
قال أبو حيان: والاستثناء منفصل.
قال الطيبي: يعلمون (بمعنى) يعرفون. ولا يصح أن تكون «أَمَانِيَّ» مفعولا ثانيا لها لأن عَلِمَ المتعدية إلى اثنين داخله على المبتدأ والخبر والكتاب ليس هو الأماني بل غيرها.

(1/345)


ورده ابن عرفة بأن ذلك إنما هو في الإثبات، وأما في النفي فيجوز أن تقول: لا أعلم زيدا حمارا.
قيل له: هذا الثاني مثبت ولا يجوز أن تقول: لا أعلم زيد إلا حمارا؟
فقال: الأَمَانِي (هنا) في معنى النفي إذ ليس المراد إلا النفي المطلق.
قال ابن عرفة: والأَمَانِيّ، إمّا بمعنى التلاوة أي لا يعلمون معنى الكتاب بل يحفظون ألفاظه فقط، وأنشدوا عليه قولا في عثمان:
(تمنّى) كتاب الله أول ليله ... وآخره لاقى حمام المقاد
وإِمَّا معنى (التمني) أي أنهم يتمنون أن يكونوا يحفظونه ويعلمونه.
قلت: وتقدم لنا في الختمة الأخرى أنه من تأكيد الذّم بما يشبه المدح كقوله:
هو الكلب إلاّ أنّ فيه ملالة ... وسوء مراعاة وما ذاك في الكلب
وعكسه كقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب

(1/346)


قوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} .
ابن عطية: الظن على بابه
ونقل عن الشيخ أبي علي ناصر الدين أنه معنى يَشُكونَ.
وردّه ابن عرفة: بأن فروع الشريعة عندنا يكفي فيها الظنّ والأمور الاعتقادية لا بد فيها من العلم وهذا أمر اعتقادي فالظن (فيه) غير (كاف) فلذلك سجل (عليهم بوصف الظنّ) دون الاتصاف بالعلم فلا يحتاج إلى جعله بمعنى الشك.

(1/347)


فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ... }
الفاء للاستئناف أو للسبب.
ابن عطية: قال الخليل: الويل شدة الشر. وقال الأصمعي: الويل (القبائح) وهو مصدر (لا فعل له) ينصب على الدعاء.
واستبعده ابن عرفة أن يراد به القبائح قال: إنما يفهم منه العقوبة المترتبة على القبائح قال: وويل وويح (وويس وريب) (متقاربة) وقد فرق بينها قوم. قلت: قال: القاضي عياض في الإكمال

(1/347)


في كتاب الإيمان في حديث خرّجه مسلم من رواية واقد بن محمد أنه سمع أباه يحدث عن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، عن النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال في حجة الوداع: «ويحكم، أو قال: وَيْلَكم لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» .
قال القاضي عياض: ويح، وويل للتّعجب والتوجّع كما قال سيبويه ويل (لمن) (وقع) في مهلكه، وويح يترحم بمعناها، وحكى عنه ويح لمن أشرف على (المهلكة) .
قال غيره: ولا يراد بها الدعاء بإيقاع الهلاك ولكن الترحم.
وروي عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ويح ترحم.

(1/348)


قال الهروي: ويح لمن وقع في مهلكة لا يستحقها/ (فيرثى) له ويترحم عليه، وويل للذي يستحقها ولا يترحم عليه.
وقال الأصمعي: ويح ترحم، وابن عباس: الويل المشقة.
قال ابن عرفة: هو الحزن (وقيل الهلاك) .
قلت: وقال القاضي في حديث (ويحك يَا أَنجشة) (رويدك بالقوارير) .
قال سيبويه: هي لمن وقع في مهلكة (لا يستحقها) فيرثى له ويترحم عليه، وويل بضده، وويس تصغير أي (دونها ذكره في كتاب الفضائل) .
قوله تعالى: {ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله ... } .
( «ثم» ) لبعد ما بين منزلة الكتب والقول.

