تفسير الإمام ابن
عرفة وَقَالُوا قُلُوبُنَا
غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا
يُؤْمِنُونَ (88)
قوله تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ
... }
الظّاهر أنه بلسان المقال لا بلسان الحال، واختلفو في تفسيرها؟
فقال الزمخشري: أي خلقت قلوبهم غير قابلة (للإيمان) بوجه.
ونقل ابن عطية عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أن المعنى
قلوبنا ذات غلاف يمنعها من (قبول) الإيمان. والأول أشد، أو
معناه أنّها ممتنعة من القبول لذاتها وهذا يقتضي أنّ المانع
لها غير ما قال الزمخشري.
(1/366)
وقيل: غُلْف مخفف غَلَفَ جمع غِلاَفٍ أي
قلوبنا غِلاَف لغيرها، والغلاف الوعاءُ، أي هو وعاء للعلم، وهو
نقيض الأول لأنه يقتضي أنها مستغنية بعلمها عن علم الرّسول
الذي (جاء) به. وعلى الأول يكونون: إما قصدوا الاستهزاء به،
وإما الاستعذار (له) بأنّهم جاهلون (لا يفهمون ذلك ولا يطيقون،
فعلى أنّهم قصدوا الإخبار) بأنّهم (غنِيّون بعلمهم عن علمه)
يكون الإضراب يدلّ على ذلك الكلام حقيقة، وكذلك إن أرادوا أنها
خلقت غير قابلة للإيمان فالإضراب عن لازم ذلك وهو الاستعذار أي
لا عذر لهم في ذلك بوجه لأن كونها ذات مانع هو الثابت في نفس
الأمر فلا يصح (إبطاله) .
(1/367)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ
كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ
فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا
عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ... }
قال الزمخشري: أي ما عرفوا من الحق كفروا به بغيا وحسدا وحرصا
على الرئاسة.
(1/367)
قال ابن عطية: المراد بقوله «مَّا
عَرَفُواْ» الرّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟
قال ابن عرفة: واستشكلوه لأنّ «ما» لا تقع إلا على (ما لا
يعقل) (أو على أنواع من يعقل) . وأجيب بأنها واقعة على صفة من
يعقل لا على ذاته، أي ما عرفوا من نبوته وصفاته وصحّة رسالته
كفروا به، وكان بعضهم يأخذ من الآية جواز الاكتفاء في الشهادة
والأحكام بالصفة دون تعريف.
وأجيب: بأنه احتفت به قرائن تقوم مقام التّعيين، وهي المعجزات
التي جاءهم بها. ورُدَّ بأن المعجزات خارجة عن هذا وكافية
وحدها، وليست مذكورة في الآية إنما المذكور فيها معرفتهم له من
حيث الصفة التي في كتابهم فقط من غير ضميمة إلى ذلك.
وفي كتاب اللقطة: وإذا وصل كتاب القاضي إلى قاض آخر، وثبت عنه
بشاهدين، فإن كان الفعل موافقا لما في كتاب القاضي من صفته،
وخاتم القاضي في عنقه لم يكلف الذي جاء به أن يقيم بينة أنّ
هذا (الحكم) هو الذي حكم به عليه.
قوله تعالى: {فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين}
قال ابن عرفة: وانظر هل هذا إنشاء أو إخبار لقول متقدم؟ ثم
قال: لا يبعد أن يكون إنشاء، وتكون اللّعنة مقولة بالتشكيك
والتفاوت، / لأن هؤلاء كفروا وهم جاهلون، إذا بنينا
(1/368)
على أن ذلك (استعذار) ، وهؤلاء كفروا بعد
علمهم ومجيء الكتاب لهم فاللّعنة في حقهم أشد.
(1/369)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا
بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشتروا بِهِ
أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ ... }
قال ابن عرفة: نص النحويون على أنّ (اسم) الممدوح في «نعم» أو
المذموم في «بئس» لا يكون إلا أخص من فاعلها أو مساويا، ولا
يكون أعمّ منه، والشراء والكفر بينهما عموم وخصوص من وجه،
فالشّراء يطلق على المعارضة من غير الكفر وعلى المعارضة في
الكفر، والكفر أيضا أعم من وجه، لأن من كفر بعد أن آمن اشترى
الكفر (بالإيمان) ، ومن كان كافرا بالإصالة لم يشتر شيئا بشيء.
قوله تعالى: {فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ ... }
أي رجعوا، ومنه قولهم: بُؤْ بِشسع نعل كليب، أي ارجع بشسعِ نعل
كليب وهي من كلام المهلهل أخي كليب قالها في حرب (داحس)
للحارث.
قال ابن عرفة: وتنكير الغضب بدل على أن الثّاني غير الأول كما
قالوا في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ
العسر
(1/369)
يُسْراً} لن يغلب عسر (يسرين) ووجّهوه بأن
العسر معرف فكان شيئا واحدا، واليسر منكر فكان يسرين.
قال ابن عرفة: وإنما قال: «عَلى غَضَبٍ» ، ولم يقل بعد غضب
إشعارا (بشدته) ، فإنه مجتمع متراكم بعضه على بعض.
قيل لابن عرفة: والغضب إن كن صفة فعل فالتعدد فيه متصور صحيح
وإن كان صفة معنى امتنع فيه التعدد، لأنه في (هذه الحالة يصير)
راجعا إلى الإرادة، وهي شيء واحد، فكيف يفهم أنهما غضبان؟ ثم
أجاب بأنّهما متغايران باعتبار المتعلق، فمتعلّق الإرادة
متعددة، وهو (أنواع) العذاب، فالمعنى على الأول: فباؤوا بعذاب
على عذاب. وعلى الثاني: فباؤوا بإرادة عذاب على عذاب.
وأوقع الظاهر موقع المضمر في قوله {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ
مُّهِينٌ} ولم يقل: ولهم عذاب مهين، مبالغة في إسناد العذاب
على كل من اتصف بالكفر بالإطلاق.
(1/370)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا
أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ
الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ
أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(91)
قوله تعالى: {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ
... }
إما معطوف على «قَالُواْ نُؤْمِنُ» فيكون جوابا لِ «إذا» ، أي
إِذَا قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله يكفرون بما وراء كتابهم،
وإما حال مع أن المضارع لا يأتي حالا بالواو إلا قليلا، لكنه
هنا على إضمار المبتدإ أي وهم يكفرون بما وراءه.
(1/370)
أخبر الله عن تناقضهم بأن إيمانهم بكتابهم
يستلزم إيمانهم بما سواه من الكتب التي من جملتها القرآن،
وكفرهم بالقرآن يستلزم كفرهم بكتابهم المنزل عليهم، لأنّ الكتب
كلّها يصدق بعضها بعضا.
قوله تعالى: {وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ ... }
أبو حيان «مُصَدِّقاً» حال مؤكدة.
قال ابن عرفة: بل هي مبنية، لأن الحقّ قد يكون مصدقا لما معهم،
وقد لا يكون مصدقا ولا مكذبا، لأن النّبي عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام ُ أتى بشرائع بعضها في كتابهم، وبعضها ليس موجودا
في كتابهم (بوجه) ، فكتابنا حق (ومصدق لما في كتابهم) (بالنسبة
إلى ما تكرر في الكتابين) ، وليس بمصدق أو مكذب بالنسبة إلى ما
زاد به على كتابهم، وأما أنه مكذب فَلاَ لأن كلا الكتابين حق،
فليس من لوازم كون القرآن حقا يصدق ما معهم إنّما من لوازمه
أنْ لا يكذبه لأن الحق لا يكذب الحق.
(1/371)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ
مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَآءَكُم موسى
بالبينات ... }
(1/371)
إن قلت: لِم أقسم على مجِيئه لهم بالبينات،
وهم موافقون عليه. وإنما يتوهم مخالفتهم في اتخاذهم العجل فقط؟
فهلاَ قيل: ولقد اتخذتم العجل من بعد ما جَاءكم موسى بالبينات؟
فالجواب: أنه ظهرت عليه مخائل الإنكار لمجيئه لهم بالبيّنات
بسبب اتخاذهم العجل، فلذلك عطفه عليه (بيانا لسببه) الموجب
للقسم.
قال ابن عطية: البينات: التوراة، والعصا، وفرق البحر، وغير ذلك
من آيات موسى عليه الصّلاة والسلام.
قال ابن عرفة: إن أراد بالبينات الظاهرة فظاهر، وإن أراد
المعجزات فليست التوراة منها، لأنها غير معجزة وإنما الإعجاز
بالقرآن فقط. فإن قلتم: إنّها معجزة باعتبار اشتمالها على
الإخبار بالمغيبات.
قلنا: الإعجاز فيها حينئذ (ليس هو من حيث المجيء بها بل من حيث
الإخبار بالمغيبات فقط) .
قال ابن عرفة: وذمهم أولا بكفرهم فيما يرجع إلى النّبوة بقوله:
{فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ} ثم ذمهم
بكفرهم فيما يرجع إلى الألوهية باتخاذهم العجل إلاها فهو ترق
في الذم.
قال: ومفعول «اتّخَذْتُمُ» محذوف أي العجل إلاها، وحذفه مناسب،
لأنه مستكره مذموم، فحذفه إذا دل السياق عليه أحسن من ذكره.
(1/372)
وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
قوله تعالى: {خُذُواْ مَآءَاتَيْنَاكُم
بِقُوَّةٍ ... }
على حذف القول أي القائلين: {خُذُواْ مَآءَاتَيْنَاكُم
بِقُوَّةٍ}
قيل لابن عرفة: هل فيه دليل على أن الأشياء كلها محض تفضل من
الله تعالى وليست باستحقاق لأن هؤلاء يستحقون ذلك؟
فقال: نعم.
قوله تعالى: {قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ... }
قال الطيبي: / هذا من القول بالموجب، ومنه قول الله تعالى:
{يُؤْذُونَ النبي وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ
لَّكُمْ} قال ابن عرفة: لا بل هو مغالطة منهم لأن السماع في
قوله: «واسمعوا» ليس المراد به حقيقة بل هو من مجاز إطلاق
السبب على مسببه، لأن السماع سبب في الطاعة، فكأنهم أمروا
بالطاعة (فغالطوا) في ذلك، وحملوا الأمر بالسماع على حقيقته من
أن المراد به الاستماع فقط فقالوا: «سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا»
قوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل
بِكُفْرِهِمْ ... }
الباء إما للمصاحبة أي مع كفرهم، أو للسببية فيكون العقوبة على
الذنب بالذنب كما ورد أن المعاصي تزيد الكفر.
قيل لابن عرفة: إنما كفروا بعبادتهم العجل، ولم يتقدم لهم قبل
ذلك كفر بوجه؟
فقال: لا بل كفروا أولا كفرا عاما بالاعتقاد، ثم عبدوا العجل
(بالفعل) .
(1/373)
قوله تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم
بِهِ إِيمَانُكُمْ ... }
عبر بالفعل المضارع، وقال بعده {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ
أَنفُسَهُمْ} فعبر بالماضي فما السر في ذلك؟
أجاب ابن عرفة: بأن الشراء لا يتكرر لأنه إذا دفع للبائع الثمن
لم يعد إليه بوجه، فلا يقال: إنه يبيع سلعته مرة أخرى أو يشتري
العوض مرة أخرى. فإلإيمان الذي باعوه لا يرجع إليهم بوجه بخلاف
أمر الإيمان لهم فإنه يتجدد (بحسب) متعلقه شيئا فشيئا.
قال ابن عرفة: وقبح فعلهم إما من (جهة) كذبهم في مقالتهم إذ
{قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا} وليسوا بمؤمنين،
وإما من جهة إيمانهم مع اتصافهم بالقبيح. والإيمان لا ينشأ عنه
إلا الحسن.
قيل لابن عرفة: المراد بقوله: «إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ»
الإيمان الحقيقي الشرعي، والإيمان الحقيقي لا (يأمر) إلا
بالخير فكيف قال لهم: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ
إِيمَانُكُمْ} ؟
فقال: المراد إن (كنتم تدّعون) الإيمان حاصلا لكم، فبئس ما
يأتيكم به إيمانكم المدّعى.
قيل له: لما يأمرهم الإيمان بذلك، وإنما هو إيمان ناقص زاحمه
غيره من وساوس النفس، فالمزاحم هو الأمر لا الإيمان؟
فقال: بل الأمر الإيمان المدعى أنه إيمان.
(1/374)
قُلْ إِنْ كَانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ
دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (94)
قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ
الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً مِّن دُونِ الناس ... }
هذا (إما) أمر خاص بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
لأن يقوله لهم، أو أمر لكل واحد من المسلمين أن يقوله لهم،
لكنه لسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
بالذات ولعموم المؤمنين (بالتّبع) ، وهذا قياس (شرطي استثنائي)
(وفي) قوله {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ
وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} قياس
شرطي اقتراني، وفي القرآن أيضا القياس الحملي.
قال الزّمخشري: سبب نزول الآية أن قوما من اليهود والنصارى
قالوا: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ
نصارى} وقرره ابن عطية بأن اليهود قالوا: {نَحْنُ أبناؤا الله
وَأَحِبَّاؤُهُ} فقال لهم الله عَزَّ وَجَلَّ؛ {فَتَمَنَّوُاْ
الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فهو أحسن لكم. قال: إن الله
منعهم من التمنّي وهذا على القول بالصرفة.
(1/375)
قال ابن عرفة: ولا يبعد إيراد الأمرين في
كلام ابن عطية، ويكون على الأول خطابا لمن ليس كفره عنادا، فلا
يتمنى الموت لعلمه بكذبه في مقالته، والصرفة لمن ليس كفره
عنادا يريد أن يتمنى الموت فيصرفه الله عن ذلك التمني تعجيزا
له.
فإن قلت: هلا ترك ذكر خالصة فهو أخص وأبلغ (لتناوله) تعجيز من
زعم منهم أن الدار الآخرة له ولغيره؟
فالجواب: أنه جاء على حسب الدعوى: لأنهم قالوا: {لَن يَدْخُلَ
الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى}
(1/376)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ
أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (95)
قوله تعالى: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً
... }
وفي سورة الجمعة {وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً} - قال ابن
عرفة؛ إن كانا بمعنى واحد فلا سؤال. وإن كانت «لَن» أبلغ في
النفي كما يقول الزمخشري: فلعل تلك الآية نزلت قبل هذه، فلم
تقتض المبالغة فجاءت هذه تأسيسا.
قلت: قوله: «أبدا» دال على المبالغة، فقال: قد قالوا في قول
الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} إنه عبارة على طول
الإقامة فقط، وأجاب أبو جعفر بن الزبير بأن آية البقرة لما
كانت جوابا لأمر أخروي مستقبل وليس في الحال إلاّ زعم مجرد
ناسبه النفي ب «لن» الموضوعة لنفي المستقبل لأن لَنْ يَفْعَلَ
جواب سَيَفْعَل، وآية الجمعة جواب لزعمهم أنهم أولياء الله من
دون الناس، وهو حكم دنيوي ووصف حالي، فناسبه النفي ب «لا» التي
ينفى بها المستقبل والحال،
(1/376)
ولم ينف ب «ما» الخاصة بالحال، لأنهم
أرادوا أنهم أولياء الله مستمرون على ذلك إلى آخر حياتهم،
فكذبوا بما ينفي ذلك.
(1/377)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ
الناس على حَيَاةٍ ... }
قال الزمخشري: نكرة لأنها حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة.
قال ابن عرفة: فأريد بها (هنا) التعظيم والتهويل أو يقال: إنّه
(نكرة) للتقليل أي يحرصون على الحياة القليلة فأحرى الكثيرة،
فيكون من التنبيه بالأدنى على الأعلى، هذا أظهر وأدلّ على
اختصاصهم بالحرص على الحياة وأبلغ، لكن ما بعده يدل على ما
قاله الزمخشري.
قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ
... }
قال بعض الطلبة: (لم يرد) (الحول معبرا عنه بالسنة إلا إذا كان
فيه (الجدب والغلاء) قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآءَالَ
فِرْعَوْنَ بالسنين} فهلا قيل: يودّ أحدهم لو يعمر ألف عام؟
فَأجاب ابن عرفة بأنهم (يختارون) الحياة على الموت
(1/377)
كيف ما كانت، وهو تنبيه على الأعلى
بالأدنى، لأنّهم إذا تَمنّوا حياة ألف سنة مجدبة وفضلوها على
الموت، فأحرى أن يفضلوا ألف عام.
(1/378)
قُلْ مَنْ كَانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ
بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى
وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً
لِّجِبْرِيلَ ... }
قال الزمخشرى! روي أنه كان (لعمر) أرض بأعلى المدينة وكان
(ممرّه) على {مدارس) اليهود، فسألهم عن جبريل، فقالوا: ذلك
عدوّ لنا يطلع محمدا على أسرارنا.
وقال ابن عطية: سبب نزول الآية أنّهم سألوا النّبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أربعة أشياء (منها: أنهم)
سألوه عمّن يجيئه من الملائكة بالوحي؟ فقال: جبريل. فقالوا:
ذلك عدوّ لنا لأنه ملك الحروب والشدائد.
قال ابن عرفة: هدا جهل ومحض ومكابرة، ولقائل أن يقول: أن السبب
غير مطابق للآية، لأنهم أخبروا أن جبريل عدو لهم، والآية اقتضت
أنهم أعداء لجبريل، (ولا يلزم) من عداوة أحد الشخصين للاخر أن
يكون الآخر عدوا له.
وأجيب بأن هذا خرج مخرج الوعيد لهم، لأن جبريل ذو قوة وسطوة،
فإذا خالفوه ودافعوه مع علمهم بقوته فقد عادوه.
(1/378)
قال ابن عرفة؛ الظاهر أن «مَنْ» موصولة لأن
الشرطية لا تقتضي وجود شرطها ولا إمكان وجوده، والعداوة ثابتة
موجودة كما تقدم فهى موصولة.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يصح قوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ
على قَلْبِكَ} جزاء للشرط؟
وأجاب بوجهين: أحدهما أنهم لو أنصفوا لشكروا جبريل على إنزاله
كتابا ينفعهم ويصحح كتابهم.
الثاني إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزَّل عليك القرآن
مصدقا لكتابهم.
قال ابن عرفة: إنما احتاج إلى هذا (السؤال) لأنه فهم أن
الارتباط بين الشرط والجزاء لا يكون إلا لزوميا، وهو عند
الأصوليين يكون لزوميا. ويكون اتفاقيا، لكنّه في محل الاستدلال
لا يصح أن يكون الا لزوميا. وفي الخبر يصح فيه الأمران. (نعم
لا بد من المناسبة وصحة ترّتبه على الشرط) كقولك: إن تكرم زيدا
فقد أكرمه غيرك. فإنه لا ارتباط بينهما إلا في الزمان أو في
الذّكر خاصة فهو اتّفاقي.
قلت: ولما ذكر ابن عرفة في الختمة الأخرى هذين الجوابين قال:
أو يقال: إن في هذا ردا على من زعم أن جبريل غلط في الرسالة،
وهي مسألة العتبية في كتاب المرتدين والمحاربين في رسم (يدير)
(1/379)
ماله من سماع ابن القاسم. قال: فيمن قال:
إن جبريل أخطأ بالوحي وإنما كان النّبي علي بن أبي طالب كرم
الله وجهه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
ابن رشد: هذا كفر صريح فإن أعلنه استُتِيب، وأن أسرّه بلا
استتابة كالزنديق.
قوله تعالى: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله
مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ... }
قيل لابن عرفة: يؤخذ منه تسمية بعض القرآن قرآنا لأنه لم يكن
حينئذ أنزل جميعه بل بعضه؟ فقال: يجاب إما بإيقاع الماضي موقع
المستقبل أو بأن الضمير في «نَزَّلَهُ» عائد على المتلوّ من
القرآن لا (على) نفس القرآن.
(أقول: أو إن الضمير يعود على ما أخبر به جبريل رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أسرارهم الّذي كان سببا
في عداوتهم، له كما تقدم في سبب النزول من قولهم لعمر رَضِيَ
اللَّهُ عَنْه، وهو قريب من الجواب الثاني) ، وتقدم في الختمة
الأخرى.
(1/380)
قال بعض الطلبة (لابن عرفة) : اعتزل
الزمخشري فقال: إذا كانت عداوة الأنبياء كفرا فما بالك بعداوة
الملائكة وهم أشرف {فجعله أشرف من بني آدم ولا ينبني عليه كفر
ولا إيمان؟
قال ابن عرفة: فقوله على هذا {مَن كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ}
تدل، وهو من باب التذييل لما قبله، ومعناه أن يكون اللّفظ
بزيادة قوله تعالى: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون}
فيه دليل على أن الاستثناء من النفي إثبات.
قيل لابن عرفة: من (عاداك) فقد عاديته فما أفاد قوله: {فَإِنَّ
الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} فقال (العداوة) ليست متعاكسة
النسبة بدليل قول الله عَزَّ وَجَلَّ ّ} {ياأيها الذين ءامنوا
إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ
فاحذروهم} مع أن الآباء ليسوا أعداء لأولادهم.
قيل له: هي متعاكسة؟
فقال: «من» خارج بالدليل العقلي لا من جهة اللفظ والمادة.
(1/381)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا
الْفَاسِقُونَ (99)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ
إِلَيْكَءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ ... }
قيل لابن عرفة: إن أريد المعجزات فظاهر، وإن أريد آيات القرآن
فيؤخذ منه امتناع تخصيص السنة بالقرآن، والقرآن بالسّنة لأنّه
كله بيّن؟
(1/381)
فقال: نقول إن القرآن بين من حيث دلالته
على صدقه من جهة لفظه المعجز وفصاحته، وإن كان معناه (مجملا)
لا يفهم فلا يمتنع فيه بيان (القرآن) بالسّنة.
(1/382)
أَوَكُلَّمَا
عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ
عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ... }
قال ابن عرفة: ذمّ الإنسان على عدم العمل بما كان التزم
العَمَلَ به أشد من ذمه على إنكار ما يعلم صحّته. وقال بعضهم:
النّبذ طرح خاص، وهو عدم الاعتناء بالشيء لحقارته وذمامته
وانظر تنبيهات القاضي عياض من العتق الثاني.
قال ابن عرفة: وهذه تسلية له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ لأنه لما تقدم ذكر إنزال الايات البينات وكفرهم بها عقبه
ببيان أن ذلك شأنهم وعادتهم فلا يلحقك/ بسببه (ضجر) ولا حزن
بوجه. فإن قلت: هل يؤخذ منه أن العهد لا يقبل النقض لأجل ذمهم
على نقضه؟
فالجواب من وجهين: إما بما تقرر في كتاب الإيمان والنذور من
أنه في الحكم الشرعي على قسمين: عهد يقبل النّقض، وعهد لا
يقبله، وهذا من الذي لا يقبله، وإما بأن الذي وقع فيه الكلام
(إنما هو) العهد المطلق الذي هو غير متكرر، وأما هذا فهو عهد
مؤكد متكرر فلا يقبل النقض بوجه فلذلك ذمّوا على نقضه. فإن
قلت: هلا قيل: أَوَ كُلَّمَا عَاهَد فريق منهم عهدا نقضه، لئلا
يلزم عليه ذم الجميع بعصيان البعض؟
(1/382)
فالجواب: أنّ الجميع ذمّوا بسبب رضاهم بفعل
البعض وإمّا بأن الذم للفريق الناقض للعهد فقط، وأتت الاية على
هذا الأسلوب لأن نقض العهد من فريق عاهدوهم وغيرهم، فثبت غيرهم
ونقضوا م فاتّسع في الذّم لهم في نقضهم عهدا اختصوا به.
قوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}
قال ابن عطية: الضمير في «أكْثَرهُمْ» إما عائد على بني
إسرائيل أو على الفريق النابذين. وضعفه ابن عرفة لأنه يلزم
عليه أن يكون بعض الذين نبذوا العهد مؤمنا؟ وأجيب باحتمال كون
المنبذ راجعا لعدم الإيمان بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ فبعضهم (آمن بكتابه) ولم يؤمن بالنبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد نبذ العهد (مع أنه مؤمن
بكتابه) .
قال ابن عرفة: و «أَكْثَرُهُمْ» إما أن يراد به الفريق، أو
(هو) أعم منه. ولما كان الفريق يصدق على القليل والكثير بين
بالأكثر.
(قيل) لابن عرفة: (عدم) إيمانهم هو نفس نقضهم للعهد فلا يصح أن
يكون الأكثر غير مؤمنين والأقل ناقضين للعهد؟ وأجاب بأنّه يصحّ
لأن هؤلاء اليهود منهم من هو متبع لكتابه ومنهم من هو مخالف
له.
(1/383)
قال ابن الخطيب: وقيل: المراد بنبذ العهد
عدم إيمانهم بالقرآن. قال: وهذا مردود بأن مادة النبذ تقتضي
تمسكهم به قبل ذلك مع أنهم لم يكونوا قط متمسكين بالقرآن.
وأجاب ابن عرفة بأنهم كانوا قابلين للتّمسّك (به) وكانوا قبل
البعثة متمسكين (به) لأن كتابهم أخبر به على وفقه بدليل أن من
مات منهم قبل ذلك مات مسلما حنيفيا.
(1/384)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ
فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ
وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
قوله تعالى: {وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ
مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ... }
قال الفخر: يحتمل أن يكون التصديق بموافقته لما في التوراة.
فرده ابن عرفة بأن التصديق هو نسبة المخبر إلى الصدق فهو من
عوارض الخبر، والتصديق بالصفة مجاز لا حقيقة، وإنما ينسب للصفة
الصدق والتصديق.
قوله تعالى: {كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ
لاَ يَعْلَمُونَ}
قال ابن عرفة: كان الفقيه أبو العباس أحمد بن علوان يقول:
مقتضى هذا أنهم طرحوه بين أيديهم، لأن الظهر بالنسبة إلى
(1/384)
الوجه خلف، والوجه بالنسبة إلى الظهر خلف،
فالظهر خلف الوجه، والوجه خلف الظهر، وإذا طرحوه وراء ظهورهم
لزم أنهم طرحو أمامهم فلا ذم عليهم.
قال ابن عرفة: وأجيب بأن المراد المبالغة في إبعاده عنهم فهم
جعلوه وراء الوراء كما جاء في الحديث الصحيح: «مِنْ وَرَاءِ
وَرَائِهِمْ» جعلوا للوراء وراء ونبذوه خلف ذلك الوراء وهو
أبلغ في كمال النبذ.
قلت: والحديث خرجه مسلم في أواخر كتاب الإيمان من أحاديث
الشفاعة من رواية ربعي بن خراش عن حذيفة قال: قال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يجمع الله الناس فيقوم
المؤمنون حين تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا
استفتح لنا الجنة فيقول: وهل أخرجكم منها إلا خطيئة أبيكم آدم؟
لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله، فيقول
إبراهيم: لست بصاحب ذلك، إنما كنت خليلا من وراء وراء، اعمدوا
إلى موسى عليه السلام الذي كلمه الله تكليما» الحديث بكماله
انفرد به مسلم.
(1/385)
وَاتَّبَعُوا مَا
تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ
سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ
حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ
وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا
لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
قوله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ
الشياطين ... }
أي عملوا بمقتضاه، وليس هو من الاتباع الحقيقي، لأن متلو
الشياطين لا يتبع إنما يتبع التالي وهو الشيطان لا متلوه.
قوله تعالى: {على مُلْكِ سُلَيْمَانَ ... }
قيل؛ أى على عهد سليمان، ويحتمل أن يراد اتّباعهم ما سمعوا أنّ
الشيطان كان يتلوه في عهد سليمان، وأنهم يتبعون في عهد سليمان
ما يتلوه الشيطان إذّاك؟ قال ابن عرفة: وتعلّم السّحر واعتقاده
حقا كفر. وأما تعلمه من غير اعتقاد حقيقة ففي التكفير به
قولان، وظاهر المتكلّمين أنّ التكفير إنّما هو بأحد ثلاثة
أمور: إما بقول كلمة الكفر، أو بالسّجود
(1/385)
لصنم، أو بالفعل كلبس الزّنار ونحوه. وجعل
الفخر (هنا) من السحر (الشعوذة) . وكان شيخنا ابن عبد السلام
يستضعف ذلك وينكره ويقول: إنما ذلك من خفة اليد، وليس بحسر،
بخلاف ما يحكى عن غالب العجائبي من أنه كان يزرع الفقوس
(ويجنيه) في ساعة واحدة فإنه سحر.
قال ابن عطية: روي أنهما (ملكان) اختصمت إليهما إمرأة، وحكى
القصة، وضعفه ابن عطية من جهة السند.
قال ابن عرفة: بل هو ضعيف من جهة الاستدلال، فإنه قد قام
الدّليل على عصمة الملائكة.
ولا يقال: إنهما كانا معصومين، ثم انتفت العصمة عنهما حينئذ،
فإنّ ذلك إنما هو فيمن يتّصف بالحفظ لا بالعصمة، فيصح أن يحفظ
تارة دون تارة، أما العصمة فلا تزول عمن ثبتت له أبدا (وقد)
كان الشيوخ/ يخطئون ابن عطية في هذا الموضوع لأجل (ذكره) هذه
الحكاية. ونقل بعضهم عن القرافي أن (مالكا) أنكر ذلك في حق
هاروت وماروت.
(1/386)
قال ابن عرفة؛ وكان تَعلم السحر في (زمن)
هاروت وماروت (جائزا) ، وكانوا مأمورين بتعليم النّاس على جهة
الابتلاء من الله تعالى لخلقه، فالطائع لا يتعلمه، والعاصي
(يبادر) إليه ويتعلمه كما خلق الله السّم القاتل والحديد وغير
ذلك مع أنه لا يجوز تناوله. فقوله على هذا: (فلا) يكفر، إما أن
يراد به العمل أي تعلمه ولا تعمل به فتكفر، أو يرادُ به نفس
العلم أي نحن يجوز لنا تعليمه وغيرنا لا يجوز له أن يتعلمه منا
فلا نتعلمه فنكفر، فهم مباح لهم تعليمه للغير، وذلك الغير لا
يباح له أن يتعلمه منهم، وكان التعليم حينئذ جائزا ثم نسخ فصار
حراما.
وقال الزمخشري: أي فلا نتعلمه (معتقدا) أنه حق فنكفر.
ومنهم من قال: إن تعلمه جائز أو مطلوب ليفرق بينه وبين المعجزة
والكرامة، ولكن ذلك في تعلمه على الجملة لا تعلمه مفصلا، وكلام
الزمخشري هنا أنسب من كلام ابن عطية إلا في كلمة واحدة.
(وبقوله) تعالى: «فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا» استشهد ابن
التلمساني في كتاب القياس على أن الفاء تكون للاستئناف.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه ... }
ابن عطية: الضمير عائد على بني إسرائيل.
(1/387)
قال ابن عرفة: إمّا عموما أو على علمائهم.
وقيل: على الشيطان، وقيل: على الملكين. وضعفه ابن عرفة، لأنه
جمع فلا يصح الا على القول بأن أقل الجمع اثنان. فإن قلت: هلا
قيل فحفظه في الآخرة جهنم، فهاذ أدل على (الخسران) في الآخرة،
لأن فاعل المباح يصدق عليه أنه ليس له في الآخرة نصيب إذ لا
ثواب فيه؟
قلنا: السياق يهدي إلى (أن) المراد له العذاب، وأن هذا القسم
(منتف عنهم) .
قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ
كَانُواْ يَعْلَمُونَ}
قال ابن عرفة: جواب «لو» مقدر، أي لو كانوا يعلمون لما
شَرَوْا، ولا يصح أنْ يكون جوابها: «لَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ»
لأنه مذموم سواء شروه أو لم يشتروه، وسواء علموا أو لَم
يَعلموا.
ابن عطية: من أَعَاد الضمير في «وَلَقَدْ عَلِمُواْ» على بني
إسرائيل وينتقض ذلك عليه بقوله: «لوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ» .
فظاهره (أنّهم) لم يعلموا (ويمكن) أن يجاب عنه بأنه مجاز
لأنّهم عملوا عمل من لا يعلم، فكأنهم لم يعملوا.
قال ابن عرفة: قال بعضهم: أو يجاب بأنّ قولك: كأن زيدا يعلم
كذا، أخص من قولك: علم زيد كذا لاقتضاء (الأول)
(1/388)
تكرّر العلم له ودوامه حتى تطبع به، فأثبت
في أول الآية لهم مطلق العلم الصادق بأدنى شيء وقال في آخرها:
«لوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ» علما ثابتا حقيقيا لما باعوا
أنفسهم بذلك. وشروا بمعنى بَاعُوا.
(1/389)
وَلَوْ أَنَّهُمْ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْءَامَنُواْ
واتقوا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ ... }
التّنكير هنا للتعليل بمعنى: أنّ الثواب من عند الله وإن قل في
ذاته فهو خير من ذلك كلّه.
قال ابن عرفة؛ وجواب «لَوْ» إما نفس «قوله لَمَثُوبَةٌ مِّنْ
عِندِ الله» وإما نفس الثواب المفهوم منها، وإما مقدر.
(1/389)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا
انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(104)
قوله تعالى: {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا ...
}
اختلف الأصوليون في صيغة افعل هل هو من قسم المركب أو من قسم
المفرد؟ حكاه الأنباري في شرح المحصول. وقال صاحب الجمل:
واللّفظ المركب إن دلّ بالقصد الأول على طلب الفعل كان مع
الاستعلاء أمرا ومع الخضوع سؤالا ومع التساوي التماسا وإلا كان
تنبيها إن لم يحتمل الصدق والكذب، وإن احتملهما كان خبرا وقضية
(جعلها) من قسم المركب، فهل الآية حجة لأحد المذهبين أم لا؟ من
ناحية أن القول إنما (يحكى) به الجمل لا المفردات؟ قال: لا
دليل فيها لأن «رَاعِنَا» (قد) اتّصل به ضمير المفعول فهو مركب
(هنا) بلا شك. وقرئ «رَاعِناً» بالتنوين على أنه نعت لمصدر
محذوف أي قولا راعِنا. فعلى هذا المراد بذلك نفس القول وعلى
(القراءة) الأخرى المقول له.
(1/389)
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ
يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (105)
قوله تعالى: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ
مِنْ أَهْلِ الكتاب ... }
مع أن الثابت في نفس الأمر أنهم ودّوا عدم نزول الخير، لكن ذلك
مستفاد من السياق فلا يحتاج إلى التنصيص عليه.
(1/390)
مَا نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(106)
قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْءَايَةٍ أَوْ
نُنسِهَا ... }
تكلم ابن عطية هنا كلاما حسنا من جملته أن قال: المنسوخ عند
أيمتنا هو الحكم الثابت نفسه لا ما ذهبت إليه المعتزلة من أنه
مثل الحكم الثابت فيما يستقبل، وقادهم إلى ذلك مذهبهم من أن
الأوامر مرادة، ثم قال: والتخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس
به لأن المخصص لا يتناوله العموم فقط.
قال ابن عرفة: قالوا: وليس معناه أنه لم يكن (مرادا لئلا يلزم
عليه كون الأمر غير الإرادة، وإنما معناه أنه لم يكن) متعلق
الحكم، ومنهم من قال: رفع الحكم إن كان قبل العمل به فهو تخصيص
وإن كان بعد العمل به فهو نسخ.
قال ابن عطية: وقد ينسخ الأثقل بالأخف كنسخ قتال الواحد
للعشرة.
(1/390)
قال ابن عرفة: والثقل والخفة باعتبار
المصالح، فقد يكون متعلق هذه المصلحة أرجح من متعلق المصلحة
الأخرى أو مساويا لها. ولا شك أن وقوف الواحد للعشرة (ثوابه)
يكون أعظم من ثواب ما هو أخف منه لكنه نادر، وليس بأكثري
الوقوع فنسخ بما هو أخف منه وأقل ثوابا لكونه أكثري الوقوع،
فيتعدد ثوابه ويكثر بتعدد وقوعه، والأخف بالأثقل كنسخ صوم
عاشوراء/ بصيام رمضان.
قال: وأجمعوا على جواز نسخ القرآن بخبر الواحد.
قال أبو المعالي؛ إنه واقع في مسجد قباء لأنهم كانوا يصلون فيه
العصر إلى بيت المقدس، فمر بهم بعض الصحابة، فأخبرهم أن القبلة
حولت إلى مكة، فتحولوا في الصلاة. ومنع ذلك قوم، وقالوا: إنما
نسخ بالقرآن. قال: ولا يصح نسخ النص بالقياس.
وقال ابن عرفة: لأن النص المقيس عليه إما أن يكون موافقا لذلك
(النص) المنسوخ أو مخالفا فإن كان (موافقا) فلا نسخ، وإن كان
(مخالفا) فهو النّاسخ (لا) القياس. ولا ينسخ النص بالإجماع
لأنه إنما يكون في حياة النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ والإجماع إنما هو بعد وفاته.
فيل لابن عرفة: قد حكى الأصوليون عن أبي مسلم أنه أنكر وقوع
النسخ من أصله؟
(1/391)
فقال ابن عرفة: إنما ذلك في الفروع
والأحكام الظنية، وأما باعتبار الملة فلا خلاف بين المسلمين في
وقوعه وأنّه تنسخ ملة بملة. وإنما الكلام فيه باعتبار الشخص
الواحد هل يصح نسخ الحكم في ملته (بحكم آخر أم لا) قولان.
