تفسير ابن عطية
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز الم (1)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة البقرة
هذه السورة مدنية، نزلت في مدد شتّى، وفيها آخر آية نزلت على
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ
ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 280] .
ويقال لسورة البقرة: «فسطاط القرآن» وذلك لعظمها وبهائها وما
تضمنت من الأحكام والمواعظ.
وتعلمها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بفقهها وجميع ما تحتوي
عليه من العلوم في ثمانية أعوام، وفيها خمسمائة حكم، وخمسة عشر
مثلا.
وروى الحسن بن أبي الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«أي القرآن أفضل؟» قالوا:
الله ورسوله أعلم. قال: «سورة البقرة» ثم قال: «وأيها أفضل؟»
قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «آية الكرسي» .
ويقال إن آيات الرحمة والرجاء والعذاب تنتهي فيها معانيها إلى
ثلاثمائة وستين معنى.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت سورة البقرة
من الذكر الأول، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى. وأعطيت
فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش» .
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تجيء
البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غيايتان بينهما شرف، أو
غمامتان سوداوان، أو كأنهما ظلة من طير صوافّ تجادلان عن
صاحبهما» .
وفي البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال: «من قرأ بالآيتين من
آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» .
وروى أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «البيت الذي
تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» .
وروي عنه عليه السلام أنه قال: «لكل شيء سنام وسنام القرآن
سورة البقرة، فيها آية هي سيدة أي القرآن هي آية الكرسي» .
وعدد آي سورة البقرة مائتان وخمس وثمانون آية، وقيل: ست
وثمانون، وقيل سبع وثمانون.
قوله تعالى:
[سورة البقرة (2) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1)
اختلف في الحروف التي في أوائل السور على قولين:
(1/81)
قال الشعبي عامر بن شراحيل وسفيان الثوري
وجماعة من المحدثين: «هي سرّ الله في القرآن، وهي من المتشابه
الذي انفرد الله بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن يؤمن بها
وتمرّ كما جاءت» .
وقال الجمهور من العلماء: «بل يجب أن يتكلم فيها وتلتمس
الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها» واختلفوا في
ذلك على اثني عشر قولا:
فقال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما: «الحروف
المقطعة في القرآن هي اسم الله الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه
منها» .
وقال ابن عباس أيضا: «هي أسماء الله أقسم بها» .
وقال زيد بن أسلم: «هي أسماء للسور» .
وقال قتادة: «هي أسماء للقرآن كالفرقان والذكر» .
وقال مجاهد: «هي فواتح للسور» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: كما يقولون في أول
الإنشاد لشهير القصائد: «بل» و «لا بل» . نحا هذا النحو أبو
عبيدة والأخفش.
وقال قوم: «هي حساب أبي جاد لتدل على مدة ملة محمد صلى الله
عليه وسلم كما ورد في حديث حيي بن أخطب» وهو قول أبي العالية
رفيع وغيره.
وقال قطرب وغيره: «هي إشارة إلى حروف المعجم، كأنه يقول للعرب:
إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم، فقوله الم بمنزلة
قولك أ، ب، ت، ث، لتدل بها على التسعة والعشرين حرفا» .
وقال قوم: «هي أمارة قد كان الله تعالى جعلها لأهل الكتاب أنه
سينزل على محمد كتابا في أول سور منه حروف مقطعة» .
وقال ابن عباس: «هي حروف تدل على: أنا الله أعلم، أنا الله
أرى، أنا الله أفصّل» .
وقال ابن جبير عن ابن عباس: «هي حروف كل واحد منها إما أن يكون
من اسم من أسماء الله، وإما من نعمة من نعمه، وإما من اسم ملك
من ملائكته، أو نبي من أنبيائه» .
وقال قوم: «هي تنبيه ك «يا» في النداء» .
وقال قوم: «روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة
نزلت ليستغربوها فيفتحوا لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها
فتجب عليهم الحجة» .
قال القاضي أبو محمد: والصواب ما قاله الجمهور أن تفسر هذه
الحروف ويلتمس لها التأويل، لأنا نجد العرب قد تكلمت بالحروف
المقطعة نظما لها ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها، كقول
الشاعر:
[الوليد بن المغيرة] [الرجز] .
قلنا لها قفي فقالت قاف
(1/82)
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا
رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
أراد قالت: وقفت. وكقول القائل: [زهير بن
أبي سلمى] [الرجز] .
بالخير خيرات وإن شرّا فا ... ولا أريد الشر إلا أن تا
أراد: وإن شرّا فشر، وأراد: إلا أن تشاء. والشواهد في هذا
كثيرة، فليس كونها في القرآن مما تنكره العرب في لغتها، فينبغي
إذا كان من معهود كلام العرب أن يطلب تأويله ويلتمس وجهه،
والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرت عنها
أو عطفتها فإنك تعربها.
وموضع الم من الإعراب رفع على أنه خبر ابتداء مضمر، أو على أنه
ابتداء، أو نصب بإضمار فعل، أو خفض بالقسم، وهذا الإعراب يتجه
الرفع منه في بعض الأقوال المتقدمة في الحروف، والنصب في بعض،
والخفض في قول ابن عباس رضي الله عنه أنها أسماء لله أقسم بها.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 2]
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
الاسم من ذلِكَ الذال والألف، وقيل الذال وحدها، والألف تقوية،
واللام لبعد المشار إليه وللتأكيد، والكاف للخطاب، وموضع ذلِكَ
رفع كأنه خبر ابتداء، أو ابتداء وخبره بعده، واختلف في ذلِكَ
هنا فقيل: هو بمعنى «هذا» ، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف من
القرآن.
قال القاضي أبو محمد: وذلك أنه قد يشار ب «ذلك» إلى حاضر تعلق
به بعض الغيبة وب «هذا» إلى غائب هو من الثبوت والحضور بمنزلة
وقرب. وقيل: هو على بابه إشارة إلى غائب، واختلف في ذلك
الغائب، فقيل: ما قد كان نزل من القرآن، وقيل: التوراة
والإنجيل، وقيل: اللوح المحفوظ أي الكتاب الذي هو القدر وقيل:
إن الله قد كان وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء،
فأشار إلى ذلك الوعد.
وقال الكسائي: «ذلِكَ إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل
بعد» . وقيل: إن الله قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد
كتابا، فالإشارة إلى ذلك الوعد. وقيل: إن الإشارة إلى حروف
المعجم في قول من قال الم حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم
منها.
ولفظ الْكِتابُ مأخوذ من «كتبت الشيء» إذا جمعته وضممت بعضه
إلى بعض ككتب الخرز بضم الكاف وفتح التاء وكتب الناقة.
ورفع الْكِتابُ يتوجه على البدل أو على خبر الابتداء أو على
عطف البيان. ولا رَيْبَ فِيهِ معناه: لا شكّ فيه ولا ارتياب به
والمعنى أنه في ذاته لا ريب فيه وإن وقع ريب للكفار.
وقال قوم: لفظ قوله لا رَيْبَ فيه لفظ الخبر ومعناه النهي.
وقال قوم: هو عموم يراد به الخصوص أي عند المؤمنين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف.
(1/83)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ (3)
وقرأ الزهري، وابن محيصن، ومسلم بن جندب،
وعبيد بن عمير: «فيه» بضم الهاء وكذلك «إليه» و «عليه» و «به»
و «نصله» ونوله وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل. وقرأ ابن
إسحاق: «فيهو» ضم الهاء ووصلها بواو.
وهُدىً معناه رشاد وبيان، وموضعه، من الإعراب رفع على أنه خبر
ذلِكَ، أو خبر ابتداء مضمر، أو ابتداء وخبره في المجرور قبله،
ويصح أن يكون موضعه نصبا على الحال من ذلك، أو من الكتاب،
ويكون العامل فيه معنى الإشارة، أو من الضمير في فِيهِ،
والعامل معنى الاستقرار وفي هذا القول ضعف.
وقوله لِلْمُتَّقِينَ اللفظ مأخوذ من وقى، وفعله اتّقى، على
وزن افتعل، وأصله «للموتقيين» استثقلت الكسرة على الياء فسكنت
وحذفت للالتقاء، وأبدلت الواو تاء على أصلهم في اجتماع الواو
والتاء، وأدغمت التاء في التاء فصار لِلْمُتَّقِينَ. والمعنى:
الذين يتقون الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب معاصيه، كان
ذلك وقاية بينهم وبين عذاب الله.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 3]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
يُؤْمِنُونَ معناه يصدقون ويتعدى بالباء، وقد يتعدى باللام كما
قال تعالى: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ
[آل عمران: 73] وكما قال: فَما آمَنَ لِمُوسى [يونس: 83] وبين
التعديتين فرق، وذلك أن التعدية باللام في ضمنها تعدّ بالباء
يفهم من المعنى. واختلف القراء في همز يُؤْمِنُونَ فكان ابن
كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يهمزون «يؤمنون»
وما أشبه، مثل يأكلون، ويأمرون، ويؤتون وكذلك مع تحرك الهمزة
مثل «يؤخركم» و «يؤوده» إلا أن حمزة كان يستحب ترك الهمز إذا
وقف، والباقون يقفون بالهمز.
وروى ورش عن نافع ترك الهمز في جميع ذلك. وقد روي عن عاصم أنه
لم يكن يهمز الهمزة الساكنة.
وكان أبو عمرو إذا أدرج القراءة أو قرأ في الصلاة لم يهمز كل
همزة ساكنة، إلا أنه كان يهمز حروفا من السواكن بأعيانها ستذكر
في مواضعها إن شاء الله. وإذا كان سكون الهمزة علامة للجزم لم
يترك همزها مثل ننسأها [البقرة: 105] وَهَيِّئْ لَنا [الكهف:
8] وما أشبهه.
وقوله: بِالْغَيْبِ قالت طائفة: معناه يصدقون إذا غابوا وخلوا،
لا كالمنافقين الذين يؤمنون إذا حضروا ويكفرون إذا غابوا. وقال
آخرون: معناه يصدقون بما غاب عنهم مما أخبرت به الشرائع.
واختلفت عبارة المفسرين في تمثيل ذلك، فقالت فرقة: «الغيب في
هذه الآية هو الله عز وجل» وقال آخرون: «القضاء والقدر» وقال
آخرون: «القرآن وما فيه من الغيوب» وقال آخرون: «الحشر والصراط
والميزان والجنة والنار» .
قال القاضي أبو محمد: وهذه الأقوال لا تتعارض، بل يقع الغيب
على جميعها، والغيب في اللغة:
ما غاب عنك من أمر، ومن مطمئن الأرض الذي يغيب فيه داخله.
(1/84)
وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى
هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
وقوله: يُقِيمُونَ معناه يظهرونها
ويثبتونها، كما يقال: أقيمت السوق، وهذا تشبيه بالقيام من حالة
خفاء، قعود أو غيره، ومنه قول الشاعر: [الكامل] .
وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا ... حتى تقيم الخيل سوق طعان
ومنه قول الشاعر: [المتقارب]
أقمنا لأهل العراقين سوق الطّ ... طعان فخاموا وولّوا جميعا
وأصل يُقِيمُونَ يقومون، نقلت حركة الواو إلى القاف فانقلبت
ياء لكون الكسرة قبلها. والصَّلاةَ مأخوذة من صلى يصلي إذا
دعا، كما قال الشاعر: [البسيط]
عليك مثل الذي صلّيت فاغتمضي ... يوما فإنّ لجنب المرء مضطجعا
ومنه قول الآخر: [الطويل]
لها حارس لا يبرح الدهر بيتها ... وإن ذبحت صلّى عليها وزمزما
فلما كانت الصلاة في الشرع دعاء انضاف إليه هيئات وقراءة سمي
جميع ذلك باسم الدعاء. وقال قوم: هي مأخوذة من الصّلا وهو عرق
في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه، ومنه أخذ المصلي في
سبق الخيل، لأنه يأتي مع صلوي السابق، فاشتقّت الصلاة منه، إما
لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلّي من الخيل، وإما لأن
الراكع والساجد صلواه.
قال القاضي أبو محمد: والقول إنها من الدعاء أحسن.
وقوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ كتبت «مما»
متصلة «وما» بمعنى «الذي» فحقّها أن تكون منفصلة، إلا أن الجار
والمجرور كشيء واحد، وأيضا فلما خفيت نون «من» في اللفظ حذفت
في الخط.
والرزق عند أهل السنة. ما صح الانتفاع به حلالا كان أو حراما،
بخلاف قول المعتزلة إن الحرام ليس برزق. ويُنْفِقُونَ معناه
هنا يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وما ندبهم إليه من غير ذلك.
قال ابن عباس: يُنْفِقُونَ يؤتون الزكاة احتسابا لها» .
قال غيره: «الآية في النفقة في الجهاد» .
قال الضحاك: «هي نفقة كانوا يتقربون بها إلى الله عز وجل على
قدر يسرهم» .
قال ابن مسعود وابن عباس أيضا: «هي نفقة الرجل على أهله» .
قال القاضي أبو محمد: والآية تعمّ الجميع. وهذه الأقوال تمثيل
لا خلاف.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 4 الى 5]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ
عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
اختلف المتأولون فيمن المراد بهذه الآية وبالتي قبلها.
(1/85)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ
غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
فقال قوم: «الآيتان جميعا في جميع
المؤمنين» .
وقال آخرون: «هما في مؤمني أهل الكتاب» .
وقال آخرون: «الآية الأولى في مؤمني العرب، والثانية في مؤمني
أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وفيه نزلت» .
قال القاضي أبو محمد: فمن جعل الآيتين في صنف واحد فإعراب
وَالَّذِينَ خفض على العطف، ويصح أن يكون رفعا على الاستئناف،
«أي وهم الذين» ومن جعل الآيتين في صنفين، فإعراب «الذين» رفع
على الابتداء، وخبره أُولئِكَ عَلى هُدىً ويحتمل أن يكون عطفا.
وقوله: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ يعني الكتب السالفة. وقرأ أبو حيوة ويزيد بن قطيب.
«بما أنزل ... وما أنزل» بفتح الهمزة فيهما خاصة. والفعل على
هذا يحتمل أن يستند إلى الله تعالى، ويحتمل إلى جبريل، والأول
أظهر وألزم. وَبِالْآخِرَةِ قيل معناه بالدار الآخرة، وقيل
بالنشأة الآخرة.
ويُوقِنُونَ معناه يعلمون علما متمكنا في نفوسهم. واليقين أعلى
درجات العلم، وهو الذي لا يمكن أن يدخله شك بوجه وقول مالك
رحمه الله: «فيحلف على يقينه ثم يخرج الأمر على خلاف ذلك»
تجوّز منه في العبارة على عرف تجوّز العرب، ولم يقصد تحرير
الكلام في اليقين.
وقوله تعالى: أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين، و «أولاء» جمع
«ذا» ، وهو مبني على الكسر لأنه ضعف لإبهامه عن قوة الأسماء،
وكان أصل البناء السكون فحرك لالتقاء الساكنين، والكاف للخطاب،
و «الهدى» هنا الإرشاد. وأُولئِكَ الثاني ابتداء،
والْمُفْلِحُونَ خبره، وهُمُ فصل، لأنه وقع بين معرفتين ويصح
أن يكون هُمُ ابتداء، والْمُفْلِحُونَ خبره، والجملة خبر
أُولئِكَ، والفلاح الظفر بالبغية وإدراك الأمل ومنه قول لبيد:
[الرمل] .
اعقلي إن كنت لمّا تعقلي ... ولقد أفلح من كان عقل
وقد وردت للعرب أشعار فيها الفلاح بمعنى البقاء، كقوله:
[الطويل] ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير وقول الأضبط: [المنسرح]
لكلّ همّ من الهموم سعه ... والصّبح والمسى لا فلاح معه
والبقاء يعمه إدراك الأمل والظفر بالبغية، إذ هو رأس ذلك
وملاكه وحكى الخليل الفلاح على المعنيين.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ
عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ
غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
(1/86)
معنى الكفر مأخوذ من قولهم كفر إذا غطى
وستر، ومنه قول الشاعر لبيد بن ربيعة: [الكامل] في ليلة كفر
النجوم غمامها أي سترها ومنه سمي الليل كافرا لأنه يغطي كل شيء
بسواده قال الشاعر: [ثعلبة بن صغيرة] :
[الكامل] .
فتذكر ثقلا رثيدا بعد ما ... ألقت ذكاء يمينها في كافر
ومنه قيل للزراع كفار، لأنهم يغطون الحب، ف «كفر» في الدين
معناه غطى قلبه بالرّين عن الإيمان أو غطى الحق بأقواله
وأفعاله.
واختلف فيمن نزلت هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامة
لوجود الكفار قد أسلموا بعدها.
فقال قوم: «هي فيمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن أراد الله
تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعين أحد» .
وقال ابن عباس: «نزلت هذه الآية في حيي بن أخطب، وأبي ياسر
وابن الأشرف ونظرائهم» وقال الربيع بن أنس: «نزلت في قادة
الأحزاب وهم أهل القليب ببدر» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هكذا حكي هذا
القول، وهو خطأ، لأن قادة الأحزاب قد أسلم كثير منهم، وإنما
ترتيب الآية في أصحاب القليب، والقول الأول مما حكيناه هو
المعتمد عليه، وكل من عين أحدا فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته
على الكفر أنه في ضمن الآية. وقوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ معناه
معتدل عندهم، ومنه قول الشاعر: [أعشى قيس] : [الطويل]
وليل يقول الناس من ظلماته ... سواء صحيحات العيون وعورها
قال أبو علي: في اللفظة أربع لغات: سوى بكسر السين، وسواء
بفتحها والمد، وهاتان لغتان معروفتان، ومن العرب من يكسر السين
ويمد، ومنهم من يضم أوله ويقصره، وهاتان اللغتان أقل من تينك.
ويقال سي بمعنى سواء كما قالوا: «قي، وقواء» ، وسَواءٌ رفع على
خبر إِنَّ، أو رفع على الابتداء وخبره فيما بعده، والجملة خبر
إِنَّ، ويصح أن يكون خبر إِنَّ لا يُؤْمِنُونَ.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع: «آنذرتهم» بهمزة مطولة، وكذلك
ما أشبه ذلك في جميع القرآن، وكذلك كانت قراءة الكسائي إذا
خفف، غير أن مد أبي عمرو أطول من مد ابن كثير، لأنه يدخل بين
الهمزتين ألفا، وابن كثير لا يفعل ذلك. وروى قالون وإسماعيل بن
جعفر عن نافع إدخال الألف بين الهمزتين مع تخفيف الثانية. وروى
عنه ورش تخفيف الثانية بين بين دون إدخال ألف بين الهمزتين،
فأما عاصم وحمزة والكسائي إذا حقق وابن عامر: فبالهمزتين
«أأنذرتهم» ، وما كان مثله في كل القرآن.
وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف
بينهما.
(1/87)
وقرأ الزهري وابن محيصن «أنذرتهم» بحذف
الهمزة الأولى، وتدل أَمْ على الألف المحذوفة، وكثر مكي في هذه
الآية بذكر جائزات لم يقرأ بها، وحكاية مثل ذلك في كتب التفسير
عناء. والإنذار إعلام بتخويف، هذا حده، وأنذرت فعل يتعدى إلى
مفعولين.
قال الله عز وجل: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ
صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] وقال: نَّا أَنْذَرْناكُمْ
عَذاباً قَرِيباً
[النساء: 40] وأحد المفعولين في هذه الآية محذوف لدلالة المعنى
عليه.
وقوله تعالى: أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لفظه
لفظ الاستفهام، ومعناه الخبر، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام
لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام، ألا ترى أنك إذا قلت
مخبرا سواء عليّ أقعدت أم ذهبت، وإذا قلت مستفهما أخرج زيد أم
قام، فقد استوى الأمران عندك، هذان في الخبر، وهذان في
الاستفهام وعدم علم أحدهما بعينه، فلما عمتهما التسوية جرى على
هذا الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام، وكل
استفهام تسوية، وإن لم تكن كل تسوية استفهاما.
وقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ مأخوذ من الختم وهو الطبع،
والخاتم الطابع، وذهبت طائفة من المتأولين إلى أن ذلك على
الحقيقة، وأن القلب على هيئة الكف ينقبض مع زيادة الضلال
والإعراض إصبعا إصبعا.
وقال آخرون: ذلك على المجاز، وإن ما اخترع له في قلوبهم من
الكفر والضلال والإعراض عن الإيمان سماه ختما.
وقال آخرون ممن حمله على المجاز: «الختم هنا أسند إلى الله
تعالى لما كفر الكافرون به وأعرضوا عن عبادته وتوحيده، كما
يقال أهلك المال فلانا وإنما أهلكه سوء تصرفه فيه» .
وقرأ الجمهور: وَعَلى سَمْعِهِمْ.
وقرأ ابن أبي عبلة: «وعلى أسماعهم» ، وهو في قراءة الجمهور
مصدر يقع للقليل والكثير، وأيضا فلما أضيف إلى ضمير جماعة دل
المضاف إليه على المراد، ويحتمل أن يريد على مواضع سمعهم فحذف
وأقام المضاف إليه مقامه.
والغشاوة الغطاء المغشي الساتر، ومنه قول النابغة: [البسيط]
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي ... إذا الدخان تغشى الأشمط البرما
وقال الآخر: [الحارث بن خالد المخزومي] : [الطويل]
تبعتك إذ عيني عليها غشاوة ... فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
ورفع غشاوة على الابتداء وما قبله خبره.
وقرأ عاصم فيما روى المفضل الضبي عنه «غشاوة» بالنصب على تقدير
وجعل على أبصارهم غشاوة، والختم على هذا التقدير في القلوب
والأسماع، والغشوة على الأبصار، والوقف على قوله وَعَلى
سَمْعِهِمْ.
(1/88)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
وقرأ الباقون «غشاوة» بالرفع.
قال أبو علي: «وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن تحمله على
ختم الظاهر فيعترض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به»
وهذا عندنا إنما يجوز في الشعر، وإما أن تحمله على فعل يدل
عليه خَتَمَ تقديره وجعل على أبصارهم، فيجيء الكلام من باب:
«متقلدا سيفا ورمحا» وقول الآخر:
[الرجز] :
علفتها تبنا وماء باردا ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة
واختيار. فقراءة الرفع أحسن، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة»
.
قال: «ولم أسمع من الغشاوة فعلا مصرفا بالواو، فإذا لم يوجد
ذلك وكان معناها معنى ما اللام منه الياء من غشي يغشى بدلالة
قولهم الغشيان فالغشاوة من غشي كالجباوة من جبيت في أن الواو
كأنها بدل من الياء، إذ لم يصرف منه فعل كما لم يصرف من
الجباوة» .
وقال بعض المفسرين: الغشاوة على الأسماع والأبصار، والوقف في
قوله عَلى قُلُوبِهِمْ.
وقال آخرون: «الختم في الجميع، والغشاوة هي الخاتم» .
قال القاضي أبو محمد: وقد ذكرنا اعتراض أبي عليّ هذا القول.
وقرأ أبو حيوة «غشوة» ، بفتح الغين والرفع، وهي قراءة الأعمش.
وقال الثوري: «كان أصحاب عبد الله يقرؤونها «غشية» بفتح الغين
والياء والرفع» .
وقرأ الحسن: «غشاوة» بضم الغين، وقرئت «غشاوة» بفتح الغين،
وأصوب هذه القراءات المقروء بها ما عليه السبعة من كسر الغين
على وزن عمامة والأشياء التي هي أبدا مشتملة، فهكذا يجيء وزنها
كالضمامة والعمامة والكنانة والعصابة والربابة وغير ذلك.
وقوله تعالى: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ معناه بمخالفتك يا محمد
وكفرهم بالله استوجبوا ذلك، وعَظِيمٌ معناه بالإضافة إلى عذاب
دونه يتخلله فتور، وبهذا التخلل المتصور يصح أن يتفاضل العرضان
كسوادين أحدهما أشبع من الآخر، إذ قد تخلل الآخر ما ليس بسواد.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 9]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ
وَما يَشْعُرُونَ (9)
كان أصل النون أن تكسر لالتقاء الساكنين، لكنها تفتح مع الألف
واللام. ومن قال: استثقلت كسرتان تتوالى في كلمة على حرفين
فمعترض بقولهم من ابنك ومن اسمك وما أشبهه.
(1/89)
واختلف النحويون في لفظة النَّاسِ فقال
قوم: «هي من نسي فأصل ناس نسي قلب فجاء نيس تحركت الياء وانفتح
ما قبلها فانقلبت ألفا فقيل ناس، ثم دخلت الألف واللام» .
وقال آخرون: ناس اسم من أسماء الجموع دون هذا التعليل، دخلت
عليه الألف واللام.
وقال آخرون: «أصل ناس أناس دخلت الألف واللام فجاء الأناس،
حذفت الهمزة فجاء الناس أدغمت اللام في النون لقرب المخارج» .
وهذه الآية نزلت في المنافقين.
وقوله تعالى: مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ رجع من لفظ
الواحد إلى لفظ الجمع بحسب لفظ مِنَ ومعناها، وحسن ذلك لأن
الواحد قبل الجمع في الرتبة، ولا يجوز أن يرجع متكلم من لفظ
جمع إلى توحيد، لو قلت ومن الناس من يقولون ويتكلم لم يجز.
وسمى الله تعالى يوم القيامة بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لأنه لا ليل
بعده، ولا يقال يوم إلا لما تقدمه ليل، ثم نفى تعالى الإيمان
عن المنافقين، وفي ذلك رد على الكرامية في قولهم إن الإيمان
قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ.
فقال الحسن بن أبي الحسن: «المعنى يخادعون رسول الله فأضاف
الأمر إلى الله تجوزا لتعلق رسوله به، ومخادعتهم هي تحيلهم في
أن يفشي رسول الله والمؤمنون لهم أسرارهم فيتحفظون مما يكرهونه
ويتنبهون من ضرر المؤمنين على ما يحبونه» .
وقال جماعة من المتأولين: «بل يخادعون الله والمؤمنين، وذلك
بأن يظهروا من الإيمان خلاف ما أبطنوا من الكفر ليحقنوا دماءهم
ويحرزوا أموالهم ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا وفازوا، وإنما
خدعوا أنفسهم لحصولهم في العذاب وما شعروا لذلك» .
واختلف القراء في يخادعون الثاني.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «يخادعون» .
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: «وما يخدعون» .
وقرأ أبو طالوت عبد السلام بن شداد والجارود بن أبي سبرة:
«يخدعون» بضم الياء.
وقرأ قتادة ومورق العجلي: «يخدّعون» بضم الياء وفتح الخاء وكسر
الدال وشدها. فوجه قراءة ابن كثير ومن ذكر إحراز تناسب اللفظ،
وأن يسمى الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له ويجيء ذلك
كما قال الشاعر: [عمرو بن كلثوم] : [الوافر] .
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فجعل انتصاره جهلا، ويؤيد هذا المنزع في هذه الآية أن فاعل قد
تجيء من واحد كعاقبت اللص وطارقت النعل. وتتجه أيضا هذه
القراءة بأن ينزل ما يخطر ببالهم ويهجس في خواطرهم من الدخول
في
(1/90)
الدين والنفاق فيه والكفر في الأمر وضده في
هذا المعنى بمنزلة مجاورة أجنبيين فيكون الفعل كأنه من اثنين.
وقد قال الشاعر: [الكميت] [الطويل] .
تذكر من أنّى ومن أين شربه ... يؤامر نفسيه كذي الهجمة الإبل
وأنشد ابن الأعرابي: [المنسرح]
لم تدر ما لا ولست قائلها ... عمرك ما عشت آخر الأبد
ولم تؤامر نفسيك ممتريا في ... ها وفي أختها ولم تكد
وقال الآخر:
يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة ... أيستوتغ الذوبان أم لا يطورها
وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي: [الطويل]
وكنت كذات الضنء لم تدر إذ بغت ... تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني
ووجه قراءة عاصم ومن ذكر، أن ذلك الفعل هو خدع لأنفسهم يمضي
عليها، تقول: «خادعت الرجل» بمعنى أعملت التحيل عليه، فخدعته
بمعنى تمت عليه الحيلة ونفذ فيه المراد، والمصدر «خدع» بكسر
الخاء وخديعة، حكى ذلك أبو زيد. فمعنى الآية وما ينفذون السوء
إلا على أنفسهم وفيها. ووجه قراءة أبي طالوت أحد أمرين إما أن
يقدر الكلام وما يخدعون إلا عن أنفسهم فحذف حرف الجر ووصل
الفعل كما قال تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155]
أي من قومه وإما أن يكون «يخدعون» أعمل عمل ينتقصون لما كان
المعنى وما ينقصون ويستلبون إلا أنفسهم، ونحوه قول الله تعالى:
لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [البقرة: 187]
ولا تقول رفثت إلى المرأة ولكن لما كان بمعنى الإفضاء ساغ ذلك،
ومنه قوله تعالى: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: 18]
وإنما يقال هل لك في كذا، ولكن لما كان المعنى أجد بك إلى أن
تزكى ساغ ذلك وحسن، وهو باب سني من فصاحة الكلام، ومنه قول
الفرزدق:
[الرجز] .
كيف تراني قالبا مجني ... قد قتل الله زيادا عنّي
لما كانت قتل قد دخلها معنى صرف. ومنه قول الآخر: [نحيف
العامري] : [الوافر]
إذا رضيت عليّ بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
لما كانت رضيت قد تضمنت معنى أقبلت علي.
وأما الكسائي فقال في هذا البيت: «وصل رضي بوصل نقيضه وهو سخط
وقد تجرى أمور في اللسان مجرى نقائضها» .
ووجه قراءة قتادة المبالغة في الخدع، إذ هو مصير إلى عذاب
الله.
قال الخليل: «يقال خادع من واحد لأن في المخادعة مهلة، كما
يقال عالجت المريض لمكان المهلة» .
(1/91)
فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
(11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا
يَشْعُرُونَ (12)
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله
عنه: وهذا من دقيق نظره وكأنه يرد فاعل إلى الاثنين، ولا بد من
حيث ما فيه مهلة ومدافعة ومماطلة، فكأنه يقاوم في المعنى الذي
تجيء فيه فاعل.
وقوله تعالى: وَما يَشْعُرُونَ معناه وما يعلمون علم تفطن
وتهد، وهي لفظة مأخوذة من الشعار كأن الشيء المتفطن له شعار
للنفس، والشعار الثوب الذي يلي جسد الإنسان، وهو مأخوذ من
الشعر، والشاعر المتفطن لغريب المعاني.
وقولهم: «ليت شعري» معناه ليت فطنتي تدرك، ومن هذا المعنى قول
الشاعر: [المنخل الهذلي] .
عقوا بسهم فلم يشعر به أحد ... ثم استفاؤوا وقالوا حبّذا الوضح
واختلف ما الذي نفى الله عنهم أن يشعروا له. فقالت طائفة: «وما
يشعرون أن ضرر تلك المخادعة راجع عليهم لخلودهم في النار» .
وقال آخرون: «وما يشعرون أن الله يكشف لك سرهم ومخادعتهم في
قولهم آمنا» .
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 10 الى 12]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذا قِيلَ
لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ
مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ
لا يَشْعُرُونَ (12)
المرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائد هؤلاء المنافقين
وذلك إما أن يكون شكا، وإما جحدا بسبب حسدهم مع علمهم بصحة ما
يجحدون، وبنحو هذا فسر المتأولون.
وقال قوم: «المرض غمهم بظهور أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم» .
وقرأ الأصمعي عن أبي عمر: «مرض» بسكون الراء وهي لغة في المصدر
قال أبو الفتح: «وليس بتخفيف» .
واختلف المتأولون في معنى قوله فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً
فقيل هو دعاء عليهم، وقيل هو خبر أن الله قد فعل بهم ذلك، وهذه
الزيادة هي بما ينزل من الوحي ويظهر من البراهين، فهي على
هؤلاء المنافقين عمى وكلما كذبوا زاد المرض.
وقرأ حمزة: «فزادهم» بكسر الزاي، وكذلك ابن عامر. وكان نافع
يشم الزاي إلى الكسر، وفتح الباقون. وأَلِيمٌ معناه مؤلم كما
قال الشاعر وهو عمرو بن معدي كرب: [الوافر] .
أمن ريحانة الداعي السميع بمعنى: مسمع.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يكذّبون» بضم الياء
وتشديد الذال.
وقرأ الباقون بفتح الياء وتخفيف الذال. فالقراءة بالتثقيل
يؤيدها قوله تعالى قبل وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ
(1/92)
فهذا إخبار بأنهم يكذبون. والقراءة
بالتخفيف يؤيدها أن سياق الآيات إنما هي إخبار بكذبهم، والتوعد
بالعذاب الأليم، متوجه على الكذب في مثل هذه النازلة، إذ هو
منطو على الكفر، وقراءة التثقيل أرجح. وإِذا ظرف زمان، وحكي عن
المبرد أنها في قولك في المفاجأة خرجت فإذا زيد ظرف مكان،
لأنها تضمنت جثة، وهذا مردود لأن المعنى «خرجت فإذا حضور زيد»
فإنما تضمنت المصدر، كما يقتضيه سائر ظروف الزمان، ومنه قولهم:
«اليوم خمر، وغدا أمر» فمعناه وجود خمر ووقوع أمر، والعامل في
إِذا في هذه الآية قالُوا. وأصل قِيلَ قول نقلت حركة الواو إلى
القاف فقلبت ياء لانكسار ما قبلها.
وقرأ الكسائي: «قيل وغيض وسيء وسيئت وحيل وسيق وجيء» بضم أوائل
ذلك كله. وروي مثل ذلك عن ابن عامر. وروي أيضا عنه أنه كسر
«غيض وقيل وجيء» ، الغين والقاف والجيم حيث وقع من القرآن وضم
نافع من ذلك كله حرفين «سيء وسيئت» وكسر ما بقي. وكان ابن كثير
وعاصم وأبو عمرو وحمزة يكسرون أوائل هذه الحروف كلها، والضمير
في لَهُمْ هو عائد إلى المنافقين المشار إليهم قبل.
وقال بعض الناس: «الإشارة هنا هي إلى منافقي اليهود» .
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: لم يجىء
هؤلاء بعد ومعنى قوله: لم ينقرضوا بل هم يجيئون في كل زمان.
ولا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ معناه بالكفر وموالاة الكفرة،
ونَحْنُ اسم من ضمائر المرفوع مبني على الضم، إذ كان اسما قويا
يقع للواحد المعظم والاثنين والجماعة، فأعطي أسنى الحركات.
وأيضا فلما كان في الأغلب ضمير جماعة، وضمير الجماعة في
الأسماء الظاهرة الواو أعطي الضمة إذ هي أخت الواو، ولقول
المنافقين: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ثلاث تأويلات:
أحدها: جحد أنهم مفسدون وهذا استمرار منهم على النفاق.
والثاني: أن يقروا بموالاة الكفار ويدعون أنها صلاح من حيث هم
قرابة توصل.
والثالث: أنهم مصلحون بين الكفار والمؤمنين، فلذلك يداخلون
الكفار. وأَلا استفتاح كلام، و «إن» بكسر الألف استئناف، وهُمُ
الثاني رفع بالابتداء، والْمُفْسِدُونَ خبره والجملة خبر «إن»
، ويحتمل أن يكون فصلا ويسميه الكوفيون: «العماد» ويكون
الْمُفْسِدُونَ خبر «إن» ، فعلى هذا لا موضع ل هُمُ من
الإعراب، ويحتمل أن يكون تأكيدا للضمير في أنهم فموضعه نصب،
ودخلت الألف واللام في قوله: الْمُفْسِدُونَ لما تقدم ذكر
اللفظة في قوله: لا تُفْسِدُوا فكأنه ضرب من العهد، ولو جاء
الخبر عنهم ولم يتقدم من اللفظة ذكر لكان ألا إنهم مفسدون.
قاله الجرجاني.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الألف واللام تتضمن المبالغة كما
تقول زيد هو الرجل أي حق الرجل، فقد تستغني عن مقدمة تقتضي
عهدا، ولكِنْ بجملته حرف استدراك، ويحتمل أن يراد هنا لا
يشعرون أنهم مفسدون، ويحتمل أن يراد لا يشعرون أن الله يفضحهم،
وهذا مع أن يكون قولهم إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ جحدا محضا
للإفساد. والاحتمال الأول هو بأن يكون قولهم: إِنَّما نَحْنُ
مُصْلِحُونَ اعتقادا منهم أنه
(1/93)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ
السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا
يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا
آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا
مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
صلاح في صلة القرابة، أو إصلاح بين
المؤمنين والكافرين.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 13 الى 14]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا
أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى
شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ
مُسْتَهْزِؤُنَ (14)
المعنى صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وشرعه، مثل ما صدقه
المهاجرون والمحققون من أهل يثرب، قالوا: أنكون كالذين خفت
عقولهم؟ والسفه الخفة والرقة الداعية إلى الخفة يقال «ثوب
سفيه» إذا كان رقيقا مهلهل النسج، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل]
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مرّ الرياح النواسم
وهذا القول إنما كانوا يقولونه في خفاء فأطلع الله عليه نبيه
والمؤمنين، وقرر أن السفه ورقة الحلوم وفساد البصائر إنما هو
في حيزهم وصفة لهم، وأخبر أنهم لا يعلمون أنهم السفهاء للرّين
الذي على قلوبهم.
وقال قوم: «الآية نزلت في منافقي اليهود، والمراد بالناس عبد
الله بن سلام ومن أسلم من بني إسرائيل» .
قال القاضي أبو محمد: وهذا تخصيص لا دليل عليه.
ولَقُوا أصله لقيوا استثقلت الضمة على الياء فسكنت فاجتمع
الساكنان فحذفت الياء. وقرأ ابن السميفع «لاقوا الذين» . وهذه
كانت حال المنافقين إظهار الإيمان للمؤمنين وإظهار الكفر في
خلواتهم بعضهم مع بعض، وكان المؤمنون يلبسونهم على ذلك لموضع
القرابة فلم تلتمس عليهم الشهادات ولا تقرر تعينهم في النفاق
تقررا يوجب لوضوحه الحكم بقتلهم وكان ما يظهرونه من الإيمان
يحقن دماءهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنهم
ويدعهم في غمرة الاشتباه مخافة أن يتحدث عنه أنه يقتل أصحابه
فينفر الناس حسبما قال عليه السلام لعمر بن الخطاب رضي الله
عنه حين قال له في وقت قول عبد الله بن أبي ابن سلول: «لئن
رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» القصة: «دعني يا
رسول الله أضرب عنق هذا المنافق» فقال: «دعه لا يتحدث الناس أن
محمدا يقتل أصحابه» .
فهذه طريقة أصحاب مالك رضي الله عنه في كف رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن المنافقين مع علمه بكفرهم في الجملة. نص على هذا
محمد بن الجهم وإسماعيل القاضي والأبهري وابن الماجشون واحتج
بقوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ
لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا
قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا
تَقْتِيلًا [الأحزاب: 60- 61] . قال قتادة:
«معناه إذا هم أعلنوا النفاق» .
(1/94)
قال مالك رحمه الله: «النفاق في عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم، فيقتل الزنديق
إذا شهد عليه بها دون استتابة، لأنه لا يظهر ما يستتاب منه،
وإنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليسن
لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه إذ لم يشهد على المنافقين» .
قال القاضي إسماعيل: «لم يشهد على عبد الله بن أبي إلا زيد بن
أرقم وحده، ولا على الجلاس بن سويد إلا عمير بن سعد ربيبه
وحده، ولو شهد على أحد منهم رجلان بكفره ونفاقه لقتل» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: أقوى من انفراد
زيد وغيره أن اللفظ ليس بصريح كفر وإنما يفهم من قوته الكفر.
قال الشافعي رحمه الله: «السنة فيمن شهد عليه بالزندقة فجحد
وأعلن بالإيمان وتبرأ من كل دين سوى الإسلام أن ذلك يمنع من
إراقة دمه» . وبه قال أصحاب الرأي والطبري وغيرهم.
قال الشافعي وأصحابه: «وإنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم
من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام بألسنتهم مع
العلم بنفاقهم لأن ما يظهرونه يجب ما قبله فمن قال إن عقوبة
الزنادقة أشد من عقوبة الكفار فقد خالف معنى الكتاب والسنة
وجعل شهادة الشهود على الزنديق فوق شهادة الله على المنافقين»
.
قال الله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ
إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ
الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ.
[المنافقون: 1] .
قال الشافعي وأبو حنيفة وابن حنبل وأهل الحديث: فالمعنى الموجب
لكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين مع العلم
بهم أن الله تعالى نهاه عن قتلهم إذا أظهروا الإيمان وصلوا
فكذلك هو الزنديق.
واحتج ابن حنبل بحديث عبيد الله بن عدي بن الخيار عن رجل من
الأنصار في الذي شهد عليه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالنفاق فقال: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟
قالوا بلى ولا شهادة له، قال: أليس يصلي؟ قالوا بلى ولا صلاة
له، قال: أولئك الذين نهاني الله عنهم» .