(1/349)


قيل لابن عرفة: (الكتاب) لا شيء فيه، إنما العقوبة على نسبته إلى الله.
فقال: لا بل على الأمرين كمن يكتب (عقودا) يضرب فيها على الخطوط والشهادات (ويخليها) عنده، فإنه قد ارتكب محظورا فإن أظهرها ونسبها إلى تلك الشهود وطلب بها فهو قد فعل محظورا (آخر) .
قيل لابن عرفة: نص ابن التلمساني في آخر باب النسخ على أنهم أجمعوا على تكفير من كَّذب الله، واختلفوا في تكفير من كذَب على الله.
فقال ابن عرفة: هذا مشكل فمن يفتي بالخطأ كاذبا على الله يلزم أن يكون كافرا وليس كذلك.
قوله تعالى: {لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ... } .
قال ابن عرفة: إما أن يراد (يبيعونه) بشئ تافه، أو بلا شيء كقول سيبويه: مررت بأرض فلمّا تنبت (البقلا) أي لا تنبت شيئا ونحوه.
قال الزمخشري في قوله تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} وَفِي قَوْلِهِ في النساء: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} وأنشد:

(1/350)


(قليل التشكي للمهمّ يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك)
وأنكره أبو حيان وذكره أيضا الزمخشري في سورة النّمل في قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأرض أءلاه مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} قال: المعنى نفي التذكير. والقلة تستعمل في معنى النفي.
قال ابن عرفة: معنى كتبهم: إما أنهم يكتبون زيادات يدلّون فيها (صفات) النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وغير ذلك ممّا يقصدون تبديله لغرض ما ويعطون ذلك لعوام ويقولون لهم: إنّه منقول من التوراة، وإما أنهم يخبرونهم بذلك بالقول: إنه (من) التوراة دون (كتب) ، وأما (تبديلهم) ذلك في نفس التوراة فلا، (وقد قال ابن فورك: إنّ صفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الآن موجودة في التوراة) . وقال المازرى في الأحوذى له عن (الجوزقى) إن اسمه فيها بالعبرانية «وار كليط» وما زالت تقع في (الكتبيين للبيع) . والفرق بينهما أن القرآن

(1/351)


أخبرنا اللهُ تعالى فيه أنّه تكفل بحفظه والتوراة أمر أهلها بحفظها ونحن لا نثق بهم في قولهم: إنّهم حفظوها، فلعلهم عصوا ذلك، لأمر ولم يمتثلوه. . وبرهان هذا واضح بالبحث عن القرآن في الأقطار كلها المحصل للعلم والتواتر.
قيل لابن عرفة: قال بعضهم: الدليل على أنّ التوراة لم تزل في نفسها على ما كانت عليه غير مبدلة أنها في الأقطار كلها متساوية الجرم على نوع واحد ولو بدلوها لاختلفت في الأقطار؟ قالوا: وهي لا تقع إلا في خمسة أسفار (وصفات) النبي صلى الله عليه وسلّم في الخامس منها.
قال ابن عطية: قال ابن إسحاق: كانت صفته في التو اة أسمر اللون ربعة، فردوه آدم طويلا.
قال ابن عرفة: نصوا على أنّه لا يُقَالُ فيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: أسمر لأنه نقص.
قيل له: ذكروا في صفاته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه أبيض بياضا مشوبا بحمرة. وهذا أحد ما تصدق عليه السمرة.
فقال: لفظ (أسمر) موهم لإطلاقه على القريب من الأسود.
قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} .

(1/352)


أي من كل خطيئة يكسبونها بالإطلاق كتبا أو غيره، فهو من عطف العام على الخاص.

(1/353)


وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)

قوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ ... }
قال الزمخشري: الفاء جواب شرط مقدر أي أن اتخذتم عند الله عهدا.
قال ابن عرفة: لا يحتاج إلى هذا لأنَّ (الثاني) ملزوم للأول، فاتخاذ (العهد) ملزوم للوفاء به فيصح عطفه عليه، ودخل (العهد) الإنكار على الفعل وما عطف عليه فهو كالنفي سواء ينفي الفعل وما عطف عليه.
وكذا قال الطيبي: إن كلام الزمخشري هنا مبني على أن {فَلَن يُخْلِفَ الله} كلام مستأنف ولو كان عنده معطوفا على {أَتَّخَذْتُمْ} لما احتاج إلى تقدير شيء.

