تفسير الإمام ابن عرفة

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)

قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} .
أجاز ابن عطية أن يكون «كافة» حالا من فاعل «ادخلوا» أو من «السِّلم» كقول الله تعالى {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} «فتحمله» (حال) من فاعل «أتت» ومن قوله «به» .

(2/598)


قال أبو حيان، واعترض بأنه لا يصح إلاّ إذا جعلت صاحبي الحال مبتدأين والحال خبر عنهما كقول الشاعر:
وعلقت سلمى وهي ذات موصد ... ولم يبد للآتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم ياليت أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهم
فيصح: أنا وسلمى صغيران وقال امرؤ القيس:
خرجت بها نمشي تجر وراءنا ... على إثرنا أذيال مرط مرجل
لأنه لا يصح: أنا وهي نمشي ولا يصح أن يقال: هو وهي تحمله. فقال ابن عرفة: يصح حمله على الوجه الذي صح إتيانه حالا منهما تقول: هي تحمله وهو محمول كما (يفهم) في الحال منهما مجموعة.
قلت: وتعقب ابن القصار هذا بأنّهما كما جمعا في حال واحدة كذلك يجمعان في خبر واحد فيمتنع الجمع في تلك، ويصح هنا أي أنتم والسلم مجتمعون لكن يبطل من جهة أن المقدر خبر أو «ادخلوا في السلم» أمر والأمر لا يقدر بالخبر.
فإن قلت: المعنى أنتم والسلم مطلوبان بالاجتماع؟ (قلنا لم يخبر) عنهما بالحال بل بلازمها.

(2/599)


ابن القصار: ولا أعلم من شرط هذا إلا أبا حيان بل إنما اشترطوا اتحاد العلم في صاحب الحال مثل ما تقدم، وكقول عنترة العبسي في عمارة بن زياد العبسي، كان يتوعده عنترة بالقول: «متى تأتني فردين ... »
وقوله {ادخلوا فِي السلم} أي دوموا على الدخول.
قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ ... } .
احتجّ ابن الخطيب بها على أنّ الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده إذ لو كان كذلك لما كان لقوله «ولاَ تَتَّبِعُوا» فائدة.
قال ابن عرفة: إنما يتمّ له هذا (على) القول بأن الأمر للتكرار مع أنّ الصحيح أنّه مطلق يخرج المأمور من العهدة بالمرة الواحدة والنّهي يقتضي الانتهاء دائما ففيه زيادة فائدة لم تكن في الأمر.
قال ابن عرفة: والاتباع في الاصطلاح كما قال الفخر الرازي في المعالم: أن يفعل فعل المتبوع (لأجل) أنه فعله.
قيل لابن عرفة: هذا فعل في سياق النفي فهو عام في جميع وجوه الاتباع؟
فقال: إنما يعم في مسمى الاتباع فقط كقولك: لا عين عندي. إنما يعم في مسمى العين الذي حملته عليه وهو المال مثلا أو غيره.

(2/600)


قوله تعالى: {خُطُوَاتِ الشيطان ... } .
أبو حيان عن ابن أبي مريم صاحب الموضح: سكنت تخفيفا عن ضم مقدر منوي إذ هي حركة فارقة بين الاسم والصفة كما في جمع «فعلة» المفتوحة الفاء.
قال ابن عرفة: إنّما يكون الفرق باللّفظ لا (بالنّية) . فرد عليه بمثل ذلك بوجهين للمفرد والجمع (بالنية) .
فقال: قد ذكروا في ذلك أنّ حركته صغيرة بالنّسبة إلى حركة أخرى ولم يجعلوا (للنّية) فرقا.
قيل لابن عرفة: قد فرق المنطقيون بين العدول والتحصيل (بالنية) .
فقال: المراد منهما أنّ الحركة منوي بها ذلك من أول، وهنا ليس كذلك.

(2/601)


فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

قوله تعالى: {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات} .
فيه سؤالان الأول أن قبلها {ادخلوا فِي السِّلْمِ} والأمر بالدخول يقتضي أنّهم غير مسلمين وقول الله تعالى: «فَإِن زَلَلْتُمْ» يقتضى

(2/601)


أنَّهم مسلمون ثم زلوا بعد ذلك قال الله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} وأجيب بأنّه مثل: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} لأن الكفار لما كانوا متمكنين من الإيمان فكأنهم حصل لهم الإيمان بالفعل.
(السؤال) الثاني: الآية خرجت مخرج التقسيم لحالهم والتقسيم الأصل فيه أن يكون بالواو. تقول: العلم إما تصور وإمّا تصديق، ولا يجوز عطفه بالفاء، فقسم حال هؤلاء إلى من دخل في الاسلام ولم يتبع الشيطان وإلى من زلّ عن الإسلام بعد مجىء البينات فهلا عطفه بالواو؟
وأجيب بأن الفاء تقتضي السبب فقصد التنبيه على أنهم ضلوا بسبب هذه الآيات التي كانت سببا في هداية غيرهم. قال الله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} لا سيما مع مذهبنا أنّ ارْتِبَاط الدّليل بالمدلول عادي، وعبر ب «إن» دون إذا (تنفيرا) عن الزلل حتى كأنه غير واقع.
قوله تعالى: {فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
قيل لابن عرفة: هل يؤخذ منه إثبات هاتين الصفتين لله تعالى (

(2/602)


بالسماع) ؟
فقال: إنما المراد العلم بلازم ذلك وهو العقوبة والانتقام ممن زلّ.

(2/603)


هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله ... } .
قال أبو حيان: قيل بمعنى ينتظرون فيتعدى إلى واحد بنفسه ولو كانت من نظر العين لتعدت بإلى وأضيفت إلى الوجه مثل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ورده أبو حيان بجواز كونها منه وإلى محذوفة وحذف حرف الجر مع أنه كثير وهو قياس مطرد ولا يلزم إضافتها إلى الوجه بل قد يضاف إلى الذات قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} {قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} وقدر ابن عرفة هذا التعقب بأنه (إن) أراد أن المنظور إليه لايكون إلا (بالوجه) فباطل بقوله {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل} (وإن) أراد (أنّ) النظر (بالنسبة) لاعتبار الفاعل لا إلى الوجه فيقال: نظر وجهي إلى كذا، فباطل أيضا.
قال ابن عرفة: ويبطل أيضا من وجه آخر وهو المنظور إليه هنا هو الإتيان المفهوم من قوله {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} . والإتيان معنى

(2/603)


من المعاني لأنه مصدر والمعاني لا ترى بوجه الا باعتبار الجواز العقلى لكونها موجدة والوجود مصحح للرؤية.
فإن قلتم: نرى إتيان الشخص؟ قلنا: إنما رأيت الشخص الآتي لا إتيانه.
فإن قلتم: إنه عرض؟ قلنا: العرض الذي هو اللون مرئي، وأما الرائحة والعلم والقدرة فليس بمرئي بوجه.
(والجواب) عن ذلك أن النظر هنا بمعنى الانتظار ومعناه أن (حالاتهم) تقتضي انتظارهم العقوبة (لا أنهم) يقصدون ذلك وفي هذا عقوبتان (حسية) ومعنوية لأن وجود السحاب مظنة الرّحمة بالمطر قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ} وقال الله جل ذكره {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمئان مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} ففيه العقوبة (بالخيبة) فيما يظن فيه قبل الغرض فلا تناله العقوبة بنقيض المقصود وهو إتيان العذاب معه.

(2/604)


سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)

قوله تعالى: {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ... } .

(2/604)


(قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق أنهم إن زلوا بعد الآيات البينات عوقبوا نبّه بهذه الآية على مساواة حالهم لبني إسرائيل، إذ جاءتهم بينات كثيرة فزلّوا وتولّوا فعوقبوا) .
قال ابن عطية: أي كم جاءتهم في أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من آية دالة عليه.
قال الزمخشري: {كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ} (دالة) على الذي آتيناهم أو من آية دالة على صحة دين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن عرفة: الأول راجع للثاني لأنه (إن) أراد بالآيات المعجزات الصادرة عن أنبيائهم دلالة على صدقهم فلا يناسب ذكره هنا عقب هذه الآية. (وإن) أراد بذلك أن (أنبياءهم) أخبروهم بإرسال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصفته وصحة نبوته فيرجع إلى الوجه الثاني.
قوله تعالى: {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} .
الصواب: أن يكون على إضمار الجواب وهذا تعليل له (أي) فليعلم أن الله يعاقبه فان الله شديد العقاب.

(2/605)


زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا ... } .

(2/605)


أسند التزين إلى الملزوم اكتفاء به عن اللازم، مع أن اللازم هو الذي يكتفي به عن الملزوم بخلاف العكس كما قال {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} إذ لا يلزم من تزيّن الحياة الدنيا لهم محبتهم إياها ولو قيل: زين للكافرين حب الدنيا لا ستلزم ذلك تزيّن الدنيا لهم. وتقرر أن المحبة إن كانت متعلقة بأحد النقيضين أو الضدين دلت على كراهة مقابله.
((قال ابن عرفة) : والمحبة على أن المزين له كافر إلا مع معارضتها للآخرة وترجيحها عليها أما مع عدم المعارضة فلا. وهذا في الاعتقاد وأما في الأحكام والفروع فلا؛ لأجل أن عُصاة المؤمنين كلّهم رجحوا الدنيا على الآخرة) .
قوله تعالى: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
إما تهييج على الاتصاف بالتقوى فلذلك قال: «فَوْقَهُمْ» وإما تنبيه على تفاوت درجاتهم، وإما أن يكون التقوى والايمان بمعنى واحد.

(2/606)


كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

قوله تعالى: {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ... } .
دليل على أن النبي أعمّ من الرّسول بناء على الحكم المسند الى مشتق أو موصوف بصفة تقتضي ثبوت ذلك الوصف له حالة ثبوت الحكم، فيقتضي ورود البعث عليهم حال حصول النبوءة فلو كان النبي والرّسول بمعنى واحد للزم تحصيل الحاصل. وقيل الرّسول أعمّ حكاه الغزالي في (الاقتصاد) والشيخ ابن العربي.

(2/606)


وقال ابن الصلاح: اختلف المحدثون في جواز نقل الحديث بالمعنى، فقيل يجوز وقيل لا (يجوز) وقيل: إن بدل اسم الرسول بالنبي جاز بخلاف العكس.
قال ابن عرفة: الآية دالة على أن الجمع المحلي بالألف واللاّم لا يفيد العموم إذ ليس كل نبي مبعوثا وبدأ بالبشارة لأن الرحمة سبقت غضبه.
قوله تعالى: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب ... } .
قيل لابن عرفة: فهلا قيل: أنزل عليهم الكتاب، كما في سورة النساء {وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة} {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله} لأَنَّكَ تقول: قام زيد مع عمرو، فيقتضي اشتركهما في القيام، والرسل ليسوا منزلين مع الكتاب.
قال ابن عرفة: المراد أنزل مع بعثهم والإنزال مصاحب للبعث ولا اشتراك بينهما لأنه معنوي لا يمكن إنزاله وهم من أول بعثهم إلى آخره لايزال الكتاب منزلا عليهم حتى يموتوا.

(2/607)


قيل لابن عرفة: هذا كله مجاز فلم عدل عن الحقيقة إليه؟
قلت: وحمله الشيخ ابن القصار على (أمرين) :
أحدهما: أن «أنزل» بمعنى بعث، فيفيد لفظة الإنزال تشريف الرسل وقومهم بالكتاب الشريف المنزل من أشرف الجهات وهي جهة فوق، ويفيد معنى البعث أن الكتاب مبعوث مع الرسل لقومهم اعتناء بهم وتأكيدا على امتثال أوامره ونواهيه.
الثاني: أن يجعل «معهم» حالا من «الكتاب» وقدمت عليه للاهتمام بالمصاحبة. فإن قلت: الكتاب حين إنزاله لم يكن معهم؟
قلنا: هي حال مقدرة لا محصلة.
واقتضت الآية الاستدلال بمقدمة منطقية وهو أن يقول: كلما ثبتت الرّسالة لغير محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثبتت لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن عرفة: وقولهم إن الكتاب هو التوراة باطل بقوله {فَبَعَثَ الله النبيين} لأنّ التوراة ليست منزلة على كل النبيين.
قوله تعالى: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس ... } .
هذا عندنا (فضل) لا واجب.
واستشكل بعض الطلبة فهم الآية لأن قوله {فِيمَا اختلفوا} يقتضي تقدم اختلافهم على إنزال الكتاب.
قوله تعالى: {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات} .

(2/608)


يقتضي تأخير اختلافهم عن الانزال وعدم تقدمه عليه لأنه مقرون بأداة الحصر كما قال في سورة الجاثية {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأمر فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ} وهذا كله على قولهم: إن الضمير المجرور في قوله {وَمَا اختلف} عائد على ما عاد عليه قوله تعالى: {فِيمَا اختلفوا فِيهِ} .
قال ابن عرفة: اختلفوا قبل وبعد.
قلت: اختلفوا قبله اختلافا ضعيفا فلما ورد الكتاب والدلائل أعمى الله بصائرهم فاستنبطوا به شبهات كانت سببا في تعنتهم وضلالهم واختلافهم كمن يقرأ أصول الدين ليهتدي فيضل وكان قبل على الصواب فاختلافهم المعتبر إنما هو بعد الآيات وما قبل ذلك لا عبرة له.
قلت: فهذا يحسن جوابا والله أعلم، قال الله تعالى {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} ووافقني عليه بعضهم وقال: تكون من عود الضمير على اللفظ فقط نحو: عندي درهم ونصفه.
قوله تعالى: {فَهَدَى الله ... } .
العطف بالفاء إشارة على سرعة هدايته للمؤمنين بعقب الاختلاف فإن يكن اختلافهم في الفروع فيحسن أن يكون {وَمَا اختلف فِيهِ} بعض الحق وإن يكن من الاعتقاد فهو كل الحق لا بعضه.
قوله تعالى: {لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ ... } .
قال ابن عرفة: الصّواب أن معناه بقدرته وإن كان مجازا فهو أولى من أن يقال بعلمه أو بأمره ليكون فيه حجة على المعتزلة.

(2/609)


قوله تعالى: {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .
قال ابن عطية: فيها حجة على المعتزلة في قولهم: إن العبد يخلق أفعاله.
قال ابن عرفة: هذا بالظاهر لا (بالنضر) ولهم أن يجيبوا بعود ذلك إلى الداعي ووقع الاجماع هنا ومنهم عليه.

(2/610)


أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم ... } .
قال ابن عصفور في مقربة والآمدي في شرح الجزولية: (لَمْ) لنفي الماضي المتصل بزمن الحال ومثل ذلك {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} ولم يندم، وعصى إبليس ربه ولمّا يندم لأن نفي الندم عن آدم كان ومضى وانقطع كوقوع الندم منه بعد ذلك، ونفيه عن إبليس متصل بزمن الحال.
قال ابن عرفة: وعادتهم يتعقبونه بوجيهن:
الأول: نسبة العصيان لآدم عليه السلام فإنه وإن كان ورد في القرآن لكنّه لا ينبغي أن (يتكلم) المخلوق على جهة المثال فإنه من إساءة الأدب على الأنبياء.

(2/610)


الثاني: ان نفي النّدم عنه إما قبل المعصية أو بعدها، والأقسام كلها باطلة لوقوع النّدم منه إثر المعصية. قال الله تعالى {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} (فعقب) الأكل بدت لهما السوءات، فوقع الندم والندم حين العصيان غير متصور فأحرى قبله.
وقال القرطبي: (لَمَّا) هنا بمعنى (لم) لنفي الماضي المنقطع لأن ذلك كان في غزوة أحد وهي متقدمة على (هذه) الآية.
ورده ابن عرفة بأنّه إنّما يلزم ذلك لو (علّقه) في الآية بالعلم، وهو أنما علّقه بالحسبان.
قلت: ونقله بعض الطلبة بلفظ لا يحتاج إلى هذا بل هي على بابها لأن حسابهم أنهم يدخلون الجنة حالة كونهم لم يأتهم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ وهذا (الحسبان) لم ينقطع وما زال المؤمنون يظنون أنهم يدخلون الجنة من غير بأس ولا مشقة تنالهم إلى حين نزول هذه الآية، ونيلهم البأس في (هذه الغزوة) لا يرفع ظنّهم ذلك.
قال ابن عرفة: والبأَسَاءُ راجع لفقد المال، وَالضّرّاءُ للنقص في البدن والزلزال في النفس.

(2/611)


قوله تعالى: {حتى يَقُولَ الرسول ... } .
قرأ نافع، بالرفع.
قال ابن عطية: كأنه اقترن بها (تسبيب) ، فحتى (حرف) (ابتداء) يرفع الفعل.
ابن عطية: ظاهره أيضا إذا كان ما قبلها سببا لما بعدها، فالرفع مطلقا وليس كذلك. بل لابد من زيادة كونه ماضيا أو حالا، وأما إن كان الفعل مستقبلا فالنصب ليس إلا، وكذلك جعله الزمخشري حكاية حال ماضية.
قال أبو حيان: وحتى على النصب (للغاية) بمعنى: إلى أن، أو للتعليل بمعنى كي. قال: والغاية أظهر لأن (الضراء) والزلزال ليسا معللين بقول الرّسول والمؤمنين.

(2/612)


قال ابن عرفة: إن اعتبرنا (الزلزال) من حيث نسبته إليهم فليس بعلة، لأنهم لا يتزلزلون قصدا لأن يقول الرّسول والمؤمنون هذه المقالة، وإن اعتبرناه من حيث نسبته إلى الحق سبحانه وتعالى إذ هو الفاعل المختار في الحقيقة فهو علة في قول الرسول والمؤمنين؛ ذلك لأن الله تعالى زلزلهم ليقول الرسول والمؤمنون هذه المقالة. وأبو حيان لما رأى الفعل وهو «زُلْزلُوا» مبنيا للمفعول اعتبر نسبته إليه.
قال ابن عطية: عن طائفة: وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره: حتى يَقُولَ الَّذينَءَامَنُوا مَتَى نَصْرُ الله، ويقول الرّسول أَلاَ إنّ نَصْرَ الله قَريبٌ.
قال ابن عرفة: لا حاجة إلى هذا التقديم والتأخير بل هو لف ونشر مخالف جعل فيه أول القولين للقائل الثاني لكونه يليه.
وقوله «مَعَهُ» يحتمل أن يتعلق ب «ءَامَنُوا» أو ب «يَقُول» فإن تعلق ب «ءَامَنُوا» فيكون من جمع القول دون قائله مثل: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} فكل فريق دعا إلى دينه وإن تعلق ب «يقول» فيكون من جمع (القائلين وأقوالهم) فيكون الرسول قال المقالتين والمؤمنون كذلك قالوا المقالتين.

(2/613)


يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ... } .

(2/613)


السؤال (يتعدى) للمحسوسات بنفسه، ويكون معموله مفردا مثل: سألته طهورا، أي طلبت منه الماء، وللمُعاين كذلك، ويكون جملة مثل: سألته ماء هو الطهور.
الزمخشري: سألوا عن تعيين المنفق فأجيبوا بتعيين المصرف لاّنه يستلزم المنفق.
قال ابن عرفة: جعل السؤال (هنا) عن حال الشيء ويظهر لي وجه آخر وهو أن السؤال بماذا عن حقيقة الشيء وهي قسمان: عقلية وشرعية.
فالعقلية لا يختلف جوابها بوجه ولا يمكن فيه التحريف، وأما الشرعية فهي أمور جعلية يصح تحريف الشّارع لها عن شيء آخر، فالمراد: يسألونك عن حقيقة الشيء المنفق المحصل للثواب في الدار الآخرة ما هو؟ فأجيبوا بأنه الشيء المنفق على الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وفعل الخير بالإطلاق.
قوله تعالى: {قُلْ مَآ أَنفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ... } .
(مَا) إما شرطية أو موصولة.
قال ابن عرفة: الظاهر أنها شرطية، لأن فعل الشرط مستقبل ولو كانت موصولة لما حسن ترتيب الجواب عليها، لأنهم لم يكن إنفاقهم الماضي قاصرا على الوالدين والأقربين ومن بعدهم، بل عاما فيهم وفي غيرهم، فإنَّما أمروا بذلك في المستقبل.

(2/614)


قيل لابن عرفة: قد قال ابن مالك: إنّ الفعل بعد الموصول يحتمل الحال والاستقبال.
قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} .
علله بالعلم والمراد لازمه وهو حصول الثواب الجليل عليه.
فإن قلت: الآية تدل على أن الأب مساوٍ للأم في البر لتسويتهما في النفقة عليهما؟
قلنا: الآية إنّما تضمنت مطلق الإنفاق عليهما من غير تعرض لما بينهما من التفاوت، بدليل تضمنهما أيضا النفقة على الأقربين بالإطلاق، مع أنّهم متفاوتون لأن القرابة مقولة بالتشكيك، فالنفقة على أقرب الأقربين تكون أكثر (من النفقة) على من هو أبعد منه. وابن السبيل هو المسافر إذا قدم على بلد هو فيها فقير ويكون في بلده غنيا، فإن كان فقيرا في بلده فهو (مسكين) .

(2/615)


كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال ... } .
قال ابن عرفة: لفظ الكتب دليل على تأكيد وجوب القتال. والكتب إما حكم الله أو في اللوح المحفوظ أو في القرآن. والجهاد هنا (قيل فرض عين) وقيل فرض كفاية.
قال ابن عرفة: الظاهر أنه فرض (عين) لأنا إذا شككنا في شيء فيحمل على الأكثر. وفرض العين في التكاليف أكثر من فرض الكفاية.

(2/615)


(قيل له: في غير هذا، وأما هنا فلا؟ فقال: هذا محل النزاع، وكان بعضهم يقول: إنه فرض عين في كفاية) فواجب على (جميع) الناس حضور القتال. ويكفي فيه قتال البعض، والحضور فرض عين (والقتال فرض) كفاية كالصلاة في الدار المغصوبة فإنّها فرض في حرام.
قال ابن عرفة: وإذا قلنا: إنّ خطاب المواجهة يعم ولا يخص، فنقول: الأمر للحاضر والغائب وغلب فيه المخاطب. والأمر للحاضرين ويتناول الغائب (بالقياس) عليه من باب (لا فارق) .
قوله تعالى: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ... } .

(2/616)


الضمير عائد على القتال إما (لقربه) وإما لأنه إنما يعود على (الكتب) باعتبار متعلقه لأنهّم لايكرهون الكتاب لذاته. والكراهة هنا ليست بمعنى البغض بل بمعنى النفور منه وصعوبته على النفس كصعوبة الوضوء في زمن البرد فيكرهه المكلف كذلك لا أنه يبغضه.
قوله تعالى: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ... } .
قال أبو حيان: عسى الأول للاشفاق والثانية للرجاء.
قال ابن عرفة: المناسب العكس، فإن المستقبل في الأولى خير وانتظاره رجاء، والمستقبل في الثانية شر فانتظاره إشفاق وخوف.
قيل لابن عرفة: إنما المعتبر ما دخلت عليه (أن) ؟
فقال: نعم لكن بصفته وقيده، والأول مقيد بأنه (يعقبه خير، والثاني مقيد بأنه يعقبه الشر.
قيل لابن عرفة: المستقبل غير معلوم للانسان وإنّما يعلم الحاضر فيعسر عليه المستقبل فإن كان الحاضر خيرا ترجّى دوامه وإن كان شرا أشفق وخاف من دوامه.
قال أبو حيان: وكل عسى في القرآن للتحقيق يعنون به الوقوع الا قوله عَزَّ وَجَلَّ {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} قال ابن عرفة: بل هي أيضا للتّحقيق لما تقدم من أنّ القضية الشرطية تقتضي صحّة ملزومية الجزاء للشرط ولا تقتضي الثبوت والوقوع، والقضية الحملية تقتضي الثبوت والوقوع أو بفهم الوقوع في (الآية) باعتبار (المتكلم) بهذا الشرط والرجاء واقع من الله تعالى.

(2/617)


قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} .
قال ابن عرفة: الآية تدل على أن جميع الأحكام الشرعية تعلل، وذلك أنهم اختلفوا في التعبدات فذهب جماعة منهم الشيخ الهمام عز الدين ابن عبد السلام إلى أنّها الأحكام (التي لاتدرك لها علة، وفي بعض كلام ابن رشد وكلام المتقدمين ما يدل على أنها الأحكام) التي لا علة لها، والآية تقتضي أنّ الأحكام كلّها لاتكون إلا لمصلحة لأنّها خرجت مخرج (التّبيين) على كمال المبادرة إلى امتثال الأحكام الشرعية فدل على أن المراد والله أعلم ما في ذلك من المصلحة وَأنتُمْ لاَ تَعْلَمونها.
فعليكم أن تأخذوها بالقبول.
وقوله: وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ: قال ابن عرفة: يصح أن يكون في موضع الحال.
قيل له: علمنا حادث لا يُجامع علم الله القديم؟
فقال: هي حال مقدرة والتحقيق أنّا إن جعلنا الجملة في موضع الحال تكون سالبة تقتضي وجود الموضوع، وبقي في الآية أنّ الزمخشري قال في {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} إما مصدر من الكراهة أو أنه بمعنى بمعنى المكروه مثل (الخبز) بمعنى (المخبوز) .

(2/618)


وقرىء: «كَرْهٌ» بالفتح على أنه بمعنى (المضموم) كالضعف والضعف.
قال ابن عرفة: وقال القاضي أبو الفضل عياض في تنبيهاته: الوضوء بالضم هو الفعل وبالفتح اسم الماء، وقيل: بالعكس. قال: فيجيء هنا كذلك.
قيل لابن عرفة: هذا قياس في اللّغة فلا يجوز؟ فقال: إنما هو (إجراء) لا قياس.

(2/619)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)

قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ ... } .
قال ابن عرفة: القتال الذي وقع منهم في الشّهر الحرام، إن كان غلطا فهو كبير موجب للإثم، وإن كان اجتهادا أجري على الخلاف في الاجتهاد هل يرفع حكم الخطأ أم لا؟ فإن قلت: لم أعيد لفظ القتال مظهرا، وهلا كان مضمرا، ولم أعيد منكرا وهلا كان معرفا؟ قيل: الجواب أنّ ذلك لاختلاف المتكلّم فالأول في الكلام السائل والثاني في كلام المسؤول.
قال الفراء وهو معطوف على كبير.
قال ابن عطية: (وهو خطأ لأنه (يؤدي) إلى أنّ قوله «وَكُفْرٌ بِهِ» معطوف على (كَبِير) فيلزم أن يكون إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله من الكفر. وأجيب عنه بثلاثة أوجه:

(2/619)


الأول: لأبي حيان أنّ الكلام تمّ عند {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله} وما بعده ابتداء.
الثاني: قال ابن عرفة: الكفر قسمان: صريح حقيقي وهو الكفر بالشرك، وكفر) حكمي غير صريح. فنقول: (دلت الآية) على أن القتال في الشهر الحرام كفر وإن لم يعتقد فاعله الكفر، وكذلك إخراج أهل المسجد الحرام منه كفر وإن لم يعتقده فاعله فجعل الشارع إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر إثما من الكفر الحكمي الذي نشأ عن القتال في الشهر الحرام، وهذا لا شيء فيه ولا سيما إن جعلنا الضمير في «وَكُفْرٌ بِهِ» عائدا على «عن سَبِيلِ الله» .
الجواب الثالث: لبعض الطلبة قال: أهل المسجد الحرام عام يشمل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وغيره ولا شك أن اخراج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من المسجد الحرام كفر وزيادة فهو أشد من الكفر بالله عَزَّ وَجَلَّ فقط.
وحكى ابن عطية عن الزهري ومجاهد، أن {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} منسوخ بقول الله تعالى {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} ورده القرطبي: بأن {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} عام وهذا خاص، والخاص يقضي على العام.؟
وأجاب عن ذلك ابن عرفة: بأن الأصوليين قالوا: إنّ العام إذا تأخر عن الخاص فإنّه ينسخه.

(2/620)


قلت: قال أبو عمرو بن الحاجب ما نصه: «يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب» . أبو حنيفة والقاضي والإمام: إن كان الخاص متأخرا وإلا فالعام ناسخ، فإن جهل تساقطا.
قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ ... } .
قال ابن عرفة: في (لفظها) رحمة وتفضل من الله عَزَّ وَجَلَّ لأن قبلها {حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} فكان المناسب أن يقول: ومن (يُرَدّ) منكم عن دينه؛ لكنّه لو قيل هكذا لدخل في عمومه من أكره على الردة. فقال: ومن «يَرْتَدِدِ» (ليختص) الوعيد بمن ارتدّ مختارا متعمدا.
فإن قلت: هلا قيل: فَيَمُتْ وَهْوَ مرتدّ، ليناسب أوّل الآية آخرها، ويسمونه ردّ (العجز) على الصدر؟

(2/621)


(قال: قلت) : إنّ من عادتهم يجيبون بأنه لو قيل كذلك لتناول مرتكب الكبيرة من المسلمين لأنه يصدق عليه أنّه مرتد عن دينه لقوله تعالى:
{إِنَّ الدين عِندَ الله الإسلام} وفسر الإسلام في الحديث بأن قال: «هو أَن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، (وتصوم رمضان) وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» فالإسلام (حقيقة) مركبة من هذه الخمسة أمور (فمتى) عدم بعضها عدم الاسلام لامتناع وجود الماهية بدون أحد أجزائها فمن فعلها كلّها ثم بدا له في بعضها فلم يفعله يصدق عليه أنه مرتدّ عن دينه، وأنه غير مسلم، فلذلك قال: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} .
قال أبو حيان: قوله «وهو كافر» حال مؤكدة.
ورده ابن عرفة بوجهين:
الأول: منهما ما قلناه: من أنّه احتراز من موت مرتكب الكبيرة، فإنه مات مرتدّا عن دينه الذي هو الإسلام.
الجواب الثاني: أنّها إنما تكون مؤكدة أن لو كانت حالا من «يرْتَدِد» ونحن إنّما جعلناها حالا من «يَمُتْ» والمرتدّ يحتمل أن يراجع الإسلام فيموت مسلما.

(2/622)


قيل لابن عرفة: فيمت معطوف على «يَرتَدِدْ» بالفاء التي للتعقيب، فهو بعقب رِدّته مات؟ فقال: (هما زمانان) ارتدّ في الأول ومات في الثاني، إمّا مسلما أو كافرا، في حال مبينة بلا شكّ.
قوله تعالى: {فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ... } .
عامل (أولئك) لفظ «مَن» (ثم) معناها، فوجه أبو حيان من طريق الإعراب اللفظي.
قال ابن عرفة: قالوا وتوجيهه من جهة المعنى أن الأول راجع الى فعلهم القبيح في الدنيا، فالمناسب فيه (تقليل) الفاعل تنفيرا عنه فلذلك أفرده، والثاني راجع إلى جزاء ذلك والعقوبة عليه في الدار الآخرة فالمناسب فيه لفظ العموم في جميع الفاعلين خشية أن يتوهم خصوص ذلك الوعيد بالبعض دون البعض.
قال ابن عرفة: وإحباط أعمالهم في الدنيا بترك الصلاة (عليهم) وعدم دفنهم في مقابر المسلمين ومنع أقاربهم من إرثهم.
قال الزمخشري: وذلك مما يتوقع هنا بالردة للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام واستدامتها والموت عليها من ثواب الآخرة.

