تفسير ابن عطية
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي
الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا
حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ
عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا
وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
المومسات منهن، وروي عن ابن عباس نحو هذا،
وقوله تعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ إخبار أن المؤمنة المملوكة
خير من المشركة وإن كانت ذات الحسب والمال ولو أعجبتكم في
الحسن وغير ذلك، هذا قول الطبري وغيره، وقال السدي: نزلت في
عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء فلطمها في غضب، ثم ندم
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقال: هي تصوم وتصلي
وتشهد الشهادتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه
مؤمنة. فقال ابن رواحة: لأعتقنّها ولأتزوجنّها، ففعل، فطعن
عليه ناس فنزلت الآية فيه، ومالك رحمه الله لا يجوز عنده نكاح
الأمة الكتابية، وقال أشهب في كتاب محمد فيمن أسلم وتحته أمة
كتابية: إنه لا يفرق بينهما، وروى ابن وهب وغيره عن مالك أن
الأمة المجوسية لا يجوز أن توطأ بملك اليمين، وأبو حنيفة
وأصحابه يجيزون نكاح الإماء الكتابيات.
وقوله تعالى: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى
يُؤْمِنُوا الآية، أجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة
بوجه لما في ذلك من الغضاضة على دين الإسلام، والقراء على ضم
التاء من تَنْكِحُوا، وقال بعض العلماء: إن الولاية في النكاح
نص في لفظ هذه الآية.
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ مملوك خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ حسيب ولو
أعجبك حسنه وماله حسبما تقدم، وليس التفضيل هنا بلفظة خَيْرٌ
من جهة الإيمان فقط لأنه لا اشتراك من جهة الإيمان، لكن
الاشتراك موجود في المعاشرة والصحبة وملك العصمة وغير شيء،
وهذا النظر هو على مذهب سيبويه في أن لفظة «أفعل» التي هي
للتفضيل لا تصح حيث لا اشتراك. كقولك «الثلج أبرد من النار» ،
والنور أضوأ من الظلمة» ، وقال الفراء وجماعة من الكوفيين: تصح
لفظة «أفعل» حيث الاشتراك وحيث لا اشتراك، وحكى مكي عن نفطويه
أن لفظة التفضيل تجيء في كلام العرب إيجابا للأول ونفيا عن
الثاني.
قال القاضي أبو محمد: وتحتمل الآية عندي أن يكون ذكر العبد
والأمة عبارة عن جميع الناس حرهم ومملوكهم، كما قال صلى الله
عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» ، وكما نعتقد أن
الكل عبيد الله، وكما قال تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ
أَوَّابٌ [ص: 30] ، فكأن الكلام في هذه الآية: ولامرأة ولرجل.
وقوله تعالى: أُولئِكَ الإشارة إلى المشركات والمشركين، أي أنّ
صحبتهم ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم
النسل، فهذا كله دعاء إلى النار مع السلامة من أن يدعو إلى
دينه نصا من لفظه، والله تعالى يمن بالهداية ويبين الآيات ويحض
على الطاعات التي هي كلها دواع إلى الجنة، وقرأ الحسن بن أبي
الحسن «والمغفرة» بالرفع على الابتداء، والإذن العلم والتمكين،
فإن انضاف إلى ذلك أمر فهو أقوى من الإذن، لأنك إذا قلت «أذنت
كذا» فليس يلزمك أنك أمرت، ولَعَلَّهُمْ ترجّ في حق البشر، ومن
تذكر عمل حسب التذكر فنجا.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 224]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً
فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ
حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ
حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ
وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلا
تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا
وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ (224)
(1/297)
ذكر الطبري عن السدي أن السائل ثابت بن
الدحداح، وقال قتادة وغيره: إنما سألوا لأن العرب في المدينة
وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة
الحائض ومساكنتها، فنزلت هذه الآية، وقال مجاهد: «كانوا
يتجنبون النساء في الحيض ويأتونهن في أدبارهنّ فنزلت الآية في
ذلك» ، والمحيض مصدر كالحيض، ومثله المقيل من قال يقيل. قال
الراعي: [الكامل] .
بنيت مرافقهنّ فوق مزلّة ... لا يستطيع بها القراد مقيلا
وقال الطبري: الْمَحِيضِ اسم الحيض، ومنه قول رؤبة في المعيش:
[الرجز] .
إليك أشكو شدّة المعيش ... ومرّ أعوام نتفن ريشي
وأَذىً لفظ جامع لأشياء تؤذي لأنه دم وقذر ومنتن ومن سبيل
البول، وهذه عبارة المفسرين للفظة، وقوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا
يريد جماعهن بما فسر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من
أن يشد الرجل إزار الحائض ثم شأنه بأعلاها، وهذا أصح ما ذهب
إليه في الأمر، وبه قال ابن عباس وشريح وسعيد بن جبير ومالك
وجماعة عظيمة من العلماء، وروي عن مجاهد أنه قال: «الذي يجب
اعتزاله من الحائض الفرج وحده» ، وروي ذلك عن عائشة والشعبي
وعكرمة، وروي أيضا عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب أن
يعتزل الرجل فراش زوجته إذا حاضت، وهذا قول شاذ، وقد وقفت ابن
عباس عليه خالته ميمونة رضي الله عنهما، وقالت له: أرغبة عن
سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
وقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ قرأ نافع
وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه:
«يطهرن» بسكون الطاء وضم الهاء، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في
رواية أبي بكر والمفضل عنه «يطهّرن» بتشديد الطاء والهاء
وفتحهما، وفي مصحف أبيّ وعبد الله حتى يتطهرن، وفي مصحف أنس بن
مالك «ولا تقربوا النساء في محيضهن، واعتزلوهن حتى يتطهرن» ،
ورجح الطبري قراءة تشديد الطاء وقال: هي بمعنى يغتسلن لإجماع
الجميع على أن حراما على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم
حتى تطهر، قال: وإنما الاختلاف في الطهر ما هو؟ فقال قوم: هو
الاغتسال بالماء. وقال قوم:
هو وضوء كوضوء الصلاة. وقال قوم: هو غسل الفرج وذلك يحلها
لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة.
ورجح أبو علي الفارسي قراءة تخفيف الطاء إذ هو ثلاثي مضاد
لطمثت، وهو ثلاثي.
قال القاضي أبو محمد: وكل واحدة من القراءتين تحتمل أن يراد
بها الاغتسال بالماء وأن يراد بها انقطاع الدم وزوال أذاه، وما
ذهب إليه الطبري من أن قراءة شد الطاء مضمنها الاغتسال وقراءة
التخفيف مضمنها انقطاع الدم: أمر غير لازم، وكذلك ادعاؤه
الإجماع، أما إنه لا خلاف في كراهية الوطء قبل
(1/298)
الاغتسال بالماء، وقال ابن عباس والأوزاعي:
من فعله تصدق بنصف دينار، ومن وطئ في الدم تصدق بدينار، وأسند
أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي
يأتي امرأته وهي حائض قال: «يتصدق بدينار أو بنصف دينار» ،
وقال ابن عباس: «الدينار في الدم، والنصف عند انقضائه» ، ووردت
في الشدة في هذا الفعل آثار، وجمهور العلماء على أنه ذنب عظيم
يتاب منه ولا كفارة فيه بمال، وذهب مالك رحمه الله وجمهور
العلماء إلى أن الطهر الذي يحل جماع الحائض التي يذهب عنها
الدم هو تطهرها بالماء كطهور الجنب، ولا يجزي من ذلك تيمم ولا
غيره، وقال يحيى بن بكير وابن القرظي: إذا طهرت الحائض وتيممت
حيث لا ماء حلّت لزوجها وإن لم تغتسل. وقال مجاهد وعكرمة
وطاوس: انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ. وحَتَّى غاية
لا غير، وتَقْرَبُوهُنَّ يريد بجماع، وهذا من سد الذرائع،
وقوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ الآية، القراءة تَطَهَّرْنَ
بتاء مفتوحة وهاء مشددة، والخلاف في معناه كما تقدم من التطهير
بالماء أو انقطاع الدم. ومجاهد وجماعة من العلماء يقولون هنا:
إنه أريد الغسل بالماء، ولا بد بقرينة الأمر بالإتيان وإن كان
قربهن قبل الغسل مباحا، لكن لا تقع صيغة الأمر من الله تعالى
إلا على الوجه الأكمل، وفَأْتُوهُنَ
إباحة، والمعنى مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ باعتزالهن وهو
الفرج أو من السرة إلى الركبتين. أو جميع الجسد، حسبما تقدم.
هذا كله قول واحد، وقال ابن عباس وأبو رزين:
المعنى من قبل الطهر لا من قبل الحيض، وقاله الضحاك. وقال محمد
بن الحنفية: المعنى من قبل الحلال لا من قبل الزنا، وقيل:
المعنى من قبل حال الإباحة، لا صائمات ولا محرمات ولا غير ذلك.
والتوابون: الراجعون، وعرفه من الشر إلى الخير، والمتطهرون:
قال عطاء وغيره: المعنى بالماء، وقال مجاهد وغيره: المعنى من
الذنوب، وقال أيضا مجاهد: المعنى من إتيان النساء في أدبارهن.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: كأنه نظر إلى قوله
تعالى حكاية عن قوم لوط أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ
إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [الأعراف: 82] ، وقرأ طلحة بن
مصرف «المطّهّرين» بشد الطاء والهاء.
وقوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الآية، قال جابر بن عبد
الله والربيع: سببها أن اليهود قالت: إن الرجل إذا أتى المرأة
من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، وعابت على العرب ذلك، فنزلت
الآية تتضمن الرد على قولهم، وقالت أم سلمة وغيرها: سببها أن
قريشا كانوا يأتون النساء في الفرج على هيئات مختلفة، فلما
قدموا المدينة وتزوجوا أنصاريات أرادوا ذلك، فلم ترده نساء
المدينة إذ لم تكن عادة رجالهم إلا الإتيان على هيئة واحدة وهي
الانبطاح، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وانتشر كلام
الناس في ذلك، فنزلت الآية مبيحة الهيئات كلها إذا كان الوطء
في موضع الحرث، وحَرْثٌ تشبيه، لأنهنّ مزدرع الذرية، فلفظة
«الحرث» تعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة، إذ هو
المزدرع، وقوله أَنَّى شِئْتُمْ معناه عند جمهور العلماء من
صحابة وتابعين وائمة: من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة وعلى جنب،
وأَنَّى إنما تجيء سؤالا أو إخبارا عن أمر له جهات، فهي أعم في
اللغة من كيف ومن أين ومن متى، هذا هو الاستعمال العربي، وقد
فسر الناس أَنَّى في هذه الآية بهذه الألفاظ. وفسرها سيبويه ب
«كيف» ومن أين باجتماعهما، وذهبت فرقة ممن فسرها ب «أين» إلى
أن الوطء في الدبر جائز، روي ذلك عن عبد الله بن عمر، وروي عنه
خلافه وتكفير من فعله، وهذا هو اللائق به، ورويت الإباحة أيضا
(1/299)
عن ابن أبي مليكة ومحمد بن المنكدر، ورواها
مالك عن يزيد بن رومان عن سالم عن ابن عمر، وروي عن مالك شيء
في نحوه، وهو الذي وقع في العتبية، وقد كذب ذلك على مالك، وروى
بعضهم أن رجلا فعل ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم
الناس فيه، فنزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
في مصنف النسائي وفي غيره أنه قال: «إتيان النساء في أدبارهن
حرام» ، وورد عنه فيه أنه قال: «ملعون من أتى امرأة في دبرها»
، وورد عنه أنه قال: «من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل
على قلب محمد صلى الله عليه وسلم» ، وهذا هو الحق المتبع، ولا
ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على
زلة عالم بعد أن تصح عنه، والله المرشد لا رب غيره.
وقال السدي: معنى قوله تعالى: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ أي
الأجر في تجنب ما نهيتم عنه وامتثال ما أمرتم به، وقال ابن
عباس: «هي إشارة إلى ذكر الله على الجماع» ، كما قال النبي صلى
الله عليه وسلم «لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال: اللهم جنبنا
الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره» ،
وقيل: معنى قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ طلب الولد، وَاتَّقُوا
اللَّهَ تحذير، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ خبر يقتضي
المبالغة في التحذير، أي فهو مجازيكم على البر والإثم،
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ تأنيس لفاعلي البر ومتبعي سنن الهدى.
وقوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ
الآية، عُرْضَةً فعلة بناء للمفعول، أي كثيرا ما يتعرض بما
ذكر، تقول «جمل عرضة للركوب» و «فرس عرضة للجري» ، ومنه قول
كعب بن زهير:
[البسيط] .
من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت ... عرضتها طامس الاعلام مجهول
ومقصد الآية: ولا تعرضوا اسم الله تعالى للأيمان به، ولا
تكثروا من الأيمان فإن الحنث مع الإكثار، وفيه قلة رعي لحق
الله تعالى، ثم اختلف المتأولون: فقال ابن عباس وإبراهيم
النخعي ومجاهد والربيع وغيرهم: المعنى فيما تريدون الشدة فيه
من ترك صلة الرحم والبر والإصلاح. قال الطبري:
«التقدير لأن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا» ، وقدره المهدوي:
كراهة أن تبروا، وقال بعض المتأولين:
المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البر والتقوى
والإصلاح، فلا يحتاج إلى تقدير «لا» بعد «أن» ، ويحتمل أن يكون
هذا التأويل في الذي يريد الإصلاح بين الناس، فيحلف حانثا
ليكمل غرضه، ويحتمل أن يكون على ما روي عن عائشة رضي الله عنها
أنها قالت: «نزلت في تكثير اليمين بالله نهيا أن يحلف الرجل به
برا فكيف فاجرا» ، فالمعنى: إذا أردتم لأنفسكم البر وقال
الزجاج وغيره: معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه فعل خير
ونحوه اعتل بالله تعالى، فقال عليّ يمين، وهو لم يحلف، وأَنْ
تَبَرُّوا مفعول من أجله، والبر جميع وجوه الخير. «بر الرجل»
إذا تعلق به حكمها ونسبها كالحاج والمجاهد والعالم وغير ذلك.
وهو مضاد للإثم، إذ هو الحكم اللاحق عن المعاصي. وسَمِيعٌ أي
لأقوال العباد عَلِيمٌ بنياتهم، وهو مجاز على الجميع.
(1/300)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ
بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ (227)
وأما سبب الآية فقال ابن جريج: «نزلت في
أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ حلف أن يقطع إنفاقه عن مسطح بن
أثاثة حين تكلم مسطح في حديث الإفك» ، وقيل: نزلت في أبي بكر
الصديق مع ابنه عبد الرحمن في حديث الضيافة حين حلف أبو بكر أن
لا يأكل الطعام، وقيل: نزلت في عبد الله بن رواحة مع بشير بن
سعد حين حلف أن لا يكلمه، واليمين الحلف، وأصله أن العرب كانت
إذا تحالفت أو تعاهدت أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه، ثم كثر ذلك
حتى سمي الحلف والعهد نفسه يمينا.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 225 الى 227]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ
يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
«اللغو» سقط الكلام الذي لا حكم له، ويستعمل في الهجر والرفث
وما لا حكم له من الأيمان، تشبيها بالسقط من القول، يقال منه
لغا يلغو لغوا ولغى يلغي لغيا، ولغة القرآن بالواو، والمؤاخذة
هي التناول بالعقوبة، واختلف العلماء في اليمين التي هي لغو،
فقال ابن عباس وعائشة وعامر الشعبي وأبو صالح ومجاهد: لغو
اليمين قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة: لا
والله، وبلى والله، دون قصد لليمين، وروي أن قوما تراجعوا
القول بينهم وهم يرمون بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فحلف
أحدهم: لقد أصبت وأخطأت يا فلان، فإذا الأمر بخلافه، فقال رجل:
حنث يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيمان
الرماة لغو لا إثم فيها ولا كفارة» ، وقال أبو هريرة وابن عباس
أيضا والحسن ومالك بن أنس وجماعة من العلماء: لغو اليمين ما
حلف به الرجل على يقينه فكشف الغيب خلاف ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا اليقين هو غلبة ظن أطلق الفقهاء
عليه لفظة اليقين تجوزا، قال مالك:
«مثله أن يرى الرجل على بعد فيعتقد أنه فلان لا يشك، فيحلف، ثم
يجيء غير المحلوف عليه» ، وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد
الرحمن وعبد الله وعروة ابنا الزبير: لغو اليمين الحلف في
المعاصي كالذي يحلف ليشربن الخمر أو ليقطعن الرحم، فبره ترك
ذلك الفعل ولا كفارة عليه، وقال سعيد بن جبير مثله، إلا أنه
قال: يكفر، فأشبه قوله بالكفارة قول من لا يراها لغوا، وقال
ابن عباس أيضا وطاوس: لغو اليمين الحلف في حال الغضب، وروى ابن
عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمين في غضب» ،
وقال مكحول الدمشقي وجماعة من العلماء: لغو اليمين أن يحرم
الرجل على نفسه ما أحل الله فيقول مالي عليّ حرام إن فعلت كذا،
أو الحلال عليّ حرام، وقال بهذا القول مالك بن أنس إلا في
الزوجة فإنه ألزم فيها التحريم إلا أن يخرجها الحالف بقلبه،
وقال زيد بن أسلم وابنه: لغو اليمين دعاء الرجل على نفسه أعمى
الله بصره، أذهب الله ماله، هو يهودي، هو مشرك، هو لغيّة إن
فعل كذا، وقال ابن عباس أيضا والضحاك: لغو اليمين هو المكفرة،
أي إذا كفرت اليمين فحينئذ سقطت وصارت لغوا، ولا يؤاخذ الله
بتكفيرها والرجوع إلى الذي هو خير، وقال إبراهيم النخعي: «لغو
اليمين ما حنث فيه الرجل ناسيا» ، وحكى ابن عبد البر قولا إن
اللغو أيمان المكره.
(1/301)
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله
عنه: وطريقة النظر أن يتأمل لفظة اللغو ولفظة الكسب، ويحكم
موقعهما في اللغة، فكسب المرء ما قصده ونواه، واللغو ما لم
يتعمده أو ما حقه لهجنته أن يسقط، فيقوى على هذه الطريقة بعض
الأقوال المتقدمة ويضعف بعضها، وقد رفع الله عز وجل المؤاخذة
بالإطلاق في اللغو، فحقيقته ما لا إثم فيه ولا كفارة،
والمؤاخذة في الأيمان هي بعقوبة الآخرة في الغموس المصبورة،
وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة، وبعقوبة الدنيا في إلزام
الكفارة، فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة، لأن المؤاخذة قد
وقعت فيها، وتخصيص المؤاخذة بأنها في الآخرة فقط تحكم.
وقوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ
قال ابن عباس والنخعي وغيرهما: ما كسب القلب هي اليمين الكاذبة
الغموس، فهذه فيها المؤاخذة في الآخرة، والكفارة إنما هي فيما
يكون لغوا إذا كفر، وقال مالك وجماعة من العلماء: الغموس لا
تكفر، هي أعظم ذنبا من ذلك، وقال الشافعي وقتادة وعطاء
والربيع: اليمين الغموس تكفر، والكفارة مؤاخذة، والغموس ما قصد
الرجل في الحلف به الكذب، وكذلك اليمين المصبورة: المعنى فيهما
واحد، ولكن الغموس سميت بذلك لأنها غمست صاحبها في الإثم،
والمصبورة سميت بذلك لأنها صبرها مغالبة وقوة عليها، كما يصبر
الحيوان للقتل والرمي، وقال زيد بن أسلم: قوله تعالى: وَلكِنْ
يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ هو في الرجل يقول هو
مشرك إن فعل، أي هذا لغو إلا أن يعقد الإشراك بقلبه ويسكبه،
وغَفُورٌ حَلِيمٌ صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذا
هو باب رفق وتوسعة.
وقوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ الآية، قرأ
أبي بن كعب وابن عباس «للذين يقسمون» ، ويُؤْلُونَ معناه
يحلفون، يقال آلى الرجل يولي إيلاء، والألية اليمين، ويقال
فيها أيضا ألوة بفتح الهمزة وبضمها وبكسرها، والتربّص التأنّي
والتأخر، وكان من عادة العرب أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته،
يقصد بذلك الأذى عند المشارّة ونحوها، فجعل الله تعالى في ذلك
هذا الحد لئلا يضر الرجال بالنساء، وبقي للحالف على هذا المعنى
فسحة فيما دون الأربعة الأشهر، واختلف من المراد أن يلزمه حكم
الإيلاء فقال مالك رحمه الله: «هو الرجل يغاضب امرأته فيحلف
بيمين يلحق عن الحنث فيها حكم، أن لا يطأها، ضررا منه، أكثر من
أربعة أشهر، لا يقصد بذلك إصلاح ولد رضيع ونحوه» ، وقال به
عطاء وغيره، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن بن أبي
الحسن: هو الرجل يحلف أن لا يطأ امرأته على وجه مغاضبة ومشارة،
وسواء كان في ضمن ذلك إصلاح ولد أولم يكن، فإن لم يكن عن غضب
فليس بإيلاء.
وقال ابن عباس: «لا إيلاء إلا بغضب» ، وقال ابن سيرين: «سواء
كانت اليمين في غضب أو غير غضب هو إيلاء» . وقاله ابن مسعود
والثوري ومالك والشافعي وأهل العراق، إلا أن مالكا قال: ما لم
يرد إصلاح ولد.
وقال الشعبي والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وابن المسيب:
كل يمين حلفها الرجل أن لا يطأ امرأته أو أن لا يكلمها أو أن
يضارها أو أن يغاضبها فذلك كله إيلاء، وقال ابن المسيب منهم:
إلا أنه إن حلف أن لا يكلم وكان يطأ فليس بإيلاء، وإنما تكون
اليمين على غير الوطء إيلاء إذا اقترن بذلك الامتناع من الوطء.
قال القاضي أبو محمد: وأقوال من ذكرناه مع سعيد مسجلة محتملة
ما قال سعيد ومحتملة أن فساد العشرة إيلاء، وذهب إلى هذا
الاحتمال الأخير الطبري، وقال ابن عباس أيضا: لا يسمى موليا
إلا الذي
(1/302)
يحلف أن لا يطأ أبدا، حكاه ابن المنذر،
وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور: لا يكون موليا إلا إن زاد
على الأربعة الأشهر، وقال عطاء والثوري وأصحاب الرأي: الإيلاء
أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا، وقال قتادة والنخعي وحماد بن
أبي سليمان وإسحاق وابن أبي ليلى: من حلف على قليل من الوقت أو
كثير فتركها أربعة أشهر فهو مول. قال ابن المنذر: وأنكر هذا
القول كثير من أهل العلم. وقوله تعالى مِنْ نِسائِهِمْ يدخل
فيه الحرائر والإماء إذا تزوجن، والعبد يلزمه الإيلاء من
زوجته، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور: أجله أربعة أشهر، وقال
مالك والزهري وعطاء بن أبي رباح وإسحاق: أجله شهران، وقال
الحسن:
أجله من حرة أربعة أشهر ومن أمة زوجة شهران، وقاله النخعي،
وقال الشعبي: «الإيلاء من الأمة نصف الإيلاء من الحرة» ، وقال
مالك والشافعي وأصحاب الرأي والأوزاعي والنخعي وغيرهم: المدخول
بها وغير المدخول بها سواء في لزوم الإيلاء فيهما، وقال الزهري
وعطاء والثوري: لا إيلاء إلا بعد الدخول، قال مالك: «ولا إيلاء
من صغيرة لم تبلغ، فإن آلى منها فبلغت لزمه الإيلاء من يوم
بلوغها» ، وقال عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب
وأبو الدرداء وابن عمر وابن المسيب ومجاهد وطاوس ومالك
والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد: إذا انقضت الأربعة الأشهر
وقف: فإما فاء، وإما طلق، وإلا طلق عليه، وقال ابن مسعود وابن
عباس وعثمان وعلي أيضا وزيد بن ثابت وجابر بن زيد والحسن
ومسروق بانقضاء الأربعة الأشهر دخل عليه الطلاق دون توقيت،
واختلف العلماء في الطلاق الداخل على المولي، فقال عثمان وعلي
وابن عباس وابن مسعود وعطاء والنخعي والأوزاعي وغيرهم: هي طلقة
بائنة لا رجعة له فيها، وقال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد
الرحمن ومكحول والزهري ومالك: هي رجعية، وفاؤُ معناه رجعوا،
ومنه حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات: 9] ،
والفيء الظل الراجع عشيا، وقال الحسن وإبراهيم: إذا فاء المولي
ووطئ فلا كفارة عليه في يمينه، لقوله تعالى فَإِنْ فاؤُ
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قال القاضي أبو محمد: وهذا متركب على أن لغو اليمين ما حلف في
معصية، وترك وطء الزوجة معصية، وقال الجمهور: إذا فاء كفر،
والفيء عند ابن المسيب وابن جبير لا يكون إلا بالجماع، وإن كان
مسجونا أو في سفر مضى عليه حكم الإيلاء إلا أن يطأ ولا عذر له
ولا فيء بقول، وقال مالك رحمه الله:
«لا يكون الفيء إلا بالوطء أو بالتفكير في حال العذر كالغائب
والمسجون» ، قال ابن القاسم في المدونة:
«إلا أن تكون يمينه مما لا يكفرها لأنها لا تقع عليه إلا بعد
الحنث، فإن القول يكفيه ما دام معذورا» ، واختلف القول في
المدونة في اليمين بالله تعالى هل يكتفى فيه بالفيء بالقول
والعزم على التكفير أم لا بد من التفكير وإلا فلا فيء، وقال
الحسن وعكرمة والنخعي وغيرهم: الفيء من غير المعذور الجماع ولا
بد، ومن المعذور أن يشهد أنه قد فاء بقلبه، وقال النخعي أيضا:
يصح الفيء بالقول والإشهاد فقط، ويسقط حكم الإيلاء. أرأيت إن
لم ينتشر للوطء؟
وقال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويرجع في هذا
القول إن لم يطأ إلى باب الضرر، وقرأ أبي بن كعب «فإن فاؤوا
فيهن» وروي عنه «فإن فاؤوا فيها» .
وقوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ الآية، قال القائلون
إن بمضي الأربعة أشهر يدخل الطلاق:
عزيمة الطلاق هي ترك الفيء حتى تنصرم الأشهر، وقال القائلون لا
بد من التوقيف بعد تمام الأشهر:
(1/303)
وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا
يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ
إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ
دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
العزيمة هي التطليق أو الإبانة وقت التوقيف
حتى يطلق الحاكم، واستدل من قال بالتوقيف بقوله سَمِيعٌ، لأن
هذا الإدراك إنما هو في المقولات، وقرأ ابن عباس «وإن عزموا
السراح» .
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 228]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ
اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ
فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
قرأ جمهور الناس «قروء» على وزن فعول، اللام همزة، وروي عن
نافع شد الواو دون همز، وقرأ الحسن «ثلاثة قرو» بفتح القاف
وسكون الراء وتنوين الواو خفيفة، وحكم هذه الآية مقصده
الاستبراء لا أنه عبادة، ولذلك خرجت منه من لم يبن بها. بخلاف
عدة الوفاة التي هي عبادة، والْمُطَلَّقاتُ لفظ عموم يراد به
الخصوص في المدخول بهن، ولم تدخل في العموم المطلقة قبل البناء
ولا الحامل ولا التي لم تحض ولا القاعد، وقال قوم: تناولهن
العموم ثم نسخن، وهذا ضعيف فإنما الآية فيمن تحيض، وهو عرف
النساء وعليه معظمهن، فأغنى ذلك عن النص عليه، والقرء في اللغة
الوقت المعتاد تردده، وقرء النجم وقت طلوعه، وكذلك وقت أفوله
وقرء الريح وقت هبوبها، ومنه قول الراجز: [الرجز]
يا رب ذي ضغن على فارض ... له قروء كقروء الحائض
أراد وقت غضبه، فالحيض على هذا يسمى قرءا، ومنه قول النبي صلى
الله عليه وسلم: «اتركي الصلاة أيام أقرائك» ، أي أيام حيضك،
وكذلك على هذا النظر يسمى الطهر قرءا، لأنه وقت معتاد تردده
يعاقب الحيض، ومنه قول الأعشى:
أفي كلّ عام أنت جاشم غزوة ... تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة ... بما ضاع فيها من قروء نسائكا
أي من أطهارهن، وقال قوم: القرء مأخوذ من قرء الماء في الحوض،
وهو جمعه، فكأن الرحم تجمع الدم وقت الحيض والجسم يجمعه وقت
الطهر، واختلف أيهما أراد الله تعالى بالثلاثة التي حددها
للمطلقة، فقال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عباس والضحاك
ومجاهد والربيع وقتادة وأصحاب الرأي وجماعة كبيرة من أهل
العلم: المراد الحيض، فإذا طلق الرجل امرأته في طهر لم يطأ فيه
استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة فإذا اغتسلت من الثالثة خرجت من
العدة، وقال بعض من يقول بالحيض إذا طهرت من الثالثة انقضت
العدة قبل الغسل، هذا قول سعيد بن جبير وغيره، وقالت عائشة
وابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم منهم سليمان
بن يسار ومالك: المراد الاطهار، فإذا طلق الرجل امرأته في طهر
لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة، ثم استقبلت طهرا ثانيا
بعد حيضة ثم ثالثا بعد حيضة ثانية، فإذا رأت الدم من الحيضة
الثالثة حلت للأزواج وخرجت من
(1/304)
العدة، فإن طلق مطلق في طهر قد مس فيه لزمه
الطلاق وقد أساء، واعتدت بما بقي من ذلك الطهر. وقول ابن
القاسم ومالك: إن المطلقة إذا رأت أول نقطة من الحيضة الثالثة
خرجت من العصمة. وهو مذهب زيد بن ثابت وغيره، وقال أشهب: لا
تنقطع العصمة والميراث حتى يتحقق أنه دم حيض لئلا يكون دفعة دم
من غير الحيض، واختلف المتأولون في المراد بقوله ما خَلَقَ
فقال ابن عمر ومجاهد والربيع وابن زيد والضحاك هو الحيض والحبل
جميعا، ومعنى النهي عن الكتمان النهي عن الإضرار بالزوج وإذهاب
حقه، فإذا قالت المطلقة حضت وهي لم تحض ذهبت بحقه من الارتجاع،
وإذا قالت لم أحض وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه،
فأضرت به، أو تقصد بكذبها في نفي الحيض أن لا يرتجع حتى تتم
العدة ويقطع الشرع حقه، وكذلك الحامل تكتم الحمل لينقطع حقه من
الارتجاع، وقال قتادة: «كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن
الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد ففي ذلك نزلت الآية» ، وقال
السدي: «سبب الآية أن الرجل كان إذا أراد أن يطلق امرأته سألها
أبها حمل؟
مخافة أن يضر بنفسه وولده في فراقها، فأمرهن الله بالصدق في
ذلك» . وقال إبراهيم النخعي وعكرمة:
المراد ب ما خَلَقَ الحيض، وروي عن عمر وابن عباس أن المراد
الحبل، والعموم راجح، وفي قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ ما
يقتضي أنهن مؤتمنات على ما ذكر، ولو كان الاستقصاء مباحا لم
يكن كتم، وقرأ مبشر بن عبيد «في أرحامهن» بضم الهاء، وقوله
إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية،
أي حق الإيمان فإن ذلك يقتضي أن لا يكتمن الحق، وهذا كما تقول:
إن كنت حرا فانتصر، وأنت تخاطب حرا، وقوله وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً،
البعل: الزوج، وجمعه على بعولة شاذ لا ينقاس. لكن هو المسموع.
وقال قوم: الهاء فيه دالة على تأنيث الجماعة، وقيل: هي هاء
تأنيث دخلت على بعول. وبعول لا شذوذ فيه. وقرأ ابن مسعود
«بردتهن» بزيادة تاء، وقرأ مبشر بن عبيد «بردهن» بضم الهاء،
ونص الله تعالى بهذه الآية على أن للزوج أن يرتجع امرأته
المطلقة ما دامت في العدة، والإشارة ب ذلِكَ هي إلى المدة، ثم
اقترن بما لهم من الرد شرط إرادة الإصلاح دون المضارة، كما
تشدد على النساء في كتم ما في أرحامهن، وهذا بيان الأحكام التي
بين الله تعالى وبين عباده في ترك النساء الكتمان وإرادة
الرجال الإصلاح، فإن قصد أحد بعد هذا إفسادا أو كتمت امرأة ما
في رحمها فأحكام الدنيا على الظاهر، والبواطن إلى الله تعالى
يتولى جزاء كل ذي عمل.
وتضعف هذه الآية قول من قال في المولي: إن بانقضاء الأشهر
الأربعة تزول العصمة بطلقة بائنة لا رجعة فيها، لأن أكثر ما
تعطي ألفاظ القرآن أن ترك الفيء في الأشهر الأربعة هو عزم
الطلاق، وإذا كان ذلك فالمرأة من المطلقات اللواتي يتربصن
وبعولتهن أحق بردهن.
وقوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ، قال ابن عباس: «ذلك في التزين والتصنع
والمؤاتاة» ، وقال الضحاك وابن زيد: ذلك في حسن العشرة وحفظ
بعضهم لبعض وتقوى الله فيه، والآية تعم جميع حقوق الزوجية،
وقوله وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ قال مجاهد وقتادة:
ذلك تنبيه على فضل حظه على حظها في الجهاد والميراث وما أشبهه،
وقال زيد بن أسلم وابنه: ذلك في الطاعة، عليها أن تطيعه وليس
عليه أن يطيعها، وقال عامر الشعبي: «ذلك الصداق الذي يعطي
الرجل، وأنه يلاعن إن قذف وتحد
(1/305)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ
شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
إن قذفت» ، فقال ابن عباس: «تلك الدرجة
إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة والتوسع للنساء في المال
والخلق» ، أي إن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه، وهذا قول
حسن بارع، وقال ابن إسحاق:
«الدرجة الإنفاق وأنه قوام عليها» ، وقال ابن زيد: «الدرجة ملك
العصمة وأن الطلاق بيده» ، وقال حميد:
«الدرجة اللحية» .