(1/353)


قال ابن عرفة: وكان (يظهر) لنا أنه يخرج لنا من الآية أن النّافي للدعوة مطالب بالدليل على ذلك (لأنه) أنكر عليهم قولهم {لَن تَمَسَّنَا النار} قال: (وكان) ابن عبد السلام يجيب عنه بأنهم ادعوا أمرا مشتملا على نفي وإثبات فطولبوا بالدليل على طرف الإثبات. ورد بأن من ادعى ما يوافقه الخصم عليه لا يحتاج إلى دليل، ونحن نوافقهم على مس النار لهم أيّاما ونخالفهم في طرف النفي. وأجيب عنه بأن الإنكار في طرف النفي لكنه نفي ما قد حصل وتقرر ثبوته لأنهم وافقوا على مسّ النار إياهم أربعين يوما. ومن ادعى على رجل حقا فأقرّ به، وقال: دفعته، يطالب بالدليل على براءته منه.
قال ابن عرفة: الكلام معهم في مدة النفي لا في مدة الإقرار.
وأجيب أيضا بأنّ هذا النّفي يستلزم ثبوتا، لأنه ليس هناك إلا جنة أو نار، فإذا نفوا عنهم النار فقد/ ادعوا أنهم في الجنّة، فقال: إنما علمنا الجنة أو النار بالشرع، وكلامنا الآن في الدليل العقلي، لأن الدليل العقلي اقتضى أنّ النافي لا يطالب بالدليل.
فقيل له: بل ذلك أيضا معلوم من الشرع لحديث «البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر» .

(1/354)


بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)

قوله تعالى: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ... }
قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تضمن الكلام السابق (ادّعاء) الكفار أنّهم لا يعذبون بالنار إلا زمانا (مخصوصا) يسيرا، رد عليهم ذلك بوجهين:
-

(1/354)


الأول: مطالبتهم بالدّليل على ذلك حسبما تضمنه {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً} - الثاني: أنّهم لما عجزوا عن الإتيان بالدليل (احتمل) أن يكون دعواهم في نفس الأمر صحيحة، فأتى بهذا الدليل على بطلانها.
فقال: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} . ظاهر الآية حجة لأهل السنة في إثبات الكسب لأنهم اصطلحوا على إطلاق هذا اللفظ مرادا به القدرة على الفعل مع العلم بما فيه من مصلحة أو مفسدة، والأصل عدم النقل،
فإن قلت: المراد به معناه اللّغوي؟
قلنا: الأصل موافقة اللغة للاصطلاح، وعدم النقل فلعله كذلك في اللغة.
فإن قلت بقول (المعتزلة) : المراد به عندي استقلال العبد بقدرته وأنه يخلق أفعاله، والأصل عدم النقل، فلعله كذلك في اللغة؟
قلنا: قد أبطلنا مذهبهم في الأصول بموافقتهم على الدّاعي.
و «مَن» إما موصولة أو شرطية، والظاهر الأول لعطف الموصول عليها ولأنّ الشرط (قد) يتركب من المحال.
تقول: (لو اجتمع) النقيضان لكان زيد متحركا ساكنا، وهذا صادق مع أنه محال، وكسب السيئة قيل: المراد به ما سوى الكفر من المعاصي.
{وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته} المراد به الكفر. وقيل: بالعكس.
قيل لابن عرفة: أو المراد بالجميع الكفر؟
فقال: يكون العطف تكرارا.

(1/355)


(قيل له) : بل المعنى كسب السيئة وأحاطت به تلك السيئة؟
(قال) : والخلود إن كان كسب السيئة مرادا به المعاصي سوى الكفر، والخطيئة المراد بها الكفر، فيكون من استعمال اللّفظ الواحد في حقيقته ومجازه لأن خلود الكفار حقيقة وإن كان شيئا واحدا، (فيجوز) فيه أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
ويفرع على القول الأول بأن معنى الخطاب بذلك راجع إلى تضعيف العذاب على المخالفة في الدار الآخرة، فيكون هذا خلودا خاصا.
والآية حجة لأهل السّنّة (بدليل) أداة الحصر.
(فالمعنى) : هم الخالدون لا غيرهم.
قيل لابن عرفة: يخرج من حافظ منهم على الفروع فيلزم أن يكون غير (مخلد) ؟
فقال: السياق يبين أنّ هذا خلود خاص.
قال الطيبي: يحتمل أن يراد بالسّيئة كل ما فعل عن قصد، وبالخطيئة ما فعل غير مقصود كمن شرب الخمر فلما سكر ضرب رجلا (أو قتله) .