(2/623)


قال ابن عرفة: ومذهبنا أنه يعتق على المرتدّ أمّ ولده ومدبره دون الموصى بعتقه. ومذهب الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أن ميراثه) لبيت المال.
قال القاضي عياض في الإكمال: وقال الامام الشافعي: ميراثه لجماعة المسلمين. ووهنه تاج الدين الفاكهاني وقال: بل مذهبه كمذهب مالك. وكذا حكى عنه الغزالي في البسيط.
ابن عطية وروي عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (انه) استتاب مرتدا شهرا فأبى فقتله. ونقل عنه كرم الله وجهه: أن يستتاب ثلاث مرات فإن تاب في الاولى ترك، وإلا (روجع) في الثانية (ثم) الثالثة فإن تاب وإلا قتل. قال: ومنهم من فرق بين الذكر والأنثى فمنع قتل الانثى.
قال ابن عرفة (ووجهه) أنه عنده كالحربي سواء.

(2/624)


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله ... } .

(2/624)


قال ابن عطية: الهجرة الانتقال من موضع الى موضع بنية الإقامة، ومن قال: الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد وهم بسبب أن ذلك كان الأغلب عندهم فيلزم أن لايكون (أَهلُ مكّة مهاجرين) عنده بالإطلاق.
قال ابن عرفة: الهجرة الانتقال من الوطن إلى محل نصرة النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقرب منه الهجرة في موضع كثير المنكر إلى موضع (أخف) منه.
فان قلت: لم قال «يَرْجُونَ رَحْمَةَ / الله» . وكل مؤمن ولو كان من أهل الكبائر يرجو رحمة الله.
قلت: فالجواب: أن هذا رجاء شهد الله تعالى لهم به، فدل ذلك على صحته. ونظيره: من يزرع فدانا في سنة خصيبة ويوفي بخدمته فيراه الفلاحون فيقولون: هذا زرع يرجو صاحبه بلوغ الأمل، وآخر يزرع فدانا يراه الفلاحون فيذمونه وربه يستحسنه ويرجوا أن يبلغ فيه الأمر ويعتقد ذلك فليس الرجاءان سواء.
فإن قلت: هلا قيل: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا والَّذِينَ جَاهَدُوا أو بحذف الموصول (فيهما) واكتُفي بذكره في الأول؟
(فالجواب) أنه قصد التنبيه على أن مجرد الإيمان كاف في حصول المطلوب من ترجي رحمة الله تعالى، ولما كانت الهجرة إنّما هي للجهاد مع النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونصرته كانا كالشيء الواحد فلذلك لم يكرر ذكر الموصول مع الجهاد.

(2/625)


قلت لابن عرفة في الختمة الأخرى: إن الآية حجة على المعتزلة في قولهم إن الطائع يجب على الله أن يثيبه لأن الرجاء إنما يتعلق بالمظنون لا بالمحقق، فلو كان الثواب محققا لما قال «يرجون رحمة الله» ؟
فقال: لهم أن يجيبوا بأن من هاجر وجاهد لا يعلم أيموت مسلما أو لا؟ فهو لا يتحقق خاتمته (فصح) إسناد الترجي إليه وبطل الدليل.

(2/626)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)

قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر ... } .
قال ابن عرفة: قال ابن عطية، والشيخ الزمخشري: لما نزلت (هاته الآية) شربها قوم وتركها آخرون. قام بعض الشاربين فقرأ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ أسقط (لا) فنزلت: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} قال ابن عرفة: هذا نصّ على أنّ لفظ التأثيم في قوله عَزَّ وَجَلَّ ّ: «قُل فِيهمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ» غير ملزوم للتحريم لأنّ الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم لم ينتهوا عنها بهذه الآية فيستفاد منه الجواب عن السؤال المورود على قول الفقهاء: إنّ اتّخاذ السترة للمصلي سنة، مع قولهم: إن تركها وصلى حيث لا يأمن المرور فمر عليه أحد أثِمَ. (قال: وكنّا أجبنا عنه بأنه إنما أثم بالتعرّض للمرور والمرور معا) لأنه لو لم يمر عليه أحد لما أثم.

(2/626)


قال ابن عرفة: (وحكي) ابن عطية في الإثم وجوها:
الأول: أن يراد في استعمالها بعد النهي إثم كبير.
(ابن عرفة) ما قلناه الا على هذا.
الثاني: ان يراد خلال السّوء الّتي فيها وهي السباب والافتراء وذهاب العقل. وعن سعيد بن جبير: لما نزلت كرهها قوم (للاثم وشربها قوم) للمنافع.
قال ابن عرفة: ويؤخذ (من الآية أنها إذا تعارضت مصلحة ومفسدة واستويا لا ينبغي الفعل لأن الصحابة لما نزلت) الآية لم ينتهوا كلهم عن شرب الخمر.
فقال: (نعم) ، بل هو من باب أحرى.
قال: وهذا هو الذي ذكر فيه الأصوليون عن علي بن أبي طالب أنه قال: من شرب الخمر هذى وإذا هذى افترى فأرى عليه حد المُفتري.
قلت: ذكره العلامة بن التلمساني في المسألة الثانية من الباب التاسع. قال: وساعده عمر (وغيره) .
قال ابن عرفة: وهذا هو اعتبار جنس العلة في عين الحكم لأن الهذيان مظنة الافتراء باعتبار جنس المظنة في عين حد الخمر فجعله ثمانين بعد ما كان أربعين قياسا على حد القذف.

(2/627)


قلت: وذكر ابن التلمساني هذا في المسألة (الثانية) من الباب التاسع ومثله باعتبار جنس المشقة في اسقاط قضاء الرّكعتين عن المسافر قياسا على اسقاط القضاء على الحائض.
قال ابن عرفة: وجعله الأصوليون من القياس في الأسباب وقياس الكفارات من القياس في المقادير الذي لهم فيه قولان.
قال: وهذا اجتهاد من الصحابة لفهمهم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (أنّ حده لشاربه) أربعين اجتهاد لا نصّ، وكذا ما ورد أنه ضربه (بالجريد) فخافوا اختلاف المجتهدين وأجمعوا على هذا الحد فكان قطعا للنزاع.
ابن عطية: عن بعضهم حرمت الخمرة بهذه الآية لقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق} واقتضت هذه الآية أنّ الخمرة فيها الإثم فيستنتج التحريم، ثم أبطله هو بأنّ التّحريم حينئذ صار بمجموع الآيتين لا أنّه بهذه (وحدها) لان هذه إنّما فيها الإثم فقط لا التحريم، وكذا قال القرطبي.
قال ابن عرفة: والميسر من اليسر واليسار، اليسار بالنسبة إلى آخذه لأنه يحدث له يسرا، واليسار بالنسبة إلى معطيه لأنه مذهب يساره.

(2/628)


ابن عطية: عن ابن عباس ومجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وغيرهما: كل قمار ميسر من نرد وشطرنج حتى لعب الأطفال بالجوز.
قال ابن عرفة: إنما ذلك إذا كان بالمخاطرة بشيء يعطيه المغلوب، فأما بغير خطار فجائز. وقد أجاز الإمام مالك في العتبية للرجل أن يشتري الكعاب لولده يلعب بها. وكان ابن عبد السلام يقول: في السّبك أنّه مركب من النّرد والشطرنج فلا يجوز (لأنه من المقامرة) .
قلت: وقد ذكر اللّخمي في كتاب الأشربة أنّ الخمر إنمّا حرم بالكتاب.
وذكر ابن عطية في سورة المائدة أنه إنّما حرم بالسنة.
ونقل لي: أن القاضي ابن عبد السلام/ أنكره وأنهم نظروه في جامع مقدمات ابن رشد فوجدوه موافقا لابن عطية ولم أجده أنا فلعله في البيان.
وخرج الترمذي أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: اللهم بيّن لنا في الخمر؟ فنزلت آية البقرة. فقال: اللهم بين لنا في الخمر؟ فنزلت آية النساء. {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى}

(2/629)


فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيان (شفاءٍ) فنزلت آية العقود إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ. فقال عمر: انتهينا انتهينا. خرجه الترمذي عن أبي ميسرة عن عامر بن شرحبيل عن عمر (ب) .

(2/630)


فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ... } .
ابن عرفة: تضمنت الآية أنّ للموصى في خلطه بمال اليتيم ثلاث حالات: النظر في المصلحة، والنظر في المفسدة، والنظر المطلق.
والأول مستفاد من قوله: «قٌلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ» .
والثاني من قوله: «والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح» .
والثالث من لفظ «إِخْوَانُكُمْ» فإنه يقتضي التساوي. والظاهر أن «خير» مبتدا «واصلاح» خبر لتكون (الخبرية) محصورة فيه. ولو جعلنا «اصلاح» مبتدأ «وخير» خبرا لاحتمل أمرين: أحدهما: أن يراد أن الفساد خير لأن (المختلقات) يمكن اجتماعها في شيء واحد. والثاني: أن الكفارات خير.
قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح ... } .
في الآية سؤال وهو أن القاعدة في التمييز أن يميز القليل من الكثير وتقرر في الوجود وفي الشرع أن الفساد أكثر من الصلاح.

(2/630)


قال الله عَزَّ وَجَلَّ في سورة غافر: {إِنَّ الساعة لأَتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} قال ابن عرفة: والجواب أنه باعتبار الطلب لا باعتبار الوجود الخارجي فنبه بالآية على أنّ المطلوب تكثير الصّلاح وتقليل الفساد حتى يكون في الوجود أكثر من الفساد.
قيل لابن عرفة: أو إشارة إلى عموم علم الله تعالى ما قلتموه في السؤال إنما يكون في المخلوقين لقصورهم وعجز إدراكهم، فيكون تمييز القليل من الكثير أهون عليهم من العكس.
قلت: أو يجاب بأن الآية خرجت مخرج التخويف فالمناسب فيها تعلق العلم والقدرة بالمفسد ليميز من المصلح. انتهى.
قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
قال ابن عرفة: وهي حجة لأهل السنة في قوله: إن تكليف ما لا يطاق جائز غير واقع.
قيل له: قد تقدم لكم أن الشرط يتركب من المحال؟
فقال: إن الآية خرجت مخرج التمدح بكمال قدرة الله تعالى والامتنان على خلقه بتيسير التكليف، والتَّمدح إنما يكون بالجائز.
وهذا نظير جواب الجزري المتقدم في {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ.}

(2/631)


وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ ... } .
النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وقيل حقيقة فيهما.
قال القاضي عياض في تنبيهاته: «النكاح لغة الجماع والضمّ، يقال: نكحت البُرّ في الأرض ونكحت الحصاة خفاف الإبل، ثم استعمل في الوطء وهو في الشرع يطلق على لعقد لأنه بمعنى الجمع ومآله إلى الوطء.
قال الزمخشري في أساس البلاغة: ومن المجاز قولهم: نكحت الحصى خفاف الإبل: فظاهره أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء، إلا أن يراد المجاز في الإسناد. والنهي هنا للتحريم بدليل

(2/632)


ما عطف عليه وهو التحريم بلا خلاف، وإن كان ابن التلمساني أجاز عطف التحريم على المكروه وعكسه لكن الأغلب التساوي.
قيل لابن عرفة: ما أفاد قول الله تعالى» حتى يُؤْمِنَّ «مع أنّ النكاح (يستقل) بدونه؟
(فأجاب) هو أصرح في دوام الانتهاء بأن الأول مفهوم صفة وهو مفهوم غاية، والقائلون بإعمال مفهوم الغاية أكثر من القائلين بإعمال مفهوم الصفة.
قلت: أو يجاب بأنّه لو لم يذكر لأوهم إباحة نكاحهن إن رجعن عن الإشراك إلى دين اليهود والنّصارى فيكون في الآية حجة لما حكى ابن عطية عن ابن عباس والحسن ومالك فيما ذكره عنه ابن حبيب من أنه عام فيهم وفي الكتابيات، ثم نسخت بقوله في المائدة: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} قوله تعالى: {خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ ... } .

(2/633)


خيْرٌ (أفعلَ من) الجواز اشتراك المتباينات في وصف ما. فالخيرية في المشركة في الدنيا فقط أما بكثرة المال أو الجمال وميل النفس إليها.
وفي المؤمنة باعتبار الدنيا والأخرة واليهود والنصارى ليسوا من المشركين لقول الله عَزَّ وَجَلَّ: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ} قال ابن عرفة: وأغرب ابن الخطيب: فقال: احتج من قال: بأنّهم مشركون بقول الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} وأجمعوا على أن اليهود والنّصارى لا يغفر لهم فهم مشركون (وإلاّ لزم) منه تطرق احتمال المغفرة لهم.
قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ... } .
من إثبات ما يتوهم نفيه، أو نفي ما يتوهم ثبوته مثل: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} قلت: وتقدم لابن عرفة في الختمة الآخرى أن هذه الآية يرد بها على ابن بشير فإنه نقل في أول كتاب الجنائز عن ابن عبد الحكم: ان الصلاة على الجنائز فرض كفاية محتجا بقول / الله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ}

(2/634)


والنهي عن الصلاة على المنافقين للتحريم فضده وهو الأمر بالصلاة على المؤمنين للوجوب.
وتعقبه اللّخمى بأنّه لا يكون (هذا) للوجوب إلاّ إذا كان له (ضد) واحد، وهذا له (أضداد) ، وهو إما وجوب الصلاة على المؤمنين أو كراهتها، أو إباحتها (أو استحبابها) .
وأجاب ابن بشير: بأن النّهي إذا كان للتحريم فضده الأمر للوجوب بلا شدة، وإن كان للكراهة فضده الأمر للندب.
وقال ابن عرفة: وهذا باطل بالكتاب والسنة والنظر، أما الكتاب فقول الله تعالى: «وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات» فإنّ النهي عن نكاح المشركات للتحريم وضده وهو الأمر بنكاح المسلمات للنّدب على الجملة. (وإنما) يجب في بعض الأحيان على بعض الأشخاص، وأما السنة فخرج مسلم في كتاب الحج في رواية (قتادة) عن قزعة عن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا تسافر امرأة فوق ثلاث ليال إلا مع ذي محرم» .

(2/635)


فهذا نهي عن السفر مع غير ذي المحرم، وهو للتحريم (وضده) وهو الأمر بالسفر مع ذي محرم مباح لا واجب.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب التقريب والارشاد ما نصه: وأما النهي عن الشيء فلا بد أن يكون أمرا بضده إن كان له ضد واحد أو بعض أضداده إن كان له أضداد، ويكون أمرا بالضد على سبيل ماهو نهي عنه إما وجوبا أو ندبا.
ونص القرافي في شرح التنقيحات على أن ضد الكراهة الندب.
قلت: وذكرت ذلك لشيخنا المفتي الفقيه الصالح الحاج العلامة أبي العباس أحمد بن ادريس بن بلال البجائي وللفقيه أبي الحسن علي بن يحيى بن عجمي البجائي فأجابا عنه (بوجهين) :
الأول: قال ابن إدريس: النهي للتحريم ضده الأمر للوجوب ما لم يعارضه معارض كقولهم في الأمر بصغة افعل: إنّه للوجوب ما لم تقترن به قرينة صارفة عنه للندب وهنا قد جاء الأمر بالنكاح صريحا قال الله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النسآء} وفي الحديث: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج» فإذا حمل الأمر الصريح على الندب لقرينة فأحرى أن يحمل على ذلك الأمر المفهوم من النهي فلا يتم للشيخ ابن عرفة بهذه الآية.

(2/636)


قلت: وذكر بعضهم لابن عرفة معبرا عنه بان هذا خرج بالدليل الدال على عموم وجوب النكاح.
فقال ابن عرفة: أين الدليل مع قول داود بوجوب نكاح الحرة مطلقا.
قال ابن عرفة: وإنّما يعترض على اللّخمي بما قال المازري فانظره؟
الجواب الثاني: قال الشيخ ابن (عجمي) : إنما مفهوم الآية أن من أراد النكاح هنا يجب عليه إن ينكح المؤمنات كما أنه يحرم على من يريد النكاح هنا أن ينكح المشركات وكذا الكلام في الحديث سواء، والمفهوم هنا مفهوم الصفة وهذا لا نزاع فيه.
قلت: وكلام الشيخ ابن إدريس مثل ما رد به الإمام ابن رشد في مقدماته على ابن عبد الحكم. وانظر ما تقدم لنا عن ابن الحاجب في قول الله تعالى:
{واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قوله تعالى: {والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ ... } .

(2/637)


إن قلت: هلا قال: والمؤمنون يدعون إِلَى الجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ. كما (أسند) للمشركين الدّعاء إلى النار.
قلت: أجاب ابن عرفة بأن فيه كمال تشريف لدين الإسلام كما قال الله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} قال ابن عرفة: فإن قلت المغفرة سبب في دخول الجنة فهلا: قدمت عليها؟
فالجواب من وجوه:
الأول: قال ابن عرفة: تقدم لنا الجواب عنه فإنّها إنّما أخّرت لتتناول الآية من أطاع الله ولم يعصه فإنه يدخل الجنة (دخولا أوليا) ومن أطاع الله وعصى فإنه يدخل النّار ويغفر له فيدخل الجنة، ومن أطاع الله وعصى وغفر له فإنه أيضا يدخل الجنة دخولا أوليا.
الثاني: أنه قصد ذكر المغفرة بالتضمن وبالمطابقة.
الثالث: أن المراد أولائك يدعون إلى النّار والمعصية، وهذا مقابل له فحذف من الأول لدلالة هذا المذكور في الثاني عليه.
ورده ابن عرفة: بأنّ الآية إنما جاءت تهييجا على الطاعة، فالمناسب أن يذكر فيها (المخوفات) والدعاء للمعصية ليس بمخوف.
قلت: تقول التقدير: أولئك يدعون إلى النار والعذاب.

(2/638)


قال ابن عطية: والإذن (العلم) و (التمكين) فإن انضاف إليه أمر فهو أقوى.
قال ابن عرفة: (على هذا) لا يتقرر الدعاء للمغفرة.
قيل له: الإذن الكلام والكلام يصدق على الخبر وعلى الأمر؟
فقال: الأمر مثل {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قيل له: والأمر عندنا ليس هو (عين) الإرادة لأن الإنسان قد يأمر بما لا يريد.
قوله تعالى: {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ ... } .
قال ابن عرفة: يستفاد منه حجة وقوع المجمل في القرآن لأن الآية دلّت على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.

(2/639)


وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)

قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض ... } .

(2/639)


قال القاضي عياض في تنبيهاته/: قيل أصله: من حاضت (السمرة) إذا خرج منها (ماء) أحمر، ولعل الشجرة إنّما شبهت بالمرأة.
قال ابن عرفة: ظاهرة أنه حقيقة فيهما.
وقال الزمخشري: في (أساس) البلاغة: من المجاز قولهم حاضت (السُّمرة) اذا خرج منها ماء أحمر.

(2/640)


قال ابن عرفة: وينبغي أن ينظر الأغلب، والظاهر أنه مجاز كما قال لأن مسيس الحاجة إلى الإخبار عن حيض المرأة أشد وأكثر من الإخبار عن حيض السمرة فينبغي أن يحكم بأنّه الأسبق وحيض (الشجرة) منقول عنه.
قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً ... } .
(وقال تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً} والجامع أنّ الأذى هو الأمر المؤلم الذي) يقصد إماطته، وأتى هنا بالحكم مقرونا (بعلته) ونصوا على أنّ (الأصل تقديم العلة على المعلول) كهذه الآية، وكقولك: سهى فسجد، وزنا فرجم. وقد يجيء الحكم

(2/641)


مذكورا قبلها (وإنّما) ذلك لأن العلة أصل في الأصل واعتبارها فرع في الأصل.
واختلفوا في الحائض إذا طهرت من الدم ولم تتطهر بالماء فالمشهور أن وطأها حرام.

(2/642)


مذكورا قبلها (وإنّما) ذلك لأن العلة أصل في الأصل واعتبارها فرع في الأصل.
واختلفوا في الحائض إذا طهرت من الدم ولم تتطهر بالماء فالمشهور أن وطأها حرام.

(2/643)


وحكى القاضي عياض في الإكمال عن ابن بكير جواز وطئها ابتداء من غير كراهة.
قلت: وكذا حكى ابن العربي في الاحكام وحكى غيرهما عن ابن بكير كراهة وطئها. وقرأ أبو بكر وحمزة «حتى يَطْهُرْنَ»

(2/644)


بالتشديد واختلفوا في فهم الآية على القول المشهور، فقال بعض البيانيين: فيها حرف التقابل أي حتَّى يَطهرن وَيَتَطَهَّرْنَ فَإِذَا طَهُرنَ وَتَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنّ. مثل قول الله عَزَّ وَجَلَّ ّ {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ} وقول الشاعر:
وإني لَتَعْرُوني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بَلَّله القطر
أي: وإني لتعروني لذكراك سكون ثم يزول عنِّي فأفيق وأنتفض لها كما يعتري العصفور عندما بَلَّله القطر، فإنه يسكن ثم ينتفض وكذا قوله الآخر:
فإن كان شجوا فاعذروني على الهوى ... وإن كان داء غيره فلك العذر
أي فاعذرني فلك العذر وإن كان داء غيره فاعذرني أيضا. انظر ابن الصائغ في باب المعرب والمبني.
وقال العلامة ابن رشد: في البيان والتحصيل «يَطهرن» بمعنى: يَتَطَهَّرْنَ بدليل قراءة التشديد ولو كان الاول في الدّم والثاني للماء لجاز بالاول ما لم يجز بالثاني، إذ لا يقال: لا تقم حتى يأتي زيد، فإذا أتى عمرو فافعله.

(2/645)


وقال ابن عبد البر في الاستذكار: الحجة للمشهور أنهم جعلوها كالحيض في العدة فأوجبوا لزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل بالماء فإن قيل: الله تعالى قال: «حتى يَطْهُرْنَ» . وَحَتَّى غاية لما بعدها بخلاف ما قبلها؟
فالجواب: بأنه قد يقع التّحريم بشيء آخر ولا يزول بزواله لعله أخرى (تخلفه) كقوله تعالى في المبتوته: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}
وليس بنكاح الزوج تحل له حتى يطلقها الزوج وتعتد منه. انتهى.
قلت: ونقل صاحبنا الفقيه أبو عبد الله أحمد بن علي بن ميمون النّجار عن بعضهم أنه تعقب على ابن رشد بأن التطهير بالماء يستلزم الطّهر من الدم فصار كقوله: لا تفعل كذا حتى يأتي زيد فإذا دخل عندك زيد فافعله. لأن دخوله مستلزم لإتيانه. وهذا الكلام جائز بلا شك وذكرته لشيخنا ابن عرفة فاستحسنه وأجاب عن كلام ابن عبد البر بأنّ (المبتوتة) خرجت بالإجماع لإجماعهم على أنها لا تحل للاول حتى يطلقها الثاني ومسألتنا فيها (الخلاف) .
قلت: وبين الأصوليين خلاف في لزوم عكس العلة الشرعية، وأشار إليه ابن بشير في النكاح الأول، وكلام ابن عبد البر مبني على عدم انعكاسها.
قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين ... } .

(2/646)


التَّشديد لتكثير التَّوبة ودوامها، فقد تكون توبة واحدة لكنّها دائمة فمن يذكر المعصية ويندم عليها تائب، ومن يذكرها ويتشوّق لعودته إليها غير تائب لأنه مصر عليها، وتارة يقف ولا يندم ولا يتشوّق إلى العودة، واختلفوا هل تجب التوبة في كل زمن هو فيه ذاكر للمعصية، أم لا تجب على قولين؟

(2/647)


نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

قوله تعالى: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ ... } .
قال ابن عرفة: هذا أمر، فإن قلنا: إنّ سبب نزولها ما ذكره المفسّرون عن أم سلمة من أن قريشا كانوا يأتون على النساء على هيئات مختلفة، فلما تزوجوا الأنصار أرادوا ذلك فامتنعن منه، فنزلت الآية فان. قلنا: سبب نزولها هذا فيكون أمرا واراد عقيب الحظر فهو للاباحة وإن قلنا كما قال الزمخشري: فيكون أمرا ابتداء للوجوب، أو الندب.
قوله تعالى: {واتقوا الله واعلموا أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ ... } .
تأكيد في وجوب امتثال هذا الأمر وتحريم الوطء في (الدبر) ولذا قال: إنه شبه اللّواط. وفي نوازل الشعبي ضرب سحنون

(2/647)


فاعله (خمسين) سوطا، وفي كتاب الجامع من العتبية إجازته عن مالك وهي مكتوبة وهي مكتوبة فيه (بالفور) .
قال ابن بزيزة في شرح الجمل: الجمهور على المنع وزعم ابن رشد أنّ (المشهور) جوازها وأسند عنه عيسى بن دينار فقال: هذا أحلى من شرب الماء البارد. ونقل أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد أن مالكا سئل عنه فقال: الآن كما اغتسلت منه.
قوله تعالى: {وَبَشِّرِ المؤمنين} .
قال ابن عرفة: قد يتمسك بها المعتزلة في قولهم: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار لأن المناسب أن كان يقال وبشر المحسنين (أو بشّر المتّقين) الذين يجتنبون هذا الفعل، فما قال «وَبَشِّرَ / المُؤْمِنِينَ» دل على أن فاعل هذا الفعل غير مؤمن؟
قال: والجواب أن المراد (المؤمنين) الايمان الكامل.

(2/648)


وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)

قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ... } .
قيل: أي مانعا من أيمانكم. وأطلق اليمين على المحلوف عليه مجازا، أي لا تجعلوه مانعا من فعل ما حلفتم عليه، وقيل أي لا تكثروا الحلف به وإن كان ذلك تعظيما له خشية أن يفضي بكم ذلك إلى التهاون وعدم التعظيم فأحرى فيما عداها.
قال ابن عرفة: وعلى الوجه الأول يكون في الآية عندي دليل على أنّ الاسم غير المسمّى لأن الجعل لا يتعلق بالذات الكريمة، وإنّما يتعلق بالألفاظ الدّالة عليها بخلاف قولك: جعلت زيدا حائلا بيني وبين كذا. وكذلك أيضا على الثاني لأن الحلف إنّما هو بالألفاظ لا بالذات.
قال ابن عرفة: وقول الله تعالى: {أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ ... } .
قيل إرادة البرّ، وقيل أي إرادة أن تكونوا أبرارا فعلى الأول تكون ترقيا، لأن التقوى أخص من البر، والإصلاح بين الناس أخص.

(2/649)


لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ... } .
حكى ابن عطية في اللغو (خمسة) أقوال: منها قول ابن عباس ومالك: اللغو حلف الإنسان على تيقنه فتبين له خلافه.
ابن عطية: وهذا اليقين هنا غلبة الظن أطلقوا عليه لفظة اليقين.
قال ابن عرفة: وهذا مخالف لكلام الفقهاء كلّهم وأين هو من قول ابن الحاجب.
قلت: والظاهر أن الظن كذلك بعد أن قال: اللغو هو الحلف على ما يعتقده فتبين خلافه.

(2/649)


وقيل: ما سبق إليه اللسان بغير عقد.
وفي المدونة: والغموس الحلف على تعمد الكذب أو على غير (يقين) فيدخل فيه الظّن.
قيل لابن عرفة: إن الشيخ القاضي أبا العباس أحمد بن حيدرة كان يقول الظاهر أن اللغو هو قول: الرّجل: لا والله وبلى والله، لقوله تعالى في سورة العقود {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} ففسر الكسب هنا بما عقد عليه اليمين وحلف الانسان على ما يعتقده ثم يتبين له خلافه هو مما كسبت القلوب لأنه انعقد عليه (اليمين) بخلاف قوله: لا والله وبلى والله. فانه شيء جرى على اللسان من غير مواطأة القلب عليه فقال ابن عرفة: يمكن تأويل الآية على القول الآخر فإن الماضي لا يتعلق به كسب لعجز الفكر عن تلافيه والمستقبل منتظر الوقوع فيتعلق به الكسب أعني بانتظاره والتماسه وإدراكه هل هو كذلك أم لا؟ بخلاف الماضي.
قوله تعالى: {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} .
يحتمل أن يرجع «غفور» للغو اليمين و «حليم» لعدم المعاجلة بالعقوبة في اليمين الغموس.

(2/650)


لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)

قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ... } .

(2/650)


قال ابن العربي: في قول الله عَزَّ وَجَلَّ {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ} وفي قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} أجمعنا على أن الأمة من نسائنا، فليكن العَبْدُ من رجالنا فتجوز شهادته، وكذلك يقال هنا: إن لفظ النساء يتناول الحرائر والإماء.
قال ابن عرفة: أو يجاب هنا بالقرينة وهو أن منصب العدالة شريف عظيم فلا تقبل فيه العبيد، وكذلك القرينة هنا (لأجل) أنّ الإيلاء إنّما هو لرفع الضرر على الزوجة والمشقة، فإذا روعي ذلك في الزوجة الحرة لزم أن يراعى في الأمة الزوجة من باب أحرى ما اتصف به من الزلة الموجبة لانتهاك (الحرمة) فضررها أشد.
قوله تعالى: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ... } .
قالوا: هذه الإضافة على معنى (في) .
قال ابن عرفة: فهذا دليل على صحة القول بأنه بنفس انقضاء الأربعة أشهر تخرج مطلقة لأن التربّص هو في الأربعة أشهر فإذا انقضت انقضى التربص إلاّ أن يقال: إن التربّص (يقتضي) عند فراغه إما الطلاق أو (أيقافه) ليطلق، وكان أوّلا اتفاقا بغير طلاق. أو يقال: إنّ هذا التقسيم في الآية يدل على أنّ الزوج مخير بين أن يبقي أو يطلق، فدل على أنّه لا يلزمه الطلاق بمضي الأجل.

(2/651)


قوله تعالى: {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
قيل لابن عرفة: هذا دليل على أن الإيلاء غير جائز؟
فقال: المذهب أنّه جائز على تفصيل، والصّحيح جوازه مطلقا، لأنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آلى من نسائه. وقد ذكر الشيخ ابن العربي قضيته لما رد على ابن الخطيب في قوله: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آلى وطلّق وظاهرَ. فقال: له قولك آلى وطلق صحيح وقولك ظَاهَرَ (غير صحيح) كيف والله تعالى يقول {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً} قال ابن عرفة: والجواب بأن تكون المغفرة والرحمة راجعين بسبب الإيلاء لأن الإيلاء لا يكون إلاّ عن غضب وشرور وذلك غير جائز فحسن تعقيبه بالمغفرة.

(2/652)


وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
قال ابن عرفة: جواب الشرط مقدر، أي ارتفع حكم الإيلاء (عنهم) .
قال الزمخشري: فإن قلت: العزم من أعمال القلب فيكف عقبه بالسّمع وهو من لوازم الأقوال لا الأفعال.

(2/652)


قال ابن عرفة: وهذا (السؤال) لا يوافق أصله فإنه يرد صفة السمع لصفة العلم فلا فرق / عنده بين السميع والعليم وأيضا فهو ينفي الكلام النفسي.
وأجاب الزمخشري: بأنّ العازم على الطلاق لا يخلو من مقاولة ودمدمة.
وأجاب ابن عرفة: بأنا (نثبت) الكلام النفسي، ويصح عندنا سماعه كما سمع موسى كلام الله القديم الأزلي، وليس بصوت ولا حرف، أو يقال: إنّ العزم على الطلاق له اعتباران:
اعتبار في نفس الأمر عند الله تعالى، واعتبار في الظاهر لنا بالحكم الشرعي من حيث يرتفع له حكم الإيلاء عن صاحبه، ويخرج عن عهدة الحكم عليه، فهو بهذا الاعتبار لا يعلم إلا بأمارة وقول يدل عليه، وذلك القول مسموع فعلق به السمع بهذا الاعتبار والعلم باعتبار الأول.

(2/653)


وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

قوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ ... } .
هذا عام مخصوص (بالمطلقة قبل البناء والحامل والصغيرة والآيسة من الحيض.
ابن عرفة: وهو (مخصوص) بدليل متصل لأنّ الحامل معلوم عمارة رحمها فلا بد من انتظارها وقت زوالها، ومن عداها معلوم براءة أرحامهن فلا فائدة في عدّتهن ثلاثة قروء.