قوله تعالى؛ {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَا ... } .
الخير باعتبار المصالح الشرعية، فقد يكون متعلق الحكم يستلزم
مصلحة أرجح (من مصلحة أو مثلها ومعنى {نُنسِها} أي نؤخرها
فتعجيل نسخها أو تأخير نزولها إنما هو لتعجيل الإتيان بما
مصلحته أرجح) . وفيه تأخير البيان إلى وقت الحاجة. واحتج الفخر
الرازي في المحصول بهذه الآية على جواز النسخ ووقوعه.
ورد عليه السراج في التحصيل بأنها قضية شرطية لا تدل على وقوع
ولا على إمكان الوقوع كقوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن
وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} وأجاب عنه ابن الخطيب شمس
الدين الجزري بأن الاية خرجت مخرج المدح، والمدح لا يكون إلا
بما (هو) واقع بالفعل لأن الله تعالى قال: {نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ} . فقد أثنى على نفسه جل وعلا بذلك.
(1/392)
قال ابن عرفة: والتحقيق في هذا (أن) المدح
دال على جواز النسخ وإمكانه لا وقوعه كما تقول: فلان قادر على
أن يعطي ألف درهم وإن لم يعطها بالفعل، فالمدح بذلك دال على أن
إعطاءه غير محال بل هو ممكن سواء وقع بالفعل أم لم يقع.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ}
قال ابن عطية: الهمزة (للتقرير) .
قال ابن عرفة: التقرير في حق المرضي عنه ليس (كالتقرير) في حق
غيره.
قال: فإن كان خطابا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
فالمعادل محذوف تقديره: أم علمت ذلك، وضعفه ابن عرفة وأبو حيان
بأن المعادلة إنما يحتاج إليها إذا كان الاستفهام عن أمرين
يكون المتكلم شاكا في أحدهما فيطلب تعيينه. وأما إذا كان
الإستفهام للتقرير فليس على هو حقيقته فلا يحتاج إلى المعادلة
بوجه.
قال ابن عطية: وهو مخصوص بالقديم والمحال.
قال ابن عرفة: أما القديم فظاهر لأن القدرة لا تتعلق به، وأما
المحال (فلا) يتناوله اللّفظ (بوجه) ، لأنه ليس بشيء ولا سيما
المحال عقلا.
(1/393)
ونقل بعض الطلبة عن شرح الأسماء الحسنى
لابن (الدهاق) قولا بجواز تعلق القدرة بالمحال العقلي. ورده
ابن عرفة بقول الإرشاد: العقل علوم ضرورية لجواز الجائزات
واستحالة المستحيلات قال: فيلزم سقوط هذا القسم ولا قائل به.
قال ابن عرفة: وتقدم لنا (في الختمة الأخرى) في الآية سؤال،
وهو أن النسخ تبديل آية بآية أو حكم شرعي بحكم شرعي، والحكم
الشرعي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، وخطابه
كلامه القديم الأزلي، فهو راجع إلى الكلام القديم، والقدرة لا
تتعلق بالقديم بوجه، وإنما تتعلق بالحادث فكيف حسن بعده أن
يقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
؟ وأجيب بأنه نسخ ما ثبت وتقرر في الأذهان على سبيل اعتقاد
الدّوام، وقد تقرر في الأذهان دوام الحكم الشرعي الذي هو مضمون
الكلام القديم، فالنّسخ عبارة عن ارتفاعه.
وردّه ابن عرفة بأنّ ذلك الذي أنكر النسخ لم ينكره من حيث كونه
تبديل اعتقاد باعتقاد، وإنّما أنكره لكونه يلزم عليه (البداء)
لأن الحكم الأول كان مرادا لله فيصير غير مراد له وهو باطل.
(قال ابن عرفة: وإنّما عادتهم يجيبون عن السّؤال) بأنه لما كان
المتبادر للذهن أنّ الشيء لا يرتفع إلا بثبوت نقيضه،
(1/394)
فإذا نسخ الحكم الشرعي المتضمن المصلحة
إنما ينسخه حكم آخر يتضمن مفسدة فأخبر أن الله تعالى قادر على
أن يصير الحكم الشرعي المتضمن للمصلحة، متضمنا لمفسدة باعتبار
الأزمان فيكون الحكم في زمن متضمنا للمصلحة ثم يعود في زمن آخر
متضمنا للمفسدة، (فحينئذ) ينسخه الله تعالى بحكم شرعي يتضمن
مصلحة إما مثل الأولى أو أرجح منها.
قال ابن عرفة: وجاء الترتيب في الآية على أحسن وجه، فبين أولا
جواز تعلق القدرة بكل شيء، ثم بين وقوع ذلك الجائز بقوله
تعالى: {لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} ثم بين (بعده) أن ذلك
خاص لا يشاركه فيه غيره بوجه.
وقال ابن عرفة: والملك/ عبارة عن أهلية التصرف العام في جميع
الأمور من المتملك، فمالك العبد ليس مالكا له حقيقة لأنه ليس
له قتله ولا أن يضربه الضرب المبرح، فحقيقة الملك إنما هو لله
تعالى.
(1/395)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
قوله تعالى: {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ الله
مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} .
مثل قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}
والجواب (كالجواب) انه على تقدير أن يوجد ولي أو ناصر فلا يوجد
إلا من هو في أنهى درجات الولاية والنصرة، فنفي ذلك (المعنى)
المتوهم المقدر الوجود سواء.
(1/395)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ
تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ
سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن
تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ ... }
(1/395)
إن كان الخطاب للمؤمنين فالمراد أن تسألوا
الرسول الذي (أقررتم برسالته، وإن كان الخطاب للكفار فالمراد
الرسول) الذي ثبتت رسالته إليكم في نفس الأمر.
قوله تعالى: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ
سَوَآءَ السبيل} .
قالوا: {سَوَآءَ السبيل} وسطه. ورد عليه ابن عرفة: أنه يلزمهم
المفهوم وهو أنه يكون اهتدى لبعض سبيل الحق وهو جانباه
والجواب: أن السبيل اسم جنس يعم طريق الحق والباطل و {سَوَآءَ}
هنا هو طريق الحق منهما، قال الله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ
السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}
(1/396)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ
الكتاب ... } .
قيل لابن عرفة: ذكر بعضهم في الفاعل أنه يشترط فيه ما يشترط في
المبتدإ إذا كان نكرة من أنه لا بد له من مسوغ، وذكره في قول
الله جلّ ذكره: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} قال ابن
عرفة: لم أسمع هذا من أحد إلا في المبادى كنت أسمعه في قول
الجزولي أسند إليه فعل، أو ما جرى مجراه.
قال ابن عرفة: ومن دعا على مسلم أن يميته الله كافرا (ما
يلزمه؟) فقال النووي: إن اعتقد مرجوحية الإيمان فهو
(1/396)
كافر، وإلا فهو عاص وإثمه أشد من إثم من
دعا على الكافر أن يميته الله كافرا. والخلاف عندنا في شرطية
النطق بالشهادتين هل لا بد منها مع القدرة عليها (أو) يكفي
الاعتقاد؟ وأما إن صرح بكلمة الكفر فهو كافر بإجماع، وانظر
سورة الحجرات.
قوله تعالى: {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق ... } .
إمّا أن كفرهم عناد أو ليس بعناد، بناء على أن ارتباط الدليل
بالمدلول عادي أو عقلي فيكون الله تعالى (أنبأهم) ذلك في ثاني
حال بعد أن علموه وتحققوه.
قوله تعالى: {فاعفوا واصفحوا ... } .
قال ابن عرفة: العفو رفع الحرج عمن ثبت وتقرر كمن عفا عن قاتل
وليّه بعد ثبوته القتل عليه (والصفح رفع الحرج عن الشخص قبل
(ثبوت) موجبه كمن عفا عن قاتل وليه قبل ثبوت القتل عليه، قال:
ويكون هذا ترقيا أي فاعفوا عنهم حتى تؤمروا بقتالهم.
(1/397)
وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاوة
وَءَاتُواْ الزكاة ... }
إن قلت: هلا قيل: وأقيموا الصّلاة والزكاة فيكون أمرا
بإقامتهما معا على أبلغ الوجوه؟
فالجواب: أنّه لما كانت الصّلاة متكررة مشقة على النّفوس
أكّدها بالأمر، وهو الإتيان بها مستوفاة الشرائط، ولما كانت
الزكاة لا تكرر فهي أخف، اكتفى فيها بالأمر دون تأكيد.
(1/397)
قوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُواْ
لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله ... }
إن قلنا: إن المباح مأمور به فخير. أفعل من، لأن المراد بذلك
كل ما فيه خير يفضل عن غيره فله فيه الأجر وإن قلنا: إن المباح
غير مأمور به، فافعل فعل، لا فعل من.
قيل لابن عرفة: وكذلك المباح إذا كان مأمورا به فهو خير؟
فقال: وكذلك الحرام فيه خير باعتبار الدنيا، وإنّما المراد
بالخير الأخروي وهو الثواب؛ وأما المباح فلا ثواب فيه؟
(1/398)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ
لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى
لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ
كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ
النصارى على شَيْءٍ ... }
قال ابن عرفة: حكاية هذه المقالة إما على سبيل الإبطال لها أو
على سبيل التقرير لها والموافقة عليها (والأول باطل لئلا يلزم
أن يكون كل فريق منهم على شيء، والثاني باطل لئلا يلزم عليه
أنّها) لو حكيت على سبيل أنها حق لم يصح ترتب الذم عليهم مع أن
مساق الاية يقتضي ذمهم على ذلك.
قال: وأجيب عنه: بأن اليهودية والنصرانية لهما اعتباران فهما
من حيث أصلهما الذي نشآ عنه وهو موسى وعيسى حق ومن (حيث) دعوى
المنتمين إليهما (والمتدينين بهما) باطل، فقول اليهود: «ليست
النَصارَى عَلى شَيء» إبطال لأصل ملّة النصرانية وليس هو ابطال
لدعوى المنتمين إليها، فحكيت هذه المقالة على معنى الإبطال لها
أو ذمّ قائلها أي قولهم ذلك وإبطالهم له باطل، بل هم على شيء
باعتبار أصل الملة لا باعتبار الدعوى وهذا حق وهو على حذف
الصفة أي ليسوا على شيء ديني.
(1/398)
قال الزمخشري: هذه مبالغة عظيمة لأن المحال
والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء.
قال ابن عرفة: الزّمخشري ضعيف في أصول الدّين، وقد تقدم
الإجماع على أن المحال (ليس بشيء) باعتبار المعنى، واختلفوا في
الإطلاق اللّفظي والتسمية هل يطلق عليه لفظ شيء أم لا؟ فمنعه
أهل السنة وأجازه المعتزلة وهما مسألتان:
فهذه لا ينبني عليها إيمان ولا كفر، والأخرى توهّم أن للمعدوم
تقررا في الأزل ويلزمهم بها الكفر.
قيل لابن عرفة /: لم قال: {وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب} ولم يقل:
وهم يعلمون الكتاب؟
فقال: التلاوة هنا تستلزم العلم.
قال ابن عرفة: فإن قلت: لم قال {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة
إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} فجمع المقالتين (معا)
هناك وفرقهما هنا ولم يقل: وقالوا ليست النصارى واليهود على
شيء؟ (قال) : عادتهم يجيبون بأن المقالتين هناك محصورتان لا
ثالث لهما فيعلم بالضرورة أن النصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا
من كان نصرانيا، واليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا اليهود،
وأما هنا فلو قيل: وقالوا: ليست اليهود والنصارى على شيء لأوهم
أن المسلمين هم الذين قالوا ذلك (والكتاب) جنس (يشمل) التوراة
والإنجيل.
(1/399)
قوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ
يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} .
تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك وغيرهم.
(1/400)
وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ
أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا
خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن
مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه ... }
وقال في آية أخرى: {مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ
الله} وقال في سورة الزمر {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى
الله وَكَذَّبَ بالصدق إِذْ جَآءَهُ} فالجمع بين الآيتين يقتضي
تساويهما في الظلم، لكن قام الدليل على أن مفتري الكذب على
الله أشد ظلما ممن منع مساجد الله من ذكر الله فيها.
قيل لابن عرفة: يؤخذ من الآية أنه لا يجوز لهَؤُلاء الأيمة أن
يغلقوا باب المسجد ولا أن يبنوا مسجدا لنقوض مسجد آخر؟ فقال
رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أما غلق باب المسجد في غير أوقات الصلاة
فهو حفظ له وصيانة إلا أن يكون الإمام مفرطا في الصلاة فيتركه
مغلوقا لا يصلى فيه إلى آخر الوقت، وأما بناء مسجد بمسجد فلا
يجوز وإن صار قاعة جاز جلوس الجنب والحائض فيه لأنه لم يبق له
حرمة المسجد.
(1/400)
قال (في المدونة) في كتاب الأقضية: والقضاء
في المسجد من الأمر القديم، ولأنه يرضى فيه (بالدون) من
المجلس، وتصل إليه المرأة والضعيف.
قال ابن عرفة: وتقدم لنا أن رحابه هنا غير رحابه في الصلاة،
فرحابه في الصلاة أوسع من هذا فلا يركع الفجر إلا في الصحن
البراني الذي لا يحوزه (الغلق) ، ويحكم هنا في رحابه التي هي
صحنه الدخلاني.
قوله تعالى: {أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه وسعى فِي خَرَابِهَآ
... }
قال ابن عطية: تضمنت الاية أن يكون قوله {أَن يُذْكَرَ فِيهَا
اسمه} مفعولا لأجله.
قال ابن عرفة: مفهومه أن منعها لغير هذه الحيثية لا يتناوله
هذا (الإثم) بل إثمه أقل من ذلك.
(1/401)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المشرق والمغرب
فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله ... }
قال في سورة المعارج: {فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق
والمغارب}
(1/401)
قال ابن عرفة: إما على أن الأرض كروية
فتعدد المشرق والمغرب ظاهر لأن كل موضع مغرب لقوم مشرق لآخرين،
وإن قلنا: إنها بسيطة فهو مغرب واحد ومشرق واحد لكنها تتعدد
بالفصول فمشرق الصيف غير مشرق الشتاء.
(قال ابن عرفة: وفيه إبطال للقول بالجسم والجهة، لأنه لو كان
الإلاه جسما للزم عليه حلول الجسم الواحد في الزمن الواحد في
مجال متعدد وهو محال) .
قيل لابن عرفة: يقول صاحب هذا القول: إنه كالفلك فإنه دائر
بالعالم كله بدليل قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ
وَجْهُ الله} والتولي إنما يكون فيما يحوزه الفلك بل في بعضه
فقط. وإنما أبطلوا الجسمية بدليل آخر فكما أنّا أيْنَما (نولّ
نَرَ) الفلك بعضه (فكذلك هو) لكن لا نراه والفلك جسم؟
فقال لفظ «ثَمّ» يقتضي وجوده في المكان الذي يقع فيه التولي
حقيقة، وإذا كان كالفلك فليس هو في ذلك المكان.
قوله تعالى: {إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
قال ابن عرفة: هذا إما ترغيب وترهيب أي هو واسع الرحمة عليهم
بأعمال العباد فيجازيهم عليها، وإما ترغيب وتأكيد للترغيب أي
هو واسع الرحمة مع علمه بأعمال العباد، وهذا أبلغ في رحمته لأن
الإنسان قد يرحم عدوه إذا كان جاهلا بِعَداوَتِهِ وعصيانه ولا
يرحمه إذا علم بذلك.
(1/402)
وَقَالُوا اتَّخَذَ
اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
قوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الله
وَلَداً}
ذمهم بالوصف الأعم لأنّ اتخاذ الولد يصدق على الابن حقيقة وعلى
ابن التبني.
قوله تعالى: {بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض ... }
إن رجع الإضراب إلى قوله «سُبْحَانَهُ» فهو إضراب انتقال، وإن
رجع إلى قوله: {اتخذ الله وَلَداً} (إضراب) إبطال.
قال ابن عطية: قرأ الجمهور «وَقَالُواْ» بالواو، وأسقطها ابن
عامر، إما لأن هذه الجملة في معنى ما قبلها أو مستأنفة.
قال ابن عرفة: هذا بعيد لأنه أمر واحد ومقالة واحدة، إلاّ أن
يكون التعدد باعتبار اختلاف الحالات والأشخاص. واحتجوا بالآية
على أن أعمال العباد مخلوقة لله عَزَّ وَجَلَّ. واحتج بها
اللّخمي على أن من ملك ولده عتق عليه، لأن (الآية) اقتضت
منافاة الملك (للولدية) أى لو/ كان لله ولد لما صدق أنه
(1/403)
مالك لجميع ما في السماوات والأرض و
(اللازم) باطل فالملزوم مثله.
وأجيب بالفرق بين المقامين فهذا ملك حقيقي وذلك ملك جعلي، فما
يلزم من منافاة الملك الحقيقي للولدية منافاة الملك الجعلي
لها.
قوله تعالى: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}
قال ابن عطية: أي كل شيء له ملك.
قال الزمخشري: أي كل ما هو في السماوات والأرض.
ابن عطية: والقنوت إما الخضوع فيصدق على الحيوان والجمادات،
وإما الطاعة، فالكافر يسجد ظله وهو (كاره) .
قيل لابن عرفة: كيف يُوصَف الظل بالسّجود وهو هو موجود أم لا؟
فقال: الظل ظلمة خاصة باعتبار الكم والكيف فيجري على الخلاف في
الظلمة: هل هو أمر وجودي أو عدمي؟ والصحيح أنها وجودية، ونص
بعضهم على أن الظل عرض قام بجسم الهواء.
(1/404)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ (117)
قوله تعالى: {بَدِيعُ السماوات ... }
قال الزمخشري: هذا إما من إضافة الصفة المشبهة باسم الفاعل.
(1/404)
قال ابن عرفة: ف «بدِيعُ» صفة «السماوات» .
قال: أو من إضافة اسم الفاعل.
قال ابن عرفة: «بَدِيعُ» صفة الله تعالى أي مبتدع السماوات.
وقال أبو حيان: الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدإ، وقرئ بالنصب
على المدح، وبالجر على البدل من الضمير في قوله «له» ، وهي صفة
مشبهة باسم الفاعل (والمجرور) مشبه بالمفعول، وأصله: بديع
سماواته، ثم شبه الوصف فأضمر فيه ضمير عائد على الله ونصب
سماواته على التشبيه. وقيل: بديع سماواته ثم أضيف فانجرَّ مِنْ
نصب.
وقال الزمخشري: هو من إضافة الصّفة المشبهة إلى فاعلها واعترض
بأن الصفة لا تكون مشبهة إلا إذا نصبت أو أضيفت عن نصب، أما
إذا رفعت فليست مشبهة لأن عمل الرفع في الفاعل تستوي فيه
الصفات المتعدية وغيرها، وأيضا بإضافة الصفة إلى (فاعلها) لا
يجوز لأنه من إضافة الشيء إلى نفسه، وقد يتناول كلامه على أن
معناه من إضافة الصفة المشبهة إلى ما كان فاعلا لها قبل أن
تشبه. انتهى.
قلنا قوله: واعترض بكذا، نقل ابن عصفور في شرح الجمل عن
الأستاذ أبي الحسن علي بن جابر الرماح أن الإضافة: في مررت
برجل حسن وجهه، يمكن أن يكون من رفع، وأنه حكى ذلك عن أشياخه
وحمل عليه كلام سيبويه واعترضه ابن عصفور فانظره.
(1/405)
قوله تعالى: {وَإِذَا قضى أَمْراً ... }
أي أراد فيرجع للارادة القديمة (التنجيزية) .
(وقال الزمخشري: إنه عبارة عن سرعة التكوين. فجرى على مذهبه.
وقال ابن عطية. أي قدر في الأزل وأمضى فيه) .
(1/406)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا
آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ
قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
قوله تعالى: {وَقَالَ الذين لاَ
يَعْلَمُونَ ... }
قال ابن عرفة: إن أريد بهم مشركو العرب فواضح، وإن أريد أهل
الكتاب فواضح، لأن جهل المشركين بسيط، وجهل أهل الكتاب مركب.
واستشكل الفخر قول من فسره بأهل الكتاب قال: لأنّهم يعلمون.
قال ابن عرفة: ويجاب بما قلناه: من أنهم جاهلون جهلا مركبا
وكان بعضهم يقول: إنما نفى عنهم العلم لوضعهم الشيء في غير
محله، لأنّهم طُلب منهم الإقرار بصحة الرسالة فَطَلَبُوا هم أن
يكلمهم الله مشافهة وهذا مناف للرسالة لأن هؤلاء إذا حصلت لهم
المباشرة بالكلام فلا حاجة إلى الرسالة.
(1/406)
قيل لابن عرفة: إنهم طلبوا أن يكلّمهم الله
(بتصديق رسوله) .
فقال: وفي هذا وقع الكلام معه، فإذا (بُوشروا) به فلا حاجة إلى
الرسالة.
وقال: وتنكير «ءَايَة» لتعم (في) المعجزات كلها، وتفيد التقليل
فهو محض مكابرة ومباهتة منهم (حتى) (كأنه) لم يأتهم بشيء من
الآيات.
قوله تعالى: {مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ... }
قيل لابن عرفة: ما فائدة زيادة «مِّثْلَ قَوْلِهِمْ» مع أنه
مستغنى عنه لأن التشبيه الأول (يكفي) في حصول المثلية؟ فأجاب
بوجهين:
- إما أنه تأكيد في مقام التسلية للنَّبي صلى الله عليه وسلّم
بتكذيب من قبله وتعنتهم.
- وإما أن قوله «كَذلِكَ» تشبيه لا يقتضي المساواة من جميع
الوجوه بل (المقابلة) ، لأن المشبه بالشيء لا يقوى قوّته فزاد
«مِّثْلَ قَوْلِهِمْ» ليفيد كمال المماثلة والمساواة، ولم يقل:
مثل كلامهم، لأن القول أعم من الكلام، ولازم الأعم لازم الأخص،
فأفاد حصول المساواة في قولهم المفرد والمركب.
قوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الأيات ... }
(1/407)
رد عليهم في قوله: {أَوْ
تَأْتِينَآءَايَةٌ} ولم يرد عليهم قولهم: {لَوْلاَ
يُكَلِّمُنَا الله} لظهور بطلانه بالبَديهة.
قوله تعالى: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
ابن عطية: اليقين عند الفقهاء أخص من العلم لأن العلم عندهم
معرفة المعلوم على ما هو به، واليقين معتقد يقع للموقن في
حقّه، والشيء على خلاف معتقده كتيقن (المقلدة) ثبوت الصانع. ثم
قال: وحقيقة الأمر أنّ اليقين هو الأخص، وهو ما علم على الوجه
الذي لا يمكن أن يكون إلا عليه.
قال ابن عرفة: كان ابن عبد/ السلام يقول: هذا كلام خلف، لأنه
ذكر أنّ اليقين أخص ثم فسر بما يقتضي أنه أعم من العلم.
والصواب أن يقال: اليقين أخص من العلم لأن العلم أخص من
الاعتقاد، فالاعتقاد أعمها ثم العلم، ثم اليقين، واليقين هو
اعتقاد الشيء بدليل قاطع لا تعرض له الشكوك، والعلم اعتقاد
الشيء بدليل يقبل الشكوك والمعارضة، وهي مسألة المدنة قال:
إنّما اللغو أن يحلف بالله على أمر تيقّنه ثم تبين له خلاف ذلك
فلا شيء عليه. وانظر ما قيدت في سورة الذاريات.
(1/408)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ
الْجَحِيمِ (119)
قوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بالحق
... }
الظاهر أن المعجزات هي المراد. وقدم البشارة على النذارة لأنّ
القاعدة في محاولة الأمور الصعبة أن يبدأ فيها بالتلطّف
والتيسير
(1/408)
ليكون أدعى للقبول، كما إذا كان لك جمل معك
وأردت أن تدخله موضعا فإنك تسايسه بربيع تطعمه له أو تفتل شعره
أو نحو ذلك، كما قال {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} قوله
تعالى: {وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم}
الظاهر أنها تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
(1/409)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ
مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
قوله تعالى: {وَلَن ترضى عَنكَ اليهود ...
}
كان بعضهم يقول: غالب استعمال الملة فيما عدا الدّين المحمدي،
ولذلك كانوا ينتقدون على أثير الدين الأبهري في كتابه في أصول
الدين حيث قالوا: قال الملّيّون: يعني به الإسلاميين قال: وهذا
على حذف وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ حَتّى تتبعَ مِلتهُم
ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، وفيه المبالغة في لفظ «لَن» و
«حَتَّى» وفي تكرير «لاَ» .
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله ... }
يحسن أن يكون أمرا لكل واحد من الناس أن يقول ذلك.
قيل لابن عرفة: النصارى يوافقوننا على ذلك ويقولون: إن دينهم
هُو هُدى الله؟
(1/409)
فقال: إن هُدَى الله على ثلاثة أقسام: هدى
باعتبار ما في نفس الأمر، وهدى باعتبار الدليل العقلي، وهدى
باعتبار الدعوى؛ فالمراد أن هدى الله الذي دل الدليل العقلي
عليه هو الهدى، وهو الهادي إلى الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُم ... }
خطاب على سبيل التهييج والإلهاب، وعطف النصير على الولي تأسيس،
لأن الولي إما أخص من النصير أو بينهما عموم وخصوص من وجه دون
وجه. وعلى كل تقدير فالعطف تأسيس وانظر ابن عطية وانظر ما قيدت
في سورة العنبكوت وفي سورة الفتح.
(1/410)
الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ
أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
قوله تعالى: {الذينءَاتَيْنَاهُمُ الكتاب
يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ... }
ابن عطية: عن قتادة: هم المؤمنون بمحمد، والكتاب القرآن. وعن
ابن زيد: هم المؤمنون بموسى عليه السلام، والكتاب التوراة،
وقيل: الأربعون الواردون مع جعفر بن أبي طالب في السفينة.
قال ابن عرفة: المراد به الأنبياء والرّسل فقط. لكن يضعف لقوله
«يُؤْمِنُونَ بِهِ» فكأنه إخبار بالمعلوم.
(1/410)
ابن عطية: ويصح أن يكون «يَتْلُونَهُ» حالا
والخبر «أُوْلئِكَ يُؤْمِنُونَ» .
ورده ابن عرفة: بأنه إخبار بالمعلوم فيمتنع كما امتنع أنّ
الذاهبة جاريته مالكها، لأنّهم فسّروا: يتلونه «بمعنى يتبعونه
بامتثال أوامره ونواهيه، وهذا هو حقيقة الإيمان به. لكن قال:
هذا إنما يلزم إذا جعلنا الهاء من» به «عائدة على الكتاب، وأما
إن أعدناها على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو
على» الهُدَى «فيتم له ما قال.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن الحال من شرطها الانتقال فالتلاوة
غير لازمة؟
فقال: الإخبار عن (المبتدإ) إنما هو (بصفته) والحال من صفته
فإذا انتقلت انتقل الخبر.
قال ابن عرفة: وفي الآية رحمة وترجّ لكونها لم يذكر فيها إلا
من آمن بالكتاب ومن كفر به، ويبقى من كان في زمن الفترة
والمجانين والصغار مسكوتا عنهم لم يتناولهم هذا الوعيد. وجاءت
الآية مفصولة بغير عطف غير موصولة مع أنهم شرطوا في ذلك اختلاف
الجملتين بأن تكون إحداهما طلبية، والأخرى خبرية وكذا الأمر
والنهي وهاتان متفقتان في الخبر لكنهما مختلفان.
(1/411)
يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)
قوله تعالى: {اذكروا نِعْمَتِيَ التي
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ... }
ذّكرهم بنعمة واحدة إشارة إلى أن التذكير باستحضار النعم
الكثيرة من حيز المحال (تكليف) بما لا يطاق فلا يطيقون إلا
الشكر على النعمة الواحدة.
(1/411)
قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
العالمين} .
أي فضلت أمتّكم على الأمم: إمّا على أمم زمانكم لأن بعثة موسى
عليه السلام لم تكن عامة لجميع الناس فكان في زمانه أمم أخرى،
وإما على جميع الأمم التي قبله وبعده فتدخل فيه أمة سيدنا محمد
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لكثرة ما كان في زمن بني
إسرائيل من الأنبياء. وليس المراد ب «العَالَمِينَ» جميع
النّاس لأن سيدنا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
أفضل الخلق (على الإطلاق) .
(1/412)
وَاتَّقُوا يَوْمًا
لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ
مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ
يُنْصَرُونَ (123)
قوله تعالى: {وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ
... } .
جعله ابن عطية من باب «على لاحب يهتدي بمنارة» .
(1/412)
وَإِذِ ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ
لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
قوله تعالى: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ... }
والعامل/ في إذ (مضمر) أي (اذكر) إذ ابتلى، ويعمل فيها عمل
الفعل في المفعول به ولا عمله في الظرف لأنه يستحيل ذكره في
ذلك الوقت. وقرئ برفع «إِبْرَاهِيمُ» ونصب «رَبَّهُ» ومعناه
ابْتَلَى (ابراهيمُ) إجابة ربه، أي اختبر حاله عند ربه.
قيل لابن عرفة: فهل يجوز أن يختبر المكلف حاله عند ربه؟
(1/412)
فقال: أما عند الاضطرار فجائز كما في حديث
الثلاثة الذين أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت عليهم
من (أعلى الجبل) صخرة فسدت (فم) الغار فقالوا: تعالوا يتوسّل
كل واحد منا إلى الله بأفضل عمل عمله، الحديث أخرجه الصحيحان.
قال: وكذلك عند الضرورة الظاهر الجواز.
قال الإمام فخر الدين هنا: والجمهور على أن إمامة الفاسق حال
فسقه لا تجوز، واختلفوا في الفسق الطارئ هل يبطلها أم لا؟
قال: وخطأ أبو بكر الرازي من نقل عن أبي حنيفة إجازة كونه
خليفة وامتناع كونه قاضيا.
قال: فإن شرط كل واحد منهما العدالة.
وفي الإكمال للقاضي عياض في كتاب الإمارة قال المازري: وإذا
عقد الإمام على وجه صحيح ثم فسق وجار بأن كان يكفر وجب خلعه،
وأما بغيره من المعاصي فلأهل السنة لا يخلع، وللمعتزلة يخلع.
عياض: الاختلاف أنها لا تنعقد لكافر ولا تدوم إن طرأ عليه
الكفر، وكذا إن كان يترك الصلاة والدعاء لها، وكذا عند الجمهور
بالبدعة ولبعض البصريين أنها لا تنعقد للمبتدع وتدوم له
للتأويل.
عياض: لا تنعقد ابتداء للفاسق بلا تأويل، وهل يخرج منها
بمواقعة المعاصي أو لا؟
(1/413)
قال جمهور أهل السنة من الفقهاء والمحدثين
والمتكلمين: لا يخلع (بالظلم) والفسق وتعطيل الحقوق، ويجب وعظه
وترك طاعته فيما لا يجب فيه طاعة.
وقال بعضهم: يجب خلعه، وهذا مع القدرة فإن لم يقدر على ذلك إلا
بفتنة وحرب فاتفقوا على منع القيام عليه.
واحتج الزمخشري بهذه الآية على أن الفاسق لا يصلح للامامة.
قال ابن عرفة: لا دليل فيها، وفرق بين نيل العهد للفاسق وتعلقه
به وبين انعقاد الإمامة للفاسق. فنقول: أمّا ابتداء فلا يصح أن
يَلِي الإمامة الفاسق. وأما بعد الوقوع فتنعقد له الإمامة كما
قالوا في البياعات الفاسدة: إنما تمنع ابتداء فإن وقعت مضت
وحكم لها بحكم الصحيح.
قيل لابن عرفة: كيف هذا مع قول الله تبارك وتعالى {ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} فقال: يكون الاصطفاء (لنفسه) فقط لا
مطلقا.
(1/414)
وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت
مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً واتخذوا مِن مَّقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ... }
أي محل رجوع، والرجوع ليس هو باعتبار الشخص الواحد المعين بل
باعتبار الأنواع (فيحج) واحد ولا يرجع، ويحج آخر. ويحتمل أن
يراد بالشخص الواحد المعين لكن لا يتناول إلا الأفاقِي فإنه
يطوف طواف القدوم ثم يرجع إلى البيت فيطوف طواف الإفاضة.
واتفقوا على أنه ليس المراد بالبيت حقيقة بل ما حولها فمن دخل
المسجد الحرام فهو آمن.
قوله تعالى: {وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن
طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود} .
ابن عطية: عن عطاء وغيره: الطائفون أهل الطواف، وعن ابن جبير:
الغرباء الطارئون على مكة والعاكفون أهل البلد المقيمون. وعن
عطاء: المجاورون بمكة الذين عكفوا بها فأقاموا لا يبرحون.
وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المصلون وعن غيره
المعتكفون.
قال الزمخشري: المعتكفون الواقفون يعني القيام في الصلاة.
(1/415)
قال ابن عرفة: وقدم الطائفين لقرب الطواف
من البيت (واختصاصه) به والعكوف في سائر البلد، وإن أريد به
الاعتكاف فهو أحرى لأنه يكون فيه (وفي) كل مسجد تصلى فيه
الجمعة ثم الرّكوع والسجود لأنه يكون في سائر المساجد والمواضع
الطاهرة.
وقال السماكي: لأن العكوف يخص موضعا واحدا من المسجد والطواف
يكون بجميع البيت فهو أعم والأعم قبل الأخص. قال وجمع:
(الطائفين) جمع سلامة لأنه أقرب إلى لفظ بمنزلة يطوفون للاشعار
بعلة تطهير البيت وهو حدوث الطواف وتجرده ولو قيل: الطواف: لم
يفد ذلك لأن المصدر يخفي ذلك، وجمع العاكفين جمع سلامة لقربهم
من البيت كالطائفين بخلاف الركوع والسجود فإنّه لا يلزم أن
يكون في البيت ولا عنده، فلذلك لم يجمع جمع سلامة ولم يعطف
(السجود على الركوع) لأنّ الرّكع هم السّاجدون ومن لم يسجد
فليس براكع شرعا، ولأن السجود يكون مصدر «سَجَدَ» ويكون جمع
«سَاجِد» ولو عطف لأوهم أنه مصدر.
فإن قلت: هلا قيل: السجّد، كما قيل: الركع، قال الله تعالى:
{رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} قلت: يراد
بالسجود وضع (الجبهة على) الأرض ويراد به الخشوع ولو قيل
(السجَّد) لم يتناول إلا السجود المرئيِ
(1/416)
بالعين، فقيل: السجود ليعم المعنوي والحسي
بخلاف الركوع. وجعل السجود وصفا له لأن الخشوع روح الصلاة
وسرها.
(1/417)
وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ
قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (126)
قوله تعالى: {رَبِّ اجعل هذا
بَلَداًءَامِناً ... }
قيل لابن عرفة: إنه دعا بصيرورته بلدا آمنا، فظاهره أنه لم يكن
حينئذ بلدا فدعا (هنا بصيرورته بلدا ثم بعد حصوله بلدا دعا بما
في) سورة إبراهيم؟
فقال: إنك تقول: رب اجعل هذا رجلا صالحا، فلم تدع بحصول
الرجولية له بل بكونه صالحا.
قيل له/ قد ذكروا في الجواب عن معارضة الآيتين أنه لم يكن
حينئذ بلدا فدعا هنا بصيرورته ثم بعد حصوله بلدا دعا بما في
سورة إبراهيم؟
فقال: الظاهر أنه كان في موطنين فقال أولا: {رَبِّ اجعل هذا
بَلَداًءَامِناً} ثم أعاد الدعاء في إبراهيم إما لأنه استجيب
له وطلب دوام الأمن، أو تأخرت الإجابة وأعاد الدعاء تأكيدا،
وإن كان ذلك منه في موطن (واحد) فيشكُل فهم الآيتين لأنه إن
كان نطق به معرّفا فلِمَ حكى منكّرا، وإن قاله منكّرا فلِمَ
حكي معرّفا؟ ومنهم من أجاب بانه على حذف الصفة أي اجعل هذا
البلد آمنا، وخص بعض ذريته بالدعاء دون بعض إما لأنه علم أن
(فيهم) الظالمين أو لأن الله أوحى إليه بذلك أو لأن هذا اسلام
أخص فخصص البعض (به دون البعض) .
(1/417)
وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (127)
قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ
... }
قال: إنما فصل بين إسماعيل وإبراهيم بالمفعول (ليظهر كمال
المباينة بينهما) لأن إبراهيم هو متولي البناء وهو الذي كان
يضع الحجر في الحائط وإسماعيل إنما كان يناوله خاصة.
قوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ ... }
مع قوله: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} دليل واضح لأهل
السنة في قاعدة الكسب لأن مجرد الدعاء بقبول العمل دليل على أن
العبد مستقل بفعله والدعاء (بتحصيل) الإسلام دليل على سلب
القدرة على العبد فالجمع بينهما موضح لقاعدة الكسب.
(1/418)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
قوله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً
مُّسْلِمَةً ... }
تقدم أن الواحد يطلق عليه «أُمَّة» وفيه تناقض كلام ابن الخطيب
في المحصول.
قوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ... }
المراد به موضع الهدى، وأما النسك فيذبحه حيث شاء من البلاد.