(1/356)


الزمخشري: قال الحسن: كل آية نهى الله عنها، وأخبرك أن من عمل بها أدخله النار فهي الخطيئة المحيطة.
قال ابن عرفة: صوابه كل نهي.
قال ابن عرفة: وزيادة لفظ الخلود دليل على أن الصحبة (تطلق) على مطلق الاجتماع وإن لم يكن معه دوام.

(1/357)


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله ... }
قال ابن عرفة: هذا دليل على أن الاستثناء من النفي إثبات.
قيل لابن عرفة: نقول إنه محتمل للإثبات والنفي، والدليل العقلي عين هنا أحد المحتملات، وهو الإثبات، فقد تقرر عند الجدليين والأصوليين أنه إذا تعارض حمل الكلام على فائدة (احتمل أن تكون) فهمت من مجرد اللّفظ، (أو) من خارج، فالأولى (ترجيح) فهمها من اللّفظ. وتقرر عند الجدليين أنّ جواز الإرادة موجب (للإرادة) بجواز إرادة أن الاستثناء من النفي إثبات موجب لإرادة ذلك.
قال: ولا يصح أن يكون {لاَ تَعْبُدُونَ} بدلا من {مِيثَاقَ} فإنه متعلق الميثاق لا نفس الميثاق.
قلت: يكون بدل اشتمال، أو بدل شيء من شيء على تقدير مضاف أي ميثاق لا تعبدون إلاّ الله.

(1/357)


قوله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ... } .
قال ابن عرفة: المراد هو الحسن شرعا، فيدخل فيه تغيير المنكر، فإنّه من القول الحسن، وليس المراد به القول الملائم للناس، ومجرد تحسين الخلق معهم، فإنه يخرج عنه تغيّر المنكر مع أن الأمر يتناوله هو وغيره، ويحتمل أن التكليف به لهم في شريعتهم أو في شريعتنا بعد (إيمانهم، أو بعد التوفيه بذلك) ، وتقيده بالإعراض إشارة إلى دوامهم على ذلك، والإصرار عليه فإن (المتولي) على قسمين: فواحد يطمع في رجوعه، وآخر لا يطمع فيه بوجه فهذا هو المعرض.

(1/358)


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ ... }
تضمن الكلام السابق أمرا اعتقاديا وأمرا فرعيا، (وهذا تضمّن أمرا فرعيا فقط) وسفك الدماء أشد من الإخراج من الديار، فالنّهي عنه لا يستلزم النهي عن الإخراج من الديار، فكان ذلك ترقيا في الذمّ. وقراءة «يسفكون» بالتخفيف أعم من (قراءة) التشديد لأنه نهي عن مطلق السفك. ووجه قراءة التشديد أنّ النّهي أتى على وفق حالهم/ في سفك الدّماء، وكانوا قد تَنَاهَوْا وبلغوا الغاية.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} .

(1/358)


قال ابن عرفة: إما أنّ المراد أقررتم بذلك إقرارا يتضمن أنّكم حصل لكم بذلك العلم اليقيني، فهو يبلغ إلى درجة الشهادة، لأنّ الإنسان يُقِرّ بها: يظن ولا يشهد إلا بما يعلم.
قلت: وأشار الزمخشري إليه حيث جعله كقولك: فلان مُقر على نفسه بكذا، شاهد عليه.
قال ابن عرفة: وإمّا أن يراد أقر كل واحد منكم على نفسه وشهد على غيره.
الزمخشري: وقيل: وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق.
زاد ابن عطية: أقررتم (خلفا بعد سلف) أنّ هذا الميثاق أخذ عليكم، والتزمتموه، فيتجه في هذه اللفظة أن تكون من الإقرار الذي هو ضد الجحد، ويتعدى بالباء، وأن تكون من الإقرار الذي هو إبقاء الأمر على حاله أي أقررتم هذا الميثاق ملتزما.
«وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ» أي تحضرون أخذ الميثاق والإقرار.