(2/653)


قيل لابن عرفة: هذا إن قلنا: لا تحيض، وأما على قول ابن القاسم بأنها تحيض فيكون مخصوصا بدليل منفصل عن الآية.
قوله تعالى: {ثَلاَثَةَ قرواء ... } .
مشترك بين الطّهر والحيض، والشافعي يقول: الأقراء هنا الحيض. والإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه نقل الكل عنه أنها للأطهار، ونقل اللَّخمي عنه قولين، والقرء في اللغة الجمع.
قيل لابن عرفة: كنتَ قلتَ لنا: إن هذا ليس من ذلك لأن الجمع من قريت الماء في الحوض غير مهموز، والقرء مهموز. وقلت لنا: الصحيح أنه للقدر المشترك وهو براءة الرحم؟
قال ابن عرفة والظّاهر في لفظ الآية أن الأقراء الحيض، لأن التربص هو الانتظار، والانتظار يقتضي (أقراء مستقبلة) ، وقد أمر الشارع بالطلاق في طهر لم تمس فيه، فاذا طلقها طاهرا، فان قلنا: إن الأقراء: الحيض، صح الانتظار، وان قلنا: الاطهار، لم يستقم إسناد الانتظار إليها لأن (القرء) الأول حاصل في الحال. فلا (يقال) له: انتظره. وأجيب: بأنّ الانتظار أسند ((لمجموع الثلاثة أطهار. (فقال: على أنّها الحيض يكون) الانتظار أسند لمجموعها)) .

(2/654)


ولكل واحد منها وعلى أنّها الأطهار فالانتظار مسند لمجموعها باعتبار الكل لا باعتبار الكلية.
قوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ ... } .
قال ابن عرفة: هذا إخبار عن الحكم، فلا يصح أن يكون الشرط الذي بعده قيدا فيه لأن متعلق الخبر حاصل في نفس الأمر سواء حصل الشرط أو لا. لأن حكم الله لا يتبدل فلا يحل لهن ذلك سواء آمنّ أو كفرن، ولا بدّ أن يقال: إنه شرط في لازم ذلك الخبر. والتقدير لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن فلا يكتُمنه إن كن يؤمن بالله، وهذا على سبيل التهييج لئلا يلزم عليه التكفير بالذنب وهو مذهب المعتزلة.
قيل لابن عرفة: ما قلتموه إنما (يقوم) على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟
وقال ابن عرفة: واستعمال الأشياء (المعقمة) المانعة من الحمل قبل (الحمل) كرهها في العتبية، وأما بعد الحمل في الأربعين فالجمهور على المنع من إسقاط الماء من الرحم ذكره ابن العربي وغيره.
وحكى الامام اللخمي فيه خلافا شاذا، واما بعد التطوير والتكوين فأجمعوا على تحريم ذلك.
قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ ... } .

(2/655)


مخصوص بطلاق الخلع. وفي المدونة قولان إن قال لها: أتت طالق طلاق الخلع.
قوله تعالى: {إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً.
. .} .
مفهومه: إن لم يريدوا إصلاحا فلا حق لهم سواء أرادوا الإفساد أو لم يريدوا شيئا.
قيل لابن عرفة: فعلى هذا لايجوز أن يتزوجها ليطلقها إذ لا (إصلاح) فيه؟ فقال: قد يكون فيه الإصلاح، تأمل.
قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ... } .
أي في التفضيل، وفي تفسير الدّرجة خلاف (فالجمهور) يحملونها على حسن العشرة كما قال ابن العباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. وهذا الظاهر، فيقولون وله عليها من القيام بحقه المبادرة إلى غرضه ورفقه، مثل الذي عليه وزيادة درجة التقديم. ويريدون المعنوي وهو التفضيل ومن بدع التفاسير ما نقلوه عن ابن مسعود أن الدرجة (اللحية) .
قال ابن عرفة: والتفضيل هو الأمر المُباح مثل إذا تعارض سكناها في دار أرادتها مع سكناها في دار أخرى أرادها زوجها وهما مستويان، فينبغي للمرأة إيثار اختيار الزوج.

(2/656)


الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)

قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ ... } .
فسّروه بوجهين: إما الطّلاق الرجعي مرتان لأن الطلقة (الثالثة) لا رجعة فيها، وإما الطّلاق السني مرتان.
(فإن) قلت: الطلاق السّني ثلاث تطليقات؟ (قلنا) لأجل هذا قال الزمخشري: إنّ التثنية ليست على حقيقتها بل للتكرار أي مرة بعد مرة مثل {ثُمَّ ارجع البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي كرة بعد كرة فيكون تنبيها على أنّ الطّلاق الموقع في كلمة واحدة غيرُ سنّي. فإن قلت: هلاّ قال: الطلاق ثنتان؟ فالجواب من وجوه:
الأول: قال ابن عرفة: قدمنا أن (الثنتين) يصدقان على الطلاق الممكن والمحال فيقال: الطلاق طلاقان. ويكون محالا بخلاف المرتين لأن المرة تفيد بدلالتها / على الزمان أن الطّلاق وجودي واقع.
الثاني: أنه إنما قيل «مرتان» تنبيها على أن المراد الطلاق (مرة بعد مرة لأن المرة زمان والزمانان متفرقان بلا شك لاستحالة اجتماعهما) ولو قيل: ثنتان الطلاق مجتمعا ومفرقا لأفاد بذلك النهي عن أيقاع الثالث في كلمة واحدة.

(2/657)


قيل لابن عرفة: إن الشيخ الفقيه القاضي أبا العباس أحمد بن حيدرة والفقيه المفتي أبا القاسم الغبريني رحمهما الله تعالى سئلا عمن شهد عليه أنه قال: لزوجته ما نصّه: أنت طالق مرتين؟ قال لها في مرة واحدة فقالا: يُنَوّى. فاستشكله ابن عرفة لأنه صريح أو ظاهر في الاثنتين وقد أسرته البينة.
أبو حيان: أي عدد الطلاق مرتان أو إيقاعه مرتان.
قال اين عرفة: إن أراد تقدير معنى فصواب، وإن أراد أمرا حاجيا لا بد منه ولا يتم اللفظ إلا به، فليس كذلك.
قال ابن عرفة: والآية دالة على أن طلاق الحر مساو لطلاق العبد.
قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ... } .
قال ابن عرفة: فإن قلت: هلا قيل: فإمساك بإحسان أو تسريح بمعروف، وهذا السؤال مذكور في حسن الائتلاف؟
قال: وعادتهم يجيبون بأن المعروف أخفّ من الإحسان لأن المعروف حسن العشرة والتزام حقوق الزوجية والإحسان ألاّ يظلمها شيئا من حقها، فيقتضي الإعطاء وبذل المال أشق على النفوس من حسن العشرة (فجعل) المعروف مع الإمساك المقتضي لدوام العصمة إذ لا يضر تكرّره، وجعل الإحسان المشق على النفوس (مع) التسريح الذي لا يتكرر بل هو مرة أو مرتان أو ثلاث فقط.

(2/658)


ونقل ابن يونس عن أبي (عمر) : أنّ هذه الآية ما زالت يكتبها الموثقون في الصّدُقات.
قال: وكان الشيخ القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد السلام ينكر على أهل زماننا كتبها في الصدقات إذ لا يذكر في عقد النكاح إلا ما يلائمه ويناسبه. وأما الطلاق ففي ذكره فيه تفاؤل ومناقضة للنكاح ولذا (تجد) بعضهم يقول: من الإمساك بالمعروف أو المعاشرة بالإحسان (فيؤول) اللفظ.
أبو حيان: ( «إِمْسَاكٌ» ) إما خبر، أي فالواجب إمساك، وإما مبتدأ وخبره مقدر إما قبله أي فعليكم امساك أو بعده أي فإمساك عليكم.
قال ابن عرفة: سببه أنّ «بِمَعْرُوفٍ» إن كان صفة الإمساك قدر الخبر متأخرا، وإن كان متعلقا به قدر مقدما لأن المبتدأ نكرة.
قوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ... } .
قال ابن عرفة: إن أريد تأكيد التحريم يقال: لا يحل كذا، وإن أريد مطلق التحريم يقال: لا تفعل كذا، لاحتماله الكراهة، وكذلك المفتي لا يقول: لا يحل كذا، إلاّ فيما قوي دليل تحريمه عنده، وأما دون ذلك فيقول: لا يُفعل أو لا ينبغي (أن تفعل) كذا.
قوله تعالى: {مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ... } .

(2/659)


قال أبو حيان: حذف العائد على (ما) لأنه (المفعول) الأول للفعل وهو ضمير نصب متصل، والثاني كذلك. وتقديره مِمَّاءَاتَيْتُمُوهُنّ. هذا نص أبي حيان، إن «ءاتَيْتُمْ» يعتدّى إلى مفعولين حذف أحدهما وهو العائد على ما تقديره (ءاتيتموهن إيّاه) .
قال الصفاقسي: فيه نظر لأنّهم نصّوا على أنّ الضمير المنصوب لا يجوز (حذفه) ولا يجوز اجتماع ضميري نصب متصلين.
فقال بعض الطلبة: إنّما ذلك إذا اتفقا في الإفراد والتثنية والجمع أما إذا كان أحدهما مفردا والآخر مجموعا فنص سيبويه على جوازه.
وقال بعض الطلبة: بل ضعفه ابن مالك.
قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن (يردوا) على أبي حيان بأنّ المحذوف هنا ضمير نصب متصل. والتقدير: مماءَاتتموه إيّاهن، فحذف الضمير المفرد واتصل الآخر بالفعل بعد أن كان منفصلا فصار «ءَاتَيْتُمُوهُنّ» .
قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله ... } .
هذا إما استثناء من الأسباب، أي منهن شيئا لسبب من الأسباب: خوف عدم إقامة حدود الله. والزمخشري يعبر عنه في غير هذا بأنه استثناء من أعمّ العام.

(2/660)


قال ابن عرفة: وهذا يدل بالمطابقة على جواز الخلغ منهما معا وباللزوم على جوازه من المرأة وحدها وأما الزوج فيستحيل ذلك في حقه. وهذا الخلع للزوجين قد يكون للحاكم. ومثاله: إذا زوج الأب ابنه الصغير ومات وأراد القاضي أن يخالع منه.
قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ ... } .
ذكر أبو حيان أنّه في موضع الحال.
ورده ابن عرفة بأنّ «أَنْ» الموصولة (أعرف المعارف عندهم والحال لايكون إلا نكرة. قلت: الحال هنا) معنوية لا لفظية والتعريف في اللفظ لا في المعنى.
قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ ... } .
قيل لابن عرفة: الفدية في اصطلاح الفقهاء هي المخالعة بالبعض لا بالكل وهو مناسب لقوله «أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» .
فقال: اللّغة لا تفسر بإصطلاح. والمناسب هناك منع الخلع بالبعض فيستلزم منعه بالكلّ من باب أحرى. والمناسب هنا إباحة الخلع بالجميع فيستلزم إباحته بالبعض.
قوله تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون} .
قال ابن عرفة: / إفراد الضمير العائد على (مَنْ) أوّلا (و) جمعه ثانيا مناسب لفظا ومعنى؛ أما اللفظ فالمستحسن عند النحويين معاملة لفظ (من) أولا ثم معناها، وأما المعنى فأفرد ضمير المتعدي تقليلا له ومبالغة في التنفير من صفة التعدي حتى كأنه لا يقع (الأمر)

(2/661)


من أحد. ثم جمع الظالمين لأنه (جزاء) انتقام وعقوبة فالمناسب جمعه (ليعم) كل ظالم حتى يزجر عن ذلك من هذه صفته.

(2/662)


فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ ... }
قيل لابن عرفة: وما أفاد قوله «من بعد» والكلام يستقل بدونه؟
فقال: أفاد التنبيه على مرجوحية الطلقة الثالثة.
قال ابن عرفة: (وهذا الخلع) هل هو فسخ أو طلاق؟ منهم من قال: لا يكون طلاقا إلا إذا كان بلفظ الطلاق فتقول له: خالعتك على كذا. فيقول: أنت طالق على ذلك، ولو قال وأنا أخالعك على ذلك أو قال: سرّحتك على (ذلك) وخليت سبيلك وأبحت لك الأزواج، فهو فسخ. وهي مسألة وقعت في المغرب في رجل كان يقال له البخاري، لأنه كان يحفظ البخاري، كان طلق زوجته طلاق الخلع ثلاثا بغير لفظ الطلاق، ثم ردها قبل زوج فاختلف الفاسيون. فبعضهم قال: يرجم، وآخرون قالوا: يلزمه الأدب فقط، لأنه خالع بغير لفظ الطّلاق، وحدّوه حينئذ وتركوه. وهي مسالة المدونه إما أن يعذر بجهل أولا، وهذا الرجل كان عالما.
قوله تعالى: {حتى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ... } .
قال سعيد بن المسيب:: إنها تحلّ بالعقد.
قال ابن عرفة: وما حمله عندي إلا أنه يقول: اقتضت الآية أنّها تحل بالعقد، وبينت السنة أنّها لا بد من الوطء. وبهذا كان يرد بعضهم على من قال: كل نكاح في القرآن المراد به العقد إلا (في)

(2/662)


هذه الآية، فكان يقول: بل هو هنا حقيقة في العقد، وبينت السنة أنه لابدّ من الوطء.
قوله تعالى: {إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله ... } .
ولَمْ يَقُلْ: إن لم يخافا ألاّ يقيما حدود الله، لأن هذه أبلغ في التكليف.
قال ابن عرفة: وأهل بلدنا يكلفونها إذا أرادت الرجوع لمطلقها بالثلاث إثبات كون المحلل غير متّهم لفساد الزمان. وأهل القيروان يكلفونها (إثبات) ذلك عند تزويجها.
وكان الشيخ ابن هارون لما عزل عن قضاء توزر تكلّم معه القاضي ابن عبد السلام في أمور منها أنّه لم يأمر بذلك، فقال ابن هارون: تكليفها بهذا لم يذكره أحد وفيه مشقة عليها، وإنما الصواب أن يعمل على ما اتفقا عليه هي والذي (حللها) لمطلقها. قال: فأنكر ذلك ابن عبد السلام وقال له: سمعت عنك أنك تأخذ في كل صداق دينارا كبيرا وتسرحه، فسكت عنه.

(2/663)


وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)

قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} .
وقال قبل هذا: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وتقدّم أن المعروف أخف من الإحسان فالجمع بين الآيتين بأنه لما وقع الأمر بتسريحهن مقارنا للاحسان إليهن خاف أن يتوهّم أن الأمر بالإحسان إليهن عند تسريحهن للوجوب فعقبه بهذا تنبيها على أنه إحسان بمعروف فهو للندب لا للوجوب. ولفظ التسريح عندهم من الكنايات الظاهرة في الثلاث.

(2/663)


وقوله «لاَ تُمْسِكُوهُنّ» قال أبو حيان: إن كان «ضرارا» حالا تعلقت اللاّم (من «لِّتَعْتَدُواْ» به أو ب «وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ» ، وإن كان مفعولا من أجله تعلقت اللام) ب «ضرارا» أو كان علة للعلة كقولك: ضربت بني تأديبا لينتفع. ولا يجوز أن يتعلق ب «لاَ تُمْسِكُوهُنَّ» فيكون الفعل قد تغير إلى علة وإلى عاقبة وهما مختلفان.
قال ابن عرفة: ليس امتناعه من جهة الإعراب بل من جهة المعنى لأنه لا يقصد أحد (بإمساك زوجته أنه متعدّ حكم الله كما لا يقصد أحد) بالزنا أنه متعدّ حكم الله، وإنّما يقصد أضدادها فيؤول (أمره) إلى تعدى (حكم الله) والزاني يقصد اتّباع شهوته ويؤول أمره إلى أنه تعدى حدود الله.
قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ... } .
قال ابن عرفة: هذا احتراس لأنّ من يأمره بأمر ويؤكده بالنّهي عن ضده ثم يزيد تأكيدا، فإنما يفعل ذلك لتعلق غرضه به وانتفاعه به وتضرره من (عدمه) فبين أنه تعالى لا يلحقه من فعل ذلك نفع ولا يناله من (تركه) ضرر بوجه.
قوله تعالى: {وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً ... } .
ولم يقل: ولا تستهزئوا بآيات اللهِ، مع أن الاستهزاء بها أعم من اتّخاذها هزؤا ونفي الأعم أخص من نفي الأخص لأن اتّخاذ آيات الله هزؤا أخص من مطلق الاستهزاء.

(2/664)


فالجواب أنّ الاستهزاء بها لو وقع لما وقع إلاّ على المعنى الأخص ولذلك أضاف الآية إلى الله تعالى إضافة تشريف. ونظيره قول الله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أجابوا بوجهين: إما بأن المبالغة في نفس الظلم أي لو كان وقع لكان عظيما لأنّ الحقير من العظيم، وإما باعتبار تعدد متعلقاته. وآيات الله إما أحكامه أو دلائل أحكامه وهو الظاهر لأن الزاني لم يستهزىء بالزنا ولا بتحريمه، (بل) بالدليل الدال على تحريمه.
قوله تعالى: {لِّتَعْتَدُواْ} .
لتعتدوا: متعلق ب «ضرار» وهي لام العاقبة وليس متعلقاً ب «تمسكوا» .

(2/665)


وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء ... } .
الخطاب للأزواح وقيل الأول وأمّا الثاني فقيل للأزواج وقيل للأولياء فإن كان للأزواج فالمعنى: أن ينكحن أزواجهن الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهنّ.
قال ابن عرفة: / ومنهم من قال الخطاب للجميع لأن المفعول إذا لم يكن شخصا بعينه فيمكن أن يكون فاعلا مفعولا.
وقوله: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} ليس المراد به (نساءكم) المطلقات بل المراد لا تعضلوا النّساء بالإطلاق فيقال للرّجال: إذا طلقت امرأتك لا تعضل النّساء، أي لا تمنعها هي من التزويج ولا تمنع وليّتك من التّزويج. قالوا: وبلوغ الأجل هنا حقيقة وليس المراد مقاربته.
قال ابن عرفة: ليس مرادهم أنّه يجب (هنا حمله على حقيقته) وإنّما يريدون أن الاصل في الإطلاق الحقيقة، اقترن بالأول ما أوجب صرفه عن حقيقته إلى مجازه وبقي هذا على الأصل فيصح حمله على المجاز

(2/665)


فإن (صح بأن) خوطب الأزواج فظاهر، وان خوطب الأولياء فالمراد نهي الأولياء عن عضل المرأة عن التزويج في العدة بقرب فراغها خوف الضرار، لو فرض جواز ذلك وهم ممنوعون منه شرعا فأحرى أن يُنهوا عن ذلك بعد العدة حيث هم متمكنون من المنع والإباحة.
قوله تعالى: {إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف ... } .
إن قلت: ما أفاد قوله «بينهم» ؟
قلنا: أفاد ذلك قصر ذلك على تراضي الزوجين خشية أن يظن توقفه على تراضي عموم العشيرة وسائر القرابات.
قوله تعالى: {ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الأخر ... } .
أي يوعظ به الوعظ النافع المحصل للانزجار.
قوله تعالى: {ذلكم أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ... } .
أي يزكيكم، فيجعل لكم صعود الدّرجات في الجنات، ويطهركم من الآثام ويبعدكم عن الدّركات والحلول في النار.
وقوله تعالى: {والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} .
إما باعتبار عاقبة الأمر في المستقبل وإما لكون العلم القديم مباينا للعلم الحديث ولا مماثلة فيهما بوجه.

(2/666)


وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

قوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ... } .
قال ابن عرفة: هذا عام مخصوص بالعادة فالشريفة التي ليس من عادتها الإرضاع لا يطلب ذلك منها. ونص الأصوليون على صحة التخصيص بالعادة.
واعتبره مالك في حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا، فخصصه بالماء دون الطعام لان العادة تحفّظ النّاس على الطعام، فالغالب أنّ الكلب لا يصل إليه بخلاف الماء.

(2/667)


قال ابن عطية: فإن مات الأب ولا مال للابن، فذكر مالك في المدونة أنّ الرضاع لازم للأم بخلاف النفقة. وفي كتاب (ابن) الجلاب: رضاعه في بيت المال.
وقال عبد الوهاب: هو من فقراء المسلمين.
قال ابن عرفة: هذان يرجعان إلى قول واحد، لأن الفقر يستدعي الإعطاء من بيت المال.
قال ابن عطية: وانتزعه مالك وجماعة من العلماء من هذه الآية أنّ الرّضاعة المحرمة الجارية مجرى النّسب إنّما هي ما كان في الحولين لأن بانقضاء الحولين تمت الرضاعة فلا رضاعة.
قال ابن عرفة: من يطالعه يتوهم (قصد) التحريم على الرّضاع في الحولين.
وفي المدونة: ولا يحرم رضاع الكبير إلاّ ما قارب الحولين ولم يفصل مثل شهر أو شهرين، وأما لو فصل بعد الحولين وبعد حول حتى استغنى بالطعام فلا يحرم ما رضع بعد ذلك.

(2/668)


قال ابن عرفة: فالرضاع فيما زاد على الحولين بقربهما ينشر الحرمة.
قال ابن عطية: وروي عن قتادة أنه نزل أولا: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} ثم نسخت بقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} .
ابن عطية: وهذا القول متداع (مبتدع) .
قال ابن عرفة: أي متناف لأن الشيء إنما ينسخ بنقيضه وما محمله عندي هنا إلا أنّه نسخ في الأخف.
قوله تعالى: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ ... } .
قال ابن عرفة: ولو قيل: نفقتهن وكسوتهن، لكان فيه حُجة لمن يقول: إن الكسوة غير داخلة في النفقة، وهي مسألة اختلف فيها الشيوخ ابن زرب وغيره من الاندلسيين.
قيل لابن عرفة: المطلقة في العدة لا كسوة لها؟
فقال: وكذلك الكسوة هنا ثابتة للزوجة على زوجها وإن لم يكن إرضاع.
قوله تعالى: {بالمعروف ... } .

(2/669)


عدل بين الآباء والأبناء فلا تبالغ في طلبه ولا يقصّر هو في الإعطاء.
قوله تعالى: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ... } .
دليل على أنّ تكليف ما لا يطاق غير واقع كمذهبنا انه جائز غير واقع.
قيل لابن عرفة: بل (هي) دليل على أنه غير جائز كمذهب المعتزلة ويكون من باب السلب والإيجاب كما تقول: الحائط لا يبصر؟
فقال: الأكثر في الكلام ان لا ينفى إلا ما هو ممكن قابل للثبوت والوقوع.
قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} .
قال ابن عطية: فِصَالا، أي فطاما. وفصاله قبل الحولين لا يكون إلاّ برضاهما وألاّ يكون على المولود فيه ضرر.
وأما بعد تمامهما فمن دَعَا إلى الفصل فذلك له إلاّ أن يكون على الصبي فيه ضرر.
قال ابن عرفة: فعلى هذا ينبغي أن تحمل الآية على (أن) التراضي والتشاور قبل انقضاء الحولين لأنه جعل التشاور بعدهما غير معتبر.

(2/670)


ابن عرفة: وتقدم لنا سؤال وهو أن التراضي سبب عن التشاور ((لأن المشورة) (تحصّل) التراضي أو عدمه فكان الأنسب تقديم التشاور على التراضي)) .
قال: وتقدم الجواب بأنه أفاد عدم الاقتصار على تراضيهما فإذا تراضيا على الفصال وكانت مشورتهما للغير تنتج أن المصلحة في عدم الفصال فلا عبرة بما تراضيا عليه.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأنّه لو قيل: عن تشاور وتراض، لأفاد تبعية أحدهما للآخر فإن المستشير أضعف رتبة (من) المستشار فقدم الرضى ليفيد اعتبار رضاهما معا من غير تبعية؟
فقال ابن عرفة: ليس في الآية أن أحدهما يستشير مع الآخر وإنّما يَسْتَشِيرَانِ مع الأجنبي.
قال ابن عرفة: (وعبر) ب (إنْ) دون (إِذَا) لأن النفوس مجبولة على محبة الولد فإرادتهم الفصال اقل بالنسبة إلى إرادة الرضاع، فكأنه غير واقع، أو يكون أفاد أنّه (غير) (مرجوح) شرعا. وعبر في الثاني ب (إذا) لأن استرضاع الولد للأجنبية (مرجوح) بالنسبة إلى إرضاع أمه.
قيل لابن عرفة: ما الفائدة في هذه الآية مع أن معناها مستفاد من قوله: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ

(2/671)


أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} فمفهومها أن من لم يرد الإتمام فلا جناح عليه في الفصال.
فقال: هذا جاء احتراسا لأن مفهوم تلك أن من أراد الفصال له ذلك فاقتضت الآية هذه اعتبار رضاهما معا بذلك.
فقيل: قوله لمن أراد أن يتم الرضاعة يفيد هذا لأنه إن أراد أحدهما (الفصال) وأراد الآخر الإتمام لم يتراضيا معا بالفصال؟
فقال: أفادت هذه زيادة الأمر بمشورتهما غيرهما.
قال: وقوله {تَرَاضٍ مِّنْهُمَا} ولم يقل: عن تراضيهما، ليفيد التفسير بعد الإتمام كما قال الزمخشري في قوله الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ... } .
دليل على مرجوحية الفصال لأن اللّفظ غالب استعماله في فعل المرجوح.
قوله تعالى: {إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بالمعروف ... } .
قرىء: «مَّآ أُتِيتُمْ» .
قال ابن عرفة: وفي هذه القراءة تهييج على الأمر بالتّسليم لأن تسليم الإنسان ما لا يملك أهون عليه من تسليم ما يملك. ومعنى قوله «مَّآ آتَيْتُم» بالنّصب أن يعطي الأب (الأم) دينارا على الإرضاع

(2/672)


ثم يريد أن يسترضع الولد (عند) الأجنبية فلا جناح (عليهما) إذا سلم الدّينار للأم ولم يسترجعه من عندها.
قال أبو حيان: «إذا سَلّمتُم شرطٌ» ، قالوا: وجوابها ما يدل عليه الشرط الأول وجوابه وذلك المعنى هو العامل في (إذا) وهو متعلق تعلق بما يتعلق به (عليكم) .
أبو حيان: وظاهره خطأ لأن القول بأن العامل في (إذا) المعنى الذي يدل عليه الشرط وجوابه مع القول بأنّها تتعلق بما تعلق به (عليكم) متناف.
قال: ابن عرفة: لأنه إذا كان العامل في (إذا) ما تعلق به (عليكم) فيكون (إذا) جوابا للشرط الأول فقد قلتم إن الشرط الأول (جوابها) فيلزم التناقض.
قيل لابن عرفة: أو يريد بالتنافي أنّها إذا كان العامل فيها ما تعلق به (عليكم) يكون (إذا) ظرفا وقد جعلتموها شرطا وهذا تناقض.
قوله تعالى: {واتقوا الله ... } .
إشارة إلى مراعاة حق الولد في ذلك لأنه لا يتكلم ولا يخبر بشيء.
قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
ابن عرفة: الوصف ب (بصير) أشدّ في الوعيد والتخويف من الوصف ب (عليم) لأن الإنسان قد يتجرأ على مخالفة سيده الغائب عنه وإن علم أنه يعلم ولا يتجرأ على مخالفته إذا كان حاضرا يشاهده وينظر إليه.

(2/673)


فائدة: سئل الشيخ ابن عرفة عن امرأة سقطت حضانتها لولدها إما لتزويج أو سفه أو عجز أو غير ذلك ثم إنها اشتاقت إلى الولد وأخذته فبقي عندها عاما كاملا ثم طلبت من أبيه نفقته فادّعى أنّه كان ينفق عليه؟
فقال ابن عرفة: بأنّ القول قولها فتحلف وتستحق، وقصارى الأمر أن تكون كالأجنبية إذا أنفقت على الولد. وقد قال في المدونة: القول قولها. وهذه لما سقطت حضانتها صارت كالأجنيبة. أنتهى.

(2/674)


وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ... } .
قال ابن عرفة: وتقدم لنا فيه سؤال وهو أن يقال: ما الفائدة في زيادة (منكم) ولو أسقط لكان اللَّفظ أعم فائدة؟ كما تقدم لنا الجواب عنه بقول بعضهم: إن العام إذا قيد بشيء غالب أمره أنه يتخصص به، وقد يكون تقييده موجبا لتأكيد عمومه كهذه الآية، فإن توهّم وقوع المخالفة ممن لم يدرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (من المؤمنين) أشد من توهّم وقوع المخالفة ممن أدركه منهم فإذا خوطب بذلك من أدركه فأحرى من سواهم، ف (منكم) تأكيد لا تخصيص. وأجيب أيضا بأنّ (منكم) تخصيص لا تأكيد.
والمراد من المسلمين الحاضرين والغائبين وغلب فيها ضمير المخاطبين على غيرهم ويكون في الآية على هذا دليل على أنّ الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة.

(2/674)


فإن قلت: ما فائدة قوله: «بِأَنْفُسِهِنَّ» ؟
قلت: فائدته التنبيه على مجاهدة النفس بمنعها شهواتها وتحملها الصبر على النكاح حتى تنقضي العدة.
فإن قلت: ظاهر الآية أن يكون التربص مقصودا لها. والمذهب على أنها إذا لم تعلم بوفاة زوجها إلاّ بعد مضي العدة فإنّها تجزيها تلك ولا تستأنف عدة أخرى بوجه؟
قلنا: الأغلب في النساء معرفة - وكذلك المذهب - في الأربعة أشهر وعشرا أنها تكفي بشرط أن تحيض فيها حيضة وهو الأعم الأغلب في النساء فإن لم تحض (واسترابت) رفعت إلى تسعة أشهر فإن زالت عنها/ الرّيبة فقد انقضت عدتها وإن (استرابت) بحس بطن فإنّها تمكث أقصى أمد الحمل، ولهذا قال في المدونة: والعدة في الطلاق بعد الرّيبة وفي الوفاة قبل الريبة.
قوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ... } .
قيل: أراد عشر ليال بأيامها وغلب اللّيالي لأنها أسبق.
الزمخشري: ولا تراهم فقط يستعملون التّذكير فيه ذاهبين إلى الأيام تقول: صمت عشرا، ولو ذُكرت خرجت من كلامهم.
قال المبرّد: وعشر مدد كل مدة منها يوم وليلة.

(2/675)


وتعقبه أبو حيان بأنه لا حاجة إلى ذكر اللّيالي والعدد لأنهم مضوا على أن المعدود إذا كان مذكرا أو حذفته فلك في العدد وجهان إما التذكير الفصيح أو التأنيث.
قال ابن عرفة: كان الشيوخ يحكون عن شيوخهم خلافا فيمن يشتري سلعة بعشرة دارهم وفي تونس القديم والجديد فكان سيدى الشيخ الفقيه أبو محمد عبد الله الزواوي يفتي بأن له أن يعطيه عنها ثمانية دراهم جديدة لأن غالب حال الناس التعامل بالجديد وهو الأكثر.
وكان الشيخ الفقيه القاضي أبو القاسم بن زيتون يقول أسماء العدد نصوص فما يعطيه إلا عشرة دراهم قديمة كما وقع العقد بينهما.
قلت: وذكرت هذا بعينه في سورة العنكبوت.

(2/676)


وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء ... } .
الزمخشري الكناية: هي أن يذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له مثل: فلان جبان، (القلب) عظيم الرماد. والتعريض: أن يذكر شيئا يستدل به على شيء لم يذكره.