قوله تعالى: {وَتُبْ عَلَيْنَآ ... }
الصواب فيه انه باعتبار الانتقال من مقام إلى مقام أعلى منه
(فيرى) في ذلك نقصا (يقتضي) التوبة لأن الكبائر (
(1/418)
تستحيل) على الأنبياء، وكذلك صغائر الخسة
بإجماع، ويحتمل أن (يريد) (أعطنا ثواب التائبين.
فإن قلت: الرحمة سبب في التوبة فلَِم أخرها عنها؟
قلت: لأن الرحمة) وسيلة والتوبة مقصد والمقصد أشرف من الوسيلة.
(1/419)
رَبَّنَا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
قوله تعالى: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ
رَسُولاً مِّنْهُمْ ... }
إعادة النداء للاهتمام بالسبب وزيادة «مِنهُم» تنبيه على عموم
رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في العرب لأن ضمير
الذرية يعم العرب والعجم لأن بعض كفار قريش زعم أنه لم يرسل
إليهم.
قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ
... }
هذا جاء على الأصل في تقديم العلم أولا ثم (العمل) به لأن
العلم شرط في العمل، ولذلك قال: كل شيء يمكن حصوله للولي
الجاهل إلا العلم، لأن العلم لا يحصل له إلا بالتعلم وما يحكى
في بعض المسائل عن الشيخ الصالح أبي الحسن علي الشاذلي وغيره
إنما هي مسائل جزئية يمكن أن يطلعه الله على حكمها في مرآة
يراها مسطورة بين يديه، فيجيب بما فيها، إنما العلم الكلي من
حيث هو بحيث (يتصدى) لإقرائه وتعلمه فلم يوجد في العادة لأحد (
(1/419)
بوجه) ، كذا كان بعض الشيوخ يقول.
وقدم هنا وفي الحزب الذي يليه بعده «يُعَلِّمُهُمُ»
«يُزَكِّيهِمْ» ، وآخّره في سورة الجمعة.
كان الشيخ محمد بن عبد السلام يقول: إنه بحسب المجالس فحيث
تقدم التعليم تكون تلك الآية نزلت عليه بمحضر الخواص ومن هو
أهل للتعليم، فيكون التعليم أَهَمّ، وحيث تقدم التزكية تكون
الآية نزلت عليه في موضع أكثره عوام، فتكون التزكية في حقهم
أهمّ.
قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} .
(لَمْ) يَقُلْ: الغفور الرحيم لأن العزيز هو الذي ينفذ مراده
ولا ينفّذ فيه مراد (أحد) والحكيم هو الذي تضمنه قوله تعالى:
{الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقوله {وكانوا
أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا}
(1/420)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ
مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ
اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ
إِبْرَاهِيمَ ... }
الاستفهام في معنى النفي، أى لا يرغب إلا السفهاء، وهذا إن كان
المراد عقائد التوحيد فالملل كلّها متفقة على ذلك وخصص منها
(1/420)
ملة إبراهيم لشرفها واجتماع جميع الملل على
اتباعها، وإن كان المراد به شريعته والأحكام الفرعية فلا شك
أنها منسوخة (فالمراد) من يرغب عنها قبل (تقرر نسخها) .
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين}
الآخرة هي التي يظهر فيها فائدة الصلاح في الدنيا. انتهى.
(1/421)
إِذْ قَالَ لَهُ
رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
(131)
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ
أَسْلِمْ ... }
قال: هذا إما قول حقيقة بعد رؤية الكوكب والقمر والشمس وإما
بمعنى الإلهام إلى/ ذلك وخلقه في قلبه بنصب الدلائل العقلية
عليه.
قوله تعالى: {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين}
إقرار بالحكم ودليله فلذلك لم يقل: أَسْلَمْتُ لَكَ.
(1/421)
أَمْ كُنْتُمْ
شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ
لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ
إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
قوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ
حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت ... }
(1/421)
ولم يقل: أم كنتم حضورا، لأن لفظ الشهادة
تفيد الضبط والإحاطة بعلم الشيء.
فإن قلت: مفهوم الآية أنهم لو حضروا لذلك لصح لهم الاحتجاج به
مع أنه حجة عليهم لأن يعقوب إنما أوصى بنيه بعبادة الله سبحانه
وتعالى وتوحيده؟
فالجواب: أن المعنى: أم كنتم شهداء إذ قال ذلك، أم تقولون هذه
المقالة وتدعون أنه أوصاهم (بغير ذلك) .
قال ابن عرفة: لأن هذا الاستدلال على سبيل التقسيم عليهم
والتنزل معهم على عادة المستدل، فأبطل قولهم بالدليل العقلي ثم
احتج عليهم بالدليل السّمعي النّقلي فقيل لهم: أحضرتم لوصية
يعقوب لبنيه، وتزعمون أنها كانت موافقة (لدعواكم) ، أي ما لكم
دليل عقلي ولا نقلي.
وتقديم يعقوب وهو مفعول على الموت للاهتمام لأنّ الآية (نزلت)
في معرض إقامة الحجة على الكفار وإقامة الحجة إنما هي بإسناد
الأمر إلى يعقوب لا للموت.
قال ابن عطية: والمعنى إذا حضر يعقوب مقدمات الموت، وإلا فلو
حضره الموت لما قال شيئا.
قال ابن عرفة: لا يحتاج إلى هذا إلا لو قيل إِذْ نَزَلَ
(بيعقوب) الموت. وأما حضور الموت فهو أعم من (نزولها) و
(مقاربة) نزولها.
(1/422)
قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ ... }
قال الزمخشري: «مَا» علم في كل شيء فإذا (علم) فرّق ب «ما» و
«من» وكفاك دليلا قول العلماء «مَنْ» لما يعقل ولو قيل: من
تعبدون، لم يعم إلا أولي العلم وحدهم.
قال ابن عرفة: إن قلت: جعل «مَا» عامة تقع على «مَا» وعلى
«مَنْ» فتقسم الشيء إلى نفسه وإلى غيره؟
(قلتُ) : جعلها مشتركة بين الأعم والأخص، فتارة وضعت لأن تدل
على كل شيء وتارة وضعت للاختصاص بمن يعقل. فإن قلت: كيف قال
«من» لما يعقل فأطلق «ما» على العاقل وهي لا تصدق عليه إلا مع
غيره؟
قلنا: عادة الطلبة يجيبون بأنّها إنّما أطلقت عليه مقيدا
بالعقل وإنما تخص غير العاقل عند عدم القرينة كقولك: رأيت ما
عندك.
الزمخشري: ويجوز أن يقال «مَا تَعْبُدُونَ» سؤال عن صفة
المعبود.
وضعفه ابن عرفة لقولهم «نَعْبُدُ إلهك» فلم يجيبوا بالصفة
وإنما يصح ذلك لو قالوا: نعبد القادر السميع البصير.
فإن قلت: لم قال: «من بعد» فاتى ب «من» المقتضية لأول الأزمنة
البعدية مع أنه لا يتوهم مخالفتهم ورجوعهم عن دينهم إلا بعد
طوال الزمان (وأما) بالقرب من موته فلا يزالون متَّبعين له
ومقتفين (لآثاره) ؟
(1/423)
قال الغاسل: عادتهم يجيبون بأن الآية أتت
في معرض الرّد على اليهود، وهم يدعون أنهم متبعون لآبائهم فذكر
لهم الوجه الذي يصدق على أولاد يعقوب أنهم متبعون له وذلك لا
يصدق إلا بأول أزمنة البعدية، وأما (ما) بعد ذلك فقد يقال:
إنّهم لم يتبعوا، بل تناسوا الأمر واتبعوا غيره والزمن القريب
من موته يقوى فيه وجه الاتباع.
قوله تعالى: {وإلهءَابَآئِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ...
}
قال ابن عرفة: إن أجزنا استعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه
(فالعم) يطلق عليه أب مجازا.
وجعله الزمخشري حقيقة واستشهد بحديث: «عم الرجل صنو أبيه»
وبقوله في العباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «هذا بقية آبائي» .
ابن عطية وقال: «أنا ابن الذبيحين» قال: وعلى القول المشهور في
أنه إسحاق. وهو قول مالك في العتبية، وإن كان اختيار ابن عطية
في غير ما موضع أنّه إسماعيل وجعله أصح من القول الآخر، والوصف
بقوله «وَاحِداً» دليل على أن لفظ الإلاه كلي ولذلك كان دليل
الوحدانية نظريا وإلاّ (كان يكون) ضروريا.
(1/424)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ
خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا
تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ
لَهَا مَا كَسَبَتْ ... }
ابن عطية: رد على الجبرية القائلين بأن العبد لا قدرة له وأنه
كالميت بين يدي الغاسل.
(1/424)
زاد القرطبي: أن فيها ردا على المعتزلة
القائلين بأن العبد يستقل (بفعله) لأن الآية دلت على الكسب لا
على الخلق والاختراع.
قال ابن عرفة: إن كان الكسب في اللغة هو الذي اصطلح عليه
المتكلمون، فما قاله حق وإلا لم يتم له ذلك.
قوله تعالى: {وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ ... }
قوله تعالى: {وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
فيه حذف، أي ولا يُسْأَلُونَ هم عما كنتم تعملون.
قال أبو حيان: «لَهَا مَا كَسَبَتْ» يجوز أن يكون حالإ من
الضمير في «خَلَتْ» ويضعفه عطف «وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ»
عليه، لأنها تكون حالا، وعطف الحال على الحال يوجب اتحاد
الزمانين وزمان استقرار (الكسبين) مختلف.
وأجاب ابن عرفة بكون الثانية حالا مقدرة مثل، مررت برجل معه
صقر صائدا به غدا، أي قد خلت حالة كون (لها) ما كسبت وحالة كون
(لمن) بعدها ما يكسب على تقدير (اكتسابه) .
(1/425)
وَقَالُوا كُونُوا
هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
قوله تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً
أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ ... }
قال ابن عرفة: هذا قياس استثنائي (في) قوة كلامهم (فيه) أنهم
قصدوا استثناء غير المقدم فينتج عَين التالي وينتفي الثاني
لانتفاء الأول، أي إن لم تكونوا هودا لم تهتدوا لكنكم لستم
بهود فلستم بمهتدين.
وقاعدة الأصوليين استثناء عين التالي وينتفي/ الأول لانتفاء
(الثاني) حسبما نص عليه ابن التلمساني في كتاب القياس فيجيء
تركيبه: إن لم تهتدوا تكونوا هودا، وليس هو مرادهم بل مرادهم
أن الهداية لازمة لدين اليهودية.
والجواب: أنهما متساويان إذا انتفى أحدهما لزم منه انتفاء
الآخر والإضراب ب «بل» إبطال.
فإن قلت: هلا قيل: وما كان مشركا، فهو الأخص لأن نفي الأعم أخص
من نفي الأخص لأنه يستلزم نفي الأخص؟
فالجواب أن النفي ورد على (وفق) دعواهم و (هم) ما ادعوا إلا
أنهم متّبعون له وأنه كان على دينهم وهم مشركون لقولهم: عزير
بن الله والمسيح ابن الله وادعائهم (التجسيم) . والخطاب بقوله:
{قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ... } لجميع الناس خوطب به كل
واحد على
(1/426)
حدته وهو أولى من جعله خطابا للنبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه مقابل لقول أتباع موسى وعيسى
فيقابلون بقول أتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
(1/427)
قُولُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
قوله تعالى: {قولواءَامَنَّا بالله}
قال ابن عرفة: فيه دليل على أن من قال: أنا مؤمن، لا يحتاج إلى
زيادة: إن شاء الله، وهو قول سحنون.
قلت: قال ابن بطال في أوائل شرح البخاري هو قول ابن عبد
الرحمان السلمي، وعطاء، وسعيد بن جبير، وإبراهيم التميمي وعون
ابن عبد الله، (ورأى) زيادة الاستثناء ابن عبد الحكم وحمديس
وابن عبدوس وأحمد بن صالح الكوفي.
قلت: ونقل لي بعض الطلبة عن الركراكي بالقيروان وكان صالحا أنه
قال: لا أماته الله على الإسلام إن كان يعتقد أنه مسلم.
(1/427)
(قال: فسألت الفقيه أبا عبد الله محمد بن
محمد بن سلامة. فقال: مراده إن كان يعتقد أنّه كامل الإسلام.
وقال لي شيخنا الفقيه أبو العباس أحمد بن إدريس: إنما أراد ما
في حديث: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده»
قال ابن عرفة: والصواب أنه إن أراد: أنا مؤمن في الحال، لم
يحتج إلى زيادة: إن شاء الله تعالى، وإن أراد المستقبل فلا بد
من زيادة إن شاء الله، وهذه الآية إما خبر أو إنشاء فإن كانت
خبرا فهو ماض لا يحتاج فيه إلا الاستثناء لأنه محقق عنده، وإن
كان إنشاء فمدلولها حق صح الإخبار عنه على ما هو عليه من غير
استثناء لأنه حق.
(ابن عرفة) . والمسألة المتقدمة مذكورة في الفقه وفي المعالم
الفقهية.
وقال أبو حيان: هنا في إبراهيم وإسماعيل (يجوز) أن يجمعا جمع
سلامة فيقال: (ابراهيمون) وإسماعيلون.
قال ابن عرفة: كان بعضهم يمنع ذلك (فيه) لأنه عجمي. والله
أعلم.
(1/428)
قال الزمخشري: والأسباط حفدة يعقوب عليه
السلام (ذرارى) أبنائه الاثني عشر.
وقال ابن عطية: (هم أولاد) يعقوب وهم روبيل وشمعون ويهودا
وداني ولاوى وكرد.
قلت: وتقدم لنا في الختمة التي قبل هذه قال بعض الطلبة لابن
عرفة: ما الحكمة في تخصيص أول الآية بلفظ الإنزال و (ثانيها)
بالإيتاء؟
فقال: لفظ الإنزال صريح فيما أنزل من أعلى إلى أسفل، ولفظ
الإيتاء محتمل لأن يكون من اليمين والشمال والأمام والعلو،
والنصارى (مؤمنون) بما أنزل على عيسى، واليهود (مؤمنون) بما
أنزل على موسى لأنهم لا احتمال عندهم فيه ولا شك، ولما كانوا
شاكين في المنزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
وعلى آل إبراهيم وما بعده وبعضهم يدعي أنهم (تلقوه) من الكهان،
أتى فيه باللفظ الصريح الدال على نزوله من أعلى إلى أسفل ولهذا
قال: {وَمَآ أُوتِيَ النبيون مِن رَّبِّهِمْ} لينفي هذا
الاحتمال، فعورض بوجهين:
-
(1/429)
الأول قال بعض الطلبة: السحر إنما يتلقونه
من الشياطين المسترقين للسمع فهو من أعلى إلى أسفل فلا احتمال
في الإنزال كالاحتمال في الإيتاء.
- الوجه الثاني: قلت: (إذاً) إنّ النصارى كافرون بما أنزل على
موسى واليهود بما أنزل على عيسى فالاحتمال لم يزل أقال في هذه:
{وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} وفي آل عمران {قُلْءَامَنَّا بالله
وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا} قال ابن الخطيب: إنّ «على» صريحة في
حصول الشيء من فوق «وإلى» يحتمل حصوله من إحدى الجهات السْبب.
والخطاب في قوله «ءَامَنَّا» بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ والقرآن أنزل عليه حقيقة من السماء. والخطاب هنا
للمؤمنين، وإنما حصل لهم القرآن من النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (ولم يحصل) لهم من فوق.
وأورده الزمخشري في آل عمران، وأجاب بأن الوحي يتنزل من فوق
وينتهي للرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر، قل ومن
قال علينا لقوله قل: «إِلَيْنَا» لقوله «قُولُواْ» فقد تعسف،
ألا ترى إلى قوله «بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ» وإلى قوله {ءَامِنُواْ بالذي أُنزِلَ عَلَى
الذينءَامَنُواْ} وأجاب ابن عرفة بجواب آخر: وهو أن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما كان خاطره إلى العالم
العلوي أميل، إذ في السّماء الجنّة والعرش والكرسيّ والملائكة،
ناسب تعدي الإنزال إليه ب «على» ليشعر
(1/430)
بإتيانه من الجهة الشريفة المحبوبة بخلاف
هذه فإنّ فيها «قُولُوا» وهو خطاب له ولغيره.
وأجاب ابن عرفة وبعض طلبته عن تخصيص أول الآية بالإنزال وآخرها
بالإيتاء بأنه لما/ كان ظهور المعجزات الفعلية على يد موسى
وعيسى أكثر (وأشهر) من ظهورها على يد إسحاق ويعقوب وإبراهيم
لأن موسى ضرب البحر فانفلق، وألقى العصا فعادت ثعبانا، وأخرج
يده فصارت بيضاء من غير سوء، (ورفع) من على البئر الصخرة لابنة
شعيب، ووضع ثوبه على حجر، ودخل النهر فمضى الحجر به فتبعه وهو
يقول: ثوبي حجر.
وعيسى كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله، فناسب
لفظ الإيتاء سَيدَنَا إبراهيم عليه السلام وأولاده فإن
اشتهارهم بإنزال الوحي أكثر من اشتهارهم بالمعجزات.
(1/431)
فَإِنْ آمَنُوا
بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ
اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
قوله تعالى: {فَإِنْءَامَنُواْ بِمِثْلِ
مَآءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ
فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ... }
قال ابن عرفة: الباء: إما للسبب والمراد أسباب إيمانكم وهي
البراهين والمعجزات، أو للتعدية (به) والمراد متعلق الإيمان
وهو الإلاه؛ فإن كان للسبب فواضح أي «فَإِنْءَامَنُوُاْ» بسبب
مثل الأسباب التي أرشدتكم أنتم إلى الإيمان فقد اهتدوا، وإن
أريد متعلق الإيمان فمشكل.
(1/431)
قال ابن عطية: فقيل الباء زائدة (وقيل مثل
الزائدة) وقيل: إنَّه مجاز والمراد (من مثل) الشيء ذات الشيء
كقولك: مثلك لا يفعل هذا.
زاد الزمخشري: أنه تبكيت لهم كقولك: هذا هو الرأي، فإن كان
عندك أصوب منه فاعمل عليه وقد علمت أنه لا أصوب منه.
فإن قلت: هلا قيل: فَإِنْءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنتُم بِهِ
كما قيل: فَإِنَّمَا هم «مهتدون» ، كما قيل {فَإِنَّمَا هُمْ
فِي شِقَاقٍ} ؟ قلنا هذا تأكيد في التنفير عن دين الكفر
واهتمام لتخفيف جانب الخوف على جانب الرجاء.
قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله ... }
يتضمن كفاية شرهم وقتالهم (وكلّ ما) يصدر عنهم من المضار وهو
أبلغ من (أن) لو قيل: فسيكفيك الله شرّهم. وقول الله كفايته
إياهم بنفسه اعتناء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ.
قوله تعالى: {وَهُوَ السميع العليم} .
الزمخشري: وعيد لهم أو وعد للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام ُ.
(1/432)
قال ابن عرفة: بل هما معا فهو وعد ووعيد.
(1/433)
صِبْغَةَ اللَّهِ
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ
عَابِدُونَ (138)
قوله تعالى: {صِبْغَةَ الله وَمَنْ
أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً ... }
قال ابن عرفة: هذا في معنى: الله أحسن صبغة من غيره مثل:
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} أي الله من أصدق من
غيره. قال: وهذا التركيب يرد على وجهين تقول: زيد أحسن القوم،
وتقول: لا أحسن من زيد في قومه، فيقتضي الأول نفي الأعلى
والمساوي (ويقتضي) الثاني نفي الأعلى فقط.
قال الزمخشري: وانتصاب «صِبْغَةً» على أنّه مصدر مؤكد وهو الذي
ذكره سيبويه، والقول ما قالت حذام.
قيل لابن عرفة: هذا هو معرفة الحق بالرجال؟
فقال: نعم الذين لا يعرف الحق إلا منهم، وهذا صواب. انتهى.
قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}
راجع للعمل {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} للإيمان الاعتقادي
التوحيدي فتضمنت الآية العلم والعمل.
(1/433)
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا
فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا
وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي
اللَّهِ ... }
سماها حجة مجازا وإنما هي شبهة وليست حجة بوجه.
(1/433)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ
أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ
شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ... }
(1/433)
«أَمْ» إما متصلة والمعنى: أي الأمرين
تأتون المحاجة في حكم الله أم ادعاء اليهودية والنصرانية على
الأنبياء، وخلط هنا مقالتهم مع أن اليهود ادعوا على الأنبياء
دين اليهودية فقط؛ وإما منفصلة والإضراب انتقل إلى ما هو (أشد)
وأشنع.
قال ابن عرفة: وقوله: {قُلْءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله ... }
دليل على أنها منقطعة لأنه رد عليهم في المقالة الثانية فقط أي
لم يكونوا كذلك.
وقوله «أَمِ اللهُ» إما على ظاهره أو المراد به أمْ رسول الله،
كما قال الله جل ذكره: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا
يُبَايِعُونَ الله} وهو على سبيل التنزل معهم والإنصاف (أو) من
باب تجاهل العارف
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ
مِنَ الله ... }
جمعه مع {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله} ومع
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله} يقتضي التساوي إلا
ما دل الدليل على (التفاوت) فيه (بل أقوالهم تضمنت كتم الشهادة
فيقال: إنما علق الظلم على الكتم ليعلم أن شهادة الزور أعظم
جريمة فقد وعده بالعذاب على الوجهين (ووبخوا) بفعل ما ارتكبوا
من ذلك) والشهداء على ثلاثة أقسام: شاهد بالحق، وشاهد
(1/434)
بالزور، وكاتم للشهادة، فلا يشهد بشيء) مع
علمه بها. وهؤلاء شهدوا بالزور ولم يكتموا الشهادة فقالوا:
{كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى} فعلق الحكم على الأخف ليفيد
العقوبة على ما هو أشد منه من باب أحرى.
قال الزمخشري: ويحتمل أن يرجع للمؤمنين، أي لو كتمنا الشهادة
لم يكن أحد أظلم منا فلا يكتمها.
قوله تعالى: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
من باب السلب والإيجاب لا من باب العدم والملكة.
(1/435)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ
خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا
تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ
... }
راجع للأنبياء والأمم السالفة.
قيل لابن عرفة: هم إنما ادعوا أنهم ينتفعون بعلمهم / لا أنهم
يسألون عن (علمهم) فقالوا: كونوا على ديننا، ونحن متبعون لهم
لننتفع بعلمهم. فهلا قيل: ولا (ينفعهم) علمهم؟
فقال: هذا (استدلال) أي اعلموا أنّهم (لم يضركم عملهم) فكما لا
يضركم كذلك لا ينفعكم، أو يكون فيه حذف أي لا تُسألون عما
كانوا يعملون ولا يُسألون هم عما (أنتم) تعملون.
(1/435)
قلت: وتقدم في الختمة الأخرى قال بعض
الطلبة {قُلْءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} يقتضي نفي العلم
عنهم، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً
عِندَهُ مِنَ الله} يقتضي ثبوت العلم لهم إذ لا يكتم إلا من
علم؟
فأجيب بوجهين:
الأول: {ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ} لا يقتضي نفي العلم بل مقتضاه أن
العلم الحاصل لهم لا يقارب علم الله ولا يدانيه.
الثاني: أن العلم المنفي أولا غير المثبت آخرا، فالمنفي هو
العلم بأنّهم كانوا هودا أو نصارى، والمثبت الّذي (ذُمّوا) على
كتمه هو العلم بأنّ إبراهيم كان (حنيفا) مسلما، فهم أولا
ادّعوا ما لا يعلمون (ثم كتموا ما يعلمون) .
(1/436)
قلت: وتقدم في الختمة الأخرى قال بعض
الطلبة {قُلْءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} يقتضي نفي العلم
عنهم، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً
عِندَهُ مِنَ الله} يقتضي ثبوت العلم لهم إذ لا يكتم إلا من
علم؟
فأجيب بوجهين:
الأول: {ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ} لا يقتضي نفي العلم بل مقتضاه أن
العلم الحاصل لهم لا يقارب علم الله ولا يدانيه.
الثاني: أن العلم المنفي أولا غير المثبت آخرا، فالمنفي هو
العلم بأنّهم كانوا هودا أو نصارى، والمثبت الّذي (ذُمّوا) على
كتمه هو العلم بأنّ إبراهيم كان (حنيفا) مسلما، فهم أولا
ادّعوا ما لا يعلمون (ثم كتموا ما يعلمون) .
(2/447)
قلت: وتقدم في الختمة الأخرى قال بعض
الطلبة {قُلْءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} يقتضي نفي العلم
عنهم، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً
عِندَهُ مِنَ الله} يقتضي ثبوت العلم لهم إذ لا يكتم إلا من
علم؟
فأجيب بوجهين:
الأول: {ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ} لا يقتضي نفي العلم بل مقتضاه أن
العلم الحاصل لهم لا يقارب علم الله ولا يدانيه.
الثاني: أن العلم المنفي أولا غير المثبت آخرا، فالمنفي هو
العلم بأنّهم كانوا هودا أو نصارى، والمثبت الّذي (ذُمّوا) على
كتمه هو العلم بأنّ إبراهيم كان (حنيفا) مسلما، فهم أولا
ادّعوا ما لا يعلمون (ثم كتموا ما يعلمون) .
(2/448)
سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ
الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(142)
قوله تعالى: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس
... } .
جعله الزمخشري مستقبلا حقيقة، قال: وفائدة الإخبار به قبل
وقوعه لأن مفاجأة المكروه أشد والعلم به قبل وقوعه أبعد من
الاضطراب إذا وقع.
قال ابن عطية: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وغيره أنه
مِنْ وضع المستقبل موضع الماضي (لدلالته على دوام) ذلك
واستمرارهم عليه.
قال ابن عطية: وإنّما قال {مِنَ النَّاسِ} لأن السّفيه يكون من
الجمادات والحيوانات، (يقال) : ثوب سفيه أي خفيف النسج.
ورده ابن عرفة بأنّ القول المسند إليه في الآية يخصصه
بالحيوان.
قال: وإنما عادتهم يجيبون بأمرين: أحدهما أنه لو لم يذكر
لاحتمل كون هذا القول من الجن وكان يكون (ضمير) الغيبة في
قوله: {مَا وَلاّهُمْ عَن قِبلَتِهِمْ} مرجحا لهذا الاحتمال.
ويقال: لو كان من (الإنس) لقيل ما ولاهم عن قبلتكم لحضورهم
معهم، فقيل: {مِنَ النّاسِ} لِيخرج الجن قال الله تعالى:
{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الجِنَّةِ
وَالنَّاسِ}
(2/449)
الثاني أنه (إشارة) إلى أنّ هذا القول صدر
من رؤسائهم وأشرافهم ومن المنافقين الذين آمنوا ظاهرا، أو من
علماء اليهود ولم يصدر من العوام والجهال بوجه وذلك على سبيل
(النفي) عليهم والتبكيت لهم فكفر أي جهل ليس ككفر غيره.
قوله تعالى: {مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمْ ... }
عبر بلفظ الغيبة إشارة إلى أنّهم قالوا ذلك فيما بينهم ولم
يباشروا به المؤمنين بوجه، وهذا مرجح لأن تكون المقالة من
المنافقين.
قال العلامة ابن العربي في القبس: إن هذا مما نسخ ثلاث مرات
وليس في القرآن ما نسخ ثلاث مرات غيره.
قال ابن عرفة: يريد أنه كان يصلي لبيت المقدس ثم نسخ بالصلاة
للكعبة، ثم نسخ فصلى لبيت المقدس ثم نسخ فصلى للكعبة وقيل: كان
يصلي لمكّة ثم صلى لبيت المقدس ثم صلى لمكة فيجيء التحويل ثلاث
مرات والنسخ مرتين.
قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ المشرق والمغرب ... }
(2/450)
أى ليس استقبالهما لذاتهما فيسأل عن سبب
التخلف عنه وإنما ذلك حكم شرعي لا اختيار له فيه بوجه، وفيه
دليل على أن لحكم الشرعي إذا لم تظهر لنا علته فالأصلُ فيه
التعبد.
(2/451)
وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا
جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا
لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ
عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
(143)
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطاً ... }
أي ومثل هدايتنا من (نشاء) إلى صراط مستقيم (هديناكم) إلى
الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن عطية: عن بعضهم؛ خير الأمور أوسطها أي خيارها.
قيل لابن عرفة: لا فائدة في هذا الخير وكأنه قيل: خير الأمور
خيارها؟
فقال: فائدته الحصر (ولو قال) : الخير في الوسط، لم يفد الحصر.
قال ابن عرفة: إنما قال: {عَلَيْكُمْ شَهِيداً} ولم يقل: لكم
شهيدا، لأن شاهد الإنسان مستعمل عليه إذ لا يتم له غرض إلا
بشهادته.
قال الزمخشري: لأن الشهيد كالرقيب المهيمن على المشهود (له) .
(2/451)
قيل لابن عرفة: ذكر الأصوليون خلافا في
إجماع غير هذه الأمة هل يعتبر أو لا؟
وذكر ابن التلمساني وابن الحاجب منه مسائل وهذه الآية تدل على
عدم اعتباره؟
فقال: ذلك الخلاف لا يصح، (والإجماع) (على) انتساخ الملل كلها
بالملة المحمدية.
قيل لابن عرفة: قد تقرر الخلاف في شرع من قبلنا هل هو شرع لنا
أم لا؟
قوله تعالى: {لِّتَكُونُواْ ... } .
قوله تعالى: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ ... } .
قيل: أي ليعلم رسولنا من يتبعه، قال الله تعالى: {إِنَّ الذين
يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} وقيل: إلا ليظهر
متعلق علمنا حقيقة للمجازات عليه وإنما لم يقل: إلا لنعلم من
يتبع الرسول ممن لا يتبعه، زيادة في نفي الشدة عليهم والخسران.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ... }
(2/452)
أي ليضيع أعمالكم. وقيل: إنها حجة على
المعتزلة في أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، إلا أن يجيبوا
بأن إيمانه يذهب بالموازنة.
قوله تعالى: {إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} .
دليل على أنّ الكافر منعم عليه لعموم الناس، وفيه خلاف، وأجيب
بأنه منعم عليه في الدنيا فقط.
قال ابن الخطيب في شرح الأسماء الحسنى: إنما قدم الرؤوف على
الرحيم لأن الرحمة في الشاهد إنما (تحصل) لمعنى وفي / المرحوم
من حاجة (و) ضعف، والرأفة تطلق عند حصول الرحمة لمعنى في
الفاعل من شفقة منه على المرحوم فمنشأ (الرأفة كمال في إيصال
الإحسان ومنشأ) الرحمة كمال حال المرحوم في الاحتياج إلى
الإحسان، وتأثير حال الفاعل في إيجاد الفعل أقوى من احتياج
المفعول إليه.
(2/453)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً
تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
(144)
قوله تعالى: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ
فِي السمآء ... }
قال الزمخشري: قد نرى بما نرى، ومعناه كثرة الرؤية كقوله: قد
أترك القرن مصفرا أنامله (كأن أثوابه مجت بفرصاد) .
(2/453)
أبو حيان: في كلامه تضاد لأن (رُبَّ)
للتقليل عند المحققين، ثم إن اللفظ من حيث (قُرِّر) ليس فيه ما
يدل على التكثير لأن دخول «قَدْ» على الفعل ماضيا (كان) أو
مضارعا لا يفيد هذا المعنى وإنما فهمت الكثرة من التقلب لأنه
يقال: قلّب إذا ردّد.
قال (كاتبه) : كلام الزمخشري عندي صحيح لا تضاد فيه. نبه عليه
في قول الله سبحانه وتعالى {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ}
في جواب الإتيان بلفظ النفس مفردا. قال: هو من عكس كلامهم الذي
يقصدون به الإفراد فيما يعكسونه. ومنه قول الله تعالى:
{رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ}
ومعناه أكثر وأبلغ؟ ومنه قول الشاعر
قد أترك القرن
(البيت المتقدم) . وتقول لبعض قواد العساكر: كم عندك من
الفرسان؟ فيقول: «رب فارس عندي» ، أوْ «لاَ تقَدّم عندي فارس»
وعنده الكثير فيقصد التمادي في تكثير فرسانه ولكنه أراد إظهار
براءته من التزين وأنه (ممن) يقلل كثيرا ما عنده، فضلا عن أن
يزيد. فجاء بلفظ التقليل، ففهم منه لفظ الكثرة. انتهى كلامه.
قلت: فظهر أنّ أبا حيان لم يفهم كلامه ولا أنصفه.
وكان الخولاني يجيب عن الزمخشري بأن (رُبَّ) إذا اقترنت بها
(ما) تكون للتكثير ولا حاجة بهذا وإنما الجواب ما قلناه.
انتهى.
(2/454)
قال ابن عرفة: أي تقلبه في جهة السماء
والرؤية في كل مكان وهو دليل على أن القول من السفهاء مستقبل
غير واقع كما قال الزمخشري. وتنكير القبلة للتعظيم، وفيه دليل
عل أنّ السّماء قبلة للدّعاء، وفيه دليل على جواز القسم على
فعل لأنه لما قال: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} عطفه بقوله
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} إذا ليس مراد
النحويين بالحال الحال العقلي، بل إنما يريدون الحال الحقيقي
أو ما يقرب منه.
قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ... } .
المعتبر في القبلة، فيمن يرى البيت العين، وفيمن يصلي على جبل
أبي قبيس السمت، وفي البعيد عنه الجهة.
قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ ... }
هو دليل على أن الأصل من أفعاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ عدم التأسي حتى يدل الدليل على التأسي ولولا ذلك
لما احتيج إلى قوله: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ} .
قال ابن عرفة: وأجيب بأن القرب مظنة الاستقبال بخلاف البعد.
قال الزمخشري: وقيل كان التحويل إلى القبلة في رجب بعد الزوال
قبل قتال بدر بشهرين ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ بمسجد بني سلمة وقد صلى في أصحابه ركعتين من الظهر
فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب وحوّل الرجال مكان النساء
والنّساء مكان الرجال.
(2/455)
قال ابن عرفة: فيه دليل على أن المعتبر في
النسخ يوم البلاغ لا يوم النزول.
قال القرطبي: وفيه دليل على (جواز نسخ) المتواتر بالآحاد.
قيل لابن عرفة: هذا إن قلنا: إنّ الأصل مشروعية القبلة (كانت)
بالقرآن وقد قيل: إن أصل مشروعيتها بالسنّة؟
فقال: على كلا الأمرين (فكلّه) وحي في زمن النّبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهو متواتر. وكذلك نسخها هو بخبر
واحد اختلفت قرينته في حياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ مع العلم بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «من كذب
عليّ (متعمدا) فليتبوأ مقعده من النار» فيكون محصلا للعلم كخبر
التواتر سواء.
(2/456)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا
قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا
بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ
إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين
أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ آيَةٍ ... } .
قال ابن عرفة: في هذا تهدئة (روعته) صلّى الله عليه وسلم
وتطمين له حتى لا يتهالك على عدم إيمانهم وهو عام في جميع
المعجزات.
(2/456)
قيل لابن عرفة: إن الإمام ابن العربي قال:
لا يناول الآيات النظرية وأما الآيات (الملجئة) الاضطرارية
فلا، لأنّ الإيمان عندها ضروري؟
فقال: بل يتناول الجميع لأنّا نقول: إنّ ربط الدليل بالمدلول
عادي لا عقلي، أو نقول: إن في الجائز: إن يستدل المستدل
بالدليل الصحيح ويعمي الله بصيرته عن العثور على الوجه الذي
يدل الدليل منه، أو نقول: إن الإيمان الاضطراري ليس إيمانا
بوجه ولا يترتب عليه ثواب لأنه ليس للمكلف فيه اختيار. وفي
الآية دليل على أنّ ارتباط الدليل بالمدلول عادي لا عقلي.
وفيها رد على المعتزلة القائلين بمراعاة الصلاح والأصلح وأنّ
الآيات التي يمكن الإيمان عندها قد أتى النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بجميعها وليست القدرة / صالحة لغيرها
فقوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ
آيَةٍ} (دليل على أنه لم يأتهم بكل آية) وأن القدرة صالحة
للإتيان بآيات أخر.
قوله تعالى: {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ... } .
قال ابن عطية: أي جواب (إن) كجواب (لو) وهي ضدها، لأن (لَوْ)
تطلب المضي (والوقوع) و «إِنْ» تطلب المستقبل، والجواب إنما هو
للقسم لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر هذا قول سيبويه. وتعقب
هذا أبو حيان بأن أول كلامه يقتضي أن الجواب لِ «
(2/457)
إن» مع أن قوله بالجواب للقسم (يقتضي) أن
الجواب ليس لِ «إن» .
قال ابن عرفة: إنما ذلك سلب حكم، لا حكم بالسلب فلا تناقض فيه.
قوله تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ... } .
نفى الأول بالفعل وهذا بالاسم ولم يقل: وما أنت تتّبع قبلتهم،
مع أن النفي بالفعل أعم لأنه مطلق، ونفي الأعم يستلزم نفي
الأخص.