وقال القاضي أبو محمد: وهذا إن صح عنه ضعيف لا يقتضيه لفظ
الآية ولا معناها، وإذا تأملت هذه الوجوه التي ذكر المفسرون
فيجيء من مجموعها درجة تقتضي التفضيل، وعَزِيزٌ لا يعجزه أحد،
وحَكِيمٌ فيما ينفذه من الأحكام والأمور.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 229]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما
حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ
اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
قال عروة بن الزبير وقتادة وابن زيد وغيرهم: نزلت هذه الآية
بيانا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر
وولي، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يطلقون ويرتجعون إلى غير
غاية، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا
أؤويك ولا أدعك تحلين، قالت: وكيف؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضي
عدتك راجعتك، فشكت ذلك، فنزلت الآية. وقال ابن مسعود وابن عباس
ومجاهد وغيرهم:
المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، أي من طلق اثنتين فليتق
الله في الثالثة فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها وإما
أمسكها محسنا عشرتها.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والآية تتضمن هذين
المعنيين، والإمساك بالمعروف هو الارتجاع بعد الثانية إلى حسن
العشرة والتزام حقوق الزوجية. والتسريح يحتمل لفظه معنيين:
أحدهما تركها تتم العدة من الثانية وتكون أملك بنفسها، وهذا
قول السدي والضحاك، والمعنى الآخر أن يطلقها ثالثة فيسرحها
بذلك، وهذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما، ويقوى عندي هذا القول من
ثلاثة وجوه: أولها أنه روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه
وسلم: يا رسول الله هذا ذكر الطلقتين فأين الثالثة؟، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: هي قوله: أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسانٍ، والوجه الثاني أن التسريح من ألفاظ الطلاق، ألا
ترى أنه قد قرىء وإن عزموا السراح [البقرة: 227] ، والوجه
الثالث أن فعّل تفعيلا بهذا التضعيف يعطي أنه أحدث فعلا مكررا
على الطلقة الثانية، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه
بالتفعيل، و «إمساك» مرتفع بالابتداء والخبر أمثل أو أحسن،
ويصح أن يرتفع على خبر ابتداء تقديره فالواجب إمساك، وقوله
بِإِحْسانٍ معناه أن لا يظلمها شيئا من حقها ولا يتعدى في قول.
وقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا الآية خطاب
للأزواج، نهاهم به أن يأخذوا من أزواجهم شيئا على وجه المضارة،
وهذا هو الخلع الذي لا يصح إلا بأن لا ينفرد الرجل بالضرر، وخص
بالذكر ما آتى الأزواج نساءهم لأن العرف من الناس أن يطلب
الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج عن يده، هذا وكدهم في الأغلب
فلذلك خص
(1/306)
بالذكر. وقرأ جميع السبعة إلا حمزة «يخافا»
بفتح الياء على بناء الفعل للفاعل، فهذا باب خاف في التعدي إلى
مفعول واحد وهو أَنْ، وقرأ حمزة وحده «يخافا» بضم الياء على
بناء الفعل للمفعول، فهذا على تعدية خاف إلى مفعولين، أحدهما
أسند الفعل إليه، والآخر أَنْ بتقدير حرف جر محذوف، فموضع
أَنْ: خفض بالجار المقدر عنه سيبويه والكسائي، ونصب عند غيرهما
لأنه لما حذف الجار وصار الفعل إلى المفعول الثاني، مثل استغفر
الله ذنبا، وأمرتك الخير، وفي مصحف ابن مسعود «إلا أن يخافوا»
بالياء وواو الجمع، والضمير على هذا للحكام ومتوسطي أمور
الناس. وحرم الله- تعالى- على الزوج في هذه الآية أن يأخذ إلا
بعد الخوف أن لا يقيما، وأكد التحريم بالوعيد لمن تعدى الحد،
وأجمع عوام أهل العلم على تحظير أخذ مالها إلا أن يكون النشوز
وفساد العشرة من قبلها. قال ابن المنذر: «روينا معنى ذلك عن
ابن عباس والشعبي ومجاهد وعطاء والنخعي وابن سيرين والقاسم بن
محمد وعروة بن الزبير والزهري وحميد بن عبد الرحمن وقتادة
وسفيان الثوري ومالك وإسحاق وأبي ثور» ، وقال مالك- رحمه الله-
والشعبي وجماعة معهما: فإن كان مع فساد الزوجة ونشوزها فساد من
الزوج وتفاقم ما بينهما فالفدية جائزة للزوج.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ومعنى ذلك أن يكون
الزوج لو ترك فساده لم يزل نشوزها هي، وأما إن انفرد الزوج
بالفساد فلا أعلم أحدا يجيز له الفدية، إلا ما روي عن أبي
حنيفة أنه قال: «إذا جاء الظلم والنشوز من قبله فخالعته فهو
جائز ماض وهو آثم لا يحل ما صنع، ولا يرد ما أخذ» ، قال ابن
المنذر: «وهذا خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولو قيل لأحد: اجهد نفسك في طلب الخطأ، ما وجد
أمرا أعظم من أن ينطق القرآن بتحريم شيء فيحله هو ويجيزه» ،
وحُدُودَ اللَّهِ في هذا الموضع هي ما يلزم الزوجين من حسن
العشرة وحقوق العصمة.
ونازلة حبيبة بنت سهل- وقيل جميلة بنت أبي ابن سلول والأول
أصح- مع ثابت بن قيس حين أباح له النبي صلى الله عليه وسلم أخذ
الفدية منها إنما كان التعسف فيها من المرأة لأنها ذكرت عنه كل
خير وأنها لا تحب البقاء معه، وقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ المخاطبة للحكام والمتوسطين
لمثل هذا الأمر وإن لم يكن حاكما، وترك إقامة حدود الله هو
استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه، قاله ابن عباس
ومالك بن أنس وجمهور الفقهاء، وقال الحسن بن أبي الحسن وقوم
معه: إذا قالت له: لا أطيع لك أمرا ولا أغتسل لك من جنابة ولا
أبر لك قسما، حل الخلع، وقال الشعبي: أَلَّا يُقِيما حُدُودَ
اللَّهِ: معناه أن لا يطيعا الله، وذلك أن المغاضبة تدعو إلى
ترك الطاعة» ، وقال عطاء بن أبي رباح: «يحل الخلع والأخذ أن
تقول المرأة لزوجها إني لأكرهك ولا أحبّك ونحو هذا» .
وقوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ
إباحة للفدية، وشركهما في ارتفاع الجناح لأنها لا يجوز لها أن
تعطيه مالها حيث لا يجوز له أخذه وهي تقدر على المخاصمة، فإذا
كان الخوف المذكور جاز له أن يأخذ ولها أن تعطي، ومتى لم يقع
الخوف فلا يجوز لها أن تعطي على طالب الفراق، وقال ابن عمر
والنخعي وابن عباس ومجاهد وعثمان بن عفان رضي الله عنه ومالك
والشافعي وأبو حنيفة وعكرمة وقبيصة بن ذؤيب وأبو ثور وغيرهم:
مباح للزوج أن يأخذ من المرأة في الفدية جميع ما تملكه، وقضى
(1/307)
فَإِنْ طَلَّقَهَا
فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ
يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ
اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ
يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
بذلك عمر بن الخطاب، وقال طاوس والزهري
وعطاء وعمر بن شعيب والحسن والشعبي والحكم وحماد وأحمد وإسحاق:
لا يجوز له أن يزيد على المهر الذي أعطاها. وبه قال الربيع،
وكان يقرأ هو والحسن بن أبي الحسن «فيما افتدت به منه» بزيادة
«منه» ، يعني مما آتيتموهن وهو المهر. وحكى مكي هذا القول عن
أبي حنيفة، وابن المنذر أثبت. وقال ابن المسيب: «لا أرى أن
يأخذ منها كل مالها ولكن ليدع لها شيئا» . وقال بكر بن عبد
الله المزني: «لا يجوز للرجل أن يأخذ من زوجه شيئا خلعا قليلا
ولا كثيرا» قال: «وهذه الآية منسوخة بقوله عز وجل: وَإِنْ
أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ
إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً
[النساء: 20] .
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، لأن الأمة مجمعة على إجازة
الفدية، ولأن المعنى المقترن بآية الفدية غير المعنى الذي في
آية إرادة الاستبدال.
وقوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ الآية، أي هذه الأوامر
والنواهي هي المعالم بين الحق والباطل والطاعة والمعصية فلا
تتجاوزوها، ثم توعد- تعالى- على تجاوز الحد ووصف المتعدي
بالظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه، والظلم معاقب صاحبه، وهو
كما قال صلى الله عليه وسلم: «الظلم ظلمات يوم القيامة» .
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 230 الى 231]
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ
اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ (230) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ
اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما
أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ
بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
قال ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي: هذا ابتداء الطلقة
الثالثة.
قال القاضي أبو محمد: فيجيء التسريح المتقدم ترك المرأة تتم
عدتها من الثانية، ومن قول ابن عباس رضي الله عنه: «إن الخلع
فسخ عصمة وليس بطلاق» ، واحتج من هذه الآية بذكر الله- تعالى-
الطلاقين ثم ذكره الخلع ثم ذكره الثالثة بعد الطلاقين ولم يك
للخلع حكم يعتد به، ذكر هذا ابن المنذر في «الإشراف» عنه وعن
عكرمة وطاوس وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وذكر عن الجمهور خلاف
قولهم، وقال مجاهد: «هذه الآية بيان ما يلزم المسرح، والتسريح
هو الطلقة الثالثة» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وقوله تعالى: أَوْ
تَسْرِيحٌ يحتمل الوجهين: إما تركها تتم العدة، وإما إرداف
الثالثة. ثم بين في هذه الآية حكم الاحتمال الواحد، إذ
الاحتمال الثاني قد علم منه أنه لا حكم له عليها بعد انقضاء
العدة. وتَنْكِحَ في اللغة جار على حقيقته في الوطء ومجاز في
العقد، وأجمعت الأمة في هذه النازلة على اتباع الحديث الصحيح
في بنت سموأل امرأة رفاعة حين تزوجها
(1/308)
عبد الرحمن بن الزبير وكان رفاعة قد طلقها
ثلاثا، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «إني لا أريد البقاء
مع عبد الرحمن، ما معه إلا مثل الهدبة» ، فقال لها رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «لعلك أردت الرجوع إلى رفاعة، لا حتى يذوق
عسيلتك وتذوقي عسيلته» ، فرأى العلماء أن النكاح المحل إنما هو
الدخول والوطء، وكلهم على أن مغيب الحشفة يحل إلا الحسن بن أبي
الحسن فإنه قال: «لا يحل إلا الإنزال وهو ذوق العسيلة» ، وقال
بعض الفقهاء: التقاء الختانين يحل.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى واحد، إذ لا يلتقي الختانان إلا
مع المغيب الذي عليه الجمهور، وروي عن سعيد بن المسيب أن العقد
عليها يحلها للأول، وخطىء هذا القول لخلافه الحديث الصحيح،
ويتأول على سعيد- رحمه الله- أن الحديث لم يبلغه، ولما رأى
العقد عاملا في منع الرجل نكاح امرأة قد عقد عليها أبوه قاس
عليه عمل العقد في تحليل المطلقة.
قال القاضي أبو محمد: وتحليل المطلقة ترخيص فلا يتم إلا
بالأوفى، ومنع الابن شدة تدخل بأرق الأسباب على أصلهم في البر
والحنث. والذي يحل عند مالك- رحمه الله- النكاح الصحيح والوطء
المباح، والمحلل إذا وافق المرأة: فلم تنكح زوجا، ولا يحل ذلك،
ولا أعلم في اتفاقه مع الزوجة خلافا، وقال عثمان بن عفان: «إذا
قصد المحلل التحليل وحده لم يحل، وكذلك إن قصدته المرأة وحدها»
.
ورخص فيه مع قصد المرأة وحدها إبراهيم والشعبي إذا لم يأمر به
الزوج. وقال الحسن بن أبي الحسن:
«إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل لم تحل للأول» ، وهذا شاذ، وقال
سالم والقاسم: لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان.
وقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما الآية،
المعنى إن طلقها المتزوج الثاني فلا جناح عليهما أي المرأة
والزوج الأول، قاله ابن عباس، ولا خلاف فيه، والظن هنا على
بابه من تغليب أحد الجائزين، وقال أبو عبيدة: «المعنى أيقنا» ،
وقوله في ذلك ضعيف، وحُدُودَ اللَّهِ الأمور التي أمر أن لا
تتعدى، وخص الذين يعلمون بالذكر تشريفا لهم، وإذ هم الذين
ينتفعون بما بين. أي نصب للعبرة من قول أو صنعة، وأما إن أردنا
بالتبيين خلق البيان في القلب فذلك يوجب تخصيص الذين يعلمون
بالذكر، لأن من طبع على قلبه لم يبين له شيء، وقرأ السبعة
«يبينها» بالياء، وقرأ عاصم روي عنه «نبينها» بالنون.
وقوله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الآية خطاب للرجال
لا يختص بحكمه إلا الأزواج، وذلك نهي للرجل أن يطول العدة على
المرأة مضارّة منه لها، بأن يرتجع قرب انقضائها ثم يطلق بعد
ذلك، قاله الضحاك وغيره، ولا خلاف فيه، ومعنى «بلغن أجلهن»
قاربن، لأن المعنى يضطر إلى ذلك، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار
له في الإمساك، ومعنى «أمسكوهن» راجعوهن، وبِمَعْرُوفٍ قيل هو
الإشهاد، ولا تُمْسِكُوهُنَّ أي لا تراجعوهن ضرارا، وباقي
الآية بيّن.
(1/309)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ
يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى
لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ (232)
المراد آياته النازلة في الأوامر والنواهي،
وقال الحسن: «نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعبا أو هازلا أو راجع
كذلك» ، وقالته عائشة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ثلاث جدهن جد وهزلهن جد:
النكاح والطلاق والرجعة» . ووقع هذا الحديث في المدونة من كلام
ابن المسيب، النكاح والطلاق والعتق، ثم ذكر الله عباده بإنعامه
عليهم بالقرآن والسنة، والْحِكْمَةِ هي السنة المبينة على لسان
رسول الله صلى الله عليه وسلم: مراد الله فيما لم ينص عليه في
الكتاب، والوصف ب عَلِيمٌ يقتضيه ما تقدم من الأفعال التي
ظاهرها خلاف النية فيها، كالمحلل والمرتجع مضارة.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 232]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا
تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا
بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ
مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ
أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ (232)
وقوله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ الآية خطاب للمؤمنين الذين
منهم الأزواج ومنهم الأولياء، لأنهم المراد في تَعْضُلُوهُنَّ،
وبلوغ الأجل في هذا الموضع تناهيه، لأن المعنى يقتضي ذلك، وقد
قال بعض الناس في هذا الموضع: إن المراد ب تَعْضُلُوهُنَّ،
الأزواج، وذلك بأن يكون الارتجاع مضارة عضلا عن نكاح الغير،
فقوله أَزْواجَهُنَّ على هذا يعني به الرجال، إذ منهم الأزواج،
وعلى أن المراد ب تَعْضُلُوهُنَّ الأولياء فالأزواج هم الذين
كنّ في عصمتهم، والعضل المنع من الزواج، وهو من معنى التضييق
والتعسير، كما يقال أعضلت الدجاجة إذا عسر بيضها، والداء
العضال العسير البرء، وقيل: نزلت هذه الآية في معقل بن يسار
وأخته، وقيل: في جابر بن عبد الله، وذلك أن رجلا طلق أخته،
وقيل بنته، وتركها حتى تمت عدتها، ثم أراد ارتجاعها فغار جابر،
وقال: «تركتها وأنت أملك بها، لا زوجتكها أبدا» ، فنزلت الآية،
وهذه الآية تقتضي ثبوت حق الولي في إنكاح وليته، وأن النكاح
يفتقر إلى ولي، خلاف قول أبي حنيفة إن الولي ليس من شروط
النكاح، وقوله بِالْمَعْرُوفِ معناه المهر والإشهاد.
وقوله تعالى: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ خطاب
للنبي صلى الله عليه وسلم: ثم رجوع إلى خطاب الجماعة، والإشارة
في ذلِكُمْ أَزْكى إلى ترك العضل، وأَزْكى وأَطْهَرُ معناه
أطيب للنفس وأطهر للعرض والدين، بسبب العلاقات التي تكون بين
الأزواج، وربما لم يعلمها الولي فيؤدي العضل إلى الفساد
والمخالطة على ما لا ينبغي، والله- تعالى- يعلم من ذلك ما لا
يعلم البشر.
قوله عز وجل:
والوالدات يرضعن أولدهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتمّ
الرضاعة يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ خبر، معناه: الأمر على
الوجوب لبعض الوالدات، والأمر على جهة الندب والتخيير لبعضهن،
فأما المرأة التي في العصمة فعليها الإرضاع، وهو عرف يلزم إذ
قد صار كالشرط إلا أن تكون شريفة ذات ترفه فعرفها أن لا ترضع
وذلك كالشرط، فإن مات الأب ولا مال للصبي فمذهب مالك في
(1/310)
المدونة أن الرضاع لازم للأم، بخلاف
النفقة، وفي كتاب ابن الجلاب: رضاعه في بيت المال، وقال عبد
الوهاب: هو من فقراء المسلمين، وأما المطلقة طلاق بينونة فلا
رضاع عليها، والرضاع على الزوج إلا أن تشاء هي، فهي أحق به
بأجرة المثل. هذا مع يسر الزوج، فإن كان معدما لم يلزمها
الرضاع إلا أن يكون المولود لا يقبل غيرها فتجبر حينئذ على
الإرضاع، ولها أجر مثلها في يسر الزوج، وكل ما يلزمها الإرضاع
فإن أصابها عذر يمنعها منه عاد الإرضاع على الأب. وروي عن مالك
أن الأب إذا كان معدما ولا مال للصبي فإن الرضاع على الأم، فإن
كان بها عذر ولها مال فالإرضاع عليها في مالها. وهذه الآية هي
في المطلقات، قاله السدي والضحاك وغيرهما، جعلها الله حدا عند
اختلاف الزوجين في مدة الرضاع فمن دعا منهما إلى إكمال الحولين
فذلك له، وقال جمهور المفسرين: إن هذين الحولين لكل واحد، وروي
عن ابن عباس أنه قال: «هي في الولد الذي يمكث في البطن ستة
أشهر، فإن مكث سبعة أشهر فرضاعه أحد وعشرون شهرا» .
قال القاضي أبو محمد: كأن هذا القول انبنى على قوله تعالى:
وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف:
15] ، لأن ذلك حكم على الإنسان عموما، وسمي العام حولا
لاستحالة الأمور فيه في الأغلب، ووصفهما ب كامِلَيْنِ إذ مما
قد اعتيد تجوزا أن يقال في حول وبعض آخر حولين، وفي يوم وبعض
آخر مشيت يومين وصبرت عليك في ديني يومين وشهرين. وقوله تعالى:
لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ مبني على أن الحولين
ليسا بفرض لا يتجاوز، وقرأ السبعة «أن يتم الرضاعة» بضم الياء
ونصب الرضاعة، وقرأ مجاهد وابن محيصن وحميد والحسن وأبو رجاء
«تتم الرضاعة» بفتح التاء الأولى ورفع الرضاعة على إسناد الفعل
إليها، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة والجارود بن أبي سبرة
كذلك، إلا أنهم كسروا الراء من الرضاعة، وهي لغة كالحضارة
والحضارة، وغير ذلك. وروي عن مجاهد أنه قرأ «الرضعة» على وزن
الفعلة، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «أن يكمل الرضاعة» بالياء
المضمومة، وانتزع مالك رحمه الله وجماعة من العلماء من هذه
الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان
في الحولين، لأن بانقضاء الحولين تمت الرضاعة فلا رضاعة، وروي
عن قتادة أنه قال: «هذه الآية تضمنت فرض الإرضاع على الوالدات،
ثم يسر ذلك وخفف بالتخيير الذي في قوله: لِمَنْ أَرادَ.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول متداع.
قول عز وجل:
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا
تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ
وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ الْمَوْلُودِ لَهُ اسم جنس
وصنف من الرجال، والرزق في هذا الحكم الطعام الكافي، وقوله
بِالْمَعْرُوفِ يجمع حسن القدر في الطعام وجودة الأداء له وحسن
الاقتضاء من المرأة، ثم بين تعالى أن الإنفاق على قدر غنى
الزوج ومنصبها بقوله: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها،
وقرأ جمهور الناس:
(1/311)
«تكلف» بضم التاء «نفس» على ما لم يسمّ
فاعله، وقرأ أبو رجاء «تكلّف» بفتح التاء بمعنى تتكلف «نفس»
فاعله، وروى عنه أبو الأشهب «لا نكلّف» بالنون «نفسا» بالنصب،
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبان عن عاصم «لا تضار والدة» بالرفع
في الراء، وهو خبر معناه الأمر، ويحتمل أن يكون الأصل «تضارر»
بكسر الراء الأولى فوالدة فاعل، ويحتمل أن يكون «تضارر» بفتح
الراء الأولى فوالدة مفعول لم يسم فاعله، ويعطف مولود له على
هذا الحد في الاحتمالين، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم لا
تُضَارَّ بفتح الراء المشددة، وهذا على النهي، ويحتمل أصله ما
ذكرنا في الأولى، ومعنى الآية في كل قراءة: النهي عن أن تضار
الوالدة زوجها المطلق بسبب ولدها، وأن يضارها هو بسبب الولد،
أو يضار الظئر، لأن لفظة نهيه تعم الظئر، وقد قال عكرمة في
قوله: لا تُضَارَّ والِدَةٌ: معناه الظئر، ووجوه الضرر لا
تنحصر، وكل ما ذكر منها في التفاسير فهو مثال. وروي عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ «لا تضارر» براءين الأولى مفتوحة.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «لا تضار» بإسكان الراء وتخفيفها،
وروي عنه الإسكان والتشديد، وروي عن ابن عباس «لا تضارر» بكسر
الراء الأولى.
واختلف العلماء في معنى قوله تعالى: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ
ذلِكَ. فقال قتادة والسدي والحسن وعمر بن الخطاب رضي الله عنه
وغيرهم: هو وارث الصبي إن لو مات، قال بعضهم: وارثه من الرجال
خاصة يلزمه الإرضاع كما كان يلزم أبا الصبي لو كان حيا، وقاله
مجاهد وعطاء، وقال قتادة أيضا وغيره: هو وارث الصبي من كان من
الرجال والنساء، ويلزمهم إرضاعه على قدر مواريثهم منه. وحكى
الطبري عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن أنهم قالوا:
الوارث الذي يلزمه إرضاع المولود هو وليه ووارثه إذا كان ذا
رحم محرم منه، فإن كان ابن عم وغيره وليس بذي رحم محرم فلا
يلزمه شيء.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا القول تحكم، وقال قبيصة بن ذؤيب
والضحاك وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز: الوارث هو الصبي
نفسه، أي عليه في ماله إذا ورث أباه إرضاع نفسه، وقال سفيان
رحمه الله: «الوارث هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر
منهما» ويرى مع ذلك إن كانت الوالدة هي الباقية أن يشاركها
العاصب في إرضاع المولود على قدر حظه من الميراث. ونص هؤلاء
الذين ذكرت أقوالهم على أن المراد بقوله تعالى: مِثْلُ ذلِكَ
الرزق والكسوة، وذكر ذلك أيضا من العلماء إبراهيم النخعي وعبيد
الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود والشعبي والحسن وابن عباس
وغيرهم. وقال مالك رحمه الله في المدونة وجميع أصحابه والشعبي
أيضا والزهري والضحاك وجماعة من العلماء: المراد بقوله مِثْلُ
ذلِكَ أن لا يضار، وأما الرزق والكسوة فلا شيء عليه منه، وروى
ابن القاسم عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على
الوارث ثم نسخ ذلك.
قال القاضي أبو محمد: فالإجماع من الأمة في أن لا يضار الوارث،
والخلاف هل عليه رزق وكسوة أم لا؟، وقرأ يحيى بن يعمر «وعلى
الورثة مثل ذلك» بالجمع.
قوله عز وجل:
(1/312)
وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ
أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ
نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا
وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ
ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا
وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ
تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا
سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
[سورة البقرة (2) : الآيات 233 الى 234]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ
لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ
نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا
مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ
فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا
جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا
أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما
آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ
فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (234)
الضمير في أَرادا للوالدين، وفِصالًا معناه «فطاما» عن الرضاع،
ولا يقع التشاور ولا يجوز التراضي إلا بما لا ضرر فيه على
المولود، فإذا ظهر من حاله الاستغناء عن اللبن قبل تمام
الحولين فلا جناح على الأبوين في فصله، هذا معنى الآية، وقاله
مجاهد وقتادة وابن زيد وسفيان وغيرهم، وقال ابن عباس: «لا جناح
مع التراضي في فصله قبل الحولين وبعدهما» .
قال القاضي أبو محمد: وتحرير القول في هذا أن فصله قبل الحولين
لا يصح إلا بتراضيهما وأن لا يكون على المولود ضرر، وأما بعد
تمامهما فمن دعا إلى الفصل فذلك له إلا أن يكون في ذلك على
الصبي ضرر، وقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ
تَسْتَرْضِعُوا مخاطبة لجميع الناس تجمع الآباء والأمهات، أي
لهم اتخاذ الظئر مع الاتفاق على ذلك، وأما قوله تعالى: إِذا
سَلَّمْتُمْ فمخاطبة للرجال خاصة، إلا على أحد التأويلين في
قراءة من قرأ «أتيتم» ، وقرأ الستة من السبعة «آتيتم» بالمد،
المعنى أعطيتم، وقرأ ابن كثير «أتيتم» بمعنى ما جئتم وفعلتم
كما قال زهير: [الطويل] .
وما كان من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل
قال أبو علي: «المعنى إذا سلمتم ما أتيتم نقده أو إعطاءه أو
سوقه، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه فكان التقدير ما
أتيتموه، ثم حذف الضمير من الصلة» .
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل اللفظ معنى آخر قاله قتادة، وهو
إذا سلمتم ما أتيتم من إرادة الاسترضاع، أي سلم كل واحد من
الأبوين ورضي وكان ذلك عن اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف
من الأمر. وعلى هذا الاحتمال: فيدخل في الخطاب ب سَلَّمْتُمْ
الرجال والنساء، وعلى التأويل الذي ذكره أبو علي وغيره:
فالخطاب للرجال، لأنهم الذين يعطون أجر الرضاع، قال أبو علي:
ويحتمل أن تكون ما مصدرية، أي إذا سلمتم الإتيان، والمعنى
كالأول، لكن يستغنى عن الصنعة من حذف المضاف، ثم حذف الضمير،
قال مجاهد: «المعنى إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما
أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع» ، وقال سفيان: «المعنى إذا
سلمتم إلى المسترضعة وهي الظئر أجرها بالمعروف» . وباقي الآية
أمر بالتقوى وتوقيف على أن الله تعالى بصير بكل عمل، وفي هذا
وعيد وتحذير، أي فهو مجاز بحسب عملكم.
قوله عز وجل:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً
قال بعض نحاة الكوفيين: الخبر عن الَّذِينَ متروك والقصد
الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن، ومذهب نحاة البصرة أن خبر
الَّذِينَ مترتب بالمعنى، وذلك أن الكلام إنما تقديره يتربص
أزواجهم، وإن شئت قدرته. وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن،
فجاءت العبارة في غاية الإيجاز، وإعرابها مترتب على
(1/313)
هذا المعنى المالك لها المتقرر فيها، وحكى
المهدوي عن سيبويه أن المعنى: وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون،
ولا أعرف هذا الذي حكاه لأن ذلك إنما يتجه إذا كان في الكلام
لفظ أمر بعد. مثل قوله:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما
[المائدة: 38] ، وهذه الآية فيها معنى الأمر لا لفظه فيحتاج مع
هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر، وحسن
مجيء الآية هكذا أنها توطئة لقوله: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ، إذ
القصد بالمخاطبة من أول الآية إلى آخرها الرجال الذين منهم
الحكام والنظرة، وعبارة المبرد والأخفش ما ذكرناه، وهذه الآية
هي في عدة المتوفى عنها زوجها، وظاهرها العموم ومعناها الخصوص
في الحرائر غير الحوامل ولم تعن الآية لما يشذ من مرتابة
ونحوها، وحكى المهدوي عن بعض العلماء أن الآية تناولت الحوامل
ثم نسخ ذلك بقوله: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ [الطلاق: 4] ، وعدة
الحامل وضع حملها عند جمهور العلماء، وروي عن علي بن أبي طالب
وابن عباس وغيرهما أن تمام عدتها آخر الأجلين، والتربص الصبر
والتأني بالشخص في مكان أو حال، وقد بين تعالى ذلك بقوله:
بِأَنْفُسِهِنَّ، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
متظاهرة أن التربص بإحداد وهو الامتناع عن الزينة ولبس المصبوغ
الجميل والطيب ونحوه، والتزام المبيت في مسكنها حيث كانت وقت
وفاة الزوج. وهذا قول جمهور العلماء وهو قول مالك وأصحابه.
وقال ابن عباس وأبو حنيفة فيما روي عنه وغيرهما: ليس المبيت
بمراعى، تبيت حيث شاءت. وقال الحسن بن أبي الحسن: «ليس الإحداد
بشيء، إنما تتربص عن الزواج، ولها أن تتزين وتتطيب» .
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف. وقرأ جمهور الناس «يتوفون»
بضم الياء، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه «يتوفون» بفتح
الياء، وكذلك روى المفضل عن عاصم، ومعناه يستوفون آجالهم، وجعل
الله الأربعة الأشهر والعشر عبادة في العدة فيها استبراء
للحمل، إذا فيها تكمل الأربعون والأربعون والأربعون، حسب
الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره ثم ينفخ الروح، وجعل الله
تعالى العشر تكملة إذ هي مظنة لظهور الحركة بالجنين وذلك لنقص
الشهور أو كمالها ولسرعة حركة الجنين أو إبطائها، قاله سعيد بن
المسيب وأبو العالية وغيرهما، وقال تعالى: عَشْراً، ولم يقل
عشرة تغليبا لحكم الليالي إذ الليلة أسبق من اليوم والأيام في
ضمنها، وعشر أخف في اللفظ. قال جمهور أهل العلم: ويدخل في ذلك
اليوم العاشر وهو من العدة لأن الأيام مع الليالي، وحكى منذر
بن سعيد- وروي أيضا عن الأوزاعي-: أن اليوم العاشر ليس من
العدة بل انقضت بتمام عشر ليال، قال المهدوي: «وقيل المعنى
وعشر مدد كل مدة من يوم وليلة» ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ
«أربعة أشهر وعشر ليال» .
قوله عز وجل:
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا..........
أضاف تعالى الأجل إليهنّ إذ هو محدود مضروب في أمرهن،
والمخاطبة بقوله فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ عامة لجميع الناس،
والتلبس بهذا الحكم هو للحكام والأولياء اللاصقين والنساء
المعتدات، وقوله عز وجل فِيما فَعَلْنَ يريد به التزوج فما
دونه من التزين واطراح الإحداد. قال مجاهد وابن شهاب وغيرهما:
أراد
(1/314)
وَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ
أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ
سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا
إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا
عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ
فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
بما فعلن النكاح لمن أحببن إذا كان معروفا
غير منكر.
قال القاضي أبو محمد: ووجوه المنكر في هذا كثيرة، وقال بعض
المفسرين: بِالْمَعْرُوفِ معناه بالإشهاد، وقوله تعالى:
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وعيد يتضمن التحذير.
وخَبِيرٌ اسم فاعل من خبر إذا تقصى علم الشيء.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 235]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ
النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ
أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ
سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ
أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي
أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
حَلِيمٌ (235)
المخاطبة بهذه الآية لجميع الناس، والمباشر لحكمها هو الرجل
الذي في نفسه تزويج معتدة، والتعريض هو الكلام الذي لا تصريح
فيه كأنه يعرض لفكر المتكلم به، وأجمعت الأمة على أن الكلام مع
المعتدة بما هو نص في تزويجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك
أجمعت على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه
لا يجوز. وجوز ما عدا ذلك، ومن أعظمه قربا إلى التصريح قول
النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: «كوني عند أم شريك
ولا تسبقيني بنفسك» . ومن المجوز قول الرجل:
إنك لإلى خير، وإنك لمرغوب فيك، وإني لأرجو أن أتزوجك، وإن
يقدر أمر يكن، هذا هو تمثيل مالك وابن شهاب وكثير من أهل العلم
في هذا، وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على جهة التعريض
بالزواج، وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين، واحتج بأن
النبي صلى الله عليه وسلم فعله مع أم سلمة، والهدية إلى
المعتدة جائزة، وهي من التعريض، قاله سحنون وكثير من العلماء.
قال القاضي أبو محمد: وقد كره مجاهد أن يقول لا تسبقيني بنفسك،
ورآه من المواعدة سرا، وهذا عندي على أن يتأول قول النبي صلى
الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس إنه على جهة الرأي لها فيمن
يتزوجها لا أنه أرادها لنفسه، وإلا فهو خلاف لقوله صلى الله
عليه وسلم، والخطبة بكسر الخاء فعل الخاطب من كلام وقصد
واستلطاف بفعل أو قول، يقال خطبها يخطبها خطبا وخطبة ورجل
خطّاب كثير التصرف في الخطبة، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
برح بالعينين خطّاب الكثب ... يقول إني خاطب وقد كذب
وإنما يخطب عسا من حلب والخطبة «فعلة» كجلسة «وقعدة» ، والخطبة
بضم الخاء هي الكلام الذي يقال في النكاح وغيره، أَوْ
أَكْنَنْتُمْ معناه سترتم وأخفيتم، تقول العرب: كننت الشيء من
الأجرام، إذا سترته في بيت أو ثوب أو أرض ونحوه، وأكننت الأمر
في نفسي، ولم يسمع من العرب كننته في نفسي، وتقول أكن البيت
الإنسان ونحو هذا، فرفع الله الجناح عمن أراد تزوج المعتدة مع
التعريض ومع الإكنان، ونهى عن المواعدة التي هي تصريح بالتزويج
وبناء عليه واتفاق على وعد، فرخص لعلمه تعالى بغلبة النفوس
وطمحانها وضعف البشر عن ملكها، وقوله تعالى
سَتَذْكُرُونَهُنَّ، قال الحسن: معناه ستخطبونهن.
(1/315)
قال القاضي أبو محمد: كأنه قال إن لم
تنهوا، وقال غير الحسن: معناه علم الله أنكم ستذكرون النساء
المعتدات في نفوسكم وبألسنتكم لمن يخف عندكم فنهى عن أن يوصل
إلى التواعد معها لما في ذلك من هتك حرمة العدة، وقوله تعالى:
وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا ذهب ابن عباس وابن جبير
ومالك وأصحابه والشعبي ومجاهد وعكرمة والسدي وجمهور أهل العلم
إلى أن المعنى لا توافقوهن بالمواعدة والتوثق وأخذ العهود في
استسرار منكم وخفية، ف سِرًّا على هذا التأويل نصب على الحال
أي مستسرين. وقال جابر بن زيد وأبو مجلز لاحق بن حميد والحسن
بن أبي الحسن والضحاك وإبراهيم النخعي: السر في هذه الآية
الزنا أي لا تواعدوهن زنى.