(2/676)


ابن عرفة: فلفظه يقتضي أن الكناية ترجع لدلالة المطابقة والتعريض لدلالة الالتزام ولهذا كان بعضهم يقول في قولك: رأيت أسدا يريد به رجلا شجاعا إنه مطابقة ويرد على من كان يقول: إنّه مجاز ولذلك فرقوا بين دلالة اللفظ وبين الدلالة باللفظ لأن المطابقة دلالة اللّفظ على تمام مسماه بالإطلاق وما عرض من جعله مجازا، إلا أنه (فسر دلالة المطابقة بأنها دلالة اللّفظ على) تمام ما وضع له أوّلا.
قلت: قال القزويني في الإيضاح الكناية لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة ذلك كقولك فلان: كثير رماد القدر، كناية عن الكرم. وطويل نجاد السيف كناية عن طول قامة الرجل. ومثله: بَعِيدَةٌ (مَهْوَى) القرط كناية عن طول قامة المرأة.
قيل لابن عرفة: هل يجوز لمن عنده أربع نسوة أن يعرض ويواعد خامسة؟
فقال: الظاهر الجواز وهو أخف من المواعدة في العدة لأن من تزوج في العدة تحرم عليه للأبد، ومن تزوج خامسة يجبر على تطليق واحدة ونكاحه صحيح، وأيضا فالمواعد في العدة غير قادر على تنجيز (العقد عليها في الحال ومتزوج الخامسة) قادر على تطليق واحدة في الحال ويتزوجها.
فإن قلت: (ليس) قادرا على أن يطلقها طلقة بائنة؟
قلنا: هو قادر على أن يطلقها بالثلاث.

(2/677)


قيل لشيخنا القاضي أبي عبد الله: محمد بن القاضي أبي العباس أحمد بن حيدرة كان يقول: هذا إذا كان التعريض من أحد الجانبين فقط. وأما إذا وقع منهما التعريض فظاهر المذهب أنه كصريح المواعدة.
فان قلت: إذا نفي الجناح في التعريض فأحرى أن ينتفي عما يخطر بالقلب فما فائدة عطفه عليه.
قلت: فائدته الإشعار بالتّسوية بينه وبين ما في النفس من الجواز أي هما سواء في رفع الحرج عن صاحبهما وعلى الحكم بتعريض الرجل للمرأة لأنه الأغلب والأكثر وجودا أن الرجال يخطبون النّساء فهو مفهوم خرج مخرج الغالب فيستفاد منه جواز العكس قياسا عليه.
قوله تعالى: {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ... } .
الزمخشري: المستدرك مقدر، أي فاذكروهنّ وَلكِن لاَ تُوَاعدوهنّ سِرّا.
قال ابن عرفة: هذا يتخرج من الخلاف في أنّ ما بعد (لَكِن) إن كان مناقضا لما قبلها جاز بلا خلاف وإن وافقه امتنع اتّفاقا فإن خالفه فقولان، ومفهومه تحريم المواعدة جهرا من باب أحرى.
قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ... } .

(2/678)


جلعها الزمخشري متصلا أمّا مستثنى من مصدر «تُوَاعِدُوهُنَّ» أي إلاّ مواعدة القول المعروف فينتصب على المصدر أو مفرعا من مجرور أي إلاّ بالقول المعروف فينتصب على إسقاط حرف الجر، ومنع انفصاله على استثنائه من «سِرّا» لعدم تسلّط العامل عليه فلا يجوز: لاَ تُوَعِدُوهُنّ إِلاّ التعريض.
ورده أبو حيان بمنع الحصر لأن المنفصل قسمان ما تسلط عليه العامل.
مثل: مَا رَأَيْتُ أَحَدا (إِلاّ حِمَارا) فالحجازيون أوجبوا نصبه والتميميون أجازوا اتباعه لما قبله. وما لم يسلط عليه العامل نحو ما زاد إلا ما نقص.
(قلت: وعبر القرافي عمّا يتسلط عليه العامل بأن يكون الحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه، وعمّا لا يتسلط عليه بأن يكون الحكم بغير النقيض مثل ما زاد إلا ما نقص) ، فالزيادة هي نقيض عدم الزيادة وذلك بعد أن قال: الاستثناء المتصل هو أن يكون الحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه وأن يكون استثناء من غير الجنس فإن اختل أحدهما أو هما / كان منقطعا ومثل الحكم بعدم النقيض فقول الله تعالى: {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} فظاهره جواز أكل التجارة بالباطل وليس كذلك.

(2/679)


وتعقب ابن عرفة منع الزمخشري الانفصال وتعليله بأنه مشترك الالزام بين المتصل والمنفصل.
وأجيب عن ذلك بأن (المفرّغ) أصله مستثنى من شيء محذوف تقديره في الآية: وَلَكِن لاَ تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا بشيء من الأشياء بالقول المعروف. ونظيره: ما مررت إلاّ بزيد، أي ما مررت بأحد فليس (فيه) مشترك الإلزام.
وتعقب ابن عرفة قول أبي حيان في: ما رأيت أحدا إلاّ حمارا بأن ذلك إنّما هو في النقيض.
قيل لابن عرفة: قد ذكر القرافي والشلوبين وغيرهما ومثلوه بقول الله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} فقال: هذا منفي، مع صحة قولك لا يذوقون إلاّ الموتة الأولى.
فقيل له: لايجوز لا يذوقون إلاّ الموتة الأولى؟
فقال: (سقط فيها) .

(2/680)


قلت: قال بعضهم: كلام أبي حيان صحيح وما تقدم للقرافي بيّنه.
قوله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ ... } .
أبو البقاء: عقدة مصدر مضاف إلى المفعول، أو على إسقاط حرف الجر كقول عنترة:
ولقد أبيت على الطوى وأظلّه ... حتى أنال به كريم المأكل
أي وأظل عليه.
قيل لابن عرفة: تقدم النهي عن المواعدة في العدة وهي أدنى من هذا والنهي عن الأدنى يستلزم النهي عما فوقه من باب أحرى؟
فقال: دلالة المطابقة أقوى.
قيل له: والأول من دلالة المطابقة مثل: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} فقال: الصحيح عنهم أنّه من دلالة الالتزام؟
قال: والعزم منهم من يفسره هنا بالفعل وهو عقد النكاح. ومنهم من فسره بالنية، أي لا تنووا عقدة النكاح وهو الصحيح لأن العزم هو

(2/681)


الجزم بفعل الشيء فهو أمر قلبي. قال الله تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الأمر} وَمما (يؤيده) هنا قوله: {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنفُسِكُمْ فاحذروه} .
فدل على أنّه أمر قلبي.
وحكى ابن عطية عن ابن الجلاب: أن العقد في العدة يوجب حرمتها أبدا. وكان بعضهم يقيده بما إذا تعمد ذلك فإن وقع العقد خطأ لم يتأبد التحريم.
قيل لابن عرفة: الصواب العكس لأن النكاح متى كانت له شبهة تأبد فيه التحريم ومتى لم تكن له شبهة لم يتأبد التحريم؟
فقال ابن عرفة: ليس كذلك لأن (عليه) المعاقبة بنقيض المقصود.
قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنفُسِكُمْ فاحذروه ... } .
عبر فيه بِ (اعْلَمُوا) وب (احْذَرُوهُ) تأكيدا في التنفير عن ذلك والعقوبة من المواطأة هنا على ما في النفس والإصرار عليه.

(2/682)


لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)

قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} .

(2/682)


وجه الفصل كونها جملة خبرية والأولى طلبية فلذلك لم يعطفها عليها.
قال ابن مالك: وإلا فالقاعدة أن الجملتين إذا كانتا متقاربتين في المعنى لم يعطف.
قوله تعالى: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ... } .
ابن عرفة هذا كما (قال) غير مرة: إن من أكثر ما وردت (لَمْ) في القرآن لنفي الماضي المتصل بزمن الحال قال: و (أو) هنا بمعنى الواو. كما قال ابن راشد، وهو الصحيح، لأنها إذا كانت على بابهما أعني (للتنويع) لزم نفي الجناح (عمن طلق بعد الدخول في نكاح التفويض، وإذا اكانت بمعنى الواو فيكون المراد برفع الجناح) بسقوط نصف الصداق) بالطلاق.
قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ ... } .
قال ابن عرفة: إنما عطف هذه وهي أمر على ما قبلها وهي خبر لأن قبلها تضمن حكم الطّلاق وهو سبب في الأمر بالمتعة والسببية ظاهرة فلذلك عطفت (بالواو) ولو كانت خفية لعطفت بالفاء.

(2/683)


قال ابن عرفة في مختصره الفقهي: المتعة ما يؤمر الزوج بإعطائه الزوجة لطلاقه أياها، والمعروف أنّها مستحبة يؤمر بها ولا يقضى بها ولا (تحاصص) .
قال ابن زرقون في المبسوط عن محمد بن مسلمة هي واجبة (يقضي بها) (لأنه) لا يأبى أن يكون من المحسنين ولا المتقين إلاّ رجل سوء.
قال ابن عرفة: ولأن رأي المتقدمين أن المؤمن والمتقي متساويان ولأن قوله: {حَقّاً عَلَى المتقين} يقتضي عموم تعلقها بكل مسلم لأنه متق الشرك وقوله «عَلَى الْمُحْسِنِينَ» مفهومه عدم تعقلها بمن ليس بمحسن من المسلمين فيتعارض العموم والمفهوم والأصح عند الأصوليين أن العموم مقدم ونقله اللَّخمي ولم يعزه وعزاه الامام ابن عبد السلام لابن حبيب.
قال ابن عرفة: قال أبو عمران: إنما يقدر حال المرأة، وابن عبد البر يقدر حال الرجل وابن رشد (يقدر) حالهما.
قال ابن عرفة: وهي لكل مطلقة في عصمة لا رجعة فيها ولا خيار على الزوج.

(2/684)


وفي المدونة ما نصّه: لا متعة لمختلعة ولا مصالحة ولا ملاعنة ولا مطلقة قبل البناء.
وقد فرض لها اللخمي. ولا مفتدية ولا متبارية ولا من اختارت نفسها لعتقها ولا من فسخ نكاحها ولم تعارض.
قال الامام ابن رشد: ظاهر قول ابن القاسم ان طلّق فيما يفسخ بطلاق فسخه، فلا متعة عليه.
اللخمي: إن فسخ الرضاع بأمر الزوج رأيت / عليها المتعة وإن اشترى زوجته لم يمتعها لبقائها معه ولو اشترى بعضها متّعها، وأما المخيرة والمملكة فقال الامام ابن رشد: روى ابن وهب: أنّ لهما المتعة.
وقال ابن خويز منداد: لا متعة لهما، وقال ابن يونس: لمن اختارت نفسها بتزويج أمة عليها المتعة، انتهى.
قال ابن عرفة: المطلقة لا متعة لها في البائن دون الرجعي فإن ماتت في العدة فالظاهر أن المطلق يرث من تلك المتعة.
قيل لابن عرفة: لا يرث لأنّه إذا كان الطلاق بائنا فلا متعة ولا ميراث، وإن كانت رجعية فقد ماتت قبل أن تجب لها لأنها إنّما تجب لها بعد انقضاء العدة؟

(2/685)


فقال إنّما (أجّلنا) المتعة بانقضاء العدة رجاء أن يرتجعها قبل تمامها فإذا ماتت ذهبت تلك العدة.
قيل لابن عرفة: إنما هي جبر لقلبها ففي الموت لا متعة؟
فقال: قد قالوا: إنّها تجب.
وقرىء «عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ» . واستشكلها ابن عرفة بحذف المجرور. وقد انتقد القرافي على الفخر الرازي تسميته كتاب المحصول، لأن اسم المفعول من الفعل الذي لا يتعدى إلا بحرف الجر لايجوز أن يحذف مجروره، وأجابوا: بأن ذلك اسم عَلَمٍ سمّاه بالمحصول كما قال تعالى {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} لكن ذلك الجواب لا يتصور هنا.
وأجيب: بأن هذا يتعدى بنفسه تقول: وسعت المكان والدار والطريق ووسعت الأمر:
- قال الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} _ وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.}

(2/686)


وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

قوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ... } .
قوله تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى ... } .
الخطاب للأولياء، ويحتمل أن يكون الخطاب بالأول للزوجات والأولياء ليعفوا عن نصف الصداق إذا لم (يمكن) قبضه، وذلك حيث تكون ملية والزوج معسر. والخطاب (بهذه) للأزواج حيث يكون الزوج مليا والمرأة معسرة فالعفو عما زاد على النصف. ومعنى «أَقْرَبُ للتقوى» أن الصداق أمر دنيوي وقد ورد «حبّ الدّنيا رأس كل خطيئة» فتركه أقرب للتقوى) ، وإنما عدي باللام التي للاختصاص دون (إلى) إشارة إلى خصوص العفو عنه بالتقوى.

(2/687)


قوله تعالى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ ... } .
المراد إما إنشاء التفضل أو مراعاة الفضل المتقدم، أي لا تتركوا أيقاع التفضل ولا تتركوا عند الطلاق مراعاة ما وقع بينكم من الفضل عند عقد النكاح، فإن أريد الأول فيكون تأكيدا لأن ما قبله يغني عنه، وإن أريد الثاني فهو تهييج على (العفو عن) الصداق.
قوله تعالى: {بَيْنَكُمْ ... } .
دليل على أن الخطاب للأزواج وللزوجات وغلب فيه ضمير (المذكر) .
وقوله تعالى: {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
قال ابن عرفة: وعد ووعيد.
قيل له: إنما هو وعد خاصة لأن ما قبله تفضل ومستحب لا واجب؟
فقال: هو وعيد بالذات ويحتمل أن يتناول الواجب.

(2/688)


حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)

قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات ... } .
إن قلت: ما وجه مناسبتها مع أن ما قبلها في شأن الزوجات؟
قلنا: الجواب عنه بأمرين: إما بأنّه تنبيه الأزواج أن لا يشتغلوا بأمور زوجاتهم عن الصلوات، وإما بأن بعضهم كان لا يراعي (المناسبة ولا يشتغل) بها.

(2/688)


قال ابن عرفة: إنما قال «حَافِظُوا» ولم يقل: احفظوا، إشارة إلى تأكدها (وتكرر) الأمر بها من وجهين:
أحدهما: أن «حَافِظُوا» مفاعلة لا تكون إلاّ من اثنين مثل: قاتلت زيدا، ووقوعها هنا من الجانبين مستحيل، فيتعين صرف ذلك إلى تكرر (الأمر) بوقوعه وتأكده.
الثاني: إنّ لفظه يقتضي الاستيلاء والإحاطة فهو إشارة إلى تعميم الإحاطة بالصلوات دون ترك شيء (منها) وتخصيص الصّلاة الوسطى منها بالذكر: إما لورودها على النّاس في زمن شغلهم أو في زمن راحتهم ونومهم أو لكونهم من بقية الصلوات التي كانت مفروضة على الأمم المتقدمة وهو من عطف الخاص على العام.
قوله تعالى: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ} .
فسره ابن عطية بالقيام الحسي حقيقة قال: ومعناه في صلاتهم فسره بعضهم بالقيام المعنوي وهو الجد في الطلب والطاعة فيتناول ركوع الصلوات وسجودها مثل: «قمت بالأمر» .

(2/689)


فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

قوله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً ... } .
قال ابن عرفة: الخوف أمر محقق لكونه شرطا في الرخصة والرخصة إنما تكون في الأمر المحقق الثابت لأنها مظنة المبادرة للعمل بمقتضاها لما فيها من التخفيف، فلو لم يكن شرطها محققا لأدّى إلى التهاون بفعلها

(2/689)


من غير استيفاء شروطها، فحق هذا الشرط أن يكون ب (إذا) الدالة على التحقيق كما كان الشرط وهو «فَإِذَآ أَمِنتُمْ» لكنه روعي في الشرطين شيء آخر وهو الحظ على تشجيع النفس بإحضار الطمأنينة والأمن من العدوّ وعدم الاهتبال به حتى كأن الخوف منه غير واقع في الوجود بوجه، ولها عبر في آية الخوف ب (إن) وفي آية الأمن ب (إذَا) .
وقال الزمخشري: وعند الإمام أبي حنيفة لا يصلون في حال المشي. وعند الإمام الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يصلّون في كل حال والراكب يومىء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة.
قال ابن عرفة: مذهب الإمام مالك والشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما في ذلك سواء وينوي بقلبه التوجّه إلى القبلة (وهذا إذا خاف العدوّ وفوات الوقت المختار) فإن رَجَا حصول الأمن فيه أخّر/ الصلاة و (وكذا) الخائف من لصوص أو سباع لأنّ الفرع في هذا أقوى من أصله كما (قالوا) في الجدة للأم مع الجد للأب، لأن الخائف من العدوّ لا يقضي والخائف من اللصوص أو السباع يقضي.
قوله تعالى: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله ... } .
قال ابن عطية: قيل فإذا زال خوفكم الذي اضطرّكم إلى هذه الصلاة. وقيل: فإذا كنتم آمنين قبل أو بعد أي فمتى كنتم عل (أمن) .

(2/690)


ورده ابن عرفة بأن الشرط هنا يقتضي أنه مستقبل لم يقع في الوجود لا أنه ماض.

(2/691)


وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)

قوله تعالى: {فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ ... } .
وقال قبله: {فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف} قال ابن عرفة: الجواب أنهم قالوا إن آية «مِنْ مَعْروفٍ» نزلت قبل آية «بِالمَعْرُوف» فنزل هنا معرفا للعهد المتقدم في النزول وإن كان متأخرا في التلاوة كقول الله تعالى {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} وقاله الزمخشري في قول الله تعالى حكاية عن ابراهيم {رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً} في سورة البقرة ثم قال في سورة إبراهيم {رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً} انتهى.

(2/691)


وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)

قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} .
قال ابن عرفة: عادتهم يقولون إنّ هذا أبلغ من قوله: «فَمَتِّعُوهُنّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ» من وجهين:
أحدهما: لقوله {حَقّاً عَلَى المتقين} (إذا قلنا إنّ المتّقي مرادف للمؤمن، فأفاد وجوبها على عموم المؤمنين وتلك اقتضت خصوص وجوبها بالمحسنين فقط) .

(2/691)


الثاني: أن ذلك أمر وهذا خبر في معنى الأمر وورود الأمر عندهم بصيغة الخبر أبلغ لاقتضائه ثبوت الشيء المأمور به ووقوعه في الوجود حتى صار مخبرا عنه بذلك.

(2/692)


كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ ... } .
أي مثل هذا البيان في المتعة وفي العدة وجميع ما تقدم يبين الله لكم ءاياته. (والظاهر) ان المراد آيات الأحكام، ويحتمل العموم في المعجزات وغيرها وهو دليل على صحة من منع الوقف على قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} وقال لابد من وصله بقوله {والراسخون فِي العلم} قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .
قال ابن عرفة: ليس المراد هنا العقل التكليفي بل أخص منه وهو العقل النافع. وذكر ابن عطية حديثا وقال هو حديث لين.
ابن عرفة أي ضعيف.

(2/692)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ ... } .
أي متآلفون مجتمعون، خرجوا في وقت واحد فارين من الموت، والرؤية إما بصرية أو علمية لكن (العلمية لاتتعدى ب (الى) فلذلك قال أبو حيان: «المعنى لم ينته علمك إلى الذين خرجوا من ديارهم) .

(2/692)


قال ابن عرفة: وكذا البصرية ممتنعة هنا فإن أولئك غير موجودين (حين) الخطاب لكن نزل الماضي منزلة الحاضر تحقيقا له حتى كأنه مشاهد كما قال سيبويه، وهذا باب كذا. وفرق في الإرشاد بين نظر في كذا وهو النظر الفكري فجعله يتعدى (بفي) .
قوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ... } .
أورد الزمخشري هنا سؤالا فقال: كيف قال لهم الله» مُوتُوا «وكان الأصل فأماتهم الله.
قال ابن عرفة: هذا السؤال إنّما يرد على مذهبه لأنه ينفي الكلام النفسي.
وأجاب بأنه عبارة عن سرعة (التكوين) وزاد فيه (تدقيقا) لمذهبه بقاعدة (إجماعية) وهي قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وهذا بناء على خطاب المعدوم وهل يصح (أم) لا؟
قال ابن عرفة: وهنا إضمارٌ أي: فماتوا ثم أحياهم.
قوله تعالى: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ... } .

(2/693)


فضله عام باعتبار الكم وباعتبار الكيف فالكم راجع إلى تكثير أعداد النعم والكيف راجع إلى حالها في أنفسها، والناس عام، فالكافر منعم عليه في الدنيا وأما في الأخرة فمحل نظر. والاستدراك في قوله {ولكن أَكْثَرَ الناس} راجع إلى لازم قوله {لَذُو فَضْلٍ} فإن من لوازم فضله على الناس أن يشكروه ويحمدوه فلذلك استدرك بعده ب (لكن) .

(2/694)


وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)

قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله ... } .
المقاتلة تكون للجهاد بالذات لتكون كلمة الله هي العليا أو باللزوم كمن يقاتل ليذبّ عن حريمه، فإنّه يستلزم الجهاد. معناها ليكن اعتقادهم ونيتكم بالقتال (سبيل الله) .
قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
قال ابن عرفة: وجه مناسبة الصفتين أن من قعد ولم يخرج للقتال لا بد أن يتكلم في المؤمنين ويتحدث في أمره فالله سميع له عليم. (قتال) من قاتل، ففيه وعد ووعيد.

(2/694)


مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

قوله تعالى: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً ... } .
هذه رحمة من الله تعالى لأنه متولّ على جميع الخلق غني بذاته عنهم، ومع هذا يجعل طاعتهم له (سلفا) منهم له، وقال في سورة براءة: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} ووصفه بالحسن في كميته وكيفيته. و «قرضا» إن كان مصدرا فهو مجاز، كما قال الامام المازري في {وَيُطَهِّرَكُمْ

(2/694)


تَطْهِيراً} إنّ التأكيد يصير التطهير المعنوي حسيا وهو من ترشيح المجاز كقولك قول هند زوجة ابن زنباع:
بكى الخزمن (عوف) وانكره جلده ... وعج عجيجا من جذام المطارق
قوله تعالى: {أَضْعَافاً كَثِيرَةً ... } .
قال ابن عرفة: «كثيرة» راجع الى المجموع (وإفراد) ، كل واحد من تلك الأضعاف موصوف/ بالكثرة.
قوله تعالى: {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
قدم القبض ترجيحا له أي ذلك القبض الذي ينالكم (بالصلاة) والزكاة (راجع) لكونه يعود عليكم بالبسط في الدنيا والثواب في الآخرة، وهذا بحسب الأشخاص فقد يكون إنفاق درهم قليلا لشخص (وكثيرا لآخر كما في الحديث: «سَبَقَ دينار مائة، فمن عنده درهمان فأنفق منهما) درهما ليس كمن عنده عشرة دراهم فينفق منها درهما» .

(2/695)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ ... } .
قال ابن عرفة: الرؤية إن كانت بصرية ونزل الغائب منزلة الحاضر تحقيقا له، (فالخطاب) للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحده، وكذلك

(2/695)


قالوا في قول سيبويه: هذا باب: إنّ الخطاب للخواص لا للعوام. وإن كانت علمية فالخطاب للجميع والظاهر الاول (لتعديه بإلى) .
قوله تعالى: {إِذْ قَالُواْ ... } .
قوله تعالى: {لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً ... } .
لم يقل: لنبيّهم لأجل مخالفتهم له وعدم اتّباعهم إياه فلذلك لم يضفه إليهم، والنبي إما شمعون، أو شمويل، أو يوشع.
وأبطل ابن عطية كونه يوشع لأن يوشع كان بعد موسى وبينه وبين داود قرون كثيرة.
قال ابن عرفة: لعل يوشع رجل آخر (غير) الذي كان بعد موسى.
(ابن عرفة قال: وتقدم لنا أنّ الإخبار بهذا القصص إما معجزة له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (أو وعظ وتخويف لأمّته أن ينالهم مثل ما نال أولئك) .
قوله تعالى: {نُّقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله ... } .

(2/696)


القتال مع أنّهم لم يقاتلوا إلا لأجل استخلاص (حريمهم) وأولادهم لكنه مستلزم لقتالهم في سبيل الله.
قوله تعالى: {هَلْ عَسَيْتُمْ ... } .
قال الزمخشري: (هل) استفهام في معنى الإنكار عليهم والتقدير مثل: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} قال ابن عرفة: ويظهر لي أنه استفهام على بابه، وأنه تأكيد في التلطف في الخطاب لمّا وبخهم على العصيان تلطف في العبارة عنه بوجهين:
أحدهما: ذكره له بلفظ الرجاء (مقاربة) العصيان دون التحقيق.
الثاني: لفظ الاستفهام دون الخبر.
فإن قلت: هم إنما طلبوا منه أن يؤمر عليهم ملكا في قتال يتطوعون به فكيف أجابهم بامتناعهم من قتال يكتب عليهم فرضا؟
قلت: إذا امتنعوا من امتثال قتال يجب عليهم (فأحرى) (ألا يوفوا) بقتال يتطوعون به.
وقرأ الكل «عَسَيتُمْ» بفتح السين إلا نافعا كسرها.

(2/697)


قال الزمخشري: وهي ضعيفة.
قال ابن عرفة: هذا (عادته) في تجاسره على القراءات (السبعة) وتصريحه بأنها غير متواترة.
قوله تعالى: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا ... } .
قال ابن عرفة: (إما أنّهم جعلوا) إخراج مثلهم كإخراجهم فنزّلوا إخراج المماثل لهم منزلة إخراجهم، وإمّا أن المراد وقد قاربنا الإخراج من الديار.
قيل لابن عرفة (أو) أخرجوا منها حقيقة ثم رجعوا إليها وقيل: إنّه على القلب، أي إخراج أبنائنا من ديارنا.
قوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ ... } .
ابن عرفة: هذا أبلغ من لو قيل: فكُتب عليهم القتال فتولوا، لأن قولك: لما قام زيد قام عمرو، أبلغ من قولك: قام زيد فقام عمرو، لاقتضائه تحقيق السبيبية والارتباط.
ابن عرفة: ويحتمل أن يكون (تقدم) سؤالهم سببا في (وجوب) القتال عليهم وكان قبل ذلك تطوعا كقضية بني إسرائيل في البقرة.

(2/698)


وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ... } .
إن قلت: لِمَ أضافه هنا إليهم ولم يضفه في {إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ}

(2/698)


قلنا: إنّما أضافه هنا لأنه في مقام التبليغ لهم بخلاف الأول فإنه حكاية عن (مقالتهم) التي لم يوفّوا بها وعصوا وقدم المجرور لأنهم المقصودون بالذكر.
ابن عطية: عن وهب بن منبه لما سأل شمويل من الله عَزَّ وَجَلَّ أن يبعث لهم ملكا ونزله عليهم قال الله تعالى: «انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فسرا الدهن الذي فيه فهو ملك لبني إسرائيل.
قال ابن عرفة سرا أي ارتفع. وهذا الخبر إن صح وإلاّ فما يكون (مفسره) (في قوله {بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} ) إلا مجرد (الوحي) .
فان قلت: (قد) حرف (توقع) حسبما ذكره الزمخشري في قول الله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} وبنو اسرائيل لم يكونوا قط (متوقعين تأمّر طالوت عليهم؟
فالجواب: أنّهم كانوا) متوقعين البعثة بالإطلاق لا من حيث تعلقها بشخص معين.
قال الزمخشري: طالوت إن كان من الطول فوزنه فعلوت إلا أن امتناع صرفه يمنع أن يكون منه إلا أن يقال: هو اسم عبراني وافق

(2/699)


عربيا، كما وافق: حنط حنطة، وبسمالاها رحمانا رحيما، بِسْم الله الرّحْمَانِ الرّحِيمِ.
قال ابن عرفة: واستدلّوا على مرجوحية ملكه بالأصل، لأنه ليس في آبائه ملك ولا نبي أحق منه بالعادة لأن الأمير باعتبار العادة لا بد أن يكون غنيا عن غيره ولا يكون فقيرا أصلا. وغالطوا في احتجاجهم فأتوا بدليل ظاهره صواب يمكن قبوله فقالوا: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال} . وعدلوا عن أن يقولوا: ولم يؤت شيئا من المال، لئلا يرمى دليلهم في وجوههم فيقال لهم: قد أوتي بعض المال وإنْ قل مع أن طالوت لم يكن لديه مال البتة. فأجيبوا عن الدليل الأول بقول الله تعالى: {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ} فلا مزية لكم عليه بآبائكم، وعن الثاني بإن الزيادة في العلم والجسم أرجح / من الزيادة في المال، فإنّ المال سريع الذّهاب والعلم إذا حصل ثابت لا يزول وكذلك الجسم الطويل لا يعود قصيرا بوجه.
الزمخشري: والواو في {وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ} واو الحال وفي {وَلَمْ يُؤْتَ} واو العطف.
قال ابن عرفة: الأولى أن يكونا معا للحال وهو أبلغ في التعليل لأنّ كل واحد منهما علة مستقلة، أي أنّى يكون له الملك والحالة أنّا أحق به منه، وأنّى يكون له الملك علينا والحالة أنّه فقير لا مال له، فلم يعللوا بمجموع الأمرين بل بكل واحد منهما.
قال ابن عرفة: وهما حالان من الفاعل والمفعول.

(2/700)


وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت ... } .
قال ابن عرفة: هذا دليل على صحة ما يقول ابن التلمساني من أنّ لفظ الآية ليس خاصا بالمعجزة لأن المراد (بها) هنا الدليل والعلامة بلا خلاف، وهذا اللفظ من حيث هو قابل لأن يراد به آية ثبوت ملكه ملكه أو آية بطلان ملكه، والمراد هنا الأول، فإما أن يكون على حذف مضاف أو (يقول) : «القرينة معينة فلا يحتاج إلى إضماره» .
قال ابن عرفة: والتأكيد ب (إنّ) إنّما هو لمن ينكر ذلك وهم لا ينكرون هذا عند ظهور هذه العلامة.
قال ابن عرفة: كان بعض الشيوخ يجيب بأن الإنكار تارة يتسلط على نسبة الخبر (للمخبر) عنه، وتارة يتسلط على الذات المخبر عنها وإن كانت النسبة متفقا عليها كقول الولد لأبيه الذي لا شك في صدقه: جميع ما نربح في هذه السلعة فهو لك وتكون السلعة بخيسة فالأب مستعد للرّبح من أصله وإن كان موافقا على النسبة. فالإنكار بمعنى استبعادهم وقوع ذلك، لأنه إن وقع لا يكون دليلا على صحة ملكه؟

(2/701)


وأجيب أيضا بأنّه روعي في ذلك مخالفتهم له أخيرا لأن بعضهم تعنتوا عليه.
وذكر ابن عطية هنا أقوالا منها: أن التابوت من خشب (الشمشار) طوله ثلاثة أذرع وفيه عصى موسى.
قيل لابن عرفة: (كيف) تَسَعُ فيه وهي طويلة؟
فقال: لعل ذراعهم كان أكبر من ذراعنا أو تكون العصا مفصلة أو مكسورة.
وحكي في السكينة عن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنها ريح (هفافة) لها وجه كوجه الإنسان وعنه أيضا أنها ريح (خجوج) لها رأسان.
وقال الزمخشري هي صرصرة فيها ريح.

(2/702)


قال ابن عرفة: ولا يبعد ما حكى ابن عطية على مذهبنا لأن الوجود مصحح للرؤية فيمكن أن ترى الريح. وقوله: ريح (خجوج) أي لينة.
قال ابن عطية: وقال أبو صالح: (البقية) عصى موسى وعصى هارون ولوحان من التّوراة والمنّ المنزل على بني إسرائيل.
واستشكله ابن عرفة لأنهم ذكروا أنّ المراد المنّ إذا بقي يفسد.
قلت: يجاب بأنّ هذه آية وخرق عادة.
ابن عرفة: لما ذكر الخلاف كله قال: وهذه أخبار متعارضة ويمكن الجمع بينهما فإنّ السّكينة (تتطور) فتارة تكون كالطست وتارة كالهرّ وتارة كغيره، والله أعلم!
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} .
قال ابن عرفة: إنّما أكّده ب (إِنّ) (لأن) الخطاب بهذا قبل وقوعه وقد كانوا منكرين له حينئذ أو بعد وقوعه ويكون تأكيدا لكونه آية.
وقوله {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إما حقيقة أو تهييجا على الاتصاف بالإيمان.