قال ابن عرفة: الجواب أن الأول جاء على الأصل في أنهم مصممون
على عدم اتباعه وأما نفيه هو بالاسم فلأن أفعاله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثابتة لازمة فهو إذا اتبع أمرا
ثبت عليه ولا ينتقل عنه فنُفي على حسب ما هو عليه.
قيل لابن عرفة: فيكون هذا نفي أخص؟
فقال: لا. بل ورد النفي عليه على حسب ما وجد إذا لو (وجد)
اتباعه أمرا لما وجد إلا على سبيل الثبوت واللزوم.
قيل: أو يجاب بأنه قد كان تابعا قبلتهم ثم انتسخ ذلك.
فقال: هذه الآية نزلت بعد النسخ و «ما» لنفي الحال، واتّباع
قبلتهم (ماض) .
قوله تعالى: {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ... }
.
(2/458)
لأن اليهود يستقبلون بيت المقدس والنصارى
يستقبلون الشمس من حيث تطلع.
قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتبعت ... } .
راعى ابن عطية الأمر العادي فصرفه عن ظاهره وحمله على غير
النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وراعى الزمخشري الأمر العقلي فأبقاه على ظاهره، وقال: وهو على
حسب الفرض والتقدير من خطاب التهييج والإلهاب.
قوله تعالى: {إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين} .
أي إنك لغريق في الظلم.
قال ابن عرفة: ويحتمل أن يكون هذا من باب السلب والإيجاب مثل
«الحائط لا يبصر» لأنّ النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ
معصوم من اتّباع أهوائهم.
قيل لابن عرفة: لا يصح التكليف بذلك لأنه من تكليف العاجز؟
فقال: الأشياء على ثلاثة أقسام: موجود، وقابل للوجود، ومستحيل.
فالإبصار للحائط غير محال إذ في الجائز أن يخلق الله فيه
الإبصار فيبصر، هذا (هو) مذهبنا، لأنا لا نشترط (البنية) .
(2/459)
وكذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ معصوم من اتّباع (أهوائهم) لكنه (كلف) بذلك. وجعل
ذاته قابلة للاتباع باعتبار اعتقاد الكفار فيها قبول ذلك
وأنّها عندهم غير معصومة لا باعتبار ما في نفس الأمر.
قال ابن عرفة: وفيه دليل على أنّ عقوبة العالم أشد من عقوبة
الجاهل.
(2/460)
الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ
أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
قوله تعالى: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ ... } .
أي يميزونه بصفاته من حيث كونه رسولا. (كما يعرفون) أبناءهم
(من حيث كونهم أبْنَاءهم، أو يكون من تشبيه المركب بالمفرد، أي
يعلمونه بصفاته من حيث كونه رسولا كما يعرفون أبناءهم)
بالإطلاق لا من حيث النسبة كما قال عبد الله بن سلام: إنه لا
يتحقق أن ابنه المنسوب إليه ابنه حقيقة، ويتحقق رسالته صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علما يقينيا.
قال ابن عطية: لم شبّه معرفتهم له بمعرفتهم أبناءهم ولم يشبهها
بمعرفتهم أنفسهم؟
وأجاب بأن الإنسان يتقدم له زمن لا يعرف فيه حال نفسه وهو زمن
الصغر بخلاف ولده فإنه يشاهده من صغره إلى كبره.
(2/460)
قال ابن عرفة: ويحتمل عندي أن يجاب بأن ذلك
التشبيه للمشاكلة لأن الكتاب منفصل عنهم فشبه بما هو منفصل
عنهم وهو الولد بخلاف أنفسهم.
قوله تعالى: {لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
وباقيهم إما يقرون بالحقّ، أو يكتمون الحق وهم يجلهون. وهذا
دليل على أن كفر الأولين عناد.
قلت: تقدم لنا في الختمة الاخرى عن الشيخ الإمام ابن عرفة وهو
أن آخر الآية مناقض لأولها لأن قوله {يَعْرِفُونَهُ كَمَا
يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ} دليل على أن جميعهم يعلمونه.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق
... } .
دليل على أن بعضهم يجهلونه.
فإن قلت: إنما مقتضاه أن باقيهم يعلمون الحق ويظهرونه؟
قلنا: لا يصح لوجهين: الأول: أن الضمير المجرور في قوله
{مِّنْهُم} عائد على {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} وقد قالوا:
إن {الذين} بدل من {الظالمين} ، فإذا كان كذلك بطل أن يكون
بعضهم عالمين به ومظهرين له إذ لا يسمى فاعل ذلك ظالما.
- الثاني: {إِنَّ فَرِيقاً} إنما يطلق على القليل من الجماعة
ولا يقال للنصف (فريقا) (فيلزم) أن يكون أكثرهم مظهرين للحق،
وذلك مخالف لسياق الآية لأنها إنما سيقت لذمهم.
(2/461)
وأجاب ابن / عرفة عن الإشكال باحتمال كون
فيهم مِن علِم وتحقق ولم تعرض له شبهة توجب له الريبة والشك في
علمه فهؤلاء هم الّذين قيل فيهم {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . ومنهم من علم وعرضت
له شبهة توجب التردد في علمه فهؤلاء هم المسكوت عنهم.
(2/462)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
قوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ
الممترين ... } .
يتناول أقسام التردد الثلاثة و (هي) الظنّ، والشك، والوهم، لأن
المطلوب في الإيمان العلم اليقين ولا (يجزئ) فيه الظنّ بوجه.
قيل لابن عرفة: لعلّ المراد الظن به فقط، ويدل على النهي عما
سواه من باب أحرى؟
فقال: الظنّ (مطلق) يتناول ظن الباطل وظن الحق، ودلالة أخرى
إنما هي في ظن الحق، أي فلا يعتقد الحق اعتقادا ظنيا فيقول
القائل: لعل المراد فلا يعتقد الباطل ظنا فيبقى الشك والوهم
غير منهي عنهما والصواب تناوله للجميع.
(2/462)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ
هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا
تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ
مُوَلِّيهَا ... } .
حمله الزمخشري على معنيين، أحدهما: ولكل فريق من أهل الأديان
المختلفة قبلة هو موليها نفسه، أو يعود الضمير على الله، أى
الله موليها إياه.
- (الثاني) : ولكل واحد منكم يا أمة محمد جهة يصلي إليها
شمالية، أو جنوبية، أو شرقية أو (غربية) . فالقبلة
(2/462)
عندنا نحن في الجنوب وعند أهل العراق و
(اليمن) في الشمال والمغرب.
وضعف ابن عرفة الأول إذا أعيد الضمير في {هُوَ مُوَليِّهَا}
على الله لأن الملل كلها قد انتسخت بشريعة سيدنا محمد صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلا يصدق أن لكل قوم (وجهة) .
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يفسره بمعنى ثالث وهو أن (لكلّ) شخص
منّا وجهة من وجوه الخير، والله أقامه فيها، فواحد مجاهد وآخر
صائم وآخر عالم وآخر حاج وآخر كثير الصدقة.
قوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات ... } .
دليل على أن الأمر للفور لأن مدلول صيغة اِفعل وهو الفور من
مسمّى الخيرات لأن المبادرة إلى فعل المأمور به (من جملة)
الخيرات فهو مأمور به.
وإنما قال: {اسْتَبِقُوا} ولم يقل: اسْبَقُوا، ليتناول السابق
والمسبوق فالمسبوق حينئذ يصدق عليه أنه استبق ولكنه لم يسبق،
ولو قال: اسبقوا لما تناول إلا السّابق. والخيرات (تعم)
الواجبات والمندوبات، وتعم من سبق بخير أو سبق غيره لخير (آخر)
وإن لم (يستبقا) لشيء واحد.
قوله تعالى: {يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعاً. .}
(2/463)
حمله الزمخشرى على معنيين: إما يأت بكم
(للجزاء) أو للحشر والنشر، وإمّا أَيْنَ مَا تَكُونُوا من
الجهات يجعلكم تصلون إلى جهة واحدة (كأنكم) تصلون (حاضري)
المسجد الحرام.
قال ابن عرفة: وقوله إنّ اللهَ عَلَى كُلّ شَيءٍ قَدِيرٌ يرجح
المعنى الأول.
(2/464)
وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي
وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(150)
قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ... } .
الاستثناء منفصل، والمعنى: لكنّ الّذين ظلموا فما يكون لهم
عليكم حجة، أو متصل، والمعنى (لتنفى) حجة النّاس عليكم إلا
الّذين ظلموا فما تنفى حجّتُهم عليكم لما هم عليه من الظلم
ولذلك (يقال) : فما أضيع البرهان عند المقلد.
قلت: وهذا شطر بيت لابن سهل من قصيدة شهيرة.
أقلد وجدي فليبرهن مفندي ... فما أضيع البرهان عند المقلد
هبوا نصحكم شمسا فما عين أرمد ... بأوضح في مرآه من عين مكمد
(2/464)
قال أبو حيان: والحجة على هذا الاحتجاج
والخصومة وعلى الأول الدليل الصحيح (والمراد بالناس اليهود) .
قال ابن عرفة: فإن قلت على الإتصال يلزم أن يكون الذين ظلمو
عليهم الحجة؟ وأجاب ابن عرفة في الختمة الأخرى بوجهين:
الأول: أنه من باب أحرى لأنه إذا لم يكن الحجة للمنصفين
العارفين فأحرى أن لايكون للآخرين فإن هؤلاء فهموا وعاندوا
(وأنصفوا) في الدليل وأولئك لم (ينصفوا) .
الثاني: أنّ ابن مالك في هذه الآية جعل إلا بمعنى الواو.
قال ابو حيان: فعلى الاتصال التقدير: لئلا يكون لأحد من اليهود
حجة عليكم إلا المعاندين منهم القائلين: ما ترك قبلتنا وتوجه
(للكعبة) إلا ميلا منه لدين قومه وحبا لبلده.
قال ابن عرفة: وعلى الانفصال فالمراد إلاّ الظالمين من
المشركين كذا قال في الختمة الأخرى.
قال ابو حيان: وعلى الانفصال تقديره: الذين ظلموا منهم فإنهم
يتعلقون عليكم بالشبهة. قوله تعالى: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ
واخشوني ... } .
(2/465)
قال ابن عرفة: كيف ينهى المكلف عن فعل أمر
هو فيه بالطبع لأن الخوف من العدو أمر جبلي لا يستطيع الإنسان
زواله؟
وأجاب عن ذلك بأن أوائل ذلك حاصل بالطبع والدوام عليه هو
المنهي (عنه) .
قوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
إن قلت: هذا تكرار لأن الهداية من جملة (النعم) ؟
قلنا: المراد النعم الآتية من عند الله تعالى لا تسبب فيها
للمكلف بخلاف الهداية والضلال فإن له (فيها كسبا وأرادة) .
(2/466)
كَمَا أَرْسَلْنَا
فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا
وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
/ قوله تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ
رَسُولاً. .} .
قال ابن عطية: الكاف إما متعلقة بقوله {لأُتِمَّ نِعْمَتِي
عَلَيْكُمْ} أو ب {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أو ب {اذكروني}
قال ابن عرفة: على الأول فهي للتشبيه فقط، وعلى الأخير للتعليل
فقط. وعلى الثاني يحتمل الأمرين، أي يهتدون لما أرسلنا أى لأجل
إرسالنا.
قلت: وعلى التعلق ب {اذكروني} حملها أبو حيان على الوجهين
فانظره.
قوله تعالى: {مِّنكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا. .} .
دليل على أن الخاصية التي اختصّ الرسل بها حكمية وليست خلقية
بوجه، وفيه التنبيه على حكمة إرساله منهم وهو تبرئته صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
(2/466)
عن أن يكون ساحرا أو مجنونا، فيقال إليهم:
لم نرسل إليكم أحدا تجهلونه بل أرسلنا واحدا منكم نشأ بين
أظهركم وعرفتم براءته من كل (آفة تنسب) إليه.
قوله تعالى: {وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة}
.
(قال بعضهم) : حيث يقدم التزكية يكون معظم المخاطبين عواما
مقلدين ليسوا أهلا (لتعلم) الحكمة والكتاب فتكون التزكية أهم،
وحيث يقدم التعليم يكون المخاطبون خواص فيكون الأهم التعليم مع
أن كِلاَ الأمرين مطلوب. والكتاب هو الكلام المعجز، والحكمة
القول غير المعجزة.
قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ
تَعْلَمُونَ} .
قيل: إن هذا تكرار، ففصل في أولها ثم (أجمل) ب {ما لم تكونوا
تعلمون} شمل الكتاب والحكمة. ومنهم من قال: إنّ العلم قسمان:
علم يكون (الإنسان) بحيث لو (شحذ) (قريحته) وفكر فيه لأدركه من
تلقاء نفسه بعقله (وفطرته) ، وعلم لايمكن للإنسان التوصل إليه
من ذاته ولا يقبل أن يتعلمه وحده بعقله بوجه. وهذا هو المراد
بقوله {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} أي
ما لم تكونوا قابلين لمعرفته بعقولكم.
(2/467)
فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
قوله تعالى: {فاذكرونيا أَذْكُرْكُمْ ... }
.
(2/467)
(لما بين شريطة الذكر وهو التعلم أمرهم
بالذكر) .
قوله تعالى: {واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} .
قيل لابن عرفة: إنه دليل على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده
إذ لو كان نهيا عن الضد لما كان لقوله {وَلاَ تَكْفُرُونِ}
فائدة؟
فقال: الأمر بالشكر مطلق (فيصدق) بشكره يوما واحدا ثم يكفر
دائما، فلما قال {وَلاَ تَكْفُرُونِ} أفاد النهي عن الكفر
دائما.
قيل: هل بين الشكر والكفر واسطة؟
فقال: أما في غير هذا فنعم، لأن بينهما حالة الغفلة (والذهول)
وأما هنا فلا، لأن الأمر بالشكر وترك الكفر إنما أتى عقب الأمر
بالذكر. قال: والكفر هنا (هو) كفر النعمة.
(2/468)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
قوله تعالى: {يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ
استعينوا بالصبر والصلاة إِنَّ الله مَعَ الصابرين} .
(استعينوا) بالصبّر على المشاق كلّها ومنها الصلاة {إِنَّ الله
مَعَ الصابرين} أي مع المصلين، ولما كان الصبر مستلزما
(لتحصيل) جميع العبادات ومنها الصلاة استغنى به عنها.
(2/468)
وَلَا تَقُولُوا
لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ
وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ
يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أموات ... } .
(2/468)
ان قلت: هلا قيل: لمن قتل في سبيل الله
بلفظ الماضي؟
قال أجيب عنه بوجهين: - الأول: أن ابن عطية قال: سبب نزولها أن
الناس قالوا فيمن قتلوا ببدر وأحد مات فلان وفلان فكره الله
تعالى أن يحط منزلة الشهداء إلى منزلة غيرهم فنزلت الآية.
وغزوة بدر وأحد هما أعظم الغزوات وما بعدهما من الغزوات دونهما
بلا شك فلو كان الفعل ماضيا لتوهم خصوصية هذه الفضيلة بمن قتل
في الغزوتين فقط فأتى به مضارعا ليدل على عمومها فيمن بعدهم
وفيهم من باب أحرى.
- الثاني: لو قال: «قتل» لكان فيه إيحاش ووصم عليهم لأنهم
كانوا (متأسفين) على من قتل منهم فيتذكرونهم بهذا ويزداد حزنهم
عليهم، ولا يقال: قتل فلان غالبا إلا فيمن يفتجع عليه أو يفرح
لموته فيقال: لِمَنْ يُقْتَلُ، ليعم على من يأتي ومن مضى ويسلم
من هذا الإيحاش.
قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ ... } .
هذا إما إخبار أو حكم من الله تعالى عليهم بالحياة. والمراد بل
قولوا: هم أحياء والأول أظهر (لقوله: {ولكن لاَّ تَشْعُرُونَ}
) .
(2/469)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ (155)
قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ
مِّنَ الخوف والجوع} .
هذا ترق لأن الجوع أشد من الخوف.
فإن قلت: إنه أيضا أشد من النقص من الأموال.
(2/469)
قلت: الجواب أن النقص من الأموال أكثر
وجودا فى النّاس من الجوع فهو أشد مفسدة والنقص من الأنفس
بالمرض أو بالموت أشد من الجميع.
(2/470)
الَّذِينَ إِذَا
أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
قوله تعالى: {قَالُواْ إِنَّا للَّهِ
وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} .
لأنه إذا علم العبد أنه وجميع أهله وماله ملك لله طابت نفسه
وهانت عليه مصيبته (كما) قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ للمرأة التى عزاها فى ولدها «إن لله ما أخذ وله ما أبقى
وأعطى ولكل أجل مسمى وكل إليه راجعون فاحتسبي واصبري فإنما
الصبر عند أول الصدمة» .
ومن شرط اللفظ العمل بمقتضاه وهو أنه يصبر ويحتسب، فإن قاله
قولا فقط فلا فائدة فيه، وإن صبر ولم يقله فقد قاله بلسان
الحال ويحصل له (الأجر) ، وإن فعل الأمرين أخلفه الله الخير في
الدنيا وأعظم له الأجر في الآخرة. (والصلاة) المراد بها
الرحمة، وجمعها (لإرادة) التكرار عليهم (رحمة بعد رحمة) أي
عليهم رحمات كثيرة متعددة ورحمة أخرى أعظم من الجميع فلذلك
أفردها بالذكر وعطفها عليها وليس فيه تكرار بوجه.
(2/470)
إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ
أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ
بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ
عَلِيمٌ (158)
قوله تعالى: {إِنَّ الصفا والمروة مِن
شَعَآئِرِ الله ... } .
قال ابن عطية: الصفا والمروة جبلان بمكة.
(2/470)
قال الجوهري: في الصحاح موضعان بمكة.
والصفاء بالمدّ ضد (الكدرة) والتغيّر.
ابن عطية: والصفا جمع صفاة.
ابن عرفة: وجعله أبو حيان اسم جنس وهو الصواب.
ابن عطية: وقيل إنه مفرد وجمعه صفى وأصفاء، وهي الصخرة
العظيمة.
قال الراجز: (كأن منبته من النفي مواقع الطير على الصفا)
وقيل: من شرط الصفا البياض والصلابة وشرط الجوهري فيه الملوسة
ولم يشترط الصلابة.
ابن عطية: والمروة واحدة المرو، وهي الحجارة الصغار التي فيها
لين ومنه قولهم (ذكيتها بمروْة) .
(2/471)
ابن عرفة: الصواب العكس لأن التذكية إنما
تأتي بالصلب لا باللين.
ابن عطية: ومنه قول (الأمين أخرجني) فإن قتلني بمروة قتلته
بمروة.
ابن عرفة: الأمين والمأمون ولدا هارون الرشيد وكان الأمين أراد
أن (يغدر) أخاه المأمون فقال هذه المقالة.
الجوهري: الصفا والمروة علمان للجبلين كالصمان والمقطم.
الجوهري: الصّمان جبل قرب (الرملة) بالشام والمقطم جبل بمصر.
أبو حيان: فالألف واللاّم فيهما زائدة كزيادتهما في الاسم
العلم، وقيل للغلبة كالنجم والثريا.
ابن عرفة: فرق بينهما بأنّ التي للغلبة يمتنع اسقاطها فلا
تقول: صفا ومروة، وتريد هذين الموضعين والزائدة يصح أسقاطها.
ابن عطية: والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة أي من أعلام
(مناسكه) ومتعبداته، أى من معالمه ومواضع عبادته.
(2/472)
ابن عرفة: أي عباداته الخاصة المؤقتة وإلا
فكلّ مسجد من (مواضع) عباداته، فالمراد من معالمه التى وقّتها
الشارع لهذه العبادة الخاصة.
ابن عرفة: وعلى هذا لا يحتاج إلى ما قال أبو حيان إن الآية على
حذف مضاف (لأن) . المعنى: أن الصفا والمروة بعض (مواضع) عبادة
الله إلاّ على تأويل، ذكره مختصرا.
ابن الخطيب: المراد من عبادة الله فيحتاج أن يقال إن طواف
الصفا والمروة.
واحتج بعض الأصوليين بالآية مع حديث «إبدؤوا بما بدأ الله به»
على أنّ الواو تفيد الترتيب.
وقال الآخرون: لو كانت تفيد الترتيب لما سالوه وهم عرب فصحاء،
والصواب أنّها لا تقتضيه ولا (تنافيه) لكن يحتج
(2/473)
بها على ترجيح تقديم ما قدمه الشارع في
لفظه. وقرىء «أَنْ لاَ يَطُوف بِهِمَا» .
أبو حيان: لا فرق بين ذكر «لا» وإسقاطها والمعنى واحد.
ابن عرفة: بل مختلف كقولك: لاجناح عليك أن تصلي العصر عند
الغروب ولا جناح عليك أن لا تصليها عند الغروب.
ابن عطية: وليس المقصد إباحة الطواف للحاج وإنما المقصد زوال
ما وقع فى نفوسهم من كراهة الطواف بهما. واختلف في أصل ذلك كيف
كان؟ فروي أن الجن كانت تطوف بهما فى الجاهلية (فتحرج)
المسلمون (من الطواف) بينهما لذلك. وروي عن عائشة: أن الأنصار
كانوا يهلون لمناة التي بالمشلل (حذو) (قُدَيْد) ويعظمونها
فكانوا (لا يطوفون)
(2/474)
حذو أساف ولا نائلة إجلالا لتلك. فلما جاء
الإسلام (تحرجوا) فنزلت الآية.
ابن عرفة: هذا لا يناسب ولا يليق بالمؤمنين أن يفعلوه.
ابن عطية: وعن الشعبي أنهم كانوا يطوفون بهما معتقدين ذلك
(السعي) إجلالا لأساف ونائلة وهما صنمان فتحرج المسلمون من ذلك
فنزلت الآية.
ابن عرفة: هذا صواب.
(2/475)
إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى
مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ
أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ
(159)
قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ
أَنزَلْنَا ... }
قال ابن عرفة: من الناس من ينظر وجه المناسبة بين الآية وما
قبلها كابن الخطيب، ومنهم من لا يلتزمه في كل آية كالزمخشري
وابن عطية، ومنهم من يمنع النظر في ذلك ويحرمه لئلا يعتقد أنّ
المناسبة من إعجاز القرآن فإذا لم تظهر المناسبة فقد يدرك
الناظر وهن في دينه وخلل في معتقده.
ابن عرفة: ووجه المناسبة هنا أنه لما تقدم الإخبار بحكم شرعي
عقبه ببيان عقوبة العالم إذا كتم علمه.
(2/475)
ابن عطية: والمراد ب {الذين} أحبار اليهود
ورهبان النصارى الذين يكتمون أمر محمد ويتناول من علم علماً من
دين الله محتاجا إلى بثه وكتمه. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار»
وهذا إذا لم يخف ضررا في بثه.
قال ابن عرفة: ولا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلا أو رخصة
يتمادى منها إلى مفسدة كمن يذكر للظالم ما قال الغزالي في
الإحياء من أن يبث المال إذا ضعف واضطر السلطان إلى ما يجهز به
الجيش ويدفع (به) الضرر عن المسلمين فلا بأس أن يوظّف على
الناس العشر أو غيره لإقامة الجيش وسد الخلة.
قال ابن عرفة: وذكر هذا مما يحدث ضررا (فادحا) في الإسلام.
قال ابن عرفة: والبينات إما الأدلة، والهدى نتائجها، أو العكس.
ويحتمل أن يكون البينات هو الأدلة الشرعية السمعية والهدى
الدليل العقلي أو العكس.
قال ابن عرفة: وقع هذا الوعيد في هذه الآية مشوبا بالرجاء
لقوله: {تَكْتُمُونَ} بلفظ المستقبل ولم يقل كتموا بالماضي
(تنبيها على أن ما وقع منهم قبل ذلك معفو عنه لا يتناوله هذا
الوعيد) . ثم أكد هذا الرجاء برجاء آخر وهو أن الكتم الصادر
منهم في
(2/476)
المستقبل إنما يعاقبون عليه مع الإصرار
عليه والمداومة لقوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} .
قال ابن عرفة: وكرر لفظ {يَلعَنُهُمُ} لوجهين: إما تشريفا لله
بذكره وحده إشعارا بالتفاوت الذي بينه وبين (اللاّعنين) ، وإما
تنبيها على أن لعنة الله تعالى أشد من لعنة (اللاّعنين) فهو
إما للتفاوت بين اللّعنين، وهذا كما قال ابن التلمساني في
المسألة الثامنة من الباب الأول في حديث الخطيب القائل: «من
يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى» . وتقدم جواب
القرافي وعز الدين بن عبد السلام فيه.
قال ابن عرفة: وفي الآية عندهم حجة (للعمل) بالإجماع السّكوتي
لأن المجتهد إذا بلغه مذهب غيره في المسألة النازلة فإمّا أن
يظهر له موافقته أو مخالفته فإن وافقه فهو المطلوب، وإن ظهر له
مخالفته وسكت بطل العمل بقوله لأنه عاص (في كتمه) العلم.
فإن قلت: تبقى منهم ثالث وهو أن لايظهر (له) في الحال موافقة
ولا مخافة.
قلنا: لا يكون إذ ذاك مجتهدا.
وقال القرطبي: فيها حجة (لوجوب) العمل بخبر الواحد قال: لأنه
لا يجب عليه (البيان) إلا بعد قبول قوله وقال: {إِلاَّ الذين
تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} فحكم بوقوع البيان
بخبرهم
(2/477)
ورده ابن عرفة بأن أول احتجاحه على العمل
والكلام في كتم العلم وفرق بين العمل بخبر الواحد وبين العلم
به.
(2/478)
إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ
عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
قوله تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ
وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ
وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .
ابن عرفة: في الآية اللّف والنشر، فالتوبة والإصلاح راجعان
لقوله: {أولئك يَلْعَنُهُمُ الله} لأنه يعلم السر وأخفى،
وقوله: {وَبَيَّنُواْ} راجع لقوله: {يَلْعَنُهُمُ اللاعنون}
لأن الملائكة وغيرهم لا يعلمون توبتهم إلا إذا بيّنوا وظهر على
حالهم ذلك. قال: ومن كان متصفا بالفسق ويظهر للبعض الصلاح، ثم
تاب، فلا تقبل توبته إلا إذا زاد صلاحه. وأما إن دام على صلاحه
الأول فقط، فلا يقبل منه ذلك لأن صلاحه الأول لم يمنعه من
الفسق.
وقوله {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} إشارة إلى عموم توبته
عليهم وعلى غيرهم، وتنبيه على أنه لا يجب عليه شيء وَأَنّ قبول
التوبة رحمة وتفضل، (لا أنه) واجب.
(2/478)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
(161)
قوله تعالى: {إِن الَّذِينَ كَفَرُوا
وَمَاتُواْ ... } .
منهم من قال: إنها مؤكدة لما قبلها لقوله {إِلاَّ الذين
تَابُوا} فبقيت الآية عامة فيمن كفر ولم يتب يكون داخلا تحت
الوعيد وهو مقتضى هذه الآية، ومنهم من قال: أنها مؤسسة. وقرره
بوجهين:
- الأول: أنّ اللّعنة في الأولى مطلقة تحتمل الدّوام والانقطاع
وهنا مقيدة بالخلود والدوام.
-
(2/478)
الثاني: أن العموم غير المخصوص بشيء أقوى
دلالة من عموم خص بشيء، فلذلك أعيدت هذه الآية. ونحو هذا (لابن
رشد) في النكاح الثالث.
قال ابن عرفة: فإن قلت: هلا قيل: ماتوا كفارا. فهو أخص من
قوله: {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} ؟
قال: وعادتهم يجيبون بوجهين:
- الأول: أن هذا فيه فائدة البناء على المضمر، وقد ذكروا أنه
يفيد إما الاختصاص أو مطلق الرّبط، قاله الزمخشري في {وَمَا
هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار} - الثاني: أن الحال قيد في
الجملة، فهو من قسم التصور وقوله: {وَهُمْ كُفَّار} جملة من
مسند ومسند إليه، فيرجع إلى قسم التصديقات، والتعبير بما هو من
قسم التصديق أولى مما هو من قسم التصور لأنه يستلزم التصور
(فيدل) على الأمرين.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأنه لو قيل «وماتوا كفارا» لكانت
حالا، والحال من شرطها الانتقال مع أن المراد: من ثبت ودام على
كفره فقال: وكذلك «وهم كفار» والواو فيه واو الحال.
(قيل لابن عرفة، كيف عبر بهذا اللّفظ المقتضي للخصوص مع أن من
مات كافرا بالإطلاق يناله هذا الوعيد) ؟
(2/479)
فقال: هذا وعيد خاص رتب على فعل خاص/انتهى.
قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة
... } .
قال ابن عرفة: إن قلت: لم أعيد لفظ الفعل في الآية المتقدمة
فقيل: {يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} ولم يعد
هنا، فكرر هناك ما أسند إليه الاسم المعطوف عليه ولم يكرر هنا،
فهلا قيل: أولئك عليهم لعنة الله ولعنة الملائكة ولعنة الناس
أجمعين فهو أولى؟
قال: عادتهم يجيبون بأن الإسناد الأول للفاعل، وهو واحد بذاته
لايتعدد، لأنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله، والإسناد الثاني
إضافي فهو أمر نسبي، والأمور النسبية الإضافية يمكن فيها
التعدد كالوجود بالنسبة إلى القديم والحادث، فلذلك لم يفد لفظ
اللعنة هنا.
قوله تعالى: {والناس أَجْمَعِينَ} .
قال ابن عرفة: {أَجْمَعِينَ} إما تأكيد أو حال فإن كان حالا
فالمراد لعنة الجميع مجتمعين، ويبقى النظر: هل ذلك يوم
(2/480)
القيامة أو لا.؟ فإن كان في (الآخرة) فيكون
خالدين فيها حالا (محصلة أو أعيد الضمير على النار. وإن كان في
الدنيا فيكون «خالدين فيها» حالا) مقدرة. وإن كانت تأكيدا
فالمراد لعنة جميعهم بالإطلاق.
ابن عطية: قال قتادة: المراد بالناس المؤمنون خاصة وقال ابو
العالية: ذلك في الآخرة أي يلعن الكفرة أنفسهم يوم القيامة.
وقيل معناه يقولون في الدنيا: لعن الله الكافرين، فيلعنون
أنفسهم من حيث لا يشعرون.
قال ابن عرفة: ويخرج عن هذا من كفر عنادا فإنه لا يلعن
الكافرين.
(2/481)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
قوله تعالى: {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ
العذاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} .
(قيل) لابن عرفة: كيف يفهم ما ورد في أبي طالب أنه أَخَفُّ
أَخَفِّ أهل النار عذابا، وأنه تنفعه شفاعة النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فصار عذابه بجمرتين في أخمص
قدميه يغلي منهما دماغه. وما ورد في أبي لهب من أنه يخفف عنه
العذاب يوم الاثنين لكونه أعتق فيه الجارية التي بشرته بولادته
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟
قال: (العذاب) الذي استحقه كل واحد منهما ونزل به لا يخفف عنه
منه بل يخفف عنه بمعنى أنه يعذب عذاب غيره فالتخفيف من عذاب
غيره لا من عذابه هو النازل به.
(2/481)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ
وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
قوله تعالى: {وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله
إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم} .
قال ابن عرفة: الإلاه في اصطلاح المتقدمين من الأصوليين هو
الغني بذاته المفتقر غيره إليه، وعند الأصوليين (المتأخرين)
واللغويين هو المعبود تقربا، وبه يفهم قوله عَزَّ وَجَلَّ
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ
(2/481)
ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ
إله غَيْرِي} وقول إبراهيم لأبيه آزر {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً
آلِهَةً} وقول الله عَزَّ وَجَلَّ {ءأالهتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ}
قال ابن عطية: ومعناه نفي (المثل) والنظير. وقال أبو العالية:
(نفى) التبعيض (والأنقسام) .
قال ابن عرفة: فعلى الأول نفي الكمّية المنفصلة وعلى الثاني
نفي الكمية المتصلة، ويحتمل الأمرين إن قلنا إن الوحدة ينطلق
عليها بالتواطُؤ، وإن كان إطلاقها عليها بالاشتراك فما يتم إلا
على القول بتعميم المشترك، وقوله: نفي للتبعيض والانقسام صوابه
أن يقول: نفي لقابلية (الانقسام) بمعنى واحد، أي (غير) معروض
للانقسام فيخرج الجوهر الفرد لأنه لا ينقسم، لكنه في حيز
والحيز منقسم. فإذا قلنا غير معروض للانقسام انتفى الجوهر الذي
في الحيز.
قوله تعالى: {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ ... } .
(2/482)
(قال ابو حيان: «إِلاّ هو» بدل من اسم
«لاَ» . ورده المختصر وأنه لا يجوز أن يقال: لا ألَهَ إلا هو.
ابن عرفة: لرده وجه آخر ذكره النحوين وهو أن يكون بدلا من
مجموع «لا» واسمها، ومعناه الموجود الذي نفيت الألوهية عن
غيره، وأثبت له هو الله.
قلت: قال الاستاذ أبو العباس أحمد بن القصار. هذا ذكره
النحويون وعادتي استشكله لأنه يلزم عليه بدل المثبت من المنفي،
وكذلك قال سيبويه: لا رجلَ في الدار وامرأةً، بالنصب إنه معطوف
على مجموع لا واسمها وكنت أنا أستشكله بأنّ «امرأة» مثبت فكيف
يعطف المثبت على المنفي؟ وكان الأستاذ الفقيه أبو عبد الله
محمد بن عبد الله بن قيس يجيبني عنه بأنه معطوف على اسم «لا»
فقط، لكنهم لما ركبوا «لا» مع اسمها وصار كجزء واحد، فالعطف
عليه كالعطف على خبر الكلمة، كرهوا التصريح بالعطف عليه
فقالوا: إنه معطوف على المجموع ومرادهم أنه معطوف على اسم لا
فقط فكذلك يجيء هاهنا.
قال أبو حيان: وقال صاحب المنتخب: المعنى لاَ إلاهَ لنا ولاَ
إِلَهَ موجود، ورده المختصر بأنه يلزمه المفهوم في لاَ إِلاَهَ
لنا وقوله لاَ إِلاهَ موجود باطل على مذهب المعتزلة.
(2/483)
وأجاب ابن عرفة: أن الوجود على أربعة
أقسام، فمنها وجود في الإيمان ووجود في الأذهان، فإن أراد
الوجود في الإيمان فما قاله صحيح لأن أهل السّنة يمنعونه
والمعتزلة يجيزونه، فيقولون: إن للمعدوم تقررا في العدم، وإن
أراد الوجود في الأذهان فممنوع لأن اجتماع النقيضين باعتبار
التصور الذهني فيه خلاف، فإن قلنا بامتناعه فكلام المجيب حق،
وإن قلنا بصحته فكلام السائل صحيح.
قلت: وقال الأستاذ ابن القصار: المعتزلة إنما قالوا: إنّ
المعدوم ثابت في العدم ولم يقولوا أصلا: إنه موجود في العدم.
فالموجود لا يثبت إلا في الوجود.
قال ابو حيان عن الزمخشري في المفصل: لا يجوز أن تكون «إلاّ
هو» خبراً عن «لا إلاه» لأنه بيان له فيمتنع الإخبار عنه به
قال: وفيه بَحث.
قال ابن عرفة: يظهر لي أنّ البحث الذي فيه هو أنّ الحكم قسمان:
تقييدي، وإسنادي. فالبيان بالحكم التقييدي لا يصح والبيان
بالإسنادي صحيح، نقول: زيد العاقل الكريم الشجاع، فإن كانت
نعوتا امتنع البيان بها وإن كانت خبرا صح البيان بها.
قلت: وقال ابن القصار: البحث الذي فيه هو أنّ الإسناد قيد في
المبتدإ، فلا يصح أن يكون خبرا عنه لكنه نائب مناب الخبر، لأن
التقدير: لا إلاه كائن في الوجود إلا هو، فهو استثناء من
الضمير المستكن في كائن أو في الوجود، فلما حذف ذلك الخبر ناب
هذا
(2/484)
الاستثناء منابه، فهو نائب مناب الخبر،
وقيد فيه، قال وهذا راجح في المعنى.
قيل لابن عرفة: ثم قال أبو حيان بعد كلام طويل ذكره قال: فرق
ابن الحاجب بين الرفع والنصب في قوله: ما قام القوم إلا زيد
برفع زيد ونصبه؟
ابن عرفة: لا فرق بينهما في هذا والحال فيها واحد.
قال ابن عرفة: وقد أغفل أبو حيان الفرق بينهما فقد) قال
النحويون: إنك إذا قلت: ما قام القوم إلا زيد بالرفع يكون نفيت
القيام عن القوم وأثبته لزيد.
وإن قلت: إلا زيدا بالنصب يكون نفيت القيام عن القوم ونفيت ذلك
النفي عن زيد ونفي الإثبات في حقه محتمل مشكوك فيه على (خلاف)
في ذلك عندهم، فإذا قال قائل: لا إلاه إلا الله بالنصب فيلزمه
الكفر لأن المراد نفي الألوهية عما سوى الله وإثباتها له. وهذا
المعنى لايحصل إلا مع الرفع، وأمّا النّصب فما فيه إلا نفيها
عما سوى الله ونفي ذلك (النفي) عن الله وأما الثبوت فلا.