(1/359)


ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)

قوله تعالى: {بالإثم والعدوان}
يحتمل أن يكون الإثم هو مواقعة الذنب خطأ من غير قصد، والعدوان مواقعة (الذنب عن قصد) .

(1/359)


قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب ... }
أنكر عليهم تناقضهم كما هو في قول الله عَزَّ وَجَلَّ {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} ليس المنكر كل واحد (من الأمرين) على حدته، لأن الإيمان (بالبعض) وأمر الناس بالبر غير منكر، إنما المنكر (الكفر) بالبعض (وعدم) الاتصاف بالبر، والمنكر (الجمع بين) الأمرين. وعبر بالفعل المضارع للتصوير والدوام.
قيل لابن عرفة: في الآية حجة لمن يقول بوجوب فِدَاء الأسارى لقوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب} بعد أن قالوا: {وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى تُفَادُوهُمْ} فدل على أن (فداء) الأسارى (من جملة) ما في كتابهم. فإذا قلنا: إن شرع من قبلنا شرع لنا، نقول: إن الفداء في شرعنا واجب؟
(فقال: نعم) .
قوله تعالى: {فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ ... }

(1/360)


ولم يقل: من فعل.
قال ابن عرفة: في التعبير بالمضارع ترج وإطماع لهم في العفو، (لأن) من فعل ذلك في الماضي وتاب لا يجازى بالخزي، إنما يجازى به من لم يتب.
قوله تعالى: {يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب ... }
إن قلت: (الرد) يقتضي تقدم الحلول في المردود إليه؟
قلنا: هؤلاء كانوا فيما هو من جنس ذلك العذاب لأن العذاب نالهم في الدنيا. قال الله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} فإن قلت: كيف هو أشد وعذاب المنافقين أشد وعذاب الدهرية أشد لنفيهم الصانع؟
قلنا: الأشديّة مقولة بالتشكيك، أو المراد أشد العذاب الّذي علم الله حلوله بهم في الدنيا والآخرة، فلا ينافي أن يحل بغيرهم ما هو أشد منه.
فعذاب الدهرية أشد، وعذاب المجوس أشد، وكان بعضهم يقول: إن الدهرية لم يدّعوا نفي وجود الصّانع إنّما قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَآ إلاّ الدهر} فادّعوا أن لهم خالقا أوجدهم فقط، أو (يقال) : قوله تعالى: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار}

(1/361)


لم يعين أنه أسفل الطبقات نصا فالمراد أنه أسفل من غيره بالإطلاق فيصدق بكونه أسفل من طبقة (ما منها) .
قلت: الآية خرجت مخرج الذم للمنافقين و «الدَّرْكِ» معرّف بالألف واللام العهدية، والمعهود (هنا) في الأسفل إنما هو ما بلغ الغاية في الانخفاض لا سيما إن قلنا: (الأصح) الأخذ بأواخر الأشياء.
قيل لابن عرفة: ظاهر الآية أنّ من كفر بالجميع عذابه أخف من عذاب من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه مع أن كفر الأول أشد؟
فأجاب: بأن الإيمان بالبعض دليل على حصول (العلم) وكفر العالم أشد من كفر الجاهل.
قلنا: أو يجاب بأن (عذاب) الجميع (متساو) فيصدق على كل فريق أن عذابه أشد، وهم مستوون في الأشدية، أو المراد أشد العذاب المعهود في الدنيا، لأن عذاب الدنيا على أنواع: (منها) الضَّرب والسجن، وأشدها عذابا النّار أي يردون إلى عذاب النار.

(1/362)


أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

قوله تعالى: {اشتروا الحياة ... }
قوله تعالى: {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}
قال ابن عرفة: هذا ليس بتكرار:
- فالأول اقتضى أن ذلك العذاب لا يرجى من فاعله شفقة على المفعول ولا تخفيفا عنه.
- والثاني اقتضى أنه لا يقدر أحد على (استخلاص) المفعول من ذلك العذاب ونصرته بوجه.