(2/703)


فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ... } .
أضمر ابن عطية هنا الجواب فقال: التقدير، فاتفق بنو اسرائيل على ان طالوت ملك وأذعنوا وتهيّؤوا لغزوهم عدوهم فلما فصل طالوت بالجنود (تعنتوا) .
قال ابن عرفة: ترك (إضماره) سبب الجواب وحقه ان كان يضمر شيئين: الجواب وسبب الجواب، ويقول: التقدير فلما أتاهم بآية ملكه وفصل بالجنود تعنتوا.
قال ابن عرفة: وعطفه بالفاء لأنه سبب ظاهر كما تقول: جاء الغيم فلما نزل المطر كان كذا، وتقول أيضا: قام زيد ولما نزل المطر قعد فهذا ليس بسبب.
قال ابن عرفة: وإنما قال: «بِالجُنُودِ» ولم يقل: بجنوده لما اقتضت الآية من أن أكثرهم تعنتوا عليه وخرجوا عن طاعته فليسوا بجنوده، وإنما قال: «مُبْتَلِيكُمْ» فعبر بالاسم دون الفعل تحقيقا لوقوع ذلك في نفس الأمر وثبوته في علم الله تعالى أزلا، وأنه لا بد منه.
وعلمه بذلك، إما بالوحي أو بإخبار من النبي.

(2/704)


قوله تعالى: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ... } .
فسره الشيخ الزمشخري: بالكرع مع أنه ينفي فيه المفهوم لأن الشرب منه يكون كرعا ويكون بإناء تملأ منه أو باليد.
وقوله «فَلَيْسَ مِنِّي» فسره إن أراد نفيه حقيقة عنه فيكون مجازا لأنه معلوم أنه ليس منه، فعبر بنفيه عنه نفيه عن ملته، وإن أراد نفيه عن اتباعه أي فليس من اتباعي وجندي فيكون على إضمار مضاف فيتعارض المجاز والإضمار.
قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} .
قال ابن عرفة: أكد الثّاني (بإن) ، ولم يقل في الأول «فمن شرب منه فإنه ليس منّي» ؟ قال: والجواب بأنه إنّما لم يؤكد الأول لأن سببه أكثر (في) الوقوع، وأكد الثاني لأن سببه أقل في الوقوع فأكده حضا على المبادرة إلى امتثال سببه والعمل بمقتضاه.
قال: واحتج به بعضهم على أنّ الماء طعام وهو قول ابن نافع نقله ابن يونس في كتاب السلم الثالث.
وكان القاضي أبو عبد الله بن عبد السلام يحكي لنا عن الفقيه القاضي أبي القاسم/ بن علي بن البراء أن رجلا سأله وهو

(2/705)


راكب على بغلته عمن حلف بالله لا يتناول طعاما؟ فقال له: لا يأكل ولا يشرب الماء لأنه طعام واحتجّ بهذه الآية.
ورده ابن عرفة بوجهين:
الأول منهما: أن الآية اقتضت ذلك لغة، وأما الشرع فلا يسميه طعاما.
الثاني: أنه نفى في الأول الشرب وفي الثاني الطعمية، والطعمية أوائل الشرب، ولذلك ذكروا في الصيام أن الصّائم اذا استطعم الماء وبصقه فإنه لا يفسد صومه، فلما تعلق النفي بأوائل الشرب قال: «فَإِنَّهُ مِنِّي» ، فأكد نسبته إليه ب (إنّ) أي من اتّصف بكمال البعد عنه فهو موصوف بكمال القرب مني وبقي الواسطة مسكوتا عنه وهو الذي شرب بالإناء على تفسير الزمخشري فإما أن ذنبه أقل من ذنب من كرع أو مُسَاوٍ.
قال ابن عرفة: وَ (لَمْ) هنا بمعنى (لما) .
قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ ... } .
قال أبو حيان: يستثني من الجملة (الاولى وهي) {فَمَن شَرِبَ} . زاد أبو البقاء أو مِنْ «مَنْ» الثانية وهي {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} . وتعقب بأنّه لو كان من «مَن» الثانية للزم أن يكون من

(2/706)


اغترف غرفة واحدة بيده ليس منه (مع أنّه أبيحت لهم الغرفة) الواحدة باليد لأن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات.
قال ابن عرفة: هذا لا يتعين بل يحتمل عندي استثناؤه من الجملتين فعلى أنّه مستثنى من الأولى يكون المراد نفيه عن الدخول في حكم ليس منِّي أي هو (منه) وعلى أنّه مستثنى من قوله: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} يكون (النَّاس) على ثلاثة أقسام: شارب بفيه فليس منه، وشارب منه بيده وهذا يقال فيه (هو) منه فقط، ومن لم يشرب منه شيئا يقال فيه: إنَّه منه مجاله أبلغ، فاستثناؤه من الأخص أي إلا من اغترف غرفة بيده فليس محكوما عليه بأنّه «منّي» أي ليس متصفا بكمال القرب مني.
قيل لابن عرفة: يلزمك أن يكون ليس منّي قدرا مشتركا بين الحرام والمباح؟
فقال: لم نخرجه (منه) وإنّما أخرجتهم، من قوله: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} فإذا خرج من هذا كان منفيا عنه أي يكون منه (وقد) قال: أول الآية {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} . فيتعين أنّ النفي هنا (نفي) أخص باعتبار ترك الأمر المستحب بفعل الأمر المباح، فالمستحب ترك الشرب، والمباح الشرب باليد، والحرام الكرع فيه بالفم.

(2/707)


قال ابن عرفة: وغرفة بالضم والفتح، فالفتح هو الماء والضم الفعل.
(قال ابن عرفة) : وعلى أنها الفعل يكون المفعول مقدرا أي إلا من اغترف غرفة ماء.
قال (ابن عرفة) : وفائدة التأكيد بالمصدر على هذا تحقيقا للرخصة في ذلك الفعل وتأكيدَ (إباحتها) خشية أن يتوهم قصر ذلك على أدنى شيء من الماء المأخوذ باليد فأكده تنبيها على إباحتة الغرفة الواحدة بكمالها.
قوله تعالى: {قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ الله} .
قال ابن عرفة: إن أريد الملاقاة بالإطلاق فهي بمعنى العلم وإن أريد الملاقاة حينئذ فالظن على بابه لأن الإنسان لا علم له بزمن موته.
قال (ابن عرفة) : وعبر عنهم بهذا إشارة إلى ما قاله بعضهم في رسالة: «من أحب الممات حيي ومن أحب الحياة مات» .
قوله تعالى: {بِإِذْنِ الله} .
قال ابن عرفة: قال ابن عطية: إذنُ الله هنا تمكينه وعلمه بمجموع ذلك الإذن.

(2/708)


(ابن عرفة: كذا يقول في كل موضع) والصواب أنّ معناه بقدرة الله وفضله وإرادته.
قال ابن عرفة: وهذا إما أن بعضهم قاله لبعض أو قالوه كلهم لأنفسهم (تشجيعا) لها وتوطينا على الصبر على القتال والهجوم عليه.
قوله تعالى: {والله مَعَ الصابرين} .
قالوا: هذا إما من كلامهم أو من كلام الله تعالى.
ابن عرفة: (والصواب أنه من كلامهم لأن فيه تشجيعا لأنفسهم وحضا لها على المقاتلة وأما إن كان من قوله الله تعالى) خطابا لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو بعد انفصال تلك القضية فلا مناسبة لها، انتهى.

(2/709)


وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)

قوله تعالى: {قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً ... } .
دَعَوْا بالأمر المعنوي وهو الصبر وبالحسي (والمراد) بتثبيت الأقدام عدم الرجوع على الأعقاب، وليس المراد الوقوف في موضع واحد وابتدؤوا في الدعاء بالصبر لأنه سبب في تثبيت الأقدام.
قاله الزمخشري: «أي هب لنا ما نثبت به من القوة والرعب (في قلب العدو) ونحوه من الاسباب.

(2/709)


قال ابن عرفة: وهذا على مذهبه في أن العبد يستقل بفعله ونحن نقول: المراد ثبت أقدامنا حقيقة.
قوله تعالى: {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} .
تنبيه على أن قتالهم إياهم إنما هو لوصف كفرهم لا لغرض دنيوي، وهنا محذوف مقدر أي فقاتلوهم فهزموهم.
وحكى ابن عطية هنا والزمخشري أن (ايشي) كان له ستة أولاد أحدهم (داود) وكان صغير السن فمر في طريقه بثلاثة أحجار، قال له: كل واحد منها خذني (فَبِي تقتل) جالوت فجعلها في مخلاته وطلب جالوت (المبارزة) ، فقال طالوت: من يبرز فيقلته فأنا أزوجه بنتي وأحكمه في مالي؟ وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع والتأمت الحجارة فوضعها في (المقلاع) وسمى بالله وأداره ورماه فأصاب رأس جالوت فقتله وحزّ رأسه وجعله في مخلاته.
قال ابن عرفة: المقلاع شبه الوضف.

(2/710)


الزمخشري: / وزوجه طالوت ابنته وروي أنه (حسده) وأراد قتله ثم تاب.
قيل لابن عرفة: كيف صحّ هذا وقد حكى الزمخشري عن بعضهم أنّ طالوت (نبي) . والنّبي معصوم؟
فقال: الأكثر على أنّه غير نبي وقد (تاب) من هذا، ومعلوم ما فيه.
قال ابن عرفة: وهذه الآية يرد بها على الكوفيين في قولهم: إن الواو تفيد الترتيب لأن المفسرين نقلوا هنا أنّ الهزيمة إنما كانت بعد أن قتل داود جالوت فحينئذ انهزموا وتفرقوا.

(2/711)


فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)

قوله تعالى: {مِمَّا يَشَآءُ ... } .
قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأرض ... } .
قال ابن عطية: أي لولا دفعه لكفر بالمؤمنين لفسدت الأرض بعموم (الكفر) من أقطارها، لكه لا يخلو زمان من داع إلى الله ومقاتل عليه إلى أن جعله في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال مكي:

(2/711)


أكثر المفسرين على أن المراد لولا ان يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي (لأهلك) لاناس بذنوبهم.
وضعفه ابن عطية قال: والحديث الذي ذكر عن ابنِ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما المعارض للآية لا يصح.
قلت: انظره في تفسير مكي.
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يبدي في هذه الآية معنى ذكره البيانيون وهو الفرق بين قولك: أكلت بعض الرغيف وبين قولك: أكلت الّرغيف بعضه. وكذلك: أكلت بعض الشاة، وأكلت الشاة بعضها. (فما تقول) إلا أذا كان المأكول أكثرها أو كان أفضلها، لأنه من باب إطلاق اسم الكل على الجزء ولا يكون إلا لمعنى. قال: وفي الآية حجة على من يجعل لفظ البعض لا يطلق إلا على الأقل وهو (خلاف نقله) الآمدي في شرح الجزولية في باب التثنية والجمع لأن البعض الأول عبر به عن الدافع والبعض الثاني عن المدفوع، والدافع إما أقل من المدفوع أو أكثر أو مساو.
وأجيب بأن هذا لازم إذا كانا قسمين فقط ولعلها ثلاثة أقسام دافع ومدفوع عنه ومدفوع.

(2/712)


قال ابن عرفة: وفي الآية حجة لمن قال: إن العقل ما خلا عن سمع قط لاقتضائها أنّه لولا ذهاب الفساد بالصلاح المرشد إلى اتباع أوامر الله ونواهيه لعمّ الكفر والفساد الأرض، فلو خلا العقل من سمع في زمن من الأزمان لهلك الخلق كلهم.
فقال: بعض الطلبة بمحضره: إنّما يتم هذا على أحد تفسيري ابن عطية.
فقال ابن عرفة: والآية دالة على أنّ الفساد هو الأصل والأكثر فيستفاد (منها) فيما إذا كنّا شككنا في صفته، واحتملت الصحة والفساد أنّها تحمل على الفساد كقولهم في فداء المسلمين من أيدي الكفار بالسلاح والكراع هل يجوز؟ وتغلب مصلحة استخلاص المسلمين منهم على مفسدة تقوي الكافرين بالسّلاح أو يمتنع؟ وكذلك إذا تترّس الكفار بالمسلمين هل يباح قتل الترس أم لا؟
قوله تعالى: {ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين} .
قال ابن عرفة: هذا احتراس وهو حجة لأهل السنة لأن ما قبلها تضمّن أنّ الله تعالى يذهب الفاسد بالصالح فلو اقتصر عليه لأوهم وجوب مراعاة الأصلح على الله تعالى فبين بهذه الآية أن ذلك محض تفضل من الله تعالى ولا يجب عليه شيء.

(2/713)


قال ابو حيان: «وَلَكِنّ» استدراك بإثبات الفضل على جميع العالمين لما يتوهمه من يريد الفساد أن الله غير متفضل عليه إذ لم يبلغه مقاصده.
قال ابن عرفة: هذا بناء على أنّ ما بعد (لَكِنّ) لا يكون (مضادا) لما قبلها، ومن يجيز كونه مخالفا له لا يحتاج إلى هذا بل نقول: معناه لهلك النّاس كلّهم بغلبة الفساد. (وعلّل تفضله) بالجميع لأنّه عام يناله المفسد والمصلح والمدفوع عنه، أما نيله المدفوع فظاهر وأما المفسد فلأن منعه من ذلك منقذ (له) من الهلاك ودخول النّار فيصير صالحا.

(2/714)


تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق ... } .
قال ابن عرفة: الإشارة إلى الآيات المتقدمة. وعبر عن التلاوة الماضية بصيغة المستقبل للتصور والدّوام، وإمّا أن يكون «نتلوها» مستقبلا حقيقة والإشارة إلى المتقدم باعتبار لفظه فقط. مثل: عندي درهم ونصفه، أو الإشارة إلى المستقبل (المقدر) في الذهن تحقيقا لوقوعه وتنزيلا له منزلة الدافع حقيقة. وفي الآية التفات بالانتقال من الغيبة إلى التكلم.
قوله «ءَايَاتُ اللهِ» إشارة إلى عظمها وجلالة قدرها.

(2/714)


وقوله «نَتْلُوهَا» لم يقل: يتلوها الله عليك فعبر (بالنون المشتركة) بين المتكلم وحده وبين المتكلم ومعه غيره إشارة إلى بلوغها للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بواسطة الملك.
قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} .

(2/715)


ابن عرفة: هذا كالنتيجة بعد المقدمتين لأن تلك الآيات المعجزات دالة على صحة رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وأكدت رسالته ب (أن) واللاّم بورودها بهذا اللفظ لأنه أبلغ من قوله وإنّك (المرسل) كما قال {يس والقرآن الحكيم إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} قاله الزمخشري في قول الله عَزَّ وَجَلَّ في سورة العنكبوت {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين.}

(2/716)


تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)

قوله تعالى: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ ... } .
قال (الزمخشري) : الإشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت فقط في السّورة، أو التي (ثبت) علمها عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن عرفة: بل الإشارة إلى ما قبله يليه وهي الرسل المفهومة من قوله {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} قال ابن عرفة: فهذا التفضيل إما مطلقا / أي بعضهم أفضل من بعض (مطلقا) ، أو من وجه دون وجه، فبعضهم أفضل من بعض في شيء والمفضول في ذلك أفضل من الفاضل في شيء آخر، فهل هو كالأعم مطلقا أو كالأعم من وجه دون وجه، والظاهر الأول. وما ورد في الحديث: «لا تفضلوني على موسى ولا ينبغي لأحد أن يقول: أنا أفضل من يونس بن متى» فلا يعارض هذا لأن الآية اقتضت تفضيل بعضهم على بعض من غير تعيين الفاضل من المفضول.
قيل له: معلوم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل الخلق؟
(فقال) : بان ذلك يعتقده (الإنسان) ولا يقوله بمحضر الكفار لئلا يقعوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتنقيص (فيتركه) سدّا للذريعة، أو يجاب بأنه تواضع من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قاله الغزالي كقوله: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» .
وأجاب القاضي عياض في الإكمال عن معارضة حديث نوح
لحديث «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» وحديث «لا

(2/716)


تفضلوا بين الأنبياء» مع حديث «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» .
أحدها أن يكون قبل إعلام الله له أنه أفضل ولد آدم أو يكون على طريق الأدب والتواضع، أو المراد: لا تفضّلوا بينهم في النبوة وإنّما تفضيلهم بخصائص خص الله بها بعضهم كما قال {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ الله} الآية.
قيل لابن عرفة: (إنّ) ابن عطية أخطأ في قوله هنا لأن يونس عليه السلام كان شابا وتشيخ تحت أعباء النبوة؟
فقال: لا شيء في مثل هذا.
قال ابن عرفة: وكون بعض الرسل أوتي ما لم يؤته النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (لا ينافي كون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) أفضل الخلق لأن المفضول قد يختص بفضيلة هي ليست في الفاضل كما قالوا: إن (أفضل) الصحابة أبو بكر مع أن لبعضهم من الخصوصيات ما ليست في أبي بكر، وكذلك كون عيسى (اختص) بإحياء الموتى وموسى بالكلام لا ينافي كون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل منهم، وكذلك قوله في سورة النجم {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} وتكليم الله للرسل ليس بمعجزة، وكذلك رفع الدرجات مشترك بينهم، فلذلك لم يسنده إلى معين (ولما كان إيتاء البينات والتأييد خاصا بروح القدس أسنده إلى عيسى.
والكلام هنا المراد به) كلام الرحمة.

(2/717)


فإن قلت: وكل رسول أيّد بروح القدس وهو جبريل؟
قلت: عيسى اختص من ذلك بقدر زائد من صغره إلى كبره لتكونه من نفخ جبريل عليه السلام في فرج مريم وتكلّمه في المهد.
قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ... } .
قال الزمخشري: مشيئته قَصْدٌ وَإلجاءٌ لأنّ العبد عنده يستقل بفعله وفعله بإرادته فيقول: إنّه لا تتعلق إرادة الله تعالى بذلك الفعل.
قال ابن عرفة: وفي هذه الآية عندي حجة لمن يقول: إنّ العدم الإضافي تتعلق به القدرة لأن المعنى: ولو شاء الله عدم اقتتالهم.
فقيل له: فرق بين الإرادة والقدرة؟
فقال: قد تقدم الخلاف في الإرادة هل هي مؤثرة أو لا؟ والصحيح أنه اختلاف لفظي (وأنَّه) خلاف في حال. فإن كان المقصود بها الإبراز من العدم إلى الوجود فليست مؤثرة، إن أريد به كون الشيء على صفة مخصوصة فهي مؤثرة، وإذا كانت مؤثرة فيه كالقدرة وقد تعلقت هنا بالعدم.
قال (السكاكي) : ومفعول (شاء) (لا يحذف) إلا إذا كان (عدما) أو أريد به العموم.

(2/718)


قوله تعالى: {فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ... } .
قدم المؤمن لشرفه وإلاّ فالكافر أكثر وأسبق وجودا.
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله} إما تأكيد، أو المراد بالأول جميع الخلق. (والمراد) بهذا المؤمنون.
قوله تعالى: {ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} .
صريح في مذهب أهل السنة وهو ينعكس بنفسه، فكل مراد مفعول لقوله ( {ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} . وكل مفعول مراد) . ولقوله: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا} فدل على أنه أراد اقتتالهم إذ لو لم يرده لما وقع. انتهى.

(2/719)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم} .
قال ابن عطية: (هو عام في الجهاد والتطوع) . والتحاكم في هذا إلى السبب المتقدم (هل ينهض) إلى وجوب القصد عليه أو يعم فيه وفي غيره؟
قال ابن عرفة: وفرقوا بين قولك: تَصَدّقْ، وبين قولك: يا غني تَصَدّقْ. بثلاثة أوجه: إما للوصف المناسب، أو تنبيه المخاطب، أو استحضار ذهنه. وإما خوف احتمال الشركة في النّداء.

(2/719)


فإن قلنا: إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة فينتفي احتمال (الشريك) هنا، وأيضا فسبب النّزول يعين كون الخطاب للمؤمنين فانحصر كون فائدته إمّا التنبيه أو الإشعار بأنّ سبب الأمر بذلك وصف الإيمان.
قوله تعالى: {مِمَّا رَزَقْنَاكُم ... } .
مذهب أهل السنة تعميم الرزق في الحلال والحرام، وأمروا هنا بالحلال لأن (من) للتبعيض فيبقى البعض الآخر.
قوله تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ ... } .
واليوم حمله المفسرون على يوم القيامة.
قال ابن عرفة: وعندي أنه يوم موت كل واحد لأن من مات قد قامت قيامته.
قيل لابن عرفة: يلزمك الإضمار لأن يوم القيامة لا بيع فيه بالإطلاق ويوم موت كل واحد لا بيع له فيه ولا خلة له فيه، وإلاّ فالبيع لغيره ثابت له فيه لأن غيره حي قطعا؟
فقال: إنّما تعلق النّفي بيوم الموت والبيع غير ثابت فيه من حيث كونه يوم الموت، ونفي البيع لايستلزم نفي الخلة لأنه قد لا يكون عنده ما يبيع وقد يكون (له) صاحب يحميه وينصره، ولا يلزم من نفي الخليل نفي الشفاعة لأن العدو قد (يرق) لعدوه ويشفع فيه،

(2/720)


ولأن الخليل يستنقذ بالانتصار والقوة والغلبة والشفيع يستنقذ بالرغبة والفضل لا بالقوة.

(2/721)


اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

قوله تعالى: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم ... } .
قال الامام ابن العربي في شرح الاسماء الحسنى: يقال: حي وحيى ويحيي وقيل: حاي على وزن فاعل والخبر آكد، أي جنس الحي، وقيل: هو الحياة والحي نوع من القبيلة سمى به مجازا لأن به يستعزون على حماية أنفسهم وحياة مواشيهم بالخصب ورعي الحَيَا، وشربه وهو المطر، والحياة وصف للجسم (عرض) إذا وجدت في جسم أو جوهر كان دراكا فعالا والعرب إذا أرادت الإدراك والحس قالت: هذا حي، والحي في الشاهد من قوله: حياة. وأما الغائب فبعضهم قال: لا أقول: إنّ الله حي بحياة، إذ لم يرد فيه ولا في السمع والبصر ونقول: (عالم بعلم) لِوروده «.
وقال الامام الغزالي: والكثير من علمائنا: الحي: الفعال الدرّاك.
وهو باطل بوجوه: منها أن البارىء في الأزل حي مدرك بنفسه وصفاته ولم يفعل، وأيضا الإدراك معنى غير الحياة والفعل فكيف يفسر معنى بمعنى مغاير له، واعلم أنّ وجود الحياة مصحح للادراك والفعل فيلزم الإدراك إذ لايصح حي غير مدرك ويصح الفعل ولا يلزم. ووجوب الحياة للبارىء يختص بخمسة أوصاف: أنه لم يسبقه موت، ولا (يعتريه) ،

(2/721)


وليس له (بلل) ورطوبة، ولا يحتاج إلى غذاء، فإنه يطعم وهي للعبد بعكس ذلك كله.
قال الزمخشري: والحي الباقي الّذي لا سبيل للفناء عليه وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم ويقدر.
قال ابن عرفة: وكل شيء يصح اتصافه بالعلم والقدرة لكن الحي بغير واسطة والجماد بواسطة الحياة.
قال ابن عرفة: قال ابن عطية: قال المعتزلة وقوم: الله حي لا بحياة، وهو باطل. وقال آخرون: حي بحياة، وقال قوم: هو حي كما وصف نفسه، وسلم ذلك أن ينظر فيه.
وقد تقدم الخلاف في الصفات فنحن نثبتها ونقول: الله عالم بعلم، قادر بقدرة. حي بحياة. المعتزلة ينفونها، وتقدم الخلاف بيننا في الأحوال كالعالمية والقادرية والحيية. فمنا من يثبتها، ومنا من ينفيها، والمثبتون لها قسموها على قسمين: معللة وغير معللة، والمعللة عندهم مشروطة بالحياة والسوادية والبياضية غير معللة، والعالمية معللة كالقادرية. وكان بعضهم يرد على من يقول: إنها معللة بصفات الحياة لأن الحياة حال ليست معللة لئلا يلزم عليه تعليل الشيء بنفسه.
قوله تعالى: {الحي القيوم ... } .
قال الامام ابن العربي: على وزن فيعول: اجتمعت ياء وواو، سبقت إحداهما بالسكون فقلبت وأدغمت. والقيام أصله القيوام وأهل

(2/722)


الحجاز يصرفون الفعال إلى الفعلان فيقولون في الصّداع صداع. والقيم عند سيبويه فيعل للتأكيد، فقلب وأدغم. وأنكر الفراء أن في الأمثلة فيعل، وقال: أصلها فعيل ككريم وكان (أصلهم) أن يجعلوا الواو وألفا لافتتاح ما قبلها ثم يسقطونها لسكونها وسكون الياء بعدها فلمّا فعلوا ذلك صار فعيل على لفظ فعل فزادوا ياء ليكمل بها بناء الحرف.
قال ابن العربي: واختلفوا في معناه فقيل: الدائم الذي لا يزول، فالقيوم معناه: الباقي الدائم. وقيل: القيوم هو القيم على كل شيء بالرعاية والمدبر لجميع أمور العالم بمعنى: الحفيظ والمدبّر. وقيل: الذي لا تفنيه الدهورو ولا يتغير بانقلاب الأمور فهو بمعنى: الثابت القدوس.
قال: والصحيح أنه مبالغة قائم من قام إذا أطاق.
قال: وروى ابن راشد الأزدي أنه ورد على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له: «ما اسمك؟ فقال عبد العزى بن (غاويه» ) فقال له: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: بل اسمك عبد الرحمان بن راشد، قال: من الذي معك؟ قال: مولاي قال: ما اسمه؟ قال: قيوم. قال: ولكنه عبد القيوم «.
ورواه الدارقطني وعبد الغني الحافظ كذلك ورواه ابن (رشد) قال:» ما اسم مولاك. قال: القيوم. قال:

(2/723)


لا بل عبد القيوم «والدارقطني أحفظ وأوثق. قال: فأما القائم فله في اللغة ثلاثة معان: قام إذا انتصب وعلا، وقام بالامر أي استقل به، وقام إذا لازم. قال الله تعالى: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} فقيل كلها حقيقة، وقيل: الأول فقط، واختلفوا في معنى كون الله قائما بنفسه، فقيل: لا يحتاج إلى مكان، وقيل: موصوف بصفاته العلية، وقيل: مستغن عن كل شيء. والصحيح أنه لا يصح وصفه إلا مُضافا لما يبينه فإذا قلت: قائم على كل نفس بما كسبت فصحيح معنى وارد شرعا، وإن قلت: قائم بنفسه فصحيح لم يرد. واختلفوا في معنى قائم على كل نفس بما كسبت، فقيل بما كسبت من رزق تفضلا فهو امتنان، وقيل: بما كسبت من عمل يحفظه عليها فهو وعيد. وقيل: يطلع عليها لا يخفى عليه من أمرها شيء، وقيل: المراد الملائكة الموكلون بحفظ بني آدم لا يستوون مع الأصنام فكيف بخالق الملائكة ومن هو قائم عليها ومدبرها وهذا مجاز.
ابن العربي: والصّحيح أنه قائم بالخلق والحفظ والرزق وغير ذلك فهو غني عنه.
قوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} .

(2/724)


قال ابن عرفة: هذا كالدليل / على كونه حيا قيوما و {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} كالدّليل على أنه لا تأخذه سنة ولا نوم.
فان قلت: نفي السِّنة يستلزم نفي النوم فهلا قدم النوم على السنة؟
قال: فالجواب من وجهين:
الأول منهما: (قصد) نفى السنة بالمطابقة واللزوم. الثاني: إنّا نجد من يدافع النوم لا تأخذه سنة لأنه مهما تأخذه السّنة يدافعها ويغلبها حتى يأتيه النوم غلبة فينام فما يلزم من عدم السّنة عدم النوم.
قوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السماوات} دليل على أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى لأنها ما في السَّمَاوَاتِ وما في الأرض.
قوله تعالى: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ... } .
قال ابن عرفة: ورد النّفي بصغية الاستفهام وهو أبلغ لاقتضائه موافقة المخاطب عليه.
قال ابن عطية: الإذن قسمان فهو في الشفاعة في الخروج من النّار بمعنى الأمر لحديث «يامحمد ارفع رأسك تعطه واشفع تشفع» ، وهو ((في شفاعة غيره من الأنبياء والعلماء وشفاعة (الجار) والصاحب الذين يشفعون)) قبل أن (يؤمروا) بمعنى العلم والتمكين.

(2/725)


قال ابن عرفة: (يريد) بمعنى خلق الدّاعي والقدرة على ذلك.
قال: واقتضت الآية ألاّ شفاعة إلا بإذن والإذن فيها يقتضي قبولها فيعارض قوله تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} فدلّ على أنّ هناك من يشفع ولا تقبل منه، إلا أن يجاب بأن تلك سالبة، مثل: الحائط لا يبصر (لا معدومة) مثل: زيد غير بصير، فليس المراد شفاعة الشافعين لا تنفعهم بل هو من باب نفي الشيء بنفي لازمة مثل:
على لا حب لا يهتدى بمنارة ... أي ليس له منار يهدى به، أي لا شافع هناك فتنفع شفاعته.
قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ... } .
هنا دليل على عموم تعلق علمه بالجزيئات والكليات فيرد بها على من نفى تعلقه بالجزيئات.
قيل لابن عرفة: قد يقال إنه دليل ظاهر لا نص وندعى تخصيص عمومه؟
فقال: استدلوا بظواهر (الآي) في (كثير) من المطالب وتعقبوا على ابن الخطيب في قوله في المحصول: إن الدلائل السمعية لا تفيد الظن فضلا عن اليقين.

(2/726)


قال ابن عرفة: وتقدم لنا سؤال وهو أنه تسلط النفي هنا على الأخص دون الأعم فلو قيل: ولا يعلمون شيئا من علمنا بل علمه إلا ما شاء لكان أبلغ لأن الإحاطة بعلم الشيء أخص من مطلق علمه.
قال: والجواب أنّا إن قلنا: إن العلوم كلها متساوية فلا فرق بين الإحاطة وعدمها.
وإن قلنا: إنها غير متساوية فالسؤال وارد.
وعادتهم يجيبون بأن (الآية) خرجت مخرج التمدح. والعلوم قسمان: ضرورية ونظرية، فالضرورية لا يقع عليها مدح ولا ذم لأنها جبرية يستوي فيها كل الناس وإنما يقع المدح على العلوم النظرية وهي لا تحصل إلاّ بالإحاطة لأنها ناشئة عن مقدمتين والعلم بالمقدمتين مستلزم الإحاطة بعلم النتيجة، فالإحاطة بها وعلمها (متساويان) .
قيل لابن عرفة: الآية دالة أن المعدوم (يصدق) عليه شيء لأنّا إن لم نجعله داخلا تحت مسمى شيء لزم إبطال العمل بمفهوم الصّفة لأنّه يكون مفهوم الآية (أنهم) يحيطون بالمعدوم من (تعلق) علمه وهذا كفر؟
فأجاب: بأنه مفهوم أحرى لأنهم إذا لم يحيطوا بالموجود فأحرى المعدوم.
قلت: وقال بعضهم: إن هذا السؤال غير وارد لأن المعنى إلا بما شاء أن يحيطوا به فإنهم محيطون به ولا يلزم منه نفي تعلق المشيئة بالمعدوم بل يبقى الأمر مسكوتا عنه فلا يلزم تعلق الحكم بنفيه ولا بإثباته.