قيل لابن عرفة: إذا انتفت الألوهية عما سوى الله ثبتت له
بالضرورة؟
(2/485)
فقال: يبقى القول (بالتعّطيل) فقال الله
تعالى {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ
وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} قلنا: قال ابن
عصفور في شرح الإيضاح: إن مذهب سيبويه وجمهور البصريين أنك إذا
قلت: «قام القوم إلا زيد» تكون أخرجت زيدا من القوم ومن وصفهم.
ومذهب (الفراء) أنك أخرجت وصفه من وصفهم (ولم) تخرجه من (صفهم)
. ومذهب الكسائي أنك أخرجته هو منهم ولم تخرج وصفه من وصفهم
فمعناه أنه لم يقم معهم أعمّ من أن يكون قام وحده أو لم يقم
فالاستثناء عنده بالنصب محتمل وهذا البحث هنا إنّما هو على
المشهور.
(2/486)
إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا
يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ
مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ
فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ
وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات
والأرض ... } .
قال ابن عرفة: تقدمها آية النبوة والرسالة في قوله تعالى
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} وآية
الوحدانية في قوله تعالى {وإلهكم إله وَاحِدٌ} فيحتمل أن يكون
دليلا لهذه أو هذه.
(2/486)
قال ابن عطية: / عن عطاء: قال لما نزلت
الآية المقدسة بالمدينة، قال كفار قريش بمكة: ما الدّليل على
هذا وما آيته وما علامته؟ فطلبوا دلالة الوحدانية فنزلت هذه
الآية.
وقال سعيد بن (المسيب) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: قالوا إن كان ما
تقول حقا فأت بآية تدل على صدقك حتى قالوا: اجعل لنا الصفا
ذهبا فقيل لهم: ذلك (لكم) ، ولكن إن كفروا عُذبوا فأشفق رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ذلك وقال:
«دَعْنِي أدْعُهُمْ يَوْما فَيَوْما» .
قال ابن عرفة: ظاهره أنه رق لحالهم. ويحتمل أن يكون ذلك لما في
سورة الأنعام {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة
وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ
قُبُلاً مَّاكَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} فكأنه
قال: ولو حصل لهم الصّفا ذهبا فإنهم لن يؤمنوا.
قال ابن عرفة: قد تقرر الخلاف في الخلق هل هو نفس (المخلوق)
وهو مذهب أهل السنة.
(2/487)
وإن من يقول: إنه غير نفس المخلوق يلزمه
التسلسل وهو مذهب المعتزلة لأن ذلك الخلق يحتاج إلى خلق آخر
لأنه يقال بماذا وجد؟ فيقول: بخلق آخر. وهل هو نفس المخلوق
(أم) لا ويتسلسل. وأجابوا بأنه أمر نسبي فهو غيره ولكنه أمر
نسبي ليس فيه تسلسل.
قيل لابن عرفة: والأمور النسبية عدمية والعدمية لا يصح
الاحتجاج بها فكيف يستقيم الاستدلال بها في الآية؟
فقال: الاستدلال بها من حيث إضافتها إلى أمر موجود وهو
المخلوق.
قيل لابن عرفة: إن الفخر ابن الخطيب احتج بها على أن الخلق غير
المخلوق. قال: لأنه لا يقع الاعتبار إلا بالنظر إلى المخلوقات
بعد وجودها لا بخلقها لأنه غير مرئي.
فقال: الاعتبار بها من حيث إيجادها (من) عدم وهو خلقها، أي
معنى خلقها.
قال: والناس قسمان: عالم وجاهل، فالجاهل يعتبر بنفس خلقها على
الجملة والعالم ينظر فيجد المعمور من الأرض أقل من الخالي
بالنسبة إلى سائر الأرضين أقل، والأرضون بالنسبة إلى سماء
الدنيا وما فوقها أقل، والسماء الدنيا وما فوقها بالنسبة إلى
الشمس أقل، لأنها في السماء الرابعة، والشمس بالنسبة إلى
السماء الّتي فوقها أقل منها.
قال ابن عرفة: وإنما جمعت السماوات وأفردت الأرضون مع أنها سبع
لأنّ عدد السماوات يدرك بالرصد، وطول الأعمار، والكسوفات،
وأطوال البلاد وأعراضها، وجري الكواكب، والأرضون لا طريق لنا
إلى إدراكها بوجه إلا من السمع، لأن المشاهد لنا منها
(2/488)
إنما هي أرض واحدة فأفردت بالذكر، ولذلك
اختلف فيها الإمام المازري وشيخه عبد الحميد الصائغ /انتهى/.
وأجاب القرطبي عن هذا السؤال بأنّ السماوات مختلفة، فقد ورد في
الحديث أن بعضها من فضة وبعضها من زبرجد، وبعضها من لؤلؤ إلى
غير ذلك، فلذلك جمعت بخلاف الأرضين فإنها متماثلة كلها من شيء
واحد.
ورده ابن عرفة بوجهين:
- الأول مذهب المتكلمين أنّ الجواهر كلها متساوية في الحد
والحقيقة، وإنما تختلف في الأعراض فلا فرق بين جسم الذهب وجسم
الفضة.
- الثاني: أنّ النحويين أجازوا جمع المتماثلات، ألا تراهم
يجمعون زيدا وزيدا مع تماثلهم في اللفظ والمعنى، فكذلك يجمعون
الأرضون هنا؟
قال ابن عرفة: وإنما الجواب ما قلناه في قوله تعالى في: {إِنَّ
فِي خَلْقِ السماوات والأرض} الى قوله {يَعْقِلُونَ} : فإن
قلت: هلا أريد بخلق السماوات والأرض أنفسها أو نفس إيجادها
وإثباتها؟ .
(2/489)
قلت: مذهب أهل السّنة أن الخلق نفس المخلوق
لا أنه أمر زائد عليه.
وكان شيخنا الإمام أبو عمرو بن الحاجب يقول بحسب ذلك: خلق الله
السماوات مصدر، كقولك: خلق الله خلقا، وينكر طلبة النحو ذلك
لاستغرابهم كون الجوامد مصادر وما لهم تصور لحقائق علم الكلام،
ولا لهم إحاطة بالضروريات الملجئة إلى مخالفة، فإن المتكلمين
التجأوا إلى ذلك لعلمهم أنّ الخلق لو كان معنى زائدا لكان
وجوديا، ولكان مخلوقا ولكان خلقه مفتقرا إلى خلق آخر. فلما
قطعوا باستحالة ذلك قطعوا بأن القدرة تتعلق بذات العين،
فتوجدها (أفعال) الله كما أن المعاني أفعال.
فإن قلت: حاصل ذلك لا تغاير بين الخلق والمخلوق فلا مصدر إذاً،
لأن (المصدر) في قولك: ضربت زيدا ضربا زائد على ذات زيد و (لا
هناك) زائد، ولا يستقيم إذا كان الموت مصدرا.
قلت: هو ما ذكرت. والمستقيم كون الموت مفعولا به وهي نفس الفعل
وهو الذي أراد الشيخ ابن الحاجب ولكن لو أعدّها مفعولا به لجمع
بين الاصطّلاح وبين المعقول.
فإن قلت: لو قال قائل: خلق الله السماوات خلقا، فكيف يعرب
خلقا؟
قلت: مصدرا، وهو نفس المفعول به في المعنى فاحفظ الصناعة
والحقيقة معا، فالتغاير بين المصدر والمفعول به حقيقي في غير
هذا الباب ولفظي هنا.
(2/490)
فإن قلت: ما وجه (المعطوفات) في الآية على
«خلق السماوات» وقد فسرت خلقها بمخلوقاتها وكلما ذكر من
المخلوقات فيصير من/ عطف الشيء على نفسه؟
قلت: هو من عطف الجزء على الكل لثبوتهما بالجزء أو من عطف
الأخبار في غيرها وإن كانت فيها.
فإن قلت: ما وجه التقوية؟
(قلت) باعتبار مقصد الاستدلال لأن ذوات السماوات والأرض لا
دلالة لها من حيث الأعراض القائمة بها وأنها لا أعراض بدلالة
الأكوان إذ الطبيعي (محال) في إنكار الأكوان، وأبعد الأكوان
الحركة والسكون، والحركة أبعد لمشاهدتها ضرورة ولأجله استفتح
الشيخ الأشعري في البرهان لقوله: تحرك الجوهر وكان ساكنا.
ولا دعوى (للطبيعي) إلا في كونها تستفتح للجمع بين النقيضين.
وعلى هذه النكتة دارت هذه الأدلة (فاختلاف) اللّيل والنهار
(راجع إلى الحركات وذكر الفلك) باعتبار جرمها وتحركها حركات
قوية ضرورية متوالية.
قوله تعالى: {بِمَا يَنفَعُ الناس ... } .
(2/491)
أي يحدث الله المنفعة به في نفوسهم (فيقطع)
قول الطبيعي: «الحركة عدم» لأن المعدوم لا ينفع وإنما ينفع
الله بالفلك بواسطة حركاتها ولا فرق بين عدم النفع والنفع
بالعدم. ثم ذكر (الماء) بواسطة كونه (منزلا بحركة) من السماء
والأرض ثم ذكر أنه بث الأحياء بواسطة تلك الحركة، وكيف يكون
العدم واسطة في الإحياء ثم إحياء الأرض عبارة عن تحريك الحب
الكائن فيها إلى الظهور، ثم ذكر بث الدواب وهي المتحركات
بالوصيب ثم ذكر تصريف الرياح أي تحريكها من قطر إلى قطر (ثم
ذكر السحاب المسخر أي المحرك من قطر إلى قطر وكله) استدلال على
حدوث الجواهر وحدوث حركاتها التي لا (تنافي) وجودها بدليل
إثارتها الحسية.
فإن قلت: ليس له في كل شيء (دلالة) فما فائدة هذه الأدلة
والأمثلة؟
قلت: الإيقاظ بعد الإيقاظ والإيقاع بعد الإيقاع والضرب على
الضرب حتى لا يبقى للقبول علة في الاستدامة والغفلة، حتى تتحرك
الدواعي حركات متتابعة متسارعة إلى ضرب (النّجاة) .
قوله تعالى {واختلاف الليل والنهار ... } .
قال ابن عطية: أي تخالفهما ومعاقبة أحدهما للآخر أو يريد
اختلاف أوصافهما فالليل تارة أطول والنهار تارة أطول.
(2/492)
قال ابن عرفة: أو المراد اختلاف كل واحد
منهما في نفسه فَلَيْلَةُ البارحة أقصر من ليلة اليوم ونهار
اليوم أطول من نهار غد وأشار إليه الفخر.
قوله تعالى {فَأَحْيَا بِهِ الأرض ... } .
مجاز في الإفراد وهو لفظ إحيائها ولفظ موتها.
قوله تعالى: {مِن كُلِّ دَآبَّةٍ ... } .
«من» للتبعيض في الأصناف و «كُلّ» للعموم في الأنواع.
قوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرياح ... } .
تصريفها هبوبها من (جهاتها) المختلفة أو دوران الرّيح إلى
المغرب بعد هبوبه من المشرق.
قوله تعالى: {لأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
لم يقل: يعلمون، لأن هذا من باب الاستدلال (والاستدلال) مقدمة
شرطها العقل وأما العلم نتيجة عن تلك المقدمات فلذلك لم يذكر
هنا.
قيل لابن عرفة: عادة المتكلّمين في كتبهم يذكرون (باب) حدوث
العلم ويستدلّون (فيه) على وجود الصانع ويفردون
(2/493)
بابا آخر للاستدلال على وحدانية الصانع
(فيجعلونهما بابين والآية اقتضت الاستدلال بحدوث العالم على
وحدانية الصانع) ؟
فأجاب ابن عرفة بوجهين:
- الأول: قال: إن الآية خطاب لقريش وهم مقرون بأن المؤثر واحد
والشركاء غير مؤثرين، فلا استدلال بالآية مع ضميمة اعتقاد أن
المؤثر واحد استْدل به على أنه موجود.
- الجواب الثاني: أنها دليل على أن هذه الأشياء لها فاعل
ومؤثر، وقد دل الدليل العقلي على منع اجتماع مؤثرين على أثر
واحد فصح بالآية وجود الصانع ووحدانيته.
(2/494)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ
أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعَذَابِ (165)
قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ
مِن دُونِ الله أَندَاداً} .
ابن عطية: ذكر الله تعالى الوحدانية، ثم الآية الدالة على
الصانع الذي لا يمكن أن يكون إلا واحدا، ثم ذكر هنا الجاحدين
للصانع تعجبا من ضلالهم بعد هذه الآية.
قال ابن عرفة: ويحتمل أن يكون ذكر هذه الآية توطينا وتسكينا
للنّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لئلا يطمع فيى
إيمانهم وتتعلق نفسه بذلك كما قال {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ
نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث
أَسَفاً} فأخبره بعدم إيمان بعضهم حتى لا يناله حزن ولا غم
بوجه.
قال ابن عرفة: و «من» في قوله «من دون الله» لابتداء الغاية
وانتهائها حتى يعمّ في جمع الدون وتفيد كثرة تلك الوجوه.
قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله ... } .
(2/494)
إن قلت: (هم) إنما كانوا يعبدونهم والعبادة
أخص من المحبة لأن الواحد منا يحب ولده وأباه وأمه ولا
(يعبدهم) فهلا قيل: يعبدونهم؟
قلت: أجاب ابن عرفة بوجهين:
- الأول: أنه ذمهم على الوصف الأعم وهو المحبة ليفيد الذم على
الأخص وهو العبادة من باب أحرى.
- الجواب الثاني: أنه عدل عن لفظ العبادة استعظاما له
واستحقارا للأصنام أن تنسب إليهم العبادة.
قيل لابن عرفة: إن هذه الآية تدل على أن ارتباط الدليل
بالمدلول/ عادي لا عقلي، لأن هؤلاء (نظروا) فلم يؤمنوا؟
فقال ابن عرفة: (لعلهم لم ينظروا أو نظروا فلم يهتدوا) للعثور
على الوجه الذي منه يدل الدليل. قال: وهما مسألتان في أصول
الدين. مسألة تخالف العلم مع التّمكن من مراد النظر الصحيح.
ومسألة (تخالف) العلم مع حصول النظر الصحيح فالآية إنما تدل
على الأول لا على الثاني.
(2/495)
إِذْ تَبَرَّأَ
الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا
الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا
... } .
قال ابن عرفة: لا ينبغي للانسان أن يشغل نفسه بشهواته وجمع
المال فإنه عليه (وبال) كما ورد: «الكيّس من دان نفسه»
(2/495)
وتبرؤهم منه قبل (رؤيتهم) العذاب أشد في
الممانعة وعدم النصرة.
(2/496)
وَقَالَ الَّذِينَ
اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ
كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ
أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ
مِنَ النَّارِ (167)
قوله تعالى: {وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ
أَنَّ لَنَا كَرَّةً ... } .
قال ابن عرفة: (تمنوا) العودة في الدنيا، وأن يكونوا متبوعين
ورؤساؤهم تابعين لهم فتبرؤوا منهم.
قيل لابن عرفة: كيف يتمنون الرجوع إلى الكفر؟
فقال: إنما تمنوا التبرّي فقط وهو مستلزم للكفر.
فقال: أو يريد إنهم تمنّوا الرجوع (للدنيا) وبقاء رؤسائهم
كفارا فيتبرؤون هم من دينهم واتباعهم كما تبرؤوا هم من نصرتهم
في الآخرة.
قال ابن عرفة: ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل.
قوله تعالى {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ} .
أي مثل ما نالهم من الحسرة يتبرى متبوعهم منهم (لئلا) تنالهم
الحسرة برؤيتهم أعمالهم القبيحة وَبَالا عليهم، وكذلك أعمالهم
التي كانوا يظنونها صالحة وَبَالا عليهم لأنهم كفار.
(2/496)
قيل لابن عرفة: الآية على قراءة مجاهد
مشكلة فإنه قرأ «إذ (تبرأ) الذين اتَّبَعُوا» بفتح التاء «منَ
الّذين اتُّبِعُوا» (بضم التاء) فيشكل قوله {وَقَالَ الذين
اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ}
(لأنهم قد تبرؤوا منهم) ؟
فقال ابن عرفة: تبرّي التابعين من المتبوعين يعم تبرّي
المتبوعين منهم فلذلك قال هنا: {كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا} .
قوله تعالى: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار} .
قال ابن عرفة: قال الزمخشري: الضمير لمطلق الرّبط. لأن مذهبه
خلود مرتكب الكبيرة في النار فلو جعله للحصر لكان مفهومه أنّ
مرتكب الكبيرة يخرج من النار بالشفاعة.
وأجاب بعض الناس بأنه يلزم أهل السّنة كذلك لأن الآية في كفار
قريش وهم جعلوا مع الله شريكا فلا يصح الحصر لأن غيرهم من
الكفار مخلدون في النار.
وأجيب بأن الإجماع من الفريقين يقتضي أن الضمير لمطلق الربط.
(فالمعتزلة) يحملون الآية على مذهبهم ويجعلون مرتكب الكبيرة
مخلدا في النار.
(2/497)
وأهل السنة يجعلونها على مذهبهم لكن الضمير
ليس هو للحصر ليدخل الكافر غير المشرك فقط.
(2/498)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (168)
قوله تعالى: {ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا
فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً ... } .
قال ابن عرفة: هذا الأمر إما للوجوب أي أوجب الله علينا الأكل
لأنّ به قوام الأجسام، أو لوجوب الأكل من الحلال. وإما للندب
أو للإباحة وفيه دليل على أنّ الأشياء على الحظر، أو على
الإباحة.
ابن عرفة: وهو أظهر، لأنّ لو قلنا إن الأشياء كانت على الحظر
فيلزم عليه الإجمال في هذا الأمر لأن من جملة ما في الأرض
النبات والسباع وغير ذلك.
قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان ... } .
من مجاز التمثيل فإنه ليس المراد النهي عن اتباع خطواته حقيقة
إذ لا نراه نحن بل الخطوات (معنوية) .
(2/498)
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ
بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا
لَا تَعْلَمُونَ (169)
قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ
بالسواء والفحشآء ... } .
وقال (ابن عرفة) : لأن العدو (قد) يأمر بالخير وهذا العدو لا
يأمر إلا بالشر.
(2/498)
قيل لابن عرفة: فيه دليل على أنّ الأمر لا
يشترط فيه العلو بل الاستعلاء فقط، لأن الشيطان أسفل من
مأموره.
فقال: إنّما هو أسفل منه شرعا وهو في الوجود أعلى لاستعلائه
عليه من حيث لايراه ولا يشعر به. وأورد الزمخشري على هذا قوله
تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} قال
(كان) أمرا مع تلك الآية.
وأجاب عن ذلك بأنَّه شبّه تزيينه وبعثه على الشّر بالأمر وقبول
العباد وساوسه بامتثال الأمر.
قال ابن عرفة: أو يجاب بأن تلك مقيدة بالسّلطان وهو الحجة أو
بلفظ العباد، فالعباد لا يتسلط عليهم ولا تقوم له عليهم حجة
ولذلك أضافهم الله إليه إضافة تشريف، وقوله {بالسواء والفحشآء}
يحتمل أن يكون السّوء ما لم يرتب الشارع عليه الحد (والفحشاء
ما رتب عليه الحد، والسوء الصّغائر) والفحشاء الكبائر.
قوله تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ
تَعْلَمُونَ} .
قال ابن عرفة: يدخل فيه المفتي إذا أفتى بما لايعلم والقاضي
إذا حكم بما لايعلم فإنه قال على الله ما (لا) يعلم.
قيل لابن عرفة: يؤخذ منه أبطال العمل بالقياس؟
(2/499)
فقال: أما من لا يقول به فظاهر وأما من
يقول به فمقدمات القياس ظنية فتكون (النتيجة) ظنية، لكن يلزم
عليه إبطال العمل بجميع الأحكام الشرعية، لأنها كلها ظنية فليس
المراد العلم الحقيقي بل ما عليه الظن.
(2/500)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا
أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا
مَآ أَنزَلَ الله ... }
(قال) ابن عطية/: يعني كفار العرب، قال ابن عباس رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهما: نزلت في اليهود وقال الطبري: الضمير في (لهم)
عائد على النّاس في قوله {ياأيها الناس كُلُواْ} وقال ابن
عرفة: وهذا بناء على أن ذلك الخطاب خاص بكفار قريش.
وقال الزمخشري: الضمير للناس (وعدل) عن الخطاب إلى الغيبة
التفاتا.
ورده ابن عرفة بوجهين:
- الأول: أنه يحتاج إلى تخصيص عموم الناس بكفار قريش.
-
(2/500)
الوجه الثاني: أنّ الأول أمر وهذا خبر
فبيعد فيه الالتفاف.
قوله تعالى: {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا
عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} .
«بَلْ» هنا عاطفة، والإضراب (بها هنا) للانتقال لا للإبطال
لأنه أي الإبطال: لا يشترط فيه أن يكون ما قبلها وما بعدها من
لفظ متكلّم واحد حقيقة أو حكما، وليس هو كذلك هنا فإن المعنى
قالوا: بل نتبع.
وقوله: {مَآ أَلْفَيْنَا} قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إنما
لم يقولوا ما وجدنا عليه آباءنا ولو كان المعنى واحدا لأن
الوجدان يكون اتفاقيا على غفلة (من) غير (قصد) ومنه وجدان
الضالة.
«وألفينا» يقتضي وجدان ما كان ثابتا دائما مستقرا.
قال ابن عطية: الآية دالة على ابطال التقليد، وأجمعت (الأمة)
على إبطاله في العقائد. وحكى الأستاذ أبو اسحاق الإسفراييني
الإجماع على جواز التقليد في العقائد.
(2/501)
وحكى المقترح في شرح الإرشاد ثلاثة طرق
منهم من ينقل الإجماع (على الجواز ومنهم من ينقل الإجماع) على
المنع، ومنهم من يحكي الخلاف بين الشيخ القاضي (أبي بكر
الباقلاني) والأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني وتوقف ابن العربي،
وأجمعوا على أنّ الفرض من أصول الدين معرفة الله تعالى على
الجملة، وأما معرفة دقائق ذلك العلم والتبحر فيه ومعرفة الله
بالدلائل القوية الدقيقة فهو فرض كفاية. قاله ابن التلمساني في
شرح المعالم الدينية.
وقال الشيخ أبو عمرو بن الحاجب والآمدي: لا (تقليد) في
العقليات كوجود الباري، وقال (الفخر) بجوازه، وقيل: النظر فيه
حرام، ولنا الإجماع على وجوب ذلك والتقليد لا يحصل بجواز الكذب
ولأنه كان يحصل بحدوث العالم ولأنه لو حصل لكان نظرا ولا دليل
(عليه) قاله الشيخ ابن الحاجب.
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول إن هذه الآية دليل على صحة ما
يقول الأصوليون من أنّ الفعل في الإثبات قد يكون عاما مع
القرينة
(2/502)
لأن همزة الإنكار عليهم في حال عدم العقل
تدل على أنهم قصدوا اتّباعهم مطلقا في حالة العقل وعدمه، أي
أيَتّبعون إياهم، ولو كانوا لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئا وَلاَ
يَهْتَدُونَ. وهذا نفي أخص، فالتأكيد بالمصدر دخل على المنفي،
(فأكده) لأنه سابق على النفي. وإن جعلت شيئا مفعولا لم يحتج
إلى هذا.
فإن قلت: ما أفاد قوله {وَلاَ يَهْتَدُونَ} مع أنّ نفي (العقل)
عنهم يستلزم نفي الاهتداء؟
فالجواب: أن المراد لايعقلون (شيئا) من ذات أنفسهم ولو
(نبّههم) غيرهم لما اهتدوا.
(2/503)
وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا
دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ
(171)
قوله تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ
كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ} .
أي وَصِفَةُ الَّذينَ كفروا كصِفة الذي ينعق.
قال الشيخ أبو حيان: وقيل الكاف زائدة.
قال ابن عرفة: يفوت معنى التشبيه لأن قولك زيد (كزهير شعرا)
يقتضي انك جعلته مثله سواء.
وأجيب بأنه هنا شبهت الذّات بالذّات وذات زيد (معينة) مشخصة لا
يقبل التعدد، وفي الآية شبهت الصفة بالصّفة، والصفّة
(2/503)
يمكن فيها التعدد والمخالفة فجعلت كأنها هي
ولو في (وحدة) النوع.
قيل لابن عرفة: وكذلك ذات زيد جعلت كأنها ذات عمرو في الشعر
فقوله «شعرا» أزال الشخص والتعيين. فإن قلت: لم خالف بين
«كفروا» فعبر فيه بالماضي وبين «من ينعق» (فجاء) به مستقبلا
وهلا استويا أو كان الأمر بالعكس؟
فالجواب بوجهين:
- (الأول) : أن المراد من اتصف بمطلق الكفر.
- الثاني: أنه تقبيح للكفر أن يذكر بصيغة يقتضي الدوام.
قال ابن عرفة: وعادتهم يفرقون بين الدعاء والنداء بأن الدعاء
يكون بلفظ الطلب وسواء كان معه نداء أو لم يكن، والدعاء أخف من
النّداء لأن البهائم تناديها فلا تجيب فإذا دعوتها وزجرتها
أتت. فالنداء للخواص والدعاء للعوام فمن لم يستجب للنداء قد
يستجيب للدعاء، ومن لم ينفع فيه (الدعاء) فهو في غاية الجهل
والغباوة.
ونقل أبو حيان عن بعضهم: (إلاّ) زائدة.
قال ابن عرفة: وسببه توهم التناقض لأنه إذا قال: {لاَ يَسْمَعُ
إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} ، ويلزم أن يكون الدعاء والنداء
مسموعين له
(2/504)
وقوله {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} يدل (على) أنه
لا يسمع شيئا بوجه.
قوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} .
أي العقل التكليفي النافع.
(2/505)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ
وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ
كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ... } .
تقرير مناسبتها لما قبلها أنه لما تضمن الكلام السابق ذمّ
المشركين لكونهم ليسوا أهلا لأن يخاطبوا بشيء من الأخبار ولا
بشيء من الأوامر والنواهي، عقب ذلك بخطاب المؤمنين بهذا الأمر
المستلزم لكونهم أهلا للمخاطبة.
وقرر الفخر وجه مناسبتها بوجه لا ينهض والأمر بقوله / «كُلُوا
مَا» للامتنان أو للاباحة.
قال ابن عطية: الطيب هنا يجمع الحلال المستلذ، والآية تشير
بتبعيض «من» إلى أن الحرام رزق.
قال ابن عرفة: وجه دلالتها على ذلك من المفهوم لأن مفهومه أن
البعض الآخر وهو الذي ليس بحلال ولا مستلذ غير مأذون فيه.
قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون هنا سؤالا وهو أنه قال في الآية
الاخرى {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} ولم
(2/505)
يقل من طيبات ما رزقناكم مع أن تلك خطاب
للرسل (فهو كان يكون) أولى بهذا اللفظ؟ وعادتهم يجيبون بوجيهن:
- الأول: أمّا إذا قلنا: إن الرزق لا يطلق إلا على الحلال
فنقول: لمّا كان الأنبياء معصومين أمروا أمرا مطلقا من غير
تعيين الحلال وغيرهم ليس بمعصوم، فقيد الإذن في الأكل له
بالحلال فقط فيكون الطيب على هذا المراد به المستلذ.
- الجواب الثاني: الرسل في مقام كمال التوحيد ونسبة كل الأشياء
إلى الله عَزَّ وَجَلَّ وأما غيرهم فليس كذلك فقد يذهل حين
اقتطاف الثمرة ويظن أنها من الشجرة ويغفل عن كون الله تعالى هو
الذي أخرجها منها وأنبتها فقيل لهم {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ
مَا رَزَقْنَاكُمْ} حتى يعتقدوا حين التناول أن ذلك الرزق كله
من عند الله وليس للمتسبب فيه صنع بوجه.
(2/506)
إِنَّمَا حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا
أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ
وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (173)
قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ
الميتة والدم ... } .
قال ابن عرفة: الدّمُ المسفوح نجس بإجماع، وكذلك الذي يخرجه
الجزار من منحر الشاة بعد سلخها والدّم الذي يبقى في العروق
طاهر (بإجماع وأمّا ما انتشر من العروق على اللحم ففيه قولان
والمشهور أنه طاهر) كذا قال اللّخمي وغيره.
والميتة هي (كل مازهقت) روحه بغير ذكاة من الحيوان المفتقر إلى
الذكاة شرعا.
فإن قلت: هلا قيل: إنما حرم عليكم لحم الميتة كما قال: لحم
الخنزير؟
(2/506)
قلت: الجواب عن ذلك أن الخنزير غير مقدور
عليه إلا بالاصطياد، والاصطياد فيه في غالب أمره إنما يكون
للحمه، فعلق بما هو المقصود فيه غالبا بخلاف الميتة فإن النفوس
تفر منها وتكره لحمها فالمحرم جميعها.
قال ابن عرفة: وما ذبح للجان ويتعمدون ترك التسمية عليه
يقولون: إنه لا يؤكل. والظاهر عندي جواز أكله لأنهم لا يقصدون
به التقرب للجان وإنما يقصدون به تكرمته، وأنه ينال منه ولا
يتركون إلا النطق بالتسمية وهم إنما يسمّون في أنفسهم.
قوله تعالى: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ... } .
الفاء للتسبب ومن الأولى (أن تكون) موصولة لما تقدم فى قوله
تعالى {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} من أن القضية
الشرطية لا تدل على وقوع الشيء، ولا على إمكان وقوعه. و
{غَيْرَ بَاغٍ} قال ابو حيان: حال من الضمير فيى «اضطر» وقيل:
حال من الضمير في الفعل المقدر معطوفا على «اضطر» أي في فأكل
غير باغ ولا عاد.
وتعقبه أبو حيان باحتمال تقدير ذلك (الفعل) بعد {غَيْرَ بَاغٍ}
وهو أولى لأن في تقديره قبله فصلا بين ما ظاهره الاتصال بما
بعده.
(2/507)
قال ابن عرفة: وهو أيضا باطل من جهة المعنى
لأنه، على ما قال هو يكون البيان للحكم بعد الأكل وعلى ما قال
أبو حيان يكون البيان للحكم قبل الأكل والبيان قبل الفعل أولى.
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: البغي غالب إطلاقه في اللّسان
على ابن آدم (والعدوان غالب إطلاقه على غير ابن آدم) .
فيقال: عدا عليه السّبع ولا يقال: بغى عليه، ويقال: بغى فلان
على فلان فالبغي خاص بالعاقل والتعدي مشترك، وغالب إطلاقه على
غير العاقل، وفرق المنطقيون بين حرف السّلب وحرف العدول فحرف
السلب «لا» وحرف العدول «غير» وجعلوا قولك: الحائط لا يبصر
سلبا وزيد لاَ يبصر عدولا، فجاءت هذه الاية على هذا المنوال
لاقتران «غير» بالبغي الخاص بالعاقل واقتران «لا» بالتعدي الذي
كثر اطلاقه على غير العاقل حتى اشتهر به وغلب عليه.
قوله تعالى: {فلآا إِثْمَ عَلَيْهِ ... } .
قال ابن عرفة: لا ينفى إلاّ ما هو في مادة الثبوت ووجود الإثم
هنا غير متصور لأن الأكل من الميتة في هذه الحالة واجب لإقامة
الرمق قال: فأجاب بان المراد لا عقوبة عليه أو لا ذم عليه.
واختلفوا في حد الحرام.
قال المتقدمون: إنه ما عوقب فاعله. قال بعضهم: والصحيح أنه ما
ذم فاعله لأن العقوبة قد ترفع بالتوبة، فعلى الأول معنى الآية
فلا عقوبة عليه، وعلى الثاني معناها فلا ذم عليه.
قال ابن عرفة: وفي الآية دليل على أن العام في الأشخاص عام في
الأزمنة والأحوال، وهو الصحيح، ولولا ذلك لما احتيج
(2/508)
إلى استثناء المضطر منه، واختلفوا في
الآية، فقيل: إنها خاصة بسفر الطاعة، وقيل عامة فيه وفي سفر
المعصية لأنه لو لم يبح للعاصي أكل الميتة للزم أن يضاف إلى
عصيانه بالسفر عصيان آخر بقتله نفسه؟
وأجاب بعض الناس عن ذلك، بأن عصيان السفر يرتفع بالتوبة وهي
(ممكنة) / حينئذ قال ابن عرفة: وفي الآية حجة للمشهور وهو أنّ
العاصي بالسفر (لا يباح له أكل الميتة) .
قوله تعالى: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
قال ابن عرفة: وجه مناسبة المغفرة أنه قد يظن أنه مضطر فيأكل
الميتة ولا يكون مضطرا إليها.
(2/509)
إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا
يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ
أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً
... } .
قال ابن عرفة: عطفه بالواو مع أن الشراء مسبوق عن الكتم فهلا
عطف بالفاء؟
وأجاب عن ذلك بأن المراد الذمّ على كل وصف منهما لا على واحد
فقط. وجعل الثمن مشترى فإما أن يتجوز في لفظ «يَشْتَرُونَ»
فيجعل بمعنى يبيعون أو في لفظ «ثمنا» بمعنى مثمون قليلا؟
وهذا إن حملنا اللّفظ على حقيقته اللّغوية فنقول يصح: إطلاق
الثمن على المشترى وعلى عوضه وإن نظرنا الاصطلاح فيجيء ما
قلناه.
قيل لابن عرفة: ظاهره منع أخذ الأجرة على تعليم القرآن لأنه من
كتم ما أنزل الله؟
فقال
(2/509)
ابن عرفة: أباح له أخذ الأجرة عليه كما
أباح له ثمن الماء لأجل المشقة، (وكما) أباح له أخذ ثمن
الطّعام في الأعوام التي هي مسبغة مع أنه يجب عليه إعطاؤه
والواجب إنما هو تعليمه وإعطاؤه ما عنده سواء كان بالثمن أو
بغيره وليس الواجب عليه بذل ما عنده بلا ثمن وهذه أمور جعلية
لا عقلية.
قوله تعالى: {أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ
النار ... } .
قال تعالى في سورة الغاشية {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن
ضَرِيعٍ} وأجاب ابن عرفة: بأن الضريع طعامهم ولا يأكلون منه
وإنما تكون المعارضة إن لو قيل ليس لهم أكل (إلا) الضريع أو
يكون باختلاف الحالات في الأوقات (أو يكون) الضريع نارا فأكلهم
للضريع أكل للنار، والأكل المضغ فهو في الفم لا في البطن لكن
روعي السبب.
(2/510)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ
بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة
بالهدى ... } .
إن قلت: ما فائدة قوله «الذين» وهلا قال: أولائك اشْتَرُوا
الضَّلاَلَةَ بِالهُدَى كما قيل {أولئك يَلعَنُهُمُ الله
وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} {أولئك
(2/510)
كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} (فهل هو للحصر) ؟
(فأجاب ابن عرفة: بأنه ليس للحصر بل للتحقيق، أي فهم جديرون
وحقيقون بأن يقال فيهم هذه المقالة وهي أحق من غيرهم.
ابن عرفة: وفي كتاب الوصايا من المدونة: إذا أوصى فلان بعبده
لرجل ثم أوصى به لرجل آخر فهو بينهما نصفين. فإن قال: عبدي
الذي كنت أوصيت به لفلان فهو لفلان فلذلك رجوع عن الوصية
الأولى ويختص به الثاني) .
قال ابن عرفة: إنّ {اشتروا الضلالة بالهدى} راجع لتصوّر حالتهم
في الدنيا.
قوله تعالى: {والعذاب بالمغفرة ... } .
راجع لتصوّر حالهم في الآخرة وهذا أولى مما قال ابن عطية: لما
كان العذاب تابعا للضلالة والمغفرة تابعة للهدى أدْخِلا في
(حوز) الشراء، ولما كانوا متمكنين من الإيمان والكفر جعلوا
كأنّهم حصلوا الإيمان ثم باعوه بالكفر.
وتقدم لابن عطية في أول البقرة الاستدلال بهذا على أن من خير
بين شيئين يعد منتقلا.
(2/511)
قيل لابن عرفة: إنما فيها الاحتجاج لمن
يقول من ملك أن يملك بعد مالكا؟
فقال: تلك قاعدة (مختلف) فيها والصحيح بطلانها وهذه قاعدة
صحيحة دلت عليها آخر مسألة من كتاب الخيار في المدونة.
قيل لابن عرفة: هم ليسوا مخيرين بين الإيمان والكفر؟
فقال: لما كانوا متمكنين منهما فكأنهم (مخيرون) بينهما.
قال ابن عرفة: وإنما أفردت المغفرة (إشارة) إلى أن مغفرة واحدة
(تكفي) في رفع العذاب وإن تعدد، وهذا دليل على أن التوبة من
الكفر قطعية القبول وأنّها تَجُبّ ما قبلها، قال الله تعالى:
{قُل لِّلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا
قَدْ سَلَفَ} قوله تعالى: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} .
(قال ابن عطية عن جماعة: أظهروا التعجب (من) صبرهم على النار
لما عملوا عمل) (من وطّن نفسه عليها)
(2/512)
أي ما أجرأهم على النّار. وحكى عن المقتضب
للمبرد أنه تقرير واستفهام من قولك مصبور أي محبوس أي ما أشد
حبسهم في النار أو ما أحبسهم في النار.