قال القاضي أبو محمد: هكذا جاءت عبارة هؤلاء في تفسير السر وفي
ذلك عندي نظر، وذلك أن السر في اللغة يقع على الوطء حلاله
وحرامه، لكن معنى الكلام وقرينته ترد إلى أحد الوجهين، فمن
الشواهد قول الحطيئة: [الوافر]
ويحرم سرّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع
فقرينة هذا البيت تعطي أن السر أراد به الوطء حراما، وإلا فلو
تزوجت الجارة كما يحسن لم يكن في ذلك عار، ومن الشواهد قول
الآخر: [الطويل]
أخالتنا سرّ النّساء محرّم ... عليّ، وتشهاد النّدامى مع الخمر
لئن لم أصبّح داهنا ولفيفها ... وناعبها يوما براغية البكر
فقرينة هذا الشعر تعطي أنه أراد تحريم جماع النساء عموما في
حرام وحلال حتى ينال ثأره، والآية تعطي النهي عن أن يواعد
الرجل المعتدة أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج، وأما المواعدة
في الزنى فمحرم على المسلم مع معتدة وغيرها، وحكى مكي عن ابن
جبير أنه قال: «سرا: نكاحا» ، وهذه عبارة مخلصة، وقال ابن زيد:
«معنى قوله وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي لا تنكحوهن
وتكتمون ذلك فإذا حلت أظهر تموه ودخلتم بهن» .
قال القاضي أبو محمد: فابن زيد في معنى السر مع القول الأول أي
خفية، وإنما شذ في أن سمى العقد مواعدة، وذلك قلق لأن العقد
متى وقع وإن تكتم به فإنما هو في عزم العقدة، وحكى مكي عنه أنه
قال: «الآية منسوخة بقوله: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ
وأجمعت الأمة على كراهية المواعدة في العدة للمرأة في نفسها،
وللأب في ابنته البكر، وللسيد في أمته، قال ابن المواز: «فأما
الولي الذي لا يملك الجبر فأكرهه، وإن نزل لم أفسخه» ، وقال
مالك رحمه الله فيمن يواعد في العدة ثم يتزوج بعدها: «فراقها
أحب إليّ دخل بها أو لم يدخل وتكون تطليقة واحدة، فإذا حلت
خطبها مع الخطاب» ، هذه رواية ابن وهب، وروى أشهب عن مالك أنه
يفرق بينهما إيجابا، وقاله ابن القاسم، وحكى ابن حارث مثله عن
ابن الماجشون، وزاد ما يقتضي أن التحريم يتأبد، وقوله تعالى:
إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً استثناء منقطع،
والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض، وقد ذكر الضحاك أن من
القول المعروف أن يقول الرجل للمعتدة احبسي عليّ نفسك فإن لي
بك رغبة، فتقول هي وأنا مثل ذلك.
(1/316)
قال القاضي أبو محمد: وهذه عندي مواعدة،
وإنما التعريض قول الرجل: إنكم لأكفاء كرام، وما قدر كان، وإنك
لمعجبة، ونحو هذا.
عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي، وحينئذ تسمى عُقْدَةَ،
وقوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ يريد تمام
العدة، والْكِتابُ هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من
المدة، سماه كتابا إذ قد حده وفرضه كتاب الله، كما قال: كِتابَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: 24] ، وكما قال: إِنَّ الصَّلاةَ
كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النساء: 103]
، ولا يحتاج عندي في الكلام إلى حذف مضاف، وقد قدر أبو إسحاق
في ذلك حذف مضاف أي فرض الكتاب، وهذا على أن جعل الكتاب
القرآن، واختلف أهل العلم إن خالف أحد هذا النهي وعزم العقدة
قبل بلوغ الأجل.
قال القاضي أبو محمد: وأنا أفصل المسألة إن شاء الله تعالى،
أما إن عقد في العدة وعثر عليه ففسخ الحاكم نكاحه وذلك قبل
الدخول: فقول عمر بن الخطاب وجماعة من العلماء إن ذلك لا يؤبد
تحريما، وقاله مالك وابن القاسم في المدونة في آخر الباب الذي
يليه ضرب أجل امرأة المفقود، وقال الجميع:
يكون خاطبا من الخطّاب، وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أن
التحريم يتأبد في العقد في العدة وإن فسخ قبل الدخول، وأما إن
عقد في العدة ودخل بعد انقضائها فقال قوم من أهل العلم: ذلك
كالدخول في العدة يتأبد التحريم بينهما، وقال قوم من أهل
العلم: لا يتأبد بذلك تحريم، وقال مالك مرة: يتأبد التحريم،
وقال مرة: وما التحريم بذلك بالبين، والقولان له في المدونة في
طلاق السنة، وأما إن دخل في العدة فقول عمر بن الخطاب ومالك
وجماعة من أصحابه والأوزاعي والليث وغيرهم من أهل العلم: إن
التحريم يتأبد، وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود
وإبراهيم وأبي حنيفة والشافعي وجماعة من العلماء وعبد العزيز
بن أبي سلمة: إن التحريم لا يتأبد وإن وطئ في العدة، بل يفسخ
بينهما ثم تعتد منه ثم يكون خاطبا من الخطاب، قال أبو حنيفة
والشافعي: تعتد من الأول فإذا انقضت العدة فلا بأس أن يتزوجها
الآخر، وحكى ابن الجلاب رواية في المذهب أن التحريم لا يتأبد
مع الدخول في العدة، ذكرها في العالم بالتحريم المجترئ لأنه
زان، وأما الجاهل فلا أعرف فيها خلافا في المذهب.
حدثني أبو علي الحسين بن محمد الغساني مناولة، قال نا أبو عمر
بن عبد البر، نا عبد الوارث بن سفيان، نا قاسم بن أصبغ، عن
محمد بن إسماعيل، عن نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن أشعث،
عن الشعبي، عن مسروق، قال: بلغ عمر بن الخطاب أن امرأة من قريش
تزوجها رجل من ثقيف في عدتها، فأرسل إليهما ففرق بينهما
وعاقبهما، وقال: «لا تنكحها أبدا» . وجعل صداقها في بيت المال،
وفشا ذلك في الناس، فبلغ عليا فقال: «يرحم الله أمير المؤمنين،
ما
(1/317)
لَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ
تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً
وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى
الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ (236)
بال الصداق وبيت المال؟ إنما جهلا فينبغي
للإمام أن يردهما إلى السنة» ، قيل: فما تقول أنت فيها؟.
قال: لها الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما، ولا حد
عليهما، وتكمل عدتها من الأول، ثم تعتد من الثاني عدة كاملة
ثلاثة أقراء، ثم يخطبها إن شاء» ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فخطب
الناس فقال: «يا أيها الناس ردوا الجهالات إلى السنة» ، وهذا
قول الشافعي والليث في العدة من اثنين، وقال مالك وأصحاب الرأي
والأوزاعي والثوري: عدة واحدة تكفيهما جميعا سواء كانت بالحمل
أو بالإقراء أو بالأشهر، وروى المدنيون عن مالك مثل قول علي بن
أبي طالب والشافعي في إكمال العدتين، واختلف قول مالك رحمه
الله في الذي يدخل في العدة عالما بالتحريم مجترما، فمرة قال:
العالم والجاهل فيه سواء لا حد عليه، والصداق له لازم، والولد
لاحق، ويعاقبان ولا يتناكحان أبدا، ومرة قال: العالم بالتحريم
كالزاني يحد، ولا يلحق به الولد، وينكحها بعد الاستبراء،
والقول الأول أشهر عن مالك رحمه الله.
وقوله تعالى وَاعْلَمُوا إلى آخر الآية: تحذير من الوقوع فيما
نهى عنه، وتوقيف على غفره وحلمه في هذه الأحكام التي بيّن
ووسّع فيها من إباحة التعريض ونحوه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 236]
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ
تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً
وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى
الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ (236)
هذا ابتداء إخبار برفع الجناح عن المطلق قبل البناء والجماع،
فرض مهرا أو لم يفرض، ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن التزوج لمعنى الذوق وقضاء الشهوة وأمر بالتزوج طلبا للعصمة
والتماس ثواب الله وقصد دوام الصحبة وقع في نفوس المؤمنين أن
من طلق قبل البناء قد واقع جزءا من هذا المكروه، فنزلت الآية
رافعة للجناح في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن،
وقال قوم: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ معناه لا طلب بجميع المهر بل
عليكم نصف المفروض لمن فرض لها والمتعة لمن لم يفرض لها، وقال
قوم: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ معناه في أن ترسلوا الطلاق في وقت
حيض بخلاف المدخول بها، وقال مكي: «المعنى لا جناح عليكم في
الطلاق قبل البناء لأنه قد يقع الجناح على المطلق بعد أن كان
قاصدا للذوق، وذلك مأمون قبل المسيس» ، والخطاب بالآية لجميع
الناس، وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر
«تمسوهن» بغير ألف، وقرأ الكسائي وحمزة «تماسوهن» بألف وضم
التاء، وهذه القراءة الأخيرة تعطي المس من الزوجين، والقراءة
الأولى تقتضي ذلك بالمعنى المفهوم من المس، ورجحها أبو علي لأن
أفعال هذا المعنى جاءت ثلاثية على هذا الوزن: نكح وسفد وقرع
وذقط وضرب الفحل، والقراءتان حسنتان، وتَفْرِضُوا عطف على
«تمسوا» ، وفرض المهر إثباته وتحديده، وهذه الآية تعطي جواز
العقد على التفويض لأنه نكاح مقرر في الآية مبين حكم الطلاق
فيه، قاله مالك في المدونة، والفريضة الصداق، وقوله تعالى
وَمَتِّعُوهُنَّ معناه أعطوهن شيئا يكون متاعا لهن، وحمله ابن
عمر وعلي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير وأبو
قلابة والزهري وقتادة والضحاك بن
(1/318)
مزاحم على الوجوب، وحمله أبو عبيد ومالك بن
أنس وأصحابه وشريح وغيرهم على الندب، ثم اختلفوا في الضمير
المتصل ب «متعوا» من المراد به من النساء؟، فقال ابن عباس وابن
عمر وعطاء وجابر بن زيد والحسن والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب
الرأي: المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء والفرض، ومندوبة في
غيرها، وقال مالك وأصحابه: المتعة مندوب إليها في كل مطلقة وإن
دخل بها إلا في التي لم يدخل بها وقد فرض لها، فحسبها ما فرض
لها، ولا متعة لها، وقال أبو ثور: لها المتعة ولكل مطلقة،
وأجمع أهل العلم على أن التي لم يفرض لها ولم يدخل بها لا شيء
لها غير المتعة، فقال الزهري: يقضي لها بها القاضي، وقال جمهور
الناس: لا يقضي بها، قاله شريح، ويقال للزوج: إن كنت من
المتقين والمحسنين فمتع ولم يقض عليه.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا مع إطلاق لفظ
الوجوب عند بعضهم، وأما ربط مذهب مالك فقال ابن شعبان: المتعة
بإزاء غم الطلاق ولذلك ليس للمختلعة والمبارئة والملاعنة متعة،
وقال الترمذي وعطاء والنخعي: للمختلعة متعة، وقال أصحاب الرأي:
للملاعنة متعة، قال ابن القاسم: ولا متعة في نكاح مفسوخ، قال
ابن المواز: ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد مثل ملك أحد
الزوجين صاحبه، وروى ابن وهب عن مالك أن المخيرة لها المتعة
بخلاف الأمة تعتق تحت العبد فتختار، فهذه لا متعة لها، وأما
الحرة تخير أو تملك أو يتزوج عليها أمة فتختار هي نفسها في ذاك
كله فلها المتعة، لأن الزوج سبب الفراق، وعليها هي غضاضة في أن
لا تختار نفسها.
واختلف الناس في مقدار المتعة، فقال ابن عمر: «أدنى ما يجزىء
في المتعة ثلاثون درهما أو شبهها» ، وروي أن ابن حجيرة كان
يقضي على صاحب الديوان بثلاثة دنانير، وقال ابن عباس: «أرفع
المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة» ، وقال عطاء: «من أوسط ذلك درع
وخمار وملحفة» ، وقال الحسن: «يمتع كل على قدره: هذا بخادم،
وهذا بأثواب، وهذا بثوب وهذا بنفقة» ، وكذلك يقول مالك بن أنس،
ومتع الحسن بن علي بعشرين ألفا وزقاق من عسل، ومتع شريح
بخمسمائة درهم، وقالت أم حميد بن عبد الرحمن بن عوف: «كأني
أنظر إلى خادم سوداء متع بها عبد الرحمن بن عوف زوجه أم أبي
سلمة» ، وقال أصحاب الرأي وغيرهم: متعة التي تطلق قبل الدخول
والفرض نصف مهر مثلها لا غير، وقوله تعالى عَلَى الْمُوسِعِ
قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ دليل على رفض التحديد،
وقرأ الجمهور «على الموسع» بسكون الواو وكسر السين بمعنى الذي
أوسع أي اتسعت حاله، وقرأ أو حيوة: «الموسّع» بفتح الواو وشد
السين وفتحها، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية
أبي بكر «قدره» بسكون الدال في الموضعين، وقرأ ابن عامر وحمزة
والكسائي وعاصم في رواية حفص «قدره» بفتح الدال فيهما، قال أبو
الحسن الأخفش وغيره: هما بمعنى لغتان فصيحتان، وكذلك حكى أبو
زيد، تقول: خذ قدر كذا وقدر كذا بمعنى، ويقرأ في كتاب الله
فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرعد: 17] وقدرها، وقال:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: 91] ، ولو
حركت الدال لكان جائزا، والْمُقْتِرِ: المقل القليل المال،
ومَتاعاً نصب على المصدر وقوله تعالى بِالْمَعْرُوفِ أي لا حمل
فيه ولا تكلف على أحد الجانبين، فهو تأكيد لمعنى قوله عَلَى
الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، ثم أكد
تعالى الندب بقوله حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ أي في هذه
(1/319)
وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا
أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ
النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا
تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
النازلة من التمتيع هم محسنون، ومن قال بأن
المتعة واجبة قال: هذا تأكيد الوجوب، أي على المحسنين بالإيمان
والإسلام، فليس لأحد أن يقول لست بمحسن على هذا التأويل،
وحَقًّا صفة لقوله مَتاعاً، أو نصب على المصدر وذلك أدخل في
التأكيد للأمر.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 237]
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ
إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا
تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
اختلف الناس في هذه الآية، فقالت فرقة فيها مالك وغيره: إنها
مخرجة المطلقة بعد الفرض من حكم التمتيع، إذ يتناولها قوله
تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ، وقال ابن المسيب: نسخت هذه الآية
الآية التي في الأحزاب، لأن تلك تضمنت تمتيع كل من لم يدخل
بها. وقال قتادة: نسخت هذه الآية الآية التي قبلها.
وقال ابن القاسم في المدونة: كان المتاع لكل مطلقة بقوله تعالى
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:
241] ولغير المدخول بها بالآية التي في سورة الأحزاب، الآية:
49 فاستثنى الله المفروض لها قبل الدخول بهذه الآية، وأثبت
للمفروض لها نصف ما فرض فقط، وزعم زيد بن أسلم أنها منسوخة
بهذه الآية، حكى ذلك في المدونة عن زيد بن أسلم زعما، وقال ابن
القاسم: إنه استثناء، والتحرير برد ذلك إلى النسخ الذي قال
زيد، لأن ابن القاسم قال: إن قوله تعالى وَلِلْمُطَلَّقاتِ
مَتاعٌ [البقرة: 241] عم الجميع، ثم استثنى الله منه هذه التي
فرض لها قبل المسيس، وقال فريق من العلماء منهم أبو ثور:
المتعة لكل مطلقة عموما، وهذه الآية إنما بينت أن المفروض لها
تأخذ نصف ما فرض، ولم تعن الآية لإسقاط متعتها بل لها المتعة
ونصف المفروض، وقرأ الجمهور «فنصف» بالرفع، والمعنى فالواجب
نصف ما فرضتم، وقرأت فرقة «فنصف» بنصب الفاء، المعنى فادفعوا
نصف، وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت «فنصف» بضم النون في
جميع القرآن، وهي لغة، وكذلك روى الأصمعي قراءة عن أبي عمرو بن
العلاء، وقوله تعالى إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ استثناء منقطع لأن
عفوهن عن النصف ليس من جنس أخذهن، ويَعْفُونَ معناه يتركن
ويصفحن، وزنه يفعلن، والمعنى إلا أن يتركن النصف الذي وجب لهن
عند الزوج، والعافيات في هذه الآية كل امرأة تملك أمر نفسها.
وقال ابن عباس وجماعة من الفقهاء والتابعين:
ويجوز عفو البكر التي لا ولي لها، وحكاه سحنون في المدونة عن
غير ابن القاسم بعد أن ذكر لابن القاسم أن وضعها نصف الصداق لا
يجوز، وأما التي في حجر أب وصي فلا يجوز وضعها لنصف صداقها
قولا واحدا فيما أحفظ.
واختلف الناس في المراد بقوله تعالى أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ فقال ابن عباس وعلقمة وطاوس
ومجاهد وشريح والحسن وإبراهيم والشعبي وأبو صالح وعكرمة
والزهري ومالك وغيرهم: هو الولي الذي المرأة في حجره، فهو الأب
في ابنته التي لم تملك أمرها، والسيد في أمته، وأما شريح فإنه
(1/320)
جوز عفو الأخ عن نصف المهر، وقال وأنا أعفو
عن مهور بني مرة وإن كرهن، وكذلك قال عكرمة: يجوز عفو الذي عقد
عقدة النكاح بينهما، كان عما أو أخا أو أبا وإن كرهت، وقالت
فرقة من العلماء: الذي بيده عقدة النكاح الزوج، قاله علي بن
أبي طالب وقاله ابن عباس أيضا، وشريح أيضا رجع إليه، وقاله
سعيد ابن جبير وكثير من فقهاء الأمصار، فعلى القول الأول:
الندب لهما هو في النصف الذي يجب للمرأة فإما أن تعفو هي وإما
أن يعفو وليها، وعلى القول الثاني: فالندب في الجهتين إما أن
تعفو هي عن نصفها فلا تأخذ من الزوج شيئا، وإما أن يعفو الزوج
عن النصف الذي يحط فيؤدي جميع المهر، وهذا هو الفضل منهما،
وبحسب حال الزوجين يحسن التحمل والتجمل، ويروى أن جبير بن مطعم
دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه ابنة له فتزوجها، فلما خرج
طلقها وبعث إليه بالصداق، فقيل له: لم تزوجتها؟، فقال: عرضها
علي فكرهت رده، قيل: فلم تبعث بالصداق؟ قال: فأين الفضل؟
قال القاضي أبو محمد: ويحتج القائلون بأن الذي بيده عقدة
النكاح هو الزوج، بأن هذا الولي لا يجوز له ترك شيء من صداقها
قبل الطلاق فلا فرق بعد الطلاق. وأيضا فإنه لا يجوز له ترك شيء
من مالها الذي ليس من الصداق فماله يترك نصف الصداق؟ وأيضا
فإنه إذا قيل إنه الولي فما الذي يخصص بعض الأولياء دون بعض
وكلهم بيده عقدة النكاح وإن كان كافلا أو وصيا أو الحاكم أو
الرجل من العشيرة؟، ويحتج من يقول إنه الولي الحاجر بعبارة
الآية، لأن قوله الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ عبارة
متمكنة في الولي، وهي في الزوج قلقة بعض القلق، وليس الأمر في
ذلك كما قال الطبري ومكي من أن المطلق لا عقدة بيده بل نسبة
العقدة إليه باقية من حيث كان عقدها قبل، وأيضا فإن قوله
إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ لا تدخل فيه من لا تملك أمرها لأنها لا
عفو لها فكذلك لا يغبن النساء بعفو من يملك أمر التي لا تملك
أمرها، وأيضا فإن الآية إنما هي ندب إلى ترك شيء قد وجب في مال
الزوج، يعطي ذلك لفظ العفو الذي هو الترك والاطراح وإعطاء
الزوج المهر كاملا لا يقال فيه عفو، إنما هو انتداب إلى فضل،
اللهم إلا أن تقدر المرأة قد قبضته، وهذا طار لا يعتد به، قال
مكي: وأيضا فقد ذكر الله الأزواج في قوله فَنِصْفُ ما
فَرَضْتُمْ ثم ذكر الزوجات بقوله يَعْفُونَ، فكيف يعبر عن
الأزواج بعد بالذي بيده عقدة النكاح بل هي درجة ثالثة لم يبق
لها إلا الولي.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وفي هذا نظر، وقرأ
الجمهور «أو يعفو» بفتح الواو لأن الفعل منصوب، وقرأ الحسن بن
أبي الحسن «أو يعفو الذي» بواو ساكنة، قال المهدوي: ذلك على
التشبيه بالألف، ومنه قول عامر بن الطفيل: [الطويل]
فما سوّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والذي عندي أنه
استثقل الفتحة على واو متطرفة قبلها متحرك لقلة مجيئها في كلام
العرب، وقد قال الخليل رحمه الله: لم يجىء في الكلام واو
مفتوحة متطرفة قبلها فتحة إلا في قولهم عفوة وهو جمع عفو وهو
ولد الحمار، وكذلك الحركة ما كانت قبل الواو المفتوحة فإنها
ثقيلة، ثم خاطب تعالى الجميع نادبا بقوله وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي يا جميع الناس، وهذه قراءة الجمهور
بالتاء باثنتين من فوق، وقرأ أبو نهيك والشعبي «وأن يعفو»
بالياء، وذلك راجع إلى
(1/321)
حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ (238)
الذي بيده عقدة النكاح، وقرأ الجمهور «ولا
تنسوا الفضل» ، وقرأ علي بن أبي طالب ومجاهد وأبو حيوة وابن
أبي عبلة «ولا تناسوا الفضل» ، وهي قراءة متمكنة المعنى لأنه
موضع تناس لا نسيان إلا على التشبيه، وقوله تعالى وَلا
تَنْسَوُا الْفَضْلَ ندب إلى المجاملة، قال مجاهد: الفضل إتمام
الزوج الصداق كله أو ترك المرأة النصف الذي لها، وقوله إِنَّ
اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خبر في ضمنه الوعد للمحسن
والحرمان لغير المحسن.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 238]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا
لِلَّهِ قانِتِينَ (238)
الخطاب لجميع الأمة، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات
في أوقاتها وبجميع شروطها، وذكر تعالى الصَّلاةِ الْوُسْطى
ثانية وقد دخلت قبل في عموم قوله الصَّلَواتِ لأنه قصد تشريفها
وإغراء المصلين بها، وقرأ أبو جعفر الرؤاسي «والصلاة الوسطى»
بالنصب على الإغراء، وقرأ كذلك الحلواني.
واختلف الناس في أي صلاة هو هذا الوصف، فذهبت فرقة إلى أنها
الصبح وأن لفظ «وسطى» يراد به الترتيب، لأنها قبلها صلاتا ليل
يجهر فيهما، وبعدها صلاتا نهار يسر فيهما، قال هذا القول علي
بن أبي طالب، وابن عباس، وصلى بالناس يوما الصبح فقنت قبل
الركوع فلما فرغ قال: «هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا الله أن
نقوم فيها قانتين» ، وقاله أبو العالية ورواه عن جماعة من
الصحابة، وقاله جابر بن عبد الله وعطاء بن أبي رباح وعكرمة
ومجاهد وعبد الله بن شداد بن الهاد والربيع ومالك بن أنس. وقوى
مالك ذلك بأن الصبح لا تجمع إلى غيرها، وصلاتا جمع قبلها
وصلاتا جمع بعدها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو
يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا» ، وقال: «إنهما
أشدّ الصلوات على المنافقين» ، وفضل الصبح لأنها كقيام ليلة
لمن شهدها والعتمة نصف ليلة، وقال الله تعالى إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء: 78] ، فيقوي هذا كله أمر
الصبح.
وقالت فرقة: هي صلاة الظهر. قاله زيد بن ثابت ورفع فيه حديثا
عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقاله أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر. واحتج قائلو هذه
المقالة بأنها أول صلاة صليت في الإسلام، فهي وسطى بذلك، أي
فضلى، فليس هذا التوسط في الترتيب، وأيضا فروي أنها كانت أشق
الصلوات على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لأنها كانت تجيء
في الهاجرة، وهم قد نفعتهم أعمالهم في أموالهم، وأيضا فيدل على
ذلك ما قالته حفصة وعائشة حين أملتا: حافظوا على الصلوات
والصلاة الوسطى وصلاة العصر، فهذا اقتران الظهر والعصر.
وقالت فرقة: الصَّلاةِ الْوُسْطى صلاة العصر لأنها قبلها صلاتا
نهار وبعدها صلاتا ليل، وروي هذا القول أيضا عن علي بن أبي
طالب وابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وأبي سعيد الخدري، وفي
مصحف عائشة رضي الله عنها «والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر» ،
وهو قولها المروي عنها. وقاله الحسن البصري وإبراهيم النخعي،
وفي إملاء حفصة أيضا «والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر» ، ومن
روى
(1/322)
«وصلاة العصر» فيتناول أنه عطف إحدى
الصفتين على الأخرى وهما لشيء واحد. كما تقول جاءني زيد الكريم
والعاقل، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «حافظوا على الصلوات
والصلاة الوسطى صلاة العصر» على البدل، وروى هذا القول سمرة بن
جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر الحديث عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلاة الوسطى
صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا» ، وقال علي بن أبي
طالب رضي الله عنه: «كنا نرى أنها الصبح حتى قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة
العصر. فعرفنا أنها العصر» ، وقال البراء ابن عازب: «كنا نقرأ
على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: حافظوا على الصلوات وصلاة
العصر. ثم نسخها الله، فقرأنا: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ
وَالصَّلاةِ الْوُسْطى. فقال له رجل: فهي العصر؟، قال: «قد
أخبرتك كيف قرأناها وكيف نسخت» ، والله أعلم. وروى أبو مالك
الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة الوسطى
صلاة العصر» .
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا القول جمهور الناس وبه أقوال
والله أعلم.
وقال قبيصة بن ذؤيب: «الصلاة الوسطى صلاة المغرب» ، لأنها
متوسطة في عدد الركعات ليست ثنائية ولا رباعية، وأيضا فقبلها
صلاتا سر وبعدها صلاتا جهر، وحكى أبو عمر يوسف بن عبد الله بن
عبد البر في شرح باب جامع الوقوت وغيره عن فرقة أن الصَّلاةِ
الْوُسْطى صلاة العشاء الآخرة، وذلك أنها تجيء في وقت نوم وهي
أشد الصلوات على المنافقين، ويستحب تأخيرها وذلك شاق فوقع
التأكيد في المحافظة عليها، وأيضا فقبلها صلاتان وبعدها
صلاتان.
وقالت فرقة: الصَّلاةِ الْوُسْطى لم يعينها الله تعالى لنا،
فهي في جملة الخمس غير معينة، كليلة القدر في ليالي العشر، فعل
الله ذلك لتقع المحافظة على الجميع، قاله نافع عن ابن عمر
وقاله الربيع بن خثيم.
وقالت فرقة: الصَّلاةِ الْوُسْطى هي صلاة الجمعة فإنها وسطى
فضلى، لما خصت به من الجمع والخطبة وجعلت عيدا، ذكره ابن حبيب
ومكي.
وقال بعض العلماء: الصَّلاةِ الْوُسْطى المكتوبة الخمس، وقوله
أولا عَلَى الصَّلَواتِ يعم النفل والفرض، ثم خص الفرض بالذكر،
ويجري مع هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم: «شغلونا عن
الصلاة الوسطى» .
وقوله تعالى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ معناه في صلاتكم،
واختلف الناس في معنى قانِتِينَ، فقال الشعبي: «معناه مطيعين»
، وقاله جابر بن زيد وعطاء وسعيد بن جبير، وقال الضحاك: «كل
قنوت في القرآن فإنما يعنى به الطاعة» ، وقاله أبو سعيد عن
النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أهل كل دين فهم اليوم يقومون
لله عاصمين، فقيل لهذه الأمة وقوموا لله مطيعين، وقال نحو هذا
الحسن بن أبي الحسن وطاوس، وقال السدي: «قانتين معناه ساكتين»
، وهذه الآية نزلت في المنع من الكلام في الصلاة وكان ذلك
مباحا في صدر الإسلام. وقال عبد الله بن مسعود: «كنا نتكلم في
الصلاة ونرد السلام ويسأل الرجل صاحبه عن حاجته» قال: «ودخلت
يوما والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس فسلمت فلم يرد
عليّ أحد، فاشتد
(1/323)
فَإِنْ خِفْتُمْ
فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ
(239)
ذلك عليّ، فلما فرغ رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أنا أمرنا أن
نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة» ، والقنوت السكوت، وقاله زيد
بن أرقم، وقال: «كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: وَقُومُوا
لِلَّهِ قانِتِينَ، فأمرنا بالسكوت» ، وقال مجاهد: «معنى
قانتين خاشعين، القنوت طول الركوع والخشوع وغض البصر وخفض
الجناح» .
قال القاضي أبو محمد: وإحضار الخشية والفكر في الوقوف بين يدي
الله تعالى، وقال الربيع:
«القنوت طول القيام وطول الركوع والانتصاب له» ، وقال قوم:
القنوت الدعاء، وقانِتِينَ معناه داعين، روي معنى هذا عن ابن
عباس، وفي الحديث: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو
على رعل وذكوان، فقال قوم: معناه دعا، وقال قوم: معناه طوّل
قيامه، ولا حجة في هذا الحديث لمعنى الدعاء.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 239]
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُونَ (239)
أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحالة قنوت، وهو الوقار
والسكينة وهدوء الجوارح، وهذا على الحالة الغالبة من الأمن
والطمأنينة، ثم ذكر تعالى حالة الخوف الطارئة أحيانا، فرخص
لعبيده في الصلاة رجالا متصرفين على الأقدام، ورُكْباناً على
الخيل والإبل، ونحوه إيماء وإشارة بالرأس حيث ما توجه، هذا قول
جميع العلماء وهذه هي صلاة الفذ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه
في حال المسايفة أو من سبع يطلبه أو عدو يتبعه أو سيل يحمله،
وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه فهو مبيح ما تضمنته هذه
الآية، وأما صلاة الخوف بالإمام وانقسام الناس فليس حكمها في
هذه الآية، وفرق مالك رحمه الله بين خوف العدو المقاتل وبين
خوف السبع ونحوه بأن استحب في غير خوف العدو الإعادة في الوقت
إن وقع الأمن، وأكثر فقهاء الأمصار على أن الأمر سواء، وقوله
تعالى فَرِجالًا هو جمع راجل أو رجل من قولهم رجل الإنسان يرجل
رجلا إذا عدم المركب ومشى على قدميه فهو رجل وراجل ورجل» بضم
الجيم وهي لغة أهل الحجاز، يقولون مشى فلان إلى بيت الله حافيا
رجلا، حكاه الطبري وغيره ورجلان ورجيل، ورجل وأنشد ابن
الأعرابي في «رجلان» : [الطويل]
عليّ إذا لاقيت ليلى بخلوة ... أن ازدار بيت الله رجلان حافيا
ويجمع على رجال ورجيلى ورجالى ورجّالى ورجّالة ورجّال ورجالي
ورجلان ورجلة ورجلة ورجلة بفتح الجيم وأرجلة وأراجل وأراجيل،
والرجل الذي هو اسم الجنس يجمع أيضا على رجال، فهذه الآية
وقوله تعالى: يَأْتُوكَ رِجالًا [الحج: 27] هما من لفظ الرجلة
أي عدم المركوب، وقوله تعالى شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ
[البقرة: 282] فهو جمع اسم الجنس المعروف، وحكى المهدوي عن
عكرمة وأبي مجلز أنهما قرآ «فرجّالا» بضم الراء وشد الجيم
المفتوحة، وعن عكرمة أيضا أنه قرأ «فرجالا» بضم الراء وتخفيف
الجيم، وحكى الطبري عن بعضهم أنه قرأ «فرجّلا» دون ألف على وزن
فعل بضم الفاء وشد العين، وقرأ جمهور القراء «أو ركبانا» وقرأ
بديل بن ميسرة «فرجالا فركبانا» بالفاء، والركبان جمع
(1/324)
وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً
لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ
فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ
فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(240)
راكب، وهذه الرخصة في ضمنها بإجماع من
العلماء أن يكون الإنسان حيث ما توجه من السموات، ويتصرف بحسب
نظره في نجاة نفسه. واختلف الناس كم يصلي من الركعات. فمالك
رحمه الله وجماعة من العلماء لا يرون أن ينقص من عدد الركعات
شيئا، بل يصلي المسافر ركعتين ولا بد. وقال الحسن بن أبي الحسن
وقتادة وغيرهما: يصلي ركعة إيماء. وروى مجاهد عن ابن عباس أنه
قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي
السفر ركعتين وفي الخوف ركعة» . وقال الضحاك بن مزاحم:
«يصلي صاحب خوف الموت في المسايفة وغيرها ركعة، فإن لم يقدر
فليكبر تكبيرتين» ، وقال إسحاق بن راهويه: «فإن لم يقدر إلا
على تكبيرة واحدة أجزأت عنه» ، ذكره ابن المنذر.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ الآية، فقالت فرقة: المعنى فإذا زال خوفكم
الذي ألجأكم إلى هذه الصلاة فاذكروا الله بالشكر على هذه
النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء ولم تفتكم
صلاة من الصلوات، وهذا هو الذي لم يكونوا يعلمونه، وقالت فرقة:
المعنى فإذا كنتم آمنين قبل أو بعد، كأنه قال: فمتى كنتم على
أمن فاذكروا الله، أي صلوا الصلاة التي قد علمتموها، أي فصلوا
كما علمكم صلاة تامة، حكاه النقاش وغيره.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وقوله على هذا
التأويل ما لَمْ تَكُونُوا بدل من «ما» التي في قوله كَما،
وإلا لم يتسق لفظ الآية، وعلى التأويل الأول ما مفعولة ب
عَلَّمَكُمْ، وقال مجاهد: «معنى قوله فَإِذا أَمِنْتُمْ، فإذا
خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة» ، ورد الطبري على هذا
القول، وكذلك فيه تحويم على المعنى كثير، والكاف في قوله كَما
للتشبيه بين ذكر الإنسان لله ونعمة الله عليه في أن تعادلا،
وكان الذكر شبيها بالنعمة في القدر وكفاء لها، ومن تأول
«اذكروا» بمعنى صلوا على ما ذكرناه فالكاف للتشبيه بين صلاة
العبد والهيئة التي علمه الله.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 240]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً
وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ
إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (240)
الَّذِينَ رفع بالابتداء، والخبر في الجملة التي هي «وصية
لأزواجهم» ، وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وعاصم في رواية أبي
بكر «وصية» بالرفع، وذلك على وجهين: أحدهما الابتداء والخبر في
الظرف الذي هو قوله لِأَزْواجِهِمْ، ويحسن الابتداء بنكرة من
حيث هو موضع تخصيص كما حسن أن يرتفع «سلام عليكم» ، وخير بين
يديك، وأمت في حجر لا فيك، لأنها مواضع دعاء، والوجه الآخر أن
تضمر له خبرا تقدره، فعليهم وصية لأزواجهم، ويكون قوله
لِأَزْواجِهِمْ صفة. قال الطبري: «قال بعض النحاة: المعنى كتبت
عليهم وصية» ، قال: «وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود» ،
وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن عامر «وصية» بالنصب، وذلك حمل على
الفعل كأنه قال: ليوصوا وصية، ولِأَزْواجِهِمْ
(1/325)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ
مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ (242)
على هذه القراءة صفة أيضا، قال هارون: «وفي
حرف أبي بن كعب «وصية لأزواجهم متاع» بالرفع، وفي حرف ابن
مسعود «الوصية لأزواجهم متاعا» ، وحكى الخفاف أن في حرف أبيّ
«فمتاع لأزواجهم» بدل وصية.