(2/727)


قال ابن عطية: «وقد قال الخضر لموسى عليهما السلام: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلاّ ما نقص هذا العصفور من البحر» .
قال ابن عرفة: شبّه ما ليس بمُتناه بما هو متناهٍ لأن البحر متناهٍ، فالنقص فيه معقول وليس المراد حقيقة النقص، بل معناه نسبة علمي وعلمك من معلوم الله تعالى الذي لم ندركه نحن كنسبة ما يتعلق بالعصفور من ماء البحر إلى ماء البحر. انتهى.
قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض ... } .
قال ابن عرفة: كلام الزمخشري هنا حسن وكلام ابن عطية في بعضه إيهام والألفاظ الموهمة إذا وردت من الشارع تأولت وردت الى الصواب، وإن وردت من غيره لم تتأول لأن الشارع يذكر الألفاظ الموهمة للابتلاء بها {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} (فالمحق) يصرفها عن ظاهرها إلى الصواب والمبطل يقف مع الظاهر، وأما إذا وردت من غير (الشارع) فلا تتأول.
قلت: وكذا قال الزمخشري: لفظ الكرسي تخييلُ. والتخييل أن يعبر عن الشيء بلازمه كقوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} قوله تعالى: {وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ... } .

(2/728)


ان قلت: هلا قيل: حفظُها، بضمير جماعة ما لا يعقل أو: حفظُه، بضمير الكرسي لا شتماله على العرش والسّماوات والأرض، (والشي) (في نفسه) ليس كهو مع غيره، فلا يلزم من نفي الثقل (عن) السماوات والأرض (بخصوصيتها) نفي الثقل (عنها) مع غيرها؟
فالجواب: أنّه (خصهما) بالذكر لأنهما المشاهدان للإنسان الذي يراهما ويوافق على إمساكهما وعدم إزالتهما ليكون ذلك أقطع في طريق / الاستدلال وأقوى في قيام الحجة عليه.
قوله تعالى: {وَهُوَ العلي العظيم} .
قال ابن عطية: أي عظيم القدر والخطر وليس من عظيم الأجرام وحكى (الطبّري) عن قوم أن العظيم بمعنى المعظم كقولهم: العتيق بمعنى المعتق، وأنكره آخرون وقالوا: لو كان بمعنى معظم لوجب ان لا يكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم إذ لا معظم له حينئذ.

(2/729)


قال ابن عرفة: وهذا الإنكار غير صحيح، بل يفهم كما قال الضرير في أرجوزته لأنه قسم الحمد على قسمين: قديم وحادث، فالقديم حمده تعالى نفسه.

(2/730)


لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين ... } .
نقل ابن عرفة عن ابن عطية الخلاف في سبب نزولها ثم قال: الظاهر عندي (أنّها) على ظاهرها ويكون خبرا في اللفظ والمعنى. والمراد أنه ليس في الاعتقاد إكراه وهو أولى من قول من جعلها خبرا في معنى النّهي. وكان أبو عمر ولد الأمير أبي الحسن على المريني في (أيام) مملكته جمع كل من كان في بلده من النّصارى وأهل الذمة وقال لهم: إما أن تسلموا أو ضربت أعناقكم، فأنكر عليه ذلك فقهاء بلده ومنعوه وكان في عقله اختبال.
قيل لابن عرفة: من فسّر الدين بالإسلام لا يتمّ إلا على مذهب المعتزلة القائلين بأن الاعتقاد غير كاف.
فقال: قد قال الله تعالى: {إِنَّ الدين عِندَ الله الإسلام} وفسره في الحديث «بأنّ تشهد أن لاَ إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» .

(2/730)


قوله تعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي ... } .
(قد) للتوقع لأن المشركين كانوا يتوقعون بعثة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وعارضوها بقوله تعالى: {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} فجعل الخبيث مخرجا من الطيب، وعكس هنا. وأجيب: بأن هذا في أول الإسلام كان الكفر أكثر وتلك في آخر الإسلام كان الإيمان أكثر ودخل الناس في الدين أفواجا.
قوله تعالى: {فَمَن يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله ... } .
قدم الكفر إما لأنّه من دفع المؤلم، أو لأنه مانع ولا يتم الدليل على الشيء إلاّ مع نفي المانع المعارض ولذلك قال في الإرشاد: «النظر في الشيء يضاد العلم بالمنظور ويضاد الجهل به والشك فيه» . فإذا كان الكافر مصمما على كفره استحال إيمانه وإذا ظهر له بطلان الكفر وبقي قابلا للإيمان ونظر في دلائله أنتجت له الإيمان.
قوله تعالى: {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى ... } .
قال الزمخشري: هذا تمثيل للمعلوم بالنّظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس (ونظرٌ في دلالات أنتجت له) حتى يتصوره السّامع كأنّه ينظر (إليه) بعينه.

(2/731)


ابن عطية: هذا تشبيه واختلفوا في المشبه بالعروة فقال مجاهد: العروة الإيمان وقال السدى: الإسلام. وقال سعيد بن جبير والضّحاك: (العروة) لا إله إلا الله.
قال ابن عرفة: إنما يريد المشبه خاصة ولو أراد المشبه به لكان تشبيه الشيء بنفسه.
قوله تعالى: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
قال ابن عطية: لما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات سميع من أجل النّطق وعليم من أجل المعتقد.
وقال الفخر: هذا دليل على أنّ اعتقاد القلب الايمان غير كاف ولا بد من النطق.
قال ابن عرفة: لايتم هذا إلاّ على مذهب المعتزلة الذين ينكرون الكلام النفسي ونحن نقول: كلام النفس مسموع ولذلك نتصوره في الكلام القديم الأزلي وهم ينكرونه.

(2/732)


اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

قوله تعالى: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ ... } .
أفرد الولي هنا لأن الإيمان من لوازمه التوحيد والكفر من لوازمه الشرك وتعدد الآلهة.

(2/732)


قوله تعالى: {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظلمات إِلَى النور ... } .
وأورد الزمخشري في أول سورة الأنعام سؤالا فقال: لأي شيء جمع الظلمات وأفرد النور وحقه إن كان يورده هنا؟ وأجاب بتعدد طريق الشرك واتحاد طريق الإيمان.
قال ابن عرفة: وإخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور بالفعل حقيقة، لأنهم كانوا كافرين فآمنوا، والكافرون كانوا في مظنة الإيمان أو القبول إلى الإيمان فأخرجهم إلى التصميم على الكفر والقسمة رباعية كفر مستديم إلى الموت وإيمان دائم إلى الموت وكفر بعد الإيمان وإيمان بعد كفر فتضمنت الآية القسمين الأخيرين.
قال ابن عرفة: إما أن يتجوز في لفظ «ءَامَنُوا» فيريد به المستقبل ويبقى «يخرجهم» على ظاهره، أو يبقى «ءَامَنُوا» على ظاهره ويتجوز في لفظ «يُخْرِجُهُم» وغلب في الآية مقام الوعظ والتخويف على مقام البشارة فلذلك لم يقل في الأول: {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وذكر في الثاني.

(2/733)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ ... } .
قوله تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} .
إن قلت: هلا قال نمرود: أَنا هو الَّذي يأتي بها من المشرق فليأت بها ربّك من المغرب؟
قلت: إنه لا يقدر أن يقول ذلك لئلا تقوم عليه الحجة لأن الشمّس كانت تطلع من المشرق قبل أن يوجد نمرود.
وذكره ابن عطية فقال: إن ذوي الأسنان يكذبونه.

(2/734)


أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

قوله تعالى: / {أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ ... } .
قال ابن عطية عن ابن عباس وجماعة: هو عزيز بن منبه، وجماعة هو أرمياء. (وقال ابن اسحاق أرميا هو الخضر) .
(وضعفه ابن عطية. قال: إلاّ أن يكون اسما وافق اسما لأن الخضر) هو معاصر لموسى عليه السلام، والّذي مر على القرية (

(2/734)


هو) بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب بن منبه.
قال ابن عرفة: هذا بناء منه على أنّ الخضر عليه السلام مات والنّاس يقولون: لم يزل حيا إلى الآن على أنّ العلماء قد حكوا في موته خلافا.
(قال ابن عرفة: وعطفه) بغير فاء دليل على سرعة القول حتى أنه قال ذلك مع المرور لا بعده وتعجب من نفس الإحياء أو من كيفيته.
قوله تعالى: {بَعْدَ مَوْتِهَا ... } .
ولم يقل من بعد موتها إشارة إلى (كمال) التأخر والانفصال عن أزمنة البعدية لا أوّلها والمجاز فيها من أحد وجهين: إما أن يراد بالإحياء العمارة وبالموت الخراب أو يكون الإحياء حقيقة، والموت كذلك والمراد بعد موت أهلها.
قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثَهُ ... } .
قيل لابن عرفة: ثم للمهلة ولا مهلة بين المائة عام وبين البعثة؟
فقال: إما أن يعتبر أول أزمنة المائة عام أو نقول: المائة عام ماهية مركبة من أجزاء والإماتة بعد مجموعها، ولا تسمى الماهية إلا بكمال أجزائها فكانت المهلة بين إماتته مائة عام وبعثه لابين آخر جزء مائة) .

(2/735)


قوله تعالى: {قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ... } .
قالوا: إنه مات في أول النهار ضحوة وبُعث آخر النهار فقال: لبثت يوما ثم نظر فوجد الشّمس لم تزل على (الجدران) فقال: بعض يوم.
قيل لابن عرفة: وكذلك كان يقول: لو وجدها غابت لأنه (ما مات) إلا ضحوة بعد مضي بعض النهار؟
فقال: ما اعتبر إلاّ ما بعد (موته) وما قبله كان فيها فيها مستصحبا الحياة.
قوله تعالى: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ... } .

(2/736)


الفاء للسببية والنّظر البصر ويستلزم العلم لقول الله: {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وقوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} . الزمخشري حمله على ثلاثة أوجه:
أحدها: لم تمرّ عليه السنون لعدم تغيره مثل «عَلى لا حب لا يهتدي بمناره» فبقاؤه دال على عدم مرور السنين عليه ومرور السّنين عليه يقتضي عدم بقائه.
الثاني: أنّ معناه لم يتغير.
قوله تعالى: {كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً ... } .
قال أبو حيان: أعربوا «كَيْفَ نُنشِزُهَا» حالا من «العظام» أي انظر إلى العظام محياة.
وردّ بأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالا وإنما تقع حالا (كيف) وحدها.
قال ابن عرفة: (يصح) ذلك على إضمار القول كما قال: «جاؤوا بمذق هل رأيت الذيب قط» ؟ .
قوله تعالى: {نُنشِزُهَا ... } .
على قراءة الرّاء معناه نحييها فيحتج به على أن العظام تحلمها الحياة.
قوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ... } .

(2/737)


وقال أولا: {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} ؟
قال ابن عرفة: إن كان كافرا فظاهر، وإن كان مؤمنا (فمذهبنا) على القول بأن العلوم النظرية تتفاوت بالقوة والضعف خلافا لقول أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» . فهذا كان يعلم ذلك لكن علم المشاهدة أقوى من علم ما هو غائب.
قيل لابن عرفة: إنّ بعض الناس يجري على لسانه: يا حمار عزير.
فقال: يتقدم إليه وينهى عن ذلك فإن عاد إليه فلا يبعد أن يقال: إنه يؤدب.
قلت: في كتاب القذف من التهذيب ومن قال: يا شارب خمر أو يا خائن، أو يا آكل الربا، أو يا ابن الحمار، (أو يا ثور) ، أو يا خنزير فعليه النكال. وفي المدارك للقاضي أبي الفضل عياض رَحِمَهُ اللَّهُ في باب نوادر من أخبار مالك سأله رجل عمن قال للآخر: يا حمار؟ قال: يجلد. قال: وإن قال له: يا فرس؟ قال: تجلد أنت.
ثم قال: يا ضعيف هل سمعت أحدا يقول: يا فرس؟ .

(2/738)


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى ... } .

(2/738)


قال ابن عطية: قال الجمهور: إن إبراهيم لم يكن شاكا قط في إحياء الله الموتى، وإنما طلب المعاينة، وقال آخرون: إنه شك في قدرة الله تعالى (في) إحياء الموتى (ولذلك قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه.
ابن عرفة: هذا كلام لا يليق بابن عباس) . وحمله على ظاهره يلزم عليه الكفر فلا بد من تأويله وهو أن الشك في كيفية وجود الشيء لا يلزم منه الشك في وجود ذلك الشيء، كما أنا لا نشك في موت عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مقتولا ونشك في كيفية ذلك حسبما اختلف فيه الرواة والنقلة.
قال: ومن هنا يستدل على القول بعدم تواتر القراءات (السبعة) غير ملزوم (للقول) بعدم تواتر القرآن جملة.
قال ابن عرفة: فأراد ابراهيم عليه السلام الانتقال من العلم النظري إلى العلم الضروري لأن (النظري) تعرض له الشكوك (والضروري لا تعرض له الشكوك) ولذلك يقول الفخر ابن الخطيب: في كلامه هذا تشكيك في الضروريات فلا يستحق جوابا. قيل له علم (النبي) ضروري لا نظري؟

(2/739)


فقال: علمه بنفس الإحياء ضروري وبكيفيته نظري، وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «نحن أحق بالشك من إبراهيم» على سبيل الفرض والتقدير في حق إبراهيم، وعلى جهة التواضع منه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أي لو فرض وقوع الشك من إبراهيم عليه السلام لكنا نحن أحق بذلك منه.
قلت: تأول عياض في الشفاء هذه الآية بستة أوجه.
أحدها: ما تقدم أنه طلب زيادة اليقين لأن العلوم تتفاوت.
الثاني: علم وقوعه وأراد مشاهدته وكيفيته.
الثالث: المراد اختبار منزلته عند الله تعالى وأن يعلم / إجابة دعوته، والمراد: أو لم تؤمن بمنزلتك واصطفائي (لك) .
الرابع: لما احتج على الكفار بأن الله يحيي ويميت طلبه من ربه ليصحح احتجاجه به عيانا.
الخامس: أنّه سؤال على طريق الأدب أي (أقدرني) على إحياء الموتى.
والسادس: أنه آمن من نفسه الشّك ولم يشك لكن ليجاب فيزداد قربة.

(2/740)


وقول (رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) «نحن أحق بالشك من إبراهيم» نفي لأن يكون من إبراهيم شك أي نحن موقنون بالبعث وإحياء الموتى، فلو شك إبراهيم لكنا أولى بالشك منه (أو) على طريق الأدب أو المراد أمته (الذين) يجوز عليهم الشك أو هو تواضع، فأما قول الله تعالى {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} فقيل: معناه قل يا محمد للشاك: إن كنت في شك، كقوله تعالى: {ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي} وَ {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} وقيل: المخاطب غيره وقيل: إنّه تقرير كقوله:
{ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} وقد علم أنّه لم يقل.
«وقيل: إن كنت في شك فأسأل تزدد علما إلى علمك، وقيل: إن كنت شاكا فيما شرّفناك به فاسألهم عن صفتك في الكتاب؟ وقيل: إن كنت في شك من غيرك فيما أنزلنا إليك.
قال القاضي عياض: واحذر أن يخطر ببالك ما نقله بعضهم عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أو غيره من إثبات شك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما أوحي إليه وأنه من البشر فمثل هذا لايجوز جملة بل قال ابن عباس: لم يشك عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.

(2/741)


وانظر ما قيل على هذا الحديث (في كتاب الإيمان في دفتر الحديث، وفي أسئلة السكوني) .
قوله تعالى: {قَالَ بلى ولكن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ... } .
دليل على أن (العقل) في القلب.
قوله تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ... } .
قوله تعالى: {ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ... } .
أي من الطير لأنهم جعلوه حالا من جزء فيكون نكرة تقدم عليها فانتصب (على الحال) .
قال ابن عرفة: ويحتمل هذا أن يكون على كل جبل من الجبال فيعود الضمير على الجبال المفهومة من كل جبل.
قيل لابن عرفة: هلا بين له ذلك بإعدامهن جملة ثم أيجادهن عن عدم؟
فقال: إيجادهن لايلزم منه إعادتهن بأعيانهن لأنه يشاهد كل قوم أمثالهن: وقد يظن أن الموجود غير هذا مماثل لهن فهذا أغرب، وهو رؤيته

(2/742)


أجْزَاءهُنّ المفترقة (حين) تجتمع وتعود كما كانت أول مرة قالوا: ولما اجتمعت أتت إليه التصق كل جسد مع رأسه.
قال ابن راشد في اختصار ابن الخطيب: في الآية دليل على عدم اشتراط البنية خلاقا للمعتزلة.
فقال ابن عرفة: هذا بناء فيه على أن البنية هي الشكل الخاص وليس كذلك مطلقا بل البنية المشترطة في الرؤية هي الشكل الخاص والبنية المشترطة في الحياة هي البلة والرطوبة المزاجية. نص عليه القاضي والمقترح وغيرهما لأنا نجد الحيوانات على أشكال متنوعة ولو كانت الشكل الخاص لكانت على (شكل) واحد.
قوله تعالى: {يَأْتِينَكَ سَعْياً ... } .
دليل على أنّهن أتينه يمشين خلافا لمن أتينه يطرن.
قوله تعالى: {واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
الحكمة مشروطة (بالإتقان) وهو سأل عن كيفية الإتقان فأخبره أنّه إذا علم كيفية الإتقان فلا يسأل عما وراء ذلك، فَإنّ اللهَ

(2/743)


عَزِيز حَكِيم لا يمانع ولا يعاند في فعله فإذا تدبّر الإنسان في ملكوت الله وقدرته على الأشياء وخلقه لها، فلا يتدبّر فيها وراء ذلك لئلا (يجر به) تدبيره إلى الكفر وفساد العقيدة كما قال تعالى: {فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجع البصر كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ.}

(2/744)


مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)

قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ... } .
قال ابن عرفة: ويتناول (نفقة) النفوس وقدروه على حذف مضاف إمّا من الأول أو من الثاني. وعندي أنّه لا يحتاج إليه لأنّ المنفقين للأموال نشأ عنهم نفقات، ونشأ عن نفقاتهم منافع دنيوية من إعلاء كلمة الله وإظهار الإسلام وتكثير المسلمين وهضم (حمية) الكافرين واستئصالهم ومنافع أخروية بتكثير الثواب في الدار الآخرة كما أنّ الحبّة ينشأ عنها أولاد كثيرة.
وعن الامام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الأولاد حبوب كثيرة.
قال الزمخشري: فإن قلت هلاّ قيل سبع سنبلات بلفظ جمع القلة؟
وأجاب بجواز إيقاع جمع الكثرة على جمع القلة فوقع جمع القلة مثل «ثَلاثَةُ قُرُوءٍ» .
وأجاب ابن عرفة بأنّه لما سلك في الآية مسلك الحظ على النفقة في سبيل الله وتكثير الثواب المعد عليها روعي في ذلك وصف الكثرة فأتى به بجمع الكثرة.

(2/744)


وجعله الزمخشري وابى (عطية) من تشبيه المحسوس بالمحسوس قبل الوجود.
زاد الزمخشري: أو تشبيه محسوس بمعقول مقدر الوجود.
قال ابن عرفة: كان ابن عبد السلام يقول: هذا عندهم في أرض الحجاز وأما نحن فهو عندنا كثير والحبة الواحدة تنبت قدر الخمسين سنبلة أو مائة واما أنّ (في) كل سنبلة مائة حبة فهذا عندنا قليل الوجود.

(2/745)


الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)

قوله تعالى: {الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ... } .
قال ابن عرفة: أتى به غير معطوف لأنه في معنى التفسير للأول فعلى هذا يكون خبر مبتدإ مقدر، أي هم الذين ينفقون أموالهم.
قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ ... } .
عطفه ب (ثم) / إما لبعد ما بين المنزلتين أو للمهلة حقيقة ويكون فيه إشارة إلى أنهم يمنون بنفقة طال (أمدها) وداموا عليها (فأحرى) أن لا يَمُنُّوا بنفس الإنفاق.
قوله تعالى: {مَنّاً وَلاَ أَذىً ... } .
قال ابن عرفة: قالوا الأذى هو الشكوى بذلك والسب عليه.
ابن عرفة: وتقدم لنا سؤال وهو أنه لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم بل العكس، فالمنّ أعم من الأذى فإذا لم يمنّوا فأحرى أن لا يسبّوا عليها.

(2/745)


وأجيب بأن الإنسان قد يشكو بإعطائه النفقة لغيره ويذم معه ولا يمن عليه لأنه إذا رآه يستحيي منه (فلا يمن عليه) . فقال: المن على المعطي يكون بمحضره وفي غيبته.
قال: وإنما عادتهم يجيبون بأن سبب المن أخف من سبب الأذى، فإنهم اعتبروا الفاعل ونحن نعتبر المفعول. فنقول: سبب المن مجرد بذل المال للفقير فقط، وأما الأذية (والتشكي) والسب فما يصدر إلا عن موجب وهو إذاية المعطي للفاعل ونحو ذلك. فلا يلزم من نفي المنّ نفي الأذى.
قال: وقال هنا {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} وقال (بعده) {الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} فعطفه بالفاء.
وأجاب الزمخشري بأنّ الموصول لم يضمّن هنا معنى الشرط وضمنه هناك لأن الفاء تدل على أنّ الإنفاق به استحق الأجر.
قال ابن عرفة: هذا الكلام لا يستقل بنفسه، ولا يزال السؤال واردا، فيقال: لأي شيء أريد الشرط هناك ولم يرد هنا؟
قال: لكن عادتهم يجيبون بأنه لما قصد هناك الإخبار بأن مطلق الإنفاق في سبيل الله (يلزمه) الأجر قلّ أو كثر دخلت الفاء تحقيقا للارتباط، ولما كان المراد هنا إنفاقا خاصا على وجه شبيه بحسنة

(2/746)


موصوفة بهذه الصفة وأكدت خصوصية سلامته من المن والأذى كان ترتيب الأجر عليه كالمعلوم بالبديهة وكالمستفاد من اللفظ فلم يحتج إلى ما يحقق الارتباط.
قوله تعالى: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ ... } .
أفادت الإضافة الاستحقاق أي أجرهم (اللائق) بهم فواحد يقل أجره وواحد يكثر وآخر في مادة التوسط بحسب (عمله) ونفقته. انتهى.
قوله تعالى: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ... } .
قال: الخوف يتعلق بالمستقبل فالمناسب فيه أن يكون الفعل المقتضي للتجدد، والحزن يتعلق بالماضي فالمناسب (أن يكون بالاسم) المقتضي للثبوت والتحقيق.

(2/747)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)

قوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى ... } .

(2/747)


وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

(قوله تعالى) : {وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله ... } .
تأوله المفسرون إمّا على الإضمار في الثاني أي كمثل غارس جنة بربوة أو على الإضمار في الأول أي ومثل إنفاق الذين ينفقون أموالهم.
قال ابن عرفة: والظاهر أن يكون التقدير ومثل مال الذين ينفقون أموالهم فالمال هو الذي يُشبه «جَنَّة بِرَبْوَةٍ» وَ «تَثْبِيتا مِنْ أَنفُسِهِمْ» .
قال ابن عطية: «ابْتِغَاءَ» مفعول من أجله فكيف عطف عليه «تثبيتا» مع أنّ التثبيت سبب في «ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ» ومتقدم عليه فهو علة فيه.

(2/748)


وأجيب بأنّه علة غائبة فذكره أبو حيان.
قوله تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ... } .
قال المفسرون: الضعف هو المثل، أي آتت أُكلها المعهود على مرتين أعني آتته وآتت مثله معه.
قال ابن عرفة: ووقع في ابن الحاجب ما نصه: ولو أوصى بضعف نصيب ابنه فلا نص. فقيل مثله وقيل مثليه.
ابن عرفة: فعلى هذا الخلاف يكون المعنى فأتت أكلها أربع مرات وعلى القول الآخر (يكون) كما قال المفسرون.
قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ ... } .
قال المفسرون: إن أصابها الوابل تؤتي أكلها مرتين وإن أصابها الطلّ فقط تؤتي أكلها مرة واحدة.
ابن عرفة: ولا يمتنع أن يراد أنها تؤتي أكلها مرتين سواء أصابها وابل أو طلّ ويكون ذلك مدحا فيها وتأكيدا في أوصاف حسنها.

(2/749)


أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ... } .
الهمزة للإنكار، أي لا يودّ أحدكم أن تكون له جنّة هكذا! وهذا التشبيه لمن أبطل صدقته بالمن والأذى.

(2/749)


(قوله تعالى) : {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات ... } .
وقد قال: {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} ، يعني أنّ معظمها النخيل والاعناب وفيها من كل الثمرات.
قوله تعالى: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ ... } .
بيان لتمام الحاجة (إلى) ثمر الجنة أو هو احتراس لأن من بلغ الكبر يكفيه ذرية ينفقون عليه ولا يحتاج إلى أحد.

(2/750)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

قوله تعالى: {مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ... } .
يحتمل المستلذات فيعمّ الحلال و (غيره) إلا أن يريد المستلذّ بقيد كونه (حلالا) أو يقال بالعموم لأن الغاصب إذا زكّى مَاغَصَبَ (يجزى) عن ربّه ولكن ذلك بعد الوقوع، وأما ابتداء (فيؤمر) بردّه إلى ربّه، وقيل: الطيب الحلال هنا.
(وقوله) : {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض} .
إشارة إلى الحقيقة وأن الكسب إنّما هو سبب (لا مؤثر) ، لأن ما أُخرج من الأرض يدخل في الكسب فهو عطف خاص على عام أو مقيد على مطلق.

(2/750)


قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ ... } .
إما الحرام أو ما تكرهون على التأويلين في الطيب.
قال ابن عرفة: وعندي أن الإنسان إذا كانت عنده كسرة باردة وأخرى سخنة وهو يكره الباردة فتصدق بها يدخل في هذا.

(2/751)


قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} .
احتراس أن تتوهموا أن الصدقة بهذا يحصل بها نفع للآمر بل النفع لمخرجها فقط.

(2/752)


يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)

قوله تعالى: {يُؤْتِي الحكمة مَن يَشَآءُ} .
قال ابن عرفة: الظاهر أنّ المراد به الفقه والعمل به.

(2/752)


إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

قوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ ... } .
ابن عطية: هي تفسير / الفاعل المضمر قبل الذكر. والتقدير: نعم شيء إبدَاؤهَا.
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: غير هذا. وهو أنّ المازري ذكر في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به» .
الخلاف هل هو إشارة للفعل فقط أو للفعل بصفته (فكذلك)

(2/752)


يجيء هنا إن عاد الضمير على الصدقات بصفتها لم يحتج إلى هذا الإضمار والقرينة هنا تعيّن أن المراد الصفة، وهي قرينة التقسيم بين الإخفاء والإظهار
قيل لابن عرفة: لعل القرينة هي المفسرة للمضمر؟
فقال: ثبت أن المراد هنا (الصّدقة) بصفتها وإنّما ثبت استعمال اللفظ في معنى ودار (الأمر) بين صرفه ذلك المعنى إلى القرينة أو إلى نفس اللّفظ فصرفه إلى نفس اللّفظ أولى.
قوله تعالى: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء ... } .

(2/753)


قال ابن عرفة: لم يقل أو تبدوها وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ.
وعادتهم يجيبون: بأنك إظهارها مظنة الكشف عن حال آخذها، وكثرة السؤال عنه وإخفاؤها مظنة لعدم الكشف عن ذلك فإعطاؤها في العلانية متوقف على علم المعطي وغيره بفقر آخذها فلا تقع إلا في يد فقير لأنه إما أن يسأل عن حاله أو يراه من يعلم أنّه غني فينهاه عن الصدقة عليه وإعطاؤها (سّرا) يتوقف على مجرد علم المعطي فقط بذلك، فقد تقع في يد غني يظنه المعطي فقيرا لأنه لا يسأل عن حاله ولا يطلع عليه من يعرف حاله فيخبره بحاله فلذلك قال في الثاني: {وَتُؤْتُوهَا الفقرآء} .

(2/754)


لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)

قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ... } .

(2/754)


قال ابن عرفة: الخطاب خاص بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو عام له ولسائر المؤمنين كقوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} وهو راجع إلى الخلاف الّذي (حكاه) ابن عطية لأن ما نقله عن سعيد بن جبير وعن النّقاش يقتضي الخصوص وما نقله عن ابن عباس يقتضي العموم.
قال ابن عرفة: وعلى تقدير الخصوص يستلزم العموم فهو خصوص لأنه إذا رفع التكليف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي هو رسول مأمور بالتبليغ والدعاء إلى الإيمان فأحرى أن يرفع عن من سواه.

(2/755)


قال ابن عطية: ذكر النّقاش أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتِىَ بصدقة فجاءه يهودي فقال: أعطني. فقال له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ليس لك من صدقة المسلمين شيء» فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت الآية، فدعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم أعطاه، ثم نسخ الله ذلك بقوله: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} قال ابن عرفة: هذا ليس بنسخ ولكن المتقدمين يطلقون عليه نسخا والمتأخرين يقولون: العام إن عمل به ثم ورد بعد ذلك خاص فهو نسخ له وإن ورد الخاص بعده وقبل العمل به فهو تخصيص لا نسخ.
قال ابن عطية: والهدى المنفي هو خلق الإيمان في قلوبهم، وأما الهدى الذي هو الدعاء إلى الإيمان فهو عليه.
قال ابن عرفة: أما خلق الهدى (فمنفي) معلوم بالضرورة لا يحتاج إلى نفيه، وأما الدعاء إلى الإيمان فغير منفي، ويبقى قسم ثالث وهو الدعاء المحصل للإيمان الكسبي لا الجبري فيقال هديث فلانا إلى الإيمان، أي دعوته إليه فاهتدى بخلاف ما إذا دعوته إليه فلم يهتد فإنك لا تقول: هديته إلى الإيمان، فهذا هو المنفي في الآية، أي ليس مطلوبا بتحصيل الهداية الكسبية لهم إنّما عليك أن تدعوهم فقط، والإضافة على ما قلناه للمفعول. أي ليس عليك أن تهديهم.
قيل لابن عرفة: لعل المراد لا يجب عليك أن تهديهم إلى الإيمان؟ فرده بقول الله تعالى: {ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} فَإِنَّه ليس المراد به الجبر على الإيمان بل خلق الهداية.

(2/756)


قال ابن عرفة: وهذا تسكين لروعته لأنه مضى قبل الآية مقدار ربع حزب في الحض على الصدقة، وعلى (خلوص) النّية، وكرر ذلك وأكد فخشي أن يتهالك عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأجل عدم امتثالهم فأتت هذه الآية تسكينا لروعته وتطمينا لجنانه.
قوله تعالى: {ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ... } .
فالتشديد كما في قوله تعالى: {ولكن الله رمى} وفي بعضها ولكن بالتخفيف. وسبب ذلك أنه إذا كان المخاطب منكرا وظهرت عليه مخائل الإنكار فيؤتي بها مشددة.
ابن عرفة: وهذا أعمّ من قول الله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} (فإن عليك أن تهدي من أحببت) أخص من قولك أنت تهدي من أحببت، ونفي الأخص أعم من نفي الأعم.
فان قلت: الأصل في نسبة المتكلم إلى نفسه فعلا أن يأتي باسمه مضمرا فيقول: ليس عليك إكرام محمد ولكنه علي، ولا تقول: ولكنه على زيد، يعني نفسه.
قال: وتقدم لنا الجواب بأنّه لما كان المعنى خاصا بالله تعالى أتى فيه باسم الجلالة الخاص به ولو قال: ولكنّا نهدي من نشاء لكان عاما لأن الضمائر كلية.