قال ابن عرفة: وهذا أصوب لأن الأول يقتضي أن لهم اختيارا
وجلادة على الصبر على النّار وهذا مدح لهم بالقوة والجلادة.
والثاني يقتضي أن حبسهم فيها اضطرار ليس لهم فيه اختيار بوجه.
قيل لابن عرفة: إنّما التعجّب من أسباب صبرهم على النار؟
فقال: أسباب الصبر (محبوبة) مستلذة، لا يتعجب (منها) كما قال
«حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ
بِالشَّهَوَاتِ» .
(2/513)
ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله نَزَّلَ
الكتاب بالحق ... } .
قال ابن عطية: أي بالواجب أو بالأخبار الصادقة.
وضعف ابن عرفة الأول بأن فيه (إيماء لمذهب) المعتزلة القائلين
بالتحسين والتقبيح عقلا وأنّ بعثة الرّسل وإنزال الكتب واجب
(2/513)
عقلا فليس المراد إلا إنزال الكتب مصاحبا
لكلامه الحق المصدق، وإنزاله بسبب الحقّ الصدق.
قوله تعالى: {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِي الكتاب لَفِي شِقَاقٍ
بَعِيدٍ} .
هم كلهم في شق واحد بعيد عن شق الحق، ولا يؤخذ منه أن المصيب
واحد لأنّ المراد المختلفين في الكتب/ من أهل البدع وكلهم على
الباطل.
(2/514)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي
الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ
فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
قوله تعالى: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ
وُجُوهَكُمْ ... } .
قال ابن عطية عن ابن عباس (ومجاهد) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم:
الخطاب للمؤمنين أي ليس البر الصلاة وحدها. وعن قتادة والربيع:
(الخطاب) لليهود والنصارى.
قال ابن عرفة: هو الظاهر لقوله: {قِبَلَ المشرق والمغرب}
والمراد بالمشرق حقيقته لأنّ النّصارى يستقبلون مشرق الشمس،
والمراد بالمغرب الأفق لأن اليهود إنما يستقبلون بيت المقدس
وهو في جهة المغرب. وفي الآية إيماء لصحة القول بأن المطلوب في
القبلة الجهة لا العين. ومعنى «قِبَلَ المَشْرِقِ» : عند
المشرق وهو مراد الموثقين بقولهم: قبل فلان (لفلان) كذا وكذا
دينارا.
(2/514)
قال ابن عرفة: ومن لوازم الإيمان بالملائكة
الإيمان بعصمتهم وأنهم (أجسام) . وصوب المقترح في شرح الإرشاد
القول بثبوت الجسمية لهم بالسمع لا بالعقل، كأنه اختار ثبوت
الجوهر المفارق سمعا لا عقلا.
قوله تعالى: {واليوم الأخر ... } .
قوله تعالى: {والنبيين ... } .
قال ابن عرفة: (النبي) أعمّ من الرسول، وثبوت الأعم لا يستلزم
ثبوت الأخص، فما يلزم من الإيمان بالنبي الإيمان بالرسول فهلا
قيل المرسلين؟
والجواب: أن ذلك باعتبار الوصف، لأن وصف النبوة أعم من وصف
الرسالة. وترتب الحكم هنا عليهم من حيث ذواتهم لا من حيث
أوصافهم، وعرف بالألف واللاّم الدالة على العموم فيدخل في ضمنه
الأخص بلا شك فهو كقولك كل حيوان في الدار.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن الإيمان باليوم الآخر والملاَئِكَة
وَالكِتَابِ يستلزم الإيمان بالرسول؟
فقال: لايحتاج إلى هذا والجواب ما قلناه.
فإن قلت: لم جمع الكل وأفرد ابن السبيل؟
(2/515)
قلنا: لِكثرتهم باعتبار الوجود الخارجي
وقلة ابن السبيل، وقرىء {لَيْسَ البِرَّ} بالنصب.
قال ابن عرفة: و «أَنْ تُوَلُّوا» اسم ليس إما لكون «أَن» وما
بعدها أعرف المعارف أو لأن التولية معلومة والبر مجهول أي ليست
التولية برا.
قوله تعالى: {وَفِي الرقاب ... } .
قوله تعالى: {والموفون بِعَهْدِهِمْ ... } .
قال ابن عرفة: إن قلت: هلا قيل: بعهودهم فهذا أبلغ من الوفاء،
فالعهد الواحد لا يستلزم الوفاء (بالعهود) بخلاف العكس؟
فالجواب: أنه يستلزم من ناحية أنّ المكلف إذا عاهد هو وغيره
ووفى غيره بالعهود وبِهِ فإنه قد حصل الوفاء بالعهد على
الإطلاق بخلاف ما إذا عاهد وحده ولم يوف فإنّه لم يقع في
الوجود وفاء بالعهد، فتعظم العقوبة والذم.
فإن قلت: ما فائدة قوله {إِذَا عَاهَدُواْ} ولو أسقط لكان
الكلام مستقلاّ صحيحا؟
فالجواب عن ذلك: أنّه أفاد سرعة الوفاء فالعهد به (يعقب) العهد
منهم فهُم بنفس أن يعاهدوا يبادرون إلى الوفاء بالعهد.
(2/516)
قوله تعالى: {والصابرين فِي البأسآء
والضراء وَحِينَ البأس ... } .
البَأْسَاءُ هو الفقر، والضَّرّاءُ هو المرض، وحين البأس أي
حين القتال وهذا ترق، لأن وقوع الفقر والحاجة (في) الناس أكثر
من وقوع القتال فالصبّر على القتال أشد لغرابته، وقلة وقوعه،
ودونه الصبر على المرض ودونه الصبر على الفقر، ولهذا تجد
الفقراء الأصحاء أكثر عددا من المرضى، والمرضى أكثر عددا من
الفرسان المقاتلين.
فإن قلت: لم قال «في البأساء» فعداه بفي ولم يقل وفي البأس
وكان يقال: والصابرين حين البأساء وحين الضراء؟
فالجواب عن ذلك: أنه لما كان وقوع القتال أقلها وجودا بالنسبة
إلى غيره كان الصبر عليه أغرب وأعجب فالمراد بالصابرين من حصل
الوصف الكامل من الصبر ولو عدي بفي لتناول من حصل منه مطلق
الصبر، وهو الصابر في أول جزء من أجزاء القتال لأنه حينئذ يصدق
بأول جزء، فقيل: «وَحِينَ البَأْسِ» (ليفيد) كمال الصبر من أول
القتال إلى آخره وأما الفقر والمرض فكلاهما أكثري الوقوع فلا
غرابة فيهما فلم يحتج إلى التنبيه على كمال الصبر فيه.
قال سيدنا علي رضي الله تعالى عنه: «الصبر رأس كل عبادة وإذا
ذهب رأس الشيء ذهب ذلك الشيء» . وذكر بعضهم أن العهد يكون
بالقول وبالفعل كمن يحدث حديثا وهو مترقب (لمن) يسمعه فهذا
كالعهد في عدم نقله عنه والتحدث به.
(2/517)
قوله تعالى: {أولئك الذين صَدَقُواْ ... }
.
كرر لفظ أُوْلاَئِكَ تنبيها على أن كل وصف من هذا كاف في حصول
المدح والثناء لا المجموع.
قيل لابن عرفة: احتجّ بها بعض الأصوليين على أن هذه الأمور
واجبة؟
ابن عرفة: الصحيح عند الأصوليين أن الواجب ما ذمّ تاركه
فالواجب إنما يستفاد من الذم على الترك لا من المدح على الفعل
لأن ذلك قدر مشترك بين الواجب والمندوب.
قيل لابن عرفة: هذه الآية حجة على أن (ابن قتيبة) في قوله: إن
الخبر المستقبل إذا طابق مخبره فإنما يسمّى موافقة و (وفاقا)
ولايسمى صدقا، وقد سماه هنا صدقا فقال: والصدق هنا المراد به
المطابقة المطلقة.
(فقال ابن عرفة: بل هي حجة له لأنه يجعل {أولئك الذين
صَدَقُواْ} راجعا للماضي ويجعل {الموفون بِعَهْدِهِمْ} راجعا
للأمر المستقبل فيكون الكلام تأسيسا وعلى قولكم «أنتم» يكون
تأكيدا والتأسيس أولى من التأكيد) .
قاله ابن التلمساني شارح المعالم الفقهية في المسألة الأولى من
الباب (الثامن) .
(2/518)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ
وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ
فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ القصاص ... } .
قال ابن عرفة: الخطاب للمؤمنين.
فإن قلنا: إنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟
فنقول: إنما عين المؤمنين هنا لما ذكره المفسرون في سبب نزول
هذه الآية. قال: كتب بمعنى فرض أو كتب في اللوح المحفوظ.
وأورد الشيخ ابن العربي هنا سؤالا قال: كيف يفهم الكتب بمعنى
الفرض مع أن القصاص غير واجب؟
قال ابن عرفة: والجواب أنّا إذا اعتبرنا جهة المجني عليه ووليه
فالقصاص غير واجب لأنه مخير بين القصاص وأخذ الدية، وإذا
راعينا جهة الجاني فالقصاص غير (واجب) . إن طلب الولي الدية،
وهذا بخلاف الدين فإنّ رب الدّين إذا أسقط دينه وامتنع من أخذه
وأبى ذلك المديون فإنه يجبر رب المال على أخذ دينه، ولذلك إذا
حلف أنه لا يأخذه وحلف المديون أنه لايحبسه فأنه يحنث رب المال
وما ذاك إلا لحفظ النفوس، بخلاف الأموال فإن المديان يقول له:
لا أقبل (مزيتك) ولا أحبها.
قال ابن عرفة في هذا: والقصاص (فعال) لأنه يفعل كما فعل له
(كالإتباع) سواء لأنه يفعل كفعل المتبع.
(2/519)
قال ابن العربي: واحتج بها الحنفية على أن
المسلم يقتل بالكافر لقولهم «الحر بالحر» فعمم ولم يقيد ولو
كان بينهما فرق لبينه.
وأجيب بقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ولا
أخوة بين المسلم والكافر إلا أن يريد بالأخوة الصحبة فحينئذ
(لايزال السؤال واردا) . لكن يجاب بما قال الفخر الرازي في
المحصول في قوله تعالى {لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ
الجنة} قال: المراد نفي مطلق المساواة في الخلود وغيره فاحتج
به الشافعي على أنّ المسلم لا يقتل بالكافر.
قال: والأعم لا إشعار له بالأخص.
قال ابن عرفة: ورد عليه بعضهم بأنه لا يستوي فعل في سياق
النّفي فيعم لأن نفي الأعم أخص من نفي الأخص (فنقول) تلك الآية
دلت على نفي مساواة بينهما فلا يقتل المسلم بالكافر.
قال الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي:
قال الكوفيون والثوري: يقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر
الذمّي.
واحتجّوا بهذه الآية. قالوا: الذّمي مع (الحر) متساويان في
حرمة الدم على التأبيد بدليل أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي
كمال المسلم فيتساويان في الذّم إذ المال إنما يحترم بحرمة
مالكه.
(2/520)
قال ابن عرفة: يقال: إنّما قطع في المال
لأنه من فساد الأرض بدليل قول مالك: إن الكافر إذا سرق من مال
المسلم فإنما تقطع يده، وإذا زنا بالمسلمة طائعة فإنه لا يحد
وما ذلك إلا لأنّ أخذ المال من الفساد في الأرض بخلاف الزنا.
قال ابن عرفة: وقولهم في العبد إذا جنى جناية وقطع يد المسلم
إنّ سيده مخيّر، فله أن يسلمه في الجناية مع أنه يبقى سليما في
بدنه.
والصواب كان في عقوبته أن تقطع يده لأن إسلامه في الجناية
كبعيه، فما يظلم (بذلك) إلاّ سيّده وأما هو فلم يقع عليه عقاب
ولا حد يرتدع به بوجه.
وغلط الزمخشري هنا في نقله عن الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ
عَنْه لأنه قال: مذهب مالك والشافعي أن الحر لا يقتل بالعبد،
والذكر لا يقتل بالأنثى. أخذ بهذه الآية.
(واختلفوا في هذه الآية) فقيل: إنها منسوخة بآية المائدة وقيل
مجملة وتلك مبينة لها.
وقال ابن العربي: تلك مجملة وهذه مبنية (لها) .
(2/521)
ابن عطية: وقال علي والحسن ابن أبي الحسن
إذا قتل رجل إمرأة فإن أراد أولياؤها قتلوه (ووفوا) أولياءه
نصف الدية، وإلا استحيوه وأخذوا الدية، وإذا قتلت امرأة رجلا
فإن أراد أولياؤها قتلوها وإلا استحيوها، وإن قتلوها أخذوا نصف
الدية وإن استحيوها أدّوا الدية كاملة.
قال ابن عرفة: (نظيره) في مذهبنا قولهم في كتاب الزكاة: إذا
وجبت على الإنسان بنت لبون فأعطى للساعي بنت مخاض وما نقصت
قيمتها عن بنت اللّبون أو وجب عليه بنت مخاض فأعطاه بنت
اللّبون وأخذ منه ما زادت قيمتها عن قيمة بنت المخاض فالمشهور
عدم الإجزاء وقيل يجزيه.
قوله تعالى: {ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ... }
.
(ابن عطية) الإشارة إلى ما شرعت له هذه الآية من أخذ الدية،
وكان عند بني إسرائيل في التوراة وجوب القصاص ولا دية عندهم.
وقال الطبري: حرم على أهل الإنجيل الدّية وكان الواجب عليهم
إمّا القصاص أو العفو على غير شيء.
وقال الزمخشري: فرض على أهل الإنجيل العفو وحرّم عليهم القصاص
والدّية.
(2/522)
ورده ابن عرفة بوجهين:
- الأول: ما نقله الطبري وهو حجة في التفسير، - الثاني: أن
الأصوليين عدوا حفظ النفوس في الكليات الخمس التي اجتمعت الملل
كلها على (حفظها) ، وأيضا فهو مصادم لمقتضى الآية لأنه تكون
شريعة النّصارى أخف من شريعتنا فلا يكون ذلك تخفيفا بل تثقيلا.
قال ابن عرفة: فالتخفيف هو أنه كان في الجاهلية تحتم القصاص من
غير قبول العفو، فصار الآن عقوبته إذا عفى عنه الولي أن يجلد
مائة ويسجن عاما.
قوله تعالى: {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
ابن عطية: وقال الحسن: عذابه/ أن يؤدي الديّة فقط ويبقى (إثمه)
إلى عذاب الآخرة.
قال ابن عرفة: هذا (شبه) ما قالوا في اليمين الغموس إنها أعظم
من أن تكفر.
(2/523)
وَلَكُمْ فِي
الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ (179)
قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ
... } .
ابن عرفة: فيه دليل لاهل السنة القائلين بأن لا حسن ولا قبح
لأن الآية خرجت مخرج الامتنان بتعداد هذه النعم، فدلّ على أنها
تفضل من الله تعالى، ولو كان القصاص واجبا في (العقل) لما حسن
كونه نعمة، ولما صح الإتيان به لأن ذلك تحصيل الحاصل.
(2/523)
قال الأصوليون والبيانيون: وهذه أبلغ من
قول العرب القتل أنفى للقتل.
وقدره ابن مالك في المصباح بأربعة أوجه:
أحدهما: أن حروفها عشرة، وأسقط منها الياء من في (وألف) الوصل
من «القِصَاصِ» لسقوطها في النطق وفي التفعيل أعني الأوزان
(الشعرية) ، وحروف «القتل أنفى للقتل» أربعة عشر.
الثاني: تنافر الحروف في المثل وتناسبها في الآية.
الثالث: لفظ الحياة محبوب، فالتصريح باسمها أولى من الكناية
عنه بنفي القتل.
الرابع: صحة معناه لأن تنكير الحياة يفيد إما حياة عظيمة أو
نوعا من الحياة إشارة لحسنه وغرابته، بخلاف المثل فإن معناه
غير صحيح وحقيقته غير مرادة.
قال ابن عرفة: ويظهر لي بيان الرّابع إما بأن القتل في المثل
(مطلق) (يتناول) القتل عدوانا مع أنه غير مراد والآية صريحة في
نفي ذلك.
قال (ابن عرفة) : والآية أصوب من وجه آخر وهو أنها تقتضي
المساواة في جميع الوجوه بخلاف المثل فليس فيه تنصيص على
المساواة.
(2/524)
وذكر (الطبري) في تأليفه في البيان
والجعبري في شرح الشاطبية الصغرى أنّ الآية تفضله من وجوه:
أحدها: (إيهامه) التناقض لمنافاة الشيء لنفسه أو العموم فيكون
القتل ظلما أنفى للقتل قصاصا والمراد العكس بخلاف الآية فإنّها
صريحة في معناها من غير احتمال (شيء) .
الثاني: عدول الآية عن التكرار وعن الإضمار، بخلاف المثل لأن
تقديره كراهية القتل أنفى للقتل.
الثالث: سلامة ألفاظها عما يوحش السامع، وتخصيصها بالحياة
المرغوب فيها وبعدها عن تكرار (قَلْقَلة) القَافِ للضَغط
والشدة وتخصيصها بتكرار الصاد المستجلب (باستعلائها) وإطباقها
مع الصفير للفصاحة.
الرابع: فيها الطباق المعنوي بين القصاص والحياة.
قلت: وزاد بعضهم عن القاضي ابن عبد السلام أن الآية أعجب
لاقتضائها أنّ الموت سبب في الحياة ولأن دلالة القصاص على
الحياة مطابقة ودلالة القتل عليها باللزوم.
(2/525)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا
حَضَرَ ... } .
قال الزمخشري: الوصية للوارث كانت في ابتداء الإسلام فنسخت
بآية المواريث ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أن
الله أعطى لكل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث» .
قال (ابن عرفة) : (وهذا حديث تلقته الأيمة بالقبول حتى لحق
بالمتواتر وإن كان أخبار آحاد. وحكى ابن عطية عن ابن عباس
والحسن أنه نسخ منها الوصية للوالدين والقريب والوارث ثم قال:
وهي في آية الفرائض في النساء) (ناسخة لهذا الحديث المتواتر:
قوله: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه» ) . وهذا خطأ كيف يجعله
متواترا والمحدثون مطبقون على أنه لم يصح، وكلام الزمخشري فيه
أصوب.
ابن عطيّة: «الوَصِيَّةُ» مفعول لم يسم فاعله «لكُتِبَ» وجواب
الشرطين «إِذَا» و «إن» مقدر يدل عليه ما تقدم. وتعقبه أبو
حيان بامتناع تقدّم العامل في «إِذَا» عليها.
(2/526)
ابن عطية: يجوز أن يكون العامل في «إذا»
الإيصاء المقدر المدلول عليه بلفظ الوصية والوصية. مبتدأ وهو
جوابه للشرطين معا.
وتعقبه أبو حيان بأنه إذا قدر قبل «إذا» لزم تقدم العامل فيها
عليها، وإن قدر بعدها فهو موصول، ومعمول الصلة لا يتقدم عليه
وبأن المقدر هنا ضمير المصدر معناه كتب عليكم هو أي الإيصاء
وضميره المنطوق به لا يعمل عند الكوفيين فأحرى (المنوي)
بامتناع كون الشيء الواحد جوابا لشرطين معا.
وأجاب ابن عرفة بأن المعنى يقتضي كون الجواب للشرطين معا لئلا
يلزم عليه فيمن حضره الموت وله مال قليل أن يؤمر بالوصية،
فالأمر فيها إنما هو لمن اجتمع فيه الوصفان، ورده بعض الطلبة
بأن مراد أبي حيان أنّ الجواب للشرط الأول والشرط الثاني قيد
في الجواب، وجوابه محذوف يدل عليه جواب الأول والمعنى: كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت ... «الوصية» إِن
تَرَكَ خَيْرا.
قال ابن عرفة: يلزمك أن يكون الشرط الثاني وجوابه جوابا للأول،
والبحث إنما هو على أنهما شرطان وجوابان أو شرطان وجواب واحد.
قال ابو حيان: لا يجوز أن يكون جواب (إذا) مقدرا من معنى كتب
(لمضيه) واستقبال الشرط.
(2/527)
قال ابن عرفة: أراد ما ذكر ابن عصفور في
باب القسم (من) أن جواب الشرط لا يحذف إلا إذا كان فعل الشرط
ماضيا، وبهذا (ردوا) على حازم في قوله تعالى {إِن
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ
فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} قال: جواب الشرط مقدر، أي فإنك
أنتَ الغَفُورُ الرّحِيمُ، لأنّ (العزّة) لا تناسب المحل، وكان
المختار أن يوقف عند قوله «وَإِن تَغْفِرْ لَهُم» «فَإِنَّهُمْ
عِبَادُكَ» فردوا عليه بأن جواب الشرط لا يحذف إلا إذا كان فعل
الشرط ماضيا.
قال ابن عرفة: واتفقوا على أن الوصية واجبة لكنّها تختلف فقد
يكون/ مندوبا إليها إذا كان القريب فقيرا وإن كان غنيا فهي
للبعيد أولى.
قوله تعالى: {حَقّاً عَلَى المتقين} .
إن قلنا: إن المتقي مرادف للمؤمن، فالآية واضحة وإن قلنا إنه
أخص من المؤمن كما هو مذهب المحققين من المتأخرين فتفهم الآية
على أن الخطاب باعتبار ظاهر اللفظ للتكليف وفي المعنى الامتثال
(2/528)
لأنّ ظاهرها تخصيص وجوب ذلك (بالمتقي) فلا
بد أن يُرَادِفَهُ وجوب قبول وامتثال.
فإن قلت: ما فائدة الإتيان بهذا المصدر (المؤكد) ؟
وأجاب ابن عرفة: بأن قولك «أكرم زيدا» أبلغ من قولك أكرم زيد
إذا جاء عمرو ولضعف الثاني بتعليقه على الشّرط، والأول مطلق
فهو أقوى ولما أتي الأمر بالوصية مقيدا بالشرط وهو إن (تَرَك)
خيرا ضعف فأكد بقوله {حَقّاً عَلَى المتقين} .
قال أبو حيان: «حقا» مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي حُقّ ذلك حقا،
ورُدّ بأن «على المتقين» إما متعلق به والمصدر المؤكد لا يعمل،
أو صفة له فيخرج عن التأكيد لتخصصه.
قال ابن عرفة: تقرر أن معاني الحروف والأسماء الجوامد تعمل في
الظروف والمجرورات. قلت كقول الشاعر:
كأنه خارج من حيث صفحته ... سعود شرف نشده عند معتاد
أنشد ابن الصائغ في باب الاشتغال ورد به على ابن عصفور وقوله:
أنا ابن ماوية (إذا جدّ النقر)
(2/529)
قال أبو حيان: وقيل: نعت لمصدر محذوف أي
كتابا حقا أو (إيماء) وقيل منصوب ب «المتقين» وهو بعيد لتقدمه
على عامله الموصول وعدم تبادره إلى الذهن.
قال ابن عرفة: العلوم النظرية كلها كذلك لأنها توصل إلى فهم
المعاني الدقيقة التي لا تفهم بأول وهلة.
قيل لابن عرفة: إنمّا (يراد) أن الظاهر خلافه؟
فقال: إن أراد أن ظاهر اللّفظ ينفيه فليس كذلك وإن أراد أن
ظاهر اللّفظ لا يقتضيه ولا يدل عليه فكذلك المعاني الدقيقة
كلها.
أبو حيان: (والأولى) أنه مصدر من معنى «كتب» لأن معناه وجب وحق
مثل قعدت جلوسا.
قال ابن عرفة: الّذي فر منه وقع فيه لأنه ألزم غيره امتناع عمل
المصدر المؤكد لغيره، وكذلك يلزمه هو.
قيل لابن عرفة: هل يؤخذ من الآية عدم وجوب الوصية كما قالوا في
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين}
ويقال له: إن كنت محسنا أو متقيا (فمتّع) ؟
(2/530)
فقال: إنه يتم لك هذا لو وقع الاتفاق على
عدم وجوب المتعة.
(2/531)
فَمَنْ بَدَّلَهُ
بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ
يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
قوله تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا
سَمِعَهُ ... } .
ابن عرفة: إن أريد به الموصى فالمعنى: فمن لم يمتثله، لأن
تبديل حكم الله تعالى غير معقول. وأن أريد به الوارث الأجنبي
فالتبديل حقيقة بَاقِ على ظاهره.
قوله تعالى: {فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ
إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
قال ابن عرفة: كان بعضهم يفهم فيقول فائدة الحصر أنّ الموصي
للفقراء بوصية ثم منعهم منها سلطان ظالم فالأجر ثابت للموصي
والإثم خاص بالظالم.
قال: (وكذلك) أخذ منه بعضهم، أنّ الموصي إذا اعترف بدين عليه
وحبسه الوارث عن ربّه فقد برىء الموصي من عهدته وإثمه على
المانع. ففي الآية ثلاثة أسئلة:
- الأول: لم خص الحصر بإنَّما ولم يقل: فإثمه إلا على الذين
يبدلونه مع أنه أصرح؟
والجواب أنهم قالوا: إنّ «إنما» تقتضي ثبوت ما بعدها بخلاف
(إلاّ) فتقتضي وجود الإثم وثبوته.
- السؤال الثاني: قال «يبدلونه» بلفظ المضارع «ومن بدله» بلفظ
الماضي؟
(2/531)
والجواب عنه ما أجاب الزمخشري في قوله الله
تعالى {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُّؤْمِنَةٍ} {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً
فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} وهو أنه لما كان القتل عمدا ممنوعا
شرعا عبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل إشعارا بكراهيته
(والتنفير) عنه حتى كأنه غير واقع، وكذلك يقال هنا.
قلت: لأنه ذكر لفظ الإثم في الثاني مقرونا بأداة الحصر أتي
بالفعل مستقبلا زيادة في (التنفير) عن موجب الإثم.
- السؤال الثالث: هلا استغنى على إعادة الظاهر فيقال: فإنما
إثمه عليه؟
والجواب عن ذلك! أنه تنبيه على العلة التي لأجلها كان مأثوما
وهي التبديل.
(2/532)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ ... } .
كرر النداء لبعد النداء المتقدم وكثرة ما بين النداءيْن من
الفصل فكرره تطرئة.
ابن عطية: الصيام مجمل لأنه لم يعين مقداره ولا زمنه.
قال ابن العربي: بل هو معين في الآية لقوله {كَمَا كُتِبَ
عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} .
(2/532)
(قال ابن عرفة: إنما هو تشبيه حكم بحكم
والحكم لا يتبدل ولا يتفاوت فهو تشبيه وجوب بوجوب) .
ابن عرفة: وهذا التشبيه وإن رجع إلى الأحكام فهو تسلية لنا لأن
الإعلام بفرضيته على من مضى يوجب خفته عل النفوس وقبولها إياه،
وإن رجع إلى الثواب فهو تنظير نعمة بنعمة، أي: أنعم عليكم
بالصوم المحصل للثواب الأخروي، كما أنعم على من قبلكم من أن
ثوابكم أعظم. وحذف الفاعل للعلّم به وزيادة «مِنْ» تنبيه على
عموم ذلك في كل أمة من الأمم السالفة إلى حين: تزول هذه الآية.
(2/533)
أَيَّامًا
مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
قوله تعالى: {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ...
} .
زيادة/ (في التسلية) والتخفيف، أي هو أيام قلائل تعد عدا.
قلت: كما في قوله تعالى {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} قاله
الزمخشري.
قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً ... } .
ابن عطية: قال قوم: متى صدق على المكلف أنه مريض صحّ له
(الفطر) ، وقاله ابن سيرين فيمن وجعته أصبعه (فأفطر)
(2/533)
وحكاه عنه ابن رشد في مقدماته والجمهور:
المراد المرض الذي يشق معه الصوم.
قال ابن عرفة: سبب الخلاف ما يحكيه المازري وابن بشير من
الاختلاف في الأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها فظاهر الآية
عندي حجة للجمهور لقول الله {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً}
ولم يقل: فمن مرض فظاهره، أنه لا يفطر بمطلق المرض بل مرض محقق
ثابت يصدق أن يقال في صاحبه كان مريضا لأن «كان» تقتضي الدوام.
قوله تعالى: {أَوْ على سَفَرٍ ... } .
ولم يقل: مسافرا.
قال ابن عرفة: يؤخذ منه في الحاضر إذا عزم على السفر (أن له أن
يبيت على الفطر ويفطر، ولا يلزمه كفارة لأنهم قالوا في الحاضر
إذا عزم على السفر وبيت) على الصوم ثم أفطر فالمشهور عندنا أنه
لا كفارة عليه.
وقال المغيرة المخزومي: تلزمه الكفارة فإذا كان لا يكفر إذا
أفطر بعد أن يبيت على الصوم فأحرى أن لا يكفر إذا أفطر بعد أن
يبيت على الفطر. تقول: هذا الحائظ على سقوط وهو لم يسقط أي على
حالة السفر.
فقوله: {أَوْ على سَفَرٍ} مما يصحح ما قلناه بخلاف المرض، فإنه
لايباح الفطر إلا لمن وقع به المرض وهما في المدونة مسألتان
متعاكستان.
(2/534)
قال: في الحاضر يفطر مريدا للسفر يقضي فقط.
فقال المخزومي وابن كنانة: يقضي ولا يكفر.
قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ... } .
ولم يقل فعدة أيام أخر، إشارة إلى ما أجاب به الزمخشري في قوله
تعالى {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} وذكر
«أَيَّامٍ» إشارة إلى أنه يجزي فيها الصوم في النهار القصير
قضاء عنه في النهّار الطويل وإنما المطلوب عدة أيام (كعدد)
الأيام الأول لا كقدرها وصفتها.
قال أبو حيان: أجازُوا نَصب {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} على
الظرف والعامل فيه «كُتِب» أو يكون مفعولا على السعة والعامل
فيه كتب ورد بأن الظرف محل الفعل وليست الكتابة واقعة في
الأيام وإنما الواقع فيها متعلقها وكذا النصب على المفعول مبني
على وقوعه ظرفا انتهى.
قال المختصر: في هذا الأخير نظر. قلت: يريد أنه لا يلزم من منع
جعله ظرفا ل «كتب» ان لا يكون مفعولا كما قيل: إن يوم الجمعة
مبارك (فجعلوه) اسم يوم مع امتناع كونه ظرفا فليس (هو) مبنيا
عليه.
(2/535)
قوله تعالى: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ.
. .} .
حكى أبو حيان في «يُطِقُونَه» خمسة أقوال.
الأول: أنه على تقدير: لايطيقونه، مثل قولهم:
فخالف خلا والله تهبط تلعة ... من الأرض إلا أنت للذل عارف
وضعفه بأنّه لا دليل عليه.
قال ابن عرفة: والجواب بأن السياق هنا يدل عليه كما قالوا في
{مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} أن «لا» زائدة
وفي {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} أنها زائدة أيضا.
وأيضا، فيجاب بقوله قبله، ويحتمل قراءة التشديد أنها بمعنى
يتكلفونه أو يكلفونه ويكون من تصويب قول بقول.
ونقل ابن عطية في تأويل الآية خلافا. ثم قال: والآية عند مالك
إنما هي فيمن يدركه رمضان وعليه صوم من رمضان المتقدم فقد كان
يطيق في تلك المدة الصوم فتركه فعليه الفدية.
قال ابن عرفة: ويبقى القضاء عنده مسكوتا (عنه) . فإن قلنا: إن
القضاء بالأمر الأول فلا يحتاج إلى تقدير. وإن قلنا: بأمر جديد
فلا بد من تقديره في الآية، ويكون حذف لفهم المعنى. (
(2/536)
{وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} استدلوا به
على أنّ المرضع مأمورة بالصوم بدليل إيجاب الفدية عليها) .
قوله تعالى: {فِدْيَةٌ طَعَامُ ... } .
قال أبو حيان: إضافته للتخصيص وهي إضافة الشيء إلى (جنسه) لأن
الفدية اسم للقدر الواجب والطّعام يعم الفدية وغيرها.
قال ابن عرفة: إضافة الشيء إلى جنسه هي إضافة أمرين بينهما
عموم وخصوص من وجه دون وجه مثل خاتم حديد، وثوب خز.
قوله تعالى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً ... } .
إن كانت «مَنْ» شرطية فظاهر وإن كانت موصولة فمشكل لأنه كقولك:
إن الذاهبة جارية مالكها.
وأجيب: بأن الخير الأول هو المال والثاني فعل ما هو أفضل من
غيره، أو الخير الأول (فضل) والثاني أفضل فعل.
قوله تعالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ... } .
استدلو به على أن الصوم للمسافر خير وأفضل.
(2/537)
قلت: وقال لي سيدي الشيخ الصالح الفقيه أبو
العباس أحمد ابن إدريس البجائي: لا دليل فيها لأن قوله {ياأيها
الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام ... } إلى قوله
{وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} مسنوخ بقوله الله تعالى
{شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} (ويدلّك) على
النّسخ قوله تعالى {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} وهو جمع قلة ولا
يتناول الشهر حسبما قال الزّمخشري معناه: أياما (مؤقتات)
(بعدد) ملعوم أو قلائل كقوله {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ.}
(2/538)
شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا
هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي
أُنْزِلَ فِيهِ القرآن ... } .
ابن عطية انظره وأبا حيان.
قال ابن عرفة: نقل الآمدي في شرح/ الجزولية عن السهيلي أنك إذا
قلت: صمت رمضان كان العمل في كله، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من
ذنبه» .
وإذا قلت: صمت في شهر رمضان كان العمل في بعضه بدليل هذه
الآية.
قال ابن عرفة: يرد بأن الفعل في الآية لم يتعد إليه بنفسه بل
بواسطة «في» لقوله {الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} وما كان يتم
له
(2/538)
الاستدلال إلا لو كان تعدى إليه الفعل
بنفسه. ونقل بعضهم عن شرح المقرب لابن عصفور أنك إذا قلت صمت
رمضان أو شهرا، فالعمل في كله وإن قلت: صمت شهر رمضان فهو
محتمل لتخصيصه بالإضافة ولم يرضه ابن عطية.
قال الضحاك: أُنزِلَ القُرآنُ في (فرضه) وتعظيمه والحض عليه،
وقيل: الذي أنزل القرآن فيه.
قال ابن عرفة: ولا يبعد أن يراد الأمران فيكون أنزل القرآن فيه
تعظيما له وتشريفا ولم يمدح القرآن بما مدح به الشهر لأن فضله
معلوم. وقيل: أنزل فيه القرآن جملة إلى سماء الدنيا.
قال ابن عرفة: فالقرآن على هذا الاسم للكل وعلى القول الثاني
بأنه أنزل فيه بعضه يكون القرآن اسم جنس يصدق على القليل
والكثير.
قوله تعالى: {وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى ... } .
قال ابن عطية: الألف وللام في «الهدى» للعهد والمراد به الأول.
قال ابن عرفة: إن كانت «مِنَ» لبيان الجنس فالألف (واللاّم)
للعهد في الشخص وإن كانت للتبعيض فهي للعهد في جنس فيكون
القرآن نوعا من أنواع جنس الهدى.
قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ
وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ ... } .
(2/539)
قال الزمخشري: فمن حضر المدينة في الشهر.
قال ابن عرفة: خشي أن يترك الآية على ظاهرها لأن ظاهرها وجوب
الصوم على حاضر الشهر مع أنه ينقسم إلى حضري وإلى مسافر
(فتأولها) على أن المراد حاضر المصر في الشهر والّذي فر منه
وقع فيه، لأن حاضر المصر في الشهر ينقسم (أيضا) إلى صحيح وإلى
مريض، وظاهر الآية وجوب الصوم على الجميع فإن قال: خرج ذلك
بالنّص عليه في الآية الثانية. قلنا: وكذلك المسافر خرج بالنّص
عليه. وقيل: من شهد هلال الشهر.
قال ابن عطية: وقال علي بن أبي طالب وابن عباس رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهم من حضر دخول الشهر وكان مقيما في أوله فليكمل صيامه
سافر بعد ذلك أو أقام، وإنّما يفطر في السّفر من دخل عليه
رمضان وهو مسافر.
قال ابن عرفة: انظر هذا مع قول ابن بشير: «لا خلاف بين لأمة أن
السفر من مقتضيات الفطر على الجملة» .
قلت: وكان سيدنا الشيخ أبو العباس أحمد بن ادريس رَحِمَهُ
اللَّهُ تعالى يقول: هذه الآية تدل على أن المسافر غير مأمور
بالصّوم لأن «شهد» بمعنى حضر والمسافر ليس بحاضر وقالوا إذا
صامه فإنه يجزيه ويكون أداء، وقالوا في العبد: إنّ الحج ساقط
عنه فإن حج
(2/540)
ثم عتق لم يجزه عن حجة الفريضة، فحينئذ
نقول: فعل العبادة قبل وجوبها إن كانت عندكم نفلا سدّ مسدّ
الفرض.
قال: والجواب عن ذلك أن المسافر مأمور بالقضاء لقوله تعالى:
{فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وذلك دليل على أن اباحة
الفطر له (إنما هو رخصة) لا لكون السفر مانعا من الصوم بخلاف
العبد فإنه إن عتق فلا يزال مطلوبا بالحج وإذا فعله بعد العتق
كان أداء لأنّه أوقعه في وقته وهذا إن أدركه الصوم في السفر ثم
حضر وفعله كان قضاء.