وذكر أيضا أهل الحديث ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال فيهم: «لعل الله سيخرج من أصلابهم من يؤمن بالله ويصدق
المرسلين ويخلص العبادات لرب العالمين» .
قال أبو جعفر الطبري في كتاب اللطيف في باب المرتد: «إن الله
تعالى قد جعل الأحكام بين عباده على الظاهر وتولى الحكم في
سرائرهم دون أحد من خلقه فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر لأنه
حكم بالظنون، ولو كان ذلك لأحد كان أولى الناس به رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما
أظهروا ووكل سرائرهم إلى الله وقد كذب الله ظاهرهم في قوله
تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ
[المنافقون: 1] .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ينفصل المالكيون
عما ألزموه من هذه الآية بأنها لم
(1/95)
تعين أشخاصهم وإنما جاء فيها توبيخ لكل
مغموض عليه بالنفاق وبقي لكل واحد منهم أن يقول لم أرد بها ولا
أنا إلا مؤمن ولو عين أحد لما جب كذبه شيئا.
وقوله تعالى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ وصلت خَلَوْا
ب إِلى وعرفها أن توصل بالباء فتقول خلوت بفلان من حيث نزلت
خَلَوْا في هذا الموضع منزلة ذهبوا وانصرفوا، إذ هو فعل معادل
لقوله لَقُوا، وهذا مثل ما تقدم من قول الفرزدق: [الرجز]
كيف تراني قالبا مجنّي ... فقد قتل الله زيادا عني
لما أنزله منزلة صرف ورد.
قال مكي: «يقال خلوت بفلان بمعنى سخرت به فجاءت إلى في الآية
زوالا عن الاشتراك في الباء» .
وقال قوم: إِلى بمعنى مع، وفي هذا ضعف ويأتي بيانه إن شاء الله
في قوله تعالى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ. [آل عمران: 52،
الصف: 14] .
وقال قوم: إِلى بمعنى الباء إذ حروف المعاني يبدل بعضها من
بعض. وهذا ضعيف يأباه الخليل وسيبويه وغيرهما.
واختلف المفسرون في المراد بالشياطين فقال ابن عباس رضي الله
عنه: «هم رؤساء الكفر» .
وقال ابن الكلبي وغيره: «هم شياطين الجن» .
قال القاضي أبو محمد: وهذا في الموضع بعيد.
وقال جمع من المفسرين: «هم الكهان» . ولفظ الشيطنة الذي معناه
البعد عن الإيمان والخير يعم جميع من ذكر والمنافقين حتى يقدر
كل واحد شيطان غيره، فمنهم الخالون، ومنهم الشياطين.
ومُسْتَهْزِؤُنَ معناه نتخذ هؤلاء الذين نصانعهم بإظهار
الإيمان هزوا ونستخف بهم.
ومذهب سيبويه رحمه الله أن تكون الهمزة مضمومة على الواو في
مُسْتَهْزِؤُنَ. وحكى عنه أبو علي أنها تخفف بين بين.
ومذهب أبي الحسن الأخفش أن تقلب الهمزة ياء قلبا صحيحا فيقرأ
«مستهزيون» .
قال ابن جني: «حمل الياء الضمة تذكرا لحال الهمزة المضمومة
والعرب تعاف ياء مضمومة قبلها كسرة» .
وأكثر القراء على ما ذهب إليه سيبويه، ويقال «هزىء واستهزأ»
بمعنى، فهو «كعجب واستعجب» ، ومنه قول الشاعر [أوس بن حجر] :
[الطويل]
ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
(1/96)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا
رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 15 الى 16]
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ
بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ
(16)
اختلف المفسرون في هذا الاستهزاء فقال جمهور العلماء: «هي
تسمية العقوبة باسم الذنب» .
والعرب تستعمل ذلك كثيرا، ومنه قول الشاعر [عمرو بن كلثوم] :
[الوافر] .
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال قوم: إن الله تعالى يفعل بهم أفعالا هي في تأمل البشر هزو
حسبما يروى أن النار تجمد كما تجمد الإهالة فيمشون عليها
ويظنونها منجاة فتخسف بهم، وما يروى أن أبواب النار تفتح لهم
فيذهبون إلى الخروج، نحا هذا المنحى ابن عباس والحسن، وقال
قوم: استهزاؤه بهم هو استدراجهم من حيث لا يعلمون، وذلك أنهم
بدرور نعم الله الدنيوية عليهم يظنون أنه راض عنهم وهو تعالى
قد حتم عذابهم، فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء.
وَيَمُدُّهُمْ معناه يزيدهم في الطغيان. وقال مجاهد: «معناه
يملي لهم» ، قال يونس بن حبيب:
«يقال مد في الشر وأمد في الخير» وقال غيره: «مد الشيء ومده ما
كان مثله ومن جنسه، وأمدّه ما كان مغايرا له، تقول: مدّ النهر
ومدّه نهر آخر، ويقال أمدّه» .
قال اللحياني: «يقال لكل شيء دخل فيه مثله فكثره مده يمده
مدّا، وفي التنزيل: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ
سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان: 27] . ومادة الشيء ما يمده دخلت فيه
الهاء للمبالغة» .
قال ابن قتيبة وغيره: «مددت الدواة وأمددتها بمعنى» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: يشبه أن يكون
«مددتها» جعلت إلى مدادها آخر، و «أمددتها» جعلتها ذات مداد،
مثل «قبر، وأقبر، وحصر، وأحصر» ، ومددنا القوم صرنا لهم
أنصارا، وأمددناهم بغيرنا. وحكى اللحياني أيضا أمدّ الأمير
جنده بالخيل، وفي التنزيل: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ
وَبَنِينَ [الإسراء: 6] .
قال بعض اللغويين: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يمهلهم
ويلجهم.
قال القاضي أبو محمد: فتحتمل اللفظة أن تكون من المد الذي هو
المطل والتطويل، كما فسر في:
عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [الهمزة: 9] . ويحتمل أن تكون من معنى
الزيادة في نفس الطغيان، والطغيان الغلو وتعدي الحد كما يقال:
«طغا الماء وطغت النار» . وروي عن الكسائي إمالة طغيانهم.
ويَعْمَهُونَ يترددون حيرة، والعمه الحيرة من جهة النظر،
والعامة الذي كأنه لا يبصر من التحير في ظلام أو فلاة أو هم.
وقوله: أُولئِكَ إشارة إلى المتقدم ذكرهم، وهو رفع بالابتداء
والَّذِينَ خبره، واشْتَرَوُا
(1/97)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا
يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ
(18)
صلة ل الَّذِينَ، وأصله اشتريوا تحركت
الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا فحذفت لالتقاء الساكنين،
وقيل استثقلت الضمة على الياء فسكنت وحذفت للالتقاء وحركت
الواو بعد ذلك للالتقاء بالساكن بعدها، وخصت بالضم لوجوه منها
أن الضمة أخت الواو وأخف الحركات عليها، ومنها أنه لما كانت
واو جماعة ضمت كما فعل بالنون في «نحن» . ومنها أنها ضمت
اتباعا لحركة الياء المحذوفة قبلها.
قال أبو على: «صار الضم فيها أولى ليفصل بينها وبين واو «أو» و
«لو» إذ هذان يحركان بالكسر» .
وقرأ أبو السمال قعنب العدوي بفتح الواو في: «اشتروا الضلالة»
.
وقرأها يحيى بن يعمر بكسر الواو. والضلالة والضلال: التلف نقيض
الهدى الذي هو الرشاد إلى المقصد.
واختلفت عبارة المفسرين عن معنى قوله: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ
بِالْهُدى فقال قوم: «أخذوا الضلالة وتركوا الهدى» .
وقال آخرون: استحبوا الضلالة وتجنبوا الهدى كما قال تعالى:
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: 17] .
وقال آخرون: الشراء هنا استعارة وتشبيه، لما تركوا الهدى وهو
معرض لهم ووقعوا بدله في الضلالة واختاروها شبهوا بمن اشترى
فكأنهم دفعوا في الضلالة هداهم إذ كان لهم أخذه.
وبهذا المعنى تعلق مالك رحمه الله في منع أن يشتري الرجل على
أن يتخير في كل ما تختلف آحاد جنسه ولا يجوز فيه التفاضل.
وقال قوم: الآية فيمن كان آمن من المنافقين ثم ارتد في باطنه
وعقده ويقرب الشراء من الحقيقة على هذا.
وقوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ختم للمثل بما يشبه
مبدأه في لفظة الشراء، وأسند الربح إلى التجارة كما قالوا:
«ليل قائم ونهار صائم» . والمعنى فما ربحوا في تجارتهم.
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «فما ربحت تجاراتهم» بالجمع.
وقوله تعالى: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ قيل المعنى في شرائهم
هذا، وقيل على الإطلاق، وقيل في سابق علم الله، وكل هذا يحتمله
اللفظ.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 18]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا
أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ
فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ
لا يَرْجِعُونَ (18)
«المثل والمثل والمثيل» واحد، معناه الشبه، هكذا نص أهل اللغة
والمتماثلان المتشابهان، وقد يكون مثل الشيء جرما مثله، وقد
يكون ما تعقل النفس وتتوهمه من الشيء مثلا له، فقوله تعالى:
مَثَلُهُمْ
(1/98)
كَمَثَلِ
معناه أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل
في نفس الناظر في أمر المستوقد، وبهذا يزول الإشكال الذي في
تفسير قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ [الرعد: 35، محمد: 15]
وفي تفسير قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]
لأن ما يتحصل للعقل من وحدانيته وأزليته ونفي ما لا يجوز عليه
ليس يماثله فيه شيء، وذلك المتحصل هو المثل الأعلى الذي في
قوله عز وجل:
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النحل: 6] . وقد جاء في تفسيره
أنه لا إله إلا الله ففسر بجهة الوحدانية.
وقوله: مَثَلُهُمْ رفع بالابتداء والخبر في الكاف، وهي على هذا
اسم كما هي في قول الأعشى:
[البسيط] .
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
ويجوز أن يكون الخبر محذوفا تقديره مثلهم مستقر كمثل، فالكاف
على هذا حرف، ولا يجوز ذلك في بيت الأعشى لأن المحذوف فاعل
تقديره شيء كالطعن، والفاعل لا يجوز حذفه عند جمهور البصريين،
ويجوز حذف خبر الابتداء إذا كان الكلام دالا عليه، وجوز الأخفش
حذف الفاعل، وأن يكون الكاف في بيت الأعشى حرفا ووحد الذي لأنه
لم يقصد تشبيه الجماعة بالجماعة، وإنما المقصد أن كل واحد من
المنافقين فعله كفعل المستوقد، والَّذِي أيضا ليس بإشارة إلى
واحد ولا بد، بل إلى هذا الفعل: وقع من واحد أو من جماعة.
قال النحويون: الذي اسم مبهم يقع للواحد والجميع. واسْتَوْقَدَ
قيل معناه أوقد، فذلك بمنزلة عجب واستعجب بمعنى.
قال أبو علي: وبمنزلة هزىء واستهزأ وسخر واستسخر، وقر واستقر
وعلا قرنه واستعلاه، وقد جاء استفعل بمعنى أفعل أجاب واستجاب
ومنه قول الشاعر [كعب بن سعد الغنوي] : [الطويل] .
فلم يستجبه عند ذاك مجيب وأخلف لأهل واستخلف إذا جلب لهم
الماء، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
ومستخلفات من بلاد تنوفة ... لمصفرة الأشداق حمر الحواصل
ومنه قول الآخر: [الطويل] سقاها فروّاها من الماء مخلف ومنه
أوقد واستوقد قاله أبو زيد، وقيل استوقد يراد به طلب من غيره
أن يوقد له على المشهور من باب استفعل، وذلك يقتضي حاجته إلى
النار، فانطفاؤها مع حاجته إليها أنكى له. واختلف في أَضاءَتْ
فقيل يتعدى لأنه نقل بالهمزة من ضاء، ومنه قول العباس بن عبد
المطلب في النبي صلى الله عليه وسلم:
[المنسرح]
وأنت لما ولدت أشرقت ال ... أرض وضاءت بنورك الطرق
(1/99)
وعلى هذا، ف (ما) في قوله: ما حَوْلَهُ
مفعولة، وقيل (أضاءت) لا تتعدى، لأنه يقال ضاء وأضاء بمعنى، ف
(ما) زائدة، وحوله ظرف. واختلف المتأولون في فعل المنافقين
الذي يشبه فعل (الذي استوقد نارا) .
فقالت طائفة: هي فيمن آمن ثم كفر بالنفاق، فإيمانه بمنزلة
النار إذا أضاءت، وكفره بعد بمنزلة انطفائها وذهاب النور.
وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: «إن ما يظهر المنافق في الدنيا
من الإيمان فيحقن به دمه ويحرز ماله ويناكح ويخالط كالنار التي
أضاءت ما حوله، فإذا مات صار إلى العذاب الأليم، فذلك بمنزلة
انطفائها وبقائه في الظلمات» .
وقالت فرقة: إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم
كالنار وانصرافهم إلى مردتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها.
وقالت فرقة: إن المنافقين كانوا عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم والمؤمنين في منزلة بما أظهروه، فلما فضحهم الله وأعلم
بنفاقهم سقطت المنزلة، فكان ذلك كله بمنزلة النار وانطفائها.
وقالت فرقة منهم قتادة: نطقهم ب «لا إله إلا الله» والقرآن
كإضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها.
قال جمهور النحاة: جواب «لما» ذهب، ويعود الضمير من «نورهم» في
هذا القول على (الذي) ، ويصح شبه الآية بقول الشاعر: [الأشهب
بن رميلة] : [الطويل] .
وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كلّ القوم يا أمّ
خالد
وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد، لأن بقاء
المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الاختلاف
المتقدم.
وقال قوم: جواب «لما» مضمر، وهو طفئت، والضمير في «نورهم» على
هذا للمنافقين والإخبار بهذا هو عن حال تكون في الآخرة وهو
قوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ [الحديد:
13] .
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول غير قوي، وقرأ الحسن بن أبي
الحسن وأبو السمال «في ظلمات» بسكون اللام، وقرأ قوم «ظلمات»
بفتح اللام.
قال أبو الفتح: في ظلمات وكسرات ثلاث لغات: اتباع الضم الضم
والكسر الكسر أو التخفيف بأن يعدل إلى الفتح في الثاني أو
التخفيف بأن يسكن الثاني، وكل ذلك جائز حسن، فأما فعلة بالفتح
فلا بد فيه من التثقيل اتباعا فتقول ثمرة وثمرات.
قال القاضي أبو محمد: وذهب قوم في «ظلمات» بفتح اللام إلى أنه
جمع ظلم فهو جمع الجمع، والأصم الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا
ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس، وقيل الأبكم والأخرس
واحد،
(1/100)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ
أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ
الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ
الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ
مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
ووصفهم بهذه الصفات إذ أعمالهم من الخطأ
وقلة الإجابة كأعمال من هذه صفته، وصم رفع على خبر ابتداء فإما
أن يكون ذلك على تقدير تكرار أولئك، وإما على إضمار هم.
وقرأ عبد الله بن مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله عنهما.
«صما، بكما، عميا» بالنصب، ونصبه على الحال من الضمير في
مُهْتَدِينَ، وقيل هو نصب على الذم، وفيه ضعف، وأما من جعل
الضمير في «نورهم» للمنافقين لا للمستوقدين فنصب هذه الصفات
على قوله على الحال من الضمير في تَرَكَهُمْ.
قال بعض المفسرين قوله تعالى فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ إخبار منه
تعالى أنهم لا يؤمنون بوجه.
قال القاضي أبو محمد: وإنما كان يصح هذا إن لو كانت الآية في
معينين، وقال غيره: معناه فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ما داموا على
الحال التي وصفهم بها، وهذا هو الصحيح، لأن الآية لم تعين،
وكلهم معرض للرجوع مدعو إليه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 19 الى 20]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ
وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ
الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ
بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ
كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ
عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
أَوْ للتخيير، معناه مثلوهم بهذا أو بهذا، لا على الاقتصار على
أحد الأمرين، وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ معطوف على كَمَثَلِ
الَّذِي. وقال الطبري: أَوْ بمعنى الواو.
قال القاضي أبو محمد: وهذه عجمة، والصيب المطر من صاب يصوب إذا
انحط من علو إلى سفل، ومنه قول علقمة بن عبدة: [الطويل]
كأنهم: صابت عليهم سحابة ... صواعقها لطيرهنّ دبيب
وقول الآخر: [الطويل]
فلست لإنسيّ ولكن لملأك ... تنّزل من جوّ السماء يصوب
وأصل صيّب صيوب اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون
فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعل في سيّد وميّت.
وقال بعض الكوفيين: أصل صيّب صويب على مثال فعيل وكان يلزمه أن
لا يعل كما لم يعل طويل، فبهذا يضعف هذا القول.
وقوله تعالى: ظُلُماتٌ بالجمع، إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة
الدجن ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت، وكون الدجن مظلما هول وغم
للنفس، بخلاف السحاب والمطر إذا انجلى دجنه، فإنه سارّ جميل،
ومنه قول قيس بن الخطيم: [المتقارب]
(1/101)
فما روضة من رياض القطا ... كأنّ المصابيح
حوذانها
بأحسن منها ولا مزنة ... دلوح تكشّف أدجانها
واختلف العلماء في الرعد: فقال ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب
وغيرهم: هو ملك يزجر السحاب بهذا الصوت المسموع كلما خالفت
سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه طار النار من فيه، فهي
الصَّواعِقِ، واسم هذا الملك الرعد، وقيل الرعد ملك، وهذا
الصوت تسبيحه، وقيل الرعد اسم الصوت المسموع، قاله علي بن أبي
طالب رضي الله عنه، وهذا هو المعلوم في لغة العرب، وقد قال
لبيد في جاهليته: [المنسرح]
فجعني الرعد والصواعق بال ... فارس يوم الكريهة النجد
وروي عن ابن عباس أنه قال: «الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت
ذلك الصوت» . وقيل:
«الرعد اصطكاك أجرام السحاب» . وأكثر العلماء على أن الرعد
ملك، وذلك صوته يسبح ويزجر السحاب.
واختلفوا في البرق:
فقال علي بن أبي طالب: «هو مخراق حديد بيد الملك يسوق به
السحاب» .
وقال ابن عباس: «هو سوط نور بيد الملك يزجي به السحاب» .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن البرق ملك يتراءى، وقال قوم:
«البرق ماء» ، وهذا قول ضعيف.
والصاعقة: قال الخليل: «هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد يكون
معها أحيانا نار، يقال إنها من المخراق الذي بيد الملك، وقيل
في قطعة النار إنها ماء يخرج من فم الملك عند غضبه» .
وحكى الخليل عن قوم من العرب «الساعقة» بالسين.
وقال النقاش: «يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد» .
وقرأ الحسن بن أبي الحسن «من الصواقع» بتقديم القاف. قال أبو
عمرو: «وهي لغة تميم» .
وقرأ الضحاك بن مزاحم «حذار الموت» بكسر الحاء وبألف. واختلف
المتأولون في المقصد بهذا المثل وكيف تترتب أحوال المنافقين
الموازنة لما في المثل من الظلمات والرعد والبرق والصواعق.
فقال جمهور المفسرين: «مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه
من الإشكال عليهم. والعمى: هو الظلمات، وما فيه من الوعيد
والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد
أن تبهرهم هو البرق وتخوفهم وروعهم وحذرهم هو جعل أصابعهم في
آذانهم، وفضح نفاقهم، واشتهار كفرهم، وتكاليف الشرع التي
يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوه هي الصواعق» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا كله صحيح
بين.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: «إن رجلين من المنافقين هربا من
النبي صلى الله عليه وسلم إلى
(1/102)
المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله
وأيقنا بالهلاك، فقالا: ليتنا أصبحنا فنأتي محمدا ونضع أيدينا
في يده، فأصبحا وأتياه وحسن إسلامهما، فضرب الله ما نزل بهما
مثلا للمنافقين» .
وقال أيضا ابن مسعود: «إن المنافقين في مجلس رسول الله صلى
الله عليه وسلم كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا
القرآن، فضرب الله المثل لهم» .
قال القاضي أبو محمد: وهذا وفاق لقول الجمهور الذي ذكرناه.
وقال قوم: «الرعد والبرق هما بمثابة زجر القرآن ووعيده» .
ومُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ معناه بعقابه وأخذه، يقال أحاط
السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة، ومنه قوله
تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف: 42] ففي الكلام حذف مضاف،
ويكاد فعل ينفي المعنى مع إيجابه ويوجبه مع النفي، فهنا لم
يخطف البرق الأبصار، والخطف الانتزاع بسرعة.
واختلفت القراءة في هذه اللفظة فقرأ جمهور الناس: «يخطف
أبصارهم» بفتح الياء والطاء وسكون الخاء، على قولهم في الماضي
خطف بكسر الطاء وهي أفصح لغات العرب، وهي القرشية.
وقرأ علي بن الحسين ويحيى بن وثاب: «يخطف» بفتح الياء وسكون
الخاء وكسر الطاء على قول بعض العرب في الماضي «خطف» بفتح
الطاء، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن وأبي رجاء، وذلك
وهم.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وعاصم الجحدري وقتادة: «يخطّف» بفتح
الياء وكسر الخاء والطاء وتشديد الطاء، وهذه أصلها «يختطف»
أدغمت التاء في الطاء وكسرت الخاء لالتقاء الساكنين.
وحكى ابن مجاهد قراءة لم ينسبها إلى أحد «يخطّف» بفتح الياء
والخاء وتشديد الطاء المكسورة.
قال أبو الفتح: «أصلها يختطف نقلت حركة التاء إلى الخاء وأدغمت
التاء في الطاء» .
وحكى أبو عمرو الداني عن الحسن أيضا، أنه قرأ «يخطّف» بفتح
الياء والخاء والطاء وشدها.
وروي أيضا عن الحسن والأعمش «يخطّف» بكسر الثلاثة وشد الطاء
منها. وهذه أيضا أصلها يختطف أدغم وكسرت الخاء للالتقاء وكسرت
الياء اتباعا.
وقال عبد الوارث: «رأيتها في مصحف أبي بن كعب «يتخطّف» بالتاء
بين الياء والخاء» .
وقال الفراء: «قرأ بعض أهل المدينة بفتح الياء وسكون الخاء وشد
الطاء مكسورة» .
قال أبو الفتح: «إنما هو اختلاس وإخفاء فيلطف عندهم فيرون أنه
إدغام، وذلك لا يجوز» .
قال القاضي أبو محمد: لأنه جمع بين ساكنين دون عذر.
وحكى الفراء قراءة عن بعض الناس بضم الياء وفتح الخاء وشد
الطاء مكسورة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: كأنه تشديد مبالغة لا تشديد
تعدية.
(1/103)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا
لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (22)
ومعنى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ
أَبْصارَهُمْ تكاد حجج القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم،
ومن جعل الْبَرْقُ في المثل الزجر والوعيد قال يكاد ذلك
يصيبهم.
وكُلَّما ظرف، والعامل فيه مَشَوْا وهو أيضا جواب كُلَّما،
وأَضاءَ صلة ما، ومن جعل أَضاءَ يتعدى قدر له مفعولا، ومن جعله
بمنزلة ضاء استغنى عن ذلك.
وقرأ ابن أبي عبلة: «أضا لهم» بغير همز، وهي لغة.
وفي مصحف أبي بن كعب: «مروا فيه» .
وفي قراءة ابن مسعود «مضوا فيه» .
وقرأ الضحاك: «وإذا أظلم» بضم الهمزة وكسر اللام، وقامُوا
معناه ثبتوا، لأنهم كانوا قياما، ومنه قول الأعرابي: «وقد أقام
الدهر صعري بعد أن أقمت صعره» يريد أثبت الدهر، ومعنى الآية
فيما روي عن ابن عباس وغيره كلما سمع المنافقون القرآن وظهرت
لهم الحجج أنسوا ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه
ويضلون به أو يكلفونه قاموا أي ثبتوا على نفاقهم.
وروي عن ابن مسعود أن معنى الآية: كلما صلحت أحوالهم في زروعهم
ومواشيهم وتوالت عليهم النعم قالوا دين محمد دين مبارك. وإذا
نزلت بهم مصيبة أو أصابتهم شدة سخطوه وثبتوا في نفاقهم.
وقال قوم: معنى الآية: كلما خفي عليكم نفاقهم وظهر لكم منهم
الإيمان مشوا فيه، فإذا افتضحوا عندكم قاموا، ووحد السمع لأنه
مصدر يقع للواحد والجمع.
وحكى النقاش أن من العلماء من قرأ بأسماعهم.
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة: «ولو شاء الله لأذهب أسماعهم
وأبصارهم» وخص الأسماع والأبصار لتقدم ذكرها في الآية. ويشبه
هذا المعنى في حال المنافقين أن الله لو شاء لأوقع بهم ما
يتخوفونه من الزجر والوعيد أو لفضحهم عند المؤمنين وسلط
المؤمنين عليهم، وبكل مذهب من هذين قال قوم.
وقوله تعالى: عَلى كُلِّ شَيْءٍ لفظه العموم ومعناه عند
المتكلمين على كل شيء يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه وقَدِيرٌ
بمعنى قادر، وفيه مبالغة، وخص هنا صفته التي هي القدرة بالذكر
لأنه قد تقدم ذكر فعل مضمنه الوعيد والإخافة، فكان ذكر القدرة
مناسبا لذلك.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
«يا» حرف نداء، وفيه تنبيه، و «أي» هو المنادى.
(1/104)
قال أبو علي: «اجتلبت أي بعد حرف النداء
فيما فيه الألف واللام لأن في حرف النداء تعريفا فكان يجتمع
تعريفان، و «ها» تنبيه وإشارة إلى المقصود، وهي بمنزلة ذا في
الواحد، والنَّاسُ نعت لازم لأي» .
وقال مجاهد: يا أَيُّهَا النَّاسُ حيث وقع في القرآن مكي، ويا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مدني.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: قد تقدم في أول
السورة أنها كلها مدنية، وقد يجيء في المدني يا أَيُّهَا
النَّاسُ، وأما قوله في يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فصحيح.
وقوله تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ معناه وحدوه وخصوه بالعبادة،
وذكر تعالى خلقه لهم من بين سائر صفاته إذ كانت العرب مقرة بأن
الله خلقها، فذكر ذلك حجة عليهم.
و «لعل» في هذه الآية قال فيها كثير من المفسرين هي بمعنى
إيجاب التقوى وليست من الله تعالى بمعنى ترجّ وتوقّع.
وقال سيبويه ورؤساء اللسان: هي على بابها، والترجي والتوقع
إنما هو في حيز البشر، أي إذا تأملتم حالكم مع عبادة ربكم
رجوتم لأنفسكم التقوى، ولَعَلَّكُمْ متعلقة بقوله: اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ، ويتجه تعلقها بخلقكم أي لما ولد كل مولود على
الفطرة فهو إن تأمله متأمل توقّع له ورجا أن يكون متقيا.
وتَتَّقُونَ مأخوذ من الوقاية، وأصله «توتقيون» نقلت حركة
الياء إلى القاف وحذفت للالتقاء مع الواو الساكنة وأدغمت الواو
الأولى في التاء.
وقوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ نصب على إتباع الذي المتقدم، ويصح
أن يكون مرفوعا على القطع.
وما ذكر مكي من إضمار أعني أو مفعول ب تَتَّقُونَ فضعيف.
وجعل بمعنى صير في هذه الآية لتعديها إلى مفعولين، وفِراشاً
معناه تفترشونها وتستقرون عليها، وما في الأرض مما ليس بفراش
كالجبال والبحار فهو من مصالح ما يفترش منها، لأن الجبال
كالأوتاد والبحار يركب فيها إلى سائر منافعها، والسَّماءَ قيل
هو اسم مفرد جمعه «سماوات» ، وقيل هو جمع واحده «سماوة» ، وكل
ما ارتفع عليك في الهواء فهو سماء، والهواء نفسه علوا يقال له
«سماء» ، ومنه الحديث:
«خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعا» ، واللفظة من السمو
وتصاريفه.
وقوله تعالى: بِناءً تشبيه بما يفهم، كما قال تعالى:
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: 47] .
وقال بعض الصحابة: «بناها على الأرض كالقبة» .
وقوله: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ يريد السحاب، سمي بذلك تجوزا
لما كان يلي السماء ويقاربها وقد سموا المطر سماء للمجاورة،
ومنه قول الشاعر: [الوافر] .
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
فتجوز أيضا في رعيناه، فبتوسط المطر جعل السماء عشبا، وأصل
ماءً موه يدل على ذلك قولهم في
(1/105)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ
تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
الجمع مياه وأمواه، وفي التصغير مويه،
وانطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك، أي هي
معدة أن يصح الانتفاع بها فهي رزق، ورد بهذه الآية بعض الناس
قول المعتزلة إن الرزق ما يصح تملكه، وليس الحرام برزق، وواحد
الأندادند، وهو المقاوم والمضاهي كان مثلا أو خلافا أو ضدا،
ومن حيث قاوم وضاهى فقد حصلت مماثلة ما.
وقال أبو عبيدة معمر والمفضل: الضد الند، وهذا التخصيص منهما
تمثيل لا حصر.
واختلف المتأولون من المخاطب بهذه الآية؟ فقالت جماعة من
المفسرين: المخاطب جميع المشركين. فقوله على هذا: وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ يريد العلم الخاص في أنه تعالى خلق وأنزل الماء
وأخرج الرزق، ولم تنف الآية الجهالة عن الكفار، وقيل المراد
كفار بني إسرائيل، فالمعنى تعلمون من الكتب التي عندكم، أن
الله لا ند له.
وقال ابن فورك: «يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين» ، فالمعنى لا
ترتدوا أيها المؤمنون، وتجعلوا لله أندادا بعد علمكم الذي هو
نفي الجهل بأن الله واحد. وهذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى
الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله
بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا، فقد أخذ بطرق من
جعل لله ندا، عصمنا الله تعالى بفضله وقصر آمالنا عليه بمنه
وطوله، لا رب غيره.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 24]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ
(24)
الريب الشك، وهذه الآية تقتضي أن الخطاب المتقدم إنما هو
لجماعة المشركين الذين تحدوا، وتقدم تفسير لفظ سورة في صدر هذا
التعليق. وقرأ يزيد بن قطيب: «أنزلنا» بألف.
واختلف المتأولون على من يعود الضمير في قوله مِثْلِهِ: فقال
جمهور العلماء: هو عائد على القرآن ثم اختلفوا. فقال الأكثر من
مثل نظمه ورصفه وفصاحة معانيه التي يعرفونها ولا يعجزهم إلا
التأليف الذي خصّ به القرآن، وبه وقع الإعجاز على قول حذاق أهل
النظر.
وقال بعضهم: مِنْ مِثْلِهِ في غيوبه وصدقه وقدمه، فالتحدي عند
هؤلاء وقع بالقدم، والأول أبين ومِنْ على هذا القول زائدة، أو
لبيان الجنس، وعلى القول الأول هي للتبعيض، أو لبيان الجنس.
وقالت فرقة: الضمير في قوله مِنْ مِثْلِهِ عائد على محمد صلى
الله عليه وسلم، ثم اختلفوا.
فقالت طائفة: من أمي صادق مثله.
وقالت طائفة: من ساحر أو كاهن أو شاعر مثله. على زعمكم أيها
المشركون.
(1/106)
وقالت طائفة: الضمير في مِثْلِهِ عائد على
الكتب القديمة التوراة والإنجيل والزبور.
وقوله تعالى: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ معناه دعاء استصراخ،
والشهداء من شهدهم وحضرهم من عون ونصير، قاله ابن عباس. وقيل
عن مجاهد: إن المعنى دعاء استحضار.
والشهداء جمع شاهد، أي من يشهد لكم أنكم عارضتم، وهذا قول
ضعيف.
وقال الفراء: شهداؤهم يراد بهم آلهتهم.
وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فيما قلتم من الريب.
هذا قول بعض المفسرين.
وقال غيره: فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة. ويؤيد هذا
القول أنه قد حكى عنهم في آية أخرى: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا
مِثْلَ هذا [الأنفال: 31] .
وقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، دخلت «إن» على لَمْ لأن
لَمْ تَفْعَلُوا معناه تركتم الفعل، ف «إن» لا تؤثر كما لا
تؤثر في الماضي من الأفعال، وتَفْعَلُوا جزم ب لَمْ، وجزمت ب
لَمْ لأنها أشبهت «لا» في التبرية في أنهما ينفيان، فكما تحذف
لا تنوين الاسم كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل.
وقوله: وَلَنْ تَفْعَلُوا نصبت لَنْ، ومن العرب من تجزم بها،
ذكره أبو عبيدة، ومنه بيت النابغة على بعض الروايات: [البسيط]
فلن أعرّض أبيت اللعن بالصفد وفي الحديث في منامة عبد الله بن
عمر فقيل لي: «لن ترع» هذا على تلك اللغة، وفي قوله: لَنْ
تَفْعَلُوا إثارة لهممهم وتحريك لنفوسهم، ليكون عجزهم بعد ذلك
أبدع، وهو أيضا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها.
وقوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ، أمر بالإيمان وطاعة الله
خرج في هذه الألفاظ المحذرة.
وقرأ الجمهور: «وقودها» بفتح الواو. وقرأ الحسن بن أبي الحسن
ومجاهد وطلحة بن مصرف وأبو حيوة: «وقودها» بضم الواو في كل
القرآن، إلا أن طلحة استثنى الحرف الذي في البروج، وبفتح الواو
هو الحطب وبضمها هو المصدر، وقد حكيا جميعا في الحطب وقد حكيا
في المصدر.
قال ابن جني: «من قرأ بضم الواو فهو على حذف مضاف تقديره ذو
وقودها، لأن الوقود بالضم مصدر، وليس بالناس، وقد جاء عنهم
الوقود بالفتح في المصدر، ومثله ولعت به «ولوعا» بفتح الواو،
وكله شاذ، والباب هو الضم» .
وقوله: النَّاسُ عموم معناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء
بدخولها.
وروي عن ابن مسعود في الْحِجارَةُ أنها حجارة الكبريت وخصت
بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب: سرعة
الاتقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدخان، وشدة الالتصاق بالأبدان،
وقوة حرها إذا حميت.
(1/107)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا
مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي
رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ
فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
وفي قوله تعالى: أُعِدَّتْ رد على من قال:
إن النار لم تخلق حتى الآن، وهو القول الذي سقط فيه منذر بن
سعيد البلوطي الأندلسي، وذهب بعض المتأولين إلى أن هذه النار
المخصصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة، وأن غيرها هي للعصاة.
وقال الجمهور: بل الإشارة إلى جميع النار لا إلى نار مخصوصة،
وإنما ذكر الكافرين ليحصل المخاطبون في الوعيد، إذ فعلهم كفر،
فكأنه قال أعدت لمن فعل فعلكم، وليس يقتضي ذلك أنه لا يدخلها
غيرهم.
وقرأ ابن أبي عبلة: «أعدّها الله للكافرين» .
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 25]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ
لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما
رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي
رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ
فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)
بَشِّرِ مأخوذ من البشرة لأن ما يبشر به الإنسان من خير أو شر
يظهر عنه أثر في بشرة الوجه، والأغلب استعمال البشارة في
الخير، وقد تستعمل في الشر مقيدة به منصوصا على الشر المبشر
به، كما قال تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:
21، التوبة: 34، الانشقاق: 24] ومتى أطلق لفظ البشارة فإنما
يحمل على الخير، وفي قوله تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ رد
على من يقول إن لفظة الإيمان بمجردها تقتضي الطاعات لأنه لو
كان ذلك ما أعادها.
وأَنَّ في موضع نصب ب بَشِّرِ وقيل في موضع خفض على تقدير باء
الجر وجَنَّاتٍ جمع جنة، وهي بستان الشجر والنخيل، وبستان
الكرم يقال له الفردوس، وسميت جنة لأنها تجن من دخلها أي
تستره، ومنه المجن والجنن وجن الليل. ومِنْ تَحْتِهَا معناه من
تحت الأشجار التي يتضمنها ذكر الجنة وقيل قوله مِنْ تَحْتِهَا
معناه بإزائها كما تقول داري تحت دار فلان وهذا ضعيف،
والْأَنْهارُ المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة، لأنها لفظة
مأخوذة من أنهرت أي وسعت، ومنه قول قيس بن الخطيم:
[الطويل] .
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم وذكر اسم
الله عليه فكلوه» معناه ما وسع الذبح حتى جرى الدم كالنهر ونسب
الجري إلى النهر وإنما يجري الماء وحده تجوزا، كما قال
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وكما قال الشاعر: [مهلهل أخو
كليب] [الكامل]
نبّئت أن النار بعدك أوقدت ... واستبّ بعدك يا كليب المجلس
وروي أن أنهار الجنة ليست في أخاديد، إنما تجري على سطح أرض
الجنة منضبطة. وقوله:
(1/108)
كُلَّما ظرف يقتضي الحصر وفي هذه الآية رد
على من يقول: إن الرزق من شروطه التملك.
قال القاضي أبو محمد: ذكر هذا بعض الأصوليين وليس عندي ببين،
وقولهم هذَا إشارة إلى الجنس أي: هذا من الجنس الذي رزقنا منه
من قبل، والكلام يحتمل أن يكون تعجبا وهو قول ابن عباس، ويحتمل
أن يكون خبرا من بعضهم لبعض، قاله جماعة من المفسرين.
وقال الحسن ومجاهد: «يرزقون الثمرة ثم يرزقون بعدها مثل صورتها
والطعم مختلف فهم يتعجبون لذلك ويخبر بعضهم بعضا» .
وقال ابن عباس: «ليس في الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء،
وأما الذوات فمتباينة» .
وقال بعض المتأولين: «المعنى أنهم يرون الثمر فيميزون أجناسه
حين أشبه منظره ما كان في الدنيا، فيقولون: هذَا الَّذِي
رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ في الدنيا» .
قال القاضي أبو محمد: وقول ابن عباس الذي قبل هذا يرد على هذا
القول بعض الرد.
وقال بعض المفسرين: «المعنى هذا الذي وعدنا به في الدنيا
فكأنهم قد رزقوه في الدنيا إذ وعد الله منتجز» .
وقال قوم: إن ثمر الجنة إذا قطف منه شيء خرج في الحين في موضعه
مثله فهذا إشارة إلى الخارج في موضع المجني.
وقرأ جمهور الناس: «وأتوا» بضم الهمزة وضم التاء.
وقرأ هارون الأعور: «وأتوا» بفتح الهمزة والتاء والفاعل على
هذه القراءة الولدان والخدام، و «أتوا» على قراءة الجماعة أصله
أتيوا نقلت حركة الياء إلى التاء ثم حذفت الياء للالتقاء.
وقوله تعالى: مُتَشابِهاً قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم:
«معناه يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في الطعم» .
وقال عكرمة: «معناه يشبه ثمر الدنيا في المنظر ويباينه في جل
الصفات» .
وقوله تعالى: مُتَشابِهاً معناه خيار لا رذل فيه، كقوله تعالى:
كِتاباً مُتَشابِهاً [الزمر: 23] .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: كأنه يريد متناسبا
في أن كل صنف هو أعلى جنسه فهذا تشابه ما، وقيل مُتَشابِهاً أي
مع ثمر الدنيا في الأسماء لا في غير ذلك من هيئة وطعم،
وأَزْواجٌ جمع زوج والمرأة زوج الرجل والرجل زوج المرأة ويقال
في المرأة زوجة ومنه قول الفرزدق: [الطويل]
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وقال عمار بن ياسر في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:
«والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله
ابتلاكم» . ذكر البخاري وغيره الحديث بطوله. ومُطَهَّرَةٌ أبلغ
من طاهرة، ومعنى هذه الطهارة من الحيض والبزاق وسائر أقذار
الآدميات، وقيل من الآثام. والخلود الدوام في الحياة أو
(1/109)
إِنَّ اللَّهَ لَا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا
فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ
بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
الملك ونحوه وخلد بالمكان إذا استمرت
إقامته فيه، وقد يستعمل الخلود مجازا فيما يطول، وأما هذا الذي
في الآية فهو أبدي حقيقة.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 26]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما
بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا
الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا
مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما
يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26)
ذكر المفسرون أنه لما ضرب الله تعالى المثلين المتقدمين في هذه
السورة قال الكفار: ما هذه الأمثال؟ الله عز وجل أجل من أن
يضرب هذه أمثالا، فنزلت الآية.
وقال ابن قتيبة: «إنما نزلت لأن الكفار أنكروا ضرب المثل في
غير هذه السورة بالذباب والعنكبوت» .
وقال قوم: «هذه الآية مثل للدنيا» .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف يأباه رصف الكلام
واتساق المعنى. ويَسْتَحْيِي أصله يستحيي، عينه ولامه حرفا
علة، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت.