(2/757)


قلت: ولأن النون والالف تكون للمتكلم وحده إذا عظّم نفسه وللمتكلم ومعه غيره بخلاف / اسم الجلالة فإنه خاص بلا شك.
قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله ... } .
يحتمل أن تكون الواو واو الحال (أى) وما تنفقوا من (خير) فلأنفسكم حالة كونهم يقصدون به وجه الله وهذا خبر في معنى الطلب (أو) الأمر أو النهي. انتهى.
قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} .

(2/758)


تأسيس، والمراد بالتوفية في المقدار وعدم الظلم في الصفة لأن من لك عليه طعام موصوف تارة يعطيك مثل الصفة وأقل في المقدار، وتارة يعطيك مثل القدر (وأدوَن) في الصفة.

(2/759)


لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله ... } .
قال الزمخشري: أي اعمدوا للفقراء او جعلوا ما تنفقون للفقراء. ويجوز أن يكون خبر متبدإ (محذوف) أي صدقاتكم للفقراء.
قال ابن عرفة: المقدرات باعتبار المعنى متفقة وباعتبار كيفية الدليل مختلفة «وَسَبِيلِ اللهِ» قال مالك في كتاب الحبس: هو وجوه الخير. بالإطلاق كيف ما كانت.
وقال ابن عبد البر: المشهور عن مالك أنه الجهاد.
قوله تعالى: {أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف ... } .
ولم يقل: من تعفّفهم إشارة إلى اتصافهم بأبلغ وجوه التعفف لأن تعفف المحتاج (المضطر) إلى المسألة ليس كتعفف من لم تبلغ

(2/759)


به الحاجة إلى السؤال فأفاد أن هؤلاء لم يتّصفوا بتعفّفهم اللائق بهم بل اتصفوا بالتعفف الإجمالي.
قوله تعالى: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} .
الخطاب له ولغيره.
قوله تعالى: {لاَ يَسْئَلُونَ الناس إِلْحَافاً ... } .
ونقل هنا ابن عرفة كلام المفسرين ثم قال: ويحتمل أن يكون مثل {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أي لو قدر صدور السؤال منهم لما قدر وقوعه إلا بالإلحاف لأجل ما نالهم من الجهد والحاجة، ويحتمل أن يكون مثل قول الله تعالى {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} فيكون من باب (نفي) استلزام الأخص أمرا وإذا لم يستلزم الأخص أمرا لم يستلزمه الأعم. والمعنى: لا يسألون الناس لأجل الإلحاف (في السؤال) أي لأجل سبب الإلحاف وهو شدة الحاجة وإذا لم يسألوهم لأجل شدة الحاجة فأحرى أن لا يسألوهم لأجل سبب عدم الإلحاف وهو مطلق الحاجة فقط.
قال الفخر بن الخطيب يحتمل أن يراد بالإلحاف (تأكيد) صبرهم.

(2/760)


قال ابن عرفة: ينبغي أن يوقف على قوله: {لاَ يَسْئَلُونَ الناس إِلْحَافاً} مصدر، أي يلحفون إلحافا، أي يبلغون في شدة صبرهم وتجلدهم على الفقر. انتهى.
قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} .
قال ابن عرفة: قالوا: إن العبد يفرق بين حالة طاعته لسيده وهو حاضر ينظر إليه وبين حالة طاعته له في غيبته فمع الحضور يجتهد أكثر.
قيل لابن عرفة: إذا بنينا على مذهب أهل السنّة في التفريق بين (عليم وبصير) فيرد السؤال على ما قلت، فيقال: هلا قيل: فَإنّ اللهَ بِه بصير فهو أخص من (عليم) خلافا للمعتزلة؟ فقال: الآية خطاب للعوام لا للخواص وصفة العلم عندهم (أجلى) اذ لا خلاف فيها، بخلاف بصير فإنّ منهم من ردّه لعليم ومنهم من أبقاه على ظاهره.

(2/761)


الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

قوله تعالى: {الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بالليل والنهار ... } .
قال ابن عطية: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما نزلت في علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه كانت له أربعة دراهم تصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية.
قيل لابن عرفة: التصدق بالليل والنهار لايخرج عن كونه سرا (أو) علانية؟
(فقال: لا يصح الاعتراض على السبب وإنما النظر في ذلك عند تطبيق السبب على لفظ الآية، ويفهم هذا بأنه قسمة رباعية فتصدق (بدرهم) بالليل سرا وبدرهم علانية وفي النهار بدرهم سرا وبدرهم علانية) .
قال: هو في الآية عندي تفسير «سرا» راجع لليل، «وعلانية» للنهار، بدليل إتيان السرّ غير معطوف.
قال: وعادتهم يقولون لأي شيء قدم السر على العلانية مع أنّ نفقة السرّ أفضل من نفقة العلانية. فهلا بدأ بالعلانية ليكون العطف ترقيا لا تدليا لأن عطف الترقي فيه تأسيس وعطف التدلي فيه ضرب من التأكيد؟
قال: فكانوا يجيبون بقاعدة استصحاب الحال، وذلك لأن نفقة السر أفضل من نفقة العلانية لخلوص النية فيها فإذا أنفق أوّلا سرا بنية خالصة واستصحب تلك النية بعينها في نفقة الجهر (فإنفاق) الجهر بتلك

(2/762)


النية الخالصة الغير المشوبة بشيء من الرياء كان في أعلى درجات الطاعة فروعي فيه هذا المعنى فكان ترقيا.
قوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ... } .
ولم يقل: فلهم أجر، لأن المراد أجرهم اللاّئق بهم ولو قيل: فلهم أجر لكان مفهومه أن من فعل دون ذلك لا أجر له مع أنه يؤجر.
قال ابن عطية: ودخلت الفاء لأن الموصول وصل بالفعل ولم يدخل عليه يغير معناه.
قال أبو حيان: وكذلك أيضا إذا كانت الصلة ظرفا أو مجرورا.
وكذا ذكر ابن عصفور في المقرب وشرح الإيضاح.
فإن قلت: إن الظرف المجرور محل والتعليل عند الأصوليين (إنما يكون) بالصفة لا بالمحل.
فالجواب: إنّ المحل هنا ناب مناب متعلقة وهو كائن أو مستقر الذي هو صفة وتقوى هنا حتى صار كأنه هو ولذلك لا يجوز الجمع بينهما.
قال أبو حيان: ومن شروط دخول الفاء أن يكون الخبر مستحقا بالصلة كهذه الآية.

(2/763)


ورده ابن عرفة: بأنه ما علم كونه سببا إلا بعد دخول الفاء لا قبلها فكونه مستحقا بالصلة فرع عن دخول الفاء فلا يصح أن يكون شرطا فيها وموجبا لها.
وأجيب بأن هذا بالنسبة إلى السامع وكلامنا في دخول الفاء بالنسبة إلى قصد المتكلم ونيته.
وعادتهم يردّون على كلام أبي حيان بقوله {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} فإن نفس الخلق غير موجب للهداية وإلا لزم منه مذهب المعتزلة القائلين بمراعاة (الأصلح) ، وعادتهم يجيبون بأن المراد: الذي خلقني هذا الخلق الخاص على هذه الصّفة وهي النبوءة فهو يهدين، وتقدم نظيره في قول الله تعالى
{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} وفي سورة قد أفلح {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} قال ابن عرفة: فإن قلت: ما الحكمة في دخول الفاء مع أنه (يجوز) الَّذي يأتيني له درهم. والمعنى فيه وغير ما فيه الفاء واحد، وكذلك (إن قلت) النفقة هنا (مستلزمة) لثبوت الأجر لهم (مع الفاء ومع عدمها) .

(2/764)


قلت: وعادتهم يجيبون بأن الخبر إذا كان ثابتا وعطف عليه ما يتوهم نفيه وعدم ثبوته فلا بد من الفاء ولا شك أن حزنهم مما يتوهم نفيه فأتي بالفاء الدالة على كمال الارتباط وأنّ ذلك سبب في نفي الحزن والخوف عنهم.
قال: ولفظ الرب هنا دال على أن هذا الثواب محض، تفضّل من الله تعالى كما يقول أهل السّنة خلافا للمعتزلة.
وعادتهم يوردون سؤالا وهو: لأى شيء نفى الحزن عنهم بالفعل والخوف بالاسم مع أن المناسب العكس لأن متعلق الحزن ماض والخوف مستقبل؟
قال: وعادتهم يجيبون بأن النكرة في سياق النّفي تفيد العموم بإجماع، والفعل في سياق النفي مختلف فيه، هل يفيد العموم أم لا؟ والماضي محصور لأنه مشاهد مرئي فمتعلقه غير متعدد، والمستقبل متعلقاته متعددة لأنه غير محصور، فالخوف منه يعظم لكثرة الخواطر التي تخطر (ببال الإنسان) ، (فقد) يخاف من كذا ويخاف من كذا ويخاف من شيء هو في نفس الأمر آمن فيه. فلذلك نفي الخوف بلفظ الاسم الدال على العموم بإجماع ونفي الحزن بالفعل المحتمل للعموم وعدمه.
قلت: ورد هذا بمعنى الإجماع لأن النكرة عند النحويين لا تعمّ إلا اذا كانت مبنية مع (لا) مثل: لا رجل في الدار، بالفتح بلا تنوين.
ويجاب بأنها أعمّ من الفعل بلا شك.

(2/765)


الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)

قوله تعالى: {الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس ... } .

(2/765)


قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون التشبيه بمن يتخبطه «الشيطان من المس (حال) تخبطه. ويحتمل أن يكون التّشبيه بالمتخبط إثر تخبطه)) والظاهر العموم، لأن الآكلين من الربا متفاوتون في الأكل، فالمكثر منهم شبيه به حال التخبط والمقلل شبيه به أثر التخبط.
قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها أنها تقدمها إنفاق الصدقة، والصدقة (من) غير عوض (والرّبا في ظاهر الأمر زيادة من غير عوض) لأنه يدفع قليلا في كثير. وقدّر الفخر المناسبة بأن الصدقة (نقص من المال) والرّبا زيادة فيه، فالنفوس تحبه وتكره الصدقة فجاءت الآية ردّا عليهم وإشعارا بأن ذلك النقص زيادة وتلك الزيادة نقص.
قال الزمخشري:» مِنَ المَسّ «متعلّق ب» يقومون « (أو يقوم، فرد عليه أبو حيان تعلقه ب» يقومون «) لأن قيامهم في الآخرة وليس فيه جنون ولا مس.
قال ابن عرفة: وفيه عندي نظر من وجه آخر وهو (أنّك تقول) :
ما أكل زيد إلا كالشيطان يأكل بشماله. أو تقول: ما أكل زيد بشماله إلاّ كالشيطان (يأكل بشماله) . فهذه الحالة أخف لأنه

(2/766)


في الأولى ذمّ لآكله مطلقا، وفي الثانية ذم له إذا اتّصف بالأكل بالشّمال وقد لا يتصف به، وكذلك هذا يلزم أن يكون التشبيه خاصا بقيامهم من المس فيقال: لعل لهم (حالة) أخرى يقومون (بها) من المس.
قال ابن عرفة: اعلم أن القدماء من المعتزلة ينكرون الجنّ بالأصالة، وهو كفر لا شك فيه فإنه تكذيب للقرآن والحديث، والمتأخرون منهم يثبتونهم وينكرون الصرع.
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا ... } .
قال الزمخشري: الإشارة للعقاب.
قال ابن عرفة: أو لأكلهم الربا لأنه سبب في عقوبتهم وسبب السبب مسبب، وهذا قياس تمثيلي ذكروا منه قياس (الشبه) والتسوية

(2/767)


وهو قياس أخروي بمعنى أن الحكم في المقيس عليه ثابت في الفرع المقيس من باب أحرى فينعكس فيه التشبيه.
ومثله ابن مالك في المصباح بهذه الآية وبقول الشاعر:
كأن انتظار البدر من تحت غيمه ... نجاة من البأساء بعد الوقوع
وبقول الآخر:
وكأن النجوم بين الدّجى ... سنن لاح بينهن ابتداع
فجعل أهل السنة بين المبتدعة بمنزلة النجوم في الظلام.
وقال غيره: الاهتداء بالنجوم يحتاج فيه إلى معرفة استدلال واتباع أهل السنة لا يحتاج فيه إلى تكليف دليل فكان أحرى.
قوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا ... } .
قال الزمخشري: هذا رد على قياسهم.

(2/768)


قال ابن عرفة: بل هو عندي تجهيل لهم، ويكون النّص متقدما فهو قياس في معرض النّص فهو فاسد الوضع وعلى ما قال الزمخشري يكون النص غير متقدم.

(2/769)


يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)

قوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا ... } .
قال ابن عرفة: الأحكام الشرعية منطوية بمصالح الدنيا والآخرة، فلمّا تضمن الكلام السّابق حصول المصلحة الأخروية بالصدقة لقول الله تعالى {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} والعقوبة في الآخرة لفاعل الرّبا تضمّن هذا / أنّه محصل للمصلحة الدنيوية، والربا متضمن للمسفدة الدنيوية لأنّ الربا (ممحقة) للمال والصدقة زيادة فيه.
وحمله ابن عطية على أنه في الدار الآخرة. والظاهر الأول.
وبدأ هنا بالرّبا، وفيما تقدم بالصدقة وطريق المقابلة واللّف والنشر العكس. لكن الجواب لما كان ذكر الصدقة قد يطول الكلام فيه قدّم الكلام (على) الربا ثم عاد إلى الصدقة.
فإن قلت: هلا قيل يمحق الله المال الذي فيه الرّبا فهو أبلغ في التخويف لأن محق المال الذي فيه الرّبا أشد لاستلزامه محق الربا وزيادة؟
فالجواب: أن هذا (أجلى) من محق الربا والمخاطبون عوام.
قوله تعالى: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} .

(2/769)


قال ابن عطية: يحتمل أن يريد: والله لا يحب توفيق الكفّار الأثيم. قاله ابن فورك.
ابن عطية: وهذا غير صحيح لأن الله تعالى يحب التوفيق على العموم (ويحببه) .
قلت: وسمعت القاضي أبا العباس بن حيدرة والمفتي أبا القاسم الغبريني يقولان: هذه نَزْغَةٌ اعتزالية غفل فيها واعتزل من حيث لا يشعر، بل الله يحب الخير والشر تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد والرجل سني لا شك في فضله ودينه.

(2/770)


قال ابن عرفة: إن قلنا: إن نقيض المستحب مكروه فالمعنى ظاهر وإن قلنا: إن نقيضه غير مكروه فهلا قيل: والله يكره كل كفار أثيم، لأن نفي المحبة أعم من الكراهة وعدمها.
قال: وعادتهم يجيبون بقول العرب في المدح (التام) حبذا زيد. (وفي الذم التام لا حبذا زيد) فنفي المحبة عندهم يستلزم الكراهة.
فإن قلت: هلا قيل: والله لا يحب كل (كافر) أثيم فهو أبلغ؟
قلت: إنه لما كان النفي أخص كان (المنفي) أعم.

(2/771)


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)

قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ... } .
قال هنا: «لهُمْ أجْرُهُمْ» وقال فيما سبق: {فَلَهُمْ أجْرُهُمْ} لوجهين:

(2/771)


الأول: أن السّابق (أكمل) وأبلغ لقوله: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} ، فأكّده بالسرّ والعلانية وهنا لم يؤكده كذلك.
قيل لابن عرفة: الأعمال الصالحة تشتمل على النفقة وغيرها؟
فقال: تستلزم مطلق النفقة وتلك نفقة خاصة.
الثاني: إن هذا مؤكد «بإن» فأغنى عن تأكيده بالفاء؟
قلت: لأن الأول موصول مضمن معنى الشّرط فصحّ دخول الفاء في خبره وأن لا تدخل على الشّرط الصريح، فلا يدخل على ما هو مضمّن معناه فدخولها يمنع من تضمين الموصول معناه، وإذا لم يضمن معنى الشّرط فلا يدخل الفاء في خبره.

(2/772)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)

قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله ... } .
حلمه ابن عطية على أحد ثلاثة أمور: إما يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد دوموا على إيمانكم، وإما يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ في الظاهر اتقوا الله إن كنتم مؤمنين في الباطن، وإما يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ بموسى وعيسى آمنوا بمحمد.

(2/772)


فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)

قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ... } .

(2/772)


قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: فيها حجة لمن يقول: إن الترك فعل لأن قبلها {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا} ثُمّ قال: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} .
قال: وعادتهم يجيبون بأنّ هذا كف لا ترك، ونظيره: إذا كان طيب طعام بين يدي رجلين: أحدهما جائع والآخر شابع ولم يأكلا منه منه شيئا. يقال في الجائع: إنه كف (عن الأكل) وفي الشبعان: إنه ترك الأكل.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن قبلها اتّق الله وهو فعل؟
فقال: الأمر بالتقوى ليس هو لذاته والآية إنّما سبقت لتحريم الرّبا بدليل استدلالهم بها في كتاب بيوع الآجال في ربا الجاهلية.
قوله تعالى: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ ... } .
قال الزمخشري: في التنكير للتعظيم. وتقدم استشكاله بأنّ التنكير إنما هو للتقليل والشيوع في آحاد ذلك الشيء.
وتقدم الجواب: بأن التعظيم الصفة والكيفية لا في الكمية والقدر وانظر سورة الفجر.
قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} .
قال ابن عرفة: مذهبنا أنه يجب ردّ الرّبا وهو الزيادة.

(2/773)


قيل لابن عرفة: فكيف يتم مفهوم الآية على مذهبنا فإنّ مفهومها إن لم تتوبوا فليس (لكم رؤوس أموالكم) مع أن مذهبنا بطلان الربا وللمعطي رأس ماله؟
فقال: الجواب إن لم يتوبوا سقط الخطاب لأنه لا يخاطب إلا المؤمن برد الرّبا وأما الكافر فلا (يخاطب برده) حيث كان.

(2/774)


وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)

قوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ ... } .
قال ابن عرفة: تقرر من كلام الإمام عياض في كتاب الوصايا من الإكمال في حديث سعد بن أبي وقاص أن قولك: زيد ذو مال أبلغ من قولك: زيد له مال، ونحوه للزمخشري في أول سورة

(2/774)


آل عمران في قوله: {والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} وفي سورة غافر: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} ونحوه لابن الخطيب في سورة الروم في قوله {فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ} وخالفهم الشيخ (ابن عطية) فقال في سورة الرعد في قوله {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} (انها) دالة على تغليب جانب الخوف على جانب الرجاء لأن قولك ذو مغفرة مقتض لتقليل المغفرة.
قال ابن عرفة: وقال بعضهم قولك: زيد صاحب مال، أبلغ من: ذو مال، لأن ذو مال إنما يقتضي مطلق النسبة سواء اتّصف به / أم لا، بخلاف قولك: صاحب، فإذا بنينا على كلام الجماعة الصحيح فإنما قال «ذُو عُسْرَة» ولم يقل: وإن كان معسرا، إشارة لما (تقرر) في الفقه من أنّ من له دار وخادم وفرس لا فضل في ثمنهن على ما سواهن يجوز له أخذ الزكاة ويسمى فقيرا، مع أنه إذا كان عليه دين يباع عليه داره وخادمه في دينه فليس مجرد الإعسار موجبا لإنظاره (بالدين، فإنّ) الموجب لذلك الإعسار (البين الكثير) فناسب إدخال (ذو) .

(2/775)


قال ابن عطية: و (كان) هنا عند سيبويه تامة بمعنى وجد وحدث. ومن هنا يظهر أنّ الأصل الغنى لأن إدخال «إن» يدل على أنّ الإعسار لم يكن موجودا.
ورده ابن عرفة بأن ذلك (في) الدّين الذي كان (عن) عوض يقول فيه: الأصل المَلاَء، واستصحاب الحال ببقاء ذلك العوض وذهابه على خلاف الأصل، وأما الدين الذي لا عن عوض كنفقة الزوجات والبنين والأبوين فليس الأصل فيه المَلاَءُ.
ابن عطية: حكى المهدوي عن بعضهم أن الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين.
وحكى مكي: أنّ النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر به في صدر الإسلام.
ابن عطية: فإن (قلنا) : فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو نسخ وإلاّ فليس نسخا.

(2/776)


قال ابن عرفة: يريد أنه على الأول يكون نسخا لغويا وعلى الثاني يكون نسخا في اصطلاح الأصوليين.
قال: وهنا أورد القرافي (في قواعده) سؤالا قال: ثواب الواجب أعظم من ثواب المندوب مع أن تأخير الغريم بالدّين واجب والتصدق عليه مندوب والآية نص في أنّ التصدق عليه بن أفضل، ثم أجاب التصدق به يستلزم التأخير وزيادة.
قوله تعالى: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ... } .

(2/777)


وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)

قوله تعالى: {ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ... } .
قال ابن عرفة: عام مخصوص لأن المجانين والأطفال لا يدخلون فيها.
فإن قلت: لا كسب لهم؟ قلنا: تقرر مذهبنا أن الطفل الصغير إذا استهلك شيئا فإنه يغرم مثله أو قيمته من ماله، (فنرى) كسبه معتبرا في الدنيا وهو في الآخرة معفو عنه.

(2/777)


قوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} .

(2/778)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)

قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ ... } .
قال الفخر: تداين مفاعلة فلا (تكون) إلا من الجانبين، فلا يتناول إلا الدّين بالدّين. أو (فسخ) الدّين (بالدّين) فلا يصح حلمه على ظاهره بل المراد به إذا تعاملتم.
وأجاب ابن عرفة: بأنّه يتناول الدّين (بالدّين) عن معاوضة فإن من اشترى سلعة بنقد أو نسيئة فإذا دفع الثّمن حصل له في ذمّة المشتري فله عليه الرجوع بعهدة العيب أو الاستحقاق.
قال الزّمخشري: وإنما قال بدين ليعيد عليه الضمير.
قال ابن عطية: ليرفع الوهم، إن المراد بتداينتم جزاء بعضكم بعضا.

(2/778)


قال ابن عرفة: بلى أتى به ليكون نكرة في سياق الشرط فيفيد العموم.
قوله تعالى: {فاكتبوه وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله ... } .
الأمر بالكتب مصلحة دنيوية وهي حفظ المال، ومصلحة دينية وهي السلامة من الخصومة بين المتعاملين.
قيل لابن عرفة: يخرج (الدين) الذي على الحلول؟
فقال: لا يحتاج إلى كتب وثيقة غالبا فإن له طلبه في الحال.
إبن عطية: قوله «بالعدل» متعلق بقوله تعالى «وَلْيَكْتُب» لا ب «كاتب» لئلا يلزم عليه ألاّ يكتب الوثيقة إلاّ العدل في نفسه وقد يكتبها الصبّي والعبد والمسخوط إذا (أقامو فقهها) إلاّ أنّ المنتصبين لكتبها لا يجوز للولاة أن (يولّوهم) إلا عدولا مرضيين.

(2/779)


قال ابن عرفة: هذا تخليط لأن الأمر بالكتب ابتداء إنّما هو للعدل في نفسه وإمضاء كتب الصبّي والعبد والمسخوط إنّما هو بعد الوقوع، والآية إنّما جاءت فيمن يؤمر بكتبها وفرّق بين الأمر في كتبها عند العدل في نفسه وبين إمضائها إذا كتبها غير العدل.

(2/780)


قوله تعالى: {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً ... } .
قال ابن عطية: السّفيه الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء (منها) .
ابن عرفة: هذا هو السفيه عند الفقهاء. قال: ومن كان بهذه الصّفة لا يخلو من حجر أب أو وصي أو قاض.
قوله تعالى: {فَلْيُمْلِلْ ... } .

(2/781)


قوله تعالى: {بالعدل ... } .
كان بعضهم يقول: الذي يظهر أن يكون بالعدل متعلقا بوليه (لا بيملل) لأن إملاء الوصي إذا كان بغير العدل فالمشهور (يجرحونه) ولا يشهدون له فينبغي أن الوصي إذا أتى ليرهن على المحجور ويعمر ذمته ألاّ يشهدوا له إلا إذا تبين لهم في ذلك وجه المصلحة، وأما تعلقه بدين (وكان) أكثر الأوصياء لا يعدلون فلا يقبل إلا إملاء الوصي الدين ولذلك كان ابن الغماز يقول: جميع من رأيت من الأوصياء يتصرفون بغير الصواب إلا فلانا (أو فلانا) ويعيُّنهما.
قوله تعالى: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ... } .
قال ابن عرفة: مذهبنا أن العبد لايستشهد (ابتداء) فإن شهد قبلت شهادته.
والآية دالة على أنّه لا يشهد الرّجل والمرأة إلاّ عند عدم الرّجلين مع أنه إذا تعارضت بينتان إحداهما رجل وامرأتان والأخرى رجلان فإنّهما متكافئتان لكن هنا شيء وهو أنّ الأصوليين ذكروا الخلاف فيما إذا تعارض أمران في صورة أو تساويا فيها وثبت لأحدهما الرّجحان على الآخر في غيرها من الصور فهل يرجح الأرجح أم لا؟ فقولان فإن قلنا بالتّساوي فلا سؤال، وإن قلنا بتقديم الأرجح فيرد السؤال، لم جعلهما مالك متكافِئَتين ولم يقدم الأرجح

(2/782)


قال ابن العربي: واحتجّ بهذا أبو حنيفة على أنّه لا يقضي بالشاهد واليمين.
ورده ابن عرفة بوجهين:
الأول: أن الآية سيقت لبيان ما يستقل به الحكم في الشهادة لا لبيان كل ما يوجب الحكم.
الثاني: أن هذه حالة التحمل وهو في حالة مأمور بأن يشهد رجلين أو رجلاً وامرأتين وإنما اليمين حالة الأداء والحكم بالحق.

(2/783)


قوله تعالى: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء ... } .
متعلق ب «اسْتَشْهِدُوا» .
وأبطل أبو حيان تعلقه ب «امرأتين» أو ب «رجلين» لئلا يلزم عليه المفهوم وهو إطلاق الحكم في الفريق الآخر وهما الرّجلان مرضيان كانا أو غير (مرضيين) .
(وأجاب ابن عرفة: بأن قوله: «مِن رِّجَالِكُمْ» «وشَهِيدَينِ» بالإضافة، والمبالغة تفيد كونهما مرضيين) .
قوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى ... } .
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إنه تعليل للمجموع (وإرادة) أن تذكر إحداهما الآخرى إذا ضلت.

(2/784)


قال ابن عطية: قال بعض المكيين «فَرَجُلٌ وامْرَأَتَانِ» بهمز الألف ساكنة.
قال ابن جني: لا نظير لتسكين الهمزة المتحركة وإنّما خففوا الهمزة فقرب من الساكن ثم بالغوا في التخفيف فصارت الهمزة ألفا ساكنة ثم أدخلوا (الهمزة على الألف) ساكنة (ومنه) قراءة ابن كثير «وكشفت عن سَأْقَيْهَا» .
قال ابن عرفة: وقع تسكين (الهمزة) المتحركة (في القرآن) في ثلاثة مواضع: أحدها «وَجِئْتُكَ مِن سَبَأَ بِنَبَإٍ يَقِينٍ» . قرأها أبو عمرو والبزي بفتح الهمزة.
وروي عن قنبل إسكان الهمزة إجراء للوصل مجرى الوقف، قوله تعالى: «مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاّ دابَةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ» .

(2/785)


وقرأها نافع وأبو عمروا بالألف من غير همزة وابن ذكوان بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مفتوحة.
والثالث قوله عَزَّ وَجَلَّ ّ في سورة فاطر: «وَمَكْرُ السَّيّءِ» قرأ حمزة بسكون الهمزة إجراء للوصل مجرى الوقف والباقون بتحريكها.
قلت: وموضع رابع وهو «فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ» . روى فيه عن أبي عمرو الاختلاس وروي عنه الإسكان.
قال ابن عطية: وقرأ حمزة «إِن تَضِلّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرُ» جعل (إن) شرطا والشرط وجوابه رفع لأنه صفة للمرأتين، وارتفع «تذكرُ» كما ارتفع قوله تعالى «وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ» .
هذا قول سيبويه وفي هذا نظر.

(2/786)


قوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ ... } .
قال بن عرفة: قالوا: إن النهي تارة يكون للحاضر، وتارة يكون للغائب، فأمّا بالنسبة إلى القديم فلا فرق بينهما، وأما في المحدثات فقد يكون النهي في الغيبة أقوى وأشد منه في الحضرة، لأنك قد تنهي الشخص الحاضر عن فعل شيء بين يديك وتكون بحيث لو سمعت عنه أنه يفعله في غيبتك لا تزجره ولا تنهاه. فهذا الأمر فيه أخف من شيء تزجره على فعله في الغيبة والحضرة فإن النهي في هذا أشد. ولا يؤخذ من الآية أنّ الأمر بالشيء ليس هو نهيا عن ضده لأن «اسْتَشْهِدُوا» أمرٌ للمتعاقدين «وَلاَ يَأْبَ» نهي للشاهدين.

(2/787)


قوله تعالى: {وَلاَ تسئموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ ... } .
السآمة (بمعنى) الكسل، وقدم الصغير خشية التهاون به والتفريط فيه كقول الزّمخشري في {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} وقوله {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} وقوله {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} مع أن العداوة تنفي أخذ الدية ويوجب (التعارف) بها فلذلك قدمت الدّية.
والضمير في قوله «تَكْتُبُوهُ» (إما عائد على الحق أو على الدّين، أو على الكتب.

(2/788)


((قال بعضهم: وإن عاد الضمير على الكتاب ف «أَوْ» للتخيير، وإن عاد على الحق أو الدين ف «أَوْ» (للتفصيل) .
قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ... } .
ابن عرفة: هذا دليل على أنّ الأمر المقدم الندب لا للوجوب. والصواب أنّ المراد الإشهاد أقسط عند الله (والكتاب) أقوم للشهادة فيكون لفّا ونشرا، أي أعدل وأقرب لقيام الشهادة.
و «أَقْسَطُ» قيل من الرباعي وهو شذوذ.
قال الزمخشري: من قاسط على النسب أي ذو قسط، أو جار مذهب سيبويه في بنائها من أفعل.
ورده أبو حيان: بأن سيبويه لم ينص بناء أفعل التفضيل من أفعل بل قال: فعل التعجب ينبني من فعل وأفعل. قالوا: وأفعل التفضيل ينبني مما بني به فعل التعجب.
قال ابن عرفة: فظاهره أنه لم يحك بناء وهي من أفعل.

(2/789)


وقال ابن خروف: رأيت في النسخ المشرقية أنّه يبنى من فَعَلَ وفَعُلَ وأفْعَلَ زاد في النسخ الرياحية إلا أنّ بناءه من أفعل قليل. وقد نص على صحة بناء التعجب من أفعل مبني منهما.
وقول ابن عطية: انظر هل يكون من قَسُط بالضم غير صحيح لأنه لم يحك فيه (أحد) قسُط.
وقول الزمخشري: إنه يجوز على مذهب سيبويه صحيح على ما قاله ابن خروف، ولا يحتاج إلى جعله على طريق النّسب إلاّ لو لم يثبت فيه الرّباعي.
قوله تعالى: {وأدنى أَلاَّ ترتابوا ... } .
ابن عرفة: إن أريد بالرّيبة مطلق الاحتمال فيكون فيه منح الشّهادة بالمفهوم لأنه ظنّي فلا (ينتفي) فيه الاحتمال. وقد قدمنا فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يشهد بها على القطع.
الثاني: أنّه لا يشهد.
الثالث: أنّه يشهد بها بالفهم على نحو ما تحملها.