قلت: هذا لا يلزم إلا إذا جعلنا الشّهر من قوله: {فَمَن شَهِدَ
مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ظرف زمان لأنه على تقدير «في»
والمسافر لم يحضر في الشهر، ويحتمل أن يكون «الشهر» مفعولا به
فلا يلزم هذا السؤال لأن المسافر حضره وفرق بين قوله حضره وحضر
فيه.
وذكرته لشيخنا ابن ادريس فوافقني عليه.
قوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ
العسر} .
قال ابن عرفة: المتعذر هو الذي لايمكن فعله ولو بمشقة والمتعسر
هو الذي يمكن فعله بمشقة.
قال: في الآية إشكال وهو أن متعلق الإرادة إما فعل أو حكم.
والأول: باطل بالمشاهدة لأن الله تعالى يفعل الخير والشر وقد
رأينا بعض الناس في الخير وبعضهم في الشر.
(2/541)
والثاني، باطل لأنه يلزم عليه أن يكون حكم
الله تعالى مرادا فيكون حادثا (إذ) من شأن الإرادة التخصيص، مع
أن الحكم راجع إلى كلامه القديم الأزلي والتخصيص يستلزم
الحدوث.
(قيل) لابن عرفة: يقال المراد الحكم باعتبار متعلقه وهو الحكم
المتعلق التنجيزي لا (الصلوحي) ؟
قال ابن عرفة: قد تكرر أنّ الصحيح أنّ التعلق صفة نفسية
والتعلق التنجيزي حادث، فإن حكمنا لموصوف بحكم صفته لزم عليه
حدوث حكم الله تعالى، وإن لم يحكم له بحكمها لزم عليه مفارقة
الصفة (النفسية) لموصوفها، والأمران باطلان.
قيل له: نقول إن الإرادة متعلقة بالحكم؟
فقال: قد تقرر الخلاف في الإرادة هل هي مؤثرة؟ والتحقيق أنه إن
أريد به التعلق التنجيزي فهي/ مؤثرة كالقدرة، ومعنى التخصيص
فيها كون الشيء على صفة خاصة في وقت معين، وإن أريد به التعلق
الصلاحي فهى غير مؤثرة كالعلم فإنه يتعلق ولا يؤثر وهو اختيار
المقترح.
قيل لابن عرفة: لعل المراد الحكم التكليفي وهو يسر لاعسر؟
فقال: هذا تخصيص والآية عامة.
قيل له: (الحكم) أبدا لايمكن أن يكون إلا مرادا، وليس هناك حكم
غير مراد، تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد؟
(2/542)
فقال: الحكم موافق (للارادة) أي مقارن لها
لأنه مراد كما نقول العلم مقارن للارادة وليس متعلقا بها.
قال ابن عرفة: الجواب عن الإشكال لا يكون إلا بأنّ (يشرب) يريد
معنى يحكم أي يحكم الله عليكم باليسر لا بالعسر ولا سيما إن
قلنا: إن تكليف ما لا يطاق غير جائز أو جائز غير واقع. فإن
قلت: قوله {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} عام فيقتضي عموم متعلق
الإرادة باليسر. فقوله تعالى: {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر}
تأكيد فلا فائدة له.
قلنا: {يُرِيدُ الله بِكُمُ} ليس جملة مثبتة، فهي مطلته لا
تعم، {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ} ، (فعل منفي) فيعم. قال: والعسر
واليسر (تجنيس) مختلف مثل {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ
وَيَنْئَوْنَ عَنْه} قال ابن عطية: وقال مجاهد (والضحاك) :
اليسر الفطر في السفر والعسر الصوم في السفر.
قيل لابن عرفة: يلزم أن يكون الصوم في السفر غير مأمور به.
فقال: هذا مذهب المعتزلة، لأنهم يجعلون الأمر نفس الإرادة
وإنّما معنى الآية: يريد الله بكم إباحة الفطور ولا يريد بكم
وجوب الصوم. لأن الوجوب والإباحة قسمان من أقسام الحكم الشرعي.
(2/543)
قلت: وتقدم في الختمة الأخرى لابن عرفة أنه
لا يمكن أن تحمل الإرادة هنا على حقيقتها لأنّ المريض (الذي)
بلغ الغاية في المرض والمحبوس المعسر بالنفقة، قد أريد بهم
العسر فترجع الإرادة إلى باب التكليف وقد قال {وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} قوله تعالى:
{وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا
هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
منهم من قال: إنه أمر.
قيل لابن عرفة: قول الله جل جلاله {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ} يغني عنه لأنه يفيد أنه (يقضي) أياما على عدد ما فاته؟
فقال: أفاد هذا الأمر بإكمالها وهو الإتيان بها على وجهها
موفاة كما قالوا: إنّ (الصائم) يأخذ جزءا من أول الليّل في أول
النّهار وجزْءا من آخره يتحرّاه لأنه مما لا يتوصل إلى الواجب
إلا به.
(2/544)
وَإِذَا سَأَلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي
عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ... } .
قال ابن عطية: قال عطاء لما نزلت {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني
أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قال قوم: في أي ساعة ندعو؟ فنزلت.
(2/544)
(وروى أنّ أعرابيّا قال: يارسول الله أقريب
ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت) .
قال ابن عرفة: هذا يوهم اعتقاد التجسيم والجهة وهو صعب. وقد
كان بعض الناس يستشكله فكنت (أقرّبه) له بالمثال، فنقول له: لو
فرضنا رجلا لم يشاهد قطّ في عمره إلا الحيوان الماشي على الأرض
فإنه إذا سئل عن حيوان يطير لا هو في السماء ولا هو في الأرض
بل بينهما بالفضاء فإنه يظن ذلك محالا، وكذلك النملة لو كان
لها عقل وسئلت عن ذلك لأحالته.
وظاهر ما ذكروا في سبب نزول هذه الآية أن لفظ «عِبَادِي» عام
ولكن آخر الآية يدل على أنه خاص بالمؤمنين.
وقوله «فَإِنِّي قَرِيبٌ» قال أبو حيان: أي فاعلم أني قريب.
قال ابن عرفة: لأن الأمور الواقعة الموجودة لا يصح ترتيبها على
الشّرط إلا على مَا ذكر المنطقيون في القضية الاتفاقية مثل
كلّما كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا هي لا تفيد شيئا.
قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ ... } .
قال ابن عرفة: «أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع» فيه سؤالان:
الأول: ما الفائدة في زيادة لفظ «دعوة» مع أنه مستغنى عنه؟
قيل له: إنّه إذا أجاب الدّعوة الواحدة فأحرى أن يجيب الدّعوات
(المكررة المؤكدة) ؟
(2/545)
فقال: العكس أولى لا، إذ لا يلزم من أجابة
الدعوة الواحدة إجابة الدعوات.
قال: وعادتهم يجيبون عنه بأنّ «أجاب» تطلق على (الإجابة)
بالموافق والمخالف و «استجاب» خاص بالموافق، فلو قال: أُجِيبُ
الدّاعِي، لأوهم العموم، وقوله «أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع» صريح
في الإسعاف بالمقصود، كما نقول: أجيب طلبة فلان وأجيب دعوته،
أي أسعفه بمطلوبه.
السؤال الثاني: ما الفائدة في قوله «إِذَا دَعَانِ» مع أنّه
أيضا مستغنى عنه.
قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأنّ الدّعاء على قسمين دعاء
بنية وعزيمة، والداعي مستجمع لشرائطه، ودعاء دون ذلك، فأفاد
قوله «إِذَا دَعَانِ» إجابة الداعي بنية وحضور. وذكروا أنّ
الدّعاء على أقسام فالمستحيل عقلا والمحرم لا يجوز، وكذلك
الدعاء بتحصيل الواجب لأنه من تحصيل الحاصل، وكذا قالوا في
قوله تعالى {وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} أي
المعتدي في الدعاء بالمستحيل عقلا كالدعاء بالجمع بين النقيضين
وأما المحال في/ العادة كالطيران في الهواء والمشي على الماء
فمنهم من أجازه ومنهم من منعه.
والمختار عندهم أنه إن كان في الداعي أهلية لذلك وقابلية له
جاز له الدعاء وإلا لم يجز كدعاء شيخ ابن ثمانين سنة أن يكون
فقيها عالما، ودعاء رجل من سفلة الناس بأن يكون ملكا.
(2/546)
قلت: في الجامع الثالث من العتبية قال
الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: صلى رجل في المسجد ثم انصرف
ولم يدع كثيرا فدعاه عروة بن الزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فقال
له (أما) كانت لك حاجة عند الله. والله إني لأدعو الله في
حوائجي حتى في الملح.
قال الإمام ابن رشد: الدعاء عبادة فيها الأجر العظيم استجيب
أَمْ لا، لأنه لا (يجتهد) في الدعاء إلا بإيمان صحيح ولن يضيع
له عند الله. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما من
داع يدعو إلاّ كان بين إحدى ثلاثة: إما أن يستجاب له، وإمّا أن
يدّخر له، وإمّا أن يكفر عنه» إلاّ أن هذا الحديث ليس فيه ما
يدل عنه على أنه لا يدّخر له ولايكفر عنه إذا استجيب له لأن
معناه: إلا كان بين إحدى ثلاثة، إما أن يستجاب له مع أن يدخر
له أو يكفر عنه مع أن يستجاب له.
وفي شرح الأسماء الحسنى للشيخ ابن العربي: الدّعاء لغة الطّلب.
«اغفر لنا» ، ويطلق على النداء وعلى الترغيب مثل: {والله يدعوا
إلى دَارِ السلام} وعلى التكوين مثل: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ
دَعْوَةً مِّنَ الأرض}
(2/547)
قوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي
وَلْيُؤْمِنُواْ بِي ... } .
قال الزمخشري: فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي، إذا دعوتهم إلى الإيمان
والطاعة.
قال ابن عرفة: يلزم التكرار في الآية لغير فائدة، والتقديم
والتأخير لأن الطاعة مُتأخرة عن الإيمان وما معناه عندي: أَلاَ
فلينظروا في الأدلة التي ترشدهم للايمان ويؤمنوا بالفعل.
قيل لابن عرفة: هذا إذا قلنا إن ارتباط الدليل بالمدلول عادي
أمّا إن قلنا: إنه عقلي فيجري فيه تحصيل الحاصل لأنّهم إذا
نظروا آمنوا فلا فائدة في أمرهم بالإيمان؟
(فقال) : إنّما (أمروا) بالإيمان قبل كمال النظر كما تقول
لغيرك: انظر في كذا واعلمه، فإنما أمرته بالعلم قبل أن يحصل
منه النظر.
قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} .
أي لعلهم يحصل لهم الفوز والفلاح، وليس المراد لعلهم يهتدون
(بطريق) الفوز لأنه من تعليل الشيء بنفسه.
(2/548)
قلت: وجدت هذه الآية في ميعاد القاضي أبي
علي عمر بن عبد الرفيع فنقلوا عن ابن الخطيب أن الجواب (هنا) :
وقع بالفاء فقط إشارة إلى أنه قريب مطلقا وقربه من العبد مع
الدعاء لا يعقبه، وقيل: أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ بأن يقول لهم ذلك (وب «قل» وحدها) في
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي}
(وبهما) معا في {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ
يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} الآية، ونسفها إعدامها إشارة إلى
الأمر بالمبادرة بالجواب عقب السؤال ردا على من قال بقدمها لأن
ما ثبت قدمه استحال عدمه. ونقلوا عن أبي حيان أنّ التقدير
«فَقُلْ إنِي قَرِبٌ» لأنه لا يترتب على الشرط القرب بل
الإخبار عن القرب، فقال الحسّاني: لا حاجة إلى إضمار «قُلْ»
وقد أبدى ابن الخطيب حكمه ذلك.
فقال بعضهم: لعل مراد أبي حيان أن هذا شرط والشروط اللّغوية
أسباب عقلية والسبب العقلي يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه
العدم، فليزم إذا عدم السؤال أن يعدم مطلق القرب.
(2/549)
فأجاب الطالب: بحديث: «من أحيا أرضا ميتة
فهي له» قالوا فيه: إنه قد تصير له بالملك من غير إحياء فترى
الإحياء انعدم والملك موجود.
فرد عليه ابن التلمساني في المسألة السادسة من باب الأوامر
قال: قال (مالك) في الإحياء إنه غير موجود وإنّما الموجود ملك
الشراء.
(2/550)
أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ
لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ
عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ
وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا
تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ
الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ... } .
قال الزمخشري: إن قلت لم كنّى الجماع بالرفث الدال على القبح
أي على معنى القبح بخلاف قوله {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى
بَعْضٍ} وقوله {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ} وأجاب عن ذلك
بأن ذلك تقبيح لما صدر منهم قبل الإباحة، كما سماه (اختيانا) .
(2/550)
ابن عرفة: والجواب عندي بعكس هذا وهو أنّه
مبالغة في الإباحة والتحليل فعبر عنه باللّفظ الصّريح حتى لا
يبقى عندهم فيه شك ولا توهم بوجه.
قال ابن عرفة: وعدّي الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء.
وقال ابن جني في سر الصناعة في مثل هذا: إنّ الرفث يتعدّى
بالباء والإفضاء بإلى فذكر الرّفث ولم يذكر معموله، وذكر معمول
الإفضاء ولم يذكر عامله إشعارا بإرادة الجميع وأن الكل مقصود
بالذكر.
قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ
لَّهُنَّ ... } .
ابن عرفة: ليس هذا من (النّسب) المتعاكسة مثل: زيد أخوك وأخوك
زيد، إذ لا يلزم من كونهنّ لباسا للرّجال أن يكون الرجال لباسا
لهن وهذا تأكيد في التحليل.
قوله تعالى: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ
أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ... } .
قال ابن عرفة: هذا من باب القلب مثل كسر الزجاج الحجر لأنّ
النفس هي الخائنة قال تعالى {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء}
(2/551)
قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ
وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد ... } .
ابن عطية: قال: الإمام مالك/ الاعتكاف إلا في مساجد الجماعات.
وروي عنه أن ذلك في كل مسجد.
ابن عطية: وروي عنه أنّ ذلك في كل مسجد من المساجد.
ابن عرفة: لو نذر أن يعتكف فإنه يجزيه عند مالك الاعتكاف في أي
مسجد أراد ويخرج به من العهدة وشرط الجامع غير واجب. وكذا قال
الشيخ ابن العربي عن الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله ... } .
الإشارة (راجعة) إلى الأحكام أو إلى النواهي المتقدمة.
قوله تعالى: {فَلاَ تَقْرَبُوهَا ... } .
نهى عن القرب لحديث «الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» .
(2/552)
قيل لابن عرفة: تقرر أن اتقاء الشبهات غير
واجب بل مستحب؟
فقال: هي أقسام: مظنون، ومشكوك فيها، ومتوهمة، فالوهم مرجوح،
والظن راجح فينتج وجوب الاجتناب، والشك فيه خلاف (ومحمل النهي)
في الآية على تحريم المظنون والمشكوك فيه وقال في الآية
الأخرى: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} ابن عرفة:
يحتمل أن تكون تلك قبل هذه فنهينا أولا عن تعدي الحدود، ثم
نهينا ثانيا عن قربها؛ أو يكون الأمر الأول للعوام والثاني
للخواص. وأجاب أبو جعفر الزبير بأن قرب النساء بالمباشرة يدعو
إلى المواقعة فقل من يملك نفسه، فنهى عن القرب ونظيره: {وَلاَ
تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى}
ولذلك منع المحرم من الطيب. فإن قصد البيان العام الفارق بين
الحلال والحرام لم ينه عن المقاربة بل عن التعدي فقط، مثل
{الطلاق مَرَّتَانِ} الى قوله {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
فِيمَا افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا}
فحرم أموالهم على الأزواج بغير حق ما لم يقع نشوزٌ أو ما يمنع
عن القيام بحقوقهم.
وأجاب بعضهم بأنّ تلك تقدمها «الطلاق مَرَّتَانِ» وهو أمر
مباح، فناسب النهي عن تعديه لا عن قربه، وهذه تقدمها النهي عن
المباشرة وهو محرم فناسب النهي عن قربه.
قوله تعالى: {يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ ... } .
(2/553)
قيل لابن عرفة: هذا يؤخذ منه أن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غير مجتهد؟
فقال: الآيات هي القرآن والمعجزات، وأما السنة كلها فلا تسمى
آيات.
(2/554)
وَلَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى
الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ
بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
قوله تعالى: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام ... } .
قيل لابن عرفة: إن المازري حكى في تعليقه عن الشعبي أنّ الفقيه
إذا علم من نفسه أنه ما في بلده من يصلح للفضل غيره فلا بأس أن
يتسبب في الولاية ويعطي عليها الأجرة والرّشوة لولاة الأمر؟
فأنكره ابن عرفة وقال: هذا من أكل المال بالباطل والمشاركة فيه
على الخطإ والّذي أدركت القضاة عليه أن بعضهم كان يتسبب في ذلك
بالكلام فقط.
وقد قسّم المازري في شرح التلقين القضاء على أربعة أقسام:
مندوب ومكروه وحرام وواجب، ولم يذكر هذا بوجه ولو كان جائزا
لذكره.
قيل لابن عرفة: وقال المازري في تعليقه: إنّه كان ببلدهم
مفتيان أحدهما يطلب الأجر على الفتوى، والآخر لا يأخذ أجرة
فأجاز ذلك (شيخنا) عبد الحميد الصائغ ومنع ذلك الشيخ أبو الحسن
علي اللخمي.
(2/554)
فقال ابن عرفة: وكان بتونس الفقيه أبو علي
ابن علوان يأخذ الأجرة على الفتوى ممن يستفتيه.
وحكى الشيخ أبو الحسن محمد البصريني قال: أخبرني أبو العباس
سيدي أحمد بن فرحون اليقربي أنّ رجلا من أصحابه كان يهدي إليه
كل عام خروفين وزنبيلين فولا، وزيرين لبنا فيعطي لسيدي الشيخ
الصالح أبي محمد المرجاني نصف ذلك ويأخذ هو نصفه، فجرت على
الرجل مظلمة فتسبّب له الشيخ المرجاني في زوالها فأهدى ذلك
العام للشيخ ابن فرحون مثله ما عادته يهدي له فبعث نصفه
للمرجاني كعادته فأمره أن يقبل منه مقدار العادة ويرد له
الزائد على ذلك.
قوله تعالى: {بالإثم ... } .
إما مصاحبين للاثم أو بسبب اقتراف الإثم، أو بسبب الإثم. وجعل
الإثم على هذا كأنه السبب في ذلك الفعل تقبيحا له وتنفيرا منه.
قوله تعالى: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
تنبيها على أنّ الجاهل لايناله ذلك (أو) أنّ ذلك لايقع إلا على
هذه الصفة فلا يقع من الجاهل بوجه.
(2/555)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
(189)
قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة
قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج ... } .
أي عن حال الأهلة. وجمع الأهلة إما لتعددها بتعدد الأشهر أو
لاختلاف أحواله وإن كان واحدا فهو كالمتعدد.
(2/555)
قال ابن عطية: الهلال ليلتان بلا خلاف،
وقيل ثلاث. الأصمعي هو هلال حتى يحجّر، ويستدير له كالخيط
الرقيق. وقيل: هو هلال حتى (يعم ضوؤه) السّماء وذلك ليلة سبع.
وأنشد الآمدي شاهدا على ذلك لاختلاف أحواله.
قال ابن عرفة: وجواب السؤال في القرآن كله بغير «فاء» مثل
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى} ومثل
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ
فِيهِ كَبِيرٌ} {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ
لَّهُمْ خَيْرٌ} إلا قوله {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ
يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن
الكل أمور دنيوية فالسؤال عنها ثابت واقع في الوجود/ وقوله
«وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال» فأمر أخروي والكفار منكرون
للبعث فالسؤال غير واقع لكنه مقدر الوقوع في المستقبل أي إِنْ
« (يَسْأَلُوكَ) عَنِ الجِبَالِ» ، فهو جواب لشرط مقدر فحسنت
فيه الفاء.
(2/556)
قال ابن عرفة: وهذا على سبيل الإعراض عن
الشيء والإقبال على غيره، لأنهم سألوا عن سبب تغيير الهلال
ونقصه وزيادته في أيام الشهور، فأجيبوا بالسبب عن ذلك ونتيجته.
وأنّ فائدة ذلك معرفة أوقات الناس، وأوقات الحج، أي ذلك سؤال
عما لا (يعني) فلا حاجة لكم بالجواب عنه، وإنما حقكم أن تسألوا
عن نتيجته وهو كذا.
قوله تعالى: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن
ظُهُورِهَا ... } .
كانوا إذا حجوا واعتمروا يلتزمون أن لا يحول بينهم وبين السماء
شيء فيدخلون بيوتهم من خلفها ينقبون الحائط أو من سقفها أو
يطلعون بسلم على السطح فينزلون في وسط الدار، وهذا عند ابتداء
الدخول فإذا تكرر ذلك تركوه.
(2/557)
وَقَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ
الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ ... } .
قلت لابن عرفة في الختمة الأخرى: قاتل مفاعلة لا يكون إلا من
الجانبين فما الفائدة في قوله «الذين يُقَاتِلُونَكُمْ» ومعلوم
أنّه لا يقاتل إلاّ من قتله؟
فأجاب بوجهين: الأول أنهم لا يقاتلون إلا من بدأهم بالقتال.
(2/557)
الثاني: قول الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ
يُحِبُّ المعتدين} هذا (النفي) يحتمل أن يكون على الكراهة لأن
عدم محبة الشيء لا يقتضي تحريمه لأن المحبّ هذا إما مباح أو
مكروه) وإنّما يدل على التحريم الذّم على الفعل وعلى الوجوب
الذم على الترك. ويحتمل أن يكون هذا النهي (على) التحريم لأن
النحاة قالوا: إذا أردت مدح زيد قلت: حبذا زيد، وإن أردت ذمه
قلت: لا حبذا زيد (فسمُّوا) نفي المحبة (ذما) .
(2/558)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ
فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ
الْكَافِرِينَ (191)
قوله تعالى: {واقتلوهم حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ ... } .
هذا (احتراز) لأنه لمّا تقدم الأمر بقتال من قاتل أمكن أن
يتوهم أنّه لا يقاتل إلاّ من قاتل، فهذا إما نسخ له أو تخصيص.
ابن عطية عن الطبري: الخطاب للمهاجرين والضمير لكفار قريش.
واختار ابن عطية أنّ الخطاب لجميع المؤمنين، أي أَخرِجوهم إذا
أخرجوا بعضكم.
قال ابن عرفة: يلزمه استعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه.
(2/558)
قيل لابن عرفة: في ظاهر الآية تناف لأن
«اقتلوهم حيث ثقفتموهم» يقتضي الأمر باستِئْصالِهِم وعدم
إحياًء أحد (منهم) فلا يبق للاخراج محل.
وقوله: «وَأَخْرِجُوهُم» يقتضي إحياء بعضهم حتى يتناوله
الإخراج.
فأجاب بوجهين: الأول منهما: أنّ الاستيلاء عليهم تارة يكون
عاما بحيث لا تبقى لهم ممانعة بوجه، فهنا يقتلون وتارة يكون
(دون) ذلك بحيث يتولّى المسلمون على وطنهم (ويمتنعون) هم منهم
في حصن ونحوه، حتى لا يكون لهم قوة على المسلمين ولا للمسلمين
قدرة على قتلهم فهنا يصالحونهم على أن يخرجوا لينجوا بأنفسهم
خاصة. انتهى.
الثاني: أنهم يخرجون أولا ثم يقتلون بعد الإخراج والواو لا
تفيد رتبة ففي الآية التقديم والتأخير.
قال ابن عرفة: في الآية عندي إيماء إلى كون فعل الطاعة إذا
(وافق) غرضا دنيويا فلا يقدح ذلك فيه ولا ينقص ثوابه لقوله:
{مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} .
قلت: وتقدم لنا في الختمة الأخرى عن ابن عرفة أنه تقرر أن
الإمام مخير في الجهاد بين ثلاثة أشياء: إما القتل، وإما
الفدية وإما الأسر، والآية تقتضي تحتم القتل من غير تخيير.
وأجاب بأنه قد يكون تخصيصا.
(2/559)
قوله تعالى: {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم
... } .
وقرىء «فَإِن قَتَلُوكُمْ» أي فإن قتلوا بعضكم أو فإن أرادوا
قتلكم، وقول الله جل جلاله: {كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين} بعد
أن قال {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المسجد الحرام حتى
يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فظاهره أن الكافرين ليس لهم (جزاء إلا
هذا، مع أن جزاءهم)
(2/560)
أن يقاتلوهم حيث (ثقفوهم) حتى يُسلموا،
فيجاب بهذا إما منسوخ أو مخصوص.
(2/561)
فَإِنِ انْتَهَوْا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)
قوله تعالى: {فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله
غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
إما أن يراد إنّ انتهوا عن الكفر فالله غفور رّحيم {قُل
لِّلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ
سَلَفَ} وإن انتهوا عن قتالكم، فالله غفور لكم في ترككم
قتالهم، أو غفور لهمْ بالستر على نسائهم وعلى صبيانهم من كشفكم
لهم وسبيكم (إياهم) .
(2/561)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى
لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ
انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
قوله تعالى: {وَيَكُونَ الدين لِلَّهِ ...
} .
في الأنفال: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وأجاب
بعضهم: بأن هذه في قتال كفار قريش وتلك في قتال جميع الكفار
لأن قبلها {قُل لِّلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ
لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} فالمراد في آية البقرة ويكون الدّين
(الّذي) هم عليه لله ودينهم بعض الدين لا كله بخلاف آية
الأنفال.
قال ابن عرفة: هذا (ينتج) له العكس لأن الأمر بقتال جميع
الكفار يقتضي أنّ المراد صيرورة جميع الدّين لله فلا يحتاج إلى
التأكيد بكل،
(2/561)
والأمر بقتال بعضهم لا يقتضي ذلك فهو أحق
أن يؤكد (بكل) .
(2/562)
الشَّهْرُ الْحَرَامُ
بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
قوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام
... } .
ابن عطية: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وجماعة (صد) النبي
عن البيت سنة ست ودخلها سنة سبع فنزلت آية: «الشهر الحرام»
الذي دخلتم فيه الحرم «بالشهر الحرام» الذي صدوكم فيه عنه.
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: سأله الكفار هل يقاتل في
الشهر الحرام؟ .
فقال: لا، فهمُّوا بالهجوم عليه فيه فنزلت، أي هو عليكم كما هو
عليهم إن تركوا فيه القتال فاتركوه وإلا فلا.
قال ابن عرفة: الأول: بناء على أنهما شهران من سنتين، والثاني:
على أنه شهر واحد من سنة واحدة وتعدده لأجل تعدد حالاته.
قوله تعالى: {فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ}
.
(2/562)
قال ابن عرفة: فاعتدوا اعتداء جائزا شرعيا
فلا يجوز لمن زني بأخته أو ابنته أن يزني بأخت الزاني أو
ابنته.
(2/563)
وَأَنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (195)
قوله تعالى: {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ
الله ... } .
قال ابن عرفة: (هو عندي يتناول النفس والمال، أي أنفقوا ما يعز
عليكم في سبيل الله) لقول الزمخشري في غير هذا: إن المفعول قد
يحذف قصدا للعموم.
(قلت: أظنّه ذكره في قوله تعالى {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى}
قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة ...
} .
قل الزمخشري: الباء زائدة أي لا تجعلوا التهلكة آخذة بأيديكم
مالكة لكم، والمعنى النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله لأنه
سبب الهلاك أو عن الإسراف في النفقة حتى (يفقر) نفسه ويضيع
عياله.
قلت لابن عرفة: إن أريد النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله
يكون في الآية دليل على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده إذ لو
كان قوله {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} ملزوما للنهي عن ترك
النفقة (في سبيل الله) لما احتيج إلى قوله {وَلاَ تُلْقُواْ
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} ؟
(2/563)
فقال لي: إن قلنا إن الأمر يفيد التكرار
فيتم ما قلت، وإن قلنا إنه لا يفيده فيقال إنه مطلق والمطلق
يصدق بصورة، فمهما أنفق في سبيل الله ولو مرة واحدة كان
ممتثلا. وأتى بالنهي بعده ليفيد التكرار.
قوله تعالى: {وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} .
أي ببذل المال المتطوع، أو يراد به الإحسان الذي في حديث القدر
«وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وقوله
{إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} أبلغ من قوله إن الله (مع) ،
لأن قولك: زيد يحب بني فلان أبلغ من قولك زيد مع بني فلان لأنه
قد يكون معهم ولا يحبهم، قال الله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ
أَيْنَ مَا كُنتُمْ.}
(2/564)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ
أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ
أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ
كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة
لِلَّهِ ... } .
(نقل ابن عطية فيه أقوالا منها) قيل: إِتْمَامُهَا أن يحرم
بهما قارنا.
(2/564)
قال ابن عرفة: فالواو بمعنى «مع» والظاهر
أن الإتمام الإتيان بالحج مستوفى الشرائط على كل قول. فإن
فرعنا على أنّ الإحرام من الميقات أفضل فإتمامه أن لا يتعدى
الميقات إلا محرما وكذلك في كل أفعاله.
وذكر ابن عطية واجباته فأسقط منها طواف الإفاضة مع أنّه فريضة
إن تركه بطل حجه، ولا يجزيه عنه طواف القدوم متصلا بالسعي.
قال ابن عرفة: وتقدم في قول الفخر في المعالم: إن اللّفظ إما
أن يعتبر بالنسبة إلى تمام مسماه وهو المطابقة أعتقد أن:
أحدهما: قال ابن التلمساني التمام يشعر بالتركيب، فيخرج عنه
البسائط كالنقطة والوحدة. وهو يوافق قول من فسر الإتمام بما هو
قبل الدخول، وهو بأن تأتي بهما مفردين (أو قارنا) .
الثاني: قلنا نحن: أراد أن يحد المطابقة بحد التضمن إذ لا
يتناول كلامه إلا الجزء الأخير الذي يتم به المركب وهذا موافق
القول بأن إتمامهما أن يتمهما بعد الدخول فيهما، ولا يفسخ
عنهما حسبما نقله ابن عطية.
قال ابن عرفة: وإن أريد الإفراد أو القران فالآية دالة على
وجوبهما بصيغة: افعل.
(2/565)
قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ
رُءُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ ... } .
قال ابن عرفة: انظر هل تدلّ على وجوب الحلق بالنص أو باللّزوم.
كان بعضهم يقول: إنّه بالنّص ولولا ذلك لما ورد النهي عن
الحلاق (مقيدا) ببلوغ الهدي محله.
قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً
مِّن رَّأْسِهِ ... } .
قال ابن عرفة: «مِن رَّأْسِهِ» صفة «لأَذى» ولا يصح رجوعه
للجميع كالاستثناء وسائر القيود إذا تعقب جُملا لأن المرض مبيح
للرخصة مطلقا سواء كان بالرأس أو بغيره.
قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ
فِي الحج ... } .
قال ابن عرفة: أي إن وجد من يسلفه، فإن لم يجد من يداينه إلا
بالربح لم تلزمه الفدية. وقرىء «فصيامَ» بالنّصب.
قال أبو حيان: أي فليصم صيام أو فليلزم صيام.
قال ابن عرفة: عادتهم (يعربونه) منصوبا على (الإغراء) ، قيل له
ذلك (قليل) جدا.
(2/566)
أبو حيان: «إذَا رَجَعْتُمْ» قيل العامل في
«إذا» «صيام» ورده ابن عرفة: بِأَنّه يلزم أن يكون صوم الثلاثة
بعد الرجوع والفرض أنه قبل الرجوع إلا أن يجاب بأنّ يكون مثل:
عندي درهم ونصفه، فالمعنى فيصوم سبعة إذا رجع، فيكون «صِيَامُ»
عاملا فيه لفظا لا معنى.
قيل (له) : يلزمك على هذا الجواب العطف على عاملين، وصيام سبعة
(إذا رجع) بعطف «صيام» على «صيام» «وإذا» على قوله «فِي
الحَجّ» .
فقال: إنما هو عامل واحد فقط.
قلت: وقال الأستاذ أبو العباس أحمد بن القصار: (العامل) /
«صيام» ، كما قال أبو حيان باعتبار لفظ المطلق والمعنى يبنه
كما تقول: أكرم في الدار زيدا. أو في السوق عمرا أو لو لزم كون
الثلاثة بعد الرجوع لتناقضت الآية ولكان يلزم أن يكون السبعة
في الحج لأنه كما (تجعل) إذا رجعتم قيدا في صيام الجميع فاجعل
«في الحج» أيضا قيدا في صيام الجميع. هذا إذا جعلنا «في
الحَجّ» و «إِذَا رَجَعْتُمْ» متعلقين ب «صيام» .
قال: والصواب عندي غير هذا. وهو أن يكون، «إذَا رَجَعْتُمْ»
صفة ل «سبعة» ، فالسبعة ظرف زمان فيصح وصفها بظرف الزمان ويكون
في الحج أيضا صفة ل «ثلاثة» .
(2/567)
قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ
... } .
قال ابن عرفة: (أحدُ تفسيري) ابن عطية بناء على أنّ أسماء
الأعداد نصوص، والآخر على أنّها ليست كذلك.
وأورد الزمخشري هنا سؤالين: أحدهما عن الإتيان بالفذلكة وهي
لفظ «تِلْكَ» وأجاب بثلاثة أوجه.
قال بعض الطلبة: فيبقى السؤال لأيّ شيء لم يقل: فهي عَشَرَةٌ
كَامِلَةٌ؟
فقال ابن عرفة: «تِلْكَ» القصد بها التعظيم.
قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن القاعدة أنّ الصوم المتتابع
أعظم ثوابا من المفرّق، فقد يتوهّم بتفريقها أن ثوابها أقل من
ثوابها لو كانت مجموعة (فأشار بقوله «عشرة» إلى أن ثوابها على
هذه الصفة أعْظَمُ من ثوابها لو كانت مجموعة فرعا عن أن) يكون
مثله ولذلك قال: «كاملة» .
قيل لابن عرفة: وأشار إليه مكي.
(2/568)
قال ابن عرفة: وعادة الشيوخ يحكون عن ابن
الحاجب أنه قال: في قول الأصوليين: إن عمومات القرآن كلها
مخصوصة (إلا قوله: {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أنهم كان
ينبغي أن يمثلوه بآية تقتضي حكما من الأحكام الشرعية) كقول
الله تعالى {وَلاَ تَنكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} الآية
ونحوه.
وكان الشاطبي يرد عليه بما إذا كان الولي مسلما والزوجين
مشركين فإن ظاهر عموم الآية المنع من إنكاحهما مع أنّه جائز
فيكون عمومها مخصوصا (بهذا) .
قيل لابن عرفة: هل المراد ولا تنكحوا المشركين المؤمنات؟
فقال: هذا تخصيص.
قال ابن عرفة: وهذه الآية عندي من العام الباقي على عمومه إلا
أن يجاب بأنه مخصوص بالمرض فإن المريض لا يقدر على الصيام ولو
كانت باقية على عمومها للزم في المريض أن يؤمر بالقضاء وليس
كذلك.
قال أبو حيان: فِي الحَجّ: في وقت الحج، فيجوز عنده الصيّام
قبل أن يحرم بالحج وبعده. وقيل: في وقت أفعال الحج فلا يجوز
الصوم إلاّ بعد الإحرام.
(2/569)
قال ابن عرفة: لا يحتاج إلى هذا لأن قوله
«فِي الحَجّ» يَدُل عليه لأن الحج بذاته فعل والصوم فيه.
قيل لابن عرفة: ليس الصوم فيه؟ فقال: الحج بنفس أن يحرم فيه
ينسحب عليه حكمه (فالثلاثة) الأَيَّامُ هي في الحج حكما.
قوله تعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد
الحرام ... } .
قال ابن عرفة: يؤخذ فيمن له أهل بمكة وأهل بغيرها.
فقد قال الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إنها من مشبَّهات
الأمور يؤخذ منه أن حكمه حكم الحاضر بدليل قول (مالك) في
المسافر: إذا سافر ومر ببلد له فيها أهل فإنه يتمّ الصلاة
كالمقيم.
قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} .
دليل على أنّ الطلب المتقدم قبل هذا كله للوجوب.
(2/570)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ
وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ
الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
(197)
قوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ
... } .
ابن عطية: أي وقت الحج أشهر.
ابن عرفة: أو الحج ذو أشهر كقولهم: زيد عدل أي ذو عدل.
ابن عرفة: وعادتهم يوردون في هذا تشكيكا وهو أن هذه القضية،
إمّا صادقة أو كاذبة وكلاهما باطل، أمّا بطلان الثاني فظاهر
(2/570)
وأمّا الأول فلأنّها إذا كانت معلومة كان
الإخبار بها غير مفيد إذ هو تحصيل الحاصل كقولك هذا (الشهر)
معلوم.