وقرأ ابن كثير في بعض الطرق عنه، وابن محيصن وغيرهما «يستحي»
بكسر الحاء، وهي لغة لتميم، نقلت حركة الياء الأولى إلى الحاء
فسكنت ثم استثقلت الضمة على الياء الثانية فسكنت، فحذفت
إحداهما للالتقاء.
واختلف المتأولون في معنى: يَسْتَحْيِي في هذه الآية. فرجح
الطبري أن معناه يخشى. وقال غيره:
معناه يترك وهذا هو الأولى. ومن قال يمتنع أو يمنعه الحياء فهو
يترك أو قريب منه. ولما كان الجليل القدر في الشاهد لا يمنعه
من الخوض في نازل القول إلا الحياء من ذلك، رد الله بقوله:
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي على القائلين كيف يضرب الله مثلا
بالذباب ونحوه، أي إن هذه الأشياء ليست من نازل القول، إذ هي
من الفصيح في المعنى المبلغ أغراض المتكلم إلى نفس السامع،
فليست مما يستحيى منه.
وحكى المهدوي أن الاستحياء في هذه الآية راجع إلى الناس، وهذا
غير مرضي.
وقوله تعالى: أَنْ يَضْرِبَ، إِنَّ مع الفعل في موضع نصب،
كأنها مصدر في موضع المفعول، ومعنى يَضْرِبَ مَثَلًا يبين ضربا
من الأمثال أي نوعا، كما تقول: هذا من ضرب هذا، والضريب
المثيل. ويحتمل أن يكون مثل ضرب البعث، وضرب الذلة، فيجيء
المعنى أن يلزم الحجة بمثل، ومَثَلًا مفعول، فقيل هو الأول،
وقيل هو الثاني، قدم وهو في نية التأخير، لأن «ضرب» في هذا
المعنى يتعدى إلى مفعولين.
واختلفوا في قوله: ما بَعُوضَةً فقال قوم: ما صلة زائدة لا
تفيد إلا شيئا من تأكيد. وقيل ما
(1/110)
نكرة في موضع نصب على البدل من قوله
مَثَلًا، وبَعُوضَةً نعت ل ما، فوصفت ما بالجنس المنكر
لإبهامها. حكى المهدوي هذا القول عن الفراء والزجاج وثعلب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقيل غير هذا مما هو تخليط دعا
إليه الظن أَنْ يَضْرِبَ إنما يتعدى إلى مفعول واحد.
وقال بعض الكوفيين: نصب بَعُوضَةً على تقدير إسقاط حرف الجر.
والمعنى أن يضرب مثلا ما من بعوضة.
وحكي عن العرب: «له عشرون ما ناقة فجملا» ، وأنكر أبو العباس
هذا الوجه.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والذي يترجح أن ما
صلة مخصصة كما تقول جئتك في أمر ما فتفيد النكرة تخصيصا
وتقريبا، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: [الخفيف]
سلع ما ومثله عشر ما ... عائل ما وعالت البيقورا
وبعوضة على هذا مفعول ثان.
وقال قوم: ما نكرة، كأنه قال شيئا. والآية في هذا يشبهها قول
حسان بن ثابت: [الكامل] .
فكفى بنا فضلا على من غيرنا ... حبّ النبيّ محمد إيّانا
قال القاضي أبو محمد: وقد تقدم نظير هذا القول، والشبه بالبيت
غير صحيح عندي، والبعوضة فعولة من بعض إذا قطع اللحم، يقال بضع
وبعض بمعنى، وعلى هذا حملوا قول الشاعر: [الوافر] .
لنعم البيت بيت أبي دثار ... إذا ما خاف بعض القوم بعضا
وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج: «بعوضة»
بالرفع.
قال أبو الفتح: وجه ذلك أن «ما» اسم بمنزلة «الذي» ، أي لا
يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلا، فحذف العائد على الموصول،
وهو مبتدأ، ومثله قراءة بعضهم: «تماما على الذي أحسن» أي على
الذي هو أحسن.
وحكى سيبويه ما أنا بالذي قائل لك شيئا، أي هو قائل.
وقوله تعالى: فَما فَوْقَها من جعل ما الأولى صلة زائدة، ف
«ما» الثانية عطف على بعوضة، ومن جعل ما اسما ف «ما» الثانية
عطف عليها.
وقال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما: «المعنى فما فوقها في الصغر»
.
وقال قتادة وابن جريج وغيرهما: «المعنى في الكبر» .
قال القاضي أبو محمد: والكل محتمل، والضمير في أَنَّهُ، عائد
على المثل.
واختلف النحويون في ماذا: فقيل هي بمنزلة اسم واحد، بمعنى أي
شيء أراد الله، وقيل «ما»
(1/111)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ
عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
اسم «وذا» اسم آخر بمعنى الذي، ف «ما» في
موضع رفع بالابتداء، و «ذا» خبره، ومعنى كلامهم هذا الإنكار
بلفظ الاستفهام.
وقوله: مَثَلًا نصب على التمييز، وقيل على الحال من «ذا» في
بِهذا، والعامل فيه الإشارة والتنبيه.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً
وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً فقيل هو من قول الكافرين، أي ما مراد
الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى؟ وقيل
بل هو خبر من الله تعالى أنه يضل بالمثل الكفار الذين يعمون
به، ويهدي به المؤمنين الذين يعلمون أنه الحق. وفي هذا رد على
المعتزلة في قولهم: «إن الله لا يخلق الضلال» ولا خلاف أن قوله
تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ من قول الله
تعالى.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون قوله تعالى: وَيَهْدِي
بِهِ كَثِيراً إلى آخر الآية ردا من الله تعالى على قول الكفار
يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً والفسق الخروج عن الشيء. يقال فسقت
الفارة إذا خرجت من جحرها، والرطبة إذا خرجت من قشرها، والفسق
في عرف الاستعمال الشرعي الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع
على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان، وقراءة جمهور الأمة في
هذه الآية: «يضل» بضم الياء فيهما.
وروي عن إبراهيم بن أبي عبلة أنه قرأ «يضل» بفتح الياء، «كثير»
بالرفع «ويهدي به كثير. وما يضل به إلا الفاسقون» بالرفع.
قال أبو عمرو الداني: «هذه قراءة القدرية وابن أبي عبلة من
ثقات الشاميين ومن أهل السنة، ولا تصح هذه القراءة عنه، مع
أنها مخالفة خط المصحف» .
وروي عن ابن مسعود أنه قرأ في الأولى: «يضل» بضم الياء وفي
الثانية «وما يضل» بفتح الياء «به إلا الفاسقون» .
قال القاضي أبو محمد: وهذه قراءة متجهة لولا مخالفتها خط
المصحف المجمع عليه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 27 الى 29]
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً
فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(29)
النقض رد ما أبرم على أوله غير مبرم، والعهد في هذه الآية
التقدم في الشيء والوصاة به.
(1/112)
واختلف في تفسير هذا العهد: فقال بعض
المتأولين: هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهر
أبيهم آدم كالذر.
وقال آخرون: بل نصب الأدلة على وحدانية الله بالسماوات والأرض
وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد.
وقال آخرون: بل هذا العهد هو الذي أخذه الله على عباده بواسطة
رسله أن يوحدوه وأن لا يعبدوا غيره.
وقال آخرون: بل هذا العهد هو الذي أخذه الله تعالى على أتباع
الرسل والكتب المنزلة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن
لا يكتموا أمره.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فالآية على هذا في
أهل الكتاب، وظاهر ما قبل وبعد أنه في جميع الكفار.
وقال قتادة: «هذه الآية هي فيمن كان آمن بالنبي عليه السلام ثم
كفر به فنقض العهد» .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لم ينسب الطبري شيئا من هذه
الأقوال، وكل عهد جائز بين المسلمين فنقضه لا يحل بهذه الآية،
والضمير في مِيثاقِهِ يحتمل العودة على العهد أو على اسم الله
تعالى، وميثاق مفعال من الوثاقة، وهي الشد في العقد والربط
ونحوه، وهو في هذه الآية اسم في موضع المصدر كما قال عمرو بن
شييم: [الوافر] .
أكفرا بعد ردّ الموت عنّي ... وبعد عطائك المائة الرّتاعا؟
أراد بعد إعطائك.
وقوله تعالى: ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، ما في موضع
نصب ب يَقْطَعُونَ واختلف الشيء الذي أمر بوصله؟
فقال قتادة: «الأرحام عامة في الناس» وقال غيره: «خاصة فيمن
آمن بمحمد، كان الكفار يقطعون أرحامهم» . وقال جمهور أهل
العلم: الإشارة في هذه الآية إلى دين الله وعبادته في الأرض،
وإقامة شرائعه، وحفظ حدوده.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الحق، والرحم جزء من هذا، وأَنْ
في موضع نصب بدل من ما، أو مفعول من أجله. وقيل أَنْ في موضع
خفض بدل من الضمير في بِهِ، وهذا متجه.
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يعبدون غير الله ويجورون في
الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، والخاسر الذي نقص نفسه حظها من
الفلاح والفوز، والخسران النقص كان في ميزان أو غيره.
وقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ لفظه الاستفهام وليس به، بل
هو تقرير وتوبيخ، أي كيف تكفرون بالله ونعمه عليكم وقدرته هذه؟
وكَيْفَ في موضع نصب على الحال والعامل فيها تَكْفُرُونَ،
وتقديرها أجاحدين تكفرون أمنكرين تكفرون؟ وكَيْفَ مبنية، وخصت
بالفتح لخفته، ومن قال إن كَيْفَ تقرير
(1/113)
وتعجب فمعناه إن هذا الأمر إن عن فحقه أن
يتعجب منه لغرابته وبعده عن المألوف من شكر المنعم، والواو في
قوله وَكُنْتُمْ واو الحال، واختلف في ترتيب هاتين الموتتين
والحياتين: فقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد: «فالمعنى كنتم
أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا دارسين، كما يقال للشيء الدارس
ميت، ثم خلقتم وأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم ثم أماتكم الموت
المعهود، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة» .
وقال آخرون: «كنتم أمواتا بكون آدم من طين ميتا قبل أن يحيى ثم
نفخ فيه الروح فأحياكم بحياة آدم ثم يميتكم ثم يحييكم على ما
تقدم» .
وقال قتادة: «كنتم أمواتا في أصلاب آبائكم فأخرجتم إلى الدنيا
فأحياكم ثم كما تقدم» .
وقال غيره: «كنتم أمواتا في الأرحام قبل نفخ الروح ثم أحياكم
بالإخراج إلى الدنيا ثم كما تقدم» .
وقال ابن زيد: «إن الله تعالى أخرج نسم بني آدم أمثال الذر ثم
أماتهم بعد ذلك فهو قوله وكنتم أمواتا، ثم أحياهم بالإخراج إلى
الدنيا ثم كما تقدم» .
وقال ابن عباس وأبو صالح: «كنتم أمواتا بالموت المعهود ثم
أحياكم للسؤال في القبور، ثم أماتكم فيها، ثم أحياكم للبعث» .
وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: «وكنتم أمواتا بالخمول فأحياكم
بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم» .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والقول الأول هو أولى هذه
الأقوال، لأنه الذي لا محيد للكفار عن الإقرار به في أول
ترتيبه، ثم إن قوله أولا كُنْتُمْ أَمْواتاً وإسناده آخرا
الإماتة إليه تبارك وتعالى مما يقوي ذلك القول، وإذا أذعنت
نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين ثم للإحياء في الدنيا ثم
للإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر، وجاء جحدهم له
دعوى لا حجة عليها، والضمير في إِلَيْهِ عائد على الله تعالى
أي إلى ثوابه أو عقابه، وقيل هو عائد على الاحياء، والأول
أظهر.
وقرأ جمهور الناس «ترجعون» بضم التاء وفتح الجيم.
وقرأ ابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن يعمر وسلام والفياض بن
غزوان ويعقوب الحضرمي:
«يرجع ويرجعون وترجعون» بفتح الياء والتاء حيث وقع.
وخَلَقَ معناه اخترع وأوجد بعد العدم، وقد يقال في الإنسان خلق
بعد إنشائه شيئا، ومنه قول الشاعر:
[زهير بن أبي سلمى] [الكامل]
ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... القوم يخلق ثم لا يفري
ومنه قول الآخر: [مجزوء الكامل]
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليله
ولَكُمْ: معناه للاعتبار، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده من
نصب العبر: الإحياء، والإماتة، والخلق، والاستواء إلى السماء
وتسويتها.
(1/114)
وقال قوم: بل معنى لَكُمْ إباحة الأشياء
وتمليكها، وهذا قول من يقول إن الأشياء قبل ورود السمع على
الإباحة بينته هذه الآية، وخالفهم في هذا التأويل القائلون
بالحظر، والقائلون بالوقف، وأكثر القائلين بالحظر استثنوا
أشياء اقتضت حالها مع وجود الإنسان الإباحة كالتنفس والحركة
ويرد على القائلين بالحظر كل حظر في القرآن وعلى القائلين
بالإباحة كل تحليل في القرآن وإباحة، ويترجح الوقف إذا قدرنا
نازلة لا يوجد فيها سمع ولا تتعلق به.
ومعنى الوقف أنه استنفاد جهد الناظر فيما يحزب من النوازل.
وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال: «لم يخل العقل قط من
السمع ولا نازلة إلا وفيها سمع أولها به تعلق أولها حال
تستصحب» . قال: «فينبغي أن يعتمد على هذا، ويغني عن النظر في
حظر وإباحة ووقف» ، وجَمِيعاً نصب على الحال.
وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى، ثُمَّ هنا هي لترتيب الأخبار لا
لترتيب الأمر في نفسه، واسْتَوى: قال قوم: «معناه علا دون
تكييف ولا تحديد» ، هذا اختيار الطبري، والتقدير علا أمره
وقدرته وسلطانه.
وقال ابن كيسان: «معناه قصد إلى السماء» .
قال القاضي أبو محمد: أي بخلقه واختراعه.
وقيل معناه كمل صنعه فيها كما تقول استوى الأمر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قلق.
وحكى الطبري عن قوم: أن المعنى أقبل، وضعفه.
وحكي عن قوم «المستوي» هو الدخان.
وهذا أيضا يأباه رصف الكلام، وقيل المعنى استولى كما قال
الشاعر الأخطل: [الرجز]
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
وهذا إنما يجيء في قوله تعالى: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه:
5] والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث،
ويبقى استواء القدرة والسلطان.
فَسَوَّاهُنَّ قيل المعنى جعلهن سواء، وقيل سوى سطوحها
بالإملاس، وسَبْعَ نصب على البدل من الضمير، أو على المفعول ب
«سوّى» ، بتقدير حذف الجار من الضمير، كأنه قال فسوّى منهن
سبع، وقيل نصب على الحال، وقال سواهن إما على أن السماء جمع،
وإما على أنه مفرد اسم جنس، فهو دال على الجمع.
وقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ معناه بالموجودات
وتحقق علمه بالمعدومات من آيات أخر، وهذه الآية تقتضي أن الأرض
وما فيها خلق قبل السماء، وذلك صحيح، ثم دحيت الأرض بعد خلق
السماء، وبهذا تتفق معاني الآيات: هذه والتي في سورة المؤمن
وفي النازعات.
(1/115)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ
آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ
لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ (32)
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 32]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ
فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا
إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
(32)
قال معمر بن المثنى: «إذ زائدة، والتقدير وقال ربك» .
قال أبو إسحاق الزجاج: «هذا اجتراء من أبي عبيدة» .
قال القاضي أبو محمد: وكذلك رد عليه جميع المفسرين.
وقال الجمهور: ليست بزائدة وإنما هي معلقة بفعل مقدر تقديره
واذكر إذ قال، وأيضا فقوله: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً الآية، يقتضي أن يكون التقدير وابتداء خلقكم إذ قال
ربك للملائكة، وإضافة رب إلى محمد صلى الله عليه وسلم ومخاطبته
بالكاف تشريف منه له، وإظهار لاختصاصه به، والملائكة واحدها
ملك أصله ملاك على وزن مفعل من لاك إذا أرسل، وجمعه ملائكة على
وزن مفاعلة.
وقال قوم: أصل ملك مألك، من ألك إذا أرسل، ومنه قول عدي بن
زيد: [الرمل]
أبلغ النعمان عني مألكا ... أنه قد طال حبسي وانتظاري
واللغتان مسموعتان لأك وألك، قلبت فيه الهمزة بعد اللام فجاء
وزنه معفل، وجمعه ملائكة، وزنه معافلة.
وقال ابن كيسان: «هو من ملك يملك، والهمزة فيه زائدة كما زيدت
في شمأل من شمل، فوزنه فعأل، ووزن جمعه فعائلة» وقد يأتي في
الشعر على أصله كما قال: [الطويل]
فلست لأنسيّ ولكن لملأك ... تنزّل من جوّ السماء يصوب
وأما في الكلام فسهلت الهمزة وألقيت حركتها على اللام أو على
العين في قول ابن كيسان فقيل ملك، والهاء في ملائكة لتأنيث
الجموع غير حقيقي، وقيل هي للمبالغة كعلامة ونسابة، والأول
أبين.
وقال أبو عبيدة: «الهمزة في ملائكة مجتلبة لأن واحدها ملك» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فهذا الذي نحا
إليه ابن كيسان.
وجاعِلٌ في هذه الآية بمعنى خالق، ذكره الطبري عن أبي روق،
ويقضي بذلك تعديها إلى مفعول واحد.
وقال الحسن وقتادة: «جاعل بمعنى فاعل» .
(1/116)
وقال ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «إن الأرض هنا يعني بها مكة لأن الأرض دحيت من تحتها،
ولأنها مقرّ من هلك قومه من الأنبياء، وإن قبر نوح وهود وصالح
بين المقام والركن» .
وخَلِيفَةً معناه من يخلف.
قال ابن عباس: «كانت الجن قبل بني آدم في الأرض فأفسدوا وسفكوا
الدماء فبعث الله إليهم قبيلا من الملائكة قتلهم وألحق فلّهم
بجزائر البحار ورؤوس الجبال، وجعل آدم وذريته خليفة» .
وقال الحسن: «إنما سمى الله بني آدم خليفة لأن كل قرن منهم
يخلف الذي قبله، الجيل بعد الجيل» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ففي هذا القول،
يحتمل أن تكون بمعنى خالفة وبمعنى مخلوفة.
وقال ابن مسعود: «إنما معناه خليفة مني في الحكم بين عبادي
بالحق وبأوامري» يعني بذلك آدم عليه السلام ومن قام مقامه بعده
من ذريته.
وقرأ زيد بن علي «خليفة» بالقاف.
وقوله تعالى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها الآية، وقد علمنا قطعا
أن الملائكة لا تعلم الغيب ولا تسبق بالقول، وذلك عام في جميع
الملائكة، لأن قوله: «لا يسبقونه بالقول» خرج على جهة المدح
لهم.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب: «فهذه قرينة العموم، فلا يصح مع
هذين الشرطين إلا أن يكون عندهم من إفساد الخليفة في الأرض نبأ
ومقدمة» .
قال ابن زيد وغيره: إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من
ذريته قوم يفسدون ويسفكون الدماء، فقالوا لذلك هذه المقالة.
قال القاضي أبو محمد: فهذا إما على طريق التعجب من استخلاف
الله من يعصيه، أو من عصيان من يستخلفه الله في أرضه وينعم
عليه بذلك، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعا،
الاستخلاف، والعصيان.
وقال أحمد بن يحيى ثعلب وغيره: إنما كانت الملائكة قد رأت
وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء في الأرض فجاء قولهم
أَتَجْعَلُ فِيها الآية، على جهة الاستفهام المحض، هل هذا
الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا؟
وقال آخرون: كان الله تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق في
الأرض خلقا يفسدون ويسفكون الدماء، فلما قال لهم بعد ذلك:
إِنِّي جاعِلٌ قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها الآية، على جهة
الاسترشاد والاستعلام هل هذا الخليفة هو الذي كان أعلمهم به
قبل أو غيره؟
والسفك صب الدم، هذا عرفه، وقد يقال سفك كلامه في كذا إذا
سرده.
(1/117)
وقراءة الجمهور بكسر الفاء.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة: ويسفك» بضم الفاء.
وقرأ ابن هرمز «ويسفك» بالنصب بواو الصرف كأنه قال: من يجمع أن
يفسد وأن يسفك.
وقال المهدوي: هو نصب في جواب الاستفهام.
قال القاضي أبو محمد: والأول أحسن.
وقولهم: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ قال بعض المتأولين: هو
على جهة الاستفهام، كأنهم أرادوا وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ الآية، أم نتغير عن هذه الحال.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا يحسن مع
القول بالاستفهام المحض في قولهم: أَتَجْعَلُ؟.
وقال آخرون: معناه التمدح ووصف حالهم، وذلك جائز لهم كما قال
يوسف عليه السلام: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: 55] .
قال القاضي أبو محمد: وهذا يحسن مع التعجب والاستعظام لأن
يستخلف الله من يعصيه في قولهم أَتَجْعَلُ وعلى هذا أدبهم
بقوله تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ.
وقال قوم: معنى الآية ونحن لو جعلتنا في الأرض واستخلفتنا نسبح
بحمدك. وهذا أيضا حسن مع التعجب والاستعظام في قولهم:
أَتَجْعَلُ.
ومعنى نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ننزهك عما لا يليق بك وبصفاتك.
وقال ابن عباس وابن مسعود: «تسبيح الملائكة صلاتهم لله» .
وقال قتادة: «تسبيح الملائكة قولهم سبحان الله على عرفه في
اللغة» .
وبِحَمْدِكَ معناه: نخلط التسبيح بالحمد ونصله به، ويحتمل أن
يكون قوله بِحَمْدِكَ اعتراضا بين الكلامين، كأنهم قالوا ونحن
نسبح ونقدس، ثم اعترضوا على جهة التسليم، أي وأنت المحمود في
الهداية إلى ذلك.
وَنُقَدِّسُ لَكَ قال الضحاك وغيره: معناه نطهر أنفسنا لك
ابتغاء مرضاتك، والتقديس التطهير بلا خلاف، ومنه الأرض المقدسة
أي المطهرة، ومنه بيت المقدس، ومنه القدس الذي يتطهر به.
وقال آخرون: وَنُقَدِّسُ لَكَ معناه ونقدسك أي نعظمك ونطهر
ذكرك عما لا يليق به. قاله مجاهد وأبو صالح وغيرهما.
وقال قوم: نقدس لك معناه نصلي لك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف.
وقوله تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ الأظهر أن
أَعْلَمُ فعل مستقبل، وما في موضع نصب به،
(1/118)
وقيل أَعْلَمُ اسم، وما في موضع خفض
بالإضافة، ولا يصح الصرف فيه بإجماع من النحاة، وإنما الخلاف
في أفعل إذا سمي به وكان نكرة، فسيبويه والخليل لا يصرفانه،
والأخفش يصرفه.
واختلف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى: ما لا تَعْلَمُونَ
فقال ابن عباس: «كان إبليس- لعنه الله- قد أعجب ودخله الكبر
لما جعله الله خازن السماء الدنيا وشرفه» . وقيل: بل لما بعثه
الله إلى قتل الجن الذين كانوا أفسدوا في الأرض فهزمهم وقتلهم
بجنده، قاله ابن عباس أيضا. واعتقد أن ذلك لمزية له واستحقب
الكفر والمعصية في جانب آدم عليه السلام.
قال: فلما قالت الملائكة وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك. قال
الله لهم إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يعني ما في نفس
إبليس.
وقال قتادة: لما قالت الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ
فِيها وقد علم الله تعالى أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء
وفضلاء وأهل طاعة، قال لهم إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ
يعني أفعال الفضلاء من بني آدم.
وقوله تعالى: وَعَلَّمَ معناه عرف وتعليم آدم هنا عند قوم
إلهام علمه ضرورة.
وقال قوم: بل تعليم بقول، فإما بواسطة ملك، أو بتكليم قبل
هبوطه الأرض، فلا يشارك موسى- عليه السلام- في خاصته.
وقرأ اليماني: «وعلّم» بضم العين على بناء الفعل للمفعول،
«آدم» مرفوعا.
قال أبو الفتح: «وهي قراءة يزيد البربري» ، وآدَمَ أفعل مشتق
من الأدمة وهي حمرة تميل إلى السواد، وجمعه أدم وأوادم كحمر
وأحامر، ولا ينصرف بوجه، وقيل آدَمَ وزنه فاعل مشتق من أديم
الأرض، كأن الملك آدمها وجمعه آدمون وأوادم، ويلزم قائل هذه
المقالة صرفه.
وقال الطبري: «آدم فعل رباعي سمي به» ، وروي عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: «خلق الله آدم من أديم الأرض كلها فخرجت ذريته
على نحو ذلك منهم الأبيض والأسود والأسمر والسهل والحزن والطيب
والخبيث» .
واختلف المتأولون في قوله: الْأَسْماءَ فقال جمهور الأمة:
«علمه التسميات» وقال قوم: «عرض عليه الأشخاص» .
قال القاضي أبو محمد: والأول أبين، ولفظة- علمه- تعطي ذلك.
ثم اختلف الجمهور في أي الأسماء علمه؟ فقال ابن عباس وقتادة
ومجاهد: «علمه اسم كل شيء من جميع المخلوقات دقيقها وجليلها» .
وقال حميد الشامي: «علمه أسماء النجوم فقط» .
وقال الربيع بن خثيم: «علمه أسماء الملائكة فقط» .
(1/119)
وقال عبد الرحمن بن زيد «علمه أسماء ذريته
فقط» .
وقال الطبري: «علمه أسماء ذريته والملائكة» ، واختار هذا ورجحه
بقوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ.
وحكى النقاش عن ابن عباس أنه تعالى علمه كلمة واحدة عرف منها
جميع الأسماء.
وقال آخرون: «علمه أسماء الأجناس، كالجبال والخيل والأودية
ونحو ذلك، دون أن يعين ما سمته ذريته منها» .
وقال ابن قتيبة: «علمه أسماء ما خلق في الأرض» .
وقال قوم: علمه الأسماء بلغة واحدة، ثم وقع الاصطلاح من ذريته
فيما سواها.
وقال بعضهم: «بل علمه الأسماء بكل لغة تكلمت بها ذريته» ، وقد
غلا قوم في هذا المعنى حتى حكى ابن جني عن أبي علي الفارسي أنه
قال: «علم الله تعالى آدم كل شيء، حتى إنه كان يحسن من النحو
مثل ما أحسن سيبويه» ، ونحو هذا من القول الذي هو بين الخطأ من
جهات. وقال أكثر العلماء:
«علمه تعالى منافع كل شيء ولما يصلح» .
وقال قوم: «عرض عليه الأشخاص عند التعليم» .
وقال قوم: «بل وصفها له دون عرض أشخاص» .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه كلها احتمالات، قال الناس
بها.
وقرأ أبي بن كعب: «ثم عرضها» .
وقرأ ابن مسعود: «ثم عرضهن» واختلف المتأولون هل عرض على
الملائكة أشخاص الأسماء أو الأسماء دون الأشخاص؟ فقال ابن
مسعود وغيره: عرض الأشخاص.
وقال ابن عباس وغيره: عرض الأسماء، فمن قال في الأسماء بعموم
كل شيء قال عرضهم أمة أمة ونوعا نوعا، ومن قال في الأسماء إنها
التسميات استقام على قراءة أبيّ: «عرضها» ، ونقول في قراءة من
قرأ «عرضهم» : إن لفظ الأسماء يدل على الأشخاص، فلذلك ساغ أن
يقول للأسماء عرضهم.
وأَنْبِئُونِي معناه: أخبروني، والنبأ الخبر، ومنه النبيء.
وقال قوم: يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليف ما لا يطاق،
ويتقرر جوازه، لأنه تعالى علم أنهم لا يعلمون.
وقال المحققون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليف وإنما
هو على جهة التقرير والتوقيف.
وقوله تعالى: هؤُلاءِ ظاهره حضور أشخاص، وذلك عند العرض على
الملائكة.
وليس في هذه الآية ما يوجب أن الاسم أريد به المسمى كما ذهب
إليه مكي والمهدوي، فمن قال إنه تعالى عرض على الملائكة أشخاصا
استقام له مع لفظ هؤُلاءِ، ومن قال إنه إنما عرض أسماء فقط
(1/120)
جعل الإشارة ب هؤُلاءِ إلى أشخاص الأسماء
وهي غائبة، إذ قد حضر ما هو منها بسبب، وذلك أسماؤها، وكأنه
قال لهم في كل اسم لأي شخص هذا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والذي يظهر أن الله تعالى علم
آدم الأسماء وعرض مع ذلك عليه الأجناس أشخاصا، ثم عرض تلك على
الملائكة وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها آدم، ثم إن آدم
قال لهم هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، وهؤُلاءِ لفظ مبني على
الكسر والقصر فيه لغة تميم وبعض قيس وأسد، قال الأعشى:
[الخفيف] .
هؤلا ثم هؤلا كلا أعطي ... ت نعالا محذوة بنعال
وكُنْتُمْ في موضع الجزم بالشرط، والجواب عند سيبويه فيما
قبله، وعند المبرد محذوف، والتقدير: إن كنتم صادقين فأنبئوني.
وقال ابن مسعود وابن عباس وناس من أصحاب النبي عليه السلام،
معنى الآية: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الخليفة يفسد
ويسفك.
وقال آخرون: صادِقِينَ في أني إن استخلفتكم سبحتم بحمدي وقدستم
لي.
وقال الحسن وقتادة: روي أن الملائكة قالت حين خلق الله آدم:
ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أعلم منا ولا أكرم عليه،
فأراد الله تعالى أن يريهم من علم آدم وكرامته خلاف ما ظنوا
فالمعنى إن كنتم صادقين في دعواكم العلم.
وقال قوم: معنى الآية إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في جواب السؤال
عالمين بالأسماء. قالُوا: ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد
وقالوا: سُبْحانَكَ حكاه النقاش. قال: ولو لم يشترط عليهم
الصدق في الإنباء لجاز لهم الاجتهاد كما جاز للذي أماته الله
مائة عام حين قال له «كم لبثت؟» ولم يشترط عليه الإصابة.
فقال، ولم يصب فلم يعنف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله محتمل.
وحكى الطبري أن بعض المفسرين قال: معنى إِنْ كُنْتُمْ «إذ
كنتم» .
قال الطبري: وهذا خطأ. وإن قال قائل ما الحكمة في قول الله
تعالى للملائكة إِنِّي جاعِلٌ الآية، قيل: هذا منه امتحان لهم
واختبار ليقع منهم ما وقع ويؤدبهم تعالى من تعليم آدم وتكريمه
بما أدب.
وسُبْحانَكَ معناه: تنزيها لك وتبرئة أن يعلم أحد من علمك إلا
ما علمته، وسُبْحانَكَ نصب على المصدر.
وقال الكسائي: «نصبه على أنه منادى مضاف» .
قال الزهراوي: موضع ما من قولهم ما عَلَّمْتَنا نصب ب
عَلَّمْتَنا، وخبر التبرئة في لَنا، ويحتمل أن يكون موضع ما
رفعا على أنه بدل من خبر التبرئة، كما تقول لا إله إلا الله أي
لا إله في
(1/121)
قَالَ يَا آدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ
غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ
وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
(34)
الوجود إلا الله، وأَنْتَ في موضع نصب
تأكيد للضمير في إِنَّكَ، أو في موضع رفع على الابتداء.
والْعَلِيمُ خبره، والجملة خبر «إن» ، أو فاصلة لا موضع لها من
الإعراب. والْعَلِيمُ معناه: العالم، ويزيد عليه معنى من
المبالغة والتكثير من المعلومات في حق الله عز وجل.
والْحَكِيمُ معناه الحاكم، وبينهما مزية المبالغة، وقيل: معناه
المحكم كما قال عمرو بن معديكرب: [الوافر] .
أمن ريحانة الداعي السميع أي المسمع، ويجيء الْحَكِيمُ على هذا
من صفات الفعل.
وقال قوم: الْحَكِيمُ المانع من الفساد، ومنه حكمة الفرس
مانعته، ومنه قول جرير: [الكامل] .
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 33 الى 34]
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي
أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ
أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)
أَنْبِئْهُمْ معناه أخبرهم، وهو فعل يتعدى إلى مفعولين أحدهما
بحرف جر وقد يحذف حرف الجر أحيانا، تقول نبئت زيدا.
قال سيبويه: معناه نبئت عن زيد. والضمير في أَنْبِئْهُمْ عائد
على الملائكة بإجماع، والضمير في أسمائهم مختلف فيه حسب
الاختلاف في الأسماء التي علمها آدم.
قال أبو علي: «كلهم قرأ «أنبئهم» بالهمز وضم الهاء، إلا ما روي
عن ابن عامر، «أنبئهم» بالهمز وكسر الهاء، وكذلك روى بعض
المكيين عن ابن كثير، وذلك على إتباع كسرة الهاء لكسرة الباء،
وإن حجز الساكن فحجزه لا يعتد به» .
قال أبو عمرو الداني: «وقرأ الحسن والأعرج: «أنبيهم» بغير همز»
.
قال ابن جني: «وقرأ الحسن «أنبهم» ، على وزن «أعطهم» ، وقد روي
عنه، «أنبيهم» بغير همز» .
قال أبو عمرو: «وقد روي مثل ذلك عن ابن كثير من طريق القواس» .
قال أبو الفتح: أما قراءة الحسن، «أنبهم» «كأعطهم» ، فعلى
إبدال الهمزة ياء، على أنك تقول «أنبيت» كأعطيت، وهذا ضعيف في
اللغة، لأنه بدل لا تخفيف والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة
شعر.
قال بعض العلماء: إن في قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ
نبوة لآدم عليه السلام، إذ أمره الله أن ينبىء الملائكة بما
ليس عندهم من علم الله عز وجل.
(1/122)
ويجوز فتح الياء من «إني» وتسكينها.
قال الكسائي: «رأيت العرب إذا لقيت عندهم الياء همزة فتحوها» .
قال أبو علي: «كان أبو عمرو يفتح ياء الإضافة المكسور ما قبلها
عند الهمزة المفتوحة والمكسورة، إذا كانت متصلة باسم، أو بفعل،
ما لم يطل الحرف فإنه يثقل فتحها، نحو قوله تعالى: وَلا
تَفْتِنِّي أَلا [التوبة: 49] وقوله تعالى: فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] ، والذي يخف: إِنِّي أَرى
[الأنفال:
48، يوسف: 43، الصافات: 102] وأَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ
[يونس: 72، هود: 29، سبأ: 47] .
وقوله تعالى: أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ معناه:
ما غاب عنكم، لأن الله لا غيب عنده من معلوماته وما في موضع
نصب «بأعلم» .
قال المهدوي: ويجوز أن يكون قوله أَعْلَمُ اسما بمعنى التفضيل
في العلم، فتكون ما في موضع خفض بالإضافة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فإذا قدر الأول
اسما فلا بد بعده من إضمار فعل ينصب غَيْبَ، تقديره إني أعلم
من كل أعلم غيب، وكونها في الموضعين فعلا مضارعا أخصر وأبلغ.
واختلف المفسرون في قوله تعالى: ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ فقالت طائفة: ذلك على معنى العموم في معرفة
أسرارهم وظواهرهم وبواطنهم أجمع.
وحكى مكي أن المراد بقول ما تُبْدُونَ قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها
الآية.
وحكى المهدوي أن ما تُبْدُونَ قولهم: ليخلق ربنا ما شاء فلن
يخلق أعلم منا ولا أكرم عليه، فجعل هذا مما أبدوه لما قالوه.
وقال الزهراوي: «ما أبدوه هو بدارهم بالسجود لآدم» .
واختلف في المكتوم فقال ابن عباس وابن مسعود: المراد ما كتمه
إبليس في نفسه من الكبر والكفر، ويتوجه قوله تَكْتُمُونَ
للجماعة والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها،
كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم: أنتم فعلتم كذا، أي منكم
فاعله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا مع قصد تعنيف، ومنه قوله
تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4] وإنما ناداه منهم
عيينة، وقيل الأقرع، وقال قتادة:
المكتوم هو ما أسره بعضهم إلى بعض من قولهم: ليخلق ربنا ما
شاء، فجعل هذا فيما كتموه لما أسروه، - وَإِذْ من قوله: وَإِذْ
قُلْنا معطوف على إِذْ المتقدمة.
وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل، بشرط
وجودهم وفهمهم، وهذا هو الباب كله في أوامر الله سبحانه
ونواهيه ومخاطباته وقُلْنا كناية العظيم عن نفسه بلفظ الجمع،
وقوله للملائكة عموم فيهم.
(1/123)
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «للملائكة
اسجدوا» برفع تاء للملائكة اتباعا لضمة ثالث المستقبل.
قال أبو علي: «وهذا خطأ» .
وقال الزجاج: «أبو جعفر من رؤساء القراءة ولكنه غلط في هذا» .
قال أبو الفتح: لأن الملائكة في موضع جر فالتاء مكسورة كسرة
إعراب، وهذا الذي ذهب إليه أبو جعفر إنما يجوز إذا كان ما قبل
الهمزة حرفا ساكنا صحيحا، نحو قوله تعالى: وَقالَتِ اخْرُجْ
عَلَيْهِنَّ [يوسف: 31] والسجود في كلام العرب الخضوع والتذلل،
ومنه قول الشاعر [زيد الخيل] : [الطويل]
ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر
وغايته وضع الوجه بالأرض، والجمهور على أن سجود الملائكة لآدم
إيماء وخضوع، ذكره النقاش وغيره، ولا تدفع الآية أن يكونوا
بلغوا غاية السجود.
وقوله تعالى: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الحجر: 29] لا دليل فيه
لأن الجاثي على ركبتيه واقع.
واختلف في حال السجود لآدم، فقال ابن عباس: «تعبدهم الله
بالسجود لآدم، والعبادة في ذلك لله» .
وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس: «إنما كان سجود
تحية كسجود أبوي يوسف عليه السلام، لا سجود عبادة» .
وقال الشعبي: «إنما كان آدم كالقبلة، ومعنى لآدم إلى آدم» .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذه الوجوه كلها كرامة
لآدم عليه السلام.
وحكى النقاش عن مقاتل: «أن الله إنما أمر الملائكة بالسجود
لآدم قبل أن يخلقه» .
قال: «والقرآن يرد على هذا القول» .
وقال قوم: سجود الملائكة كان مرتين، والإجماع يرد هذا.
وقوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ نصب على الاستثناء المتصل، لأنه
من الملائكة على قول الجمهور، وهو ظاهر الآية، وكان خازنا
وملكا على سماء الدنيا والأرض، واسمه عزازيل، قاله ابن عباس.
وقال ابن زيد والحسن: «هو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر، ولم
يكن قط ملكا» .
وقد روي نحوه عن ابن عباس أيضا، قال: «واسمه الحارث» .
وقال شهر بن حوشب: كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم
الملائكة فسبوه صغيرا، وتعبد وخوطب معها، وحكاه الطبري عن ابن
مسعود. والاستثناء على هذه الأقوال منقطع، واحتج بعض أصحاب هذا
القول بأن الله تعالى قال صفة للملائكة: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ
ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» .
ورجح الطبري قول من قال: «إن إبليس كان من الملائكة» . وقال:
«ليس في خلقه من نار ولا في
(1/124)
تركيب الشهوة والنسل فيه حين غضب عليه ما
يدفع أنه كان من الملائكة» .
وقوله عز وجل: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِ [الكهف: 50] يتخرج على أنه عمل عملهم فكان منهم في
هذا، أو على أن الملائكة قد تسمى جنا لاستتارها، قال تعالى:
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً. [الصافات:
158] وقال الأعشى في ذكر سليمان عليه السلام: [الطويل]
وسخّر من جن الملائك تسعة ... قياما لديه يعملون بلا أجر
أو على أن يكون نسبهم إلى الجنة كما ينسب إلى البصرة بصريّ،
لما كان خازنا عليها، وإِبْلِيسَ لا ينصرف لأنه اسم أعجميّ
معرف.
قال الزجاج: «ووزنه فعليل» .
وقال ابن عباس والسّدي وأبو عبيدة وغيرهم: هو مشتق من أبلس إذا
أبعد عن الخير، ووزنه على هذا إفعيل ولم تصرفه هذه الفرقة
لشذوذه، وأجروه مجرى إسحاق من أسحقه الله، وأيوب من آب يؤوب،
مثل قيوم من قام يقوم، ولما لم تصرف هذه- ولها وجه من
الاشتقاق- كذلك لم يصرف هذا وإن توجه اشتقاقه لقلته وشذوذه،
ومن هذا المعنى قول الشاعر العجاج: [الرجز] .