ومعنى هذه الآية أن الرجل إذا مات كان لزوجته أن تقيم في منزله
سنة وينفق عليها من ماله، وذلك وصية لها، واختلف العلماء ممن
هي هذه الوصية، فقالت فرقة: كانت وصية من الله تعالى تجب بعد
وفاة الزوج، قال قتادة: «كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها فلها
السكنى والنفقة حولا في مال زوجها ما لم تخرج برأيها، ثم نسخ
ما في هذه الآية من النفقة بالربع أو بالثمن الذي في سورة
النساء، ونسخ سكنى الحول بالأربعة الأشهر والعشر» . وقال
الربيع وابن عباس والضحاك وعطاء وابن زيد، وقالت فرقة: بل هذه
الوصية هي من الزوج، كانوا ندبوا إلى أن يوصوا للزوجات بذلك ف
يُتَوَفَّوْنَ على هذا القول معناه يقاربون الوفاة ويحتضرون،
لأن الميت لا يوصي، قال هذا القول قتادة أيضا والسدي. وعليه
حمل الآية أبو علي الفارسي في الحجة، قال السدي: «إلا أن العدة
كانت أربعة أشهر وعشرا، وكان الرجال يوصون بسكنى سنة ونفقتها
ما لم تخرج. فلو خرجت بعد انقضاء العدة الأربعة الأشهر والعشر
سقطت الوصية. ثم نسخ الله تعالى ذلك بنزول الفرائض. فأخذت
ربعها أو ثمنها، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة وصارت الوصايا لمن
لا يرث، وقال الطبري عن مجاهد: «إن هذه الآية محكمة لا نسخ
فيها، والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا، ثم جعل الله لهن
وصية، منها سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت
في وصيتها وإن شاءت خرجت، وهو قوله تعالى: غَيْرَ إِخْراجٍ،
فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ.
قال القاضي أبو محمد: وألفاظ مجاهد رحمه الله التي حكى عنها
الطبري لا يلزم منها أن الآية محكمة، ولا نص مجاهد ذلك، بل
يمكن أنه أراد ثم نسخ ذلك بعد بالميراث.
ومَتاعاً نصب على المصدر، وكان هذا الأمر إلى الحول من حيث
العام معلم من معالم الزمان قد أخذ بحظ من الطول، وقوله تعالى:
غَيْرَ إِخْراجٍ معناه ليس لأولياء الميت ووارثي المنزل
إخراجها، وغَيْرَ نصب على المصدر عند الأخفش، كأنه قال: لا
إخراجا، وقيل: نصب على الحال من الموصين. وقيل: هي صفة لقوله
مَتاعاً، وقوله تعالى: فَإِنْ خَرَجْنَ الآية، معناه أن الخروج
إذا كان من قبل الزوجة فلا جناح على أحد ولي أو حاكم أو غيره
فيما فعلن في أنفسهن من تزويج وترك حداد وتزين إذا كان ذلك من
المعروف الذي لا ينكر، وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ صفة
تقتضي الوعيد بالنقمة لمن خالف الحد في هذه النازلة فأخرج
المرأة وهي لا تريد الخروج. حَكِيمٌ أي محكم لما يأمر به
عباده، وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلا ما قوّله
الطبري مجاهدا رحمه الله، وفي ذلك نظر على الطبري رحمه الله.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 241 الى 242]
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
اختلف الناس في هذه الآية، فقال أبو ثور: «هي محكمة، والمتعة
لكل مطلقة دخل بها أو لم
(1/326)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ
الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
يدخل، فرض لها أو لم يفرض، بهذه الآية» ،
وقال الزهري: «لكل مطلقة متعة، وللأمة يطلقها زوجها» .
وقال سعيد بن جبير: «لكل مطلقة متعة» . وقال ابن القاسم في
إرخاء الستور من المدونة: «جعل الله تعالى المتاع لكل مطلقة
بهذه الآية، ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم
يدخل بها فأخرجها من المتعة، وزعم زيد بن أسلم أنها نسختها» .
قال القاضي أبو محمد: ففر ابن القاسم رحمه الله من لفظ النسخ
إلى لفظ الاستثناء، والاستثناء لا يتجه في هذا الموضع، بل هو
نسخ محض كما قال زيد بن أسلم. وإذا التزم ابن القاسم أن قوله
وَلِلْمُطَلَّقاتِ عمّ كل مطلقة لزمه القول بالنسخ ولا بد.
وقال عطاء بن أبي رباح وغيره: هذه الآية في الثيب اللواتي قد
جومعن إذ قد تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل
بهن.
قال القاضي أبو محمد: فهذا قول بأن التي قد فرض لها قبل المسيس
لم تدخل قط في هذا العموم.
فهذا يجيء قوله على أن قوله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 237] مخصصة لهذا
الصنف من النساء، ومتى قيل إن العموم تناولها فذلك نسخ لا
تخصيص، وقال ابن زيد: «هذه الآية نزلت مؤكدة لأمر المتعة، لأنه
نزل قبل حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 236] فقال رجل:
فإن لم أرد أن أحسن لم أمتع، فنزلت: حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ فوجب ذلك عليهم» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هذا الإيجاب هو من
تقويل الطبري لا من لفظ ابن زيد.
وقوله تعالى: حَقًّا نصب على المصدر، والْمُتَّقِينَ هنا ظاهره
أن المراد من تلبس بتقوى الله تعالى، والكاف في قوله كَذلِكَ
للتشبيه، وذلك إشارة إلى هذا الشرع والتنويع الذي وقع في
النساء وإلى إلزام المتعة لهن، أي كبيانه هذه القصة يبين سائر
آياته، ولَعَلَّكُمْ ترجّ في حق البشر، أي من رأى هذا المبين
له رجا أن يعقل ما يبين له.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 243]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ
أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ
أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243)
هذه رؤية القلب بمعنى: ألم تعلم، والكلام عند سيبويه بمعنى
تنبه إلى أمر الذين، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين، وقصة
هؤلاء فيما قال الضحاك هي أنهم قوم من بني إسرائيل أمروا
بالجهاد، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد، فخرجوا من ديارهم
فرارا من ذلك، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت
شيء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ [البقرة: 190- 244] الآية، وحكى قوم من اليهود لعمر بن
الخطاب رضي الله عنه أن جماعة من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء،
فخرجوا من ديارهم فرارا منه، فأماتهم الله، فبنى عليهم سائر
بني إسرائيل حائطا، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل النبي
عليه السلام، فدعا الله فأحياهم له، وقال السدي: «هم أمة كانت
قبل واسط في قرية يقال لها
(1/327)
وَقَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ
وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ
قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا
نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ
دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
داوردان، وقع بها الطاعون فهربوا منه وهم
بضعة وثلاثون ألفا» . في حديث طويل، ففيهم نزلت الآية.
وقال إنهم فروا من الطاعون: الحسن وعمرو بن دينار. وحكى النقاش
أنهم فروا من الحمى. وحكى فيهم مجاهد أنهم لما أحيوا رجعوا إلى
قومهم يعرفون. لكن سحنة الموت على وجوههم. ولا يلبس أحد منهم
ثوبا إلا عاد كفنا دسما حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم، وروى
ابن جريج عن ابن عباس أنهم كانوا من بني إسرائيل، وأنهم كانوا
أربعين ألفا وثمانية آلاف، وأنهم أميتوا ثم أحيوا وبقيت
الرائحة على ذلك السبط من بني إسرائيل إلى اليوم، فأمرهم الله
بالجهاد ثانية فذلك قوله وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
[البقرة:
190- 244] .
قال القاضي أبو محمد: وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما
اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه
وسلم أخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف، عن قوم من البشر خرجوا
من ديارهم فرارا من الموت، فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم،
ليرواهم وكل من خلف بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله لا بيد
غيره، فلا معنى لخوف خائف ولاغترار مغتر، وجعل الله تعالى هذه
الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد بالجهاد. هذا
قول الطبري، وهو ظاهر رصف الآية، ولموردي القصص في هذه القصة
زيادات اختصرتها لضعفها. واختلف الناس في لفظ أُلُوفٌ. فقال
الجمهور: هي جمع ألف. وقال بعضهم: كانوا ثمانين ألفا. وقال ابن
عباس: «كانوا أربعين ألفا» . وقيل: كانوا ثلاثين ألفا. وهذا
كله يجري مع أُلُوفٌ إذا هو جمع الكثير، وقال ابن عباس أيضا:
«كانوا ثمانية آلاف» ، وقال أيضا: أربعة آلاف، وهذا يضعفه لفظ
أُلُوفٌ لأنه جمع الكثير. وقال ابن زيد في لفظ أُلُوفٌ: «إنما
معناها وهم مؤتلفون» أي لم تخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم.
إنما كانوا مؤتلفين، فخالفت هذه الفرقة فخرجت فرارا من الموت
وابتغاء الحياة، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم.
وقوله تعالى: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا الآية، إنما هي
مبالغة في العبارة عن فعله بهم. كأن ذلك الذي نزل بهم فعل من
قيل له: مت، فمات، وحكي أن ملكين صاحا بهم: موتوا، فماتوا.
فالمعنى قال لهم الله بواسطة الملكين. وهذا الموت ظاهر الآية،
وما روي في قصصها أنه موت حقيقي فارقت فيه الأرواح الأجساد،
وإذا كان ذلك فليس بموت آجالهم، بل جعله الله في هؤلاء كمرض
حادث مما يحدث على البشر. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ الآية، تنبيه على فضل الله على هؤلاء
القوم الذين تفضل عليهم بالنعم وأمرهم بالجهاد، وأمرهم بأن لا
يجعلوا الحول والقوة إلّا له، حسبما أمر جميع العالم بذلك، فلم
يشكروا نعمته في جميع هذا، بل استبدوا وظنوا أن حولهم وسعيهم
ينجيهم. وهذه الآية تحذير لسائر الناس من مثل هذا الفعل، أي
فيجب أن يشكر الناس فضل الله في إيجاده لهم ورزقه إياهم
وهدايته بالأوامر والنواهي، فيكون منهم الجري إلى امتثالها لا
طلب الخروج عنها، وتخصيصه تعالى الأكثر دلالة على الأقل
الشاكر.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 244 الى 246]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ
قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً
وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ
بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا
مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا
وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ
أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
(1/328)
الواو في هذه الآية عاطفة جملة كلام على
جملة ما تقدم، هذا قول الجمهور إن هذه الآية هي مخاطبة لأمة
محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله، وهو الذي ينوى
به أن تكون كلمة الله هي العليا حسب الحديث، وقال ابن عباس
والضحاك: الأمر بالقتال هو للذين أحيوا من بني إسرائيل، فالواو
على هذا عاطفة على الأمر المتقدم، المعنى وقال لهم قاتلوا، قال
الطبري رحمه الله: «ولا وجه لقول من قال إن الأمر بالقتال هو
للذين أحيوا» ، وسَمِيعٌ معناه للأقوال، عَلِيمٌ بالنيات.
ثم قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ الآية، فدخل
في ذلك المقاتل في سبيل الله فإنه يقرض رجاء الثواب، كما فعل
عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة، ويروى أن هذه الآية لما
نزلت قال أبو الدحداح: «يا رسول الله أوإن الله يريد منا
القرض؟» قال: «نعم، يا أبا الدحداح» ، قال: «فإني قد أقرضت
الله حائطي» : لحائط فيه ستمائة نخلة، ثم جاء الحائط وفيه أم
الدحداح، فقال: اخرجي فإني قد أقرضت ربي حائطي هذا، قال: فكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كم من عذق مذلل لأبي
الدحداح في الجنة» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويقال فيه ابن
الدحداحة، واستدعاء القرض في هذه الآية إنما هو تأنيس وتقريب
للناس بما يفهمونه من شبه القرض بالعمل للثواب، والله هو الغني
الحميد، لكنه تعالى شبه عطاء المؤمن في الدنيا ما يرجو ثوابه
في الآخرة بالقرض، كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة
بالبيع والشراء، وقد ذهبت اليهود في مدة النبي صلى الله عليه
وسلم إلى التخليط على المؤمنين بظاهر الاستقراض وقالوا إلهكم
محتاج يستقرض، وهذا بين الفساد، وقوله حَسَناً معناه تطيب فيه
النية، ويشبه أيضا أن تكون إشارة إلى كثرته وجودته، واختلف
القراء في تشديد العين وتخفيفها ورفع الفاء ونصبها وإسقاط
الألف وإثباتها من قوله تعالى: فَيُضاعِفَهُ فقرأ ابن كثير
«فيضعّفه» برفع الفاء من غير ألف وتشديد العين في جميع القرآن،
وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه نصب الفاء في جميع القرآن، ووافقه
عاصم على نصب الفاء إلا أنه أثبت الألف في «فيضاعفه» في جميع
القرآن، وكان أبو عمرو لا يسقط الألف من ذلك كله إلا من سورة
الأحزاب. قوله تعالى: يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ [الأحزاب: 30]
، فإنه بغير ألف كان يقرأه، وقرأ حمزة والكسائي ونافع ذلك كله
بالألف ورفع الفاء، فالرفع في الفاء يتخرج على وجهين: أحدهما
العطف على ما في الصلة. وهو يقرض، والآخر أن يستأنف الفعل
ويقطعه، قال أبو علي: «والرفع في هذا الفعل أحسن» .
قال القاضي أبو محمد: لأن النصب إنما هو بالفاء في جواب
الاستفهام، وذلك إنما يترتب إذا كان الاستفهام عن نفس الفعل
الأول ثم يجيء الثاني مخالفا له. تقول: أتقرضني فأشكرك، وهاهنا
إنما الاستفهام عن الذي يقرض لا عن الإقراض، ولكن تحمل قراءة
ابن عامر وعاصم في النصب على المعنى، لأنه لم يستفهم عن فاعل
الإقراض إلا من أجل الإقراض، فكأن الكلام أيقرض أحد الله
فيضاعفه له، ونظير هذا في الحمل على المعنى قراءة من قرأ من
يضلل الله فلا هادي له ونذرهم [الأعراف: 186]
(1/329)
بجزم نذرهم، لما كان معنى قوله فَلا هادِيَ
لَهُ [الأعراف: 186] فلا يهد وهذه الأضعاف الكثيرة هي إلى
السبعمائة التي رويت ويعطيها مثال السنبلة، وقرأ ابن كثير
«يبسط» بالسين، ونافع بالصاد في المشهور عنه، وقال الحلواني عن
قالون عن نافع: إنه لا يبالي كيف قرأ بسطة ويبسط بالسين أو
بالصاد، وروى أبو قرة عن نافع يبسط بالسين، وروي أن النبي صلى
الله عليه وسلم طلب منه أن يسعر بسبب غلاء خيف على المدينة،
فقال: «إن الله هو الباسط القابض، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا
يتبعني أحد بمظلمة في نفس ولا مال» .
قوله عز وجل:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ
بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا
مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا هذه الآية
خبر عن قوم من بني إسرائيل نالتهم ذلة وغلبة عدو، فطلبوا الإذن
في الجهاد وأن يؤمروا به، فلما أمروا كع أكثرهم وصبر الأقل،
فنصرهم الله، وفي هذا كله مثال للمؤمنين يحذر المكروه منه
ويقتدى بالحسن، والْمَلَإِ في هذه الآية جميع القوم، لأن
المعنى يقتضيه، وهذا هو أصل اللفظة.
ويسمى الأشراف الملأ تشبيها، وقوله مِنْ بَعْدِ مُوسى معناه من
بعد موته وانقضاء مدته، واختلف المتأولون في النبي الذي قيل له
ابْعَثْ، فقال ابن إسحاق وغيره عن وهب بن منبه: هو سمويل بن
بالي.
وقال السدي: هو شمعون وقال قتادة: هو يوشع بن نون.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا قول ضعيف،
لأن مدة داود هي بعد مدة موسى بقرون من الناس، ويوشع هو فتى
موسى، وكانت بنو إسرائيل تغلب من حاربها، وروي أنها كانت تضع
التابوت الذي فيه السكينة والبقية في مأزق الحرب، فلا تزال
تغلب حتى عصوا وظهرت فيهم الأحداث. وخالف ملوكهم الأنبياء،
واتبعوا الشهوات، وقد كان الله تعالى أقام أمورهم بأن يكون
أنبياؤهم يسددون ملوكهم، فلما فعلوا ما ذكرناه سلط الله عليهم
أمما من الكفرة فغلبوهم وأخذ لهم التابوت في بعض الحروب فذل
أمرهم. وقال السدي: «كان الغالب لهم جالوت وهو من العمالقة،
فلما رأوا أنه الاصطلام وذهاب الذكر أنف بعضهم وتكلموا في
أمرهم. حتى اجتمع ملأهم على أن قالوا لنبي الوقت:
ابْعَثْ لَنا مَلِكاً الآية، وإنما طلبوا ملكا يقوم بأمر
القتال، وكانت المملكة في سبط من أسباط بني إسرائيل يقال لهم:
«بنو يهوذا» ، فعلم النبي بالوحي أنه ليس في بيت المملكة من
يقوم بأمر الحرب، ويسر الله لذلك طالوت.
وقرأ جمهور الناس «نقاتل» بالنون وجزم اللام على جواب الأمر،
وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة «يقاتل» بالياء ورفع الفعل، فهو في
موضع الصفة للملك. وأراد النبي المذكور عليه السلام أن يتوثق
منهم فوقفهم على جهة التقرير وسبر ما عندهم بقوله هَلْ
عَسَيْتُمْ وقرأ نافع «عسيتم» بكسر العين في الموضعين، وفتح
الباقون السين، قال أبو علي: «الأكثر فتح السين وهو المشهور» ،
ووجه الكسر قول
(1/330)
وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ
مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا
وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً
مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ
وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ
يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
(247)
العرب هو عس بذلك مثل حر وشج، وقد جاء فعل
وفعل في نحو نقم ونقم، فكذلك عسيت وعسيت، فإن أسند الفعل إلى
ظاهر فقياس عسيتم أن يقال عسي زيد مثل رضي، فإن قيل فهو
القياس، وإن لم يقل فسائغ أن يأخذ باللغتين فيستعمل إحداهما في
موضع الأخرى كما فعل ذلك في غيره، ومعنى هذه المقالة:
هل أنتم قريب من التولي والفرار. إن كتب عليكم القتال؟.
قوله عز وجل:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ.......
المعنى وأي شيء يجعلنا ألا نقاتل وقد وترنا وأخرجنا من ديارنا؟
وقالوا هذه المقالة وإن كان القائل لم يخرج من حيث قد أخرج من
هو مثله وفي حكمه، ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم لما فرض عليهم
القتال ورأوا الحقيقة ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب تولوا،
أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم، وهذا شأن الأمم المتنعمة
المائلة إلى الدعة، تتمنى الحرب أوقات الأنفة، فإذا حضرت الحرب
كعت وانقادت لطبعها، وعن هذا المعنى نهى النبي صلى الله عليه
وسلم بقوله: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية،
فإذا لقيتموهم فاثبتوا» ، ثم أخبر الله تعالى عن قليل منهم
أنهم ثبتوا على النية الأولى واستمرت عزيمتهم على القتال في
سبيل الله، ثم توعد الظالمين في لفظ الخبر الذي هو قوله
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، وقرأ أبي بن كعب «تولوا
إلا أن يكون قليل منهم» .
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 247]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ
طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ
عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ
سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ
وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ
يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)
قال وهب بن منبه: «إنه لما قال الملأ من بني إسرائيل لسمويل بن
بالي ما قالوا، سأل الله تعالى أن يبعث لهم ملكا ويدله عليه،
فقال الله تعالى له: انظر إلى القرن الذي فيه الدهن في بيتك،
فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن فهو ملك بني
إسرائيل، فادهن رأسه منه وملكه عليهم، قال: وكان طالوت رجلا
دباغا، وكان من سبط بنيامين بن يعقوب، وكان سبطا لا نبوة فيه
ولا ملك، فخرج طالوت في بغاء دابة له أضلها، فقصد سمويل عسى أن
يدعو له في أمر الدابة أو يجد عنده فرجا، فنش الدهن» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهو دهن القدس
فيما يزعمون، قال: فقام إليه سمويل فأخذه ودهن منه رأس طالوت،
وقال له: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله بتقديمه، ثم قال
لبني إسرائيل «إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا» ، وطالُوتَ اسم
أعجمي معرب ولذلك لم ينصرف،
(1/331)
وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ
مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ
الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (248)
وقال السدي: «إن الله أرسل إلى شمعون عصا
وقال له: من دخل عليك من بني إسرائيل فكان على طول هذه العصا
فهو ملكهم، فقيس بها بنو إسرائيل فكانت تطولهم حتى مربهم طالوت
في بغاء حماره الذي كان يسقي عليه، وكان رجلا سقاء، فدعوه
فقاسوه بالعصا فكان مثلها، فقال لهم نبيهم ما قال، ثم إن بني
إسرائيل تعنتوا وحادوا عن أمر الله تعالى، وجروا على سننهم
فقالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ
أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ، أي لأنه ليس في بيت ملك ولا سبقت
له فيه سابقة. وَلَمْ يُؤْتَ مالا واسعا يجمع به نفوس الرجال
حتى يغلب أهل الأنفة بماله.
قال القاضي أبو محمد: وترك القوم السبب الأقوى وهو قدر الله
وقضاؤه السابق، وأنه مالك الملك، فاحتج عليهم نبيهم عليه
السلام بالحجة القاطعة، وبيّن لهم مع ذلك تعليل اصطفائه طالوت،
وأنه زاده بسطة في العلم وهو ملاك الإنسان، والجسم الذي هو
معينه في الحرب وعدته عند اللقاء، قال ابن عباس:
«كان في بني إسرائيل سبطان أحدهما للنبوة والآخر للملك، فلا
يبعث نبي إلا من الواحد ولا ملك إلا من الآخر، فلما بعث طالوت
من غير ذلك قالوا مقالتهم» ، قال مجاهد: معنى الملك في هذه
الآية الإمرة على الجيش.
قال القاضي أبو محمد: ولكنهم قلقوا لأن من عادة من تولى الحرب
وغلب أن يستمر ملكا، و «اصطفى» افتعل، مأخوذ من الصفوة، وقرأ
نافع «بصطة» بالصاد، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «بسطة» بالسين،
والجمهور على أن العلم في هذه الآية يراد به العموم في
المعارف، وقال بعض المتأولين: المراد علم الحرب، وأما جسمه
فقال وهب بن منبه: إن أطول رجل في بني إسرائيل كان يبلغ منكب
طالوت.
وَاللَّهُ يُؤْتِي.....
لما علم نبيهم عليه السلام تعنتهم وجدالهم في الحجج تمم كلامه
بالقطعي الذي لا اعتراض عليه، وهو قوله: وَاللَّهُ يُؤْتِي
مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ، وظاهر اللفظ أنه من قول النبي لهم، وقد
ذهب بعض المتأولين إلى أنه من قول الله تعالى لمحمد صلى الله
عليه وسلم، والأول أظهر، وأضيف ملك الدنيا إلى الله تعالى،
إضافة مملوك إلى مالك، وواسِعٌ معناه وسعت قدرته وعلمه كل شيء،
وأما قول النبي لهم: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ فإن الطبري ذهب إلى
أن بني إسرائيل تعنتوا وقالوا لنبيهم: وما آية ملك طالوت؟ وذلك
على جهة سؤال الدلالة على صدقه في قوله إن الله قد بعث.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 248]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ
الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (248)
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويحتمل أن نبيهم
قال لهم ذلك على جهة التغبيط والتنبيه على هذه النعمة التي
قرنها الله بملك طالوت وجعلها آية له دون أن تعن بنو إسرائيل
لتكذيب نبيهم، وهذا عندي أظهر من لفظ الآية، وتأويل الطبري
أشبه بأخلاق بني إسرائيل الذميمة، فإنهم أهل تكذيب وتعنت
واعوجاج، وقد حكى الطبري معناه عن ابن عباس وابن زيد والسدي.
(1/332)
واختلف المفسرون في كيفية إتيان
التَّابُوتُ وكيف كان بدء أمره، فقال وهب بن منبه: كان التابوت
عند بني إسرائيل يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا فغلبوا على
التابوت، وصار التابوت عند القوم الذين غلبوا، فوضعوه في كنيسة
لهم فيها أصنام، فكانت الأصنام تصبح منكسة، فجعلوه في قرية قوم
فأصاب أولئك القوم أوجاع في أعناقهم، وقيل: جعل في مخراة قوم
فكانوا يصيبهم الناسور، فلما عظم بلاؤهم كيف كان، قالوا: ما
هذا إلا لهذا التابوت فلنرده إلى بلاد بني إسرائيل، فأخذوا
عجلة فجعلوا التابوت عليها وربطوها ببقرتين فأرسلوهما في الأرض
نحو بلاد بني إسرائيل، فبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى
دخلتا به على بني إسرائيل، وهم في أمر طالوت، فأيقنوا بالنصر.
وهذا هو حمل الملائكة للتابوت في هذه الرواية. وقال قتادة
والربيع: بل كان هذا التابوت مما تركه موسى عند يوشع بن نون،
فجعله يوشع في البرية، ومرت عليه الدهور حتى جاء وقت طالوت.
وكان أمر التابوت مشهورا عندهم في تركة موسى، فجعل الله
الإتيان به آية لملك طالوت، وبعث الله ملائكة حملته إلى بني
إسرائيل، فيروى أنهم رأوا التابوت في الهواء يأتي حتى نزل
بينهم، وروي أن الملائكة جاءت به تحمله حتى جعلته في دار
طالوت، فاستوسقت بنو إسرائيل عند ذلك على طالوت، وقال وهب بن
منبه: كان قدر التابوت نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين، وقرأ زيد
بن ثابت «التابوه» ، وهي لغته، والناس على قراءته بالتاء.
قال القاضي أبو محمد: وكثر الرواة في قصص التابوت وصورة حمله
بما لم أر لإثباته وجها للين إسناده.
قوله عز وجل:
فِيهِ سَكِينَةٌ ...
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: السكينة ريح هفافة لها وجه
كوجه الإنسان، وروي عنه أنه قال: هي ريح خجوج ولها رأسان، وقال
مجاهد: السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان وذنب، وقال:
أقبلت السكينة والصرد وجبريل مع إبراهيم من الشام. وقال وهب بن
منبه عن بعض علماء بني إسرائيل:
السكينة رأس هرة ميتة كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ الهر
أيقنوا بالنصر. وقال ابن عباس: السكينة طست من ذهب من الجنة
كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، وقاله السدي. وقال وهب بن منبه:
السكينة روح من الله يتكلم إذا اختلفوا في شيء أخبرهم ببيان ما
يريدون. وقال عطاء بن أبي رباح: السكينة ما يعرفون من الآيات
فيسكنون إليها. وقال الربيع بن أنس: سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
أي رحمة من ربكم، وقال قتادة:
سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي وقار لكم من ربكم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والصحيح أن
التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم،
فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى، فالمعهود أن الله
ينصر الحق والأمور الفاضلة عنده، والسكينة على هذا فعيلة
مأخوذة من السكون، كما يقال عزم عزيمة وقطع قطيعة.
(1/333)
فَلَمَّا فَصَلَ
طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ
بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ
يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً
بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا
جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا
طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ
فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
واختلف المفسرون في البقية ما هي؟: فقال
ابن عباس: هي عصا موسى ورضاض الألواح، وقال الربيع: هي عصا
موسى وأمور من التوراة. وقال عكرمة: هي التوراة والعصا ورضاض
الألواح.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى هذا ما روي من أن موسى عليه السلام
لما جاء قومه بالألواح فوجدهم قد عبدوا العجل ألقى الألواح
غضبا فتكسرت. فنزع منها ما بقي صحيحا وأخذ رضاض ما تكسر فجعل
في التابوت. وقال أبو صالح: البقية عصا موسى وعصا هارون ولوحان
من التوراة والمن. وقال عطية بن سعد: هي عصا موسى وعصا هارون
وثيابهما ورضاض الألواح. وقال الثوري: من الناس من يقول البقية
قفيز منّ ورضاض الألواح. ومنهم من يقول: العصا والنعلان. وقال
الضحّاك: البقية الجهاد وقتال الأعداء.
قال القاضي أبو محمد: أي الأمر بذلك في التابوت، إما أنه مكتوب
فيه، وإما أن نفس الإتيان به هو كالأمر بذلك، وأسند الترك إلى
آل موسى وهارون من حيث كان الأمر مندرجا من قوم إلى قوم، وكلهم
آل لموسى وهارون، وآل الرجل قرابته وأتباعه، وقال ابن عباس
والسدي وابن زيد: حمل الملائكة هو سوقها التابوت دون شيء يحمله
سواها حتى وضعته بين يدي بني إسرائيل وهم ينظرون إليه بين
السماء والأرض، وقال وهب بن منبه والثوري عن بعض أشياخهم:
حملها إياه هو سوقها الثورين أو البقرتين اللتين جرتا العجلة
به، ثم قرر تعالى أن مجيء التابوت آية لهم إن كانوا ممن يؤمن
ويبصر بعين حقيقة.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 249]
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ
مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي
وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ
اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ
قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ
وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا
اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً
بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
قبل هذه الآية متروك من اللفظ يدل معنى ما ذكر عليه، وهو فاتفق
بنو إسرائيل على طالوت ملكا وأذعنوا وتهيؤوا لغزوهم عدوهم فلما
فصل، وفَصَلَ معناه خرج بهم من القطر، وفصل حال السفر من حال
الإقامة، قال السدي وغيره: كانوا ثمانين ألفا.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ولا محالة أنهم
كان فيهم المؤمن والمنافق والمجد والكسلان، وقال وهب بن منبه:
لم يتخلف عنه إلا ذو عذر من صغر أو كبر أو مرض.
واختلف المفسرون في النهر، فقال وهب بن منبه: لما فصل طالوت
قالوا له إن المياه لا تحملنا فادع الله يجر لنا نهرا، فقال
لهم طالوت إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ الآية، وقال قتادة:
النهر الذي ابتلاهم الله به هو نهر بين الأردن وفلسطين، وقاله
ابن عباس، وقال أيضا هو والسدي: النهر نهر فلسطين، وقرأ جمهور
القراء «بنهر» بفتح الهاء، وقرأ مجاهد وحميد الأعرج وأبو
السمال وغيرهم «بنهر» بإسكان الهاء في جميع القرآن، ومعنى هذا
الابتلاء أنه اختبار لهم، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه
يطيع فيما عدا ذلك، ومن غلب شهوته في الماء وعصى الأمر فهو
بالعصيان في الشدائد أحرى، وروي أنهم أتوا النهر وهم قد نالهم
عطش وهو في غاية العذوبة والحسن، ولذلك رخص للمطيعين في الغرفة
ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع، وليكسروا نزاع النفس في
هذه الحال إلى الاغتراف بالأيدي لنظافته وسهولته، وقد قال
(1/334)
علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الأكف أنظف
الآنية. ومنه قول الحسن رحمه الله: [البسيط] .
لا يدلفون إلى ماء بآنية ... إلّا اغترافا من الغدران بالرّاح
وظاهر قول طالوت إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ هو أن ذلك بوحي
إلى النبي وإخبار من النبي لطالوت، ويحتمل أن يكون هذا مما
ألهم الله طالوت إليه فجرب به جنده، وجعل الإلهام ابتلاء من
الله لهم، وهذه النزعة واجب أن تقع من كل متولي حرب، فليس
يحارب إلّا بالجند المطيع، ومنه قول معاوية: «عليّ في أخبث جند
وأعصاه وأنا في أصح جند وأطوعه» ، ومنه قول علي رضي الله عنه:
«أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان» ، وبين أن الغرفة كافة ضرر العطش
عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين هممهم في غير
الرفاهية، كما قال عروة: [الطويل] وأحسو قراح الماء والماء
بارد فيشبه أن طالوت أراد تجربة القوم، وقد ذهب قوم إلى أن عبد
الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما
أمر أصحابه بإيقاد النار والدخول فيها تجربة لطاعتهم، لكنه
حمله مزاحه على تخشين الأمر الذي كلفهم.
وقوله: فَلَيْسَ مِنِّي أي ليس من أصحابي في هذه الحرب، ولم
يخرجهم بذلك عن الإيمان، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه
وسلم: «من غشنا فليس منا، ومن رمانا بالنبل فليس منا، وليس منا
من شق الجيوب ولطم الخدود» ، وفي قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ
يَطْعَمْهُ سد للذرائع لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا
وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم.
ولهذه المبالغات لم يأت الكلام، ومن لم يشرب منه. وقرأ أبو
عمرو ونافع وابن كثير «غرفة» بفتح الغين. وهذا على تعدية الفعل
إلى المصدر. والمفعول محذوف، والمعنى إلا من اغترف ماء غرفة،
وقرأ الباقون «غرفة» بضم الغين وهذا على تعدية الفعل إلى
المفعول به، لأن الغرفة هي العين المغترفة. فهذا بمنزلة إلّا
من اغترف ماء، وكان أبو علي يرجح ضم الغين، ورجحه الطبري أيضا
من جهة أن «غرفة» بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف، ثم أخبر
تعالى عنهم أن الأكثر شرب وخالف ما أريد منه، وروي عن ابن عباس
وقتادة وغيرهما أن القوم شربوا على قدر يقينهم. فشرب الكفار
شرب الهيم، وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون
ألفا، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا، وأخذ بعضهم الغرفة،
فأما من شرب فلم يرو، بل برّح به العطش، وأما من ترك الماء
فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة.
قوله عز وجل:
فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ...
«جاوز» فاعل من جاز يجوز. وهي مفاعلة من اثنين في كل موضع. لأن
النهر وما أشبهه كأنه
(1/335)
وَلَمَّا بَرَزُوا
لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا
صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ
دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ
وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ
ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
يجاوز. واختلف الناس في الَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ كم كانوا؟ فقال البراء بن عازب: كنا نتحدث أن عدة أهل
بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ثلاثمائة وبضعة
عشر رجلا، وفي رواية: وثلاثة عشر رجلا، وما جاوز معه إلا مؤمن،
وقال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لأصحابه يوم بدر: «أنتم كعدة أصحاب طالوت» ، وقال السدي وابن
عباس: بل جاوز معه أربعة آلاف رجل، قال ابن عباس: فيهم من شرب،
قالا: فلما نظروا إلى جالوت وجنوده قالوا: لا طاقة لنا اليوم،
ورجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون، هذا نص قول السدي
ومعنى قول ابن عباس، فعلى القول الأول قالت الجملة: لا طاقَةَ
لَنَا الْيَوْمَ، على جهة استكثار العدو. فقال أهل الصلابة
منهم والتصميم والاستماتة: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ الآية،
وظن لقاء الله على هذا القول يحسن أن يكون ظنا على بابه، أي
يظنون أنهم يستشهدون في ذلك اليوم لعزمهم على صدق القتال، كما
جرى لعبد الله بن حرام في يوم أحد، ولغيره، وعلى القول الثاني
قال كثير من الأربعة الآلاف: لا طاقة لنا على جهة الفشل والفزع
من الموت، وانصرفوا عن طالوت، فقال المؤمنون الموقنون بالبعث
والرجوع إلى الله وهم عدة أهل بدر: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ
والظن على هذا بمعنى اليقين، وهو فيما لم يقع بعد ولا خرج إلى
الحس.