والجواب أن المعلوم قسمان: باق على أصله ومعلوميته لم يقع فيه
(تغيير) بوجه، ومعلوم غير عن وضعه وهذا منه، كما قالوه في
النسيء: فإنهم كانوا (يؤخرون) المحرم لصفر ويجعلونه كذلك عاما
بعد عام حتى كانت حجّة أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في ذي
القعدة سنة تسع، وحجّة سيّدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعني حجة الوداع في ذي الحجة ولذلك قال في
خطبته: «إن الزّمان قد استدار كهئته يوم خلق الله السماوات
والارض» فاقتضت الآية أنّ (الحجّ) هو الأشهر المعلومات
(الأصلية) التي ليس فيها ذلك (التغيير) .
(والجواب الثاني) بأن فائدة ذلك التنبيه على هذه الأشهر
المعلومة بالحج كما هو في شرع من قبلنا هي في شرعنا.
ورده ابن عرفة بأنّ اللّفظ لا يقتضى ذلك.
قال ابن عرفة: فإن قلت: ما فائدة (العدول) عن الحقيقة إلى
المجاز في الإخبار بظرف الزمان عن المصدر مثل: زيد عدل؟
(2/571)
فأجاب عن ذلك بأن عادتهم يقولون: (فائدته)
التنبيه على مفارقة الصلاة / فإن الصلاة الفائتة تقضى في غير
وقتها، والحج لا يقضى إلا في هذه الأشهر فجعلت كأنها هي نفس
الحج لملازمته لها.
قال ابن عطية: وأشهر الحج، شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة،
حكاه الشيخ ابن حبيب عن الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وترك
قولين آخرين في المذهب: أحدهما: أنّه شوال وذو القعدة وذو
الحجة، والثاني أنه شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة وأيام
الرمي.
قوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج ... } .
نقل الفخر في المحصول عن أبي الدّبوسي من (الحنفية) : أن الفرض
ما نشأ عن دليل قطعي لأنه مأخوذ من الفرض في (الخشبة) ،
والواجب ما نشأ عن دليل (ظني) لأن الوجوب في اللغة السقوط. قال
الله تعالى {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا
وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} ولذلك يقولون: هذا واجب وجوب
السنن ولا يقولون: هذا فريضة فرض السنن.
(2/572)
قال ابن عرفة: فإن قلت لم أعيد لفظ الحجّ
مظهرا، وهلا قيل: فمن فرضه فيهن؟
فأجاب عن ذلك بأنه لو قيل كذلك لكان فيه عود الضمير على اللفظ
لا على المعنى مثل: عندي درهم ونصفه لأن الحج الأول مطلق يصدق
بصورة فيتناول حج زيد وعمرو بالتعيين الواقع منهما وحجمها
القابل لأن يفعلاه.
وقول الله جل جلاله: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} مقيد بحج كل
واحدٍ واحدٍ بعينه، والشخص المعين (حجه مقيد لا) مطلق، فلذلك
أعيد لفظ الحج مظهرا فيتناول الفرض والتطوع.
قيل لابن عرفة: ما الفرق بين (جواز تقديم) إحرام الحجّ على
أشهر الحج ومنع تقديم إحرام الصلاة على وقتها؟
فقال: الإحرام قسمان منقطع ومستصحب، فالمنقطع كتكبيرة الإحرام
والمستصحب النية، فالنية يصح تقديمها على الوقت لأنها لايزال
حكمها منسحبا على المصلي في جميع أجزاء صلاته ولا يصح تقديم
تكبيرة الإحرام لانقطاعها بالفراغ منها، ونظيره هنا السعي، لا
يجوز تقديمه على أشهر الحج. وأما نية الإحرام والتوجه فهو
مستصحب فيصح تقديمه على أشهر الحج. وفرقوا بين إحرام الصلاة
وإحرام الحج بأنّ إحرام الصلاة متيسر (لا مشقة) فيه فامتنع
تقديمه وأمر المقدم له بإعادته واعتقاد وجوبه بخلاف إحرام
الحج.
قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي
الحج ... } .
(2/573)
نقل ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية
عن الإمام مالك رضي لله عنه: إنّ أقل الجمع اثنان، وقال الباجي
في الفصول: المشهور عن مالك وعن أصحابه أن أقل الجمع ثلاثة إلا
ابن خويز منداد فإنه قال أقله اثنان. واحتج الأولون بقوله:
{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ
نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ
شَاهِدِينَ} وأجيب باحتمال أنْ يريد بالضمير الفاعل والمفعول
معا، أي الحاكم المحكوم عليه.
وردّه ابن التلمساني بإلزام كون الضمير فاعلا ومفعولا في حالة
واحدة فيكون مرفوعا منصوبا، انظر المسألة الخامسة من الباب
الثالث.
قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ ... } .
قال أبو حيان: قرأ الأعمش رفوث.
(2/574)
قال ابن عرفة: هو إما جمع بناء على أن جمع
المصدر إذا اختلفت أنواعه إما قياسا كما قال ابن عصفور أو
سماعا كما قال ابن أبي الربيع وابن هشام، وإمّا مفردا.
قلت: مثل قعود ووقوف وكقولك: أقل أفولا، ولزم لزوما، والجمع
كالحلوم وأما «رَفَثَ» فمثل قولك وَجِلَ وَجَلا وخَجل خجلا.
قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله
... } .
إن قلت: المتقدم نهي وامتثاله بالترك كما أنّ امتثال الأمر
بالفعل، فهلا عقب بأن يقال: وما تتركوا من شيء يَعْلَمَهُ
اللهُ؟
قيل لابن عرفة: نقول إن الترك فعل؟ فقال: البحث على أنّه غير
فعل.
قال: وإنّما الجواب بما قال ابن الحاجب من أنّ نقيض الجلي
(جلي) ، ونقيض الخفي خفي فالإخبار بأن الله تعالى يعلم الفعل
يستلزم معرفته نقيض ذلك وهو الترك وإنّما عدل على التنصيص على
ذلك بالمطابقة إلى دلالة الالتزام ليفيد الكلام أمرين، وهو
الحض على عدم الاقتصار على ترك ذلك فقط فيتضمن طلب تركه وطلب
تعويضه بفعل الخير المحصل للثواب فإنه تعالى عالم بمن يترك ذلك
ويفعل الخير فنبه على الترك والفعل.
(2/575)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ... } .
سبب نزول هذه الآية أَنَّهم كانو يتوهمون أن سفر الحاج إذا
خالطته نية التجارة ينقص من ثوابه أو يوقع في الإثم، فنزلت
(2/575)
الآية. وقوله «مِّن رَّبِّكُمْ» دليل على
أنّ المراد التجارة بالمال الحلال أما الحرام فلا.
قيل لابن عرفة: كله من الله؟ فقال: أما باعتبار القدرة فنعم،
وأمّا باعتبار الإذن فلا، والآية خرجت مخرج الإذن ورفع الحرج.
ابن عطية: الجناح أعم من الإثم لأنه فيما يقتضي العقاب وفيما
يقتضي العقاب والزجر.
قال ابن عرفة: والنفي ب (ليس) لما يتوهم وقوعه والإثم كان
متوهما وقوعه في سفر الحج للتجارة بخلاف النفي ب (لا) . حسبما
ذكره المنطقيون في السالبة والمعدومة، مثل: الحائط لا يبصر،
وزيد ليس يبصر، أو غير بصير.
قوله تعالى: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله
... } .
ذكر الزمخشري هنا أنّ التاء في (بنت) ليست للتأنيث.
قال ابن عرفة: يقال له بل للتأنيث لأن المذكر «ابن» المؤنث
«بنت» وعادتهم يجيبون بأن تاء التأنيث لا يكون ما قبلها إلا
مفتوحا كفاطمة.
أبو حيان: منهم من قال: العامل في «إذا» «فَاذْكُرُوا» قال
(وأخذ) من الآية أن جواب «إذَا» لا يعمل فيها لأن مكان إنشاء
الإفاضة غير مكان الذكر فإذا اختلف المكان لزم منه ضرورة
اختلاف الزمانين فلا يجوز أن يكون الذكر عند المشعر الحرام
واقعا عند انشاء الإفاضة.
(2/576)
قيل لابن عرفة: نقول: إنه يذكر الله تعالى
عند آخر أزمنة انفصاله من عرفات إلى المشعر الحرام، فقال: هذا
صحيح لو لم يكن بين المكانين فاصل، وإنما الجواب الذي عادتهم
يقولونه: إنّك تقول إذا قدم زيد من سفره فاكرمه بعد قدومه
بيوم، فالعامل في «إذا» هو أكرمه مع اختلاف الزمان.
قال: عادتهم يقولون: ليس العامل في إذا أكرمته بذاته، بل
لاستلزامه معنى فعل آخر يصح عمله تقديره: إذا قدم زيد فاعلم
أنّكَ مكلف بإكرامه بعد قدومه بيوم، وكذلك (تفهَم) هذه الآية
فلا يتم لأبي حيان الرد بهما على من يقول العامل في «إذا»
جوابُها.
قوله تعالى: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ ... } .
الأول: ذكرُ الحَجّ، والثاني: ذِكْرٌ مُطْلَقٌ، فهو تأسيس لا
تأكيد وقوله: «كَمَا هَدَاكُمْ» الكاف إمّا للتعليل مثل:
{وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} قوله تعالى: {وَإِن
كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين ... } .
قال ابن عرفة: إن قلت هذا تأكيد لأن الهداية تستلزم تقدم
الضّلال لها.
فالجواب أنّه إنما (كان) يكون تأكيدا (أن) لو قيل: وَإِن
كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ ضَالِّينَ. وهذا أخص لأن قولك: زيد من
الصالحين أخصّ من قولك: زيد صالح.
(2/577)
قاله الزمخشري في قول الله تعالى {والذين
آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي
الصالحين.}
(2/578)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ
حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ
أَفَاضَ الناس ... } .
قال أبو حيان: «ثم» قيل إنّها للترتيب في الذكر لا في الزّمان
لتعذره وهذا على (الإفاضة) من عرفات وقيل بمعنى الواو.
قال ابن عرفة: لا فرق بينهما لأن الواو كذلك هي أيضا للترتيب
في الذكر فالمقدم فيها مقدم في اللفظ لا في المعنى.
قيل لابن عرفة: إنّما يريد النحويون بذلك الذكر القلبي بمعنى:
أنه لم يستحضر أوّلا غير (الأول) من المعطوفين فلذلك بدأ به
فلما نطق به استحضر الآخر وهذا مستحيل في الآية.
وذكر الزمخشري أن «ثُمّ» هنا لبعد ما بين الإفاضتين وأن
إحداهما صواب والأخرى خطأ كما تقول: أحسن إلى الناس ثم لا تحسن
الى غير كريم.
قال ابن عرفة: فإن قلت: هلا (قال) ثم أحسن إلى الكريم فيعطف
الأمر على الأمر فهو أولى من عطف النهي على الأمر.
فأجاب بأنه أراد تحقيق كونها لبعد ما بين الصواب وهو الإحسان
إلى الكريم والخطأ وهو الإحسان إلى غير الكريم ولو أتى بالكل
أمرا
(2/578)
لكانت «ثم» بين الجائز والأولى (ولم) تكن
صريحة في البعد والتفاوت.
(وزاد) أبو حيان قولين: أحدهما: أنّها للترتيب الزماني
والإفاضة (من) جمع. والآخر: أنها على بابها من الترتيب. وفي
الكلام تقديم وتأخير أي وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الألْبَاب ثم
أفيضوا.
قال ابن عرفة: والفرق بين القولين (الأولين) عندي أن يريد
بقوله «ثُمّ» هنا، قيل للترتيب في الذكر، إنّها في هذه الآية
خاصة بمعنى الواو، وبالقول الثاني: إنها بمعنى الواو مطلقا
والله أعلم.
قال ابن عرفة: وعادتهم يقولون: إنّها للتراخي والمهلة فهي على
بابها، والمهلة فيها بين الذي يليها فقط والذي يليها هو معطوف
على ما قبله بالواو والمشهور في الواو أنّها للجمع من غير
ترتيب ولا مهلة، فتكون الجملة الموالية ل «ثم» مراد بها
التقديم. والتقدير: «فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ
فَاذْكُرُواْ اللهَ كَمَا هَدَاكُمْ» «ثم أَفِيضُوا مِنْ
حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ» و {واذْكُرُا الله عِند المَشْعَرِ
الحَرَامِ} .
قال ابن عرفة: وهذا معنى سادس لم يذكروه، وهو الذي (ينبغي) حمل
الآية عليه. والله أعلم.
(2/579)
وقول الله تعالى: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
الناس} قرأ ابن جبير (الناسي) .
أبو حيان: والألف واللاّم قيل للعهد وقيل للجنس فالعهد يريد
آدم عليه السلام.
(قال) ابن عرفة: كونها للجنس (إما) أن يريد النّاسِي في الحجّ
أو بالإطلاق. فالنّاسي في الحج لا إفاضة له لأنه نسي الإفاضة
فلا يصح أمرنا له بالإفاضة من حيث أفاض النّاس وإِن أراد
الناسي مطلقا، وهو الذي نسي غير هذا أي من حيث أفاض الذي من
شأنه النسيان فباطل أيضا، لأن ترتيب الحكم على الاسم (المشتق)
(يشعر) بمناسبة معناه للحكم، وعلته له فإذا قلت.
أكرم زيدا المصلي، فإكرامه إنما هو لصلاته لا لصدقته.
قال ابن عطية: ويجوز عند بعضهم حذف الياء. قال: فأما جوازه في
العربية فذكره سيبويه وأمّا جوازه مقروءاً به فلا أحفظه.
(2/580)
قال ابن عرفة: وهذا غير صحيح كيف يقول: لا
أحفظه وهو شأن الزوائد في القرآن في الاسم والفعل، قال الله
تعالى {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}
وقال أيضا {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} فقرأ ابن عامر
وعاصم وحمزة: «يَأْتِ» «وَنَبْغِ» بحذف الياء وصلا ووقفا.
وتعقبه أبو حيان بأن سيبويه لم يجزه إلا في الشعر وجوّزه
الفراء.
قال ابن عرفة: وعادتهم يقولون: لم عدل في الآية عن دلالة
المطابقة وهي حقيقة إلى دلالة الالتزام، وهي مجاز، فعبر
بالإفاضة المستلزمة للوقوف، وهلا عبر بالوقوف نفسه فيقول: ثم
قفوا من حيث وقف الناس، فما السر في ذلك؟
قال: وعادتهم يجيبون عن ذلك بأنّ قريشا كانوا لا يخرجون من
الحرم لشرفه ويرون الخروج عنه موجبا للوقوع في الإثم، (ويقفون
بالمشعر الحرام، فأتت الآية ردا عليهم وتنبيها على أن الخروج
هنا لاينقص أجرا ولا يوقع في الإثم) ثم إنّ الإتيان إلى المحل
الشريف من
(2/581)
المحل البعيد مُشْعِر بنهاية تعظيمه وكمال
تشريفه، فقصد التنبيه على الحكم مقرونا بعلته، وهذا هو المذهب
الكلامي عند البيانيين.
ولو قيل: ثم قفوا، لما أشعر بالانتقال والرجوع من الحل إلى
الحرم بعد الخروج منه، فعبر بالإفاضة التي من شأنها أن لاتكون
(إلا بعد) وقوف لإشعارها بالانتقال من المحل البعيد وهو عرفة
لأنه في الحل إلى هذا الحرم الشريف تكريما له وإجلالا،
فالإفاضة مستلزمة للرجوع إلى الحرم، ومشعرة بالوقوف المستلزم
للخروج من الحرمِ إلى الحل.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأنه عبر بالإفاضة للمناسبة بينه وبين
لفظه في أول الآية والله أعلم.
(2/582)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ
مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ
أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ
(200)
قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم
مَّنَاسِكَكُمْ ... } .
المراد: القضاء المطلق اللّغوي وهو فعل (العبادة) سواء كان في
وقتها أو بعد وقتها، أي إذا فرغتم من حجكم.
قوله تعالى: {كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً
... } .
(2/582)
الأشدية إما في القدر أو باعتبار حضور
النيّة فالمراد إما الإكثار من ذكره أو كمال الحضور والإخلاص
في ذكره. وفي إعرابه ستة أوجه.
قال الزّمخشري: «أَشَدّ» معطوف على ما أضيف إليه الذكر في قوله
{كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} .
(2/583)
قال الطيبي: وضعفه بعضهم لأن فيه العطف على
(المضمر المخفوض) من غير أعادة الخافض. قال ورد قراءة من قرأ
{تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} بالخفض أقبح رد.
قال ابن عرفة: وهذا إما كفر أو معصية لأنها قراءة حمزة.
قال ابن عرفة: ومنهم من فرق بين العطف على الضمير المجرور
بالحرف وبين العطف على المخفوض (بالإضافة) فأجاز العطف على
المضاف من غير إعادة الخافض.
قال الزّمخشري: كما تقول (كذكر) قريش آباءهم أو قوما أشد منهم
ذكرا. قال: ويكون «أشد» في موضع نصب عطفا على « (آبَاءَكُمْ)
أَوْ أَشَدّ ذِكْرا» من آبائكم على أن «ذِكْرا» من فعل
المذكور.
واختلف في تفسيره فقال أبو حيان: معناه أنك إذا عطفت «أشَدّ»
على «آبَاءَكُمْ» كان التقدير: أو قوما أشَدّ ذِكْرا من آبائكم
فالقوم مذكورون والذكر الذي هو (تمييز) (بعد) أشَدّ
(2/584)
هو من فعلهم أي وفعل القوم المذكورين لأنه
جاء بعد أفعل الذي هو صفة للقوم أي أو قوما أشَدّ ذِكْرا من
ذكركم لآبائكم.
قال ابن عرفة: فمعناه عنده أو كذكركم قوما ذاكرين الله بذكر هو
أشد ذكرا، أي بذكر هو أشد من الأذكار التي تذكرون بها آباءكم،
فجعل القوم المذكورين ذاكرين وهو بعيد.
وقال الطيبي: أراد الزمخشري أن معناه كذكركم قوما مذكورين بذكر
هو أشد ذكرا، فقوما مفعول وأشدّ صفة، فوصفوا بالأشدية من حيث
كونهم مذكورين أي كذكركم قوما ذكرتموهم بذكر هو أشد ذكرا.
قال ابن عرفة: واعلم أن «أَفْعَلَ (مِنْ) » إن انتصب تمييزها
كانت من صفته وإن انخفض كانت من صفة الاسم الذي (جرت) عليه.
تقول: زيد أحسن عبدا بالنصب، أي زيد يملك عبدا أحسن من عبيد
غيره. وأن خفضت كان معناه: أن زيدا في نفسه أحسن عبيد الله
تعالى. ففي الآية هنا على كلام التفسيرين جعل للذكر ذكر مبالغة
مثل جد جده وشعر (شعره) أي ذكرا شبيها بذكر آبائهم أو ذكرا
أشد، فالأشدية من صفة ذكر المتأخر وهو غير الأول فيكون الذكر
ذكر مبالغة.
فالحاصل أن معناه عند أبي حيان: أو كذكركم قوما ذاكرين الله
بذكر ذلك الذكر أشد ذكرا، أي ذلك الذكر كلّه ذكر أشدّ من
الأذكار التي يذكرون بها آباءهم.
(2/585)
(وعند الطيبي: المعنى أو كذكركم قوما
ذكرتموهم، فذكر له ذكر أشد من غيره من الأذكار التي تذكرون بها
آباءكم) .
فقول الزمخشري: على أن «ذكرا» من فعل المذكور هو عند أبي حيان
(الفعل) وعند الطيبي الفعل الاصطلاحي النّحوي وكلام. الطّيبي
أصوب لأن (التشبيه) بالقوم إنمّا هو من حيث كونهم مذكورين بأشد
الأذكار لا من حيث كونهم ذاكرين بأشد الأذكار.
قال ابن عرفة: وهذه مسألة طويلة (عويصة) ما رأيت من يفهمها من
الشيوخ إلا الشيخ ابن عبد السلام، والشيخ (ابن الحباب) . وهكذا
كانا يقررانها وما قصّر الطيبي (فيها) (وهو الذي كشف القناع
عنها و (تكلم عليها) هنا وفي قول الله تعالى في النساء
{يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}
وكلامه في تلك الآية هو الذي حمل التونسيين على نسخه لأني كنت
عند ابن عبد السلام في السقيقة لما قدم الواصل بكتاب الطيبي
فقلت له: ننظر ما قال في «أشَدَّ خَشْيَةً» فنظرناه فوجدنا فيه
زيادة على ما قال الناس فحض الشيخ إذاك على نسخه.
(2/586)
قلت: ولما (حد) ابن الصائغ (المصدر) في
بابه استشكل نصب «ذكرا» في الآية لما تقدم من أن (التمييز)
المنتصب بعد افعل سواء بدأ (غير) الموصوف بها مثل: زيد أفضل
الناس أبا، ف «أشدّ» في الآية صفة للذكر ثم أجاب بأنّه كقولك:
زيد أفضل الناس رجلا وعبدا، ومعناه عند سيبويه أفضل النّاس إذا
وصفوا رجلا رجلا، وليس المراد أن عبده أو (رجله) أفضل النّاس،
فمعنى الآية أشد الأذكار إذا (صنفت) «ذكرا» في الآية تمييز أو
حال والأكثر في مثل هذا أنْ تضاف إليه افعل لكنه لتقدم الذكر
قبله قد يجوز مثل: زيد أفضل النّاس رجلا. قال: ويمكن أن يكون
«ذكرا» مصدرا ل «اذكروا» فقدمت صفته وهو (ذكر) فانتصب على
الحال. والممعنى: واذكروا الله ذكرا كذكركم آباءكم، وأطال
الكلام بما هذا حاصله.
قلت: وعلى هذا لا يحتاج فيه إلى المجاز الذي في: جد جده وشعر
شعره. وبالله التوفيق.
قال ابن عرفة: هذه الآية نص في (أنّ) الأمر بالشيء نهي عن ضده
لأنّهم قالوا: سبب نزولها أنّ قريشا الحمس كانوا
(2/587)
يجتمعون بعد الإفاضة من عرفات فيفتخرون
بأنسابهم فنزلت الآية ردا عليهم فكان الأصل أن يقال: فإذا
قضيتم مناسككم لا تفتخروا بآبائكم. لكنه لو قيل ذلك لاحتمل أن
يسكتوا ولا يتكلّموا بشيء ويتحدّثوا في أخبار الأوائل فيما ليس
بذكر ولا فخر فأمرهم الله تعالى بذكر حتى يتناول النهي عن
الاشتغال بجميع أضداده المنافية له.
قال ابن عرفة: و «أَوْ» في قوله «أَوْ أَشَدّ» للتفصيل فمن هو
كثير الشغل والشغب فذكره كذكر آبائه ومن هو خالي البال يعني
الخاطر فذكره أشدّ ذكرا ويزيد ما استطاع.
قوله تعالى: {فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي
الدنيا وَمَا لَهُ فِي الأخرة مِنْ خَلاَقٍ} .
قال ابن عطية: سببها أنهم كانوا في الجاهلية يدعون في مصالح
الدنيا فقط إذ كانوا لا يعرفون الآخرة فنهو عن ذلك.
قال ابن عرفة: فتقدير (السَّببية) على هذا إما أنهم نهوا عن
الاقتصار (في الدعاء) بمصالح الدنيا فقط وأمروا بالشعور
بالآخرة واستحضار وجودها.
قال: ويحتمل (تقدير) السببية بوجهين آخرين. أحدهما: أن في
الآية اللف والنشر مَن «يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا»
راجع
(2/588)
لقوله «كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ» وقوله
تعالى {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا
حَسَنَةَ} راجع إلى قوله «أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» .
قيل لابن عرفة: (يعكر) عليه قوله «وَمَا لَهُ فِي الأخرة مِنْ
خَلاَقٍ» (يدل على أنه كافر فيكف يذكر الله كذكره أباه؟ فقال:
قد تقرر أنّ «وَمَا لَهُ فِي الأخرة مِنْ خَلاَقٍ» (معتبر)
بأمرين لأنّ الواو فيه واو الحال فيحتمل أن يراد أنه في نفس
الأمر ليس له نصيب في الآخرة، ويحتمل (أن) يريد من الناس
المؤمنين من يطلب أمور الدنيا، ولم يتعلق له بال بطلب الثواب
في الآخرة عليه، فقد يعمل العمل الصالح، ويطلب المعونة عليه،
ولم يخطر بباله طلب الثواب عليه في الآخرة بوجه (أو بطلب الرزق
الحلال من نعيم الدنيا ومستلذاتها، ويصرفه في وجهه وهو مع ذلك
طائع، ولا يتشوق إلى طلب الآخرة بوجه) بل (يغفل) عن ذلك.
الوجه الثاني في تقرير السببية: أنه لما تقدم الأمر بذكر الله
عقبه بهذا تنبيها على أن من الناس من لا يمتثل هذا الامر ولا
يقبله، ومنهم من يمتثله ويعمل بمقتضاه فهو الذي يقول:
{رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً}
أو يرجع إلى القبول والأجر. وتقرر أن القبول أخص، فمن الناس من
يفعل العبادة فلا يجزيه ويخرجه من عهدة التكليف فقط ولا يثاب
عليها كمن يصلي رياء ومنهم من يفعلها بالإخلاص ونية فتقبل منه،
ويثاب عليها في الدار الآخرة.
(2/589)
قال ابن عرفة: وعادتهم يختلفون في الألف
واللام في «الناس» فمنهم من كان يقول إنها للعهد والمراد بها
الناس الحجاج (ومنهم من جعلها للجنس فعلى أنّها للعهد يكون
التقسيم مستوفيا لأن الحجاج) لا بد أنهم يدعون إما بأمر دنيوي
أو بأخروي (وعلى أنها للجنس لايكون مستوفيا) لأن بعض الناس قد
لا يدعون بشيء أصلا لا دنيوي ولا أخروي.
قيل لابن عرفة: وكذلك على أنها للعهد لأن بعض الحجاج يدعو أيضا
بأمر الآخرة فقط؟ ...
قال أبو حيان: ومفعول «آتِنَا» الأول محذوف.
ق ابن عرفة: هذا أحد القولين فيها، وفيها قول آخر بأن الفعل
المتعدي إذا ضمن المجرور الذي بعده معنى آخر تصح نيابته مناب
المفعول. و «في» هنا يتضمنه معنى كقولك: أكلت من الرغيف.
(2/590)
وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
قوله تعالى: {وَفِي الأخرة حَسَنَةً
وَقِنَا عَذَابَ النار} .
ضعف الشيخ أبو حيان العطف هنا للفصل. وأجاب بعض الطلبة بأن
«حسنة» مفعول صريح وفي الآخيرة مجرور مؤخر في المعنى، فتقديمه
يصيره فاصلا.
فقال ابن عرفة: لا يضر ذلك عندهم. وأنا فيه عندي أنّه نعت نكرة
تقدم عليها فصار حالا والحال صفة في المعنى، وإذا كان صفة
فالفصل (به) جائز لأنه جزء من الموصوف أو كالجزء. ونظيره (
(2/590)
من) الآية التي مثل بها. قال: (وما يجيء)
(تمثيل) الفصل إلا بقوله تعالى {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ
وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} بالنصب على قراءة حمزة
وأما قوله تعالى {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ
الأمانات إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ الناس أَن
تَحْكُمُواْ بالعدل} فالفصل هنالك بالظرف (وهي) جملة معطوفة
على جملة.
(2/591)
أُولَئِكَ لَهُمْ
نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
قوله تعالى: {أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا
كَسَبُواْ ... } .
راجع للفريقين فمن طلب الدنيا لها وكذلك الآخرة.
قوله تعالى: {والله سَرِيعُ الحساب} .
قال ابن عطية: قيل لعلي كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ فقال
(كما يرزقهم في يوم) .
قل ابن عرفة: كما يفهم أن العرض لا يبقى زمنين والقدرة صالحة
إلى الإمداد بعرض آخر فكذلك القدرة صالحة (لأن)
(2/591)
يخلق لله في نفس كل واحد الإخبار بما لَهُ
وما عليه (فيخبرُون) بذلك في زمن واحد. وهذا أمر خارق للعادة
ولا يمكن قياسه على الشاهد.
(2/592)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ
فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ
فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ
لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
قوله تعالى: {واذكروا الله في أَيَّامٍ
مَّعْدُودَاتٍ ... } .
الأمر إما خاص (بالحاج) أو عام لأن سائر الناس أيضا يكبّرون في
تلك الأيام غير أنّ الحجاج يكبرون في كل النهار وغيرهم يكبّر
دبر (كل) صلاة فقط، وقد كان عمر يرفع صوته بالتكبير في
(خبائِه) فيكبّر من خلفه ثم يكبر النّاس كلّهم حتى (يُسْمَع)
التكبير من مكة.
(وقيل) هل الأمر للوجوب أو للندب؟
قال: إن أريد مطلق الذكر فهو للوجوب وإن أريد الذكر الخاص في
الوقت الخاص فهو للندب، وأما للاباحة (فلا) .
وقوله «مَّعْدُودَاتٍ» أخذوا منه أن الواحد عدد لأنه جمع مفرده
معدود.
وأجيب بأن الشيء في نفسه ليس كهو مع غيره فالمجموع عدد والبعض
غير عدد.
قوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلآ إِثْمَ
عَلَيْهِ} .
(2/592)
(تُؤول) بأمرين إما نفي للإثم حقيقة أو
إثبات الأجر له والثواب (لأن الثواب) كان حاصلا (بالإقامة) لأن
الذكر معلوم أنه يحصل الثواب فما يبقى إلا توهم الوقوع في
الإثم هنا (لما كان) الجاهلية يعتقدون. (فنفي) ما يتوهم وبقي
ما عداه ثابتا بالأصالة وهو حصول الثواب على الذكر.
قيل لابن عرفة: والآية تدلّ على ترك العمل (بمفهوم) العدد لأن
مفهومها أن المتعجل في أقل من يومين مأثوم، مع أن التأخير سنة
وتارك السنة غير مأثوم؟
فقال: إمّا أن نفرّع على أن تارك السنن متعمدا مأثوم وتقدم
نظيره في الوتر، أو نقول: معنى «لاَ إِثْمَ» أي له الثواب.
قيل للامام: ففيه حجة للقائل بأن تارك السّنن متعمّدا مأثوم؟
قال: لا حجة فيه لاحتمال أن يراد بنفي الإثم حصول الثواب.
قوله تعالى: {واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .
في ظاهره دليل على أنّ الحشر بإعادته هذه (الأجساد) بعينها.
قيل لابن عرفة: وفيه دليل على ذم التقليد؟ فقال: يقال الحاصل
للمقلد علم لا ظن.
(2/593)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ
اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ
(204)
قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ
قَوْلُهُ ... } .
حكى ابن عطية في سبب نزولها ثلاثة أوجه: إمّا أنها عامة في كل
من أبطن الكفر وأظهر الإسلام، وإما أنّها خاصة بقوم من
المنافقين تكلَّموا في قوم من المؤمنين استشهدوا في غزوة
الرجيع. وإما أنها خاصة بالأخنس بن (شريق) .
قال أبو حيان: و «من» إما موصولة بمعنى الذي أو نكرة موصوفة.
قال ابن عرفة: إعرابها نكرة مناسب للقول بعموم الآية في كل
منافق، وإعرابها موصولة مناسب للقولين الآخرين لأجل العهد الذي
في الصلة فيقتضي تقدم معهود على (الخصوص) ويكون تعجبك ماضيا في
المعنى (أي) بفلظ المضارع للتصوير والتحقيق كأنه مشاهد وعلى
العموم فهو مستقبل حقيقة.
قوله تعالى: {فِي الحياة الدنيا} .
إما متعلق ب «يعجبك» أو ب «قَوْلُهُ» . وعادتهم يوردون عليه
سؤالا وهو أنه إن تعلق ب «يعجبك» كان الكلام غير مفيد لأنه
معلوم لأن الإعجاب منه إنما هو في الدنيا، ولا يقع في الآخرة
فهو تحصيل الحاصل، وإن تعلق ب «قَوْلُهُ» فإما أن يراد نفس
قوله أو متعلقه، فمتعلقه إنّما هو في الآخرة لا في الدنيا لأن
(محصول) ذلك القول (الإسلام) وهو أمر أخروي لا دنيوي. وإن أريد
نفس «قَوْلُهُ» فذلك القول
(2/594)
إنما وقع منه في الدنيا ونحن نعلم ذلك من
غير حاجة إلى الإعلام به فيرجع إلى تحصيل الحاصل.
قال: فالجواب أنه على حذف مضاف، أي يعجبك قوله في شأن الحياة
الدنيا، لأنه إنما (يقصد) بكلمة الإسلام عصمته من القتل والأسر
وضرب (الجزية) ، وصيانة ماله وعرضه، فالإعجاب راجع إلى حكم
دنيوي لأن المراد به نفس التعجب.
قوله تعالى: {وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ ... } .
دليل على أن العقل في القلب.
قيل لابن عرفة: وهذا من الكذب على الله. وقد ذكر ابن التلمسانى
فيه قولين: قيل إنه كفر، وقيل لا؟
قال ابن عرفة: إنّما الخلاف في الكذب على الله في الأحكام
كقوله: أَحَلّ الله كذا وحرم كذا وأما قول القائل أي الحالف
لقد كان كذا والله يعلم أنّي لصادق، فهو يمين غموس وليس من ذلك
القبيل وعلق التعجب بالقول ليفيد التعجّب من كلامه من باب
أحرى.
قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} .
إنما كان مُلدّا لحلفه على الباطل وتأكيده الحلف يعلم أنه
تعالى أنه حق.
(2/595)
وَإِذَا تَوَلَّى
سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
قوله تعالى: {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض
لِيُفْسِدَ فِيِهَا ... } .
(2/595)
(ابن عطية) : يحتمل أن يكون توليه بقلبه،
أي ضل، أو بجسده، أي أدبر عنكم بجسمه. وضعف ابن عرفة الأول
بأنه لم يكن قط مسلما والتولي عن الشيء يقتضي تقدم الكون فيه.
قوله تعالى: {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل ... } .
من عطف الخاص على العام.
قوله تعالى: {والله لاَ يُحِبُّ الفساد} .
الصحيح أنّه ليس المراد حقيقة المحبة بل الذمّ على ذلك والله
يذم الفساد ويعاقب على فعله لقول العرب في المدح التام:
حَبَّذَا زَيْدٌ، وفي الذم التام: لاَ حَبَّذاَ زَيْدٌ،
واحتجاج المعتزلة بها لا يتم.
والجواب عنه بما قلناه. . وكذلك احتجاجهم بقول الله تعالى
{وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر.}
(2/596)
وَإِذَا قِيلَ لَهُ
اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ
جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله
أَخَذَتْهُ العزة بالإثم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ
المهاد} .
قال ابن عرفة: الآية لها منطوق ومفهوم والتقدير: لم يتق لأجل
ما نالته (من العزة) بسبب الإثم واكتفى عن ذلك المفهوم فذكر
علته. وفي كتاب الأقضية والشهادة فيمن قال له القاضي أو غيره:
اتّق الله فإنّه يقول له: اللهم اجعلنا من المتّقين، لئلا يدخل
في ضمن هاته الآية. قال: ولا ينبغي أن يقول أحد لأحد: اتّق
الله، فإنه تعريض له لعدم التقوى.
(2/596)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ
رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي
نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله ... } .
قيل: إنّها خاصة بصهيب وقيل عامة في كل مجاهد أو في كل آمر
بالمعروف وناه عن المنكر.
قال ابن عرفة: (يشري) على أنها خاصة (فعل حال وعلى العموم)
مستقبل حقيقة و «النّاس» إمّا المؤمنون فقط أو المؤمنون
والكافرون لأنه إذا تعارض العموم في جنس أقرب أو فيه وفي أبعد
منه فالأقرب (أولى) .
«مَرْضَاتِ» : قال ابن عطية: وقف عليها حمزة بالتاء والباقون
بالهاء. وتبعه أبو حيان وهو غلط إنما وقف عليها بالهاء الكسائي
فقط. وعن ورش في إمالتها وجهان، والمشهور عدم الإمالة.
قال ابن عرفة: وهو عندي منتقد على الشاطبي لأنه ذكر أنّ ورشا
يميل ذوات الياء ثم عدها من ذوات الياء فضاهره إنه يميلها.
قوله تعالى: {والله رَءُوفٌ بالعباد} .
(2/597)
المراد رؤوف بهم، أي بمن يشتري نفسه، أو
المراد رؤوف بهم أي بشيء يشتري نفسه. والمراد رؤوف بالنّاس
إذَا قلنا: إن الكافر مُنعَم عليه وذلك أنك إذا قلت: أنعم فلان
على فلان. فإن أردت أنه أذهب عنه كل مؤلم فالكافر غير منعم
عليه في الآخرة. وإن أردت أنه أذهب عنه مؤلما بالإطلاق فالكافر
منعم عليه إذْ مَا مِنْ عذابٍ إلاّ وَفِي علم الله (ما هو) أشد
منه.
قال الزمخشري: «رؤوف بالعباد» حيث كلّفهم الجهاد فعرضهم لثواب
(الشهداء) .
قال ابن عرفة: وهذا جار على مذهبنا لقوله «رؤوف» (فدل على)
أَنّه لاَ يَجِبُ عليه مراعاة الأصلح وإنما ذلك محض (رأفة
ورحمة) وتفضل.
(2/598)
|