(1/363)


وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)

قوله تعالى: {وَلَقَدْءَاتَيْنَا موسى الكتاب ... }
إن قلت: الخطاب لليهود وهم معترفون بنبوة موسى عليه السلام فما فائدة القَسم على ذلك؟
قلنا: فائدته التنبيه على مساواة غيره من الرسل الآتين بعده (له) في النبوة، وأن نبوتهم حق كما (هي) نبوة موسى عندهم حق.
قال ابن عرفة: وهذه معجزة للنَّبي صلى الله عليه وسلّم، لأنّ القاعدة أن من ادّعى أمرا محالا لم يسمع منه، وإن ادعى أمرا ممكنا (سمع منه وطلب) بالدّليل على صحّته. والدليل قسمان:

(1/363)


جدلي برهاني للخواص، ودليل للعوام، فبين لهم أولا أنه ادّعى أمرا ممكنا، (واستدلّ عليه لهم بدليل برهاني) خاص بالخواص، ثم استدلّ لهم الآن بالدليل الّذي يفهمه العوام، وهو أنّه إنّما (ادّعى) أمرا تكرر أمثاله قبله فلم يأتكم بأمر غريب فهو ممكن عقلا، (واقع) أمثاله بالمشاهدة، فحقكم أن تنظروا في معجزته فتؤمنوا به.
فإن قلت: ما أفاد «مِن بَعْدِهِ» مع أنّ (القبلية) تفيد معنى البعدية؟
قلت: لإفائدة أول أزمنة البعدية إشارة إلى أنّ موسى عليه السلام من حين أرسله لم تزل شريعته باقية معمولا بها حتى أرسل رسولا آخرا فكان مقرر لها كيوشع بن نون أو ناسخا كعيسى. وعين موسى وعيسى دون غيرهما إما لأن المخاطبين بهذه الآية اليهود والنصارى، أو لأن المتبعين لشريعة موسى وعيسى باقون قيام الساعة، ولم يبق أحد (ممن) تشرع بشريعة غيرهما من الأنبياء.
فإن قلت: لِم خصّص عيسى بذكر (الآيات) البينات؟
قلنا لوجهين: إما لأنه بَشّر بنبينا سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث قال: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه

(1/364)


أَحْمَدُ} واستظهر على صحة قوله بمعجزات واضحات، وإمّا لأنّ الخطاب لليهود وهم كافرون بعيسى، (فمعناه) أرسلنا من بعده موسى رسلا، منهم عيسى ورسالته، (قام) الدليل على صحتها، وأنها نسخت شريعة نبيكم موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فكذلك هذه الرسالة.
قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُكُمُ ... }
قال ابن عرفة: هذا نهي عليهم، ومبالغة في ذمّهم، لأن ما لا تهواه (النفس) أعمّ مما تكرهه (النّفس) ، والمعنى أنهم مهما أتاهم رسول من عند الله تعالى بأمر (لا يحبونه) سواء كانوا يكرهونه أو لا، فإنّهم (يستكبرون) ويكفرون به ونظيره قوله تعالى في سورة العقود: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون} ولم يقل: ومن حكم بغير ما أنزل الله، فيتناول من ترك الحكم ولم يحكم بشيء، لأن الفصل بين المسلمين بالحق واجب.
وأورد الزمخشري سؤالا قال: لم قال «فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ» بالماضي «وفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» بالمضارع؟ وأجاب بان التكذيب في أفراد متعلقاته كله ماض، والقتل في (بعض) آحاد متعلقاته مستقبل، لأنهم

(1/365)


كانوا يحبون أن يقتلوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد أهدت له يهودية في (خيبر) شاة مصلية وسمت فيها الذراع، لأنه كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحبه، وأخبره الذراع بالسم بعد أن لاكه في فيه، ثم ألقاه منه، ثم قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في مرضه الذي (انتقل فيه إلى الفردوس الأعلى) : ما زالت من الأكلة التي أكلت بخيبر (فهذا أوان انقطاع) أبهري. ولهذا يقال: إن النبي صلى الله عليه ولم مات شهيدا.

(1/366)