قال القاضي أبو محمد: وما روي عن ابن عباس من أن في الأربعة
الآلاف من شرب يرد عليه قوله تعالى: هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ، وأكثر المفسرين على أنه إنما جاوز النهر من لم يشرب
إلا غرفة ومن لم يشرب جملة، ثم كانت بصائر هؤلاء مختلفة، فبعض
كع وقليل صمم، وقرأ أبي بن كعب «كأين من فئة» ، والفئة الجماعة
التي يرجع إليها في الشدائد، من قولهم: فاء يفيء إذا رجع، وقد
يكون الرجل الواحد فئة تشبيها، والملك فئة الناس، والجبل فئة،
والحصن، كل ذلك تشبيه، وفي قولهم رضي الله عنهم: كَمْ مِنْ
فِئَةٍ الآية، تحريض بالمثال وحض واستشعار للصبر، واقتداء بمن
صدق ربه، و «إذن الله» هنا تمكينه وعلمه، فمجموع ذلك هو الإذن،
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ بنصره وتأييده.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 250 الى 251]
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا
أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا
عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ
اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ
وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ
اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ
وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251)
بَرَزُوا معناه: صاروا في البراز وهو الأفيح من الأرض المتسع،
و «جالوت» اسم أعجمي معرب، والإفراغ أعظم الصب، كأنه يتضمن
عموم المفرغ عليه، والهزم أصله أن يضرب الشيء فيدخل بعضه في
بعض، وكذلك الجيش الذي يرد يركب ردعه، ثم قيل في معنى الغلبة:
هزم، وكان جالوت أمير العمالقة وملكهم، وكان فيما روي في
ثلاثمائة ألف فارس.
وروي في قصة داود وقتله جالوت، أن أصحاب طالوت كان فيهم إخوة
داود وهم بنو إيشى، وكان داود صغيرا يرعى غنما لأبيه، فلما
حضرت الحرب قال في نفسه: لأذهبن لرؤية هذه الحرب، فلما نهض
(1/336)
مر في طريقه بحجر فناداه: يا داود، خذني
فبي تقتل جالوت، ثم ناداه حجر آخر، ثم آخر، ثم آخر فأخذها
وجعلها في مخلاته وسار، فلما حضر الناس، خرج جالوت يطلب مبارزا
فكع الناس عنه حتى قال طالوت:
من يبرز له ويقتله فأنا أزوجه بنتي وأحكمه في مالي، فجاء داود،
فقال: أنا أبرز له وأقتله، فقال له طالوت:
فاركب فرسي، وخذ سلاحي، ففعل، وخرج في أحسن شكة فلما مشى قليلا
رجع. فقال الناس: جبن الفتى، فقال داود: إن الله إن لم يقتله
لي ويعني عليه لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا السلاح، ولكني أحب
أن أقاتله على عادتي.
قال: وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع، فنزل وأخذ مخلاته
فتقلدها وأخذ مقلاعه، وخرج إلى جالوت وهو شاك في سلاحه، فقال
له جالوت: أنت يا فتى تخرج إليّ، قال: نعم. قال: هكذا كما يخرج
إلى الكلب. قال: نعم وأنت أهون. قال: لأطعمن اليوم لحمك الطير
والسباع، ثم تدانيا فأدار داود مقلاعه، وأدخل يده إلى الحجارة
فروي أنها التأمت فصارت حجرا واحدا فأخذه فوضعه في المقلاع
وسمى الله وأداره ورماه فأصاب به رأس جالوت فقتله، وحز رأسه
وجعله في مخلاته واختلط الناس وحمل أصحاب طالوت وكانت الهزيمة،
ثم إن داود جاء يطلب شرطه من طالوت، فقال له: إن بنات الملوك
لهن غرائب من المهر، ولا بد لك من قتل مائتين من هؤلاء
الجراجمة الذين يؤذون الناس، وتجيئني بغلفهم وطمع طالوت أن
يعرض داود للقتل بهذه النزعة فقتل داود منهم مائتين، وجاء بذلك
وطلب امرأته فدفعها إليه طالوت، وعظم أمر داود، فيروى أن طالوت
تخلى له عن الملك وصار هو الملك، ويروى أن بني إسرائيل غلبت
طالوت على ذلك بسبب أن داود قتل جالوت، وكان سبب الفتح، وروي
أن طالوت أخاف داود حتى هرب منه فكان في جبل إلى أن مات طالوت
فذهبت بنو إسرائيل إلى داود فملكته أمرها، وروي أن نبي الله
سمويل أوحى الله إليه أن يذهب إلى إيشى ويسأله أن يعرض عليه
بنيه فيدهن الذي يشار إليه بدهن القدس ويجعله ملك بني إسرائيل.
والله أعلم أي ذلك كان، غير أنه يقطع من ألفاظ الآية على أن
داود صار ملك بني إسرائيل. وقد روي في صدر هذه القصة: أن داود
كان يسير في مطبخة طالوت ثم كلمه حجر فأخذه فكان ذلك سبب قتله
جالوت ومملكته، وقد أكثر الناس في قصص هذه الآية، وذلك كله لين
الأسانيد، فلذلك انتقيت منه ما تنفك به الآية وتعلم به مناقل
النازلة واختصرت سائر ذلك، وأما الحكمة التي آتاه الله فهي
النبوة والزبور وقال السدي: آتاه الله ملك طالوت ونبوة شمعون
والذي علمه هي صنعة الدروع ومنطق الطير وغير ذلك من أنواع علمه
صلى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل:
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ ...
أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لولا دفعه بالمؤمنين في صدور
الكفرة على مر الدهر لَفَسَدَتِ
(1/337)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ
نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا
يُرِيدُ (253)
الْأَرْضُ
، لأن الكفر كان يطبقها ويتمادى في جميع أقطارها، ولكنه تعالى
لا يخلي الزمان من قائم بحق، وداع إلى الله ومقاتل عليه، إلى
أن جعل ذلك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة،
له الحمد كثيرا. قال مكي: وأكثر المفسرين على أن المعنى لولا
أن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي
لأهلك الناس بذنوبهم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وليس هذا معنى
الآية ولا هي منه في ورد ولا صدر، والحديث الذي رواه ابن عمر
صحيح، وما ذكر مكي من احتجاج ابن عمر عليه بالآية لا يصح عندي
لأن ابن عمر من الفصحاء، وقرأ أبو عمرو وابن كثير: وَلَوْلا
دَفْعُ اللَّهِ، وفي الحج إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ [الآية: 38]
، وقرأ نافع «ولولا دفاع الله» ، «وإن الله يدافع» ، وقرأ
الباقون وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ «وإن الله يدافع» ففرقوا
بينهما، والدفاع يحتمل أن يكون مصدر دفع ككتب كتابا ولقي لقاء،
ويحتمل أن يكون مصدر دافع كقاتل قتالا، قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 252]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
والإشارة بتلك إلى ما سلف من القصص والأنباء، وفي هذه القصة
بجملتها مثال عظيم للمؤمنين ومعتبر، وقد كان أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم معدين لحرب الكفار، فلهم في هذه النازلة معتبر
يقتضي تقوية النفوس والثقة بالله وغير ذلك من وجوه العبرة.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 253]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ
مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ
الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ
اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ
يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)
الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ
كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ
الْقُدُسِ تِلْكَ رفع بالابتداء، والرُّسُلُ خبره، ويجوز أن
يكون الرُّسُلُ عطف بيان وفَضَّلْنا الخبر، وتِلْكَ إشارة إلى
جماعة مؤنثة اللفظ، ونص الله في هذه الآية على تفضيل بعض
الأنبياء على بعض وذلك في الجملة دون تعيين مفضول. وهكذا هي
الأحاديث عن النبي عليه السلام. فإنه قال: «أنا سيد ولد آدم» ،
وقال: «لا تفضلوني على موسى» ، وقال: «لا ينبغي لأحد أن يقول
أنا خير من يونس بن متى» ، وفي هذا نهي شديد عن تعيين المفضول،
لأن يونس عليه السلام كان شابا وتفسخ تحت أعباء النبوءة، فإذا
كان هذا التوقف فيه لمحمد وإبراهيم ونوح فغيره أحرى، فربط
الباب أن التفضيل فيهم على غير تعيين المفضول، وقد قال أبو
هريرة: خير ولد آدم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وهم أولو
العزم والمكلم موسى صلى الله عليه وسلم.
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو؟
فقال نعم نبي مكلم، وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في
الجنة، فعلى هذا تبقى خاصة موسى، وقوله تعالى: وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ قال مجاهد وغيره: هي إشارة إلى محمد صلى
الله عليه وسلم، لأنه بعث إلى الناس كافة وأعطي الخمس التي لم
يعطها أحد قبله، وهو أعظم الناس أمة، وختم الله به النبوات إلى
غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله، ومن معجزاته وباهر
آياته، ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد وغيره ممن عظمت آياته
ويكون الكلام تأكيدا للأول، ويحتمل أن يريد رفع إدريس المكان
العليّ ومراتب الأنبياء في السماء فتكون
(1/338)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ
وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
الدرجات في المسافة ويبقى التفضيل مذكورا
في صدر الآية فقط، وبينات عيسى عليه السلام هي إحياء الموتى،
وإبراء الأكمه والأبرص، وخلق الطير من الطين، و «روح القدس»
جبريل عليه السلام، وقد تقدم ما قال العلماء فيه.
قوله عز وجل:
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ...
ظاهر اللفظ في قولهم: من بعدهم يعطي أنه أراد القوم الذين
جاؤوا من بعد جميع الرسل، وليس كذلك المعنى، بل المراد ما
اقتتل الناس بعد كل نبي فلف الكلام لفا يفهمه السامع، وهذا كما
تقول:
اشتريت خيلا، ثم بعتها، فجائزة لك هذه العبارة وأنت اشتريت
فرسا ثم بعته، ثم آخر وبعته، ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النوازل
إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغيا
وحسدا، وعلى حطام الدنيا، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله
تعالى، ولو شاء خلاف ذلك لكان. ولكنه المستأثر بسر الحكمة في
ذلك. الفعال لما يريد، فاقتتلوا بأن قاتل المؤمنون الكافرين
على مر الدهر. وذلك هو دفع الله الناس بعضهم ببعض.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 254]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا
خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ
(254)
قال ابن جريج: هذه الآية تجمع الزكاة والتطوع، وهذا كلام صحيح
فالزكاة واجبة والتطوع مندوب إليه، وظاهر هذه الآية أنها مراد
بها جميع وجوه البر من سبيل وصلة رحم، ولكن ما تقدم من الآيات
في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين،
يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوي ذلك قوله
في آخر الآية: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ، أي فكافحوهم
بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال، وندب الله تعالى بهذه الآية،
إلى إنفاق شيء مما أنعم به وهذه غاية التفضل فعلا وقولا، وحذر
تعالى من الإمساك، إلى أن يجيء يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء
ولا استدراك بنفقة في ذات الله، إذ هي مبايعة على ما قد فسرناه
في قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [البقرة:
245] ، أو إذ البيع فدية لأن المرء قد يشتري نفسه ومراده
بماله، وكأن معنى الآية معنى سائر الآي التي تتضمن إلا فدية
يوم القيامة.
وأخبر الله تعالى بعدم الخلة يوم القيامة، والمعنى: خلة نافعة
تقتضي المساهمة، كما كانت في الدنيا، وأهل التقوى بينهم في ذلك
اليوم خلة ولكنها غير محتاج إليها. وخلة غيرهم لا تغني من الله
شيئا.
وأخبر تعالى أن الشفاعة أيضا معدومة في ذلك اليوم، فحمل الطبري
ذلك على عموم اللفظ وخصوص المعنى، وأن المراد وَلا شَفاعَةٌ
للكفار. وهذا لا يحتاج إليه. بل الشفاعة المعروفة في الدنيا
وهي
(1/339)
اللَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا
نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ
ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
انتداب الشافع وتحكمه على كره المشفوع عنده
مرتفعة يوم القيامة البتة. وإنما توجد شفاعة بإذن الله تعالى.
فحقيقتها رحمة من الله تعالى. لكنه شرف الذي أذن له في أن
يشفع، وإنما المعدوم مثل حال الدنيا من البيع والخلة والشفاعة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة»
بالنصب في كل ذلك بلا تنوين، وكذلك في سورة إبراهيم لا بَيْعٌ
فِيهِ وَلا خِلالٌ [الآية: 31] ، وفي الطور: لا لَغْوٌ فِيها
وَلا تَأْثِيمٌ [الآية: 23] ، وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع
والتنوين، والظَّالِمُونَ واضعو الشيء في غير موضعه. وقال عطاء
بن دينار: الحمد لله الذي قال: وَالْكافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ ولم يقل: الظالمون هم الكافرون.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 255]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا
تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما
فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ
وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ
حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
هذه سيدة آي القرآن، ورد ذلك في الحديث ورود أنها تعدل ثلث
القرآن، وورد أن من قرأها أول ليله لم يقربه شيطان، وكذلك من
قرأها أول نهاره. وهذه متضمنة التوحيد والصفات العلى، واللَّهُ
مبتدأ، ولا إِلهَ مبتدأ ثان، وخبره محذوف تقديره معبود أو
موجود، وإِلَّا هو بدل من موضع لا إِلهَ، والْحَيُّ صفة من
صفات الله تعالى ذاتية، وذكر الطبري، عن قوم أنهم قالوا: الله
تعالى حي لا بحياة. وهذا قول المعتزلة وهو قول مرغوب عنه، وحكي
عن قوم أنه حي بحياة هي صفة له، وحكي عن قوم أنه يقال حي كما
وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه، والْقَيُّومُ فيعول من
القيام أصله قيووم اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون
فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء، وقيوم بناء
مبالغة أي: هو القائم على كل أمر بما يجب له، وبهذا المعنى
فسره مجاهد والربيع والضحاك، وقرأ ابن مسعود وعلقمة وإبراهيم
النخعي والأعمش: «الحي القيام» بالألف ثم نفى عز وجل أن تأخذه
سِنَةٌ أو نَوْمٌ، وفي لفظ الأخذ غلبة ما، فلذلك حسنت في هذا
الموضع بالنفي، والسنة بدء النعاس، وهو فتور يعتري الإنسان
وترنيق في عينيه، وليس يفقد معه كل ذهنه، والنوم هو المستثقل
الذي يزول معه الذهن، والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا
تدركه آفة ولا يلحقه خلل بحال من الأحوال، فجعلت هذه مثالا
لذلك وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع، وهذا هو مفهوم
الخطاب كما قال تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء: 23]
، ومما يفرق بين الوسن والنوم قول عدي بن الرقاع: [الكامل]
وسنان أقصده النّعاس فرنّقت ... في عينه سنة وليس بنائم
وبهذا المعنى في السنة فسر الضحاك والسدي، وقال ابن عباس
وغيره: السنة النعاس، وقال ابن زيد: الوسنان، الذي يقوم من
النوم وهو لا يعقل حتى ربما جرد السيف على أهله.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا الذي قال ابن
زيد فيه نظر وليس ذلك بمفهوم من كلام العرب، وروى أبو هريرة
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى على
(1/340)
المنبر قال: «وقع في نفس موسى هل ينام الله
جل ثناؤه؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين
في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما، قال: فجعل ينام وتكاد
يداه تلتقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة
فاصطفقت فانكسرت القارورتان» قال: ضرب الله مثلا أن لو كان
ينام لم تستمسك السماء والأرض، وقوله تعالى: لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي بالملك. فهو مالك الجميع
وربه، وجاءت العبارة ب ما وإن كان في الجملة من يعقل من حيث
المراد الجملة والموجود، ثم قرر ووقف تعالى على من يتعاطى أن
يَشْفَعُ عِنْدَهُ أو يتعاطى ذلك فيه إلا أن يأذن هو في ذلك لا
إله إلا هو وقال الطبري: هذه الآية نزلت لما قال الكفار: ما
نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فقال الله: لَهُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الآية وتقرر في هذه
الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة وهنا هم الأنبياء
والعلماء وغيرهم، والإذن هنا راجع إلى الأمر فيما نص عليه،
كمحمد صلى الله عليه وسلم إذا قيل له: واشفع تشفع وإلى العلم
والتمكين إن شفع أحد من الأنبياء والعلماء قبل أن يؤمر، والذي
يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار، وهو
بين المنزلتين أو وصل ولكن له أعمال صالحة.
وفي البخاري، في باب بقية من باب الرؤية، أن المؤمنين يقولون:
ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا،
فهذه شفاعة فيمن يقرب أمره، وكما يشفع الطفل المحبنطئ على باب
الجنة الحديث، وهذا إنما هو في قرابتهم ومعارفهم وأن الأنبياء
يشفعون فيمن حصل في النار من عصاة أممهم بذنوب دون قربى ولا
معرفة إلا بنفس الإيمان ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في
المستغرقين بالذنوب الذين لم تنلهم شفاعة الأنبياء.
وأما شفاعة محمد في تعجيل الحساب فخاصة له، وهي الخامسة التي
في قوله: «وأعطيت الشفاعة» وهي عامة للناس، والقصد منها إراحة
المؤمنين، ويتعجل للكفار منها المصير إلى العذاب، وكذلك إنما
يطلبها إلى الأنبياء المؤمنون، والضميران في قوله: أَيْدِيهِمْ
وَما خَلْفَهُمْ عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله: لَهُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وقال مجاهد ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ الدنيا وَما خَلْفَهُمْ الآخرة، وهذا صحيح في نفسه
عند موت الإنسان، لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان، وما
خلفه هو كل ما يأتي بعده، وبنحو قول مجاهد قاله السدي وغيره.
قوله عز وجل:
وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ....
قوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ معناه: من
معلوماته، وهذا كقول الخضر لموسى عليهما السلام حين نقر
العصفور من حرف السفينة: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا
كما نقص هذا العصفور من هذا البحر، فهذا وما شاكله راجع إلى
المعلومات، لأن علم الله تعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض،
ومعنى الآية: لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه، واختلف
الناس في الكرسي الذي وصفه الله
(1/341)
تعالى بأنه وسع السموات والأرض، فقال ابن
عباس: كُرْسِيُّهُ علمه، ورجحه الطبري: وقال: منه الكراسة
للصحائف التي تضم العلم، ومنه قيل للعلماء الكراسيّ، لأنهم
المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض، وهذه الألفاظ تعطي نقض
ما ذهب إليه من أن الكرسي العلم، قال الطبري: ومنه قول الشاعر:
تحف بهم بيض الوجوه وعصبة ... كراسيّ بالأحداث حين تنوب
يريد بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها، وقال أبو موسى
الأشعري: الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل، وقال
السدي: هو موضع قدميه.
قال القاضي أبو محمد: وعبارة أبي موسى مخلصة لأنه يريد هو من
عرش الرحمن كموضع القدمين في أسرة الملوك، وهو مخلوق عظيم بين
يدي العرش نسبته إليه نسبة الكرسي إلى سرير الملك، والكرسي هو
موضع القدمين، وأما عبارة السدي فقلقة، وقد مال إليها منذر
البلوطي وتأولها بمعنى: ما قدم من المخلوقات على نحو ما تأول
في قول النبي عليه السلام وفي كتاب الله، وأما في عبارة مفسر
فلا، وقال الحسن بن أبي الحسن: الكرسي هو العرش نفسه.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والذي تقتضيه
الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش، والعرش أعظم
منه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما السموات السبع
في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس، وقال أبوذر: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما الكرسي في العرش إلا
كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض، وهذه الآية منبئة عن
عظم مخلوقات الله تعالى، والمستفاد من ذلك عظم قدرته إذ لا
يَؤُدُهُ حفظ هذا الأمر العظيم، ويَؤُدُهُ: معناه يثقله، يقال
آدني الشيء بمعنى أثقلني وتحملت منه مشقة، وبهذا فسر اللفظة
ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم، وروي عن الزهري وأبي جعفر
والأعرج بخلاف عنهم، تخفيف الهمزة التي على الواو الأولى،
جعلوها بين بين لا تخلص واوا مضمومة ولا همزة محققة، كما قيل
في لؤم لوم، والْعَلِيُّ: يراد به علو القدر والمنزلة لا علو
المكان، لأن الله منزه عن التحيز، وحكى الطبري عن قوم أنهم
قالوا: هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا قول جهلة
مجسمين، وكان الوجه أن لا يحكى وكذا الْعَظِيمُ هي صفة بمعنى
عظم القدر والخطر، لا على معنى عظم الأجرام، وحكى الطبري عن
قوم: أن الْعَظِيمُ معناه المعظم، كما يقال العتيق بمعنى
المعتق وأنشد قول الأعشى:
وكأن الخمر العتيق من الاس ... فنط ممزوجة بماء زلال
وذكر عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا: لو كان بمعنى معظم لوجب
أن لا يكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم، إذ لا معظم
له حينئذ.
قوله عز وجل:
(1/342)
لَا إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ
اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
[سورة البقرة (2) : آية 256]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ
الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
الدِّينِ في هذه الآية المعتقد والملة، بقرينة قوله قَدْ
تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، والإكراه الذي في الأحكام
من الإيمان والبيوع والهبات وغير ذلك ليس هذا موضعه وإنما يجيء
في تفسير قوله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، فإذا
تقرر أن الإكراه المنفي هنا هو في تفسير المعتقد من الملل
والنحل فاختلف الناس في معنى الآية، فقال الزهري: سألت زيد بن
أسلم عن قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ فقال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين،
فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم، فاستأذن الله في قالتهم فأذن
له، قال الطبري والآية منسوخة في هذا القول.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويلزم على هذا، أن
الآية مكية، وأنها من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف،
وقال قتادة والضحاك بن مزاحم: هذه الآية محكمة خاصة في أهل
الكتاب الذين يبذلون الجزية ويؤدونها عن يد صغرة، قالا أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل العرب أهل الأوثان لا
يقبل منهم إلا لا إله إلا الله أو السيف، ثم أمر فيمن سواهم أن
يقبل الجزية، ونزلت فيهم لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ.
قال القاضي أبو محمد: وعلى مذهب مالك في أن الجزية تقبل من كل
كافر سوى قريش أي نوع كان، فتجيء الآية خاصة فيمن أعطى الجزية
من الناس كلهم لا يقف ذلك على أهل الكتاب كما قال قتادة
والضحاك. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: إنما نزلت هذه الآية في
قوم من الأوس والخزرج كانت المرأة تكون مقلاة لا يعيش لها ولد،
فكانت تجعل على نفسها إن جاءت بولد أن تهوده، فكان في بني
النضير جماعة على هذا النحو، فلما أجلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم بني النضير قالت الأنصار كيف نصنع بأبنائنا، إنما
فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذ
جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه، فنزلت لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ الآية، وقال بهذا القول عامر الشعبي ومجاهد، إلا أنه
قال كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع، وقال السدي نزلت
الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين، كان له ابنان، فقدم
تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الرجوع
أتاهم ابنا أبي حصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا معهم
إلى الشام فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكيا
أمرهما، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من
يردهما، فنزلت لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، ولم يؤمر يومئذ بقتال
أهل الكتاب، وقال: أبعدهما الله هما أول من كفر، فوجد أبو
الحصين في نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث
في طلبهما، فأنزل الله جل ثناؤه فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء: 65] ،
ثم إنه نسخ لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، فأمر بقتال أهل الكتاب
في سورة براءة.
قال القاضي أبو محمد: والصحيح في سبب قوله تعالى: فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، حديث الزبير مع جاره الأنصاري في
حديث السقي، وقوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ
الْغَيِّ معناه بنصب الأدلة ووجود الرسول الداعي إلى الله
والآيات المنيرة، والرُّشْدُ مصدر من قولك رشد بكسر الشين
وضمها يرشد رشدا
(1/343)
اللَّهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
ورشدا ورشادا، والْغَيِّ مصدر من غوى يغوي
إذا ضل في معتقد أو رأي، ولا يقال الذي في الضلال على الإطلاق،
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «الرشاد» بالألف، وقرأ الحسن
والشعبي ومجاهد «الرّشد» بفتح الراء والشين. وروي عن الحسن
«الرّشد» بضم الراء والشين، و «الطاغوت» بناء مبالغة من طغى
يطغى، وحكى الطبري «يطغو» إذا جاوز الحد بزيادة عليه، وزنه
فعلوت، ومذهب سيبويه أنه اسم مفرد كأنه اسم جنس يقع للكثير
والقليل، ومذهب أبي على أنه مصدر كرهبوت وجبروت وهو يوصف به
الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين، وعينه موضع اللام
فقيل: طاغوت، وقال المبرد: هو جمع، وذلك مردود.
واختلف المفسرون في معنى «الطاغوت» ، فقال عمر بن الخطاب
ومجاهد والشعبي والضحاك وقتادة والسدي: «الطاغوت» : الشيطان.
وقال ابن سيرين وأبو العالية: «الطاغوت» : الساحر، وقال سعيد
بن جبير ورفيع وجابر بن عبد الله وابن جريج: «الطاغوت» :
الكاهن. قال أبو محمد: وبين أن هذه أمثلة في الطاغوت لأن كل
واحد منها له طغيان، والشيطان أصل ذلك كله، وقال قوم:
«الطاغوت» :
الأصنام، وقال بعض العلماء: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت.
قال القاضي أبو محمد: وهذه تسمية صحيحة في كل معبود يرضى ذلك
كفرعون ونمرود ونحوه، وأما من لا يرضى ذلك كعزير وعيسى عليهما
السلام ومن لا يعقل كالأوثان فسميت طاغوتا في حق العبدة، وذلك
مجاز. إذ هي بسبب الطاغوت الذي يأمر بذلك ويحسنه وهو الشيطان،
وقدم تعالى ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر
الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت. و «العروة» في الأجرام وهي
موضع الإمساك وشد الأيدي. واسْتَمْسَكَ معناه قبض وشد يديه،
والْوُثْقى فعلى من الوثاقة، وهذه الآية تشبيه، واختلفت عبارة
المفسرين في الشيء المشبه بِالْعُرْوَةِ، فقال مجاهد: العروة
الإيمان. وقال السدي: الإسلام. وقال سعيد بن جبير والضحّاك:
العروة لا إله إلا الله.
قال القاضي أبو محمد: وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد،
والانفصام: الانكسار من غير بينونة، وإذا نفي ذلك فلا بينونة
بوجه، والفصم كسر ببينونة، وقد يجيء الفصم بالفاء في معنى
البينونة، ومن ذلك قول ذي الرمة: [البسيط]
كأنه دملج من فضة نبه ... في ملعب من عذارى الحي مفصوم
ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان
ويعتقده القلب حسن في الصفات سَمِيعٌ من أجل النطق وعَلِيمٌ من
أجل المعتقد.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 257]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ
إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ (257)
ال وَلِيُّ فعيل من ولي الشيء إذا جاوره ولزمه، فإذا لازم أحد
أحدا بنصره ووده واهتباله فهو وليه،
(1/344)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ
الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ
بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
هذا عرفه في اللغة. قال قتادة: الظُّلُماتِ
الضلالة. والنُّورِ الهدى. وبمعناه قال الضحاك والربيع.
وقال مجاهد وعبدة بن أبي لبابة إن قوله: اللَّهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى فلما جاء
محمد عليه السلام كفروا به فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فكأن هذا القول
أحرز نورا في المعتقد خرج منه إلى ظلمات. ولفظ الآية مستغن عن
هذا التخصيص. بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها كالعرب.
ومترتب في الناس جميعا. وذلك أن من آمن منهم فالله وليه أخرجه
من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. ومن كفر بعد وجود الداعي
النبي المرسل فشيطانه ومغويه كأنه أخرجه من الإيمان، إذ هو معد
وأهل للدخول فيه. وهذا كما تقول لمن منعك الدخول في أمر ما:
أخرجتني يا فلان من هذا الأمر وإن كنت لم تدخل فيه البتة.
ولفظة الطَّاغُوتُ في هذه الآية تقتضي أنه اسم جنس، ولذلك قال
أَوْلِياؤُهُمُ بالجمع، إذ هي أنواع، وقرأ الحسن بن أبي الحسن،
أولياؤهم الطواغيت، يعني الشياطين، وحكم عليهم بالخلود في
النار لكفرهم.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 258]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ
أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ
الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ
إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ
الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
أَلَمْ تَرَ تنبيه، وهي رؤية القلب، وقرأ علي بن أبي طالب «ألم
تر» بجزم الراء، والَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ هو نمرود بن
كنعان بن كوش بن سام بن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة،
هذا قول مجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد بن أسلم
وغيرهم. وقال ابن جريج: هو أول ملك في الأرض وهذا مردود. وقال
قتادة: هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل. وقيل: إنه ملك
الدنيا بأجمعها ونفذت فيها طينته وهو أحد الكافرين. والآخر بخت
نصر. وقيل: إن الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ نمرود بن فالخ بن
عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وفي قصص هذه المحاجة
روايتان إحداهما: ذكر زيد بن أسلم أن النمرود هذا قعد يأمر
للناس بالميرة فكلما جاء قوم قال: من ربكم وإلهكم؟
فيقولون: أنت، فيقول: ميّروهم وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار،
فقال له من ربك وإلهك؟ قال قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ، فلما سمعها نمرود قال: أَنَا أُحْيِي
وَأُمِيتُ، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس، فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ، وقال: لا تميروه، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء، فمر
على كثيب من رمل كالدقيق، فقال لو ملأت غرارتي من هذا فإذا
دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهما، فذهب بذلك فلما بلغ منزله
فرح الصبيان وجعلا يلعبان فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء،
فقالت امرأته: لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه، ففتحت
إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحواري فخبرته، فلما
(1/345)
قام وضعته بين يديه فقال: من أين هذا؟
فقالت من الدقيق الذي سقت، فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم
ذلك، وقال الربيع وغيره في هذه القصص: ان النمرود لما قال:
أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر
وقال: قد أحييت هذا وأمتّ هذا، فلما رد عليه بأمر الشمس بهت،
والرواية الأخرى ذكر السدي: أنه لما خرج إبراهيم من النار
أدخلوه على الملك ولم يكن قبل ذلك دخل عليه، فكلمه وقال له: من
ربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت، قال نمرود: أَنَا أُحْيِي
وَأُمِيتُ، أنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا ولا يطعمون شيئا
ولا يسقون، حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا، وتركت
اثنين فماتا، فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت. وذكر الأصوليون في
هذه الآية: أن إبراهيم عليه السلام وصف ربه تعالى بما هو صفة
له من الإحياء والإماتة، لكنه أمر له حقيقة ومجاز، قصد إبراهيم
عليه السلام الحقيقة، ففزع نمرود إلى المجاز وموه به على قومه،
فسلم له إبراهيم تسليم الجدل، وانتقل معه من المثال، وجاءه
بأمر لا مجاز فيه، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، ولم يمكنه أن
يقول: أنا الآتي بها من المشرق، لأن ذوي الأسنان يكذبونه.
وقوله حَاجَّ وزنه «فاعل» من الحجة أي جاذبه إياها والضمير في
رَبِّهِ يحتمل أن يعود على إبراهيم عليه السلام، ويحتمل أن
يعود على الَّذِي حَاجَّ، وأَنْ مفعول من أجله والضمير في
آتاهُ للنمرود، وهذا قول جمهور المفسرين، وقال المهدوي: يحتمل
أن يعود الضمير على إبراهيم أن آتاه ملك النبوءة، وهذا تحامل
من التأويل، وقرأ جمهور القراء أن أحيي بطرح الألف التي بعد
النون من أَنَا إذا وصلوا في كل القرآن غير نافع، فإن ورشا
وابن أبي أويس وقالون رأوا إثباتها في الوصل إذا لقيتها همزة
في كل القرآن، مثل أنا أحيي أنا أخوك إلا في قوله تعالى: إِنْ
أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ [الأعراف: 188] [الشعراء: 115] فإنه
يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء وتابع أصحابه في حذفها
عند غير همزة، قال أبو علي: ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة
والنون ثم إن الألف تلحق في الوقف كما تلحق الهاء أحيانا في
الوقف فإذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت الهاء فكذلك
الألف، وهي مثل ألف حيهلا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مثال الألف التي تلحق في القوافي،
فتأمل. قال أبو علي: فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطت الألف، لأن
الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الألف، وقد جاءت الألف
مثبتة في الوصل في الشعر من ذلك قول الشاعر:
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني ... حميدا قد تذريت السناما
وقرأ الجمهور: «فبهت» الذي بضم الباء وكسر الهاء، يقال بهت
الرجل: إذا انقطع وقامت عليه الحجة. قال ابن سيده: ويقال في
هذا المعنى: «بهت» بفتح الباء وكسر الهاء، «وبهت» بفتح الباء
وضم الهاء. قال الطبري: وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى،
«بهت» بفتح الباء والهاء.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هكذا ضبطت اللفظة
في نسخة ابن ملول دون تقييد بفتح الباء والهاء، قال ابن جني:
قرأ أبو حيوة: «فبهت» بفتح الباء وضم الهاء هي لغة في بهت بكسر
الهاء، قال: وقرأ ابن السميفع: «فبهت» بفتح الباء والهاء على
معنى فبهت إبراهيم الذي كفر، فالذي في موضع
(1/346)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ
أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ
اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ
قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ
لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ
لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ
آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ
نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ
قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(259)
نصب، قال: وقد يجوز أن يكون «بهت» بفتحهما
لغة في بهت. قال: وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة «فبهت» بكسر
الهاء كخرق ودهش، قال: والأكثر بالضم في الهاء، قال ابن جني:
يعني أن الضم يكون للمبالغة، قال الفقيه أبو محمد: وقد تأول
قوم في قراءة من قرأ فَبُهِتَ بفتحهما أنه بمعنى سب وقذف، وأن
نمرود هو الذي سب إبراهيم حين انقطع ولم تكن له حيلة، وقوله
تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، إخبار
لمحمد عليه السلام وأمته.