(2/790)


قال ابن عرفة: وإن أريد بالريبة الشك فلا يكون فيه دليل على ما قلنا.
قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً ... } .
قال ابن عرفة: إن أراد بالأول الدّين وبهذا الحاضر / فيكون حينئذ استثناء منقطعا وإن (أراد) بالأول مطلق المعاملة فهو متصل.
فإن قلت: هل في الآية دليل لمن يقول:: إنّ الاستثناء من الإثبات ليس بنفي كالاستدلال بقول الله تعالى {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى} لقول الله تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} وإلا لما كان له فائدة.
(فالجواب) أنّ الأول تناول الكتب والإشهاد، فلو لم تذكر هذه الزيادة لأدّى إلى إهمال الإشهاد والكتب. فأفادت

(2/791)


هذه الزيادة رفع الجناح عن الكتب في الحاضر وبقاء الأمر في الإشهاد فيها من غير كتب.
أبو حيان: وقيل الاستثناء متصل راجع (لقوله) «وَلا تَسْئَمُوا» .
وقَدّر أبو البقاء معنى الاتصال في الاستثناء لأنه أمر بالاستشهاد في كل معاملة، واستثنى منه التجارة الحاضرة. والتقدير: إلاّ في حال الحضور للتجارة.
قال الصفاقسي: وفي هذا التقدير نظر. انتهى.
قوله تعالى: {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ... } .
هذه تضمنت الإشهاد من غير كتب فلا تناقض ((في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} لأن تلك إنّما اقتضت رفع الجناح عن عدم الكتب و (بقي) الإشهاد مطلوبا)) .
قوله تعالى: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ... } .
يحتمل أن يكون أصله يضارِرُ مبينا للفاعل أو يضارَرُ مبينا للمفعول.

(2/792)


قال ابن عرفة: ويصح حمله على الأمرين معا على القول بجواز تعميم اللفظ المشترك في مفهوميه معا، كما قالوا في الجور والقرء ونحوه.
قيل لابن عرفة: هذان لفظان وذلك إنما هو (في) اللّفظ الواحد كذا قال الفخر؟
فقال ابن عرفة: قد قال سيبويه في المشترك إنهما لفظان دالاّن على معنيين. ذكره في باب المستقيم والإحالة في (وجدت) .
وقال ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية في المسألة الخامسة من الباب الثالث في قوله {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} إنّه يحتمل أن يكون مضافا للفاعل والمفعول معا، ثم رده بأنه إذا (عمّمنا) في الأمرين يلزم أن يكون مرفوعا ومنصوبا في حالة واحدة وذلك جمع بين النقيضين.
فإن قلت: لم عبر في «شهيد» بلفظ المبالغة دون «كاتب» .
قلت: إنّ ذلك فيمن برّز وبلغ إلى درجة العدالة.
واختلف (الناس) في جواز أخذ الأجرة على الشهادة والمعروف المنع.

(2/793)


وبعضهم أجازها إذا كان منقطعا عن أسبابه إليها. وقيل: إن كان له من المعرفة (ما) يفتقر بها إليه في النظر في الوثيقة ليصححها فقها وكتابة باعتبار سلامتها من اللّحن المخل فيجوز له أخذ الأجرة وإلاّ فلا.
وقال الحافظ أبو عمرو عثمان بن الصلاح في علوم الحديث ما نصه: من أخذ على التحديث أجرا فقال (إسحاق) بن ابراهيم وأحمد ابن حنبل وأبو حاتم الرازي في ذلك مانع من قبول روايته فلا يؤخذ منه. وترخص أبو نعيم الفضل بن (دكين) وعلي بن عبد العزيز (المكي) وآخرون فأجازوا أخذ العوض عن التحديث وشبهوها بأخذ الأجرة على إقرائهم القرآن على أنّ في هذا من حيث العرف خرما للمروءة والظّن (السّوء) بفاعله إلاّ أنْ يقترن

(2/794)


ذلك بما ينفيه كما كان أبو الحسن السّعودي (وأفتى به) الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أنّ أصحاب الحديث كانوا يمنعونه عن الكسب لعياله. انتهى.
ذكره في النوع الثالث والعشرين (في إكمال عياض في كتاب الطب في أحاديث الرقى. أجاز الإمام مالك وأحمد بن حنبل والشافعي وأبو ثور وأبو إسحاق أخذ الأجرة على الرّقية والطب وعلى تعليم القرآن. ومنع الإمام أبو حنيفة وأصحابه الأجرة على تعليم القرآن وأجازوا الأجرة على الرقية) .
قال ابن عرفة: (فحاصله) أنه إن كان انقطاعه لذلك يشغله عن معاشه وكان فقيرا محتاجا لما يتعيش به ولم يكن عنده من المال ما يستغني به عن طلب المعاش فيجوز له أخذ الأجرة وإلاّ فلا.

(2/795)


وحكى أبو العباس أحمد بن حلولو عن والده أنّ القاضي أبا محمد عبد الله اللّخمي بعث له صهره سيدى أَبَو علي بن قداح بزير لبن فشربه ثم سمع أنه من عند شاهد يأخّذ الأجرة على الشهادة، فتقيأه، ثم لما صار هو شاهدا كان يأخذ في الشهادة قدر الدينار كل يوم، وما ذلك إلا لأنّه كان يأخذ ذلك من وجهه، والشاهد الأول لم يكن يأخذ ذلك من وجهه.
قوله تعالى: {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ... } .
الفسق في اللّغة مطلق الخروج عن الحدّ وفي الشّرع هو تعدّي الحدود الشرعية.
قوله تعالى: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله ... } .
قال ابن عرفة: هذا دليل على ثبوت اشتراط العلم في الكاتب والشاهد.
قوله تعالى: {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
اختلفوا في لفظ (شيء) هل يصدق على المعدوم أو لا؟
وقال الشيخ القرافي في تأليفه على الأربعين لابن الخطيب: إن ذلك الخلاف إنما هو في كونه محكوما به لا في كونه متعلق الحكم كقولك: المعدوم شيء. وأما مثل {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فهو متعلق الحكم.

(2/796)


قال ابن عرفة: إنما الخلاف مطلقا، وما ذكروا هذا إلا في اسم الفاعل المشتق وأما في هذا فقد ذكره الآمدي في أبكار الأفكار مطلقا.
ابن عرفة: والآية حجة بأنّ المعدوم ليس بشيء وهو مذهب أهل السنة.

(2/797)


وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ ... } .
ابن عرفة: مفهوم الآية ملغى بنصّ السّنة لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رهن درعه في الحضر. وأيضا فهو مفهوم خرج مخرج الغالب لأن السفر مظنة لعدم وجدان الكاتب أو هو شيء من الأدلة غالبا بخلاف الحضر.
قال ابن عطية: أجمع الناس على صحة قبض المرتهن وعلى قبض وكيله. واختلفوا في قبض عدل فجعله الإمام مالك قبضا.
قال ابن عرفة: إذا لم يكن من جهة الراهن.
وقال الحكم بن عيينة وقتادة: ليس بقبض.
قال ابن عرفة: إذا قبض المرتهن الرهن ولم يزل حائزا له كان أحق به لا خلاف. وإن كان قبضه بالشهادة ثم أذن المرتهن للراهن في التصرف فيه فتصرف فيه الراهن بطل الحوز بلا خلاف، وإن أذن المرتهن للراهن في التصرف فيه فلم يتصرف فيه ولم يزل بيد

(2/797)


المرتهن فظاهر كتاب الرهن في المدونة أنه مبطل للحوز. وظاهر كتاب حريم البير منها أنه غير مبطل (بناء) على أن الحوز شرط في لزوم الرهن أو في استحقاق الرهن.
قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ ... } .
ظاهره جواز إعطاء الدين وجواز أخذه من غير رهن فتكون ناسخة لما قبلها لأن عمومها يقتضي اشتراط أخذ الرهن فيه.
قوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة ... } .
راجع لحالة (الأداء) .

(2/798)


قوله تعالى: {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ... } .
قال الزمخشري: لم قال {آثِمٌ قَلْبُهُ} فخصص الإثم بالقلب وهلا علقه بجميع الجسد؟ وأجاب بأربعة أوجه:
الأول: أنه تحقيق لوقوع الإثم ثم لأن كتمان الشهادة من فعل القلب وإثمها مقترن بالقلب فلذلك أسند إليه.
للثاني: أنّ القلب الأصلُ لحديث «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» .
الثالث: أنّ القلب أصل واللّسان ترجمان له.
الرابع: أن أفعال القلب أعظم من أفعال الجوارح وإثمه أعظم من إثمها.
قال ابن عرفة: ومنهم من كان يجيب بأن القلب يستوي فيه الفعل والترك وليس بينهما تفاوت إذ لا أثر (للترك) فيه بالنّسبة إلى الفعل بخلاف الجوارح فإنّ الفعل يمتاز عن التّرك (بالبديهة) وكتمان الشهادة ترك فلو أسند للجوارح لما حسن (ترتب) الإثم عليه فلذلك أسند للقلب الذي هما فيه مستويان.

(2/799)


لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)

قوله تعالى: {لِّلَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ... } .
احتجوا بها على أنّ أعمال العباد مخلوقة لله لأنّها (مما) في السماوات وما في الأرض. واحتجّوا بها على أن السّماء بسيطة إذ لو كانت كروية لكانت الأرض (مما) فيها ولم يكن لقوله: {وَمَا فِي الأرض} فَائِدَة؟
وأجيب: بأن ذكرها بالمطابقة أولى من ذكرها بالتضمّن والالتزام، لأنها مشاهدة مرئية، ومذهب (المتقدمين أنها بسيطة ومذهب) المتأخرين أنها كروية.
قال الغزالي في النّهاية ولا ينبني على ذلك الكفر ولا إيمان.
قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله ... } .
من إقامة المسبب مقام سببه لأن المحاسبة (عليه) متسبّبة عن العلم به أي يعلمه الله فيحاسبكم عليه، وما في النّفس إن كان وسوسة وترددا من غير جزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به (وإن كان على سبيل الجزم والمواطأة عليه فإما أن يكون له أثر في الخارج أو لا. فإن كان قاصرا على نفس الإنسان ولا أثر له في الخارج كالإيمان

(2/800)


والكفر خلاف في المؤاخذة، وإن كان له أثر في الخارج فإن تمّ بإثره فلا خلاف في المؤاخذة) ، كمن يعزم على السرقة ويسرق أو على القتل ويقتل، وإن عزم عليه في نفسه ورجع عن فعله في الخارج فإن كان اختيارا لغير مانع فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، بل ذكروا أنه يؤجر على ذلك كما في بعض طرق الحديث (إن) تركها (مأجور) ، وإن رجع عنه لمانع منه ففي المؤاخذة به قولان.
هذا محصول ما ذكره القاضي أبو الفضل عياض في الإكمال: «إذا هم العبد بسيئة فلم يعملها» الحديث ذكره مسلم في كتاب الإيمان.
قال ابن عرفة: والكفر خارج من هذا لقول الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ}

(2/801)


وحكى ابن عطية عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وجماعة أنها لما نزلت قال الصحابة: «هلكنا إن حوسبنا بخواطرنا» . فأنزل الله {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} فمنهم من جعلها ناسخة.
وضعفه ابن عطية لأنه خبر فلا ينسخ. قال لكن ورد أنهم لما قالوا: هلكنا، قال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قولوا: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» فقالُوا فنزلت {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً} فصح النسخ وتشبه الآية حيئنذ قول الله تعالى في الأنفال: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} ثم نسخت بصبر المائة للمائتين.
قال ابن عرفة: آية الأنفال ليس فيها إلا النسخ لأنّه رفع كلّ الحكم (وآيَتُنَا) هذه تحتمل النسخ والتخصيص كما قال بعضهم.

(2/802)


قال ابن عرفة: ونظير الآية ما خرج مسلم في كتاب الإيمان عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت
{الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن} شق ذلك على أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (وقالوا أيّنا لم يظلم نفسه) فقال لهم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} » .
قال ابن عرفة: وذكر الفقهاء الخلاف إذا شهد شاهدان لرجل بشيء مظروف في شيء وماتا أو غابا هل يكون له الظرف (أم لا) ؟ قالوا: إن كان الظرف من ضرورياته لا يمكن أن يجعل إلا فيه كالزيت والخل فهو له بما / فيه باتفاق. وإن لم يكن من ضرورياته كجبّة في صندوق أو في (صرّ) ففي كون الظرف له خلاف.
وذكره ابن الحاجب في كتاب الإقرار قال فيه ما نصه: وثوب في صندوق أو منديل ففي لزوم ظرفه قولان بخلاف زيت في جرة، وجبة وبطانتها، وخاتم وفصه، أي يقبل قوله.
قال ابن عرفة: والآية حجة لمن يقول شهادتهما بالمظروف يستلزم الظرف لأن كون {لِّلَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} يستلزم أن السماوات نفسها له.

(2/803)


قَال ابن عرفة: الآية حجة أيضا لمن يقول: إن الطلاق بالنية (لا) يلزم عندنا وفيه خلاف والمشهور أنه غير لازم.
قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ... } .
قال الزمخشري: وقرىء فَيَغْفِرْ (بالجزم) في جواب الشرط.
ورده أبو حيان بأن النحويين نصّوا على أن الفاء إنما تنصب في الأجوبة الثمانية ولم يعدوا منها الشرطية. فجعله معطوفا على مصدر مقدر فيكون من عطف الفعل على الاسم الملفوظ به.
ونص الشلوبين على أنّ قول (النحويين) الأجوبة الثمانية ليس على ظاهره بل مرادهم كل ما ليس واجبا أعني ما ليس بخبر فيدخل فيه الشرط.
وتحامل الزمخشري هنا (وأساء الأدب) على السوسى

(2/804)


من طريق أبي عمرو وخّطأه كما خطّأ (الصيمري) في تبصرته (والزّجاج) وكذا خطأ ابن عامر في قراءته {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} ولكن تخطئته هنا لأبي عمرو من طريق السوسي أشنع.
قال ابن عطية: هنا عن النقاش: فيغفر لمن يشاء (أي) لمن (ينزع) عنه، ويعذب من يشاء أي من أقام عليه.

(2/805)


قال ابن عرفة: وهذا نحو ما قال الزمخشري، وفيه إيهام الاعتزال.
قلت: لأنه يوهم أنّ المعاصي لا تغفر إلا بالتوبة ومذهب أهل السنّة أنه يجوز أن يغفر له وإن لم يتب (منها) إلاّ الكفر.
قوله تعالى: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
قال ابن عرفة: لفظ (شيء) يطلق على المعدوم والموجود فأفاد أنّه على كل شيء مما في السموات والأرض ومما هو خارج (عنهما) قدير. قال (والفضاء الذي بين السماء والأرض تقول إنّه عامر وإنه خارج عنها وهي مسألة الخَلاء والملاء) ونقول: تناولت الآية الأمر الحالي والماضي ونفي المستقبل غير داخل فيها فلذلك قال: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ليدخل المستقبل.

(2/806)


آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)

قوله تعالى: {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ ... } .
ذكر ابن عطية سبب نزول الآية أنها لما نزلت {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} . . الآية شق ذلك على المؤمنين ثم قالوا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} . فَمَدحهم الله وأثنى عليهم ورفع عنهم المشقة بقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}

(2/806)


قال ابن عرفة: وضم الإخبار عنهم بالإيمان في هذه الآية إلى هذا السبب يقتضي استلزام الإيمان للعمل الصالح، قال: وفيها سؤال وهو أن الفاعل مخبر عنه بفعله وتقرر أنه لا يجوز (قام) القائم، ولا ضرب الضارب، إذ لا فائدة فيه، فلو قيل: «آمن الرسول والصحابة لأفاد، فكيف قال (آمَنَ) المؤمنون؟
والجواب: أنّه يفيد إذا (قيد بشيء) كقولك قام: في الدّار القائم، وهنا أفاد تقيده وهو قوله {بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} . انتهى.
فإن قلت: لم ذكر الرسول ومعلوم أنه آمن؟
قلت: إنه ذكر مع المؤمنين تشريفا لهم وتعظيما إذ لا ينظم الجوهر النفيس إلا (مع) نفيس مثله.
قال ابن عرفة: قال ابن عطية: و» كل «لفظة تصلح للاحاطة والقرينة تبين ذلك. انتهى.
قال ابن عرفة: وظاهر أنّها ليست نصّا في العموم خلافا للأصوليين فإنهم ذكروها في ألفاظ العموم وتقدم للنحويين التفريق بين رفعها ونصبها في قوله:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... عليّ ذنبا كله لم أصنع

(2/807)


فقالوا: رفعها أعم.
قلت: إنما أراد ابن عطية قولهم: كل الصيد في جوف الفراء. ورأيت رجلا كل (الرجل) وقولهم: أكلت شاة كل شاة.
قوله تعالى: {وملائكته ... } .
قال ابن عرفة: لا بد في الإيمان بالملائكة من استحضار أنّهم أجسام متحيزة (منتقلة) كبني آدم.
ولذلك قال أبو عمران الفارسي في المسألة المنقولة عنه في الكفار: إنّهم ما عرفوا (الله) قط ولا آمنوا به خلافا للغزالي من أهل السنة (فإنه) قال في الملائكة إنهم أجسام لطيفة لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز ونحا في هذا منحى الفلاسفة.
قيل لابن عرفة: إنّ (المقترح) توقف فيهم؟
فقال: إنما توقف في إثبات الجوهر (الفرد) وهو شيء لا متحيز ولا قائم بالمتحيز ولم يتوقف في الملائكة.
قوله تعالى: {وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ... } .

(2/808)


قال الزمخشري: قرأ ابن عباس:» وَكِتَابِهِ «يريد القرآن وعنه الكتاب أكثر من الكتب. فإن قلت: كيف يكون الكتاب أكثر من الكتب؟
قلت: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة في وحدان (الجنس) كلها لم يخرج منها شيء، وأما الجمع فلا يدخل تحته (الاّ ما فيه الجنسية من المجموع. وقدره الطيبي بأن المفرد إذا أريد به الجنس يدخل تحته) المجموع والأشخاص بخلاف الجمع فإنه لا يتناول إلا المفردات فقط.
قيل لابن عرفة: قد اختلفوا في المفرد المحلى بالألف واللاّم (هل يفيد العموم، واتفقوا على أنّ الجمع يفيد العموم لا سيما المحلى بالألف واللاّم) ؟
فقال: (ما كلامنا) إلا فيما ثبت فيه العموم من مفرد أو جمع، فالمفرد الذي يثبت فيه العموم (أعم من الجمع الذي يثبت فيه العموم) .

(2/809)


وكلام أبي حيان في هذا الموضع غير صحيح وكذلك كلام الطيبي.
قال: وقد ذكر القرافي في الخلاف في دَلاَلة العام على أفراده هل هي تضمن أو التزام ونص على / أن المفرد الذي أريد به العموم دال على أفراده ومسمياته وذلك كان أعم من الجمع.
قيل لابن عرفة: لعل دلالته على العموم بقرينة حالية؟
فقال: إذا تعارض صرف الدلالة للفظ أو لقرينة فصرفها للفظ أولى. انتهى.
قلت: لأن دلالة الجمع على أفراده من باب دلالة اللفظ على جزء مسماه ودلالة المفرد من باب دلالة اللفظ على تمام مسماه لأنه يدل على هذا المسمى وحده وعلى هذا بدلا عنه.
قال ابن عرفة: ودلالة المطابقة حقيقة ودلالة التضمن والالتزام مجاز.

(2/810)


فإن قلت: ليس الكتب في الآية معرفا بالألف واللاّم (بل مضافا) ؟
قلت: الإضافة عاقبة الألف واللاّم.
ولذلك قال ابن التلمساني شارح المعالم في المسألة الثانية من الباب الثالث: إن من ألفاظ العموم صيغ الجموع المعرفة بلام الجنس أو بالإضافة.
ابن عرفة: وفائدة هذا الترتيب في الآية ما يقولونه: وهو التركيب والتحليل لأنّك إن بدأت من أول قلت: الله الأول، والملائكة يتلقون الوحي منه، والوحي في ثالث رتبة، لأنّه ملقى ومتلقى كقولك: أعطيت زيدا درهما، فالدرهم معطى ومأخوذ، فهو مفعول بكل اعتبار، وزيد فاعل ومفعول فالرسل في الرتبة الرابعة. وإن بدأت من أسفل قلت: الرسل المباشرون لنا والقرآن هو الذي يقع به المباشرة وهو منزل عليهم ثم من أنزله من عنده.
قوله تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ... } .
فإن قلت: كيف هذا مع قوله {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} قلت: إذا أسند الحكم إلى الشيء فإنما يسند إليه باعتبار (وصفه) المناسب له وقد قال: «من رسله» فما التفريق بينهم إلا في وصف

(2/811)


الرسالة أي لا نؤمن ببعضهم ونترك بعضهم بل نؤمن بالجميع. قال الله تعالى {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ.}

(2/812)


لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ... } .
ابن عرفة: تقدم في الآية السابقة أنّها (إما) منسوخة او مخصوصة بهذا أو مبيّنة بهذا.
زاد ابن الخطيب أنها من كلام الناس.
ورده ابن عرفة: بأنّ هذا خبر فلا يصح أن يكون من كلام الناس إذ لا طريق لهم إلى معرفته إلا أن يكون أنزل قبله ما هو في معناه.
قال ابن عرفة: وتكليف ما لا يطاق فيه ثلاث أقوال:
مذهب أهل السنة جوازه، ومذهب المعتزلة منعه، والثالث الوقف.
وإذا قلنا بالجواز فهل هو واقع أم لا؟ فيه خلاف. وتردد الأشعري في وقوعه، وقسمه ابن التلمساني على خمسة أقسام والخلاف إنما هو في قسمين وهما المستحيل عقلا والمستحيل عادة، وما عداهما فلا خلاف فيه إذ ليس من تكليف ما لايطاق.
قال في (شرح) المحصول: وفائدة التّكليف بالمستحيل عقلا أو عادة أن يكون علامة على (شقاوة) المكلف بذلك لأنه

(2/812)


لا يتوصل إلى امتثاله والآية حجة لمن يجيز التكليف (بما) لا يطاق ويبقى وقوعه إذ لا (ينفى إلا) ما هو ممكن الوقوع و (من) قال بوقوع تكليف ما لا يطاق واحتج بقضية أبي لهب فإنه مكلف بأن لا يؤمن لقوله تعالى: {سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} وهو مكلف بأن يؤمن بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم وبجميع ما جاء به ومن جملته هذا.
وأجاب تاج الدين الأرموي في شرح الحاصل بأنه مكلف بأن يؤمن بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبما جاء به إيمانا جمليا لا تفصيليا.
قال الفخر وابن التلمساني: من تكليف ما لا يطاق التكليف بما علم عدم وقوعه.
فقال ابن عرفة: هذا وهم وليس ذلك من تكليف ما لا يطاق بوجه لأنه ممكن في نفس الأمر فهو (مطيق) فعله كتكليف العصاة بالصلاة في الوقت فيفعلونها بعد الوقت قضاء.
قيل لابن عرفة: ما فائدة الخلاف (بتكليف) ما لا يطاق بالنسبة إلى النائم؟
فقال: قد ذكروا في النائم أنّه إذا ضرب (برجله) إناء فكسره فإنه يضمنه. وكذلك إذا ضرب أحدا فقتله فهل تضمينه ذلك من تكليف ما لا يطاق أم لا؟

(2/813)


والظاهر أنه من خطاب الوضع والإجبار.
قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت ... } .
ذكر (الزمخشري) وابن عطية وجه المغايرة بين الفعلين وهما متقاربان.
فتقرير ما قال ابن عطية (والزّمخشري) أنّ المكلّف بفعل الطاعة مستحضر للثواب عليها فيسهل عليه أمرها من غير تكليف

(2/814)


طبيعي ولا وازع له عن فعلها، وفاعل المعصية يستحضر العقوبة عليها في الدّار الآخرة فشهوته تحمله عليها وتكلفه على فعلها وتوجب معاندته للوازع الديني.
وتقرير كلام الزمخشري كأنه على عكس هذا لكنه في الحقيقة راجع إلى هذا وهو أنّ الشّر مما تشتهيه النفوس وتأمر به فهي في تحصيله أعمل وأقوى اجتهادا (فجعلت) له مكتسبة ولما لم تكن كذلك في الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الفعل والتكليف.
وقال ابن الصائغ في باب ما جاء من المعدول على فعال: لما كان الإنسان يثاب على قليل الخير وكثيره استعمل فيه اللّفظ العام للقليل والكثير وهو «كسب» ، ولما كانت الصغائر معفوا عنها بفضل الله عَزَّ وَجَلَّ جاء بلفظ الكثير إشعارا بأنها ليس عليها إلا ما فوق الصغائر قال هذا بعد أن ذكر أن: كَسَبَ واكْتَسَبَ إن اجتمعتا في كلام واحد كانت «كَسَبَ» عامة (في الأمرين) و «اكْتَسَبَ» خاصة بالكثير وإن انفردت إحداهما عمت في الأمرين.
وقال القرافي في قواعده: إنها تدل على أن المصائب لا يثاب عليها لأنها ليس للمكلف فيها اعتماد.
قلت: وفي شرح أبيات الجمل لابن هشام / النحوي حكى ابن جني عن الزجاج أنه يقال: جزيته في الخير وجازيته في

(2/815)


الشر فيستعمل فعل الزيادة في الشر وفعل النقص في الخير ومنه {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} . وقول الشاعر أيضا:
إنا اقتسمنا خطيئتنا بيننا ... فحملت بِرّهُ واحتملت فجار
قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ... } .
قال الزمخشري: فإن قلت: النسيان والخطأ متجاوز عنهما فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة فيهما؟
وأجاب بأن الدعاء راجع لسببهما وهو التفريط والغفلة.
قال ابن عرفة: هذا على مذهبه في منع تكليف ما لا يطاق لأنه دعاء بتحصيل الحاصل ونحن نقول: يجوز الدعاء بتحصيله لأنه ممكن باعتبار الأصالة.
فإن قلت: الأصل تقديم الشّرط نحو أن يقال: إن نسينا أو أخطأنا فلا تؤاخذنا؟
قلت: قدم المدعو به للاهتمام به.
قال ابن عرفة: فالنسيان والخطأ مرفوع عن ابن آدم فيما بينه وبين الله تعالى. قيل له: قد قال الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في العتبية فيمن حلف بالطلاق: ليصومن يوم كذا فأفطر ناسيا: إنّه لا شيء عليه؟
فقال: قال ابن رشد وابن دحون: أي لا حنث له.

(2/816)


وقال السيُورِي: واختاره اللخمي أي لا فضل عليه، واحتج بحديث: «حمل (عن) أمتي أخطاؤها ونسيانها.
وأجاب الآخرون: بأن الذي حمل إنما هو إثم الخطإ والنيسان لا نفس الخطإ. وذكرها ابن الحاجب في كتاب الأيمان والنذور، قال: وفيها ما نصه:» والنسيان في المطلق كالعمد على المعروف، وخرج الفرق من قوله: من حلف بالطلاق لأصومن كذا فأفطر ناسيا فلا شيء عليه «.
قلت: ووقعت هذه المسألة في رسم سلف سمع من سماع عيسى من كتاب الأيمان والنذور بالطلاق.

(2/817)


(وقال ابن رشد: أي لا حنث عليه إذا كان ناسيا بخلاف ما لو أصبح مفطرا) ناسيا ليمينه، مراعاة للخلاف في وجوب القضاء على من أفطر في التطوع متعمّدا وفي رمضان ناسيا لما جاء في ذلك.
قيل لابن عرفة: قد قالوا: إذا قتل رجل خطأ: إنّ على قاتله صوم شهرين؟
فقال: النسيان إنما هو في رفع الإثم وليس سببا في صومه والقتل سبب في الصوم والشرع رتب عل ذلك القتل صوما فيجب عليه امتثاله (لا لأنه) كفارة بل الإثم ساقط عنه. انتهى.
قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا ... } .
قال أبو حيان: قرىء بالتشديد والتّخفيف. قال: في التشديد إما للتعدية أو للمبالغة.
قال ابن عرفة: فظاهره أنه لهما على (البديلة) ومنهم من قال: يصح كونه لهما على المعية وقال بعضهم: أما المبالغة هنا مع التشديد فظاهرة، وأما مع التخفيف (فمستفادة) من لفظ «على» لاقتضائها الاستعلاء والاستيلاء.
فإن قلت: ما الفائدة في قوله: {كَمَا حَمَلْتَهُ} ولو أسقط «كما» (احتمل) المعنى، وإسقاطه كان يكون أتمّ وأبلغ لأن نفي «إِصْرا» مطلق أبلغ منه مقيدا؟

(2/818)


(قال) ابن عرفة: وعادتهم (يجيبون) بأن الدعاء حالة الخوف مظنة الإجابة فهو فيه أقوى (منها) حالة عدم الخوف لأن الخوف أقرب لمقام التضرع والالتجاء. فذكر عقوبة من مضى في هذا مما يزيد في الخوف ويقوي فيه العبودية والتضرع والالتجاء.
قال ابن عطية: ولا خلاف أن المراد ب {الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} اليهود.
ابن عرفة: لأن (تكاليفهم) والتشديد الواقع في شريعتهم أكثر من النصارى وغيرهم، قال الضحاك: اليهود والنصارى.
قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ... } .
تقدم إما أنه راجع لأمور الآخرة أو للتكاليف الدنيوية فإن كان للآخرة فهو تأسيس وإن كان للدنيا فهو تأكيد، إن أريد بما لاَ طاقة لنا به الحقيقة وهو ما ليس في قدرة البشر لأن الدعاء لنفي (الإصر) يستلزم الدعاء بنفي ما فوقه، وإن أريد به المجاز كما أشار إليه ابن عطية في أحد التفاسير من أنّه الأمر المستصعب وإن (كانت) تطيقه فيكون تأسيسا.
قوله تعالى: {واعف عَنَّا ... } الآية.

(2/819)


قال ابن عرفة: وجه الترتيب هذا أن العفو عبارة عن عدم المؤاخذة بالذّنب، وما يلزم من الدعاء برفع (الأمر) الذي في قدرة البشر بمشقة أو الخارجة عن قدرة (البشر) ، عدم المؤاخذة بالذنب. ثم عقبه بالمغفرة لأنه لا يلزم من عدم المؤاخذة ستر ولأنه قد لا يؤاخذه به ويظهره عليه، ثم عقبه بالرّحمة لأنّ العفو والمغفرة من باب دفع المؤلم والرحمة من باب جلب الملائم، فدفع المؤلم آكد وأولى من جلب الملائم ونحوه لابن الخطيب.
قال ابن عطية: وقال سلام بن سابور الذي لا طاقة لنا به الغُلْمةُ.
وروي أَن أبا الدرداء كان يقول في دعائه: وأعوذ بك من غلمة ليس لها عدة.
ابن عرفة: الغلمة (هي) قوله: أنت مولانا فانصرنا.

(2/820)


الزمخشري: أي سيدنا وناصرنا ومتولي أمرنا ومالكنا.
ابن عرفة: السيد والناصر إطلاقه عليهما من قبيل المشترك والمتولي والمالك ينبغي أن يحمل على أن المراد الأخص منهما ليدخل تحت الأعم من باب أحرى.
قال الزمخشري: وعنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «من قرأ الآيتين من سورة البقرة في كل ليلة كفتاه» .
قال ابن عرفة: أولهما «آمَنَ الرّسُول» ومعنى كفتاه أي يرفعان قارئهما عن رتبة من حرم قيام الليّل.
قلت: وفي إكمال القاضي عياض أي في كتاب الطب: أي كفتاه كل هامة وشيطان فلا يضره (وفي سلاح المؤمن معنى كفتاه أجزأتاه عن قيام الليّل. وقيل: كفتاه من كل شيطان لم يضر به ليلته «وقيل: كفتاه مما يكون من تلك اللّيلة من الآفات وقيل: حسبه بهما فضلا وأجرا. ويحتمل الجميع والله سبحانه وتعالى أعلم) .

(2/821)