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا ... قال نعم أعرفه وأبلسا
أي تغير وبعد عن العمار والإنس به ومثله قول الآخر: [الرجز]
وفي الوجوه صفرة وإبلاس ومنه قوله تعالى: فَإِذا هُمْ
مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44] أي يائسون عن الخير مبعدون منه فيما
يرون- وأَبى معناه امتنع من فعل ما أمر به، واسْتَكْبَرَ دخل
في الكبرياء، والإباية مقدمة على الاستكبار في ظهورهما عليه،
والاستكبار والأنفة مقدمة في معتقده.
وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: بلغني أن أول معصية كانت
الحسد والكبر والشح، حسد إبليس آدم وتكبر، وشح آدم في أكله من
شجرة قد نهي عن قربها.
حكى المهدوي عن فرقة أن معنى وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ: وصار
من الكافرين.
وقال ابن فورك: «وهذا خطأ ترده الأصول» .
وقالت فرقة: «قد كان تقدم قبل من الجن من كفر فشبهه الله بهم
وجعله منهم، لما فعل في الكفر فعلهم» .
وذكر الطبري عن أبي العالية أنه كان يقول: «وكان من الكافرين
معناه: من العاصين» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وتلك معصية كفر
لأنها عن معتقد فاسد صدرت.
(1/125)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا
حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ
فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ
وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
وروي أن الله تعالى خلق خلقا وأمرهم
بالسجود لآدم فعصوا فأحرقهم بالنار، ثم خلق آخرين وأمرهم بذلك
فعصوا فأحرقهم، ثم خلق الملائكة فأمرهم بذلك فسجدوا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والإسناد في مثل هذا غير وثيق.
وقال جمهور المتأولين: معنى وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي في
علم الله تعالى أنه سيكفر، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو
الذي قد علم الله منه الموافاة.
وذهب الطبري: إلى أن الله أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني
آدم وهم اليهود الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع
علمهم بنبوته ومع تقدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم. واختلف هل
كفر إبليس جهلا أو عنادا على قولين بين أهل السنة، ولا خلاف
أنه كان عالما بالله قبل كفره، فمن قال إنه كفر جهلا قال: «إنه
سلب العلم عند كفره» . ومن قال كفر عنادا قال: «كفر ومعه علمه»
، قال: والكفر عنادا مع بقاء العلم مستبعد، إلا أنه عندي جائز
لا يستحيل مع خذل الله لمن شاء. ولا خلاف أن الله تعالى أخرج
إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم اسكن.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 35 الى 36]
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ
الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ
وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36)
اسْكُنْ معناه لازم الإقامة، ولفظه لفظ الأمر ومعناه الإذن،
وأَنْتَ تأكيد للضمير الذي في اسْكُنْ، وَزَوْجُكَ عطف عليه
والزوج امرأة الرجل وهذا أشهر من زوجة، وقد تقدم، والْجَنَّةَ
البستان عليه حظيرة، واختلف في الجنة التي أسكنها آدم، هل هي
جنة الخلد أو جنة أعدت لهما؟ وذهب من لم يجعلها جنة الخلد إلى
أن من دخل جنة الخلد لا يخرج منها، وهذا لا يمتنع، إلا أن
السمع ورد أن من دخلها مثابا لا يخرج منها، وأما من دخلها
ابتداء كآدم فغير مستحيل ولا ورد سمع بأنه لا يخرج منها.
واختلف متى خلقت حواء من ضلع آدم عليه السلام؟ فقال ابن عباس
«حين أنبأ الملائكة بالأسماء واسجدوا له ألقيت عليه السنة
وخلقت حواء، فاستيقظ وهي إلى جانبه» فقال فيما يزعمون: لحمي
ودمي، وسكن إليها، فذهبت الملائكة لتجرب علمه، فقالوا له يا
آدم ما اسمها؟ قال: حواء. قالوا: ولم؟
قال: لأنها خلقت من شيء حي، ثم قال الله له: اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ.
وقال ابن مسعود وابن عباس أيضا: لما أسكن آدم الجنة مشى فيها
مستوحشا، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصيرى، ليسكن إليها
ويستأنس بها، فلما انتبه رآها، فقال: من أنت؟ قالت: امرأة خلقت
من ضلعك لتسكن إلي، وحذفت النون من كُلا للأمر، والألف الأولى
لحركة الكاف حين حذفت الثانية لاجتماع المثلين وهو حذف شاذ،
ولفظ هذا الأمر ب كُلا معناه الإباحة، بقرينة قوله: حَيْثُ
شِئْتُما والضمير في مِنْها عائد على الْجَنَّةَ.
(1/126)
وقرأ ابن وثاب والنخعي «رغدا» بسكون الغين،
والجمهور على فتحها، والرغد العيش الدارّ الهنيّ الذي لا عناء
فيه، ومنه قول امرئ القيس: [الرمل] .
بينما المرء تراه ناعما ... يأمن الأحداث في عيش رغد
ورَغَداً منصوب على الصفة لمصدر محذوف وقيل: هو نصب على المصدر
في موضع الحال، وحَيْثُ مبنية على الضم، ومن العرب من يبنيها
على الفتح، ومن العرب من يعربها حسب موضعها بالرفع والنصب
والخفض، كقوله سبحانه: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا
يَعْلَمُونَ [الأعراف: 82، القلم: 44] ومن العرب من يقول «حوث»
، وشِئْتُما أصله شيأتما حوّل إلى فعلتما تحركت ياؤه وانفتح ما
قبلها جاء شائتما، حذفت الألف الساكنة الممدودة للالتقاء وكسرت
الشين لتدل على الياء فجاء شئتما.
قال القاضي أبو محمد: هذا تعليل المبرد، فأما سيبويه فالأصل
عنده شيئتما بكسر الياء، نقلت حركة الياء إلى الشين، وحذفت
الياء بعد.
وقوله تعالى: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ معناه لا
تقرباها بأكل، لأن الإباحة فيه وقعت.
قال بعض الحذاق: «إن الله لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى
عنه بلفظة تقتضي الأكل وما يدعو إليه وهو القرب» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا مثال بين في
سد الذرائع.
وقرأ ابن محيصن هذي على الأصل، والهاء في هذه بدل من الياء،
وليس في الكلام هاء تأنيث مكسور ما قبلها غير هذه، وتحتمل هذه
الإشارة أن تكون إلى شجرة معينة واحدة، أو إلى جنس.
وحكى هارون الأعور عن بعض العلماء قراءة «الشّجرة» بكسر الشين
و «الشجر» كل ما قام من النبات على ساق.
واختلف في هذه الشَّجَرَةَ التي نهى عنها ما هي؟
فقال ابن مسعود وابن عباس: «هي الكرم ولذلك حرمت علينا الخمر»
.
وقال ابن جريج عن بعض الصحابة: «هي شجرة التين» .
وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك وعطية وقتادة: «هي السنبلة وحبها
ككلى البقر، أحلى من العسل، وألين من الزبد» .
وروي عن ابن عباس أيضا: «أنها شجرة العلم، فيها ثمر كل شيء» .
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لا يصح عن ابن عباس.
وحكى الطبري عن يعقوب بن عتبة: «أنها الشجرة التي كانت
الملائكة تحنك بها للخلد» .
قال القاضي أبو محمد: وهذا أيضا ضعيف.
(1/127)
قال: «واليهود تزعم أنها الحنظلة، وتقول:
إنها كانت حلوة ومرّت من حينئذ» .
قال القاضي أبو محمد: وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده
خبر، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة
فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها، وفي حظره تعالى على آدم
الشجرة ما يدل على أن سكناه في الجنة لا يدوم، لأن المخلد لا
يحظر عليه شيء، ولا يؤمر ولا ينهى.
وقيل إن هذه الشجرة كانت خصت بأن تحوج آكلها إلى التبرز، فلذلك
نهي عنها فلما أكل منها ولم تكن الجنة موضع تبرز أهبط إلى
الأرض.
وقوله فَتَكُونا في موضع جزم على العطف على لا تَقْرَبا، ويجوز
فيه النصب على الجواب، والناصب عند الخليل وسيبويه «أن
المضمرة» ، وعند الجرمي الفاء، والظالم في اللغة الذي يضع
الشيء غير موضعه، ومنه قولهم: «من أشبه أباه فما ظلم» ، ومنه
«المظلومة الجلد» لأن المطر لم يأتها في وقته، ومنه قول عمرو
بن قمئة: [الكامل]
ظلم البطاح بها انهلال حريصة ... فصفا النطاف له بعيد المقلع
والظلم في أحكام الشرع على مراتب، أعلاها الشرك، ثم ظلم
المعاصي وهي مراتب، وهو في هذه الآية يدل على أن قوله: وَلا
تَقْرَبا على جهة الوجوب، لا على الندب، لأن من ترك المندوب لا
يسمى ظالما، فاقتضت لفظة الظلم قوة النهي، و «أزلهما» مأخوذ من
الزلل، وهو في الآية مجاز، لأنه في الرأي والنظر، وإنما حقيقة
الزلل في القدم.
قال أبو علي: فَأَزَلَّهُمَا يحتمل تأويلين، أحدهما، كسبهما
الزلة، والآخر أن يكون من زل إذا عثر» .
وقرأ حمزة: «فأزالهما» ، مأخوذ من الزوال، كأنه المزيل لما كان
إغواؤه مؤديا إلى الزوال. وهي قراءة الحسن وأبي رجاء، ولا خلاف
بين العلماء أن إبليس اللعين هو متولي إغواء آدم. واختلف في
الكيفية، فقال ابن عباس وابن مسعود وجمهور العلماء: أغواهما
مشافهة، ودليل ذلك قوله تعالى: وَقاسَمَهُما والمقاسمة ظاهرها
المشافهة.
وقال بعضهم: إن إبليس لما دخل إلى آدم كلمه في حاله، فقال: يا
آدم ما أحسن هذا لو أن خلدا كان، فوجد إبليس السبيل إلى
إغوائه، فقال: هل أدلك على شجرة الخلد؟.
وقال بعضهم: دخل الجنة في فم الحية وهي ذات أربع كالبختية، بعد
أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم تدخله إلا الحية، فخرج
إلى حواء وأخذ شيئا من الشجرة، وقال: انظري ما أحسن هذا
فأغواها حتى أكلت، ثم أغوى آدم، وقالت له حواء: كل فإني قد
أكلت فلم يضرني فأكل فبدت لهما سوءاتهما، وحصلا في حكم الذنب،
ولعنت الحية وردت قوائمها في جوفها، وجعلت العداوة بينها وبين
بني آدم، وقيل لحواء: كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم في كل
شهر، وكذلك تحملين كرها، وتضعين كرها، تشرفين به على الموت
مرارا. زاد الطبري والنقاش: «وتكونين سفيهة، وقد كنت حليمة» .
(1/128)
وقالت طائفة: إن إبليس لم يدخل الجنة إلى
آدم بعد أن أخرج منها، وإنما أغوى آدم بشيطانه وسلطانه ووساوسه
التي أعطاه الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن
الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» . والضمير في عَنْها عائد
على الشَّجَرَةَ في قراءة من قرأ «أزلهما» ، ويحتمل أن يعود
على الْجَنَّةَ فأما من قرأ أزالهما فإنه يعود على الْجَنَّةَ
فقط، وهنا محذوف يدل عليه الظاهر، تقديره فأكلا من الشجرة.
وقال قوم: «أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي
واقعا على جميع جنسها» .
وقال آخرون: «تأولا النهي على الندب» .
وقال ابن المسيب: «إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فكان
في غير عقله» .
وقوله تعالى: فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ يحتمل وجوها،
فقيل أخرجهما من الطاعة إلى المعصية.
وقيل: من نعمة الجنة إلى شقاء الدنيا. وقيل: من رفعة المنزلة
إلى سفل مكانة الذنب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله يتقارب.
وقرأ أبو حيوة: «اهبطوا» بضم الباء. «ويفعل» كثير في غير
المتعدي وهبط غير متعدّ. والهبوط النزول من علو إلى أسفل.
واختلف من المخاطب بالهبوط، فقال السدي وغيره: «آدم وحواء
وإبليس والحية» .
وقال الحسن: «آدم وحواء والوسوسة» .
قال غيره: «والحية لأن إبليس قد كان أهبط قبل عند معصيته» .
وبَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ جملة في موضع الحال، وإفراد لفظ
عَدُوٌّ من حيث لفظ بعض، وبعض وكل تجري مجرى الواحد، ومن حيث
لفظة عَدُوٌّ تقع للواحد والجمع، قال الله تعالى: هُمُ
الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [المنافقون: 4] وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي موضع استقرار قاله أبو العالية وابن
زيد.
وقال السدي: «المراد الاستقرار في القبور، والمتاع ما يستمتع
به من أكل ولبس وحياة، وحديث، وأنس، وغير ذلك» . وأنشد سليمان
بن عبد الملك حين وقف على قبر ابنه أيوب إثر دفنه: [الطويل]
وقفت على قبر غريب بقفرة ... متاع قليل من حبيب مفارق
واختلف المتأولون في الحين هاهنا فقالت فرقة: إلى الموت، وهذا
قول من يقول المستقر هو المقام في الدنيا، وقالت فرقة: إِلى
حِينٍ إلى يوم القيامة، وهذا قول من يقول: المستقر هو في
القبور. ويترتب أيضا على أن المستقر في الدنيا أن يراد بقوله:
وَلَكُمْ، أي لأنواعكم في الدنيا استقرار ومتاع قرنا بعد قرن
إلى يوم القيامة، والحين المدة الطويلة من الدهر، أقصرها في
الأيمان والالتزامات سنة.
قال الله تعالى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ
رَبِّها [إبراهيم: 25] وقد قيل: أقصرها ستة أشهر، لأن من النخل
ما يثمر في كل ستة أشهر، وقد يستعمل الحين في المحاورات في
القليل من الزمن.
(1/129)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ
رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
وفي قوله تعالى: إِلى حِينٍ فائدة لآدم
عليه السلام، ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي
وعد بالرجوع إليها، وهي لغير آدم دالة على المعاد.
وروي أن آدم نزل على جبل من جبال سرنديب وأن حواء نزلت بجدة،
وأن الحية نزلت بأصبهان، وقيل بميسان، وأن إبليس نزل على
الأبلة.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 37 الى 39]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ
إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا
مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ
تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
(38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ
أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)
المعنى: فقال الكلمات فتاب الله عليه عند ذلك، وآدَمُ رفع ب
«تلقى» ، وكَلِماتٍ نصب بها، والتلقي من آدم هو الإقبال عليها
والقبول لها والفهم.
وحكى مكي قولا: أنه ألهمها فانتفع بها.
وقرأ ابن كثير: «آدم» بالنصب. «من ربه كلمات» بالرفع، فالتلقي
من الكلمات هو نيل آدم بسببها رحمة الله وتوبته.
واختلف المتأولون في الكلمات، فقال الحسن بن أبي الحسن: هي
قوله تعالى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا الآية [الأعراف: 23]
.
وقال مجاهد: «هي أن آدم قال: سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ظلمت
نفسي فاغفر لي إنك أنت التواب الرحيم» .
وقال ابن عباس: «هي أن آدم قال: أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال:
بلى، قال: أي رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال بلى، قال: أي رب
ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: أرأيت إن تبت وأطعت أراجعي أنت
إلى الجنة؟ قال: نعم» .
قال عبيد بن عمير: «إن آدم قال: أي رب أرأيت ما عصيتك فيه أشيء
كتبته علي أم شيء ابتدعته؟
قال: بل شيء كتبته عليك. قال: أي رب كما كتبته علي فاغفر لي» .
وقال قتادة: «الكلمات هي أن آدم قال: أي رب أرأيت إن أنا تبت
وأصلحت؟ قال: إذا أدخلك الجنة» .
وقالت طائفة: إن المراد بالكلمات ندمه واستغفاره وحزنه، رسول
الله «فتشفع بذلك، فهي الكلمات» .
وقالت طائفة: «إن المراد بالكلمات ندمه واستغفاره وحزنه،
وسماها كلمات مجازا لما هي في خلقها
(1/130)
صادرة عن كلمات، وهي كن في كل واحدة منهن،
وهذا قول يقتضي أن آدم لم يقل شيئا إلا الاستغفار المعهود.
وسئل بعض سلف المسلمين عما ينبغي أن يقوله المذنب، فقال: يقول
ما قال أبواه، رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا. وما قال موسى:
رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي. [القصص: 16] .
وما قال يونس: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي
كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. [الأنبياء: 87] .
و «تاب عليه» معناه رجع به، والتوبة من الله تعالى الرجوع على
عبده بالرحمة والتوفيق، والتوبة من العبد الرجوع عن المعصية
والندم على الذنب مع تركه فيما يستأنف وإنما خص الله تعالى آدم
بالذكر هنا في التلقي والتوبة، وحواء مشاركة له في ذلك بإجماع
لأنه المخاطب في أول القصة بقوله: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ
الْجَنَّةَ فلذلك كملت القصة بذكره وحده، وأيضا فلأن المرأة
حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها، ولذلك لم يذكرها في
المعصية في قوله: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] .
وروي أن الله تعالى تاب على آدم في يوم عاشوراء.
وكنية آدم أبو محمد، وقيل أبو البشر.
وقرأ الجمهور: «إنه» بكسر الألف على القطع.
وقرأ ابن أبي عقرب: «أنه» بفتح الهمزة على معنى لأنه، وبنية
التَّوَّابُ للمبالغة والتكثير، وفي قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تأكيد فائدته أن التوبة على العبد إنما
هي نعمة من الله، لا من العبد وحده لئلا يعجب التائب، بل
الواجب عليه شكر الله تعالى في توبته عليه، وكرر الأمر بالهبوط
لما علق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر، فعلق بالأول
العداوة، وعلق بالثاني إتيان الهدى. وقيل: كرر الأمر بالهبوط
على جهة تغليظ الأمر وتأكيده، كما تقول لرجل قم قم.
وحكى النقاش: أن الهبوط الثاني إنما هو من الجنة إلى السماء،
والأول في ترتيب الآية إنما هو إلى الأرض، وهو الآخر في
الوقوع، فليس في الأمر تكرار على هذا، وجَمِيعاً حال من الضمير
في اهْبِطُوا، وليس بمصدر ولا اسم فاعل، ولكنه عوض منهما دال
عليهما، كأنه قال هبوطا جميعا، أو هابطين جميعا، واختلف في
المقصود بهذا الخطاب، فقيل آدم وحواء وإبليس وذريتهم، وقيل
ظاهره العموم ومعناه الخصوص في آدم وحواء، لأن إبليس لا يأتيه
هدى، وخوطبا بلفظ الجمع تشريفا لهما، والأول أصح لأن إبليس
مخاطب بالإيمان بإجماع، و «إن» في قوله فَإِمَّا هي للشرط دخلت
ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون المشددة، فهي بمثابة لام القسم
التي تجيء لتجيء النون، وفي قوله تعالى: مِنِّي إشارة إلى أن
أفعال العباد خلق الله تعالى. واختلف في معنى قوله هُدىً،
فقيل: بيان وإرشاد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصواب أن يقال: بيان ودعاء.
وقالت فرقة: الهدى الرسل، وهي إلى آدم من الملائكة وإلى بنيه
من البشر: هو فمن بعده.
وقوله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ شرط جوابه فلا خوف عليهم.
(1/131)
يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ
مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ
بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ
فَاتَّقُونِ (41)
قال سيبويه: الشرط الثاني وجوابه هما جواب
الأول في قوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ.
وحكي عن الكسائي أن قوله: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ جواب الشرطين
جميعا.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: حكي هذا وفيه نظر،
ولا يتوجه أن يخالف سيبويه هنا، وإنما الخلاف في نحو قوله
تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ
وَرَيْحانٌ [الواقعة: 89] .
فيقول سيبويه: «جواب أحد الشرطين محذوف لدلالة قوله: (فروح)
عليه» ويقول الكوفيون: «فروح جواب الشرطين» .
قال القاضي أبو محمد: وأما في هذه الآية فالمعنى يمنع أن يكون
فَلا خَوْفٌ جوابا للشرطين.
وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق: هُدىً وهي لغة هذيل.
قال أبو ذؤيب يرثي بنيه: [الكامل] .
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم ... فتخرموا، ولكل جنب مصرع
وكذلك يقولون عصى وما أشبهه، وعلة هذه اللغة أن ياء الإضافة من
شأنها أن يكسر ما قبلها، فلما لم يصح في هذا الوزن كسر الألف
الساكنة أبدلت ياء وأدغمت.
وقرأ الزهري ويعقوب وعيسى الثقفي: «فلا خوف عليهم» نصب
بالتبرية ووجهه أنه أعم وأبلغ في رفع الخوف، ووجه الرفع أنه
أعدل في اللفظ لينعطف المرفوع من قولهم يَحْزَنُونَ على مرفوع،
«ولا» في قراءة الرفع عاملة عمل ليس.
وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه «فلا خوف» بالرفع وترك التنوين وهي
على أن تعمل «لا» عمل ليس، لكنه حذف التنوين تخفيفا لكثرة
الاستعمال، ويحتمل قوله تعالى: «لا خوف عليهم» أي فيما بين
أيديهم من الدنيا، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما فاتهم منها،
ويحتمل أن «لا خوف عليهم» يوم القيامة، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
فيه، ويحتمل أن يريد أنه يدخلهم الجنة حيث لا خوف ولا حزن.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا الآية، عطف جملة مرفوعة على
جملة مرفوعة، وقال وَكَذَّبُوا وكان في الكفر كفاية لأن لفظة
كفروا يشترك فيها كفر النعم وكفر المعاصي، ولا يجب بهذا خلود
فبين أن الكفر هنا هو الشرك، بقوله وَكَذَّبُوا بِآياتِنا
والآية هنا يحتمل أن يريد المتلوة، ويحتمل أن يريد العلامة
المنصوبة، وقد تقدم في صدر هذا الكتاب القول على لفظ آية،
وأُولئِكَ رفع بالابتداء وأَصْحابُ خبره، والصحبة الاقتران
بالشيء في حالة ما، في زمن ما، فإن كانت الملازمة والخلطة فهو
كمال الصحبة، وهكذا هي صحبة أهل النار لها، وبهذا القول ينفك
الخلاف في تسمية الصحابة رضي الله عنهم إذ مراتبهم متباينة،
أقلها الاقتران في الإسلام والزمن، وأكثرها الخلطة والملازمة،
وهُمْ فِيها خالِدُونَ، ابتداء وخبر في موضع الحال.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 41]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ
مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ
وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ
فَاتَّقُونِ (41)
(1/132)
يا حرف نداء مضمن معنى التنبيه.
قال الخليل: «والعامل في المنادى فعل مضمر كأنه يقول: أريد أو
أدعو» .
وقال أبو علي الفارسي: العامل حرف النداء عصب به معنى الفعل
المضمر فقوي فعمل، ويدل على ذلك أنه ليس في حروف المعاني ما
يلتئم بانفراده مع الأسماء غير حرف النداء، وبَنِي منادى مضاف
وإِسْرائِيلَ هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وهو
اسم أعجمي يقال فيه إسراءل وإسرائيل وإسرائيل، وتميم تقول
إسرائين، وإسرا هو بالعبرانية عبد وإيل اسم الله تعالى فمعناه
عبد الله.
وحكى المهدوي أن- إسرا- مأخوذ من الشدة في الأسر كأنه الذي شد
الله أسره وقوى خلقته.
وروي عن نافع والحسن والزهري وابن أبي إسحاق ترك همز إسراييل،
والذكر في كلام العرب على أنحاء، وهذا منها ذكر القلب الذي هو
ضد النسيان، والنعمة هنا اسم الجنس فهي مفردة بمعنى الجمع،
وتحركت الياء من نِعْمَتِيَ لأنها لقيت الألف واللام، ويجوز
تسكينها، وإذا سكنت حذفت للالتقاء وفتحها أحسن لزيادة حرف في
كتاب الله تعالى، وخصص بعض العلماء النعمة في هذه الآية.
فقال الطبري: «بعثة الرسل منهم وإنزال المن والسلوى، وإنقاذهم
من تعذيب آل فرعون، وتفجير الحجر» .
وقال غيره: «النعمة هنا أن دركهم مدة محمد صلى الله عليه وسلم»
.
وقال آخرون: «هي أن منحهم علم التوراة وجعلهم أهله وحملته» .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه أقوال على جهة المثال،
والعموم في اللفظة هو الحسن.
وحكى مكي: أن المخاطب من بني إسرائيل بهذا الخطاب هم المؤمنون
بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن الكافر لا نعمة لله عليه.
وقال ابن عباس وجمهور العلماء: بل الخطاب لجميع بني إسرائيل في
مدة النبي عليه السلام، مؤمنهم وكافرهم، والضمير في عَلَيْكُمْ
يراد به على آبائكم كما تقول العرب ألم نهزمكم يوم كذا لوقعة
كانت بين الآباء والأجداد، ومن قال إنما خوطب المؤمنون بمحمد
صلى الله عليه وسلم استقام الضمير في عَلَيْكُمْ ويجيء كل ما
توالى من الأوامر على جهة الاستدامة.
وقوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أمر
وجوابه.
فقال الخليل: «جزم الجواب في الأمر من معنى الشرط، والوفاء
بالعهد هو التزام ما تضمن من فعل» .
(1/133)
وقرأ الزهري: «أوفّ» بفتح الواو وشد الفاء
للتكثير.
واختلف المتأولون في هذا العهد إليهم فقال الجمهور ذلك عام في
جميع أوامره ونواهيه ووصاياه فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله
عليه وسلم في التوراة، وقيل العهد قوله تعالى: خُذُوا ما
آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة: 63، 93] ، وقال ابن جريج:
العهد قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي
إِسْرائِيلَ [المائدة: 12] ، وعهدهم هو أن يدخلهم الجنة،
ووفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم بعهدهم، لا علة
له، لأن العلة لا تتقدم المعلول.
وقوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ الاسم ايا والياء ضمير
ككاف المخاطب، وقيل إِيَّايَ بجملته هو الاسم، وهو منصوب
بإضمار فعل مؤخر، تقديره: وإياي ارهبوا فارهبون، وامتنع أن
يتقدر مقدما لأن الفعل إذا تقدم لم يحسن أن يتصل به إلا ضمير
خفيف، فكان يجيء وارهبون، والرهبة يتضمن الأمر بها معنى
التهديد وسقطت الياء بعد النون لأنها رأس آية.
وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء، وَآمِنُوا معناه صدقوا،
ومُصَدِّقاً نصب على الحال من الضمير في أَنْزَلْتُ، وقيل من
«ما» ، والعامل فيه آمِنُوا وما أنزلت كناية عن القرآن، ولِما
مَعَكُمْ يعني من التوراة وقوله تعالى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ
كافِرٍ بِهِ هذا من مفهوم الخطاب الذي: المذكور فيه والمسكوت
عنه حكمهما واحد، فالأول والثاني وغيرهما داخل في النهي، ولكن
حذروا البدار إلى الكفر به إذ على الأول كفل من فعل المقتدى
به، ونصب أول على خبر كان.
قال سيبويه: أَوَّلَ أفعل لا فعل له لاعتلال فائه وعينه» قال
غير سيبويه: «هو أوأل من وأل إذا نجا، خففت الهمزة وأبدلت واوا
وأدغمت» .
وقيل: إنه من آل فهو أأول قلب فجاء وزنه أعفل، وسهل وأبدل
وأدغم، ووحد كافر وهو بنية الجمع لأن أفعل إذا أضيف إلى اسم
متصرف من فعل جاز إفراد ذلك الاسم، والمراد به الجماعة.
قال الشاعر: [الكامل]
وإذا هم طعموا فألأم طاعم ... وإذا هم جاعوا فشرّ جياع
وسيبويه يرى أنها نكرة مختصرة من معرفة كأنه قال ولا تكونوا
أول كافرين به وقيل معناه: ولا تكونوا أول فريق كافر به.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وقد كان كفر قبلهم
كفار قريش، فإنما معناه من أهل الكتاب، إذ هم منظور إليهم في
مثل هذا، لأنهم حجة مظنون بهم علم، واختلف في الضمير في بِهِ
على من يعود، فقيل على محمد عليه السلام، وقيل على التوراة إذ
تضمنها قوله: لِما مَعَكُمْ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعلى هذا القول يجيء أَوَّلَ
كافِرٍ بِهِ مستقيما على ظاهره في الأولية، وقيل الضمير في
بِهِ عائد على القرآن، إذ تضمنه قوله بِما أَنْزَلْتُ.
واختلف المتأولون في الثمن الذي نهوا أن يشتروه بالآيات، فقالت
طائفة: إن الأحبار كانوا يعلمون
(1/134)
وَلَا تَلْبِسُوا
الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ
الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى
الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو
رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
دينهم بالأجرة، فنهوا عن ذلك وفي كتبهم:
علم مجانا كما علمت مجانا أي باطلا بغير أجرة.
وقال قوم: كانت للأحبار مأكلة يأكلونها على العلم كالراتب
فنهوا عن ذلك.
وقال قوم: إن الأحبار أخذوا رشى على تغيير قصة محمد عليه
السلام في التوراة، ففي ذلك قال تعالى: وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة: 41، المائدة: 44] .
وقال قوم: معنى الآية ولا تشتروا بأوامري ونواهيّ وآياتي ثمنا
قليلا، يعني الدنيا ومدتها والعيش الذي هو نزر لا خطر له، وقد
تقدم نظير قوله وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وبين «اتقون» و
«ارهبون» فرق، ان الرهبة مقرون بها وعيد بالغ.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 42 الى 46]
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى
الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا
رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)
المعنى ولا تخلطوا، يقال «لبست الأمر» بفتح الباء ألبسه، إذا
خلطته ومزجت بينه بمشكله وحقه بباطله.
وأما قول الشاعر:
وكتيبة لبّستها بكتيبة فالظاهر أنه من هذا المعنى، ويحتمل أن
يكون المعنى من اللباس، واختلف أهل التأويل في المراد بقوله:
الْحَقَّ بِالْباطِلِ.
فقال أبو العالية: «قالت اليهود: محمد نبي مبعوث، لكن إلى
غيرنا، فإقرارهم ببعثه حق وجحدهم أنه بعث إليهم باطل» .
وقال الطبري: «كان من اليهود منافقون فما أظهروا من الإيمان
حق، وما أبطنوا من الكفر باطل» .
وقال مجاهد: «معناه لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام» .
وقال ابن زيد: المراد ب الْحَقَّ التوراة، و «الباطل» ما بدلوا
فيها من ذكر محمد عليه السلام، وتَلْبِسُوا جزم بالنهي،
وَتَكْتُمُوا عطف عليه في موضع جزم، ويجوز أن يكون في موضع نصب
بإضمار «أن» ، وإذا قدرت «أن» كانت مع تَكْتُمُوا بتأويل
المصدر، وكانت الواو عاطفة على مصدر مقدر من تَلْبِسُوا، كأن
الكلام ولا يكن لبسكم الحق بالباطل وكتمانكم الحق.
وقال الكوفيون: تَكْتُمُوا نصب بواو الصرف، والْحَقَّ يعني به
أمر محمد صلى الله عليه وسلم» .
(1/135)
وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة
في موضع الحال ولم يشهد لهم تعالى بعلم وإنما نهاهم عن كتمان
ما علموا، ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر
محمد عليه السلام، ولم يشهد لهم بالعلم على الإطلاق ولا تكون
الجملة على هذا في موضع الحال، وفي هذه الألفاظ دليل على تغليظ
الذنب على من واقعه على علم، وأنه أعصى من الجاهل.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ معناه: أظهروا هيئتها وأديموها بشروطها،
وذلك تشبيه بإقامة القاعد إلى حال ظهور، ومنه قول الشاعر:
[الكامل]
وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا ... حتى تقيم الخيل سوق طعان
وقد تقدم القول في الصلاة، والزَّكاةَ في هذه الآية هي
المفروضة بقرينة إجماع الأمة على وجوب الأمر بها، والزَّكاةَ
مأخوذة من زكا الشيء إذا نما وزاد، وسمي الإخراج من المال زكاة
وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثيب الله به
المزكي وقيل الزَّكاةَ مأخوذة من التطهير، كما يقال زكا فلان
أي طهر من دنس الجرحة أو الاغفال، فكأن الخارج من المال يطهره
من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين، ألا ترى أن النبي
صلى الله عليه وسلم سمى في الموطأ ما يخرج في الزكاة أوساخ
الناس.
وقوله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ قال قوم: جعل
الركوع لما كان من أركان الصلاة عبارة عن الصلاة كلها.
وقال قوم: إنما خص الركوع بالذكر لأن بني إسرائيل لم يكن في
صلاتهم ركوع.
وقالت فرقة: إنما قال مَعَ لأن الأمر بالصلاة أولا لم يقتض
شهود الجماعة، فأمرهم بقوله مَعَ بشهود الجماعة، والركوع في
اللغة الانحناء بالشخص.
قال لبيد: [الطويل]
أخبر أخبار القرون التي مضت ... أدبّ كأني كلما قمت راكع
ويستعار أيضا في الانحطاط في المنزلة، قال الأضبط بن قريع:
[الخفيف]
لا تعاد الضعيف علك أن تر ... كع يوما والدهر قد رفعه
وقوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ خرج مخرج الاستفهام،
ومعناه التوبيخ، و «البر» يجمع وجوه الخير والطاعات ويقع على
كل واحد منها اسم بر، وَتَنْسَوْنَ بمعنى تتركون كما قال الله
تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] .
واختلف المتأولون في المقصود بهذه الآية، فقال ابن عباس: «كان
الأحبار يأمرون أتباعهم ومقلديهم باتباع التوراة، وكانوا هم
يخالفونها في جحدهم منها صفة محمد صلى الله عليه وسلم» .
وقالت فرقة: كان الأحبار إذا استرشدهم أحد من العرب في اتباع
محمد دلوه على ذلك، وهم لا يفعلونه.
(1/136)
وقال ابن جريج: «كان الأحبار يحضون الناس
على طاعة الله، وكانوا هم يواقعون المعاصي» .
وقالت فرقة: كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون.
وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ معناه: تدرسون وتقرءون،
ويحتمل أن يكون المعنى تتبعون أي في الاقتداء به، والْكِتابَ
التوراة وهي تنهاهم عما هم عليه من هذه الصفة الذميمة.
وقوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ معناه: أفلا تمنعون أنفسكم من
مواقعة هذه الحال المردية لكم؟
والعقل: الإدراك المانع من الخطأ مأخوذ منه عقال البعير، أي
يمنعه من التصرف، ومنه المعقل أي موضع الامتناع.
وقوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ قال
مقاتل: «معناه على طلب الآخرة» .
وقال غيره: المعنى استعينوا بالصبر عن الطاعات وعن الشهوات على
نيل رضوان الله، وبالصلاة على نيل الرضوان وحط الذنوب، وعلى
مصائب الدهر أيضا، ومنه الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا كربه أمر فزع إلى الصلاة، ومنه ما روي أن عبد الله بن
عباس نعي إليه أخوه قثم، وهو في سفر، فاسترجع وتنحى عن الطريق
وصلى ثم انصرف إلى راحلته، وهو يقرأ وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ.
وقال مجاهد: الصبر في هذه الآية الصوم، ومنه قيل لرمضان شهر
الصبر، وخص الصوم والصلاة على هذا القول بالذكر لتناسبهما في
أن الصيام يمنع الشهوات ويزهد في الدنيا، والصلاة تنهى عن
الفحشاء والمنكر وتخشع. ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر بالآخرة.
وقال قوم: «الصبر» على بابه، وَالصَّلاةِ الدعاء، وتجيء هذه
الآية على هذا القول مشبهة لقوله تعالى:
إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ
[الأنفال: 45] لأن الثبات هو الصبر، وذكر الله هو الدعاء.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ على أي
شيء يعود الضمير؟ فقيل على الصَّلاةِ، وقيل على الاستعانة التي
يقتضيها قوله وَاسْتَعِينُوا، وقيل على العبادة التي يتضمنها
بالمعنى ذكر الصبر والصلاة.
وقالت فرقة: على إجابة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا ضعف، لأنه لا دليل له
من الآية عليه.
وقيل: يعود الضمير على الكعبة، لأن الأمر بالصلاة إنما هو
إليها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا أضعف من الذي قبله.
و «كبيرة» معناه ثقيلة شاقة، والخاشعون المتواضعون المخبتون،
والخشوع هيئة في النفس يظهر منها على الجوارح سكون وتواضع.
ويَظُنُّونَ في هذه الآية قال الجمهور: معناه يوقنون.
وحكى المهدوي وغيره: أن الظن هنا يصح أن يكون على بابه، ويضمر
في الكلام بذنوبهم، فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين.
(1/137)
يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا
وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا
عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي
ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله
عنه: وهذا تعسف، والظن في كلام العرب قاعدته الشك مع ميل إلى
أحد معتقديه، وقد يوقع الظن موقع اليقين في الأمور المتحققة،
لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس، لا تقول العرب في رجل مرئي
حاضر أظن هذا إنسانا وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى
الحسن بعد، كهذه الآية، وكقوله تعالى: فَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مُواقِعُوها [الكهف: 53] وكقول دريد بن الصمة:
[الطويل]
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم بالفارسي المسرد
وقوله تعالى: أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أن وجملتها تسد مسد
مفعولي الظن، والملاقاة هي للعقاب أو الثواب، ففي الكلام حذف
مضاف، ويصح أن تكون الملاقاة هنا بالرؤية التي عليها أهل
السنة، وورد بها متواتر الحديث.
وحكى المهدوي: أن الملاقاة هنا مفاعلة من واحد، مثل عافاك
الله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف، لأن لقي يتضمن
معنى لاقى، وليست كذلك الأفعال كلها، بل فعل خلاف فاعل في
المعنى.
ومُلاقُوا أصله ملاقون، لأنه بمعنى الاستقبال فحذفت النون
تخفيفا، فلما حذفت تمكنت الإضافة لمناسبتها للأسماء، وهي إضافة
غير محضة، لأنها لا تعرف.
وقال الكوفيون: ما في اسم الفاعل الذي هو بمعنى المجيء من معنى
الفعل يقتضي إثبات النون وإعماله، وكونه وما بعده اسمين يقتضي
حذف النون والإضافة.
وراجِعُونَ قيل: معناه بالموت وقيل بالحشر والخروج إلى الحساب
والعرض، وتقوي هذا القول الآية المتقدمة قوله تعالى: ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
[البقرة: 28، الحج: 66، الروم: 40] والضمير في إِلَيْهِ عائد
على الرب تعالى، وقيل على اللقاء الذي يتضمنه مُلاقُوا.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 47 الى 49]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47)
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً
وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ
أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ
مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
قد تكرر هذا النداء والتذكير بالنعمة، وفائدة ذلك أن الخطاب
الأول يصح أن يكون للمؤمنين، ويصح أن يكون للكافرين منهم، وهذا
المتكرر إنما هو للكافرين، بدلالة ما بعده، وأيضا فإن فيه
تقوية التوقيف وتأكيد الحض على ذكر أيادي الله وحسن خطابهم
بقوله: فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ لأن تفضيل آبائهم
وأسلافهم تفضيل لهم، وفي الكلام اتساع.
(1/138)
قال قتادة وابن زيد وابن جريج وغيرهم:
المعنى على عالم زمانهم الذي كانت فيه النبوءة المتكررة
والملك، لأن الله تعالى يقول لأمة محمد صلى الله عليه وسلم:
«كنتم خير أمة أخرجت للناس» .
وقوله عز وجل: وَاتَّقُوا يَوْماً نصب يوما «باتقوا» على
السعة، والتقدير عذاب يوم، أو هول يوم، ثم حذف ذلك وأقام اليوم
مقامه، ويصح أن يكون نصبه على الظرف لا للتقوى، لأن يوم
القيامة ليس بيوم عمل، ولكن معناه: جيئوا متقين يوما. ولا
تَجْزِي معناه: لا تغني.
وقال السدي: معناه لا تقضي، ويقويه قوله شَيْئاً وقيل المعنى:
لا تكافئ، ويقال: جزى وأجزأ بمعنى واحد، وقد فرق بينهما قوم،
فقالوا: جزى بمعنى: قضى وكافأ، وأجزأ بمعنى أغنى وكفى.
وقرأ أبو السمال «تجزىء» بضم التاء والهمز، وفي الكلام حذف.
وقال البصريون: التقدير لا تجزي فيه، ثم حذف فيه.
وقال غيرهم: حذف ضمير متصل ب تَجْزِي تقديره لا تجزيه، على أنه
يقبح حذف هذا الضمير في الخبر، وإنما يحسن في الصلة.
وقال بعض البصريين: التقدير لا تجزي فيه، فحذف حرف الجر واتصل
الضمير، ثم حذف الضمير بتدريج.
وقوله تعالى: ولا تقبل منها شفاعة قرأ ابن كثير وأبو عمرو:
بالتاء، وقرأ الباقون: بالياء من تحت على المعنى إذ تأنيث
الشفاعة ليس بحقيقي، والشفاعة مأخوذة من الشفع وهما الاثنان
لأن الشافع والمشفوع له شفع، وكذلك الشفيع فيما لم يقسم.