والمعنى: لا يرشدهم في حججهم على ظلمهم، لأنه لا هدى في الظلم،
فظاهره العموم، ومعناه الخصوص، كما ذكرنا، لأن الله قد يهدي
الظالمين بالتوبة والرجوع إلى الإيمان. ويحتمل أن يكون الخصوص
فيمن يوافي ظالما.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 259]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى
عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها
فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ
لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ
لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ
لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ
آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها
ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ
أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
عطفت أَوْ في هذه الآية على المعنى، لأن مقصد التعجيب في قوله:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ [الآية: 258] يقتضي أن
المعنى أرأيت كالذي حاج، ثم جاء قوله أَوْ كَالَّذِي، عطفا على
ذلك المعنى، وقرأ أبو سفيان بن حسين «أو كالذي مر» بفتح الواو،
وهي واو عطف دخل عليها ألف التقرير، قال سليمان بن بريدة
وناجية بن كعب وقتادة وابن عباس والربيع وعكرمة والضحاك: الذي
مر على القرية هو عزير، وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن
عمير وبكر بن مضر: هو أرمياء، وقال ابن إسحاق:
أرمياء هو الخضر وحكاه النقاش عن وهب بن منبه، قال الفقيه أبو
محمد: وهذا كما تراه، إلا أن يكون اسما وافق اسما لأن الخضر
معاصر لموسى، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط
هارون فيما روى وهب بن منبه، وحكى مكي عن مجاهد أنه رجل من بني
إسرائيل غير مسمى، قال النقاش: ويقال هو غلام لوط عليه السلام.
قال أبو محمد: واختلف في القرية أيما هي؟ فحكى النقاش أن قوما
قالوا هي المؤتفكة. وقال ابن زيد: إن القوم الذين خَرَجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فقال لهم
الله:
مُوتُوا [البقرة: 243] مرّ عليهم رجل وهم عظام تلوح، فوقف ينظر
فقال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها
فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ، وترجم الطبري على هذا القصص
بأنه قول بأن القرية التي مرّ عليها هي التي أهلك الله فيها
الذين خرجوا من ديارهم.
قال القاضي أبو محمد: وقول ابن زيد لا يلائم الترجمة، لأن
الإشارة بهذه على مقتضى الترجمة هي إلى المكان، وعلى نفس القول
هي إلى العظام والأجساد. وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ
الآية، إذ الآية إنما تضمنت قرية خاوية لا أنيس فيها. والإشارة
بهذه إنما هي إلى القرية، وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود
البناء والسكان. وقال وهب بن منبه وقتادة والضحاك وعكرمة
والربيع: القرية بيت المقدس لما خربها بخت نصر البابلي في
الحديث الطويل. حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث وقف أرمياء أو
عزير على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس لأن بخت نصر
أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله
(1/347)
كالجبل، ورأى أرمياء البيوت قد سقطت
حيطانها على سقفها، والعريش سقف البيت وكل ما يهيأ ليظل أو يكن
فهو عريش ومنه عريش الدالية والثمار، ومنه قوله تعالى:
وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، [النحل: 68] قال السدي: يقول هي ساقطة
على سقفها أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان عليها، وقال غير
السدي:
معناه خاوية من الناس على العروش أي على البيوت، وسقفها عليها
لكنها خوت من الناس والبيوت قائمة، قال أبو محمد: وانظر
استعمال العريش مع على، في الحديث في قوله، وكان المسجد يومئذ
على عريش في أمر ليلة القدر، وخاوِيَةٌ معناه خالية، يقال خوت
الدار تخوي خواء وخويا ويقال خويت قال الطبري: والأول أفصح
وقوله: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها معناه من
أي طريق وبأي سبب؟ وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة
وسكان كما يقال الآن في المدن الخربة التي يبعد أن تعمر وتسكن
فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها
أهله وأحبته، وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه،
والمثال الذي ضرب له في نفسه يحتمل أن يكون على أن سؤاله، إنما
كان عن إحياء الموتى من بني آدم، أي أنى يحيي الله موتاها، وقد
حكى الطبري عن بعضهم أنه قال كان هذا القول شكا في قدرة الله
على الإحياء، فلذلك ضرب له المثل في نفسه.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وليس يدخل شك في
قدرة الله على إحياء قرية بجلب العمرة إليها، وإنما يتصور الشك
من جاهل في الوجه الآخر، والصواب أن لا يتأول في الآية شك،
وروي في قصص هذه الآية أن بني إسرائيل لما أحدثوا الأحداث بعث
الله عليهم بخت نصر البابلي فقتلهم وجلاهم من بيت المقدس
فخربه، فلما ذهب عنه جاء أرمياء فوقف على المدينة معتبرا فقال،
أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟ قال:
فَأَماتَهُ اللَّهُ تعالى وكان معه حمار قد ربطه بحبل جديد
وكان معه سلة فيها تبن وهو طعامه، وقيل تبن وعنب، وكان معه
ركوة من خمر، وقيل من عصير وقيل، قلة ماء هي شرابه، وبقي ميتا
مائة عام، فروي أنه بلي وتفرقت عظامه هو وحماره، وروي أنه بلي
دون الحمار، وأن الحمار بقي حيا مربوطا لم يمت ولا أكل شيئا
ولا بليت رمته، وروي أن الحمار بلي وتفرقت أوصاله دون عزير،
وروي أن الله بعث إلى تلك القرية من عمرها ورد إليها جماعة بني
إسرائيل حيث كملت على رأس مائة سنة، وحينئذ حيي عزير، وروي أن
الله رد عليه عينيه وخلق له حياة يرى بها كيف تعمر القرية
ويحيى مدة من ثلاثين سنة تكملة المائة، لأنه بقي سبعين ميتا
كله، وهذا ضعيف ترد عليه ألفاظ الآية. وقوله تعالى: ثُمَّ
بَعَثَهُ، معناه: أحياه وجعل له الحركة والانتقال، فسأله الله
تعالى بواسطة الملك كَمْ لَبِثْتَ؟ على جهة التقرير، وكَمْ في
موضع نصب على الظرف، فقال: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ، قال ابن جريج وقتادة والربيع:
أماته الله غدوة يوم ثم بعث قبل الغروب، فظن هذا اليوم واحدا
فقال لَبِثْتُ يَوْماً ثم رأى بقية من الشمس فخشي أن يكون
كاذبا فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فقيل له بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ
عامٍ، ورأى من عمارة القرية وأشجارها ومبانيها ما دله على ذلك
قال النقاش: العام مصدر كالعوم سمي به هذا القدر من الزمان
لأنها عومة من الشمس في الفلك، والعوم كالسبح، وقال تعالى:
وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33] .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هذا معنى كلام
النقاش. والعام على هذا كالقول والقال. وظاهر هذه الإماتة أنها
بإخراج الروح من الجسد، وروي في قصص هذه الآية: أن الله بعث
لها
(1/348)
ملكا من الملوك يعمرها ويجد في ذلك حتى كان
كمال عمارتها عند بعث القائل: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ
بَعْدَ مَوْتِها وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع: لَبِثْتَ في كل
القرآن بإظهار الثاء وذلك لتباين الثاء من مخرج التاء، وذلك أن
الطاء والتاء والدال من حيز، والظاء والذال والثاء المثلثة من
حيز، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي، بالإدغام في كل
القرآن، أجروهما مجرى المثلى من حيث اتفق الحرفان في أنهما من
طرف اللسان وأصول الثنايا وفي أنهما مهموستان، قال أبو علي:
ويقوي ذلك وقوع هذين الحرفين في «روي قصيدة واحدة» .
قوله عز وجل:
فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ ...
وقف في هذه الألفاظ على بقاء طعامه وشرابه على حاله لم يتغير،
وعلى بقاء حماره حيّا على مربطه. هذا على أحد التأويلين. وعلى
التأويل الثاني، وقف على الحمار كيف يحيى وتجتمع عظامه.
وقرأ ابن مسعود: «وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه» ، وقرأ طلحة بن
مصرف وغيره: «وانظر إلى طعامك وشرابك لمائة سنة» ، قال أبو
علي: واختلفوا في إثبات الهاء في الفعل من قوله عز وجل: لَمْ
يَتَسَنَّهْ واقْتَدِهْ [الأنعام: 90] ، وما أَغْنى عَنِّي
مالِيَهْ [الحاقة: 28] وسُلْطانِيَهْ [الحاقة: 29] وَما
أَدْراكَ ما هِيَهْ [القارعة: 10] وإسقاطها في الوصل، ولم
يختلفوا في إثباتها في الوقف. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو
وعاصم وابن عامر هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل، وكان
حمزة يحذفهن في الوصل، وكان الكسائي يحذفها في يَتَسَنَّهْ،
واقْتَدِهْ، ويثبتها في الباقي. ولم يختلفوا في حِسابِيَهْ
[الحاقة: 20- 26] وكِتابِيَهْ [الحاقة: 19- 25] أنهما بالهاء
في الوقف والوصل، ويَتَسَنَّهْ يحتمل أن يكون من تسنن الشيء
إذا تغير وفسد، ومنه الحمأ المسنون في قول بعضهم. وقال
الزجّاج: ليس منه وإنما المسنون المصبوب على سنة الأرض، فإذا
كان من تسنن فهو لم يتسنن. قلبت النون ياء كما فعل في تظننت،
حتى قلت لم أتظنن، فيجيء تسنن تسنى. ثم تحذف الياء للجزم فيجيء
المضارع لم يتسن. ومن قرأها بالهاء على هذا القول فهي هاء
السكت. وعلى هذا يحسن حذفها في الوصل. ويحتمل يَتَسَنَّهْ أن
يكون من السنة وهو الجدب. والقحط، وما أشبهه، يسمونه بذلك. وقد
اشتق منه فعل فقيل: استنّوا، وإذا كان هذا أو من السنة التي هي
العام على قول من يجمعها سنوات فعلى هذا أيضا الهاء هاء السكت،
والمعنى لم تغير طعامك القحوط والجدوب ونحوه، أو لم تغيره
السنون والأعوام. وأما من قال في تصغير السنة سنيهة وفي الجمع
سنهات، وقال أسنهت عند بني فلان وهي لغة الحجاز ومنها قول
الشاعر:
وليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح
فإن القراءة على هذه اللغة هي بإثبات الهاء ولا بد، وهي لام
الفعل، وفيها ظهر الجزم ب لَمْ،
(1/349)
وعلى هذا هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي
عمرو، وقد ذكر. وقرأ طلحة بن مصرف «لم يسنّه» على الإدغام.
وقال النقاش: لَمْ يَتَسَنَّهْ معناه: لم يتغير من قوله تعالى:
ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد: 15] ، قال أبو محمد: ورد النحاة على
هذا القول، لأنه لو كان من أسن الماء لجاء لم يتأسن، وأما قوله
تعالى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ، فقال وهب بن منبه وغيره:
المعنى وانظر إلى اتصال عظامه وإحيائه جزءا جزءا. ويروى أنه
أحياه الله كذلك حتى صار عظاما ملتئمة، ثم كساه لحما حتى كمل
حمارا، ثم جاء ملك فنفخ في أنفه الروح، فقام الحمار ينهق، وروي
عن الضحاك ووهب بن منبه أيضا أنهما قالا: بل قيل له وانظر إلى
حمارك قائما في مربطه لم يصبه شيء مائة سنة، قالا: وإنما
العظام التي نظر إليها عظام نفسه، قالا:
وأعمى الله العيون عن أرمياء وحماره طول هذه المدة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وكثر أهل القصص في
صورة هذه النازلة تكثيرا اختصرته لعدم صحته، وقوله تعالى:
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ معناه لهذا المقصد من أن تكون
آية فعلنا بك هذا، وقال الأعمش موضع كونه آية هو أنه جاء شابا
على حاله يوم مات، فوجد الحفدة والأبناء شيوخا، وقال عكرمة:
جاء وهو ابن أربعين سنة كما كان يوم مات، ووجد بنيه قد نيفوا
على مائة سنة، وقال غير الأعمش: بل موضع كونه آية أنه جاء وقد
هلك كل من يعرف، فكان آية لمن كان حيا من قومه، إذ كانوا
موقنين بحاله سماعا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي إماتته هذه المدة، ثم
إحيائه أعظم آية، وأمره كله آية للناس غابر الدهر، لا يحتاج
إلى تخصيص بعض ذلك دون بعض. وأما العظام التي أمر بالنظر إليها
فقد ذكرنا من قال: هي عظام نفسه، ومن قال: هي عظام الحمار،
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «ننشرها» بضم النون الأولى
وبالراء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي. «ننشزها»
بالزاي، وروى أبان عن عاصم «ننشرها» بفتح النون الأولى وضم
الشين وبالراء، وقرأها كذلك ابن عباس والحسن وأبو حيوة.
فمن قرأها «ننشرها» بضم النون الأولى وبالراء فمعناه نحييها.
يقال أنشر الله الموتى فنشروا، قال الله تعالى:
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: 22] .
وقال الأعشى: [السريع] يا عجبا للميّت النّاشر وقراءة عاصم:
«ننشرها» بفتح النون الأولى يحتمل أن تكون لغة في الإحياء،
يقال: نشرت الميت وأنشرته فيجيء نشر الميت ونشرته، كما يقال
حسرت الدابة وحسرتها، وغاض الماء وغضته، ورجع زيد ورجعته.
ويحتمل أن يراد بها ضد الطيّ، كأن الموت طيّ للعظام والأعضاء،
وكأن الإحياء وجمع بعضها إلى بعض نشر. وأما من قرأ: «ننشزها»
بالزاي فمعناه: نرفعها، والنشز المرتفع من الأرض، ومنه قول
الشاعر:
ترى الثّعلب الحوليّ فيها كأنّه ... إذا ما علا نشزا حصان
مجلّل
(1/350)
قال أبو علي وغيره: فتقديره ننشزها برفع
بعضها إلى بعض للإحياء، ومنه نشوز المرأة وقال الأعشى:
[الطويل] قضاعيّة تأتي الكواهن ناشزا يقال نشز وأنشزته.
قال القاضي أبو محمد: ويقلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع
العظام بعضها إلى بعض، وإنما النشوز الارتفاع قليلا قلبلا،
فكأنه وقف على نبات العظام الرفات وخروج ما يوجد منها عند
الاختراع، وقال النقاش: ننشزها معناه ننبتها، وانظر استعمال
العرب تجده على ما ذكرت، من ذلك نشز ناب البعير، والنشز من
الأرض على التشبيه بذلك، ونشزت المرأة كأنها فارقت الحال التي
ينبغي أن تكون عليها، وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا
فَانْشُزُوا [المجادلة: 11] أي فارتفعوا شيئا شيئا كنشوز
الناب. فبذلك تكون التوسعة، فكأن النشوز ضرب من الارتفاع.
ويبعد في الاستعمال أن يقال لمن ارتفع في حائط أو غرفة:
نشز. وقرأ النخعي «ننشزها» بفتح النون وضم الشين والزاي، وروي
ذلك عن ابن عباس وقتادة وقرأ أبي بن كعب: «كيف ننشيها» بالياء.
والكسوة: ما وارى من الثياب، وشبه اللحم بها، وقد استعاره
النابغة للإسلام فقال:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وروي أنه كان يرى اللحم والعصب والعروق كيف تلتئم وتتواصل وقال
الطبري: المعنى في قوله:
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أي لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا
في قدرة الله عنده قبل عيانه، قالَ أَعْلَمُ.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ،
وفسر على القول الشاذ والاحتمال الضعيف، وقرأ ابن كثير ونافع
وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: «أعلم أن» مقطوعة الألف مضمومة
الميم.
وقرأ حمزة والكسائي: «قال اعلم أن الله» موصولة الألف ساكنة
الميم. وقرأها أبو رجاء، وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش، «قيل
أعلم» .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فأما هذه فبينة
المعنى أي قال الملك له. والأولى بينة المعنى أي قال هو أنا
أعلم أن الله على كل شيء قدير. وهذا عندي ليس بإقرار بما كان
قبل ينكره كما زعم الطبري. بل هو قول بعثه الاعتبار كما يقول
الإنسان المؤمن إذا رأى شيئا غريبا من قدرة الله: الله لا إله
إلا هو ونحو هذا. وقال أبو علي: معناه أعلم هذا الضرب من العلم
الذي لم أكن علمته.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: يعني علم
المعاينة، وأما قراءة حمزة والكسائي فتحتمل وجهين أحدهما، قال
الملك له «اعلم» ، والآخر أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي
المنفصل، فالمعنى فلما تبين له قال لنفسه: «اعلم» وأنشد أبو
علي في مثل هذا قول الأعشى: [البسيط] ودّع هريرة إنّ الرّكب
مرتحل وألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا؟ [الطويل]
(1/351)
وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ
ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ
ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
وأمثلة هذا كثيرة وتأنس أبو علي في هذا
المعنى بقول الشاعر: [الطويل]
تذكّر من أنّى ومن أين شربه ... يؤامر نفسيه كذي الهجمة الآبل
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 260]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ
الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ
مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
العامل في إِذْ فعل مضمر تقديره واذكر. واختلف الناس لم صدرت
هذه المقالة عن إبراهيم عليه السلام؟ فقال الجمهور: إن إبراهيم
عليه السلام لم يكن شاكا في إحياء الله الموتى قط، وإنما طلب
المعاينة. وترجم الطبري في تفسيره فقال: وقال آخرون سأل ذلك
ربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى وأدخل تحت الترجمة
عن ابن عباس أنه قال: ما في القرآن آية أرجى عندي منها، وذكر
عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل
قلوب الناس فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى؟ وذكر
حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نحن أحق
بالشك من إبراهيم.
الحديث. ثم رجح الطبري هذا القول الذي يجري مع ظاهر الحديث.
وقال: إن إبراهيم لما رأى الجيفة تأكل منها الحيتان ودواب البر
ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذه من بطون هؤلاء؟
وأما من قال: بأن إبراهيم لم يكن شاكا، فاختلفوا في سبب سؤاله،
فقال قتادة: إن إبراهيم رأى دابة قد توزعتها السباع فعجب وسأل
هذا السؤال. وقال الضحاك: نحوه، قال: وقد علم عليه السلام أن
الله قادر على إحياء الموتى، وقال ابن زيد: رأى الدابة تتقسمها
السباع والحيتان لأنها كانت على حاشية البحر، وقال ابن إسحاق،
بل سببها أنه لما فارق النمرود وقال له: أنا أحيي وأميت، فكر
في تلك الحقيقة والمجاز، فسأل هذا السؤال. وقال السدي وسعيد بن
جبير: بل سبب هذا السؤال أنه لما بشر بأن الله اتخذه خليلا
أراد أن يدل بهذا السؤال ليجرب صحة الخلة، فإن الخليل يدل بما
لا يدل به غيره، وقال سعيد بن جبير: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي يريد بالخلة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وما ترجم به
الطبري عندي مردود، وما أدخل تحت الترجمة متأول، فأما قول ابن
عباس: هي أرجى آية فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال
الإحياء في الدنيا، وليست مظنة ذلك، ويجوز أن يقول: هي أرجى
آية لقوله، أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ أي إن الإيمان كاف لا يحتاج
بعده إلى تنقير وبحث، وأما قول عطاء بن أبي رباح: دخل قلب
إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فمعناه من حب المعاينة، وذلك
أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به، ولهذا قال النبي عليه
السلام: «ليس الخبر كالمعاينة» ، وأما قول النبي عليه السلام
نحن أحق بالشك من إبراهيم فمعناه: أنه لو كان شك لكنا نحن أحق
به ونحن لا نشك، فإبراهيم عليه السلام أحرى أن لا يشك، فالحديث
مبني على نفي الشك عن إبراهيم. والذي روي فيه عن النبي عليه
السلام أنه قال: ذلك محض
(1/352)
الإيمان إنما هو في الخواطر الجارية التي
لا تثبت، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على
الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام. وإحياء الموتى
إنما يثبت بالسمع، وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به، يدلك
على ذلك قوله: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:
258] فالشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة
النبوءة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر
التي فيها رذيلة إجماعا، وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر
ألفاظ الآية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو عن
حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول، نحو قولك:
كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا، ومتى قلت كيف ثوبك
وكيف زيد فإنما السؤال عن حال من أحواله، وقد تكون كَيْفَ خبرا
عن شيء شأنه أن يستفهم عنه، كَيْفَ نحو قولك: كيف شئت فكن،
ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي، وكَيْفَ في هذه الآية
إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر، ولكن لما
وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبر عن إنكاره بالاستفهام عن
حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فليزم من ذلك أن الشيء في
نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع: أنا أرفع هذا الجبل، فيقول
له المكذب: أرني كيف ترفعه؟ فهذه طريقة مجاز في العبارة،
ومعناها تسليم جدلي، كأنه يقول افرض أنك ترفعه أرني كيف؟ فلما
كان في عبارة الخليل عليه السلام هذا الاشتراك المجازي، خلص
الله له ذلك وحمله على أن يبين الحقيقة فقال له: أَوَلَمْ
تُؤْمِنْ قالَ بَلى، فكمل الأمر وتخلص من كل شك، ثم علل عليه
السلام سؤاله بالطمأنينة.
قال القاضي أبو محمد: وقوله تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ معناه
إيمانا مطلقا دخل فيه فصل إحياء الموتى، والواو واو حال دخلت
عليها ألف التقرير، ولِيَطْمَئِنَّ معناه ليسكن عن فكره،
والطمأنينة اعتدال وسكون على ذلك الاعتدال فطمأنينة الأعضاء
معروفة، كما قال عليه السلام: «ثم اركع حتى تطمئن راكعا» ،
الحديث، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد.
والفكر في صورة الإحياء غير محظورة، كما لنا نحن اليوم أن نفكر
فيها، بل هي فكر فيها عبر، فأراد الخليل أن يعاين، فتذهب فكره
في صورة الإحياء، إذ حركه إلى ذلك إما أمر الدابة المأكولة
وإما قول النمرود: أنا أحيي وأميت، وقال الطبري: معنى
لِيَطْمَئِنَّ ليوقن. وحكي نحو ذلك عن سعيد بن جبير، وحكي عنه
ليزداد يقينا. وقاله إبراهيم وقتادة. وقال بعضهم: لأزداد
إيمانا مع إيماني.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ولا زيادة في هذا
المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر، وإلا فاليقين لا يتبعض، وروي
أن الأربعة التي أخذ إبراهيم هي الديك، والطاووس، والحمام،
والغراب، ذكر ذلك ابن إسحاق عن بعض أهل العلم الأول، وقاله
مجاهد وابن جريج وابن زيد، وقال ابن عباس: مكان الغراب الكركي.
وروي في قصص هذه الآية أن الخليل عليه السلام أخذ هذه الطير
حسبما أمر وذكاها ثم قطعها قطعا صغارا وجمع ذلك مع الدم
والريش، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل، ووقف
هو من حيث يرى تلك الأجزاء، وأمسك رؤوس الطير في يده، ثم قال
تعالين بإذن الله، فتطايرت تلك الأجزاء
(1/353)
وطار الدم إلى الدم، والريش إلى الريش، حتى
التأمت كما كانت أولا وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء فجاءته
سعيا حتى وضعت أجسادها في رؤوسها، وطارت بإذن الله تعالى، وقرأ
حمزة وحده: «فصرهن إليك» بكسر الصاد، وقرأ الباقون بضمها ويقال
صرت الشيء أصوره بمعنى قطعته، ومنه قول ذي الرمة:
[الرجز] صرنا به الحكم وعنّا الحكما ومنه قول الخنساء:
[السريع]
فلو يلاقي الذي لاقيته حضن ... لظلّت الشّمّ منه وهي تنصار
أي تنقطع ويقال أيضا صرت الشيء بمعنى أملته ومنه قول الشاعر:
[الوافر]
يصور عنوقها أحوى زنيم ... له صخب كما صخب الغريم
ومنه قول الأعرابي في صفة نساء هن إلى الصبا صور، وعن الخنا
زور، فهذا كله في ضم الصاد.
ويقال أيضا في هذين المعنيين: القطع والإمالة. صرت الشيء بكسر
الصاد أصيره، ومنه قول الشاعر:
[الطويل]
وفرع يصير الجيد وجف كأنّه ... على اللّيت قنوان الكروم
الدّوالح
ففي اللفظة لغتان قرىء بهما، وقد قال ابن عباس ومجاهد في هذه
الآية «صرهن» معناه: قطعهن، وقال عكرمة وابن عباس فيما في بعض
ما روي عنه أنها لفظة بالنبطية معناها قطعهن، وقاله الضحاك،
وقال أبو الأسواد الدؤلي: هي بالسريانية، وقال قتادة: «صرهن»
فصلهن، وقال ابن إسحاق: معناه قطعهن، وهو الصور في كلام العرب،
وقال عطاء بن أبي رباح: فَصُرْهُنَّ معناه اضممهن إليك. وقال
ابن زيد معناه اجمعهن، وروي عن ابن عباس معناه أوثقهن.
قال القاضي أبو محمد: فقد تأول المفسرون اللفظة بمعنى التقطيع
وبمعنى الإمالة. فقوله إِلَيْكَ على تأويل التقطيع متعلق بخذ.
وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق بصرهن، وفي الكلام متروك يدل
عليه الظاهر تقديره فأملهن إليك فقطعهن. وقرأ قوم «فصرّهن» بضم
الصاد وشد الراء المفتوحة كأنه يقول فشدّهن. ومنه صرة
الدنانير. وقرأ قوم «فصرّهن» بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة
ومعناه صيحهن من قولك صر الباب والقلم إذا صوّت، ذكره النقاش.
قال ابن جني وهي قراءة غريبة وذلك أن يفعل بكسر العين في
المضاعف المتعدي قليل، وإنما بابه يفعل بضم العين كشد يشد
ونحوه. لكن قد جاء منه نمّ الحديث ينمّه وينمّه وهر الحرب
يهرها ويهرها ومنه قول الأعشى:
ليعتورنك القول حتّى تهرّه إلى غير ذلك في حروف قليلة. قال ابن
جني، وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح
والكسر كمد وشد والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد قال
المهدوي وغيره وروي عن عكرمة فتح الصاد وشد الراء المكسورة.
قال القاضي أبو محمد: وهذه بمعنى فاحبسهن من قولهم صرى يصري
إذا حبس، ومنه الشاة
(1/354)
مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ
مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا
مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
المصراة، واختلف المتأولون في معنى قوله:
ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، فروى أبو
حمزة عن ابن عباس أن المعنى اجعل جزءا على كل ربع من أرباع
الدنيا كأن المعنى اجعلها في أركان الأرض الأربعة. وفي هذا
القول بعد، وقال قتادة والربيع المعنى واجعل على أربعة أجبل
على كل جبل جزءا من ذلك المجموع المقطع، فكما يبعث الله هذه
الطير من هذه الجبال فكذلك يبعث الخلق يوم القيامة من أرباع
الدنيا وجميع أقطارها. وقرأ الجمهور: «جزءا» بالهمز، وقرأ أبو
جعفر «جزّا» بشد الزاي في جميع القرآن. وهي لغة في الوقف فأجرى
أبو جعفر الوصل مجراه. وقال ابن جريج والسدي أمر أن يجعلها على
الجبال التي كانت الطير والسباع حين تأكل الدابة تطير إليها
وتسير نحوها وتتفرق فيها. قالا: وكانت سبعة أجبل فكذلك جزأ ذلك
المقطع من لحم الطير سبعة أجزاء. وقال مجاهد: بل أمر أن يجعل
على كل جبل يليه جزءا. قال الطبري معناه دون أن تحصر الجبال
بعدد، بل هي التي كان يصل إبراهيم إليها وقت تكليف الله إياه
تفريق ذلك فيها، لأن الكل لفظ يدل على الإحاطة.
قال القاضي أبو محمد: وبعيد أن يكلف جميع جبال الدنيا، فلن
يحيط بذلك بصره، فيجيء ما ذهب إليه الطبري جيدا متمكنا. والله
أعلم أي ذلك كان. ومعنى الآية أن إبراهيم عليه السلام كان بحيث
يرى الأجزاء في مقامه، ويرى كيف التأمت، وكذلك صحت له العبرة،
وأمره بدعائهن وهن أموات إنما هو لتقرب الآية منه وتكون بسبب
من حاله، ويرى أنه قصد بعرض ذلك عليه. ولذلك جعل الله تعالى
سيرهن إليه سَعْياً، إذ هي مشية المجدّ الراغب فيما يمشي إليه،
فكان من المبالغة أن رأى إبراهيم جدها في قصده وإجابة دعوته.
ولو جاءته مشيا لزالت هذه القرينة، ولو جاءت طيرانا لكان ذلك
على عرف أمرها، فهذا أغرب منه. ثم وقف عليه السلام على العلم
بالعزة التي في ضمنها القدرة وعلى الحكمة التي بها إتقان كل
شيء.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 262]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي
كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ
يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما
أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
هذه الآية لفظها بيان مثل بشرف النفقة في سبيل الله وبحسنها،
وضمنها التحريض على ذلك، وهذه الآية في نفقة التطوع، وسبل الله
كثيرة، وهي جميع ما هو طاعة وعائد بمنفعة على المسلمين والملة،
وأشهرها وأعظمها غناء الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا،
والحبة اسم جنس لكل ما يزدرعه ابن آدم ويقتاته، وأشهر ذلك
البر، وكثيرا ما يراد بالحب. ومنه قول المتلمس: [البسيط] .
آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس
وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، وأما في سائر الحبوب
فأكثر، ولكن المثال وقع بهذا القدر، وقد ورد القرآن بأن الحسنة
في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة
الجهاد
(1/355)
حسنتها بسبعمائة ضعف، وبين ذلك الحديث
الصحيح، واختلف العلماء في معنى قوله: وَاللَّهُ يُضاعِفُ
لِمَنْ يَشاءُ، فقالت طائفة هي مبينة ومؤكدة لما تقدم من ذكر
السبعمائة. وليس ثمة تضعيف فوق سبعمائة، وقالت طائفة من
العلماء: بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من
سبعمائة ضعف. وروي عن ابن عباس أن التضعيف ينتهي لمن شاء الله
إلى ألفي ألف. وليس هذا بثابت الإسناد عنه، وقال ابن عمر لما
نزلت هذه الآية قال النبي عليه السلام «رب زد أمتي» . فنزلت
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
فَيُضاعِفَهُ لَهُ [الحديد: 11] ، فقال رب زد أمتي، فنزلت
إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ
[الزمر: 10] وسُنْبُلَةٍ فنعلة من أسبل الزرع أي أرسل ما فيه
كما ينسبل الثوب، والجمع سنابل، وفي قوله تعالى: مَثَلُ
الَّذِينَ، حذف مضاف، تقديره مثل إنفاق الذين، أو تقدره كمثل
ذي حبة، وقال الطبري في هذه الآية، إن قوله فِي كُلِّ
سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، معناه إن وجد ذلك وإلا فعلى أن
نفرضه ثم أدخل عن الضحاك أنه قال: فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ
مِائَةُ حَبَّةٍ معناه كل سنبلة أنبتت مائة حبة، فجعل الطبري
قول الضحاك نحو ما قال هو، وذلك غير لازم من لفظ الضحاك، قال
أبو عمرو الداني قرأ بعضهم «مائة حبة» بالنصب على تقدير أنبتت
مائة حبة، وقوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ
الآية، لما تقدم في الآية التي قبل هذه ذكر الإنفاق في سبيل
الله على العموم بيّن في هذه الآية أن ذلك الحكم إنما هو لمن
لم يتبع إنفاقه منا ولا أذى، وذلك أن المنفق في سبيل الله إنما
يكون على أحد ثلاثة أوجه، إما أن يريد وجه الله تعالى ويرجو
ثوابه، فهذا لا يرجو من المنفق عليه شيئا ولا ينظر من أحواله
في حال سوى أن يراعي استحقاقه، وإما أن يريد من المنفق عليه
جزاء بوجه من الوجوه، فهذا لم يرد وجه الله بل نظر إلى هذه
الحال من المنفق عليه، وهذا هو الذي متى أخلف ظنه من بإنفاقه
وآذى، وإما أن ينفق مضطرا دافع غرم إما لماتة للمنفق عليه أو
قرينة أخرى من اعتناء معتن ونحوه، فهذا قد نظر في حال ليست
لوجه الله، وهذا هو الذي متى توبع وحرج بوجه من وجوه الحرج
آذى.
فالمن والأذى يكشفان ممن ظهرا منه أنه إنما كان على ما ذكرناه
من المقاصد، وأنه لم يخلص لوجه الله، فلهذا كان المن والأذى
مبطلين للصدقة، من حيث بين كل واحد منهما أنها لم تكن صدقة،
وذكر النقاش أنه قيل إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي
الله عنه، وقيل في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال مكي في
عثمان وابن عوف رضي الله عنهما: والمن ذكر النعمة على معنى
التعديد لها والتقريع بها، والأذى: السب والتشكي، وهو أعم من
المنّ، لأنّ المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه، وذهب
ابن زيد إلى أن هذه الآية هي في الذين لا يخرجون في الجهاد، بل
ينفقون وهم قعود، وأن الأولى التي قبلها هي في الذين يخرجون
بأنفسهم وأموالهم. قال: ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على
الأولين.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وفي هذا القول
نظر، لأن التحكم فيه باد، وقال زيد بن أسلم: لئن ظننت أن سلامك
يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه، وقالت له
امرأة: يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا،
فإنهم إنما يخرجون ليأكلوا الفواكه، فإن عندي أسهما وجعبة،
فقال لها لا بارك الله في أسهمك وجعبتك، فقد آذيتهم قبل أن
تعطيهم. وضمن الله
(1/356)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ
وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى
وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى
كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ
عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
الأجر للمنفق في سبيل الله، والأجر الجنة،
ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل والحزن على ما سلف من
دنياه، لأنه يغتبط بآخرته.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 263 الى 264]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ
يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ
وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ
صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ
لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)
هذا إخبار جزم من الله تعالى أن القول المعروف وهو الدعاء
والتأنيس والترجية بما عند الله، خير من صدقة هي في ظاهرها
صدقة، وفي باطنها لا شيء. لأن ذلك القول المعروف فيه أجر، وهذه
لا أجر فيها.
وقال المهدوي وغيره التقدير في إعرابه قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أولى
وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا ذهاب برونق المعنى، وإنما يكون
المقدر كالظاهر، والمغفرة الستر للخلة وسوء حالة المحتاج. ومن
هذا قول الأعرابي، وقد سأل قوما بكلام فصيح، فقال له قائل: ممن
الرجل؟ فقال اللهم غفرا، سوء الاكتساب يمنع من الانتساب، وقال
النقاش: يقال معناه ومغفرة للسائل إن أغلظ أو جفا إذا حرم، ثم
أخبر تعالى بغناه عن صدقة من هذه حاله وعاقبة أمره، وحمله عمن
يمكن أن يواقع هذا من عبيده وإمهالهم. وقوله تعالى: يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ
بِالْمَنِّ وَالْأَذى الآية، العقيدة أن السيئات لا تبطل
الحسنات، فقال جمهور العلماء في هذه الآية: إن الصدقة التي
يعلم الله في صاحبها أنه يمن أو يؤذي فإنها لا تتقبل صدقة،
وقيل بل جعل الله للملك عليها أمارة فلا يكتبها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن، لأن ما نتلقى نحن عن المعقول
من بني آدم فهو أن المن المؤذي ينص على نفسه أن نيته لم تكن
لله عز وجل على ما ذكرناه قبل، فلم تترتب له صدقة، فهذا هو
بطلان الصدقة بالمنّ والأذى، والمن والأذى في صدقة لا يبطل
صدقة غيرها، إذ لم يكشف ذلك على النية في السليمة ولا قدم
فيها، ثم مثل الله هذا الذي يمن ويؤذي بحسب مقدمة نيته بالذي
يُنْفِقُ رِئاءَ لا لوجه الله، والرياء مصدر من فاعل من
الرؤية. كأن الرياء تظاهر وتفاخر بين من لا خير فيه من الناس.
قال المهدوي والتقدير كإبطال الذي ينفق رئاء، وقوله تعالى:
وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يحتمل أن يريد
الكافر الظاهر الكفر، إذ قد ينفق ليقال جواد وليثنى عليه
بأنواع الثناء ولغير ذلك. ويحتمل أن يريد المنافق الذي يظهر
الإيمان. ثم مثل هذا المنفق رئاء ب صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ
فيظنه الظانّ أرضا منبتة طيبة كما يظن قوم أن صدقة هذا المرائي
لها قدر أو معنى، فإذا أصاب الصفوان وابل من المطر انكشف ذلك
التراب وبقي صلدا، فكذلك هذا المرائي إذا كان يوم القيامة
وحصلت الأعمال انكشف سره وظهر أنه لا قدر لصدقته ولا معنى.
فالمن والأذى والرياء يكشف عن النية. فيبطل الصدقة كما يكشف
الوابل الصفا فيذهب ما ظن
(1/357)
وَمَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ
أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ
يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (265)
أرضا. وقرأ طلحة بن مصرف «رياء الناس» بغير
همز. ورويت عن عاصم. والصفوان الحجر الكبير الأملس. قيل هو جمع
واحدته صفواته. وقال قوم واحدته صفواة، وقيل هو إفراد وجمعه
صفى، وأنكره المبرد وقال: إنما هو جمع صفا، ومن هذا المعنى
الصفواء والصفا. قال امرؤ القيس: [الطويل]
كميت يزل اللبد عن حال متنه ... كما زلت الصفواء بالمتنزل
وقال أبو ذؤيب: [الكامل]
حتى كأني للحوادث مروة ... بصفا المشقّر كلّ يوم تقرع
وقرأ الزهري وابن المسيب «صفوان» بفتح الفاء، وهي لغة، والوابل
الكثير القوي من المطر وهو الذي يسيل على وجه الأرض، والصلد من
الحجارة الأملس الصلب الذي لا شيء فيه، ويستعار للرأس الذي لا
شعر فيه، ومنه قول رؤبة: [الرجز] برّاق أصلاد الجبين الأجله
قال النقاش: الصلد الأجرد بلغة هذيل، وقوله تعالى: لا
يَقْدِرُونَ يريد به الذين ينفقون رئاء، أي لا يقدرون على
الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم ذلك وهو كسبهم، وجاءت العبارة ب
يَقْدِرُونَ على معنى الذي. وقد انحمل الكلام قبل على لفظ
الذي، وهذا هو مهيع كلام العرب ولو انحمل أولا على المعنى لقبح
بعد أن يحمل على اللفظ، وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إما عموم يراد به الخصوص في الموافي
على الكفر، وإما أن يراد به أنه لم يهدهم في كفرهم بل هو ضلال
محض، وإما أن يريد أنه لا يهديهم في صدقاتهم وأعمالهم وهم على
الكفر، وما ذكرته في هذه الآية من تفسير لغة وتقويم معنى فإنه
مسند عن المفسرين وإن لم تجىء ألفاظهم ملخصة في تفسير إبطال
المن والأذى للصدقة.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 265]
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ
مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ
جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها
ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ
بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
من أساليب فصاحة القرآن أنه يأتي فيه ذكر نقيض ما يتقدم ذكره
لتبيين حال التضاد بعرضها على الذهن، فلما ذكر الله صدقات
القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه
ذلك بوجه ما عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو
صدقاتهم وهي على وجهها في الشرع فضرب لها مثلا، وتقدير الكلام
ومثل نفقة الذين ينفقون كمثل غراس جنة، لأن المراد بذكر الجنة
غراسها أو تقدر الإضمار في آخر الكلام دون إضمار نفقة في أوله،
كأنه قال: كمثل غارس جنة، وابْتِغاءَ معناه طلب، وإعرابه النصب
على المصدر في موضع الحال. وكان يتوجه فيه النصب على المفعول
من أجله. لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر
الذي هو وَتَثْبِيتاً عليه. ولا يصح في تَثْبِيتاً أنه مفعول
من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت. وقال مكي في المشكل:
كلاهما مفعول
(1/358)
من أجله وهو مردود بما بيناه، ومَرْضاتِ
مصدر من رضي يرضى، وقال الشعبي والسدي وقتادة وابن زيد وأبو
صالح: وَتَثْبِيتاً معناه وتيقنا، أي إن نفوسهم لها بصائر
متأكدة فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تثبيتا، وقال
مجاهد والحسن: معنى قوله: وَتَثْبِيتاً أي إنهم يتثبتون أين
يضعون صدقاتهم؟ وقال الحسن كأن الرجل إذا هم بصدقة تثبت، فإن
كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك، والقول الأول أصوب.
لأن هذا المعنى الذي ذهب إليه مجاهد والحسن إنما عبارته
وتثبتا، فإن قال محتج إن هذا من المصادر التي خرجت على غير
المصدر كقوله تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [المزمل:
8] ، وكقوله: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17]
فالجواب لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم
للمصدر، وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتي بمصدر في
غير معناه ثم تقول أحمله على فعل كذا وكذا لفعل لم يتقدم له
ذكر، هذا مهيع كلام العرب فيما علمت، وقال قتادة: وَتَثْبِيتاً
معناه وإحسانا من أنفسهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نحو القول الأول، والجنة البستان
وهي قطعة أرض نبتت فيها الأشجار حتى سترت الأرض، فهي من لفظ
الجن والجنن والجنة وجن الليل، والربوة ما ارتفع من الأرض
ارتفاعا يسيرا معه في الأغلب كثافة التراب وطيبه وتعمقه، وما
كان كذلك فنباته أحسن، ورياض الحزن ليس من هذا كما زعم الطبري،
بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد لأنها خير من رياض تهامة
ونبات نجد أعطر ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال له الحزن، وقل ما
يصلح هواء تهامة إلا بالليل، ولذلك قالت الأعرابية:
زوجي كليل تهامة، وقال ابن عباس: الربوة المكان المرتفع الذي
لا تجري فيه الأنهار.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا إنما أراد به
هذه الربوة المذكورة في كتاب الله، لأن قوله تعالى: أَصابَها
وابِلٌ إلى آخر الآية يدل على أنها ليس فيها ماء جار، ولم يرد
ابن عباس أن جنس الربا لا يجري فيها ماء، لأن الله تعالى قد
ذكر ربوة ذات قرار ومعين، والمعروف في كلام العرب أن الربوة ما
ارتفع عما جاوره سواء جرى فيها ماء أو لم يجر، وقال الحسن:
الربوة الأرض المستوية التي لا تعلو فوق الماء، وهذا أيضا أراد
أنها ليست كالجبل والضرب ونحوه، وقال الخليل أرض مرتفعة طيبة
وخص الله بالذكر التي لا يجري فيها ماء من حيث هي العرف في
بلاد العرب فمثل لهم بما يحسونه كثيرا، وقال السدي بِرَبْوَةٍ
أي برباوة وهو ما انخفض من الأرض، قال أبو محمد: وهذه عبارة
قلقة ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد، يقال «ربوة»
بضم الراء وبها قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو.
ويقال «ربوة» بفتح الراء وبها قرأ عاصم وابن عامر، وكذلك
خلافهم في سورة المؤمنين، ويقال ربوة بكسر الراء وبها قرأ ابن
عباس فيما حكي عنه. ويقال رباوة بفتح الراء والباء وألف بعدها،
وبها قرأ أبو جعفر وأبو عبد الرحمن، ويقال رباوة بكسر الراء
وبها قرأ الأشهب العقيلي، وَآتَتْ معناه أعطت، و «الأكل» بضم
الهمزة وسكون الكاف الثمر الذي يؤكل، والشيء المأكول من كل شيء
يقال له أكل، وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص كسرج الدابة وباب
الدار، وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة، وقرأ ابن كثير ونافع
وأبو عمرو «أكلها» بضم الهمزة وسكون الكاف، وكذلك كل مضاف إلى
مؤنث وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أكله أو كان
غير مضاف إلى مكنى مثل أكل خمط فثقل أبو عمرو ذلك، وخففاه،
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في جميع ما ذكرناه
بالتثقيل. ويقال أكل
(1/359)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ
ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ (266)
وأكل بمعنى، وهو من أكل بمنزلة الطعمة من
طعم، أي الشيء الذي يطعم ويؤكل، وضِعْفَيْنِ معناه:
اثنين مما يظن بها ويحرز من مثلها، ثم أكد تعالى مدح هذه
الربوة بأنهاإن لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فإن الطل يكفيها وينوب
مناب الوابل، وذلك لكرم الأرض، والطل المستدق من القطر الخفيف،
قاله ابن عباس وغيره، وهو مشهور اللغة، وقال قوم الطل الندى،
وهذا تجوز وتشبيه، وقد روي ذلك عن ابن عباس. قال المبرد:
تقديره فَطَلٌّ يكفيها. وقال غيره التقدير فالذي أصابهم طل،
فشبه نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية
الفلو والفصيل حسب الحديث بنمو نبات هذه الجنة بالربوة
الموصوفة، وذلك كله بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي
صلدا، وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وعد
ووعيد، وقرأ الزهري يعملون بالياء كأنه يريد به الناس أجمع. أو
يريد المنفقين فقط فهو وعد محض.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 266]
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ
وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها
مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ
ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ
فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
حكى الطبري عن السدي أن هذه الآية مثل آخر لنفقة الرياء، ورجح
هو هذا القول، وحكى عن ابن زيد أنه قرأ قول الله تعالى: يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ
بِالْمَنِّ وَالْأَذى [البقرة: 264] ، قال ثم ضرب في ذلك مثلا
فقال: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أبين من الذي رجح الطبري، وليست هذه
الآية بمثل آخر لنفقة الرياء، هذا هو مقتضى سياق الكلام، وأما
بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل وهو
يحسب أنه يحسن صنعا، فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئا، وقد
سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم عن هذه الآية فقالوا الله ورسوله أعلم، فقال وهو غاضب
قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال له ابن عباس هذا مثل ضربه الله
كأنه قال: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير، فإذا فني
عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء، فرضي ذلك
عمر، وروى ابن أبي مليكة أن عمر تلا هذه الآية: أَيَوَدُّ
أَحَدُكُمْ، وقال: هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحا حتى
إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه، عمل عمل السوء.
قال القاضي أبو محمد: فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت
ألفاظها، وقال بنحو هذا مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم، وخص
النخيل والأعناب بالذكر لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر. وقرأ
الحسن «جنات» بالجمع، وقوله مِنْ تَحْتِهَا هو تحت بالنسبة إلى
الشجر، والواو في قوله وَأَصابَهُ واو الحال، وكذلك في قوله:
وَلَهُ وضُعَفاءُ جمع ضعيف وكذلك ضعاف، وال إِعْصارٌ الريح
الشديدة العاصف التي فيها إحراق لكل ما مرت عليه، يكون ذلك في
شدة الحر ويكون في شدة البرد وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها كما
تضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اشتد الحر فأبردوا عن
الصلاة
(1/360)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ
وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا
أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
حَمِيدٌ (267)
فإن شدة الحر من فيح جهنم، وإن النار اشتكت
إلى ربها» ، الحديث بكماله، فإما أنه نار على حقيقته وإلا فهو
نفسها يوجد عنه كاثرها، قال السدي: الإعصار الريح، والنار
السموم، وقال ابن عباس ريح فيها سموم شديدة، وقال ابن مسعود إن
السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءا من النار.
قال القاضي أبو محمد: يريد من نار الآخرة، وقال الحسن بن أبي
الحسن إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ ريح فيها صر، برد، وقاله الضحاك،
وفي المثل: إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا، والريح إعصار لأنها
تعصر السحاب، والسحاب معصرات إما أنها حوامل فهي كالمعصر من
النساء وهي التي هي عرضة للحمل وإما لأنها تنعصر بالرياح،
وبهذا فسر عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي، وحكى ابن سيده
أن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب، وقال الزجاج:
الإعصار الريح الشديدة تصعد من الأرض إلى السماء وهي التي يقال
لها الزوبعة، قال المهدوي: قيل لها إِعْصارٌ لأنها تلتف كالثوب
إذا عصر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، والإشارة بذلك إلى هذه
الأمثال المبينة، ولَعَلَّكُمْ ترجّ في حق البشر، أي إذا تأمل
من يبين له هذا البيان رجي له التفكر وكان أهلا له. وقال ابن
عباس تَتَفَكَّرُونَ في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة
وبقائها.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 267]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما
كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ
بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
هذا الخطاب هو لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه صيغة
أمر من الإنفاق، واختلف المتأولون هل المراد بهذا الإنفاق،
الزكاة المفروضة أو التطوع، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين: هي في الزكاة المفروضة. نهى
الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد، وأما التطوع فكما للمرء
أن يتطوع بقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر، ودرهم زائف
خير من تمرة، فالأمر على هذا القول للوجوب، والظاهر من قول
البراء بن عازب والحسن بن أبي الحسن وقتادة، أن الآية في
التطوع، وروى البراء بن عازب، وعطاء بن أبي رباح ما معناه أن
الأنصار كانوا أيام الجداد يعلقون أقناء التمر في حبل بين
أسطوانتين في المسجد فيأكل من ذلك فقراء المهاجرين فعلق رجل
حشفا فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بئسما علق هذا،
فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد: والأمر على هذا القول على الندب، وكذلك
ندبوا إلى أن لا يتطوعوا إلا بجيد مختار، والآية تعم الوجهين،
لكن صاحب الزكاة يتلقاها على الوجوب وصاحب التطوع يتلقاها على
الندب، وهؤلاء كلهم وجمهور المتأولين قالوا معنى مِنْ
طَيِّباتِ من جيد ومختار ما كَسَبْتُمْ، وجعلوا الْخَبِيثَ
بمعنى الرديء والرذالة، وقال ابن زيد معناه: من حلال ما كسبتم،
قال: وقوله: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ أي الحرام.
قال القاضي أبو محمد: وقول ابن زيد ليس بالقوي من جهة نسق
الآية لا من معناه في نفسه، وقوله:
(1/361)
مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ يحتمل أن لا
يقصد به لا الجيد ولا الحلال، لكن يكون المعنى كأنه قال:
أنفقوا مما كسبتم، فهو حض على الإنفاق فقط. ثم دخل ذكر الطيب
تبيينا لصفة حسنة في المكسوب عاما وتعديدا للنعمة كما تقول:
أطعمت فلانا من مشبع الخبز وسقيته من مروي الماء، والطيب على
هذا الوجه يعم الجود والحل، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن
مغفل قال: ليس في مال المؤمن خبيث، وكَسَبْتُمْ معناه كانت لكم
فيه سعاية، إما بتعب بدن أو مقاولة في تجارة، والموروث داخل في
هذا لأن غير الوارث قد كسبه، إذ الضمير في كَسَبْتُمْ إنما هو
لنوع الإنسان أو المؤمنين، وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ النباتات والمعادن والركاز وما ضارع ذلك،
وتَيَمَّمُوا معناه تعمدوا وتقصدوا، يقال تيمم الرجل كذا وكذا
إذا قصده، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
تيمّمت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظّلّ عرمضها طام
ومنه قول الأعشى: [المتقارب]
تيمّمت قيسا وكم دونه ... من الأرض من مهمه ذي شزن
ومنه التيم الذي هو البدل من الوضوء عند عدم الماء، وهكذا قرأ
جمهور الناس وروى البزي عن ابن كثير تشديد التاء في أحد
وثلاثين موضعا أولها هذا الحرف، وحكى الطبري أن في قراءة عبد
الله بن مسعود «ولا تؤموا الخبيث» من أممت إذا قصدت، ومنه إمام
البناء، والمعنى في القراءتين واحد، وقرأ الزهري ومسلم بن جندب
«ولا تيمّموا» بضم التاء وكسر الميم، وهذا على لغة من قال:
يممت الشيء بمعنى قصدته، وفي اللفظ لغات، منها أممت الشيء
خفيفة الميم الأولى وأممته بشدها ويممته وتيممته، وحكى أبو
عمرو أن ابن مسعود قرأ «ولا تؤمموا» بهمزة بعد التاء، وهذه على
لغة من قال أممت مثقلة الميم، وقد مضى القول في معنى
الْخَبِيثَ وقال الجرجاني في كتاب نظم القرآن: قال فريق من
الناس: إن الكلام تم في قوله: الْخَبِيثَ ثم ابتدأ خبرا آخر في
وصف الخبيث فقال: تُنْفِقُونَ منه وأنتم لا تأخذونه إلا إذا
أغمضتم أي ساهلتم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: كأن هذا المعنى
عتاب للناس وتقريع، والضمير في مِنْهُ عائد على الْخَبِيثَ.
قال الجرجاني وقال فريق آخر: بل الكلام متصل إلى قوله فِيهِ.
قال القاضي أبو محمد: فالضمير في مِنْهُ عائد على ما
كَسَبْتُمْ، ويجيء تُنْفِقُونَ كأنه في موضع نصب على الحال،
وهو كقولك: إنما أخرج أجاهد في سبيل الله، واختلف المتأولون في
معنى قوله تعالى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ
تُغْمِضُوا فِيهِ فقال البراء بن عازب وابن عباس والضحاك
وغيرهم: معناه ولستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم عند الناس إلا
بأن تساهلوا في ذلك، وتتركون من حقوقكم وتكرهونه ولا ترضونه،
أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم، وقال الحسن بن
أبي الحسن معنى الآية: لستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع،
إلا أن يهضم لكم من ثمنه، وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذان القولان يشبهان كون
الآية في الزكاة الواجبة وقال البراء بن
(1/362)
الشَّيْطَانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ
يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ
الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ
إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
عازب أيضا: معناه ولستم بآخذيه لو أهدي
إليكم إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا أي تستحيي من المهدوي أن تقبل
منه ما لا حاجة لك فيه، ولا قدر له في نفسه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يشبه كون الآية في التطوع، وقال ابن
زيد معنى الآية: ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه،
وقرأ جمهور الناس «إلا أن تغمضوا» بضم التاء وسكون الغين وكسر
الميم. وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففا، وروي عنه
أيضا «تغمّضوا» بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشددة، وحكى
مكي عن الحسن البصري «تغمّضوا» مشددة الميم مفتوحة وبفتح
التاء. وقرأ قتادة بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففا قال
أبو عمرو معناه: إلا أن يغمض لكم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هذه اللفظة تنتزع
إما من قول العرب أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي
ببعض حقه وتجاوز، فمن ذلك قول الطرماح بن حكيم: [الخفيف]
لم يفتنا بالوتر قوم وللذ ... لّ أناس يرضون بالإغماض
وإما أن تنتزع من تغميض العين لأن الذي يريد الصبر على مكروه
يغمض عنه عينيه ومنه قول الشاعر:
إلى كم وكم أشياء منكم تريبني ... أغمض عنها لست عنها بذي عمى
وهذا كالإغضاء عند المكروه، وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه
الآية وأشار إليه مكي، وإما من قول العرب أغمض الرجل إذا أتى
غامضا من الأمر كما تقول: أعمن إذا أتى عمان، وأعرق إذا أتى
العراق، وأنجد، وأغور، إذا أتى نجدا والغور الذي هو تهامة،
ومنه قول الجارية: وإن دسر أغمض فقراءة الجمهور تخرج على
التجاوز وعلى تغميض العين لأن أغمض بمنزلة غمض وعلى أنها بمعنى
حتى تأتوا غامضا من التأويل والنظر في أخذ ذلك إما لكونه حراما
على قول ابن زيد، وإما لكونه مهديا أو مأخوذا في دين على قول
غيره، وأما قراءة الزهري الأولى فمعناها تهضموا سومها من
البائع منكم فيحطكم، قال أبو عمرو معنى قراءتي الزهري حتى
تأخذوا بنقصان.
قال القاضي أبو محمد: وأما قراءته الثانية فهذا مذهب أبي عمرو
الداني فيها. ويحتمل أن تكون من تغميض العين. وأما قراءة قتادة
فقد ذكرت تفسير أبي عمرو لها. وقال ابن جني: معناها توجدوا قد
غمضتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى
النفوس، وهذا كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا إلى غير ذلك
من الأمثلة، ثم نبه تعالى على صفة الغنى أي لا حاجة به إلى
صدقاتكم، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر، وحَمِيدٌ
معناه محمود في كل حال، وهي صفة ذات.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 268 الى 269]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ
بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ
وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ
مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً
كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269)
(1/363)
هذه الآية وما بعدها وإن لم تكن أمرا
بالصدقة فهي جالبة للنفوس إلى الصدقة، بين عز وجل فيها نزغات
الشيطان ووسوسته وعداوته، وذكر بثوابه هو لا رب غيره. وذكر
بتفضله بالحكمة وأثنى عليها، ونبه أن أهل العقول هم المتذكرون
الذين يقيمون بالحكمة قدر الإنفاق في طاعة الله عز وجل وغير
ذلك، ثم ذكر علمه بكل نفقة ونذر. وفي ذلك وعد ووعيد. ثم بين
الحكم في الإعلان والإخفاء وكذلك إلى آخر المعنى. والوعد في
كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير وإذا قيد بالموعود ما هو فقد
يقيد بالخير وبالشر كالبشارة. فهذه الآية مما قيد الوعد فيها
بمكروه وهو الْفَقْرَ و «الفحشاء» كل ما فحش وفحش ذكره، ومعاصي
الله كلها فحشاء، وروى حيوة عن رجل من أهل الرباط أنه قرأ
«الفقر» بضم الفاء، وهي لغة، وقال ابن عباس: في الآية اثنتان
من الشيطان، واثنتان من الله تعالى، وروى ابن مسعود عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن للشيطان لمة من ابن آدم وللملك
لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، فمن وجد ذلك
فليتعوذ، وأما لمة الملك فوعد بالحق وتصديق بالخير فمن وجد ذلك
فليحمد الله، ثم قرأ عليه السلام الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ
الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ الآية، والمغفرة هي الستر على عباده
في الدنيا والآخرة، والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة فيه
والتنعيم في الآخرة، وبكل قد وعد الله تعالى، وذكر النقاش أن
بعض الناس تأنس بهذه الآية في أن الفقر أفضل من الغنى، لأن
الشيطان إنما يبعد العبد من الخير وهو بتخويفه الفقر يبعد منه.
قال القاضي أبو محمد: وليس في الآية حجة قاطعة أما إن المعارضة
بها قوية وروي أن في التوراة «عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك
فضلي، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة» وفي القرآن مصداقه:
وهو وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وَهُوَ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39] وواسِعٌ لأنه وسع كل شيء رحمة
وعلما، ثم أخبر تعالى عن نفسه أنه يُؤْتِي الْحِكْمَةَ أي
يعطيها لمن يشاء من عباده، واختلف المتأولون في الْحِكْمَةَ في
هذا الموضع فقال السدي: الْحِكْمَةَ النبوءة، وقال ابن عباس:
هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وعربيته. وقال
قتادة: الْحِكْمَةَ الفقه في القرآن، وقاله مجاهد:
وقال مجاهد أيضا: الْحِكْمَةَ الإصابة في القول والفعل، وقال
ابن زيد وأبوه زيد بن أسلم: الْحِكْمَةَ العقل في الدين، وقال
مالك: الْحِكْمَةَ المعرفة في الدين والفقه فيه والاتباع له،
وروى عنه ابن القاسم أنه قال: الْحِكْمَةَ التفكر في أمر الله
والاتباع له، وقال أيضا الْحِكْمَةَ طاعة الله والفقه في الدين
والعمل به، وقال الربيع: الْحِكْمَةَ الخشية، ومنه قول النبي
عليه السلام: «رأس كل شيء خشية الله تعالى» ، وقال إبراهيم:
الْحِكْمَةَ الفهم وقاله زيد بن أسلم، وقال الحسن: الْحِكْمَةَ
الورع، وهذه الأقوال كلها ما عدا قول السدي قريب بعضها من بعض
لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في عمل أو قول. وكتاب
الله حكمة، وسنة نبيه حكمة. وكل ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي
هي الجنس.
وقرأ الجمهور «من يؤت الحكمة» على بناء الفعل للمفعول. وقرأ
الزهري ويعقوب «ومن يؤت» بكسر التاء على معنى ومن يؤت الله
الحكمة ف مَنْ مفعول أول مقدم والْحِكْمَةَ مفعول ثان، وقرأ
الأخفش: «ومن
(1/364)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ
مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ
تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ
عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (271)
يؤته الحكمة» ، وقرأ الربيع بن خثيم «تؤتي
الحكمة من تشاء» بالتاء في «تؤتي» و «تشاء» منقوطة من فوق،
«ومن يؤت الحكمة» بالياء، وباقي الآية تذكرة بينة وإقامة لهمم
الغفلة، والألباب العقول واحدها لب.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 270 الى 271]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ
فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ
(270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ
تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
كانت النذر من سيرة العرب تكثر منها، فذكر تعالى النوعين ما
يفعله المرء متبرعا وما يفعله بعد إلزامه لنفسه، ويقال: نذر
الرجل كذا إذا التزم فعله «ينذر» بضم الذال «وينذر» بكسرها،
وقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ قال مجاهد: معناه
يحصيه، وفي الآية وعد ووعيد، أي من كان خالص النية فهو مثاب
ومن أنفق رئاء أو لمعنى آخر مما يكشفه المن والأذى ونحو ذلك
فهو ظالم يذهب فعله باطلا ولا يجد ناصرا فيه، ووحد الضمير في
يَعْلَمُهُ وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص، وقوله
تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ الآية، ذهب جمهور المفسرين
إلى أن هذه الآية هي في صدقة التطوع، قال ابن عباس: جعل الله
صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها، يقال بسبعين ضعفا، وجعل
صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفا،
قال: وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويقوي ذلك قول
النبي صلى الله عليه وسلم «صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته
في المسجد إلا المكتوبة، وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء
والنوافل عرضة لذلك، وقال سفيان الثوري هذه الآية في التطوع،
وقال يزيد بن أبي حبيب: إنما أنزلت هذه الآية في الصدقة على
اليهود والنصارى، وكان يأمر بقسم الزكاة في السر، وهذا مردود
لا سيما عند السلف الصالح، فقد قال الطبري: أجمع الناس على أن
إظهار الواجب أفضل، قال المهدوي: وقيل المراد بالآية فرض
الزكاة وما تطوع به، فكان الإخفاء فيهما أفضل في مدة النبي
عليه السلام، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك فاستحسن العلماء
إظهار الفرض لئلا يظن بأحد المنع، قال أبو محمد: وهذا القول
مخالف للآثار، ويشبه في زمننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض، فقد
كثر المانع لها وصار إخراجها عرضة للرياء، وقال النقاش: إن هذه
الآية نسخها قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة: 274] ،
وقوله: فَنِعِمَّا هِيَ ثناء على إبداء الصدقة، ثم حكم أن
الإخفاء خير من ذلك الإبداء، واختلف القراء في قوله فَنِعِمَّا
هِيَ، فقرأ نافع في غير رواية ورش، وأبو عمرو وعاصم في رواية
أبي بكر والمفضل «فنعمّا» بكسر النون وسكون «فنعمّا» بكسر
النون والعين، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «فنعمّا» بفتح
النون وكسر العين وكلهم شدد الميم، قال أبو علي من قرأ بسكون
العين لم يستقم قوله، لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس
بحرف مد ولين، وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأول حرف
(1/365)
مد، إذ المد يصير عوضا من الحركة، وهذا نحو
دابة وضوال وشبهه، ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها كأخذه
بالإخفاء في باريكم ويأمركم فظن السامع الإخفاء إسكانا للطف،
ذلك في السمع وخفائه، وأما من قرأ «نعمّا» بكسر النون والعين
فحجته أن أصل الكلمة «نعم» بكسر الفاء من أجل حرف الحلق، ولا
يجوز أن يكون ممن يقول «نعم» ألا ترى أن من يقول هذا قدم ملك
فيدغم، لا يدغم، هؤلاء قوم ملك وجسم ماجد، قال سيبويه «نعما»
بكسر النون والعين ليس على لغة من قال «نعم» فأسكن العين، ولكن
على لغة من قال «نعم» فحرك العين، وحدثنا أبو الخطاب أنها لغة
هذيل وكسرها كما قال لعب ولو كان الذي قال «نعما» ممن يقول نعم
بسكون العين لم يجز الإدغام.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: يشبه أن هذا يمتنع
لأنه يسوق إلى اجتماع ساكنين، قال أبو علي وأما من قرأ «نعمّا»
بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها وهو نعم
ومنه قول الشاعر:
ما أقلّت قدماي أنهم ... نعم الساعون في الأمر المبر
ولا يجوز أن يكون ممن يقول قبل الإدغام «نعم» بسكون العين،
وقال المهدوي وذلك جائز محتمل، وتكسر العين بعد الإدغام
لالتقاء الساكنين، قال أبو علي: وما من قوله «نعما» في موضع
نصب، وقوله هِيَ تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر والتقدير: نعم
شيئا إبداؤها. والإبداء هو المخصوص بالمدح.
إلا أن المضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، ويدلك على هذا
قوله فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي الإخفاء خير، فكما أن الضمير هنا
للإخفاء لا للصدقات، فكذلك أولا الفاعل هو الإبداء، وهو الذي
اتصل به الضمير، فحذف الإبداء وأقيم ضمير الصدقات مقامه،
واختلف القراء في قوله تعالى: ونُكَفِّرْ عَنْكُمْ فقرأ أبو
عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر: «ونكفر» بالنون ورفع
الراء، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «ونكفر» بالنون والجزم في
الراء، وروي مثل ذلك أيضا عن عاصم، وقرأ ابن عامر: «ويكفر»
بالياء ورفع الراء، وقرأ ابن عباس وتكفر بالتاء وكسر الفاء
وجزم الراء، وقرأ عكرمة: وتكفر بالتاء وفتح الفاء وجزم الراء،
وقرأ الحسن: «ويكفر» بالياء وجزم الراء، وروي عن الأعمش أنه
قرأ: وَيُكَفِّرُ بالياء ونصب الراء، وقال أبو حاتم: قرأ
الأعمش: «يكفر» بالياء دون واو قبلها وبجزم الراء، وحكى
المهدوي عن ابن هرمز أنه قرأ: «وتكفر» بالتاء ورفع الراء، وحكي
عن عكرمة وشهر بن حوشب أنهما قرآها بتاء ونصب الراء.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فما كان من هذه
القراءات بالنون فهي نون العظمة، وما كان منها بالتاء فهي
الصدقة فاعلة، إلا ما روي عن عكرمة من فتح الفاء فإن التاء في
تلك القراءة إنما هي للسيئات، وما كان منها بالياء فالله تعالى
هو المكفر، والإعطاء في خفاء هو المكفر، ذكره مكي وأما رفع
الراء فهو على وجهين: أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء، تقدير
ونحن نكفر، أو وهي تكفر، أعني الصدقة، أو والله يكفر، والثاني:
القطع والاستئناف وأن لا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن لعطف
جملة على جملة، وأما الجزم في الراء فإنه حمل للكلام على موضع
قوله تعالى: فَهُوَ خَيْرٌ إذ هو في موضع
(1/366)
لَيْسَ عَلَيْكَ
هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ
إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
جزم جوابا للشرط، كأنه قال: وإن تخفوها يكن
أعظم لأجركم، ثم عطفه على هذا الموضع كما جاء قراءة من قرأ: من
يضلل الله فلا هادي له ونذرهم [الأعراف: 186] بجزم الراء
وأمثلة هذا كثيرة، وأما نصب الراء فعلى تقدير «إن» وتأمل، وقال
المهدوي هو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به
الشيء لوجوب غيره كالاستفهام. والجزم في الراء أفصح هذه
القراءات، لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطا إن
وقع الإخفاء. وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى، ومِنْ في
قوله: مِنْ سَيِّئاتِكُمْ للتبعيض المحض، والمعنى في ذلك
متمكن، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: مِنْ زائدة في هذا
الموضع وذلك منهم خطأ، وقوله: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ وعد ووعيد.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 272]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ
يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما
تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا
مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ
(272)
روي عن سعيد بن جبير في سبب هذه الآية أن المسلمين كانوا
يتصدقون على فقراء أهل الذمة فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم، فنزلت
هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام، وذكر
النقاش أن النبي عليه السلام أتى بصدقات فجاءه يهودي فقال:
أعطني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس لك في صدقة
المسلمين من شيء» ، فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت الآية، لَيْسَ
عَلَيْكَ هُداهُمْ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه،
ثم نسخ الله ذلك بآية إِنَّمَا الصَّدَقاتُ [التوبة: 60] وروي
عن ابن عباس أنه كان ناس من الأنصار لهم قرابات في بني قريظة
والنضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا
احتاجوا، فنزلت الآية بسبب ذلك، وحكى بعض المفسرين أن أسماء
بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أرادت أن تصل جدها أبا
قحافة، ثم امتنعت من ذلك لكونه كافرا، فنزلت الآية في ذلك،
وذكر الطبري أن مقصد النبي صلى الله عليه وسلم بمنع الصدقة
إنما كان ليسلموا ويدخلوا في الدين، فقال الله: لَيْسَ
عَلَيْكَ هُداهُمْ قال أبو محمد: وهذه الصدقة التي أبيحت عليهم
حسبما تضمنته هذه الآثار إنما هي صدقة التطوع. وأما المفروضة
فلا يجزي دفعها لكافر، وهذا الحكم متصور للمسلمين اليوم مع أهل
ذمتهم ومع المسترقين من الحربيين. قال ابن المنذر أجمع من أحفظ
عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا، ثم
ذكر جماعة ممن نص على ذلك، ولم يذكر خلافا، وقال المهدوي رخص
للمسلمين أن يعطوا المشركين من قراباتهم من صدقة الفريضة بهذه
الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مردود عندي، والهدى الذي ليس على
محمد صلى الله عليه وسلم هو خلق الإيمان في قلوبهم، وأما الهدى
الذي هو الدعاء فهو عليه، وليس بمراد في هذه الآية، ثم أخبر
تعالى أنه هو: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي يرشده، وفي هذا رد على
القدرية وطوائف المعتزلة، ثم أخبر أن نفقة المرء
(1/367)
لِلْفُقَرَاءِ
الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ
مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ
النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ
اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
تأجرا إنما هي لنفسه فلا يراعى حيث وقعت،
ثم بيّن تعالى أن النفقة المعتدّ بها المقبولة إنما هي ما كان
ابتغاء وجه الله، هذا أحد التأويلات في قوله تعالى: وَما
تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وفيه تأويل آخر
وهو أنها شهادة من الله تعالى للصحابة أنهم إنما ينفقون ابتغاء
وجه الله، فهو خبر منه لهم فيه تفضيل، وعلى التأويل الآخر هو
اشتراط عليهم ويتناول الاشتراط غيرهم من الأمة، ونصب قوله
ابْتِغاءَ هو على المفعول من أجله، ثم ذكر تعالى أن ثواب
الإنفاق يوفى إلى المنفقين، والمعنى في الآخرة ولا يبخسون منه
شيئا، فيكون ذلك أبخس ظلما لهم، وهذا هو بيان قوله: وَما
تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ والخير في هذه الآية
المال لأنه اقترن بذكر الإنفاق، فهذه القرينة تدل على أنه
المال، ومتى لم يقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون
بمعنى المال، نحو قوله تعالى: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان:
24] وقوله تعالى: مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة:
7] إلى غير ذلك، وهذا الذي قلناه تحرز من قول عكرمة: كل خير في
كتاب الله فهو المال.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 273]
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا
يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ
أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا
يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ
فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
هذه اللام في قوله لِلْفُقَراءِ متعلقة بمحذوف مقدر، تقديره
الإنفاق أو الصدقة للفقراء، وقال مجاهد والسدي وغيرهما: المراد
بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم، قال الفقيه
أبو محمد: ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقر غابر
الدهر، وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك
سواهم، لأن الأنصار كانوا أهل أموال وتجارة في قطرهم، ثم بيّن
الله تعالى من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو
عليهم، بقوله: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
والمعنى حبسوا ومنعوا وذهب بعض اللغويين إلى أن أحصر وحصر
بمعنى واحد من الحبس والمنع سواء كان ذلك بعدو أو بمرض ونحوه
من الأعذار، حكاه ابن سيده وغيره، وفسر السدي هنا الإحصار بأنه
بالعدو. وذهب بعضهم إلى أن أحصر إنما يكون بالمرض والأعذار.