وسبب هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا: نحن أبناء الله وأبناء
أنبيائه وسيشفع لنا آباؤنا، فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة
أنه لا تقبل فيه الشفاعة، ولا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ،
وهذا إنما هو في الكافرين، للإجماع وتواتر الحديث بالشفاعة في
المؤمنين.
وقوله تعالى: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ، قال أبو العالية:
«العدل الفدية» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وعدل الشيء هو
الذي يساويه قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه، «والعدل» بكسر
العين هو الذي يساوي الشيء من جنسه وفي جرمه.
وحكى الطبري أن من العرب من يكسر العين من معنى الفدية، فأما
واحد الأعدال فبالكسر لا غير، والضمير في قوله وَلا هُمْ عائد
على الكافرين الذين اقتضتهم الآية، ويحتمل أن يعود على النفسين
المتقدم ذكرهما، لأن اثنين جمع، أو لأن النفس للجنس وهو جمع،
وحصرت هذه الآية المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا، فإن
الواقع في شدة مع آدمي لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو ينصر أو
يفتدى.
وقوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي
خلصناكم، وآلِ أصله أهل، قلبت الهاء ألفا كما عمل في ماء،
ولذلك ردها التصغير إلى الأصل، فقيل أهيل، مويه، وقد قيل في
آلِ إنه اسم غير أهل، أصله أول وتصغيره أويل، وإنما نسب الفعل
إلى آلِ فِرْعَوْنَ وهم إنما كانوا يفعلونه بأمره وسلطانه
لتوليهم ذلك بأنفسهم.
(1/139)
وقال الطبري رحمه الله: «ويقتضي هذا أن من
أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به، وآل الرجل
قرابته وشيعته وأتباعه» .
ومنه قول أراكة الثقفي: [الطويل]
فلا تبك ميتا بعد ميت أجنّه ... عليّ وعباس وآل أبي بكر
يعني المؤمنين الذين قبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
والأشهر في آلِ أن يضاف إلى الأسماء لا إلى البقاع والبلاد،
وقد يقال آل مكة، وآل المدينة، وفرعون اسم لكل من ملك من
العمالقة مصر، وفرعون موسى قيل اسمه مصعب بن الريان.
وقال ابن إسحاق: «اسمه الوليد بن مصعب» .
وروي أنه كان من أهل إصطخر، ورد مصر فاتفق له فيها الملك، وكان
أصل كون بني إسرائيل بمصر نزول إسرائيل بها زمن ابنه يوسف
عليهما السلام.
ويَسُومُونَكُمْ معناه: يأخذونكم به ويلزمونكم إياه ومنه
المساومة بالسلعة، وسامه خطة خسف ويَسُومُونَكُمْ إعرابه رفع
على الاستئناف والجملة في موضع نصب على الحال، أي سائمين لكم
سوء العذاب، ويجوز أن لا تقدر فيه الحال، ويكون وصف حال ماضية،
وسُوءَ الْعَذابِ أشده وأصعبه.
قال السدي: «كان يصرفهم في الأعمال القذرة ويذبح الأبناء،
ويستحيي النساء» .
وقال غيره: صرفهم على الأعمال: الحرث والزراعة والبناء وغير
ذلك، وكان قومه جندا ملوكا، وقرأ الجمهور «يذبّحون» بشد الباء
المكسورة على المبالغة، وقرأ ابن محيصن: «يذبحون» بالتخفيف،
والأول أرجح إذ الذبح متكرر. كان فرعون على ما روي قد رأى في
منامه نارا خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر، فأولت له
رؤياه أن مولودا من بني إسرائيل ينشأ فيخرب ملك فرعون على
يديه.
وقال ابن إسحاق وابن عباس وغيرهما: إن الكهنة والمنجمين قالوا
لفرعون: قد أظلك زمن مولود من بني إسرائيل يخرب ملكك.
وقال ابن عباس أيضا: إن فرعون وقومه تذاكروا وعد الله لإبراهيم
أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا، فأمر عند ذلك بذبح الذكور من
المولودين في بني إسرائيل، ووكل بكل عشر نساء رجلا يحفظ من
يحمل منهن.
وقيل: «وكل بذلك القوابل» .
وقالت طائفة: معنى يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ يذبحون الرجال
ويسمون أبناء لما كانوا كذلك، واستدل هذا القائل بقوله تعالى:
نِساءَكُمْ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصحيح من التأويل أن الأبناء
هم الأطفال الذكور، والنساء هم الأطفال الإناث، وعبر عنهن باسم
النساء بالمئال، وليذكرهن بالاسم الذي في وقته يستخدمن
ويمتهنّ،
(1/140)
وَإِذْ فَرَقْنَا
بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ
فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا
مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ
مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا
عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ (53)
ونفس الاستحياء ليس بعذاب، لكن العذاب
بسببه وقع الاستحياء، ويُذَبِّحُونَ بدل من «يسومون» .
وقوله تعالى: وَفِي ذلِكُمْ إشارة إلى جملة الأمر، إذ هو خبر
فهو كمفرد حاضر، وبَلاءٌ معناه امتحان واختبار، ويكون
الْبَلاءُ في الخير والشر.
وقال قوم: الإشارة ب ذلِكُمْ إلى التنجية من بني إسرائيل،
فيكون الْبَلاءُ على هذا في الخير، أي وفي تنجيتكم نعمة من
الله عليكم.
وقال جمهور الناس: الإشارة إلى الذبح ونحوه، والْبَلاءُ هنا في
الشر، والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان.
وحكى الطبري وغيره في كيفية نجاتهم: أن موسى عليه السلام أوحي
إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا
الحلي والمتاع من القبط، وأحل الله ذلك لبني إسرائيل، فسرى بهم
موسى من أول الليل، فأعلم فرعون فقال لا يتبعنهم أحد حتى تصيح
الديكة، فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك حتى أصبح، وأمات الله تلك
الليلة كثيرا من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في
الأتباع مشرقين، وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه، وكانت
عدة بني إسرائيل نيفا على ستمائة ألف، وكانت عدة فرعون ألف ألف
ومائتي ألف.
وحكي غير هذا مما اختصرته لقلة ثبوته، فلما لحق فرعون موسى ظن
بنو إسرائيل أنهم غير ناجين، فقال يوشع بن نون لموسى أين أمرت؟
فقال هكذا وأشار إلى البحر فركض يوشع فرسه فيه حتى بلغ الغمر،
ثم رجع فقال لموسى أين أمرت؟ فو الله ما كذبت ولا كذبت، فأشار
إلى البحر، وأوحى الله تعالى إليه: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ
الْبَحْرَ [الشعراء: 63] . وأوحى إلى البحر أن انفرق لموسى إذا
ضربك، فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب موسى البحر،
وكناه أبا خالد فانفرق وكان ذلك في يوم عاشوراء.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 50 الى 53]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ
وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ
(51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ
وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
فَرَقْنا معناه: جعلناه فرقا، وقرأ الزهري «فرّقنا» بتشديد
الراء، ومعنى بِكُمُ بسببكم، وقيل لما كانوا بين الفرق وقت
جوازهم فكأنه بهم فرق، وقيل معناه لكم، والباء عوض اللام وهذا
ضعيف، والْبَحْرَ هو بحر القلزم، ولم يفرق البحر عرضا جزعا من
ضفة إلى ضفة، وإنما فرق من موضع إلى موضع آخر في ضفة واحدة،
وكان ذلك الفرق بقرب موضع النجاة، ولا يلحق في البر إلا في
أيام كثيرة بسبب جبال وأوعار حائلة.
وذكر العامري أن موضع خروجهم من البحر كان قريبا من برية
فلسطين وهي كانت طريقهم.
(1/141)
وقيل انفلق البحر عرضا وانفرق البحر على
اثني عشر طريقا، طريق لكل سبط فلما دخلوها قالت كل طائفة غرق
أصحابنا وجزعوا، فقال موسى: اللهم أعني على أخلاقهم السيئة،
فأوحى الله إليه أن أدر عصاك على البحر، فأدارها فصار في الماء
فتوح كالطاق يرى بعضهم بعضا، وجازوا، وجبريل صلى الله عليه
وسلم في ساقتهم على ماذيانة يحث بني إسرائيل ويقول لآل فرعون:
مهلا حتى يلحق آخركم أولكم، فلما وصل فرعون إلى البحر أراد
الدخول فنفر فرسه فتعرض له جبريل بالرمكة فاتبعها الفرس، ودخل
آل فرعون وميكائيل يحثهم، فلما لم يبق إلا ميكائيل في ساقتهم
على الضفة وحده انطبق البحر عليهم فغرقوا.
وتَنْظُرُونَ قيل معناه بأبصاركم، لقرب بعضهم من بعض.
وقيل معناه ببصائركم للاعتبار لأنهم كانوا في شغل عن الوقوف
والنظر بالأبصار.
وقيل: إن آل فرعون طفوا على الماء فنظروا إليهم.
وقيل المعنى وأنتم بحال من ينظر لو نظر، كما تقول: هذا الأمر
منك بمرأى ومسمع، أي بحال تراه وتسمعه إن شئت.
قال الطبري رحمه الله: وفي إخبار القرآن على لسان محمد صلى
الله عليه وسلم بهذه المغيبات التي لم تكن من علم العرب ولا
وقعت إلا في خفي علم بني إسرائيل، دليل واضح عند بني إسرائيل
وقائم عليهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الجمهور «واعدنا» .
وقرأ أبو عمرو. «وعدنا» ، ورجحه أبو عبيد، وقال: إن المواعدة
لا تكون إلا من البشر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وليس هذا بصحيح، لأن قبول موسى
لوعد الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة، ومُوسى اسم أعجمي
لا ينصرف للعجمة والتعريف، والقبط على ما يروى يقولون للماء
«مو» ، وللشجر «سا» ، فلما وجد موسى في التابوت عند ماء وشجر
سمّي «موسى» .
قال ابن إسحاق: هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن
يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، ونصب أربعين على المفعول
الثاني، ولا يجوز نصبها على الظرف في هذا الموضع، وهي فيما روي
ذو القعدة وعشر ذي الحجة، وخص الليالي دون الأيام بالذكر إذ
الليلة أقدم من اليوم وقبله في الرتبة، ولذلك وقع بها التاريخ.
قال النقاش: «وفي ذلك إشارة إلى صلة الصوم، لأنه لو ذكر الأيام
لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلما نص على الليالي
اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين ليلة بأيامها» .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: حدثني أبي رضي الله عنه قال:
سمعت الشيخ الزاهد الإمام الواعظ أبا الفضل بن الجوهري رحمه
الله يعظ الناس بهذا المعنى في الخلوة بالله والدنو منه في
الصلاة ونحوه، وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب ويقول: أين حال
موسى في القرب من الله ووصال ثمانين من الدهر من قوله حين سار
إلى الخضر لفتاه في بعض يوم: «آتنا غداءنا» ؟ وكل المفسرين على
أن الأربعين كلها ميعاد.
(1/142)
وقال بعض البصريين: وعده رأس الأربعين
ليلة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف: وقوله تعالى: ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ. قرأ أكثر السبعة بالإدغام.
وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه بإظهار الذال وثُمَّ
للمهلة، ولتدل على أن الاتخاذ بعد المواعدة، واتخذ وزنه افتعل
من الأخذ.
قال أبو علي: «هو من تخذ لا من أخذ» وأنشد [المخرق العبدي] :
[الطويل]
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها ... نسيفا كأفحوص القطاة المطرق
ونصب الْعِجْلَ ب اتَّخَذْتُمُ، والمفعول الثاني محذوف، تقديره
اتخذتم العجل إلها، واتخذ قد يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله
تعالى: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا
[الفرقان: 27] وقد يتعدى إلى مفعولين أحدهما هو الآخر في
المعنى كقوله تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً
[المجادلة: 16، المنافقون: 2] ، وكهذه الآية وغيرها. والضمير
في بَعْدِهِ يعود على موسى.
وقيل: على انطلاقه للتكليم، إذ المواعدة تقتضيه.
وقيل: على الوعد، وقصص هذه الآية أن موسى صلى الله عليه وسلم
لما خرج ببني إسرائيل من مصر، قال لهم: إن الله تعالى سينجيكم
من آل فرعون وينفلكم حليهم ومتاعهم الذي كان أمرهم باستعارته،
وروي أنهم استعاروه برأيهم، فنفلهم الله ذلك بعد خروجهم، وقال
لهم موسى عن الله تعالى:
إنه ينزل عليّ كتابا فيه التحليل والتحريم والهدى لكم، فلما
جازوا البحر طالبوا موسى بما قال لهم من أمر الكتاب، فخرج
لميعاد ربه وحده، وقد أعلمهم بالأربعين ليلة، فعدوا عشرين يوما
بعشرين ليلة، ثم قالوا هذه أربعون من الدهر، وقد أخلفنا
الموعد، وبدا تعنتهم وخلافهم.
وكان السامري رجلا من بني إسرائيل يسمى موسى بن ظفر، وقيل لم
يكن من بني إسرائيل بل كان غريبا فيهم، وكان قد عرف جبريل عليه
السلام وقت عبرهم البحر، فقالت طائفة: أنكر هيئته فعرف أنه
ملك.
وقال طائفة: كانت أم السامري ولدته عام الذبح فجعلته في غار
وأطبقت عليه، فكان جبريل صلى الله عليه وسلم يغذوه بأصابع نفسه
فيجد في إصبع لبنا، وفي إصبع عسلا، وفي إصبع سمنا، فلما رآه
وقت جواز البحر عرفه، فأخذ من تحت حافر فرسه قبضة تراب، وألقي
في روعه أنه لن يلقيها على شيء ويقول له كن كذا إلا كان، فلما
خرج موسى لميعاده قال هارون لبني إسرائيل: إن ذلك الحلي
والمتاع الذي استعرتم من القبط لا يحل لكم، فجيئوا به حتى
تأكله النار التي كانت العادة أن تنزل على القرابين.
وقيل: بل أوقد لهم نارا وأمرهم بطرح جميع ذلك فيها، فجعلوا
يطرحون.
وقيل: بل أمرهم أن يضعوه في حفرة دون نار حتى يجيء موسى، وجاء
السامري فطرح القبضة، وقال كن عجلا.
(1/143)
وقيل: إن السامري كان في أصله من قوم
يعبدون البقر، وكان يعجبه ذلك.
وقيل: بل كانت بنو إسرائيل قد مرت مع موسى على قوم يعبدون
البقر ف قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ
آلِهَةٌ [الأعراف: 138] ، فوعاها السامري وعلم أن من تلك الجهة
يفتنون، ففتنت بنو إسرائيل بالعجل، وظلت منهم طائفة يعبدونه،
فاعتزلهم هارون بمن تبعه، فجاء موسى من ميعاده فغضب حسبما يأتي
قصصه في مواضعه من القرآن إن شاء الله.
ثم أوحى الله إليه أنه لن يتوب على بني إسرائيل حتى يقتلوا
أنفسهم، ففعلت بنو إسرائيل ذلك، فروي أنهم لبسوا السلاح، من
عبد منهم ومن لم يعبد وألقى الله عليهم الظلام، فقتل بعضهم
بعضا يقتل الأب ابنه والأخ أخاه، فلما استحر فيهم القتل وبلغ
سبعين ألفا عفا الله عنهم وجعل من مات منهم شهيدا، وتاب على
البقية، فذلك قوله: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ.
وقال بعض المفسرين: وقف الذين عبدوا العجل صفا ودخل الذين لم
يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم.
وقالت طائفة: جلس الذين عبدوا بالأفنية، وخرج يوشع بن نون
ينادي: ملعون من حل حبوته، وجعل الذين لم يعبدوا يقتلونهم،
وموسى في خلال ذلك يدعو لقومه ويرغب في العفو عنهم، وإنما عوقب
الذين لم يعبدوا بقتل أنفسهم على أحد الأقوال أو بقتلهم
قراباتهم على الأقوال الأخر لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوا
العجل، وإنما اعتزلوا وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده،
وأَنْتُمْ ظالِمُونَ مبتدأ وخبر في موضع الحال، وقد تقدم تفسير
الظلم، والعفو تغطية الأثر وإذهاب الحال الأولى من الذنب أو
غيره، ولا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب وعفا عنهم عز
وجل أي عمن بقي منهم لم يقتل، ولَعَلَّكُمْ ترج لهم في حقهم
وتوقع منهم لا في حق الله عز وجل، لأنه كان يعلم ما يكون منهم.
وقوله تعالى: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، إِذْ عطف على
ما ذكر من النعم، والْكِتابَ هو التوراة بإجماع من المتأولين.
واختلف في الْفُرْقانَ هنا فقال الزجاج وغيره هو التوراة أيضا
كرر المعنى لاختلاف اللفظ، ولأنه زاد معنى التفرقة بين الحق
والباطل، ولفظة الكتاب لا تعطي ذلك.
وقال آخرون: الْكِتابَ التوراة، والْفُرْقانَ سائر الآيات التي
أوتي موسى صلى الله عليه وسلم، لأنها فرقت بين الحق والباطل.
وقال آخرون: الْفُرْقانَ: النصر الذي فرق بين حالهم وحال آل
فرعون بالنجاة والغرق.
وقال ابن زيد: «الفرقان انفراق البحر له حتى صار فرقا» .
وقال الفراء وقطرب: معنى هذه الآية: آتينا موسى الكتاب ومحمدا
الفرقان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف.
ولَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ترج وتوقع مثل الأول.
(1/144)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ
بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ
لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 54 الى 55]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى
بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
هذا القول من موسى صلى الله عليه وسلم كان بأمر من الله تعالى،
وحذفت الياء في «يا قومي» لأن النداء موضع حذف وتخفيف، والضمير
في «اتخاذكم» في موضع خفض على اللفظ، وفي موضع رفع بالمعنى، و
«العجل» لفظة عربية، اسم لولد البقرة.
وقال قوم: سمي عجلا لأنه استعجل قبل مجيء موسى عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وليس هذا القول بشيء.
واختلف هل بقي العجل من ذهب؟ قال ذلك الجمهور وقال الحسن بن
أبي الحسن: صار لحما ودما، والأول أصح.
و «توبوا» : معناه ارجعوا عن المعصية إلى الطاعة.
وقرأ الجمهور: «بارئكم» بإظهار الهمزة وكسرها.
وقرأ أبو عمرو: «بارئكم» بإسكان الهمزة.
وروي عن سيبويه اختلاس الحركة وهو أحسن، وهذا التسكين يحسن في
توالي الحركات.
وقال المبرد: لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف
الإعراب، وقراءة أبي عمرو «بارئكم» لحن.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: وقد روي عن العرب
التسكين في حرف الأعراب، قال الشاعر: [الرجز] إذا اعوججن قلت
صاحب قوم وقال امرؤ القيس: [السريع]
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
وقال آخر: [الرجز] قالت سليمى اشتر لنا سويقا وقال الآخر:
[السريع] وقد بدا هنك من المئزر
(1/145)
وقال جرير:
ونهر تيري فما تعرفكم العرب وقال وضاح اليمن: [الرجز] إنما
شعري شهد قد خلط بجلجلان ومن أنكر التسكين في حرف الإعراب
فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علما للإعراب.
قال أبو علي: وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز
تسكينها مع توالي الحركات.
وقرأ الزهري «باريكم» بكسر الياء من غير همز، ورويت عن نافع.
وقرأ قتادة: «فاقتالوا أنفسكم» : وقال: «هي من الاستقالة» .
قال أبو الفتح: «اقتال» هذه افتعل، ويحتمل أن يكون عينها واوا
كاقتادوا، ويحتمل أن يكون ياء «كاقتاس» والتصريف يضعف أن تكون
من الاستقالة، ولكن قتادة رحمه الله ينبغي أن يحسن الظن به في
أنه لم يورد ذلك إلا بحجة عنده.
وقوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ قبله محذوف تقديره ففعلتم.
وقوله عَلَيْكُمْ معناه: على الباقين، وجعل الله تعالى القتل
لمن قتل شهادة وتاب على الباقين وعفا عنهم.
قال بعض الناس: فَاقْتُلُوا في هذه الآية معناه بالتوبة وإماتة
عوارض النفوس من شهوة وتعنت وغضب، واحتج بقوله عليه السلام في
الثوم والبصل فلتمتهما طبخا، وبقول حسان:
قتلت قتلت فهاتها لم تقتل وقوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا
مُوسى يريد السبعين الذين اختارهم موسى، واختلف في وقت
اختيارهم.
فحكى أكثر المفسرين أن ذلك بعد عبادة العجل، اختارهم ليستغفروا
لبني إسرائيل.
وحكى النقاش وغيره أنه اختارهم حين خرج من البحر وطلب
بالميعاد، والأول أصح، وقصة السبعين أن موسى صلى الله عليه
وسلم لما رجع من تكليم الله ووجد العجل قد عبد قالت له طائفة
ممن لم يعبد العجل: نحن لم نكفر ونحن أصحابك، ولكن أسمعنا كلام
ربك، فأوحى الله إليه أن اختر منهم سبعين شيخا، فلم يجد إلّا
ستين، فأوحى الله إليه أن اختر من الشباب عشرة، ففعل، فأصبحوا
شيوخا، وكان قد اختار ستة من كل سبط فزادوا اثنين على السبعين،
فتشاحوا فيمن يتأخر، فأوحى الله إليه أن من تأخر له مثل أجر من
مضى، فتأخر يوشع بن نون وطالوت بن يوقنا وذهب موسى عليه السلام
بالسبعين بعد أن أمرهم أن يتجنبوا النساء ثلاثا ويغتسلوا في
اليوم الثالث، واستخلف هارون على قومه، ومضى حتى أتى الجبل،
فألقي عليهم الغمام.
(1/146)
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ
مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ
الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ
فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا
الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ
خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
قال النقاش وغيره: غشيتهم سحابة وحيل بينهم
وبين موسى بالنور فوقعوا سجودا.
قال السدي وغيره: وسمعوا كلام الله يأمر وينهى، فلم يطيقوا
سماعه، واختلطت أذهانهم، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعبر لهم،
ففعل، فلما فرغ وخرجوا بدلت منهم طائفة ما سمعت من كلام الله
فذلك قوله تعالى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ
كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ [البقرة: 75] ، واضطرب
إيمانهم وامتحنهم الله بذلك فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى
نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ولم يطلبوا من الرؤية محالا، أما إنه
عند أهل السنة ممتنع في الدنيا من طريق السمع، فأخذتهم حينئذ
الصاعقة فاحترقوا وماتوا موت همود يعتبر به الغير.
وقال قتادة: «ماتوا وذهبت أرواحهم ثم ردوا لاستيفاء آجالهم،
فحين حصلوا في ذلك الهمود جعل موسى يناشد ربه فيهم ويقول: أي
رب، كيف أرجع إلى بني إسرائيل دونهم فيهلكون ولا يؤمنون بي
أبدا، وقد خرجوا معي وهم الأخيار» .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يعني وهم بحال الخير وقت
الخروج.
وقال قوم: بل ظن موسى عليه السلام أن السبعين إنما عوقبوا بسبب
عبادة العجل، فذلك قوله أَتُهْلِكُنا يعني السبعين بِما فَعَلَ
السُّفَهاءُ مِنَّا [الأعراف: 155] يعني عبدة العجل.
وقال ابن فورك: يحتمل أن تكون معاقبة السبعين لإخراجهم طلب
الرؤية عن طريقه، بقولهم لموسى «أرنا» وليس ذلك من مقدور موسى
صلى الله عليه وسلم، وجَهْرَةً مصدر في موضع الحال، والأظهر
أنها من الضمير في نَرَى، وقيل من الضمير في نُؤْمِنَ، وقيل من
الضمير في قُلْتُمْ، والجهرة العلانية، ومنه الجهر ضد السر،
وجهر الرجل الأمر كشفه.
وقرأ سهل بن شعيب وحميد بن قيس: «جهرة» بفتح الهاء، وهي لغة
مسموعة عند البصريين فيما فيه حرف الحلق ساكنا قد انفتح ما
قبله، والكوفيون يجيزون فيه الفتح وإن لم يسمعوه.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون جَهْرَةً جمع جاهر، أي
حتى نرى الله كاشفين هذا الأمر.
وقرأ عمر وعلي رضي الله عنهما: «فأخذتكم الصعقة» ، ومضى في صدر
السورة معنى الصَّاعِقَةُ، والصعقة ما يحدث بالإنسان عند
الصاعقة.
وتنظرون معناه إلى حالكم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: حتى أحالهم العذاب
وأزال نظرهم.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 56 الى 58]
ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ
وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ
الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً
وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ
لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
(1/147)
أجاب الله تعالى فيهم رغبة موسى عليه
السلام وأحياهم من ذلك الهمود أو الموت، ليستوفوا آجالهم، وتاب
عليهم، والبعث هنا الإثارة كما قال الله تعالى: مَنْ بَعَثَنا
مِنْ مَرْقَدِنا [يس: 52] .
وقال قوم: إنهم لما أحيوا وأنعم عليهم بالتوبة سألوا موسى عليه
السلام أن يجعلهم الله أنبياء، فذلك قوله تعالى: ثُمَّ
بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ أي أنبياء لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ أي على هذه النعمة، والترجي إنما هو في حق البشر،
ونزلت الألواح بالتوراة على موسى في تلك المدة، وهذا قول
جماعة، وقال آخرون: إن الألواح نزلت في ذهابه الأول وحده.
وذكر المفسرون في تظليل الغمام: أن بني إسرائيل لما كان من
أمرهم ما كان من القتل وبقي منهم من بقي حصلوا في فحص التيه
بين مصر والشام، فأمروا بقتال الجبارين فعصوا وقالوا:
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: 24] فدعا موسى
عليهم فعوقبوا بالبقاء في ذلك الفحص أربعين سنة يتيهون في
مقدار خمسة فراسخ أو ستة، روي أنهم كانوا يمشون النهار كله
وينزلون للمبيت فيصبحون حيث كانوا بكرة أمس، فندم موسى عليه
السلام على دعائه عليهم، فقيل له: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْفاسِقِينَ [المائدة: 26] .
وروي أنهم ماتوا بأجمعهم في فحص التيه، ونشأ بنوهم على خير
طاعة، فهم الذين خرجوا من فحص التيه وقاتلوا الجبارين، وإذ كان
جميعهم في التيه قالوا لموسى: من لنا بالطعام؟ قال: الله،
فأنزل الله عليهم المن والسلوى، قالوا: من لنا من حر الشمس؟
فظلل عليهم الغمام، قالوا: بم نستصبح بالليل؟
فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم، وذكر مكي: عمود نار. فقالوا:
من لنا بالماء؟ فأمر موسى بضرب الحجر، قالوا: من لنا باللباس؟
فأعطوا أن لا يبلى لهم ثوب ولا يخلق ولا يدرن، وأن تنمو صغارها
حسب نمو الصبيان.
ومعنى ظَلَّلْنا جعلناه ظللا، والْغَمامَ السحاب لأنه يغم وجه
السماء أي يستره.
وقال مجاهد: «هو أبرد من السحاب وأرق وأصفى، وهو الذي يأتي
الله فيه يوم القيامة» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: يأتي أمره وسلطانه
وقضاؤه. وقيل الْغَمامَ ما ابيض من السحاب.
والْمَنَّ صمغة حلوة، هذا قول فرقة، وقيل: هو عسل، وقيل: شراب
حلو، وقيل: الذي ينزل اليوم على الشجر، وقيل: الْمَنَّ خبز
الرقاق مثل النقي. وقيل: هو الترنجبين وقيل الزنجبيل، وفي بعض
هذه الأقوال بعد. وقيل: الْمَنَّ مصدر يعني به جميع ما من الله
به مجملا.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب مسلم: الكمأة مما من
الله به على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين.
(1/148)
فقيل: أراد عليه السلام أن الكمأة نفسها
مما أنزل نوعها على بني إسرائيل.
وقيل: أراد أنه لا تعب في الكمأة ولا جذاذ ولا حصاد، فهي منة
دون تكلف من جنس من بني إسرائيل في أنه كان دون تكلف.
وروي أن الْمَنَّ كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس
كالثلج فيأخذ منه الرجل ما يكفيه ليومه، فإن ادخر فسد عليه إلا
في يوم الجمعة فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم،
لأن يوم السبت يوم عبادة، والْمَنَّ هنا اسم جمع لا واحد له من
لفظه، وَالسَّلْوى طير بإجماع من المفسرين، قاله ابن عباس
ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم.
قيل: هو السمانى بعينه. وقيل: طائر يميل إلى الحمرة مثل
السمانى، وقيل: طائر مثل الحمام تحشره عليهم الجنوب.
قال الأخفش: «السلوى جمعه وواحده بلفظ واحد» . قال الخليل:
السَّلْوى جمع واحدته سلواة.
قال الكسائي: السَّلْوى واحدة جمعها سلاوى، وَالسَّلْوى اسم
مقصور لا يظهر فيه الإعراب، لأن آخره ألف، والألف حرف هوائي
أشبه الحركة فاستحالت حركته ولو حرك لرجع حرفا آخر، وقد غلط
الهذلي فقال: [الطويل]
وقاسمها بالله عهدا لأنتم ... ألذّ من السلوى إذا ما نشورها
ظن السلوى العسل.
وقوله تعالى: كُلُوا الآية، معناه وقلنا كلوا، فحذف اختصارا
لدلالة الظاهر عليه، والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ.
وقوله تعالى: وَما ظَلَمُونا يقدر قبله: فعصوا ولم يقابلوا
النعم بالشكر، والمعنى وما وضعوا فعلهم في موضع مضرة لنا ولكن
وضعوه في موضع مضرة لهم حيث لا يجب.
وقال بعض المفسرين: ما ظَلَمُونا ما نقصونا، والمعنى يرجع إلى
ما لخصناه، والْقَرْيَةَ المدينة تسمى بذلك لأنها تقرت أي
اجتمعت، ومنه قريت الماء في الحوض أي جمعته، والإشارة بهذه إلى
بيت المقدس في قول الجمهور. وقيل إلى أريحا، وهي قريب من بيت
المقدس.
قال عمر بن شبة: كانت قاعدة ومسكن ملوك، ولما خرج ذرية بني
إسرائيل من التيه أمروا بدخول القرية المشار إليها، وأما
الشيوخ فماتوا فيه، وروي أن موسى صلى الله عليه وسلم مات في
التيه، وكذلك هارون عليه السلام.
وحكى الزجاج عن بعضهم أن موسى وهارون لم يكونا في التيه لأنه
عذاب، والأول أكثر، وكُلُوا إباحة، وقد تقدم معنى الرغد، وهي
أرض مباركة عظيمة الغلة، فلذلك قال رَغَداً.
والْبابَ قال مجاهد: هو باب في مدينة بيت المقدس يعرف إلى
اليوم بباب حطة، وقيل هو باب
(1/149)
القبة التي كان يصلي إليها موسى صلى الله
عليه وسلم.
وروي عن مجاهد أيضا: أنه باب في الجبل الذي كلم عليه موسى
كالفرضة.
وسُجَّداً قال ابن عباس رضي الله عنه: معناه ركوعا، وقيل
متواضعين خضوعا لا على هيئة معينة، والسجود يعم هذا كله لأنه
التواضع، ومنه قول الشاعر: [الطويل] ترى الأكم فيه سجّدا
للحوافر وروي أن الباب خفض لهم ليقصر ويدخلوا عليه متواضعين،
وحِطَّةٌ فعلة من حط يحط، ورفعه على خبر ابتداء، كأنهم قالوا
سؤالنا حطة لذنوبنا، هذا تقدير الحسن بن أبي الحسن.
وقال الطبري: التقدير دخولنا الباب كما أمرنا حطة، وقيل أمروا
أن يقولوا مرفوعة على هذا اللفظ.
وقال عكرمة وغيره: أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله لتحط بها
ذنوبهم.
وقال ابن عباس: قيل لهم استغفروا وقولوا ما يحط ذنوبكم.
وقال آخرون: قيل لهم أن يقولوا هذا الأمر حق كما أعلمنا. وهذه
الأقوال الثلاثة تقتضي النصب.
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة: «حطة» بالنصب.
وحكي عن ابن مسعود وغيره: أنهم أمروا بالسجود وأن يقولوا
حِطَّةٌ فدخلوا يزحفون على أستاههم ويقولون حنطة حبة حمراء في
شعرة، ويروى غير هذا من الألفاظ.
وقرأ نافع: «يغفر» بالياء من تحت مضمومة.
وقرأ ابن عامر: «تغفر» بالتاء من فوق مضمومة.
وقرأ أبو بكر عن عاصم: «يغفر» بفتح الياء على معنى يغفر الله.
وقرأ الباقون: «نغفر» بالنون.
وقرأت طائفة «تغفر» كأن الحطة تكون سبب الغفران، والقراء
السبعة على خَطاياكُمْ، غير أن الكسائي كان يميلها.
وقرأ الجحدري: «تغفر لكم خطيئتكم» بضم التاء من فوق وبرفع
الخطيئة.
وقرأ الأعمش: «يغفر» بالياء من أسفل مفتوحة «خطيئتكم» نصبا.
وقرأ قتادة مثل الجحدري، وروي عنه أنه قرأ بالياء من أسفل
مضمومة خطيئتكم رفعا.
وقرأ الحسن البصري: «يغفر لكم خطيئاتكم» أي يغفر الله.
وقرأ أبو حيوة: «تغفر» بالتاء من فوق مرفوعة «خطيئاتكم» بالجمع
ورفع التاء.
وحكى الأهوازي: أنه قرىء «خطأياكم» بهمز الألف الأولى وسكون
الآخرة. وحكي أيضا أنه قرىء بسكون الأولى وهمز الآخرة.
(1/150)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا
عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا
كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ
فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ
اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ
مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
قال الفراء: خطايا جمع خطية بلا همز كهدية
وهدايا، وركية وركايا.
وقال الخليل: هو جمع خطيئة بالهمز، وأصله خطايىء قدمت الهمزة
على الياء فجاء خطائي أبدلت الياء ألفا بدلا لازما فانفتحت
الهمزة التي قبلها فجاء خطاء، همزة بين ألفين، وهي من قبيلهما
فكأنها ثلاث ألفات، فقلبت الهمزة ياء فجاء خطايا.
قال سيبويه: «أصله خطايىء همزت الياء كما فعل في مدائن وكتائب
فاجتمعت همزتان فقلبت الثانية ياء، ثم أعلت على ما تقدم» .
وقوله تعالى: وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ عدة، المعنى إذا غفرت
الخطايا بدخولكم وقولكم زيد بعد ذلك لمن أحسن، وكان من بني
إسرائيل من دخل كما أمر وقال لا إله إلا الله فقيل هم المراد ب
الْمُحْسِنِينَ هنا.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 59 الى 60]
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ
لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ
السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقى
مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ
كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ
اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
روي أنهم لما جاؤوا الباب دخلوا من قبل أدبارهم القهقرى، وفي
الحديث أنهم دخلوا يزحفون على أستاههم، وبدلوا فقالوا حبة في
شعرة، وقيل قالوا حنطة حبة حمراء فيها شعرة وقيل شعيرة.
وحكى الطبري أنهم قالوا حطي شمقاثا أزبة، وتفسيره ما تقدم.
والرجز العذاب، وقال ابن زيد ومقاتل وغيرهما: «إن الله تعالى
بعث على الذين بدلوا ودخلوا على غير ما أمروا الطاعون فأذهب
منهم سبعين ألفا» ، وقال ابن عباس: «أمات الله منهم في ساعة
واحدة نيفا على عشرين ألفا» .
وقرأ ابن محيصن «رجزا» بعضهم الراء، وهي لغة في العذاب، والرجز
أيضا اسم صنم مشهور.
والباء في قوله بِما متعلقة ب فَأَنْزَلْنا، وهي باء السبب.
ويَفْسُقُونَ معناه يخرجون عن طاعة الله، وقرأ النخعي وابن
وثاب «يفسقون» بكسر السين، يقال فسق يفسق ويفسق بضم السين
وكسرها.
وَإِذِ متعلقة بفعل مضمر تقديره اذكر، واسْتَسْقى معناه طلب
السقيا، وعرف استفعل طلب الشيء، وقد جاء في غير ذلك كقوله
تعالى: وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [التغابن: 6] بمعنى غني، وقولهم:
استعجب بمعنى عجب، ومثل بعض الناس في هذا بقولهم استنسر
البغاث، واستنوق الجمل، إذ هي بمعنى انتقل من حال إلى حال،
وكان هذا الاستسقاء في فحص التيه، فأمره الله تعالى بضرب الحجر
آية
(1/151)
منه، وكان الحجر من جبل الطور، على قدر رأس
الشاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به، فإذا نزلوا وضع في وسط
محلتهم وضربه موسى عليه السلام، وذكر أنهم لم يكونوا يحملون
الحجر لكنهم كانوا يجدونه في كل مرحلة في منزلته من المرحلة
الأولى، وهذا أعظم في الآية، ولا خلاف أنه كان حجرا منفصلا
مربعا تطرد من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى صلى الله عليه
وسلم، وإذا استغنوا عن الماء ورحلوا جفت العيون، وفي الكلام
حذف تقديره فضربه فَانْفَجَرَتْ، والانفجار انصداع شيء عن شيء،
ومنه الفجر، والانبجاس في الماء أقل من الانفجار.
واثْنَتا معربة دون أخواتها لصحة معنى التثنية، وإنما يبنى
واحد مع واحد، وهذه إنما هي اثنان مع واحد، فلو بنيت لرد ثلاثة
واحدا، وجاز اجتماع علامتي التأنيث في قوله اثْنَتا عَشْرَةَ
لبعد العلامة من العلامة، ولأنهما في شيئين، وإنما منع ذلك في
شيء واحد، نحو مسلمات وغيره.
وقرأ ابن وثاب وابن أبي ليلى وغيرهما: «عشرة» بكسر الشين، وروي
ذلك عن أبي عمرو، والأشهر عنه الإسكان، وهي لغة تميم، وهو
نادر، لأنهم يخففون كثيرا، وثقلوا في هذه، وقرأ الأعمش «عشرة»
بفتح الشين وهي لغة ضعيفة، وروي عنه كسرها وتسكينها، والإسكان
لغة الحجاز.
وعَيْناً نصب على التمييز، والعين اسم مشترك، وهي هنا منبع
الماء.
وأُناسٍ اسم جمع لا واحد له من لفظه، ومعناه هنا كل سبط، لأن
الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، وهم ذرية الاثني
عشر أولاد يعقوب عليه السلام.
والمشرب المفعل موضع الشرب، كالمشرع موضع الشروع في الماء،
وكان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها، وفي الكلام محذوف
تقديره وقلنا لهم كلوا المن والسلوى واشربوا الماء المنفجر من
الحجر المنفصل، وبهذه الأحوال حسنت إضافة الرزق إلى الله
تعالى، وإلا فالجميع رزقه وإن كان فيه تكسب للعبد.
وَلا تَعْثَوْا معناه ولا تفرطوا في الفساد، يقال عثى الرجل
يعثي وعثي يعثى عثيا إذا أفسد أشد فساد، والأولى هي لغة القرآن
والثانية شاذة وتقول العرب عثا يعثو عثوا ولم يقرأ بهذه اللغة
لأنها توجب ضم الثاء من تَعْثَوْا، وتقول العرب عاث يعيث إذا
أفسد، وعث يعث كذلك، ومنه عثة الصوف، وهي السوسة التي تلحسه.
ومُفْسِدِينَ حال، وتكرر المعنى لاختلاف اللفظ، وفي هذه
الكلمات إباحة النعم وتعدادها، والتقدم في المعاصي والنهي
عنها.
قوله عز وجل:
وإذ قلتم يموسى لن نّصبر على طعام وحد فادع لنا ربّك يخرج لنا
ممّا تنبت الأرض من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها قال
أتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خير
(1/152)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا
مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ
بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا
قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ
خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا
بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ
الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
[سورة البقرة (2) : آية 61]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ
فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ
مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها
قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ
خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ
بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ
بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ
الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61)
كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى، وتذكروا
عيشهم الأول بمصر، وكنى عن المن والسلوى ب طَعامٍ واحِدٍ، وهما
طعامان، لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد، ولتكرارهما سواء أبدا
قيل لهما طَعامٍ واحِدٍ، ولغة بني عامر «فادع» بكسر العين.
ويُخْرِجْ: جزم بما تضمنه الأمر من معنى الجزاء، وبنفس الأمر
على مذهب أبي عمر الجرمي والمفعول على مذهب سيبويه مضمر تقديره
مأكولا مما تنبت الأرض، وقال الأخفش: «من» في قوله:
مِمَّا زائدة «وما» مفعولة، وأبى سيبويه أن تكون «من» ملغاة في
غير النفي، كقولهم: ما رأيت من أحد، ومِنْ في قوله: مِنْ
بَقْلِها لبيان الجنس، وبَقْلِها بدل بإعادة الحرف، والبقل كل
ما تنبته الأرض من النجم، والقثاء جمع قثأة.
وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب: «قثائها» ، بضم القاف.
وقال ابن عباس وأكثر المفسرين: «الفوم الحنطة» .
وقال مجاهد: «الفوم الخبز» .
وقال عطاء وقتادة: «الفوم جميع الحبوب التي يمكن أن تختبز
كالحنطة والفول والعدس ونحوه» .
وقال الضحاك: «الفوم الثوم» ، وهي قراءة عبد الله بن مسعود
بالثاء، وروي ذلك عن ابن عباس، والثاء تبدل من الفاء، كما
قالوا، مغاثير ومغافير، وجدث وجدف، ووقعوا في عاثور شر، وعافور
شر، على أن البدل لا يقاس عليه، والأول أصح: أنها الحنطة،
وأنشد ابن عباس قول أحيحة بن الجلاح: [الطويل]
قد كنت أغنى الناس شخصا واجدا ... ورد المدينة عن زراعة فوم
يعني حنطة.
قال ابن دريد: «الفوم الزرع أو الحنطة» ، وأزد السراة يسمون
السنبل فوما» ، والاستبدال طلب وضع الشيء موضع الآخر، وأَدْنى
مأخوذ عند أبي إسحاق الزجاج من الدنو أي القرب في القيمة.
وقال علي بن سليمان: «هو مهموز من الدنيء البين الدناءة، بمعنى
الأخس، إلا أنه خففت همزته» .
وقال غيره: «هو مأخوذ من الدون أي الأحط، فأصله أدون أفعل، قلب
فجاء أفلع، وقلبت الواو ألفا لتطرفها» .
وقرأ زهير للكسائي: «أدنأ» ، ومعنى الآية: أتستبدلون البقل
والقثاء والفوم والعدس والبصل التي هي أدنى بالمن والسلوى الذي
هو خير؟ والوجه الذي يوجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي
طلبوه،
(1/153)
يحتمل أن يكون تفاضلها في القيمة، لأن هذه
البقول لا خطر لها، وهذا قول الزجاج، ويحتمل أن يفضل المن
والسلوى لأنه الطعام الذي من الله به وأمرهم بأكله، وفي
استدامة أمر الله تعالى وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي
طلبوا عار من هذه الخصال، فكأن أدنى من هذا الوجه، ويحتمل أن
يفضل في الطيب واللذة به، فالبقول لا محالة أدنى من هذا الوجه،
ويحتمل أن يفضل في حسن الغذاء ونفعه، فالمن والسلوى خير لا
محالة في هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل من جهة أنه لا كلفة فيه
ولا تعب، والذي طلبوا لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب، فهو
أَدْنى في هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل في أنه لا مرية في حله
وخلوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخللها البيوع
والغصوب وتدخلها الشبه، فهي أَدْنى في هذا الوجه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويترتب الفضل للمن والسلوى
بهذه الوجوه كلها، وفي الكلام حذف، تقديره: فدعا موسى ربه
فأجابه، فقال لهم: اهْبِطُوا، وتقدم ذكر معنى الهبوط، وكأن
القادم على قطر منصب عليه، فهو من نحو الهبوط، وجمهور الناس
يقرؤون «مصرا» بالتنوين وهو خط المصحف، إلا ما حكي عن بعض
مصاحف عثمان رضي الله عنه.
وقال مجاهد وغيره ممن صرفها: «أراد مصرا من الأمصار غير معين»
، واستدلوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم بدخول القرية، وبما
تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه.
وقالت طائفة ممن صرفها: أراد مصر فرعون بعينها، واستدلوا بما
في القرآن من أن الله تعالى أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون
وآثارهم، وأجازوا صرفها.
قال الأخفش: «لخفتها وشبهها بهند ودعد» . وسيبويه لا يجيز هذا.
وقال غير الأخفش: «أراد المكان فصرف» .
وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وغيرهما: «اهبطوا مصر» بترك الصرف،
وكذلك هي في مصحف أبيّ بن كعب وقالوا: «هي مصر فرعون» .
قال الأعمش: «هي مصر التي عليها صالح بن علي» .
وقال أشهب: «قال لي مالك: هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون» .
وقوله تعالى: فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ يقتضي أنه وكلهم
إلى أنفسهم.
وقرأ النخعي وابن وثاب «سألتم» بكسر السين وهي لغة، وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ معناه ألزموها وقضي
عليهم بها، كما يقال ضرب الأمير البعث، وكما قالت العرب ضربة
لازب، أي إلزام ملزوم أو لازم، فينضاف المصدر إلى المفعول
بالمعنى، وكما يقال ضرب الحاكم على اليد، أي حجر وألزم، ومنه
ضرب الدهر ضرباته، أي ألزم إلزاماته، والذِّلَّةُ فعلة من الذل
كأنها الهيئة والحال، وَالْمَسْكَنَةُ من المسكين، قال الزجاج:
«هي مأخوذة من السكون وهي هنا: زي الفقر وخضوعه، وإن وجد يهودي
غني فلا يخلو من زي الفقر ومهانته» .
(1/154)
قال الحسن وقتادة: «المسكنة الخراج أي
الجزية» .
وقال أبو العالية: «المسكنة الفاقة والحاجة» .
وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ معناه: مروا متحملين له، تقول:
بؤت بكذا إذا تحملته، ومنه قول مهلهل ليحيى بن الحارث بن عباد:
«بؤ بشسع نعل كليب» .
والغضب بمعنى الإرادة صفة ذات، وبمعنى إظهاره على العبد
بالمعاقبة صفة فعل، والإشارة بذلك إلى ضرب الذلة وما بعده،
والباء في بِأَنَّهُمْ باء السبب.
وقال المهدوي: «إن الباء بمعنى اللام» والمعنى: لأنهم، والآيات
هنا تحتمل أن يراد بها التسع وغيرها مما يخرق العادة، وهو
علامة لصدق الآية به، ويحتمل أن يراد آيات التوراة التي هي
كآيات القرآن.
وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «وتقتلون» بالتاء على الرجوع إلى
خطابهم، وروي عنه أيضا بالياء.
وقرأ نافع: بهمز «النبيئين» ، وكذلك حيث وقع في القرآن، إلا في
موضعين: في سورة الأحزاب:
إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ
[الأحزاب: 50] بلا مد ولا همز، ولا تَدْخُلُوا بُيُوتَ
النَّبِيِّ إِلَّا [الأحزاب: 53] ، وإنما ترك همز هذين لاجتماع
همزتين مكسورتين من جنس واحد، وترك الهمز في جميع ذلك الباقون،
فأما من همز فهو عنده من «أنبأ» إذا أخبر، واسم فاعله منبىء
فقيل نبيء، بمعنى منبىء، كما قيل: سميع بمعنى مسمع، واستدلوا
بما جاء من جمعه على نباء. قال الشاعر: [الطويل]
يا خاتم النبآء إنك مرسل ... بالحقّ كلّ هدى الإله هداكا
فهذا كما يجمع فعيل في الصحيح «كظريف» وظرفاء وشبهه.
قال أبو علي: «زعم سيبويه أنهم يقولون في تحقير النبوة: كان
مسيلمة نبوته نبيئة سوء، وكلهم يقولون تنبأ مسيلمة، فاتفاقهم
على ذلك دليل على أن اللام همزة» ، واختلف القائلون بترك الهمز
في نبيء، فمنهم من اشتق النبي من همز ثم سهل الهمز، ومنهم من
قال: هو مشتق من نبا ينبوا إذا ظهر، فالنبي الطريق الظاهر،
وكان النبي من عند الله طريق الهدى والنجاة، وقال الشاعر:
[البسيط] .
لما وردنا نبيا واستتبّ بنا ... مسحنفر كخطوط السيح منسحل
واستدلوا بأن الأغلب في جمع أنبياء كفعيل في المعتل، نحو ولي
وأولياء وصفي وأصفياء، وحكى الزهراوي أنه يقال نبوء إذا ظهر
فهو نبيء، والطريق الظاهر نبيء بالهمز، وروي أن رجلا قال للنبي
صلى الله عليه وسلم: السلام عليك يا نبيء الله، وهمز، فقال له
النبي عليه السلام: لست بنبيء الله، وهمز، ولكني نبيّ الله،
ولم يهمز.
قال أبو علي: «ضعف سند هذا الحديث، ومما يقوي ضعفه أنه صلى
الله عليه وسلم، قد أنشده المادح يا خاتم النبآء ولم يؤثر في
ذلك إنكار، والجمع كالواحد» .
(1/155)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ
وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ
بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (64)
وقوله تعالى: بِغَيْرِ الْحَقِّ تعظيم
للشنعة والذنب الذي أتوه، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق، ولكن من
حيث قد يتخيل متخيل لذلك وجها، فصرح قوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ
عن شنعة الذنب ووضوحه، ولم يجترم قط نبي ما يوجب قتله، وإنما
أتاح الله تعالى من أتاح منهم. وسلط عليه، كرامة لهم، وزيادة
في منازلهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين، قال ابن
عباس وغيره: «لم يقتل قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال،
وكل من أمر بقتال نصر» .
وقوله تعالى: ذلِكَ رد على الأول وتأكيد للإشارة إليه، والباء
في بِما باء السبب، ويَعْتَدُونَ معناه: يتجاوزون الحدود،
والاعتداء تجاوز الحد في كل شيء، وعرفه في الظلم والمعاصي.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 62 الى 64]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى
وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما
آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ
مِنَ الْخاسِرِينَ (64)
اختلف المتأولون في المراد ب الَّذِينَ آمَنُوا في هذه الآية،
فقال سفيان الثوري: هم المنافقون في أمة محمد صلى الله عليه
وسلم، كأنه قال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا في ظاهر أمرهم،
وقرنهم باليهود وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ، ثم بين حكم من
آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم، فمعنى قوله مَنْ آمَنَ في
المؤمنين المذكورين: من حقق وأخلص، وفي سائر الفرق المذكورة:
من دخل في الإيمان. وقالت فرقة: الَّذِينَ آمَنُوا هم المؤمنون
حقا بمحمد صلى الله عليه وقوله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ يكون فيهم
بمعنى من ثبت ودام، وفي سائر الفرق بمعنى من دخل فيه. وقال
السدي: هم أهل الحنيفية ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم،
كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، وورقة بن نوفل،
وَالَّذِينَ هادُوا كذلك ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه
وسلم، إلا من كفر بعيسى عليه السلام، وَالنَّصارى كذلك ممن لم
يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم، وَالصَّابِئِينَ كذلك، قال:
إنها نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، وذكر له الطبري قصة طويلة،
وحكاها أيضا ابن إسحاق، مقتضاها أنه صحب عبادا من النصارى فقال
له آخرهم:
إن زمان نبي قد أظل، فإن لحقته فآمن به، ورأى منهم عبادة
عظيمة، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ذكر له
خبرهم، وسأله عنهم، فنزلت هذه الآية.
وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أول الإسلام، وقرر الله
بها أن من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن بقي على يهوديته
ونصرانيته وصابئيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر فله أجره، ثم
نسخ ما قرر من ذلك بقوله تعالى وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ
الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85]
وردت الشرائع كلها إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
(1/156)
وَالَّذِينَ هادُوا هم اليهود، وسموا بذلك
لقولهم إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف: 156] أي تبنا، فاسمهم
على هذا من هاد يهود، وقال الشاعر: [السريع] إني امرؤ من مدحتي
هائد أي تائب، وقيل: نسبوا إلى يهوذا بن يعقوب، فلما عرب الاسم
لحقه التغيير كما تغير العرب في بعض ما عربت من لغة غيرها،
وحكى الزهراوي أن التهويد النطق في سكون ووقار ولين، وأنشد:
وخود من اللائي تسمعن بالضحى ... قريض الردافى بالغناء المهود
قال: ومن هذا سميت اليهود، وقرأ أبو السمال «هادوا» بفتح
الدال.
وَالنَّصارى لفظة مشتقة من النصر، إما لأن قريتهم تسمى ناصرة،
ويقال نصريا ويقال نصرتا، وإما لأنهم تناصروا، وإما لقول عيسى
عليه السلام مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: 152،
الصف: 4] قال سيبويه: واحدهم نصران ونصرانة كندمان وندمانة
وندامى، وأنشد: [أبو الأخرز الحماني] : [الطويل]
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ... كما سجدت نصرانة لم تحنّف
وأنشد الطبري: [الطويل]
يظل إذا دار العشيّ محنّفا ... ويضحي لديها وهو نصران شامس
قال سيبوية: إلا أنه لا يستعمل في الكلام إلّا بياء نسب، قال
الخليل: واحد النَّصارى نصريّ كمهريّ ومهارى.
والصابىء في اللغة من خرج من دين إلى دين، ولهذا كانت العرب
تقول لمن أسلم قد صبا، وقيل إنها سمتهم بذاك لما أنكروا الآلهة
تشبيها بالصابئين في الموصل الذين لم يكن لهم بر إلا قولهم لا
إله إلا الله، وطائفة همزته وجعلته من صبأت النجوم إذا طلعت،
وصبأت ثنية الغلام إذا خرجت، قال أبو علي:
يقال صبأت على القوم بمعنى طرأت، فالصابىء التارك لدينه الذي
شرع له إلى دين غيره، كما أن الصابىء على القوم تارك لأرضه
ومنتقل إلى سواها، وبالهمز قرأ القراء غير نافع فإنه لم يهمزه،
ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال، أو يجعله على قلب
الهمزة ياء، وسيبويه لا يجيزه إلا في الشعر.
وأما المشار إليهم في قوله تعالى: وَالصَّابِئِينَ فقال السدي:
هم فرقة من أهل الكتاب، وقال مجاهد: هم قوم لا دين لهم، ليسوا
بيهود ولا نصارى، وقال ابن أبي نجيح: هم قوم تركب دينهم بين
اليهودية والمجوسية، لا تؤكل ذبائحهم، وقال ابن زيد: هم قوم
يقولون لا إله إلا الله وليس لهم عمل ولا كتاب، كانوا بجزيرة
الموصل، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة: هم قوم يعبدون
الملائكة ويصلون إلى القبلة ويصلون الخمس ويقرؤون الزبور، رآهم
زياد بن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون
الملائكة.
(1/157)
ومَنْ في قوله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ في
موضع نصب بدل من الَّذِينَ، والفاء في قولهم فَلَهُمْ داخلة
بسبب الإبهام الذي في مَنْ و «لهم أجرهم» ابتداء وخبر في موضع
خبر إِنَّ، ويحتمل ويحسن أن تكون مَنْ في موضع رفع بالابتداء،
ومعناها الشرط، والفاء في قوله فَلَهُمْ موطئة أن تكون الجملة
جوابها، و «لهم أجرهم» خبر مَنْ، والجملة كلها خبر إِنَّ،
والعائد على الَّذِينَ محذوف لا بد من تقديره، وتقديره «من آمن
منهم بالله» .
وفي الإيمان باليوم الآخر اندرج الإيمان بالرسل والكتب، ومنه
يتفهم، لأن البعث لم يعلم إلا بإخبار رسل الله عنه تبارك
وتعالى، وجمع الضمير في قوله تعالى «لهم أجرهم» بعد أن وحد في
آمَنَ لأن مَنْ تقع على الواحد والتثنية والجمع، فجائز أن يخرج
ما بعدها مفردا على لفظها، أو مثنى أو مجموعا على معناها، كما
قال عز وجل وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يونس: 42]
فجمع على المعنى، وكقوله وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ [النساء: 13] ثم قال خالِدِينَ فِيها
[النساء: 13] فجمع على المعنى، وقال الفرزدق: [الطويل]
تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فثنى على المعنى، وإذا جرى ما بعد مَنْ على اللفظ فجائز أن
يخالف به بعد على المعنى، وإذا جرى ما بعدها على المعنى فلم
يستعمل أن يخالف به بعد على اللفظ، لأن الإلباس يدخل في
الكلام.
وقرأ الحسن «ولا خوف» ، نصب على التبرية، وأما الرفع فعلى
الابتداء، وقد تقدم القول في مثل هذه الآية.
وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ، إِذْ معطوفة على
التي قبلها، والميثاق مفعال من وثق يثق، مثل ميزان من وزن يزن،
والطُّورَ اسم الجبل الذي نوجي موسى عليه، قاله ابن عباس، وقال
مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم: الطُّورَ اسم لكل جبل، ويستدل على
ذلك بقول العجاج: [الرجز]
دانى جناحيه من الطور فمر ... تقضّي البازي إذا البازي كسر
وقال ابن عباس أيضا: الطُّورَ كل جبل ينبت، وكل جبل لا ينبت
فليس بطور، قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله على أن
اللفظة عربية، وقال أبو العالية ومجاهد: هي سريانية اسم لكل
جبل.
وقصص هذه الآية أن موسى عليه السلام لما جاء إلى بني إسرائيل
من عند الله تعالى بالألواح فيها التوراة، قال لهم: خذوها
والتزموها، فقالوا: لا إلا أن يكلّمنا الله بها كما كلمك،
فصعقوا، ثم أحيوا، فقال لهم: خذوها، فقالوا: لا، فأمر الله
تعالى الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين، طوله فرسخ في
مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأخرج الله
تعالى البحر من ورائهم، وأضرم نارا بين أيديهم، فأحاط بهم
غضبه، وقيل لهم خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها، وإلا سقط
عليكم الجبل، وغرقكم البحر وأحرقتكم النار، فسجدوا توبة لله،
وأخذوا التوراة بالميثاق، وقال الطبري رحمه الله عن بعض
العلماء: لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق، وكانت سجدتهم
على شق، لأنهم كانوا يرقبون
(1/158)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ
كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا
أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ
مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
الجبل خوفا، فلما رحمهم الله قالوا لا سجدة
أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها، فأمروا سجودهم على شق
واحد.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: والذي لا يصح سواه أن
الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم، لأنهم آمنوا
كرها وقلوبهم غير مطمئنة، وقد اختصرت ما سرد في قصص هذه الآية،
وقصدت أصحه الذي تقتضيه ألفاظ الآية، وخلط بعض الناس صعقة هذه
القصة بصعقة السبعين.
وقوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ في الكلام حذف
تقديره: وقلنا خذوا، وآتَيْناكُمْ معناه أعطيناكم، وبِقُوَّةٍ:
قال ابن عباس: معناه بجد واجتهاد، وقيل: بكثرة درس، وقال ابن
زيد: معناه بتصديق وتحقيق، وقال الربيع. معناه بطاعة الله.
وَاذْكُرُوا ما فِيهِ أي تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده، ولا
تنسوه وتضيعوه، والضمير عائد على ما آتَيْناكُمْ ويعني
التوراة، وتقدير صلة ما: واذكروا ما استقر فيه، ولَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ ترج في حق البشر.
وقوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الآية.
تولّى تفعّل، وأصله الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم، ثم
استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات اتساعا
ومجازا، وفَضْلُ اللَّهِ رفع بالابتداء، والخبر مضمر عند
سيبويه لا يجوز إظهاره للاستغناء عنه، تقديره فلولا فضل الله
عليكم تدارككم، وَرَحْمَتُهُ عطف على فضل، قال قتادة: فضل الله
الإسلام، ورحمته القرآن. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا
على أن المخاطب بقوله: عَلَيْكُمْ لفظا ومعنى من كان في مدة
محمد صلى الله عليه وسلم، والجمهور على أن المراد بالمعنى من
سلف، ولَكُنْتُمْ جواب «لولا» ، ومِنَ الْخاسِرِينَ خبر «كان»
. والخسران النقصان، وتوليهم من بعد ذلك: إما بالمعاصي، فكان
فضل الله بالتوبة والإمهال إليها، وإما أن يكون توليهم بالكفر
فكان فضل الله بأن لم يعاجلهم بالإهلاك ليكون من ذريتهم من
يؤمن، أو يكون المراد من لحق محمدا صلى الله عليه وسلم، وقد
قال ذلك قوم، وعليه يتجه قول قتادة: إن الفضل الإسلام، والرحمة
القرآن، ويتجه أيضا أن يراد بالفضل والرحمة إدراكهم مدة محمد
صلى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 65 الى 67]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي
السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65)
فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها
وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا
بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67)
عَلِمْتُمُ معناه: عرفتم، كما تقول: علمت زيدا بمعنى عرفته،
فلا يتعدى العلم إلا إلى مفعول واحد، واعْتَدَوْا معناه
تجاوزوا الحد، مصرف من الاعتداء، وفِي السَّبْتِ معناه في يوم
السبت، ويحتمل أن يريد في حكم السبت، والسَّبْتِ مأخوذ إما: من
السبوت الذي هو الراحة والدعة، وإما من
(1/159)
السبت وهو: القطع، لأن الأشياء فيه سبتت
وتمت خلقتها.
وقصة اعتدائهم فيه، أن الله عز وجل أمر موسى عليه السلام بيوم
الجمعة، وعرفه فضله، كما أمر به سائر الأنبياء، فذكر موسى عليه
السلام ذلك لبني إسرائيل عن الله تعالى وأمرهم بالتشرع فيه،
فأبوا وتعدوه إلى يوم السبت، فأوحى الله إلى موسى أن دعهم وما
اختاروا من ذلك، وامتحنهم فيه بأن أمرهم بترك العمل وحرم عليهم
صيد الحيتان، وشدد عليهم المحنة بأن كانت الحيتان تأتي يوم
السبت حتى تخرج إلى الأفنية. قاله الحسن بن أبي الحسن. وقيل
حتى تخرج خراطيمها من الماء، وذلك إما بالإلهام من الله تعالى،
أو بأمر لا يعلل، وإما بأن فهمها معنى الأمنة التي في اليوم مع
تكراره حتى فهمت ذلك، ألا ترى أن الله تعالى قد ألهم الدواب
معنى الخوف الذي في يوم الجمعة من أمر القيامة، يقضي بذلك قول
النبي صلى الله عليه وسلم: «وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم
الجمعة فرقا من الساعة» ، وحمام مكة قد فهم الأمنة، إما أنها
متصلة بقرب فهمها.
وكان أمر بني إسرائيل بأيلة على البحر، فإذا ذهب السبت ذهبت
الحيتان فلم تظهر إلى السبت الآخر، فبقوا على ذلك زمانا حتى
اشتهوا الحوت، فعمد رجل يوم السبت فربط حوتا بخزمة، وضرب له
وتدا بالساحل، فلما ذهب السبت جاء وأخذه، فسمع قوم بفعله
فصنعوا مثل ما صنع، وقيل بل حفر رجل في غير السبت حفيرا يخرج
إليه البحر، فإذا كان يوم السبت خرج الحوت وحصل في الحفير،
فإذا جزر البحر ذهب الماء من طريق الحفير وبقي الحوت، فجاء بعد
السبت فأخذه، ففعل قوم مثل فعله، وكثر ذلك حتى صادوه يوم السبت
علانية، وباعوه في الأسواق، فكان هذا من أعظم الاعتداء، وكانت
من بني إسرائيل فرقة نهت عن ذلك فنجت من العقوبة، وكانت منهم
فرقة لم تعص ولم تنه، فقيل نجت مع الناهين، وقيل هلكت مع
العاصين.
وكُونُوا لفظة أمر، وهو أمر التكوين، كقوله تعالى لكل شيء:
كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40، مريم: 35، يس: 82، غافر: 68] ، ولم
يؤمروا في المصير إلى حال المسخ بشيء يفعلونه ولا لهم فيه
تكسب.
وخاسِئِينَ معناه مبعدين أذلاء صاغرين، كما يقال للكلب
وللمطرود اخسأ. تقول خسأته فخسأ، وموضعه من الإعراب النصب على
الحال أو على خبر بعد خبر.
وروي في قصصهم أن الله تعالى مسخ العاصين قِرَدَةً بالليل
فأصبح الناجون إلى مساجدهم ومجتمعاتهم، فلم يروا أحدا من
الهالكين، فقالوا إن للناس لشأنا، ففتحوا عليهم الأبواب كما
كانت مغلقة بالليل، فوجدوهم قِرَدَةً يعرفون الرجل والمرأة،
وقيل: إن الناجين كانوا قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية
بجدار، تبريا منهم، فأصبحوا ولم تفتح مدينة الهالكين، فتسوروا
عليهم الجدار فإذا هم قردة، يثب بعضهم على بعض.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عنه أن الممسوخ لا ينسل
ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ووقع في كتاب
مسلم عنه عليه السلام أن أمة من الأمم فقدت، وأراها الفأر،
وظاهر
(1/160)
هذا أن الممسوخ ينسل، فإن كان أراد هذا فهو
ظن منه عليه السلام في أمر لا مدخل له في التبليغ، ثم أوحي
إليه بعد ذلك أن الممسوخ لا ينسل، ونظير ما قلناه نزوله عليه
السلام على مياه بدر، وأمره باطراح تذكير النخل، وقد قال صلى
الله عليه وسلم: «إذا أخبرتكم برأي في أمور الدنيا فإنما أنا
بشر» .
وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط
وردّت أفهامهم كأفهام القردة، والأول أقوى، والضمير في
«جعلناها» : يحتمل العود على المسخة والعقوبة، ويحتمل على
الأمة التي مسخت، ويحتمل على القردة، ويحتمل على القرية إذ
معنى الكلام يقتضيها، وقيل يعود على الحيتان، وفي هذا القول
بعد.
والنكال: الزجر بالعقاب، والنكل والأنكال: قيود الحديد،
فالنكال عقاب ينكل بسببه غير المعاقب عن أن يفعل مثل ذلك
الفعل، قال السدي: ما بين يدي المسخة: ما قبلها من ذنوب القوم،
وَما خَلْفَها:
لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب، وهذا قول جيد، وقال غيره: «ما
بين يديها» أي من حضرها من الناجين، وَما خَلْفَها أي لمن يجيء
بعدها، وقال ابن عباس: لِما بَيْنَ يَدَيْها: أي من بعدهم من
الناس ليحذر ويتقي، وَما خَلْفَها: لمن بقي منهم عبرة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وما أراه يصح عن
ابن عباس رضي الله عنه، لأن دلالة ما بين اليد ليست كما في
القول، وقال ابن عباس أيضا: لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما
خَلْفَها، أي من القرى، فهذا ترتيب أجرام لا ترتيب في الزمان.
وَمَوْعِظَةً مفعلة من الاتعاظ والازدجار، ولِلْمُتَّقِينَ
معناه للذين نهوا ونجوا، وقالت فرقة: معناه لأمة محمد صلى الله
عليه وسلم، واللفظ يعم كل متق من كل أمة.
وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ الآية: إِذْ عطف
على ما تقدم، والمراد تذكيرهم بنقض سلفهم للميثاق، وقرأ أبو
عمرو «يأمركم» بإسكان الراء، وروي عنه اختلاس الحركة، وقد تقدم
القول في مثله في «بارئكم» .
وسبب هذه الآية على ما روي، أن رجلا من بني إسرائيل أسنّ وكان
له مال، فاستبطأ ابن أخيه موته، وقيل أخوه، وقيل ابنا عمه،
وقيل ورثة كثير غير معينين، فقتله ليرثه وألقاه في سبط آخر غير
سبطه، ليأخذ ديته ويلطخهم بدمه، وقيل: كانت بنو إسرائيل في
قريتين متجاورتين، فألقاه إلى باب إحدى المدينتين، وهي التي لم
يقتل فيها، ثم جعل يطلبه هو وسبطه حتى وجده قتيلا، فتعلق
بالسبط أو بسكان المدينة التي وجد القتيل عندها، فأنكروا قتله،
فوقع بين بني إسرائيل في ذلك لحاء حتى دخلوا في السلاح، فقال
أهل النهي منهم: أنقتل ورسول الله معنا؟ فذهبوا إلى موسى عليه
السلام فقصوا عليه القصة، وسألوه البيان، فأوحى الله إليه أن
يذبحوا بقرة فيضرب القتيل ببعضها، فيحيى ويخبر بقاتله فقال
لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً،
فكان جوابهم أن قالوا: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قرأ الجحدري
«أيتخذنا» بالياء، على معنى أيتخذنا الله، وقرأ حمزة: «هزؤا»
بإسكان الزاي والهمز، وهي لغة، وقرأ عاصم بضم الزاي والهاء
والهمز، وقرأ أيضا: دون همز «هزوا» ، حكاه أبو علي، وقرأت
طائفة من القراء بضم الهاء والزاي والهمزة
(1/161)
قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ
ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ
لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا
إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
بين بين، وروي عن أبي جعفر وشيبة ضم الهاء
وتشديد الزاي «هزّا» ، وهذا القول من بني إسرائيل ظاهره فساد
اعتقاد ممن قاله، ولا يصح الإيمان ممن يقول لنبي قد ظهرت
معجزاته، وقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا
بَقَرَةً، أَتَتَّخِذُنا هُزُواً، ولو قال ذلك اليوم أحد عن
بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم لوجب تكفيره، وذهب قوم إلى
أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية، على نحو ما
قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين: «إن
هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله» ، وكما قال له الآخر: «اعدل
يا محمد» ، وكلّ محتمل، والله أعلم.
وقول موسى عليه السلام: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجاهِلِينَ، يحتمل معنيين: أحدهما الاستعاذة من الجهل في أن
يخبر عن الله تعالى مستهزئا، والآخر من الجهل كما جهلوا في
قولهم أَتَتَّخِذُنا هُزُواً لمن يخبرهم عن الله تعالى.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 68 الى 70]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ
إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ
عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا
ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ
يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا
ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ
اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
هذا تعنت منهم وقلة طواعية، ولو امتثلوا الأمر فاستعرضوا بقرة
فذبحوها لقضوا ما أمروا به، ولكن شددوا فشدد الله عليهم، قاله
ابن عباس وأبو العالية وغيرهما. ولغة بني عامر «ادع» بكسر
العين، وما استفهام رفع بالابتداء، وهي خبره، ورفع فارِضٌ على
النعت للبقرة على مذهب الأخفش، أو على خبر ابتداء مضمر تقديره
لا هي فارض، والفارض المسنة الهرمة التي لا تلد، قاله ابن عباس
وقتادة ومجاهد وغيرهم، تقول فرضت تفرض بفتح العين في الماضي،
فروضا، ويقال فرضت بضم العين، ويقال لكل ما قدم وطال أمده
فارض، وقال الشاعر [العجاج] : [الرجز]
يا رب ذي ضغن عليّ فارض ... له قروء كقروء الحائض
والبكر من البقر التي لم تلد من الصغر، وحكى ابن قتيبة أنها
التي ولدت ولدا واحدا، والبكر من النساء التي لم يمسها الرجل،
والبكر من الأولاد الأول، ومن الحاجات الأولى، والعوان التي قد
ولدت مرة بعد مرة، قاله مجاهد، وحكاه أهل اللغة، ومنه قول
العرب: العوان لا تعلم الخمرة. وحرب عوان: قد قوتل فيها مرتين
فما زاد، ورفعت عَوانٌ على خبر ابتداء مضمر، تقديره هي عوان،
وجمعها عون بسكون الواو، وسمع عون بتحريكها بالضم.
وبَيْنَ، بابها أن تضاف إلى اثنتين، وأضيفت هنا إلى ذلِكَ، إذ
ذلك يشار به إلى المجملات، فذلك عند سيبويه منزلة ما ذكر، فهي
إشارة إلى مفرد على بابه، وقد ذكر اثنان فجاءت أيضا بَيْنَ على
بابها.
(1/162)
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا
تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا
الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا
يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ
فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ
الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
وقوله: فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ تجديد
للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت، فما تركوه، وما رفع
بالابتداء، ولَوْنُها خبره، وقال ابن زيد وجمهور الناس في قوله
صَفْراءُ، إنها كانت كلها صفراء، قال مكي رحمه الله عن بعضهم:
حتى القرن والظلف، وقال الحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير:
كانت صفراء القرن والظلف فقط، وقال الحسن أيضا: صَفْراءُ معناه
سوداء، وهذا شاذ لا يستعمل مجازا إلا في الإبل، وبه فسر قول
الأعشى ميمون بن قيس: [الخفيف]
تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هنّ صفر أولادها كالزبيب
والفقوع: نعت مختص بالصفرة، كما خص أحمر بقانئ، وأسود بحالك،
وأبيض بناصع، وأخضر بناضر، ولَوْنُها فاعل ب فاقِعٌ.
وتَسُرُّ النَّاظِرِينَ قال وهب بن منبه: كانت كأن شعاع الشمس
يخرج من جلدها، فمعناه تعجب الناظرين، ولهذا قال ابن عباس
وغيره: الصفرة تسر النفس، وحض ابن عباس على لباس النعال الصفر،
حكاه عنه النقاش، وحكي نهي ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن
لباس النعال السود، لأنها تهمّ، وقال أبو العالية والسدي:
تَسُرُّ النَّاظِرِينَ معناه في سمنها ومنظرها كله، وسألوه بعد
هذا كله عما هي سؤال متحيرين قد أحسوا بمقت المعصية،
والْبَقَرَ جمع بقرة، وتجمع أيضا على باقر، وبه قرأ ابن يعمر
وعكرمة، وتجمع على بقير وبيقور، ولم يقرأ بهما فيما علمت، وقرأ
السبعة: «تشابه» فعل ماض، وقرأ الحسن «تشّابه» بشد الشين وضم
الهاء، أصله تتشابه، وهي قراءة يحيى بن يعمر، فأدغم، وقرأ أيضا
«تشابه» بتخفيف الشين على حذف التاء الثانية، وقرأ ابن مسعود
«يشابه» بالياء وإدغام التاء، وحكى المهدي عن المعيطي «يشّبّه»
بتشديد الشين والباء دون ألف، وحكى أبو عمرو الداني قراءة
«متشبه» اسم فاعل من تشبّه، وحكي أيضا «يتشابه» .
وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة ما وانقياد ودليل
ندم وحرص على موافقة الأمر، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «لولا ما استثنوا ما اهتدوا إليها أبدا» ، والضمير في
إِنَّا، هو اسم إِنَّ، و «مهتدون» الخبر، واللام للتأكيد،
والاستثناء اعتراض، قدم على ذكر الاهتداء، تهمما به.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 71 الى 73]
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ
الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها
قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا
يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ
فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ
الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
ذَلُولٌ: مذللة بالعمل والرياضة، تقول بقرة مذللة بيّنة الذّل
بكسر الذال، ورجل ذلول بين الذّل بضم الذال، وذَلُولٌ نعت ل
بَقَرَةٌ، أو على إضمار هي، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: «لا
ذلول» بنصب اللام.
وتُثِيرُ الْأَرْضَ، معناه بالحراثة، وهي عند قوم جملة في موضع
رفع على صفة البقرة، أي لا ذلول
(1/163)
مثيرة، وقال قوم تُثِيرُ فعل مستأنف،
والمعنى إيجاب الحرث وأنها كانت تحرث ولا تسقي، ولا يجوز أن
تكون هذه الجملة في موضع الحال، لأنها من نكرة، وتَسْقِي
الْحَرْثَ معناه بالسانية أو غيرها من الآلات، والْحَرْثَ ما
حرث وزرع.
ومُسَلَّمَةٌ بناء مبالغة من السلامة، قال ابن عباس وقتادة
وأبو العالية: معناه من العيوب، وقال مجاهد:
معناه من الشيات والألوان، وقال قوم: معناه من العمل.
ولا شِيَةَ فِيها: أي لا خلاف في لونها هي صفراء كلها لا بياض
فيها ولا حمرة ولا سواد قاله ابن زيد وغيره، والموشي المختلط
الألوان، ومنه وشي الثوب، تزيينه بالألوان، ومنه الواشي لأنه
يزين كذبه بالألوان من القول، والثور الأشيه الذي فيه بلقة،
يقال فرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وكلب أبقع، وثور أشيه،
كل ذلك بمعنى البلقة.
وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم،
ودين الله يسر، والتعمق في سؤال الأنبياء عليهم السلام مذموم.
وقصة وجود هذه البقرة على ما روي، أن رجلا من بني إسرائيل ولد
له ابن، وكانت له عجلة، فأرسلها في غيضة، وقال: اللهم إني قد
استودعتك هذه العجلة لهذا الصبي، ومات الرجل، فلما كبر الصبي
قالت له أمه: إن أباك قد استودع الله عجلة لك، فأذهب فخذها،
فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها، وكانت
مستوحشة، فجعل يقودها نحو أمه، فلقيه بنو إسرائيل، ووجدوا
بقرته على الصفة التي أمروا بها، وروت طائفة أنه كان رجل من
بني إسرائيل برا بأبيه فنام أبوه يوما وتحت رأسه مفاتيح
مسكنهما، فمر به بائع جوهر فسامه فيه بستين ألفا، فقال له ابن
النائم: اصبر حتى ينتبه أبي، وأنا آخذه منك بسبعين ألفا، فقال
له صاحب الجوهر: نبه أباك وأنا أعطيكه بخمسين ألفا، فداما كذلك
حتى بلغه مائة ألف، وانحط صاحب الجوهر إلى ثلاثين ألفا، فقال
له ابن النائم: والله لا اشتريته منك بشيء برا بأبيه، فعوضه
الله منه أن وجدت البقرة عنده، وقال قوم: وجدت عند عجوز تعول
يتامى كانت البقرة لهم، إلى غير ذلك من اختلاف في قصتها، هذا
معناه، فلما وجدت البقرة ساموا صاحبها، فاشتط عليهم، وكانت
قيمتها- على ما روي عن عكرمة- ثلاثة دنانير، فأتوا به موسى
عليه السلام، وقالوا: إن هذا اشتط علينا، فقال لهم: أرضوه في
ملكه، فاشتروها منه بوزنها مرة، قاله عبيدة السلماني، وقيل
بوزنها مرتين، وقال السدي: بوزنها عشر مرات، وقال مجاهد: كانت
لرجل يبر أمه، وأخذت منه بملء جلدها دنانير، وحكى مكي: أن هذه
البقرة نزلت من السماء، ولم تكن من بقر الأرض، وحكى الطبري عن
الحسن أنها كانت وحشية.
والْآنَ مبني على الفتح ولم يتعرف بهذه الألف واللام، ألا ترى
أنها لا تفارقة في الاستعمال، وإنما بني لأنه ضمن معنى حرف
التعريف، ولأنه واقع موقع المبهم، إذ معناه هذا الوقت، هو
عبارة عما بين الماضي والمستقبل، وقرىء «قالوا الآن» بسكون
اللام وهمزة بعدها، «وقالوا الان» بمدة على الواو وفتح اللام
دون همز، «وقالوا الآن» بحذف الواو من اللفظ دون همز، «وقالوا
الآن» بقطع الألف الأولى وإن كانت ألف وصل، كما تقول «يا الله»
.
(1/164)
وجِئْتَ بِالْحَقِّ معناه- عند من جعلهم
عصاة- بينت لنا غاية البيان، وجِئْتَ بِالْحَقِّ الذي طلبناه،
لا إنه كان يجيء قبل ذلك بغير حق، ومعناه عند ابن زيد- الذي
حمل محاورتهم على الكفر-: الآن صدقت. وأذعنوا في هذه الحال حين
بين لهم أنها سائمة، وقيل إنهم عيّنوها مع هذه الأوصاف،
وقالوا:
هذه بقرة فلان، وهذه الآية تعطي أن الذبح أصل في البقر، وإن
نحر أجزأت.
وقوله تعالى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ عبارة عن تثبطهم في
ذبحها، وقلة مبادرتهم إلى أمر الله تعالى، وقال محمد بن كعب
القرظي: كان ذلك منهم لغلاء البقرة وكثرة ثمنها، وقال غيره:
كان ذلك خوف الفضيحة في أمر القاتل، وقيل: كان ذلك للمعهود من
قلة انقيادهم وتعنتهم على الأنبياء، وقد تقدم قصص القتيل الذي
يراد بقوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً، والمعنى قلنا
لهم اذكروا إذ قتلتم.
و «ادارأتم» أصله: تدارأتم، ثم أدغمت التاء في الدال فتعذر
الابتداء بمدغم، فجلبت ألف الوصل، ومعناه تدافعتم أي دفع بعضكم
قتل القتيل إلى بعض، قال الشاعر: [الرجز] صادف درء السّيل درءا
يدفعه وقال الآخر [الخفيف] :
مدرأ يدرأ الخصوم بقول ... مثل حدّ الصّمصامة الهندواني
والضمير في قوله: فِيها عائد على النفس وقيل على القتلة، وقرأ
أبو حيوة وأبو السوار الغنوي «وإذ قتلتم نسمة فادّارأتم» ،
وقرأت فرقة «فتدارأتم» على الأصل، وموضع ما نصب بمخرج،
والمكتوم هو أمر المقتول.
وقوله: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
آية من الله تعالى على يدي موسى عليه السلام أن أمرهم أن
يضربوا ببعض البقرة القتيل فيحيى ويخبر بقاتله، فقيل: ضربوه،
وقيل: ضربوا قبره، لأن ابن عباس ذكر أن أمر القتيل وقع قبل
جواز البحر، وأنهم داموا في طلب البقرة أربعين سنة، وقال
القرظي: لقد أمروا بطلبها وما هي في صلب ولا رحم بعد، وقال
السدي: ضرب باللحمة التي بين الكتفين، وقال مجاهد وقتادة
وعبيدة السلماني: ضرب بالفخذ، وقيل: ضرب باللسان، وقيل:
بالذنب، وقال أبو العالية: بعظم من عظامها.
وقوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
الآية، الإشارة ب كَذلِكَ
إلى الإحياء الذي تضمنه قصص الآية، إذ في الكلام حذف، تقديره:
فضربوه فحيي، وفي هذه الآية حض على العبرة، ودلالة على البعث
في الآخرة. وظاهرها أنها خطاب لبني إسرائيل، حينئذ حكي لمحمد
صلى الله عليه وسلم ليعتبر به إلى يوم القيامة، وذهب الطبري
إلى أنها خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها مقطوعة
من قوله تعالى: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
، وروي أن هذا القتيل لما حيي وأخبر بقاتله عاد ميتا كما كان،
واستدل مالك رحمه الله بهذه النازلة على تجويز قول القتيل وأن
تقع معه القسامة.
قوله عز وجل:
ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشدّ قسوة وإنّ من
الحجارة لما يتفجّر منه
(1/165)
ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ
أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ
مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ
فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ
مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ
وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ
ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ (75)
[سورة البقرة (2) : الآيات 74 الى 75]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ
كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ
لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما
يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما
يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ
وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ
ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ (75)
قَسَتْ أي صلبت وجفت، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان
لآيات الله تعالى، وقال ابن عباس: المراد قلوب ورثة القتيل،
لأنهم حين حيي قال: إنهم قتلوه وعاد إلى حال موته أنكروا قتله،
وقالوا: كذب بعد ما رأوا هذه الآية العظمى، لكن نفذ حكم الله
تعالى بقتلهم، قال عبيدة السلماني: ولم يرث قاتل من حينئذ.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وبمثله جاء شرعنا،
وحكى مالك رحمه الله في الموطأ، أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه
هي التي كانت سببا أن لا يرث قاتل، ثم ثبت ذلك الإسلام، كما
ثبت كثيرا من نوازل الجاهلية، وقال أبو العالية وقتادة
وغيرهما: إنما أراد الله قلوب بني إسرائيل جميعا في معاصيهم
وما ركبوه بعد ذلك.
وقوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ الآية، الكاف في موضع رفع
خبر ل «هي» ، تقديره: فهي مثل الحجارة أَوْ أَشَدُّ مرتفع
بالعطف على الكاف، أَوْ على خبر ابتداء بتقدير تكرار هي،
وقَسْوَةً نصب على التمييز، والعرف في أَوْ أنها للشك، وذلك لا
يصح في هذه الآية، واختلف في معنى أَوْ هنا، فقالت طائفة: هي
بمعنى الواو، كما قال تعالى: آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان:
24] أي وكفورا، وكما قال الشاعر [جرير] : [البسيط]
نال الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربّه موسى على قدر
أي وكانت له. وقالت طائفة هي بمعنى بل، كقوله تعالى: إِلى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147] المعنى بل
يزيدون، وقالت طائفة: معناها التخيير، أي: شبهوها بالحجارة
تصيبوا، أو بأشد من الحجارة تصيبوا، وقالت فرقة: هي على بابها
في الشك. ومعناه: عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم، أن لو
شاهدتم قسوتها لشككتم أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة. وقالت
فرقة: هي على جهة الإبهام على المخاطب، ومنه قول أبي الأسود
الدؤلي:
أحب محمّدا حبا شديدا ... وعباسا وحمزة أو عليّا
ولم يشك أبو الأسود، وإنما قصد الإبهام على السامع، وقد عورض
أبو الأسود في هذا، فاحتجّ بقول الله تعالى: وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] ،
وهذه الآية مفارقة لبيت أبي الأسود، ولا يتم معنى الآية إلا ب
«أو» ، وقالت فرقة: إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه
كالحجر، وفيهم من قلبه أشد من الحجر، فالمعنى فهي فرقتان
كالحجارة أو أشد، ومثل هذا قولك: أطعمتك الحلو أو الحامض، تريد
أنه لم يخرج ما أطعمته عن هذين، وقالت فرقة: إنما أراد عز وجل
أنها كانت كالحجارة
(1/166)
يترجى لها الرجوع والإنابة، كما تتفجر
الأنهار ويخرج الماء من الحجارة، ثم زادت قلوبهم بعد ذلك قسوة
بأن صارت في حد من لا ترجى إنابته، فصارت أشد من الحجارة، فلم
تخل أن كانت كالحجارة طورا أو أشد طورا، وقرأ أبو حيوة:
«قساوة» ، والمعنى واحد.
وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ الآية، معذرة للحجارة
وتفضيل لها على قلوبهم في معنى قلة القسوة، وقال قتادة: عذر
الله تعالى الحجارة ولم يعذر شقيّ بني آدم، وقرأ قتادة: «وإن»
مخففة من الثقيلة، وكذلك في الثانية والثالثة، وفرق بينها وبين
النافية لام التأكيد، في لَما، وما في موضع نصب اسم ل إِنَّ،
ودخلت اللام على اسم إِنَّ لمّا حال بينهما المجرور، ولو اتصل
الاسم ب إِنَّ لم يصح دخول اللام لثقل اجتماع تأكيدين، وقرأ
مالك بن دينار: «ينفجر» بالنون وياء من تحت قبلها وكسر الجيم،
ووحد الضمير في مِنْهُ حملا على لفظ «ما» ، وقرأ أبي بن كعب
والضحاك «منها الأنهار» ، حملا على الحجارة، والْأَنْهارُ جمع
نهر وهو ما كثر ماؤه جريا من الأخاديد، وقرأ طلحة بن مصرف:
«لمّا» بتشديد الميم في الموضعين، وهي قراءة غير متجهة،
ويَشَّقَّقُ أصله يتشقق أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن
العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارا، أو عن الحجارة التي تشقق
وإن لم يجر ماء منسفح، وقرأ ابن مصرف ينشقق بالنون، وقيل في
هبوط الحجارة تفيؤ ظلالها، وقيل المراد: الجبل الذي جعله الله
دكا، وقيل: إن الله تعالى يخلق في بعض الأحجار خشية وحياة
يهبطها من علو تواضعا، ونظير هذه الحياة حياة الحجر المسلم على
النبي صلى الله عليه وسلم، وحياة الجذع الذي أنّ لفقد النبي
صلى الله عليه وسلم، وقيل لفظة الهبوط مجاز لما كانت الحجارة
يعتبر بخلقها ويخشع بعض مناظرها، أضيف تواضع الناظر إليها، كما
قالت العرب: ناقة تاجرة أي: تبعث من يراها على شرائها، وقال
مجاهد: ما تردى حجر من رأس جبل ولا تفجر نهر من حجر ولا خرج
ماء منه إلا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، نزل بذلك القرآن، وقال
مثله ابن جريج، وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة
كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَّ [الكهف: 77] ، وكما قال زيد الخيل: [الطويل]
بجمع تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجدا للحوافر
وكما قال جرير: والجبال الخشع، أي من رأى الحجر هابطا تخيل فيه
الخشية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف: لأن براعة معنى
الآية تختل به، بل القوي أن الله تعالى يخلق للحجارة قدرا ما
من الإدراك تقع به الخشية والحركة، وبِغافِلٍ في موضع نصب خبر
مَا، لأنها الحجازية، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر، وإن كانت
الباء قد تجيء شاذة مع التميمية، وقرأ ابن كثير «يعملون»
بالياء، والمخاطبة على هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ الآية،
الخطاب للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن
الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان
بينهم، ومعنى هذا الخطاب: التقرير على أمر فيه بعد، إذ قد سلفت
لأسلاف هؤلاء اليهود أفاعيل سوء، وهؤلاء على ذلك السنن،
والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه كالحزب، وقال مجاهد
والسدي: عني بالفريق هنا الأحبار
(1/167)
وَإِذَا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ
لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ
إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى الله
عليه وسلم، وقيل المراد كل من حرف في التوراة شيئا حكما أو
غيره كفعلهم في آية الرجم ونحوها، وقال ابن إسحاق والربيع: عني
السبعون الذين سمعوا مع موسى صلى الله عليه وسلم ثم بدلوا بعد
ذلك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا القول ضعف، ومن قال إن
السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ وأذهب فضيلة موسى عليه
السلام واختصاصه بالتكليم، وقرأ الأعمش: «كلم الله» ، وتحريف
الشيء إحالته من حال إلى حال، وذهب ابن عباس رضي الله عنه إلى
أن تحريفهم وتبديلهم إنما هو بالتأويل ولفظ التوراة باق، وذهب
جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظا من تلقائهم وأن ذلك
ممكن في التوراة لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن لأن
الله تعالى ضمن حفظه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 76 الى 78]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا
بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ
هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)
المعنى: وهم أيضا إذا لقوا يفعلون هذا، فكيف يطمع في إيمانهم؟
ويحتمل أن يكون هذا الكلام مستأنفا مقطوعا من معنى الطمع، فيه
كشف سرائرهم.
وورد في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخلن
علينا قصبة المدينة إلا مؤمن» ، فقال كعب بن الأشرف ووهب بن
يهوذا وأشباههما: اذهبوا وتحسسوا أخبار من آمن بمحمد وقولوا
لهم آمنا واكفروا إذا رجعتم، فنزلت هذه الآية فيهم، وقال ابن
عباس: نزلت في منافقين من اليهود، وروي عنه أيضا أنها نزلت في
قوم من اليهود قالوا لبعض المؤمنين نحن نؤمن أنه نبي ولكن ليس
إلينا، وإنما هو إليكم خاصة، فلما خلوا قال بعضهم: لم تقرون
بنبوته وقد كنا قبل نستفتح به؟ فهذا هو الذي فتح الله عليهم من
علمه، وأصل خَلا «خلو» تحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت
ألفا، وقال أبو العالية وقتادة: إن بعض اليهود تكلم بما في
التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لهم كفرة
الأحبار: أتحدثون بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي عرفكم من
صفة محمد صلى الله عليه وسلم فيحتجون عليكم إذ تقرون به ولا
تؤمنون به؟، وقال السدي: إن بعض اليهود حكى لبعض المسلمين ما
عذب به أسلافهم، فقال بعض الأحبار: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما
فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ من العذاب، فيحتجون عليكم ويقولون
نحن أكرم على الله حين لم يفعل بنا مثل هذا؟، وفتح على هذا
التأويل بمعنى حكم، وقال مجاهد: إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال لبني قريظة: يا إخوة الخنازير والقردة، فقال الأحبار
لأتباعهم: ما عرف هذا إلا من عندكم، أتحدثونهم؟ وقال ابن زيد:
كانوا إذا سئلوا عن شيء، قالوا في التوراة كذا وكذا، فكرهت
الأحبار ذلك، ونهوا في الخلوة عنه، ففيه نزلت الآية.
والفتح في اللغة ينقسم أقساما تجمعها بالمعنى التوسعة وإزالة
الإبهام، وإلى هذا يرجع الحكم
(1/168)
وغيره، والفتاح هو القاضي بلغة اليمن، و
«يحاجوكم» من الحجة، وأصله من حج إذا قصد، لأن المتحاجّين كل
واحد منهما يقصد غلبة الآخر، وعِنْدَ رَبِّكُمْ معناه في
الآخرة، وقيل عند بمعنى في ربكم، أي فيكونون أحق به، وقيل:
المعنى عند ذكر ربكم.
وقوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ قيل: هو من قول الأحبار
للأتباع، وقيل: هو خطاب من الله للمؤمنين، أي أفلا تعقلون أن
بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال. والعقل علوم ضرورية
وقرأ الجمهور «أولا يعلمون» بالياء من أسفل، وقرأ ابن محيصن
«أو لا تعلمون» بالتاء خطابا للمؤمنين، والذي أسروه كفرهم،
والذي أعلنوه قولهم آمنا، هذا في سائر اليهود، والذي أسره
الأحبار صفة محمد صلى الله عليه وسلم والمعرفة به، والذي
أعلنوه الجحد به، ولفظ الآية يعم الجميع.
وأُمِّيُّونَ هنا عبارة عن جهلة بالتوراة، قال أبو العالية
ومجاهد وغيرهما: المعنى ومن هؤلاء اليهود المذكورين، فالآية
منبهة على عامتهم وأتباعهم، أي إنهم ممن لا يطمع في إيمانهم
لما غمرهم من الضلال، وقيل: المراد هنا بالأميين قوم ذهب
كتابهم لذنوب ركبوها فبقوا أميين، وقال عكرمة والضحاك:
هم في الآية نصارى العرب، وقيل عن علي بن أبي طالب رضي الله
عنه إنه قال: هم المجوس. والضمير في مِنْهُمْ على هذه الأقوال
هو للكفار أجمعين، قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقول أبي
العالية ومجاهد أوجه هذه الأقوال، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة
«أميون» بتخفيف الميم، والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ
في كتاب، نسب إلى الأم: إما لأنه بحال أمه من عدم الكتاب لا
بحال أبيه، إذ النساء ليس من شغلهن الكتاب، قاله الطبري، وإما
لأنه بحال ولدته أمه فيها لم ينتقل عنها، وقيل نسب إلى الأمة
وهي القامة والخلقة، كأنه ليس له من الآدميين إلا ذلك، وقيل
نسب إلى الأمة على سذاجتها قبل أن تعرف المعارف، فإنها لا تقرأ
ولا تكتب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في العرب: «إنا
أمة أميّة لا نحسب ولا نكتب» ، الحديث: والألف واللام في
الْكِتابَ للعهد، ويعني به التوراة في قول أبي العالية ومجاهد.
والأماني جمع أمنية، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع في بعض ما روي
عنه «أماني» بتخفيف الياء، وأصل أمنية أمنوية على وزن أفعولة،
ويجمع هذا الوزن على أفاعل، وعلى هذا يجب تخفيف الياء، ويجمع
على أفاعيل فعلى هذا يجيء أمانيي أدغمت الياء في الياء فجاء
«أماني» .
واختلف في معنى أَمانِيَّ، فقالت طائفة: هي هنا من تمني الرجل
إذا ترجى، فمعناه أن منهم من لا يكتب ولا يقرأ وإنما يقول بظنه
شيئا سمعه، فيتمنى أنه من الكتاب، وقال آخرون: هي من تمنى إذا
تلا، ومنه قوله تعالى إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى
الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] ومنه قول الشاعر
[كعب بن مالك] :
[الطويل]
تمنى كتاب الله أول ليله ... وآخره لاقى حمام المقادر
فمعنى الآية أنهم لا يعلمون الكتاب إلا سماع شيء يتلى لا علم
لهم بصحته، وقال الطبري: هي من تمنى الرجل إذا حدث بحديث مختلق
كذب، وذكر أهل اللغة أن العرب تقول تمنى الرجل إذا كذب واختلق
الحديث، ومنه قول عثمان رضي الله عنه: «ما تمنيت ولا تغنيت منذ
أسلمت» .
(1/169)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا
فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ
مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ
إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ
اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ
تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ
كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
فمعنى الآية أن منهم أميين لا يعلمون
الكتاب إلا أنهم يسمعون من الأحبار أشياء مختلقة يظنونها من
الكتاب، وإن نافية بمعنى ما، والظن هنا على بابه في الميل إلى
أحد الجائزين.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 79 الى 82]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ
ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ
وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ
أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ
عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
(80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ
فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ
أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)
الذين في هذه الآية يراد بهم الأحبار والرؤساء، قال الخليل:
الويل شدة الشر، وقال الأصمعي:
الويل القبوح وهو مصدر لا فعل له، ويجمع على ويلات، والأحسن
فيه إذا انفصل الرفع، لأنه يقتضي الوقوع، ويصح النصب على معنى
الدعاء أي ألزمه الله ويلا، وويل وويح وويس وويب تتقارب في
المعنى، وقد فرق بينها قوم، وروى سفيان وعطاء بن يسار أن الويل
في هذه الآية: واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار، وروى
أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه واد في جهنم
بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفا، وقال أبو عياض: إنه
صهريج في جهنم، وروى عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه جبل من جبال النار. وحكى الزهراوي عن آخرين
أنه باب من أبواب جهنم، والذين يَكْتُبُونَ: هم الأحبار الذين
بدلوا التوراة.
وقوله تعالى: بِأَيْدِيهِمْ بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم
الله، وفرق بين من كتب وبين من أمر، إذ المتولي للفعل أشد
مواقعة ممن لم يتوله، وإن كان رأيا له، وقال ابن السراج: هو
كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، وإن لم تكن حقيقة
في كتب أيديهم، والذي بدلوا هو صفة النبي صلى الله عليه وسلم
ليستديموا رياستهم ومكاسبهم، وقال ابن إسحاق: كانت صفته في
التوراة أسمر ربعة، فردوه آدم طويلا، وذكر السدي أنهم كانوا
يكتبون كتبا يبدلون فيها صفة النبي صلى الله عليه وسلم
ويبيعونها من الأعراب ويبثونها في أتباعهم ويقولون هي من عند
الله، وتناسق هذه الآية على التي قبلها يعطي أن هذا الكتب
والتبديل إنما هو للأتباع الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرىء
لهم.
والثمن قيل عرض الدنيا، وقيل الرشا والمآكل التي كانت لهم،
ووصفه بالقلة إما لفنائه وإما لكونه حراما، وكرر الويل لتكرار
الحالات التي استحقوه بها، ويَكْسِبُونَ معناه من المعاصي
والخطايا، وقيل من المال الذي تضمنه ذكر الثمن.
وقوله تعالى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ الآية، روى
ابن زيد وغيره أن سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لليهود: من أهل النار؟ فقالوا: نحن ثم تخلفوننا أنتم، فقال
لهم: كذبتم لقد علمتم أنا لا
(1/170)
نخلفكم، فنزلت هذه الآية، ويقال إن السبب
أن اليهود قالت: إن الله تعالى أقسم أن يدخلهم النار أربعين
يوما عدد عبادتهم العجل، قاله ابن عباس وقتادة، وقالت طائفة:
قالت اليهود إن في التوراة أن طول جهنم مسيرة أربعين سنة وأنهم
يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم، وقال ابن عباس
أيضا ومجاهد وابن جريج: إنهم قالوا إن مدة الدنيا سبعة آلاف
سنة وإن الله تعالى يعذبهم بكل ألف سنة يوما.
وأَتَّخَذْتُمْ أصله «ايتخذتم» ، وزنه افتعلتم من الأخذ، سهلت
الهمزة الثانية لامتناع جمع همزتين فجاء «ايتخذتم» فاضطربت
الياء في التصريف فجاءت ألفا في ياتخذوا وواوا في «موتخذ»
فبدلت بحرف جلد ثابت وهو التاء وأدغمت، فلما دخلت في هذه الآية
ألف التقرير استغني عن ألف الوصل، ومذهب أبي علي أن
أَتَّخَذْتُمْ من «تخذ» لا من «أخذ» وقد تقدم ذكر ذلك.
وقال أهل التفسير: العهد من الله تعالى في هذه الآية الميثاق
والوعد، وقال ابن عباس وغيره: معناه هل قلتم لا إله إلا الله
وآمنتم وأطعتم فتدلون بذلك وتعلمون أنكم خارجون من النار؟،
فعلى هذا التأويل الأول يجيء المعنى: هل عاهدكم الله على هذا
الذي تدعون؟ وعلى التأويل الثاني يجيء: هل أسلفتم عند الله
أعمالا توجب ما تدعون؟، وقوله فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ
عَهْدَهُ اعتراض أثناء الكلام.
وبَلى رد بعد النفي بمنزلة نعم بعد الإيجاب، وقال الكوفيون:
أصلها بل التي هل للإضراب عن الأول وزيدت عليها الياء ليحسن
الوقف عليها وضمنت الياء معنى الإيجاب والإنعام بما يأتي
بعدها، وقال سيبويه: هي حرف مثل بل وغيره، وهي في هذه الآية رد
لقول بني إسرائيل لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ فرد الله عليهم
وبين الخلود في النار والجنة بحسب الكفر والإيمان، ومَنْ شرط
في موضع رفع بالابتداء، و «أولئك» ابتداء ثان، وأَصْحابُ خبره،
والجملة خبر الأول، والفاء موطئة أن تكون الجملة جواب الشرط.
وقالت طائفة: السيئة الشرك كقوله تعالى وَمَنْ جاءَ
بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل:
90] ، والخطيئات كبائر الذنوب، وقال قوم: «خطيئته» بالإفراد،
وقال قوم: السيئة هنا الكبائر، وأفردها وهي بمعنى الجمع لما
كانت تدل على الجنس، كقوله تعالى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34] ، والخطيئة الكفر، ولفظة
الإحاطة تقوي هذا القول وهي مأخوذة من الحائط المحدق بالشيء،
وقال الربيع بن خيثم والأعمش والسدي وغيرهم: معنى الآية مات
بذنوب لم يتب منها، وقال الربيع أيضا: المعنى مات على كفره،
وقال الحسن بن أبي الحسن والسدي: المعنى كل ما توعد الله عليه
بالنار فهي الخطيئة المحيطة، والخلود في هذه الآية على الإطلاق
والتأبيد في المشركين، ومستعار بمعنى الطول والدوام في العصاة
وإن علم انقطاعه، كما يقال ملك خالد ويدعى للملك بالخلد.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية. يدل هذا التقسيم على
أن قوله مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً الآية في الكفار لا في العصاة،
ويدل على ذلك أيضا قوله: أَحاطَتْ لأن العاصي مؤمن فلم تحط به
خطيئته، ويدل على ذلك أيضا أن الرد كان على كفار ادعوا أن
النار لا تمسهم إلا أياما معدودة فهم المراد بالخلود، والله
أعلم.
قوله عز وجل:
وإذ أخذنا ميثق بنى إسراءيل لا تعبدون إلّا الله وبالولدين
إحسانا وذى القربى واليتامى
(1/171)
وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا
قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا
تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
[سورة البقرة (2) : الآيات 83 الى 84]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ
إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ
إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ
أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا
تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
المعنى: «واذكروا إذ أخذنا» ، وقال مكي رحمه الله: «هذا هو
الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر» ، وهذا
ضعيف، وإنما هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان
موسى عليه السلام وغيره من أنبيائهم عليهم السلام، وأخذ
الميثاق قول، فالمعنى قلنا لهم لا تَعْبُدُونَ، وقرأ ابن كثير
وحمزة والكسائي «لا يعبدون» بالياء من أسفل، وقرأ الباقون
بالتاء من فوق، حكاية ما قيل لهم، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود
«لا تعبدوا» على النهي. قال سيبوية: لا تَعْبُدُونَ متعلق
لقسم، والمعنى وإذ استخلفناكم والله لا تعبدون، وقالت طائفة:
تقدير الكلام بأن لا تعبدوا إلا الله، ثم حذفت الباء ثم حذفت
أن فارتفع الفعل لزوالها، ف لا تَعْبُدُونَ على هذا معمول لحرف
النصب، وحكي عن قطرب أن لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ في موضع
الحال أي أخذنا ميثاقهم موحدين، وهذا إنما يتجه على قراءة ابن
كثير، ونظام الآية يدفعه مع كل قراءة، وقال قوم لا تَعْبُدُونَ
إِلَّا اللَّهَ نهي في صيغة خبر، ويدل على ذلك أن في قراءة أبي
لا تعبدوا.
والباء في قوله وَبِالْوالِدَيْنِ قيل هي متعلقة بالميثاق عطفا
على الباء المقدرة أولا على قول من قال التقدير بأن لا تعبدوا،
وقيل: تتعلق بقوله وإِحْساناً والتقدير قلنا لهم لا تعبدون إلا
الله، وأحسنوا إحسانا بالوالدين ويعترض هذا القول بأن المصدر
قد تقدم عليه ما هو معمول له، وقيل تتعلق الباء بأحسنوا المقدر
والمعنى وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وهذا قول حسن، وقدم اللفظ
بِالْوالِدَيْنِ تهمما فهو نحو قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ
[الفاتحة: 5] وفي الإحسان تدخل أنواع بر الوالدين كلها، وَذِي
الْقُرْبى عطف على الوالدين، والْقُرْبى بمعنى القرابة، وهو
مصدر كالرجعى والعقبى، وهذا يتضمن الأمر بصلة الرحم،
وَالْيَتامى: جمع يتيم كنديم وندامى، واليتم في بني آدم فقد
الأب، وفي البهائم فقد الأم، وقال عليه السلام: «لا يتم بعد
بلوغ» ، وحكى الماوردي أن اليتيم في بني آدم في فقد الأم، وهذا
يتضمن الرأفة باليتامى وحيطة أموالهم، وَالْمَساكِينِ: جمع
مسكين وهو الذي لا شيء له، لأنه مشتق من السكون وقد قيل: إن
المسكين هو الذي له بلغة من العيش، وهو على هذا مشتق من السكن،
وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمواساة وتفقد أحوال المساكين.
وقوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، أمر عطف على ما
تضمنه لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وما بعده من معنى الأمر
والنهي، أو على أحسنوا المقدر في قوله وَبِالْوالِدَيْنِ، وقرأ
حمزة والكسائي «حسنا» بفتح الحاء والسين، قال الأخفش: هما
بمعنى واحد كالبخل والبخل، قال الزجاج وغيره: بل المعنى في
القراءتين وقولوا قولا حسنا بفتح السين أو قولا ذا «حسن» بضم
الحاء، وقرأ قوم «حسنى» مثل فعلى، ورده سيبويه لأن أفعل وفعلى
لا تجيء إلا معرفة إلا أن يزال عنها معنى التفضيل وتبقى مصدرا
كالعقبى، فذلك جائز، وهو
(1/172)
وجه القراءة بها، وقرأ عيسى بن عمر وعطاء
بن أبي رباح «حسنا» بضم الحاء والسين، وقال ابن عباس:
معنى الكلام قولوا لهم لا إله إلا الله ومروهم بها، وقال ابن
جريج: قولوا لهم حسنا في الإعلام بما في كتابكم من صفة محمد
صلى الله عليه وسلم، وقال سفيان الثوري: معناه مروهم بالمعروف
وانهوهم عن المنكر، وقال أبو العالية: معناه قولوا لهم الطيب
من القول وحاوروهم بأحسن ما تحبون أن تحاوروا به، وهذا حض على
مكارم الأخلاق، وحكى المهدوي عن قتادة أن قوله تعالى وَقُولُوا
لِلنَّاسِ حُسْناً:
منسوخ بآية السيف.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا على أن هذه
الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام، وأما الخبر عن بني
إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه، وقد تقدم القول في إقامة
الصلاة، وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها وتنزل النار على ما
تقبل ولا تنزل على ما لم يتقبل، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى
الله عليه وسلم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:
«الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص» .
وقوله تعالى ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ الآية خطاب لمعاصري محمد صلى
الله عليه وسلم أسند إليهم تولي أسلافهم، إذ هم كلهم بتلك
السبيل، قال نحوه ابن عباس وغيره، وثُمَّ مبنية على الفتح ولم
تجر مجرى رد وشد لأنها لا تتصرف، وضمت التاء الأخيرة من
تَوَلَّيْتُمْ لأن تاء المفرد أخذت الفتح وتاء المؤنث أخذت
الكسر فلم يبق للتثنية والجمع إلا الضم، وقَلِيلًا نصب على
الاستثناء قال سيبويه: المستثنى منصوب على التشبيه بالمفعول
به، قال المبرد: هو مفعول حقيقة لأن تقديره استثنيت كذا،
والمراد بالقليل جميع مؤمنيهم قديما من أسلافهم وحديثا كابن
سلام وغيره، والقلة على هذه هي في عدد الأشخاص، ويحتمل أن تكون
القلة في الإيمان أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى
الله عليه وسلم إلا إيمان قليل، إذ لا ينفعهم، والأول أقوى،
وقرأ قوم «إلا قليل» برفع القليل، ورويت عن أبي عمرو، وهذا على
بدل قليل من الضمير في تَوَلَّيْتُمْ، وجاز ذلك مع أن الكلام
لم يتقدم فيه نفي لأن تَوَلَّيْتُمْ معناه النفي كأنه قال ثم
لم تفوا بالميثاق إلا قليل، والسفك صب الدم وسرد الكلام، وقرأ
طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة «لا تسفكون» بضم الفاء، وقرأ
أبو نهيك «تسفّكون» بضم التاء وكسر الفاء وتضعيفها، وإعراب لا
تَسْفِكُونَ كما تقدم في لا تَعْبُدُونَ، ودِماءَكُمْ جمع دم،
وهو اسم منقوص أصله دمي، وتثنيته دميان، وقيل أصله دمي بسكون
الميم، وحركت في التثنية لتدل الحركة على التغيير الذي في
الواحد.
وقوله تعالى وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ
معناه ولا ينفي بعضكم بعضا بالفتنة والبغي، ولما كانت ملتهم
واحدة وأمرهم واحدا وكانوا في الأمم كالشخص الواحد، جعل قتل
بعضهم لبعض ونفي بعضهم بعضا قتلا لأنفسهم ونفيا لها، وكذلك حكم
كل جماعة تخاطب بهذا اللف في القول، وقيل لا تَسْفِكُونَ
دِماءَكُمْ أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصا، فكأنه سفك دم نفسه لما
سبب ذلك ولا يفسد في الأرض فينفى فيكون قد أخرج نفسه من دياره،
وهذا تأويل فيه تكلف، وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ
على بني إسرائيل في التوراة ميثاقا أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا
ينفيه ولا يسترقه ولا يدعه يسترق إلى غير ذلك من الطاعات.
(1/173)
ثُمَّ أَنْتُمْ
هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا
مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ
بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى
تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ
فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ
إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (85)
وقوله تعالى ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ أي خلفا
بعد سلف أن هذا الميثاق أخذ عليكم والتزمتموه فيتجه في هذه
اللفظة أن تكون من الإقرار الذي هو ضد الجحد وتتعدى بالباء،
وأن تكون من الإقرار الذي هو إبقاء الأمر على حاله، أي أقررتم
هذا الميثاق ملتزما.
وقوله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ قيل الخطاب يراد به من سلف منهم
والمعنى وأنتم شهود أي حضور أخذ الميثاق والإقرار، وقيل إن
المراد من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى وأنتم
شهداء أي بينة أن هذا الميثاق أخذ على أسلافكم فمن بعدهم.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 85]
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ
وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ
عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ
أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ
أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ
فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى
أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(85)
هؤُلاءِ دالة على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل ردا إلى
الأسلاف، قيل: تقدير الكلام يا هؤلاء، فحذف حرف النداء، ولا
يحسن حذفه عند سيبويه مع المبهمات، لا تقول هذا أقبل، وقيل
تقديره أعني هؤلاء، وقيل هؤُلاءِ بمعنى الذين، فالتقدير ثم
أنتم الذين تقتلون، ف تَقْتُلُونَ صلة لهؤلاء، ونحوه قال يزيد
بن مفرغ الحميري.
عدس ما لعبّاد عليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق
وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن بن أحمد شيخنا رضي الله عنه:
هؤُلاءِ رفع بالابتداء وأَنْتُمْ خبر مقدم، وتَقْتُلُونَ حال،
بها تم المعنى، وهي كانت المقصود فهي غير مستغنى عنها، وإنما
جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه، كما تقول هذا
زيد منطلقا، وأنت قد قصدت الإخبار بانطلاقه لا الإخبار بأن هذا
هو زيد.
وهذه الآية خطاب لقريظة والنضير وبني قينقاع، وذلك أن النضير
وقريظة حالفت الأوس، وبني قينقاع حالفت الخزرج، فكانوا إذا
وقعت الحرب بين بني قيلة ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع
أحلافها فقتل بعضهم بعضا وأخرج بعضهم بعضا من ديارهم، وكانوا
مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعا لحكم التوراة وهم قد
خالفوها بالقتال والإخراج، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تقتّلون»
بضم التاء الأولى وكسر الثانية وشدّها على المبالغة، والديار
مباني الإقامة، وقال الخليل: محلة القوم دارهم، وقرأ حمزة
وعاصم والكسائي «تظاهرون» بتخفيف الظاء وهذا على حذف التاء
الثانية من تتظاهرون، وقرأ بقية السبعة «تظّاهرون» بشد الظاء
على إدغام التاء في الظاء، وقرأ أبو حيوة «تظهرون» بضم التاء
وكسر الهاء، وقرأ مجاهد وقتادة «تظّهرّون» بفتح التاء وشد
الظاء والهاء مفتوحة دون ألف، ورويت هذه عن أبي
(1/174)
عمرو، ومعنى ذلك على كل قراءة تتعاونون،
وهو مأخوذ من الظهر، كأن المتظاهرين يسند كل واحد منهما ظهره
إلى صاحبه، والإثم العهد الراتبة على العبد من المعاصي،
والمعنى بمكتسبات الإثم، وَالْعُدْوانِ تجاوز الحدود والظلم،
وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد
المقبح لفعلهم في الإخراج، وقرأ حمزة «أسرى تفدوهم» ، وقرأ
نافع وعاصم والكسائي «أسارى تفادوهم» ، وقرأ أبو عمرو وابن
عامر وابن كثير «أسارى تفدوهم» ، وقرأ قوم «أسرى تفادوهم» .
وأُسارى جمع أسير، والأسير مأخوذ من الأسر وهو الشد، سمي بذلك
لأنه يؤسر أي يشد وثاقا، ثم كثر استعماله حتى لزم وإن لم يكن
ثم ربط ولا شد، وأسير فعيل بمعنى مفعول، ولا يجمع بواو ونون
وإنما يكسر على أسرى وأسارى، والأقيس فيه أسرى، لأن فعيلا
بمعنى مفعول الأصل فيه أن يجمع على فعلى، كقتلى وجرحى، والأصل
في فعلان أن يجمع على «فعالى» بفتح الفاء و «فعالى» بضمها
كسكران وكسلان وسكارى وكسالى، قال سيبويه:
فقالوا في جمع كسلان كسلى، شبّهوه بأسرى كما قالوا أُسارى
شبهوه بكسالى، ووجه الشبه أن الأسر يدخل على المرء مكرها كما
يدخل الكسل، وفعالى إنما يجيء فيما كان آفة تدخل على المرء.
وتُفادُوهُمْ معناه في اللغة تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم
شيئا، قاله أبو علي، قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفاديت
نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئا، فعلى هذا قد تجيء بمعنى
فديت أي دفعت فيه من مال نفسي، ومنه قول العباس للنبي صلى الله
عليه وسلم: أعطني فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلا، وهما فعلان
يتعديان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر، تقول: فديت زيدا
بمال وفاديته بمال، وقال قوم: هي في قراءة تفادوهم مفاعلة في
أسرى بأسرى، قال أبو علي: كل واحد من الفريقين فعل، الأسر دفع
الأسير، والمأسور منه دفع أيضا إما أسيرا وإما غيره، والمفعول
الثاني محذوف.
وقوله تعالى: وَهُوَ مُحَرَّمٌ قيل في هُوَ إنه ضمير الأمر،
تقديره والأمر محرم عليكم، وإِخْراجُهُمْ في هذا القول بدل من
هُوَ، وقيل هُوَ فاصلة، وهذا مذهب الكوفيين، وليست هنا بالتي
هي عماد، ومُحَرَّمٌ على هذا ابتداء، وإِخْراجُهُمْ خبره، وقيل
هو الضمير المقدر في مُحَرَّمٌ قدم وأظهر، وقيل هو ضمير
الإخراج تقديره وإخراجهم محرم عليكم.
وقوله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ يعني
التوراة، والذي آمنوا به فداء الأسارى، والذي كفروا به قتل
بعضهم بعضا وإخراجهم من ديارهم، وهذا توبيخ لهم، وبيان لقبح
فعلهم.
وروي أن عبد الله بن سلام مرّ على رأس الجالوت بالكوفة وهو
يفادي من النساء من لم تقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه،
فقال له ابن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن
كلهن.
ثم توعدهم عز وجل. والخزي: الفضيحة والعقوبة، يقال: خزي الرجل
يخزى خزيا إذا ذل من الفضيحة، وخزي يخزى خزاية إذا ذل واستحيا.
واختلف ما المراد بالخزي هاهنا فقيل: القصاص فيمن قتل، وقيل
ضرب الجزية عليهم غابر الدهر، وقيل قتل قريظة، وإجلاء النضير،
وقيل: الخزي الذي توعد به الأمة وهو غلبة العدو. والدنيا
مأخوذة من دنا يدنو، وأصل الياء فيها واو ولكن أبدلت فرقا بين
الأسماء والصفات. وأشد العذاب الخلود في جهنم، وقرأ الحسن وابن
هرمز «تردون» بتاء.
(1/175)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ
بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا
جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ
اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا
تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ
اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
وقوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ
الآية، قرأ نافع وابن كثير «يعملون» بياء على ذكر الغائب
فالخطاب بالآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والآية واعظة
لهم بالمعنى إذ الله تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص، وقرأ
الباقون بتاء على الخطاب المحتمل أن يكون في سرد الآية وهو
الأظهر، ويحتمل أن يكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد روي
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن بني إسرائيل قد مضوا
وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمة محمد، يريد: وبما يجري مجراه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 86 الى 88]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا
بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ
وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ
أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ
اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً
تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ
اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88)
جعل الله ترك الآخرة وأخذ الدنيا مع قدرتهم على التمسك بالآخرة
بمنزلة من أخذها ثم باعها بالدنيا.
وهذه النزعة صرفها مالك رحمه الله في فقه البيوع، إذ لا يجوز
الشراء على أن يختار المشتري في كل ما تختلف صفة آحاده، ولا
يجوز فيه التفاضل كالحجل المذبوحة وغيرها، ولا يخفف عنهم
العذاب في الآخرة، ولا ينصرون لا في الدنيا ولا في الآخرة،
والْكِتابَ التوراة، ونصبه على المفعول الثاني ل آتَيْنا،
وَقَفَّيْنا مأخوذ من القفا، تقول قفيت فلانا بفلان إذا جئت به
من قبل قفاه، ومنه قفا يقفو إذا اتبع. وهذه الآية مثل قوله
تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [المؤمنون: 144] ،
وكل رسول جاء بعد موسى عليه السلام فإنما جاء بإثبات التوراة
والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام، وقرأ الحسن ويحيى بن
يعمر «بالرسل» ساكنة السين، ووافقهما أبو عمرو إذا انضاف ذلك
إلى ضمير نحو رسلنا ورسلهم، والْبَيِّناتِ الحجج التي أعطاها
الله عيسى، وقيل هي آياته من إحياء وإبراء وخلق طير، وقيل هي
الإنجيل، والآية تعم جميع ذلك، وأَيَّدْناهُ معناه قويناه،
والأيد القوة، وقرأ ابن محيصن والأعرج وحميد «آيدناه» . وقرأ
ابن كثير ومجاهد «روح القدس» بسكون الدال. وقرأ الجمهور بضم
القاف والدال، وفيه لغة فتحهما، وقرأ أبو حيوة «بروح القدس»
بواو، وقال ابن عباس رضي الله عنه:
«روح القدس هو الاسم الذي به كان يحيي الموتى» ، وقال ابن زيد:
«هو الإنجيل كما سمى الله تعالى القرآن روحا» ، وقال السدي
والضحاك والربيع وقتادة: «روح القدس جبريل صلى الله عليه وسلم»
، وهذا أصح الأقوال. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان
بن ثابت: «اهج قريشا وروح القدس معك» ، ومرة قال له «وجبريل
معك» ، وقال الربيع ومجاهد: الْقُدُسِ اسم من أسماء الله تعالى
كالقدوس، والإضافة على هذا إضافة الملك إلى المالك، وتوجهت لما
كان جبريل عليه السلام من عباد الله تعالى، وقيل الْقُدُسِ
الطهارة، وقيل الْقُدُسِ البركة.
وكلما ظرف، والعامل فيه اسْتَكْبَرْتُمْ، وظاهر الكلام
الاستفهام، ومعناه التوبيخ والتقرير، ويتضمن أيضا الخبر عنهم،
والمراد بهذه الآية بنو إسرائيل.
(1/176)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ
كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ
وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ
فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا
اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى
مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا
أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ
الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ
أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(91)
ويروى أن بني إسرائيل كانوا يقتلون في
اليوم ثلاثمائة نبي ثم تقوم سوقهم آخر النهار، وروي سبعين نبيا
ثم تقوم سوق بقلهم آخر النهار، وفي تَهْوى ضمير من صلة ما لطول
اللفظ، والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحق، وهذه الآية من
ذلك، لأنهم إنما كانوا يهوون الشهوات، وقد يستعمل في الحق،
ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسرى بدر: «فهوى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت» ،
واسْتَكْبَرْتُمْ من الكبر، وَفَرِيقاً مفعول مقدم.
وقرأ جمهور القراء «غلف» بإسكان اللام على أنه جمع أغلف مثل
«حمر» و «صفر» ، والمعنى قلوبنا عليها غلف وغشاوات فهي لا
تفقه، قاله ابن عباس، وقال قتادة: «المعنى عليها طابع» ، وقالت
طائفة:
غلف بسكون اللام جمع غلاف، أصله غلّف بتثقيل اللام فخفف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قلما يستعمل إلا في
الشعر. وقرأ الأعمش والأعرج وابن محيصن «غلّف» بتثقيل اللام
جمع غلاف، ورويت عن أبي عمرو، فالمعنى هي أوعية للعلم والمعارف
بزعمهم، فهي لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل:
المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى الله عليه وسلم؟، فرد الله
تعالى عليهم بقوله: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ،
وبَلْ في هذه الآية نقض للأول، وإضراب عنه، ثم بين تعالى أن
السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من
كفرهم واجترامهم، وهذا هو الجزاء على الذنب فالذنب أعظم منه،
واللعن الإبعاد والطرد، وقليلا نعت لمصدر محذوف تقديره فإيمانا
قليلا ما يؤمنون، والضمير في يُؤْمِنُونَ لحاضري محمد صلى الله
عليه وسلم، ويتجه قلة هذا الإيمان: إما لأن من آمن بمحمد منهم
قليل فيقل لقلة الرجال، قال هذا المعنى قتادة، وإما لأن وقت
إيمانهم عند ما كانوا يستفتحون به قبل مبعثه قليل، إذ قد كفروا
بعد ذلك، وإما لأنهم لم يبق لهم بعد كفرهم غير التوحيد على غير
وجهه، إذ هم مجسمون فقد قللوه بجحدهم الرسل وتكذيبهم التوراة،
فإنما يقل من حيث لا ينفعهم كذلك، وعلى هذا التأويل يجيء
التقدير فإيمانا قليلا، وعلى الذي قبله فوقتا قليلا، وعلى الذي
قبله فعددا من الرجال قليلا، وما في قوله: فَقَلِيلًا ما
يُؤْمِنُونَ زائدة مؤكدة، و «قليلا» نصب ب يُؤْمِنُونَ.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 89 الى 91]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما
مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا
بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا
اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ
اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى
مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ
وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ
عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ
اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
الكتاب القرآن، ومُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ يعني التوراة، وروي
أن في مصحف أبي بن كعب «مصدقا» بالنصب.
(1/177)
ويَسْتَفْتِحُونَ معناه أن بني إسرائيل
كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قد علموا خروجه بما
عندهم من صفته وذكر وقته، وظنوا أنه منهم، فكانوا إذا حاربوا
الأوس والخزرج فغلبتهم العرب قالوا لهم:
لو قد خرج النبي الذي قد أظل وقته لقاتلناكم معه واستنصرنا
عليكم به ويَسْتَفْتِحُونَ معناه يستنصرون، وفي الحديث: «كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين» ،
وروي أن قريظة والنضير وجميع يهود الحجاز في ذلك الوقت كانوا
يستفتحون على سائر العرب، وبسبب خروج النبي المنتظر كانت
نقلتهم إلى الحجاز وسكناهم به، فإنهم كانوا علموا صقع المبعث،
وما عرفوا أنه محمد عليه السلام وشرعه، ويظهر من هذه الآيات
العناد منهم، وأن كفرهم كان مع معرفة ومعاندة، «ولعنة الله» :
معناه إبعاده لهم وخزيهم لذلك.
واختلفت النحاة في جواب لَمَّا ولَمَّا الثانية في هذه الآية.
فقال أبو العباس المبرد: جوابهما في قوله: كَفَرُوا، وأعيدت
لما الثانية لطول الكلام، ويفيد ذلك تقريرا للذنب، وتأكيدا له،
وقال الزجاج:
لَمَّا الأولى لا جواب لها للاستغناء عن ذلك بدلالة الظاهر من
الكلام عليه؟
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فكأنه محذوف، وقال
الفراء: جواب لَمَّا الأولى في الفاء وما بعدها، وجواب لما
الثانية كَفَرُوا.
«وبيس» أصله «بئس» سهلت الهمزة ونقلت إلى الباء حركتها، ويقال
في «بئس» «بيس» اتباعا للكسرة، وهي مستوفية للذم كما نعم
مستوفية للمدح، واختلف النحويون في بِئْسَمَا في هذا الموضع،
فمذهب سيبوية أن «ما» فاعلة ببئس، ودخلت عليها بيس كما تدخل
على أسماء الأجناس والنكرات لما أشبهتها «ما» في الإبهام،
فالتقدير على هذا القول: بيس الذي اشْتَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا، كقولك:
بيس الرجل زيد، و «ما» في هذا القول موصولة، وقال الأخفش: «ما»
في موضع نصب على التمييز كقولك «بيس رجلا زيد» ، فالتقدير «بيس
شيئا أن يكفروا» ، واشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ في هذا القول
صفة «ما» ، وقال الفراء «بئسما بجملته شيء واحد ركب كحبذا» ،
وفي هذا القول اعتراض لأنه فعل يبقى بلا فاعل، و «ما» إنما تكف
أبدا حروفا، وقال الكسائي: «ما» ، واشْتَرَوْا بمنزلة اسم واحد
قائم بنفسه، فالتقدير بيس اشتراؤهم أنفسهم أن يكفروا، وهذا
أيضا معترض لأن «بيس» لا تدخل على اسم معين متعرف بالإضافة إلى
الضمير، وقال الكسائي أيضا: إن «ما» في موضع نصب على التفسير
وثم «ما» أخرى مضمرة، فالتقدير بيس شيئا ما اشتروا به أنفسهم،
وأَنْ يَكْفُرُوا في هذا القول بدل من «ما» المضمرة، ويصح في
بعض الأقوال المتقدمة أن يكون أَنْ يَكْفُرُوا في موضع خفض
بدلا من الضمير في بِهِ، وأما في القولين الأولين ف أَنْ
يَكْفُرُوا ابتداء وخبره فيما قبله، واشْتَرَوْا بمعنى باعوا،
يقال: شرى واشترى بمعنى باع، وبمعنى ابتاع، وبِما أَنْزَلَ
اللَّهُ يعني به القرآن، ويحتمل أن يراد به التوراة لأنهم إذ
كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام فقد كفروا بالتوراة، ويحتمل
أن يراد به الجميع من توراة وإنجيل وقرآن، لأن الكفر بالبعض
يلزم الكفر بالكل، وبَغْياً مفعول من أجله، وقيل نصب على
المصدر، وأَنْ يُنَزِّلَ نصب على المفعول من أجله أو في موضع
خفض بتقدير بأن ينزل.
(1/178)
وقرأ أبو عمرو وابن كثير «أن ينزل»
بالتخفيف في النون والزاي، ومِنْ فَضْلِهِ يعني من النبوة
والرسالة. ومَنْ يَشاءُ يعني به محمدا صلى الله عليه وسلم
لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم وكان من العرب.
ويدخل في المعنى عيسى عليه السلام لأنهم قد كفروا به بغيا،
والله قد تفضل عليه، و «باؤوا» معناه: مضوا متحملين لما يذكر
أنهم باؤوا به، وبِغَضَبٍ معناه من الله تعالى لكفرهم بمحمد
صلى الله عليه وسلم على غضب متقدم من الله تعالى عليهم، قيل
لعبادتهم العجل، وقيل لقولهم عزير ابن الله، وقيل لكفرهم بعيسى
عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالمعنى على غضب قد باء به
أسلافهم حظ هؤلاء منه وافر بسبب رضاهم بتلك الأفعال وتصويبهم
لها.
وقال قوم: المراد بقوله بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ التأكيد وتشديد
الحال عليهم لا أنه أراد غضبين معللين بقصتين، ومُهِينٌ مأخوذ
من الهوان وهو ما اقتضى الخلود في النار لأن من لا يخلد من
عصاة المسلمين إنما عذابه كعذاب الذي يقام عليه الحد لا هوان
فيه بل هو تطهير له.
وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني: اليهود أنهم إذا قيل
لهم: آمنوا بالقرآن الذي أنزل الله على محمد صلى الله عليه
وسلم قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعنون التوراة
وما وراءه. قال قتادة: أي ما بعده، وقال الفراء: أي ما سواه
ويعني به القرآن، وإذا تكلم رجل أو فعل فعلا فأجاد يقال له ما
وراء ما أتيت به شيء، أي ليس يأتي بعده. ووصف الله تعالى
القرآن بأنه الحق، ومُصَدِّقاً حال مؤكدة عند سيبويه، وهي غير
منتقلة، وقد تقدم معناها في الكلام ولم يبق لها هي إلا معنى
التأكيد، وأنشد سيبويه على الحال المؤكدة. [البسيط] :
أنا ابن دارة معروفا بها حسبي ... وهل لدارة يا للنّاس من عار
ولِما مَعَهُمْ يريد به التوراة.
وقوله تعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ الآية رد من الله تعالى
عليهم في أنهم آمنوا بما أنزل عليهم، وتكذيب منه لهم في ذلك،
واحتجاج عليهم. ولا يجوز الوقف على فَلِمَ لنقصان الحرف الواحد
إلا أن البزي وقف عليه بالهاء، وسائر القراء بسكون الميم.
وخاطب الله من حضر محمدا صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل
بأنهم قتلوا الأنبياء لما كان ذلك من فعل أسلافهم. وجاء
تَقْتُلُونَ بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الإشكال
بقوله مِنْ قَبْلُ وإذا لم يشكل فجائز سوق الماضي بمعنى
المستقبل وسوق المستقبل بمعنى الماضي. قال الحطيئة [الكامل أخذ
مضمر] .
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
وفائدة سوق الماضي في موضع المستقبل، الإشارة إلى أنه في
الثبوت كالماضي الذي قد وقع.
وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام بأن الأمر مستمر.
ألا ترى أن حاضري محمد صلى الله عليه وسلم لما كانوا راضين
بفعل أسلافهم بقي لهم من قتل الأنبياء جزء، وإِنْ كُنْتُمْ شرط
والجواب متقدم، وقالت فرقة: إِنْ نافية بمعنى ما.
(1/179)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ
مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ
الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ
النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 92 الى 95]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ
أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا
ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا
وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ
الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ
النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
البينات التوراة والعصا وفرق البحر وغير ذلك من آيات موسى عليه
السلام وقوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ تدل ثم على أنهم فعلوا
ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات، وذلك أعظم في دينهم «1» ،
وقد تقدمت قصة اتخاذهم العجل، والضمير في قوله مِنْ بَعْدِهِ
عائد على موسى عليه السلام، أي من بعده حين غاب عنكم في
المناجاة، ويحتمل أن يعود الضمير في بَعْدِهِ على المجيء. وهذه
الآية رد عليهم في أن من آمن بما نزل عليه لا يتخذ العجل، وقد
تقدم ذكر أخذ الميثاق ورفع الطور.
وقوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ يعني التوراة
والشرع، وبِقُوَّةٍ أي بعزم ونشاط وجد.
وَاسْمَعُوا معناه هنا: وأطيعوا، وليس معناه الأمر بإدراك
القول فقط.
وقالت طائفة من المفسرين: إنهم قالوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا.
ونطقوا بهذه الألفاظ مبالغة في التعنت والمعصية. وقالت طائفة:
ذلك مجاز ولم ينطقوا ب سَمِعْنا وَعَصَيْنا، ولكن فعلهم
اقتضاه، كما قال الشاعر [الرجز] :
امتلأ الحوض وقال قطني وهذا أيضا احتجاج عليهم في كذب قولهم
نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [البقرة: 91] ، وقوله تعالى:
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ التقدير
حب العجل، والمعنى جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه ومجاز، عبارة
عن تمكن أمر العجل في قلوبهم، وقال قوم: إن معنى قوله
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ شربهم الماء الذي ألقى
فيه موسى برادة العجل، وذلك أنه برده بالمبرد ورماه في الماء،
وقيل لبني إسرائيل:
اشربوا من ذلك الماء فشرب جميعهم، فمن كان يحب العجل خرجت
برادة الذهب على شفتيه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول يرده قوله تعالى: فِي
قُلُوبِهِمُ، وروي أن الذين تبين فيهم حب العجل أصابهم من ذلك
الماء الجبن، وقوله تعالى بِكُفْرِهِمْ يحتمل أن تكون باء
السبب، ويحتمل أن تكون بمعنى مع، وقوله تعالى: قُلْ بِئْسَما
الآية أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم بأنه بئس هذه
الأشياء التي فعلتم وأمركم بها إيمانكم الذي زعمتم في قولكم
نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [البقرة: 91] ،
__________
(1) في نسخة: وذلك أعظم لذنبهم في دينهم.
(1/180)
و «ما» في موضع رفع والتقدير: بئس الشيء
قتل واتخاذ عجل وقول سَمِعْنا وَعَصَيْنا، ويجوز أن تكون «ما»
في موضع نصب، وإِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط. وقد يأتي الشرط
والشارط يعلم أن الأمر على أحد الجهتين، كما قال الله تعالى عن
عيسى عليه السلام: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ
[المائدة: 116] ، وقد علم عيسى عليه السلام أنه لم يقله، وكذلك
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، والقائل يعلم أنهم غير مؤمنين،
لكنه إقامة حجة بقياس بيّن، وقال قوم إِنْ هنا نافية بمنزلة
«ما» كالتي تقدمت، وقرأ الحسن ومسلم بن جندب: «يأمركم بهو
إيمانكم» برفع الهاء.
وقوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ
الآية أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم، والمعنى:
إن كان لكم نعيمها وحظوتها وخيرها فذلك يقتضي حرصكم على الوصول
إليها فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، والدَّارُ اسم كانَتْ،
وخالِصَةً خبرها، ويجوز أن يكون نصب خالِصَةً على الحال،
وعِنْدَ اللَّهِ خبر كان، ومِنْ دُونِ النَّاسِ: يحتمل أن يراد
ب النَّاسِ محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبعه، ويحتمل أن يراد
العموم التام وهو قول اليهود فيما حفظ عنهم، وقرأ ابن أبي
إسحاق بكسر الواو من «تمنوا» للالتقاء، وحكى الأهوازي عن أبي
عمرو أنه قرأ «تمنوا الموت» بفتح الواو، وحكي عن غيره اختلاس
الحركة في الرفع، وقراءة الجماعة بضم الواو. وهذه آية بينة
أعطاها الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم لأن اليهود قالت:
نحن أبناء الله وأحباؤه، وشبه ذلك من القول، فأمر الله نبيه أن
يدعوهم إلى تمني الموت، وأن يعلمهم أنه من تمناه منهم مات،
ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فعلم اليهود صدقه، فأحجموا
عن تمنيه، فرقا من الله لقبح أعمالهم ومعرفتهم بكذبهم في
قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وحرصا منهم على الحياة.
وقيل إن الله تعالى منعهم من التمني وقصرهم على الإمساك عنه،
لتظهر الآية لنبيه صلى الله عليه وسلم. والمراد بقوله «تمنوا»
أريدوه بقلوبكم واسألوه، هذا قول جماعة من المفسرين، وقال ابن
عباس:
المراد فيه السؤال فقط وإن لم يكن بالقلب، وقال أيضا هو وغيره:
إنما أمروا بالدعاء بالموت على أردأ الحزبين من المؤمنين أو
منهم، وذكر المهدوي وغيره أن هذه الآية كانت مدة حياة النبي
صلى الله عليه وسلم وارتفعت بموته. والصحيح أن هذه النازلة من
موت من تمنى الموت إنما كانت أياما كثيرة عند نزول الآية، وهي
بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة، وقالت فرقة:
إن سبب هذا الدعاء إلى تمني الموت أن النبي صلى الله عليه وسلم
أراد به هلاك الفريق المكذب أو قطع حجتهم، لا أن علته قولهم
نحن أبناء الله.
ثم أخبر تعالى عنهم بعجزهم وأنهم لا يتمنونه، وأَبَداً ظرف
زمان وإذا كانت «ما» بمعنى الذي فتحتاج إلى عائد تقديره قدمته،
وإذا كانت مع قدمت بمثابة المصدر غنيت عن الضمير، هذا قول
سيبويه، والأخفش يرى الضمير في المصدرية، وأضاف ذنوبهم
واجترامهم إلى الأيدي وأسند تقديمها إليها إذ الأكثر من كسب
العبد الخير والشر إنما هو بيديه، فحمل جميع الأشياء على ذلك.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ظاهرها الخبر
ومضمنها الوعيد، لأن الله عليم بالظالمين وغيرهم، ففائدة
تخصيصهم حصول الوعيد.
(1/181)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ
اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ
اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا
الْفَاسِقُونَ (99)
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 96 الى 99]
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ
أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ
يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ
كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ
بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً
وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ
اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ
الْفاسِقُونَ (99)
«وجد» في هذا المعنى تتعدى إلى مفعولين لأنها من أفعال النفس،
ولذلك صح تعديها إلى ضمير المتكلم في قول الشاعر:
تلفّت نحو الحيّ حتّى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الضب: «إنه لم يكن بأرض قومي
فأجدني أعافه» ، وحرصهم على الحياة لمعرفتهم بذنوبهم وأن لا
خير لهم عند الله تعالى.
وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قيل المعنى وأحرص من
الذين أشركوا، لأن مشركي العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة
الدنيا، ألا ترى إلى قول امرئ القيس [الطويل] :
تمتّع من الدنيا فإنك فان
والضمير في أَحَدُهُمْ يعود في هذا القول على اليهود، وقيل إن
الكلام تم في قوله حَياةٍ، ثم استؤنف الإخبار عن طائفة من
المشركين أنهم يَوَدُّ أَحَدُهُمْ وهي المجوس، لأن تشميتهم
للعاطس لفظ بلغتهم معناه «عش ألف سنة» فكأن الكلام: ومن
المشركين قوم يَوَدُّ أَحَدُهُمْ، وفي هذا القول تشبيه بني
إسرائيل بهذه الفرقة من المشركين، وقصد «الألف» بالذكر لأنها
نهاية العقد في الحساب.
وقوله تعالى: وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ: اختلف النحاة في هُوَ،
فقيل هو ضمير الأحد المتقدم الذكر، فالتقدير وما أحدهم بمزحزحه
وخبر الابتداء في المجرور، وأَنْ يُعَمَّرَ فاعل بمزحزح، وقالت
فرقة هو ضمير التعمير، والتقدير وما التعمير بمزحزحه والخبر في
المجرور، وأَنْ يُعَمَّرَ بدل من التعمير في هذا القول، وقالت
فرقة هُوَ ضمير الأمر والشأن، وقد رد هذا القول بما حفظ عن
النحاة من أن الأمر والشأن إنما يفسر بجملة سالمة من حرف جر،
وقد جوز أبو علي ذلك في بعض مسائله الحلبيات، وحكى الطبري عن
فرقة أنها قالت هو عماد، وقيل ما عاملة حجازية وهُوَ اسمها
والخبر في بِمُزَحْزِحِهِ، والزحزحة الإبعاد والتنحية.
وفي قوله وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ وعيد، والجمهور
على قراءة «يعملون» بالياء من أسفل، وقرأ قتادة والأعرج ويعقوب
«تعملون» بالتاء من فوق، وهذا على الرجوع إلى خطاب المتوعدين
من بني إسرائيل.
(1/182)
وقوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ الآية. نزل على سبب لم يتقدم له ذكر فيما مضى من
الآيات، ولكن أجمع أهل التفسير أن اليهود قالت: جبريل عدونا،
واختلف في كيفية ذلك، فقيل إن يهود فدك قالوا للنبي صلى الله
عليه وسلم: نسألك عن أربعة أشياء فإن عرفتها اتبعناك، فسألوه
عما حرم إسرائيل على نفسه، فقال: لحوم الإبل وألبانها، وسألوه
عن الشبه في الولد، فقال: أي ماء علا كان الشبه له، وسألوه عن
نومه، فقال: تنام عيني ولا ينام قلبي، وسألوه عمن يجيئه من
الملائكة، فقال: جبريل، فلما ذكره قالوا ذاك عدونا، لأنه ملك
الحرب والشدائد والجدب، ولو كان الذي يجيئك ميكائيل ملك الرحمة
والخصب والأمطار لاتبعناك، وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
كان يتكرر على بيت المدارس فاستحلفهم يوما بالذي أنزل التوراة
على موسى بطور سيناء أتعلمون أن محمدا نبي؟ قالوا نعم، قال:
فلم تهلكون في تكذيبه، قالوا: صاحبه جبريل وهو عدونا، وذكر
أنهم قالوا سبب عداوتهم له أنه حمى بختنصر حين بعثوا إليه قبل
أن يملك من يقتله، فنزلت هذه الآية لقولهم.
وفي جبريل لغات: «جبريل» بكسر الجيم والراء من غير همز، وبها
قرأ نافع، و «جبريل» بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وبها
قرأ ابن كثير، وروي عنه أنه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه
وسلم في النوم وهو يقرأ جبريل وميكال فلا أزال أقرؤهما أبدا
كذلك» ، وجبريل بفتح الجيم والراء وهمزة بين الراء واللام وبها
قرأ عاصم، و «جبرءيل» بفتح الجيم والراء وهمزة بعد الراء وياء
بين الهمزة واللام، وبها قرأ حمزة والكسائي وحكاها الكسائي عن
عاصم، «وجبرائل» بألف بعد الراء ثم همزة وبها قرأ عكرمة، و
«جبرائيل» بزيادة ياء بعد الهمزة، و «جبراييل» بياءين وبها قرأ
الأعمش، و «جبرئل» بفتح الجيم والراء وهمزة ولام مشددة، وبها
قرأ يحيى بن يعمر، و «جبرال» لغة فيه، و «جبرين» بكسر الجيم
والراء وياء ونون، قال الطبري: «هي لغة بني أسد» ولم يقرأ بها،
و «جبريل» اسم أعجمي عربته العرب فلها فيه هذه اللغات، فبعضها
هي موجودة في أبنية العرب، وتلك أدخل في التعريب كجبريل الذي
هو كقنديل، وبعضها خارجة عن أبنية العرب فذلك كمثل ما عربته
العرب ولم تدخله في بناء كإبريسم وفرند وآجر ونحوه.
وذكر ابن عباس رضي الله عنه وغيره أن «جبر» و «ميك» و «سراف»
هي كلها بالأعجمية بمعنى عبد ومملوك، وإيل اسم الله تعالى،
ويقال فيه إلّ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع
سجع مسيلمة: هذا كلام لم يخرج من إلّ.
وقوله تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ الضمير في
فَإِنَّهُ عائد على الله عز وجل، والضمير في نَزَّلَهُ عائد
على جبريل صلى الله عليه وسلم، والمعنى بالقرآن وسائر الوحي،
وقيل: الضمير في «إنه» عائد على جبريل وفي نَزَّلَهُ على
القرآن، وخص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وتلقي
المعارف، وجاءت المخاطبة بالكاف في قَلْبِكَ اتساعا في العبارة
إذ ليس ثم من يخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكاف،
وإنما يجيء قوله: فإنه نزله على قلبي، لكن حسن هذا إذ يحسن في
كلام العرب أن تحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول ويحسن أن
تقصد المعنى الذي يقوله فتسرده مخاطبة له، كما تقول لرجل:
قل لقومك لا يهينوك، فكذلك هي الآية، ونحو من هذا قول الفرزدق
[الطويل]
ألم تر أنّي يوم جو سويقة ... بكيت فنادتني هنيدة ما ليا
(1/183)
أَوَكُلَّمَا
عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ
فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ
وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ
سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ
كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ
عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا
يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ
فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا
يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ
بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ
عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ
خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
فأحرز المعنى ونكب عن نداء هنيدة «مالك» ،
وبِإِذْنِ اللَّهِ معناه: بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة،
ومُصَدِّقاً حال من ضمير القرآن في نَزَّلَهُ و «ما بين يديه»
: ما تقدمه من كتب الله تعالى، هُدىً إرشاد، والبشرى: أكثر
استعمالها في الخير، ولا تجيء في الشر إلا مقيدة به، ومقصد هذه
الآية:
تشريف جبريل صلى الله عليه وسلم وذم معاديه.
وقوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ الآية وعيد وذم
لمعادي جبريل عليه السلام، وإعلام أن عداوة البعض تقتضي عداوة
الله لهم، وعداوة العبد لله هي معصيته واجتناب طاعته ومعاداة
أوليائه، وعداوة الله للعبد تعذيبه وإظهار أثر العداوة عليه،
وذكر جبريل وميكائيل وقد كان ذكر الملائكة عمهما تشريفا لهما،
وقيل خصا لأن اليهود ذكروهما ونزلت الآية بسببهما، فذكرهما
واجب لئلا تقول اليهود إنا لم نعاد الله وجميع ملائكته، وقرأ
نافع «ميكائل» بهمزة دون ياء، وقرأ بها ابن كثير في بعض ما روي
عنه، وقرأ ابن عامر وابن كثير أيضا وحمزة والكسائي، «ميكائيل»
بياء بعد الهمزة، وقرأ أبو عمرو وعاصم «ميكال» ، ورويت عن ابن
كثير منذ رآها في النوم كما ذكرنا، وقرأ ابن محيصن «ميكئل»
بهمزة دون ألف، وقرأ الأعمش «ميكاييل» بياءين، وظهر الاسم في
قوله: فَإِنَّ اللَّهَ لئلا يشكل عود الضمير، وجاءت العبارة
بعموم الكافرين لأن عود الضمير على من يشكل سواء أفردته أو
جمعته، ولو لم نبال بالاشكال وقلنا المعنى يدل السامع على
المقصد للزم تعيين قوم بعداوة الله لهم، ويحتمل أن الله تعالى
قد علم أن بعضهم يؤمن فلا ينبغي أن تطلق عليه عداوة الله
للمآل.
وروي أن رجلا من اليهود لقي عمر بن الخطاب فقال له: أرأيت
جبريل الذي يزعم صاحبك أنه يجيئه ذلك عدونا، فقال له عمر رضي
الله عنه: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ إلى آخر الآية، فنزلت
على لسان عمر رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا الخبر يضعف من جهة معناه.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ،
ذكر الطبري أن ابن صوريا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا
محمد ما جئت بآية بينة؟ فنزلت هذه الآية. والْفاسِقُونَ هنا
الخارجون عن الإيمان، فهو فسق الكفر، والتقدير: ما يَكْفُرُ
بِها أحد إِلَّا الْفاسِقُونَ، لأن الإيجاب لا يأتي إلا بعد
تمام جملة النفي.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 100 الى 102]
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ
ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما
تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ
سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ
حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ
إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا
يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)
قال سيبويه: الواو واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام، وقال
الأخفش: هي زائدة، وقال
(1/184)
الكسائي: هي «أو» وفتحت تسهيلا، وقرأها قوم
«أو» ساكنة الواو فتجيء بمعنى بل، وكما يقول القائل:
لأضربنك فيقول المجيب: أو يكفي الله.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا كله متكلف،
واو في هذا المثل متمكنة في التقسيم، والصحيح قول سيبويه وقرىء
«عهدوا عهدا» وقرأ الحسن وأبو رجاء «عوهدوا» وعَهْداً مصدر،
وقيل: مفعول بمعنى أعطوا عهدا، والنبذ: الطرح والإلقاء، ومنه
النبيذ والمنبوذ، والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه، ويقع
على اليسير والكثير من الجمع، ولذلك فسرت كثرة النابذين بقوله:
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لما احتمل الفريق أن يكون الأقل، ولا
يُؤْمِنُونَ في هذا التأويل حال من الضمير في أَكْثَرُهُمْ،
ويحتمل الضمير العود على الفريق، ويحتمل العود على جميع بني
إسرائيل وهو أذم لهم، والعهد الذي نبذوه هو ما أخذ عليهم في
التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف ابن مسعود
«نقضه فريق» .
وقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ،
يعني به محمد صلى الله عليه وسلم، وما مَعَهُمْ هو التوراة،
ومُصَدِّقٌ نعت ل رَسُولٌ، وقرأ ابن أبي عبلة «مصدقا» بالنصب،
ولَمَّا يجب بها الشيء لوجوب غيره، وهي ظرف زمان، وجوابها
نَبَذَ الذي يجيء، والْكِتابَ الذي أوتوه: التوراة، وكِتابَ
اللَّهِ مفعول ب نَبَذَ، والمراد القرآن، لأن التكذيب به نبذ،
وقيل المراد التوراة، لأن مخالفتها والكفر بما أخذ عليهم فيها
نبذ، ووَراءَ ظُهُورِهِمْ مثل لأن ما يجعل ظهريا فقد زال النظر
إليه جملة، والعرب تقول جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه،
وقال الفرزدق:
تميم بن مرّ لا تكوننّ حاجتي ... بظهر فلا يعيى عليّ جوابها
وكَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ تشبيه بمن لا يعلم، إذ فعلوا فعل
الجاهل، فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم.
وقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ الآية،
يعني اليهود، قال ابن زيد والسدي: المراد من كان في عهد
سليمان، وقال ابن عباس: المراد من كان في عهد النبي صلى الله
عليه وسلم، وقيل الجميع، وتَتْلُوا قال عطاء: معناه تقرأ من
التلاوة، وقال ابن عباس: تَتْلُوا تتبع، كما تقول: جاء القوم
يتلو بعضهم بعضا، وتتلو بمعنى تلت، فالمستقبل وضع موضع الماضي،
وقال الكوفيون: المعنى ما كانت تتلو، وقرأ الحسن والضحاك:
«الشياطون» بالواو.
وقوله: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أي على عهد ملك سليمان، وقيل
المعنى في ملك سليمان بمعنى في قصصه وصفاته وأخباره، وقال
الطبري: اتَّبَعُوا بمعنى فضلوا، وعَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أي
على شرعه ونبوته وحاله، والذي تلته الشياطين: قيل إنهم كانوا
يلقون إلى الكهنة الكلمة من الحق معها المائة من الباطل حتى
صار ذلك علمهم، فجمعه سليمان ودفنه تحت كرسيه، فلما مات قالت
الشياطين: إن ذلك كان علم سليمان، وقيل: بل كان الذي تلته
الشياطين سحرا وتعليما فجمعه سليمان عليه السلام كما تقدم،
وقيل إن سليمان، عليه السلام كان يملي على كاتبه آصف بن برخيا
علمه ويختزنه، فلما مات أخرجته الجن وكتبت بين كل سطرين سطرا
من سحر ثم نسبت ذلك إلى سليمان، وقيل إن آصف تواطأ مع الشياطين
على أن
(1/185)
يكتبوا سحرا وينسبوه إلى سليمان بعد موته،
وقيل إن الجن كتبت ذلك بعد موت سليمان واختلقته ونسبته إليه،
وقيل إن الجن والإنس حين زال ملك سليمان عنه اتخذ بعضهم السحر
والكهانة علما، فلما رجع سليمان إلى ملكه تتبع كتبهم في الآفاق
ودفنها، فلما مات قال شيطان لبني إسرائيل: هل أدلكم على كنز
سليمان الذي به سخرت له الجن والريح، هو هذا السحر، فاستخرجته
بنو إسرائيل وانبث فيهم، ونسبوا سليمان إلى السحر وكفروا في
ذلك حتى برأه الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وروي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر سليمان في الأنبياء قال
بعض اليهود: انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان
إلا ساحرا.
وقوله تعالى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ تبرئة من الله تعالى
لسليمان، ولم يتقدم في الآيات أن أحدا نسبه إلى الكفر، ولكنها
آية نزلت في السبت المتقدم أن اليهود نسبته إلى السحر، والسحر
والعمل به كفر، ويقتل الساحر عند مالك رضي الله عنه كفرا، ولا
يستتاب كالزنديق، وقال الشافعي: يسأل عن سحره فإن كان كفرا
استتيب منه فإن تاب وإلا قتل، وقال مالك: فيمن يعقد الرجال عن
النساء يعاقب ولا يقتل، واختلف في ساحر أهل الذمة فقيل: يقتل،
وقال مالك: لا يقتل إلا إن قتل بسحره ويضمن ما جنى، ويقتل إن
جاء منه بما لم يعاهد عليه، وقرأ نافع وعاصم وابن كثير وأبو
عمرو بتشديد النون من «لكنّ» ونصب الشياطين، وقرأ حمزة
والكسائي وابن عامر بتخفيف النون ورفع «الشياطين» ، قال بعض
الكوفيين: التشديد أحب إليّ إذا دخلت عليها الواو لأن المخففة
بمنزلة بل، وبل لا تدخل عليها الواو، وقال أبو علي: ليس دخول
الواو عليها معنى يوجب التشديد، وهي مثقلة ومخففة بمعنى واحد
إلا أنها لا تعمل إذا خففت، وكفر الشياطين إما بتعليمهم السحر،
وإما بعلمهم به، وإما بتكفيرهم سليمان به، وكل ذلك كان، والناس
المعلمون أتباع الشياطين من بني إسرائيل، والسِّحْرَ مفعول ثان
ب يُعَلِّمُونَ، وموضع يُعَلِّمُونَ نصب على الحال، أو رفع على
خبر ثان.
وقوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ
هارُوتَ وَمارُوتَ: ما عطف على السِّحْرَ فهي مفعولة، وهذا على
القول بأن الله تعالى أنزل السحر على الملكين فتنة للناس ليكفر
من اتبعه ويؤمن من تركه، أو على قول مجاهد وغيره: إن الله
تعالى أنزل على الملكين الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه
دون السحر، أو على القول إنه تعالى أنزل السحر عليهما ليعلم
على جهة التحذير منه والنهي عنه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والتعليم على هذا القول إنما
هو تعريف يسير بمبادئه، وقيل إن ما عطف على ما في قوله: ما
تَتْلُوا، وقيل: ما نافية، رد على قوله: وَما كَفَرَ
سُلَيْمانُ، وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكائل
بالسحر فنفى الله ذلك، وقرأ ابن عباس والحسن والضحاك وابن أبزى
«الملكين» بكسر اللام، وقال ابن أبزى: هما داود وسليمان، وعلى
هذا القول أيضا ف ما نافية، وقال الحسن: هما علجان كانا ببابل
ملكين، ف ما على هذا القول غير نافية، وقرأها كذلك أبو الأسود
الدؤلي، وقال: هما هارُوتَ وَمارُوتَ، فهذا كقول الحسن.
و «بابل» لا ينصرف للتأنيث والتعريف، وهي قطر من الأرض، واختلف
أين هي؟ فقال قوم: هي
(1/186)
بالعراق وما والاه، وقال ابن مسعود لأهل
الكوفة: أنتم بين الحيرة وبابل، وقال قتادة: هي من نصيبين إلى
رأس العين، وقال قوم: هي بالمغرب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف، وقال قوم: هي جبل
دماوند، وهارُوتَ وَمارُوتَ بدل من الْمَلَكَيْنِ على قول من
قال: هما ملكان، ومن قرأ «ملكين» بكسر اللام وجعلهما داود
وسليمان أو جعل الملكين جبريل وميكائل، جعل هارُوتَ وَمارُوتَ
بدلا من الشَّياطِينُ في قوله وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا،
وقال هما شيطانان، ويجيء يُعَلِّمُونَ: إما على أن الاثنين
جمع، وإما على تقدير أتباع لهذين الشيطانين اللذين هما الرأس،
ومن قال كانا علجين قال: هارُوتَ وَمارُوتَ بدل من قوله
الْمَلَكَيْنِ، وقيل هما بدل من النَّاسَ في قوله يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ، وقرأ الزهري هارُوتَ وَمارُوتَ بالرفع، ووجهه البدل
من الشَّياطِينُ في قوله تَتْلُوا الشَّياطِينُ أو من
الشَّياطِينُ الثاني على قراءة من خفف «لكن» ورفع، أو على خبر
ابتداء مضمر تقديره هما هارُوتَ وَمارُوتَ.
وروى من قال إنهما ملكان أن الملائكة مقتت حكام بني إسرائيل
وزعمت أنها لو كانت بمثابتهم من البعد عن الله لأطاعت حق
الطاعة، فقال الله لهم: اختاروا ملكين يحكمان بين الناس،
فاختاروا هاروت وماروت، فكانا يحكمان، فاختصمت إليهما امرأة
ففتنا بها فراوداها، فأبت حتى يشربا الخمر ويقتلا، ففعلا،
وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها إياه،
فتكلمت به فعرجت، فمسخت كوكبا فهي الزهرة، وكان ابن عمر
يلعنها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله ضعيف وبعيد على ابن
عمر رضي الله عنهما، وروي أن الزهرة نزلت إليهما في صورة امرأة
من فارس فجرى لهما ما ذكر، فأطلع الله عز وجل الملائكة على ما
كان من هاروت وماروت، فتعجبوا، وبقيا في الأرض لأنهما خيّرا
بين عذاب الآخرة وعذاب الدنيا فاختارا عذاب الدنيا، فهما في
سرب من الأرض معلقين يصفقان بأجنحتهما، وروت طائفة أنهما
يعلمان السحر في موضعهما ذلك، وأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا
حتى يقولا له: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا القصص يزيد في بعض
الروايات وينقص في بعض، ولا يقطع منه بشيء، فلذلك اختصرته.
ذكر ابن الأعرابي في الياقوتة أن يُعَلِّمانِ بمعنى يعلمان
ويشعران كما قال كعب بن زهير [الطويل] .
تعلّم رسول الله أنّك مدركي ... وأنّ وعيدا منك كالأخذ باليد
وحمل هذه الآية على أن الملكين إنما نزلا يعلمان الناس بالسحر
وينهيان عنه، وقال الجمهور: بل التعليم على عرفه، و «لا تكفر»
قالت فرقة: بتعلم السحر، وقالت فرقة: باستعماله، وحكى المهدوي
أن قولهما: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ استهزاء،
لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله، ومِنْ في قوله مِنْ
أَحَدٍ زائدة بعد النفي.
(1/187)
وقوله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ: قال
سيبويه: التقدير فهم يتعلمون، وقيل هو معطوف على قوله
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ، ومنعه الزجاج، وقيل: هو معطوف على موضع
وَما يُعَلِّمانِ لأن قوله وَما يُعَلِّمانِ وإن دخلت عليه ما
النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم، وقيل التقدير فيأتون
فيتعلمون، واختاره الزجاج، والضمير في يُعَلِّمانِ هو لهاروت
وماروت الملكين أو الملكين العلجين على ما تقدم، والضمير في
مِنْهُما قيل:
هو عائد عليهما، وقيل: على السِّحْرَ وعلى الذي أنزل على
الملكين، ويُفَرِّقُونَ معناه فرقة العصمة، وقيل معناه:
يؤخّذون الرجل عن المرأة حتى لا يقدر على وطئها فهي أيضا فرقة.
وقرأ الحسن والزهري وقتادة «المرء» براء مكسورة خفيفة، وروي عن
الزهري تشديد الراء، وقرأ ابن أبي إسحاق «المرء» بضم الميم
وهمزة وهي لغة هذيل، وقرأ الأشهب العقيلي «المرء» بكسر الميم
وهمزة، ورويت عن الحسن، وقرأ جمهور الناس «المرء» بفتح الميم
وهمزة، والزوج هنا امرأة الرجل، وكل واحد منهما زوج الآخر،
ويقال للمرأة زوجة قال الفرزدق. [الطويل]
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وقرأ الجمهور «بضارين به» ، وقرأ الأعمش «بضاري به من أحد»
فقيل: حذفت النون تخفيفا، وقيل: حذفت للإضافة إلى أَحَدٍ وحيل
بين المضاف والمضاف إليه بالمجرور، وبِإِذْنِ اللَّهِ معناه
بعلمه وتمكينه، ويَضُرُّهُمْ معناه في الآخرة وَلا
يَنْفَعُهُمْ فيها أيضا، وإن نفع في الدنيا بالمكاسب فالمراعى
إنما هو أمر الآخرة، والضمير في عَلِمُوا عائد على بني إسرائيل
حسب الضمائر المتقدمة، وقيل: على الشَّياطِينُ، وقيل على
الْمَلَكَيْنِ وهما جمع، وقال اشْتَراهُ لأنهم كانوا يعطون
الأجرة على أن يعلموا، والخلاق النصيب والحظ، وهو هنا بمعنى
الجاه والقدر، واللام في قوله لَمَنِ المتقدمة للقسم المؤذنة
بأن الكلام قسم لا شرط، وتقدم القول في «بئسما» ، وشَرَوْا
معناه باعوا، وقد تقدم مثله، والضمير في يُعَلِّمُونَ عائد على
بني إسرائيل باتفاق، ومن قال إن الضمير في عَلِمُوا عائد عليهم
خرج هذا الثاني على المجاز، أي لما عملوا عمل من لا يعلم كانوا
كأنهم لا يعلمون، ومن قال إن الضمير في عَلِمُوا عائد على
الشَّياطِينُ أو على الْمَلَكَيْنِ قال: إن أولئك علموا أن لا
خلاق
(1/188)
|