وحصر بالعدو. وعلى هذا فسر ابن زيد وقتادة ورجحه الطبري. وتأول
في هذه الآية أنهم هم حابسو أنفسهم بربقة الدين وقصد الجهاد
وخوف العدو إذا أحاط بهم الكفر، فصار خوف العدو عذرا أحصروا
به.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هذا متجه كأن هذه
الأعذار أحصرتهم أي جعلتهم ذوي حصر، كما قالوا قبره أدخله في
قبره وأقبره جعله ذا قبر، فالعدو وكل محيط يحصر، والأعذار
المانعة «تحصر» بضم التاء وكسر الصاد أي تجعل المرء كالمحاط
به، وقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ يحتمل الجهاد ويحتمل الدخول في
الإسلام، واللفظ يتناولهما، والضرب في الأرض هو التصرف في
التجارة، وضرب الأرض هو المشي إلى حاجة الإنسان في البراز،
وكانوا لا يستطيعون الضرب في الأرض لكون البلاد كلها كفرا
مطبقا، وهذا في صدر الهجرة، فقلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد.
وإنكار الكفار عليهم إسلامهم
(1/368)
يمنع من التصرف في التجارة. فبقوا فقراء
إلا أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث
يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ بباطن أحوالهم أَغْنِياءَ
والتَّعَفُّفِ تفعل، وهو بناء مبالغة من عفّ عن الشيء إذا أمسك
عنه وتنزه عن طلبه. وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره، وقرأ نافع
وأبو عمرو والكسائي «يحسبهم» بكسر السين. وكذلك هذا الفعل في
كل القرآن، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «يحسبهم» بفتح السين في
كل القرآن، وهما لغتان في «يحسب» كعهد ويعهد بفتح الهاء وكسرها
في حروف كثيرة أتت كذلك، قال أبو علي فتح السين في يحسب أقيس
لأن العين من الماضي مكسورة فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة،
والقراءة بالكسر حسنة بمجيء السمع به، وإن كان شاذا عن القياس،
ومِنَ في قوله: مِنَ التَّعَفُّفِ لابتداء الغاية أي من تعففهم
ابتدأت محسبته، وليست لبيان الجنس لأن الجاهل بهم لا يحسبهم
أغنياء غناء تعفف، وانما يحسبهم أغنياء غناء مال، ومحسبته من
التعفف ناشئة، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة عن المسألة، وهو
الذي عليه جمهور المفسرين، لأنهم قالوا في تفسير قوله تعالى لا
يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً:
المعنى لا يسألون البتة. وتحتمل الآية معنى آخر من فيه لبيان
الجنس، سنذكره بعد والسيما مقصورة العلامة. وبعض العرب يقول:
السيمياء بزيادة ياء وبالمد، ومنه قول الشاعر: [الطويل] .
له سيمياء لا تشقّ على البصر واختلف المفسرون في تعيين هذه
«السيما» التي يعرف بها هؤلاء المتعففون، فقال مجاهد: هي
التخشع والتواضع، وقال السدي والربيع: هي جهد الحاجة وقصف
الفقر في وجوههم وقلة النعمة، وقال ابن زيد: هي رثة الثياب،
وقال قوم، وحكاه مكي: هي أثر السجود.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا حسن لأنهم كانوا متفرغين
متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة، فكان أثر السجود
عليهم أبدا، و «الإلحاف» والإلحاح بمعنى واحد، وقال قوم: هو
مأخوذ من ألحف الشيء إذا غطاه وغمه بالتغطية، ومنه اللحاف،
ومنه قول ابن الأحمر: [الوافر]
يظلّ يحفّهنّ بقفقفيه ... ويلحفهنّ هفهافا ثخينا
يصف ذكر نعام يحضن بيضا، فكأن هذا السائل الملح يعم الناس
بسؤاله فيلحفهم ذلك، وذهب الطبري والزجاج وغيرهما إلى أن
المعنى لا يسألون البتة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والآية تحتمل المعنيين نفي
السؤال جملة ونفي الإلحاف فقط، أما الأولى فعلى أن يكون
التَّعَفُّفِ صفة ثابتة لهم، ويحسبهم الجاهل بفقرهم لسبب
تعففهم أغنياء من المال، وتكون مِنَ لابتداء الغاية ويكون
قوله: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً لم يرد به أنهم
يسألون غير إلحاف بل المراد به التنبيه على سوء حالة من يسأل
إلحافا من الناس، كما تقول: هذا رجل خير لا يقتل المسلمين.
فقولك: «خير» قد تضمن أنه لا يقتل ولا يعصي بأقل من ذلك، ثم
نبهت بقولك لا يقتل المسلمين على قبح فعل غيره ممن يقتل،
وكثيرا ما يقال مثل هذا إذا كان المنبه عليه موجودا في القضية
مشارا إليه في نفس المتكلم والسامع. وسؤال الإلحاف لم تخل منه
مدة، وهو مما يكره، فلذلك نبه عليه.
(1/369)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا
لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى
اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (275)
وأما المعنى الثاني فعلى أن يكون
التَّعَفُّفِ داخلا في المحسبة أي إنهم لا يظهر لهم سؤالا، بل
هو قليل.
وبإجمال فالجاهل به مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة، ف مِنَ
لبيان الجنس على هذا التأويل، ثم نفى عنهم سؤال الإلحاف وبقي
غير الإلحاف مقررا لهم حسبما يقتضيه دليل الخطاب، وهذا المعنى
في نفي الإلحاف فقط هو الذي تقتضيه ألفاظ السدي، وقال الزجّاج
رحمه الله: المعنى لا يكون منهم سؤال فلا يكون إلحاف. وهذا كما
قال امرؤ القيس: [الطويل] على لاحب لا يهتدى بمناره.
أي ليس ثم منار فلا يكون اهتداء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: إن كان الزجاج أراد لا يكون
منهم سؤال البتة فذلك لا تعطيه الألفاظ التي بعد لا، وإنما
ينتفي السؤال إذا ضبط المعنى من أول الآية على ما قدمناه، وإن
كان أراد لا يكون منهم سؤال إلحاف فذلك نص الآية، وأما تشبيهه
الآية ببيت امرئ القيس فغير صحيح، وذلك أن قوله: على لاحب لا
يهتدى بمناره وقوله الآخر: [البسيط] .
قف بالطّلول التي لم يعفها القدم وقول الشاعر: [المتقارب]
ومن خفت من جوره في القضا ... ء فما خفت جورك يا عافيه
وما جرى مجراه ترتيب يسبق منه أنه لا يهتدى بالمنار، وإن كان
المنار موجودا، فلا ينتفي إلا المعنى الذي دخل عليه حرف النفي
فقط، وكذلك ينتفي العفا وإن وجد القدم، وكذلك ينتفي الخوف وإن
وجد الجور، وهذا لا يترتب في الآية، ويجوز أن يريد الشعراء أن
الثاني معدوم فلذلك أدخلوا على الأول حرف النفي إذ لا يصح
الأول إلا بوجود الثاني، أي ليس ثم منار، فإذا لا يكون اهتداء
بمنار، وليس ثم قدم فإذا لا يكون عفا، وليس ثم جور فإذا لا
يكون خوف، وقوله تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً، لا
يترتب فيه شيء من هذا، لأن حرف النفي دخل على أمر عام للإلحاف
وغيره، ثم خصص بقوله: إِلْحافاً جزءا من ذلك العام فليس بعدم
الإلحاف ينتفي السؤال، وبيت الشعر ينتفي فيه الأول بعدم الثاني
إذ دخل حرف النفي فيه على شيء متعلق وجوده بوجود الذي يراد أنه
معدوم، والسؤال ليس هكذا مع الإلحاف، بل الأمر بالعكس إذ قد
يعدم الإلحاف منهم ويبقى لهم سؤال لا إلحاف فيه، ولو كان
الكلام لا يلحفون الناس سؤالا لقرب الشبه بالأبيات المتقدمة،
وكذلك لو كان بعد لا يسألون شيء إذا عدم السؤال، كأنك قلت
تكسبا أو نحوه لصح الشبه، والله المستعان وقوله تعالى: وَما
تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ وعد محض
أي يعلمه ويحصيه ليجازي عليه ويثيب.
قوله تعالى:
[سورة البقرة (2) : الآيات 274 الى 275]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ
سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ
وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275)
(1/370)
قال عبد الله بن عباس: نزلت هذه الآية في
علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت له أربعة دراهم فتصدق بدرهم
ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية، وقال ابن جريج:
نزلت في رجل فعل ذلك ولم يسم عليا ولا غيره، وقال ابن عباس
أيضا نزلت هذه الآية في علف الخيل، وقاله عبد الله بن بشر
الغافقي وأبو ذر وأبو أمامة والأوزاعي وأبو الدرداء قالوا: هي
في علف الخيل والمرتبطة في السبيل، وقال قتادة هذه الآية في
المنفقين في سبيل الله من غير تبذير ولا تقتير.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: والآية وإن كانت نزلت في
علي رضي الله عنه، فمعناها يتناول كل من فعل فعله وكل مشاء
بصدقته في الظلم إلى مظنة ذي الحاجة وأما علف الخيل والنفقة
عليها فإن ألفاظ الآية تتناولها تناولا محكما، وكذلك المنفق في
الجهاد المباشر له إنما يجيء إنفاقه على رتب الآية.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان المؤمنون يعملون بهذه الآية
من قوله: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ [البقرة:
271] إلى قوله: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 274] فلما نزلت
براءة بتفصيل الزكاة قصروا عليها، وقد تقدم القول على نفي
الخوف والحزن، والفاء في قوله: فَلَهُمْ دخلت لما في الَّذِينَ
من الإبهام، فهو يشبه بإبهامه الإبهام الذي في الشرط. فحسنت
الفاء في جوابه كما تحسن في الشرط، وإنما يوجد الشبه إذا كان
الذي موصولا بفعل وإذا لم يدخل على «الذي» عامل يغير معناه،
فإن قلت: الذي أبوه زيد هو عمرو فلا تحسن الفاء في قولك فهو،
بل تلبس المعنى، وإذا قلت ليت الذي جاءك جاءني لم يكن للفاء
مدخل في المعنى، وهذه الفاء المذكورة إنما تجيء مؤكدة للمعنى،
وقد يستغنى عنها إذا لم يقصد التأكيد كقوله بعد: لا يَقُومُونَ
وقوله عز وجل: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا الآية، الرِّبا
هو الزيادة وهو مأخوذ من ربا يربو إذا نما وزاد على ما كان،
وغالبة ما كانت العرب تفعله من قولها للغريم أتقضي أم تربي؟
فكان الغريم يزيد في عدد المال، ويصبر الطالب عليه، ومن الربا
البين التفاضل في النوع الواحد لأنها زيادة، وكذلك أكثر البيوع
الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال، وإما في
منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه، ومن البيوع ما ليس فيه معنى
الزيادة كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكالبيع ساعة النداء يوم
الجمعة، فإن قيل لفاعلها: آكل ربا فبتجوز وتشبيه، والربا من
ذوات الواو، وتثنيته ربوان عند سيبويه، ويكتب بالألف. قال
الكوفيون: يكتب ويثنى بالياء لأجل الكسرة التي في أوله. وكذلك
يقولون في الثلاثية من ذوات الواو إذا انكسر الأول أو انضم،
نحو ضحى، فإن كان مفتوحا نحو صفا فكما قال البصري.
ومعنى هذه الآية: الذين يكسبون الربا ويفعلونه، وقصد إلى لفظة
الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال، ولأنها دالة على
الجشع، فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله،
فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك داخل
كله في قوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ، وقال ابن عباس رضي الله
(1/371)
عنه ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع
والضحاك والسدي وابن زيد: معنى قوله: لا يَقُومُونَ من قبورهم
في البعث يوم القيامة، قال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنفة،
وقالوا كلهم يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند جمع المحشر،
ويقوي هذا التأويل المجمع عليه في أن في قراءة عبد الله بن
مسعود «لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم» .
قال القاضي أبو محمد: وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال
القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون، لأن الطمع
والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، وهذا كما تقول لمسرع في
مشيه، مخلط في هيئة حركاته، إما من فزع أو غيره، قد جن هذا،
وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله: [الطويل]
وتصبح من غبّ السّرى وكأنّما ... ألم بها من طائف الجنّ أولق
لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين
يضعف هذا التأويل ويَتَخَبَّطُهُ «يتفعله» من خبط يخبط كما
تقول: تملكه وتعبده وتحمله. والْمَسِّ الجنون، وكذلك الأولق
والألس والرود، وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا معناه عند جميع المتأولين
في الكفار، وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها.
والآية كلها في الكفار المربين نزلت ولهم قيل فَلَهُ ما سَلَفَ
ولا يقال ذلك لمؤمن عاص، ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من
وعيد هذه الآية، ثم جزم تعالى الخير في قوله: وَأَحَلَّ
اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا وقال بعض العلماء في
قوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ هذا من عموم القرآن، لأن
العرب كانت تقدر على إنفاذه، لأن الأخذ والإعطاء عندها بيع،
وكل ما عارض العموم فهو تخصيص منه، وقال بعضهم: هو من مجمل
القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم، والقول الأول عندي
أصح، قال جعفر بن محمد الصادق: حرم الله الربا ليتقارض الناس.
وقال بعض العلماء: حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس.
وسقطت علامة التأنيث في قوله: فَمَنْ جاءَهُ لأن تأنيث الموعظة
غير حقيقي وهو بمعنى وعظ، وقرأ الحسن «فمن جاءته» بإثبات
العلامة، وقوله: فَلَهُ ما سَلَفَ أي من الربا لاتباعه عليه
منه في الدنيا ولا في الآخرة قاله السدي وغيره، وهذا حكم من
الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هناك،
وسَلَفَ معناه تقدم في الزمن وانقضى.
وفي قوله تعالى: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ أربع تأويلات: أحدها
أن الضمير عائد على الربا بمعنى: وأمر الربا إلى الله في إمرار
تحريمه أو غير ذلك. والثاني أن يكون الضمير عائدا على ما
سَلَفَ. أي أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعية فيه.
والثالث أن يكون الضمير عائدا على ذي الربا بمعنى أمره إلى
الله في أن يثيبه على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا.
والرابع أن يعود الضمير على المنتهي ولكن بمعنى التأنيس له
وبسط أمله في الخير. كما تقول وأمره إلى طاعة وخير وموضع رجاء.
وكما تقول وأمره في نمو أو إقبال إلى الله وإلى طاعته، ويجيء
الأمر هاهنا ليس في الربا خاصة بل وجملة أموره. وقوله تعالى:
وَمَنْ عادَ يعني إلى فعل الربا والقول إِنَّمَا الْبَيْعُ
مِثْلُ الرِّبا وإن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد
(1/372)
يَمْحَقُ اللَّهُ
الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ
كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
حقيقي، وإن لحظناها في مسلم عاص فهذا خلود
مستعار على معنى المبالغة، كما تقول العرب: ملك خالد، عبارة عن
دوام ما لا على التأبيد الحقيقي.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 276 الى 277]
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا
يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
يَمْحَقُ معناه: ينقص ويذهب، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه،
وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ معناه ينميها ويزيد ثوابها تضاعفا،
تقول: ربت الصدقة وأرباها الله تعالى ورباها وذلك هو التضعيف
لمن يشاء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن صدقة أحدكم
لتقع في يد الله فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله، أو فلوه،
حتى يجيء يوم القيامة وأن اللقمة لعلى قدر أحد» .
قال القاضي أبو محمد: وقد جعل الله هذين الفعلين بعكس ما يظنه
الحريص الجشع من بني آدم، يظن الربا يغنيه وهو في الحقيقة
ممحق، ويظن الصدقة تفقره وهي نماء في الدنيا والآخرة، وقرأ ابن
الزبير:
«يمحّق الله» بضم الياء وكسر الحاء مشددة، «ويربّي» بفتح الراء
وشد الباء، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ
يقتضي أن الزجر في هذه الآيات للكفار المستحلين للربا القائلين
على جهة التكذيب للشرع إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ووصف
الكفار ب أَثِيمٍ، إما مبالغة من حيث اختلف اللفظان، وإما
ليذهب الاشتراك الذي في كفار، إذ قد يقع على الزارع الذي يستر
الحب في الأرض. قاله ابن فورك قال ومعنى قوله: وَاللَّهُ لا
يُحِبُّ أي لا يحب الكفار الأثيم.
قال القاضي أبو محمد: محسنا صالحا بل يريده مسيئا فاجرا،
ويحتمل أن يريد والله لا يحب توفيق الكفار الأثيم.
وهذه تأويلات مستكرهة، أما الأول فأفرط في تعدية الفعل وحمله
من المعنى ما لا يحتمله لفظه، وأما الثاني فغير صحيح المعنى،
بل الله تعالى يحب التوفيق على العموم ويحببه، والمحب في
الشاهد يكون منه ميل إلى المحبوب ولطف به، وحرص على حفظه،
وتظهر دلائل ذلك، والله تعالى يريد وجود الكافر على ما هو
عليه، وليس له عنده مزية الحب بأفعال تظهر عليه نحو ما ذكرناه
في الشاهد، وتلك المزية موجودة للمؤمن، ولما انقضى ذكرهم عقب
بذكر ضدهم ليبين ما بين الحالين.
فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية، وقد تقدم تفسير مثل ألفاظ
هذه الآية، وخص الصَّلاةَ والزَّكاةَ بالذكر وقد تضمنهما عمل
الصَّالِحاتِ تشريفا لهما، وتنبيها على قدرهما، إذ هما رأس
الأعمال الصلاة في أعمال البدن، والزكاة في أعمال المال.
(1/373)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ
الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا
تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 278 الى 279]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما
بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ
لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ
وَلا تُظْلَمُونَ (279)
سبب هذه الآية أنه كان الربا بين الناس كثيرا في ذلك الوقت،
وكان بين قريش وثقيف ربا، فكان لهؤلاء على هؤلاء. فلما فتح
رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال في خطبته في اليوم
الثاني من الفتح:
«ألا كل ربا في الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن
عبد المطلب» ، فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به،
وهذه من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته،
فيستفيض حينئذ في الناس، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة واستعمل على مكة عتاب بن أسيد، فلما استنزل أهل
الطائف بعد ذلك إلى الإسلام اشترطوا شروطا، منها ما أعطاه رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما لم يعطه، وكان في شروطهم أن
كل ربا لهم على الناس فإنهم يأخذونه، وكل ربا عليهم فهو موضوع،
فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرر لهم هذه ثم ردها
الله بهذه الآية، كما رد صلحه لكفار قريش في رد النساء إليهم
عام الحديبية.
وذكر النقاش رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن
يكتب في أسفل الكتاب لثقيف لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم،
فلما جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون
لبني المغيرة وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف، وكانت لهم على بني
المغيرة المخزوميين فقال بنو المغيرة لا تعطي شيئا فإن الربا
قد وضع، ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة، فكتب به إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، وكتب بها رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى عتاب فعلمت بها ثقيف فكفت، هذا سبب الآية
على اختصار مجموع مما روى ابن إسحاق وابن جريج والسدي وغيرهم.
فمعنى الآية، اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي
لكم من ربا وصفحكم عنه. وقوله:
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط محض في ثقيف على بابه، لأنه كان
في أول دخولهم في الإسلام وإذا قدرنا الآية فيمن تقرر إيمانه
فهو شرط مجازي على جهة المبالغة، كما تقول لمن تريد إقامة
نفسه: إن كنت رجلا فافعل كذا، وحكى النقاش عن مقاتل بن سليمان
أنه قال: إِنْ في هذه الآية بمعنى إذ.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا مردود لا
يعرف في اللغة، وقال ابن فورك:
يحتمل أنه يريد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بمن قبل محمد من
الأنبياء، ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ بمحمد، إذ لا ينفع الأول إلا بهذا وهذا مردود بما
روي في سبب الآية، ثم توعدهم تعالى إن لم يذروا الربا بحرب من
الله ومن رسوله وأمته، والحرب داعية القتل، وروى ابن عباس أنه
يقال يوم القيامة لأكل الربا: خذ سلاحك للحرب، وقال ابن عباس
أيضا: من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام
المسلمين أن يستنيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه، وقال قتادة: أوعد
الله أهل الربا بالقتل فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا، ثم ردهم
تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم، وقال لهم: لا تَظْلِمُونَ
في أخذ الربا وَلا تُظْلَمُونَ
(1/374)
في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم، فتذهب
أموالكم. ويحتمل أن يكون لا تظلمون في مطل، لأن مطل الغني ظلم،
كما قال صلى الله عليه وسلم.
فالمعنى أن يكون القضاء مع وضع الربا. وهكذا سنة الصلح، وهذا
أشبه شيء بالصلح ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار
على كعب بن مالك في دين ابن أبي حدرد بوضع الشطر، فقال كعب:
نعم يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للآخر: قم
فاقضه، فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات، وقرأ
الحسن «ما بقي» بكسر القاف وإسكان الياء، وهذا كما قال جرير:
[البسيط]
هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ... ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
ووجهها أنه شبه الياء بالألف، فكما لا تصل الحركة إلى الألف
فكذلك لم تصل هنا إلى الياء، وفي هذا نظر، وقرأ أبو السمال من
«الرّبو» بكسر الراء المشددة وضم الباء وسكون الواو، وقال أبو
الفتح: شذ هذا الحرف في أمرين:
أحدهما الخروج من الكسر إلى الضم بناء لازما، والآخر وقوع
الواو بعد الضمة في آخر الاسم، وهذا شيء لم يأت إلا في الفعل،
نحو يغزو ويدعو وأما ذو الطائية بمعنى الذي فشاذة جدا، ومنهم
من يغير واوها إذا فارق الرفع، فيقول رأيت ذا قام، ووجه
القراءة أنه فخم الألف انتحاء بها الواو التي الألف بدل منها
على حد قولهم، الصلاة والزكاة وهي بالجملة قراءة شاذة، وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر والكسائي: «فأذنوا» مقصورة
مفتوحة الذال، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: «فآذنوا» ممدودة
مكسورة الذال.
قال سيبويه: آذنت أعلمت، وأذنت ناديت وصوت بالإعلام قال: وبعض
يجري آذنت مجرى أذنت، قال أبو علي: من قال: «فأذنوا» فقصر،
معناه فاعلموا الحرب من الله، قال ابن عباس وغيره من المفسرين:
معناه فاستيقنوا الحرب من الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهي عندي من
الإذن، وإذا أذن المرء في شيء فقد قرره وبنى مع نفسه عليه،
فكأنه قال لهم فقرروا الحرب بينكم وبين الله ورسوله، ملزمهم من
لفظ الآية أنهم مستدعو الحرب والباغون بها، إذ هم الآذنون بها
وفيها، ويندرج في هذا المعنى الذي ذكرته علمهم بأنهم حرب
وتيقنهم لذلك، قال أبو علي: ومن قرأ «فآذنوا» فمد، فتقديره
فأعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب، والمفعول محذوف، وقد ثبت هذا
المفعول في قوله تعالى: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ
[الأنبياء: 109] وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة،
قال: ففي إعلامهم علمهم، وليس في علمهم إعلامهم غيرهم، فقراءة
المد أرجح، لأنها أبلغ وآكد قال الطبري: قراءة القصر أرجح
لأنها تختص بهم، وإنما أمروا على قراءة المد بإعلام غيرهم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والقراءتان عندي
سواء لأن المخاطب في الآية محضور بأنه كل من لم يذر ما بقي من
الربا، فإن قيل لهم: «فأذنوا» فقد عمهم الأمر، وإن قيل لهم:
«فآذنوا» بالمد فالمعنى أنفسكم وبعضكم بعضا، وكأن هذه القراءة
تقتضي فسحا لهم في الارتياء
(1/375)
وَإِنْ كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا
يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
والتثبيت أي فأعلموا نفوسكم هذا ثم انظروا
في الأرجح لكم، ترك الربا أو الحرب، وقرأ جميع القراء «لا
تظلمون» بفتح التاء و «لا تظلمون» بضمها وقد مضى تفسيره.
وروى المفضل عن عاصم: لا «تظلمون» بضم التاء في الأولى وفتحها
في الثانية. قال أبو علي:
وتترجح قراءة الجماعة فإنها تناسب قوله فَإِنْ تُبْتُمْ في
إسناد الفعلين إلى الفاعل فيجيء «تظلمون» بفتح التاء أشكل بما
قبله.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 280 الى 281]
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ
(281)
حكم الله تعالى لأرباب الربا برؤوس الأموال عند الواجدين
للمال، ثم حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حالة اليسر. قال
المهدوي: وقال بعض العلماء هذه الآية ناسخة لما كان في
الجاهلية من بيع من أعسر بدين، وحكى مكي: أن النبي صلى الله
عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام.
قال القاضي أبو محمد: فإن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم
فهو نسخ، وإلا فليس بنسخ، و «العسرة» ضيق الحال من جهة عدم
المال ومنه جيش العسرة، والنظرة التأخير، والميسرة مصدر بمعنى
اليسر، وارتفع ذُو عُسْرَةٍ ب كانَ التامة التي هي بمعنى وجد
وحدث. هذا قول سيبويه وأبي علي وغيرهما، ومن هنا يظهر أن الأصل
الغنى ووفور الذمة، وأن العدم طارئ حادث يلزم أن يثبت. وقال
بعض الكوفيين، حكاه الطبري: بل هي كانَ الناقصة والخبر محذوف،
تقديره وَإِنْ كانَ من غرمائكم ذُو عُسْرَةٍ وارتفع قوله:
فَنَظِرَةٌ على خبر ابتداء مقدر، تقديره فالواجب نظرة، أو
فالحكم نظرة.
قال الطبري: وفي مصحف أبي بن كعب: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ
على معنى وإن كان المطلوب، وقرأ الأعمش «وإن كان معسرا فنظرة»
.
قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى: وكذلك في مصحف أبي بن
كعب، قال مكي والنقاش وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا،
وعلى من قرأ وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ بالواو فهي عامة في جميع
من عليه دين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير لازم، وحكى المهدوي أن في مصحف
عثمان، «فإن كان» بالفاء ذُو عُسْرَةٍ بالواو، وقراءة الجماعة
نظرة بكسر الظاء، وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن: «فنظرة» بسكون
الظاء، وكذلك قرأ الضحاك، وهي على تسكين الظاء من نظرة، وهي
لغة تميمية، وهم الذين يقولون: كرم زيد بمعنى كرم، ويقولون:
كبد في كبد، وكتف في كتف، وقرأ عطاء بن أبي رباح «فناظرة» على
وزن فاعلة، وقال الزجّاج: هي من أسماء المصادر، كقوله تعالى:
لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الواقعة: 2] وكقوله تعالى:
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ [القيامة: 25] ، وكخائنة
الأعين وغيره، وقرأ نافع
(1/376)
وحده «ميسرة» بضم السين، وقرأ باقي السبعة
وجمهور الناس «ميسرة» بفتح السين على وزن مفعلة، وهذه القراءة
أكثر في كلام العرب، لأن مفعلة بضم العين قليل.
قال أبو علي: قد قالوا: مسربة ومشربة، ولكن مفعلة بفتح العين
أكثر في كلامهم، وقرأ عطاء بن أبي رياح أيضا ومجاهد: «فناظره
إلى ميسره» على الأمر في «ناظره» وجعلا الهاء ضمير الغريم،
وضما السين من «ميسره» وكسرا الراء وجعلا الهاء ضمير الغريم،
فأما ناظره ففاعله من التأخير، كما تقول: سامحه، وأما ميسر
فشاذ، قال سيبويه: ليس في الكلام مفعل، قال أبو علي يريد في
الآحاد، فأما في الجمع فقد جاء قول عدي بن زيد: [الرمل]
أبلغ النّعمان عنّي مألكا ... أنّه قد طال حبسي وانتظار
وقول جميل: [الطويل]
بثين الزمي- لا- إنّ- لا- إن لزمته ... على كثرة الواشين أيّ
معون
فالأول جمع مالكة، والآخر جمع معونة، وقال ابن جني: إن عديا
أراد مالكة فحذف، وكذلك جميل أراد أي معونة، وكذلك قول الآخر:
[الرجز] «ليوم روع أو فعال مكرم» «أراد مكرمة» ، فحذف قال:
ويحتمل أن تكون جموعا كما قال أبو علي.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فإن كان ميسر جمع
ميسرة فيجري مجرى هذه الأمثلة، وإن كان قارئه أراد به الإفراد
فذلك شاذ، وقد خطأه بعض الناس، وكلام سيبويه يرده، واختلف أهل
العلم: هل هذا الحكم بالنظرة إلى الميسرة: واقف على أهل الربا
أو هو منسحب على كل ذي دين حال؟
فقال ابن عباس وشريح: ذلك في الربا خاصة، وأما الديون وسائر
الأمانات فليس فيها نظرة، بل تؤدى إلى أهلها، وكأن هذا القول
يترتب إذا لم يكن فقر مدقع وأما مع الفقر والعدم الصريح،
فالحكم هي النظرة ضرورة، وقال جمهور العلماء النظرة إلى
الميسرة حكم ثابت في المعسر سواء كان الدين ربا أو من تجارة في
ذمة أو من أمانة، فسره الضحاك.
وقوله تعالى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا ابتداء وخبره خَيْرٌ، وندب
الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيرا
من إنظاره، قاله السدي وابن زيد والضحاك وجمهور الناس. وقال
الطبري وقال آخرون معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير
خير لكم، ثم أدخل الطبري تحت هذه الترجمة أقوالا لقتادة
وإبراهيم النخعي لا يلزم منها ما تضمنته ترجمته، بل هي كقول
جمهور الناس، وليس في الآية مدخل للغني، وقرأ جمهور القراء:
«تصّدقوا» بتشديد الصاد على الإدغام من تتصدقوا. وقرأ عاصم
«وأن تصدقوا» بتخفيف الصاد وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وأن
تصدقوا» بفك الإدغام.
وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قال: كان آخر ما
أنزل من القرآن آية الربا، وقبض
(1/377)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفسرها
لنا، فدعوا الربا والريبة. وقال ابن عباس: آخر ما نزل آية
الربا.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ومعنى هذا عندي
أنها من آخر ما نزل، لأن جمهور الناس وابن عباس والسدي والضحاك
وابن جريج وغيرهم، قال: آخر آية قوله تعالى: وَاتَّقُوا
يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وقال سعيد بن المسيب:
بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين، وروي أن قوله عز وجل:
وَاتَّقُوا نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال،
ثم لم ينزل بعدها شيء، وروي بثلاث ليال، وروي أنها نزلت قبل
موته بثلاث ساعات، وأنه قال عليه السلام اجعلوها بين آية الربا
وآية الدين، وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال جاءني
جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية، من البقرة.
وقوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى
اللَّهِ إلى آخر الآية، وعظ لجميع الناس وأمر يخص كل إنسان،
ويَوْماً منصوب على المفعول لا على الظرف. وقرأ أبو عمرو بن
العلاء «ترجعون» بفتح التاء وكسر الجيم، وقرأ باقي السبعة
«ترجعون» بضم التاء وفتح الجيم، فمثل قراءة أبي عمرو إِنَّ
إِلَيْنا إِيابَهُمْ [الغاشية: 25] ومثل قراءة الجماعة ثُمَّ
رُدُّوا إِلَى اللَّهِ [الأنعام: 62] وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى
رَبِّي [الكهف: 36] المخاطبة في القراءتين بالتاء على جهة
المبالغة في الوعظ والتحذير، وقرأ الحسن «يرجعون» بالياء على
معنى يرجع جميع الناس.
قال ابن جني كأن الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر
الرجعة إذ هي مما تنفطر له القلوب. فقال لهم: وَاتَّقُوا
يَوْماً، ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم، وقرأ أبي
بن كعب «يوما تردون» بضم التاء، وجمهور العلماء على أن هذا
اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية، وقال قوم
هو يوم الموت، والأول أصح بحكم الألفاظ في الآية، وفي قوله:
إِلَى اللَّهِ مضاف محذوف تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه،
وقوله وَهُمْ رد على معنى كل نفس لا على اللفظ إلا على قراءة
الحسن «يرجعون» ، فقوله: وَهُمْ رد على ضمير الجماعة في
«يرجعون» ، وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب
الإنسان. وهذا رد على الجبرية.
قوله عز وجل:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ
كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما
عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ قال ابن عباس رضي الله عنه
نزلت هذه الآية في السلم خاصة.
قال القاضي أبو محمد: معناه أن سلم أهل المدينة كان بسبب هذه
الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا، وبين تعالى بقوله:
بِدَيْنٍ ما في قوله: تَدايَنْتُمْ من الاشتراك، إذ قد يقال في
كلام العرب: تداينوا بمعنى جازى بعضهم بعضا. ووصفه الأجل بمسمى
دليل على أن المجهلة لا تجوز، فكأن الآية رفضتها، وإذا لم تكن
تسمية وحد فليس أجل، وذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب
(1/378)
على أربابها فرض بهذه الآية، وذهب الربيع
إلى أن ذلك وجب بهذه الألفاظ، ثم خففه الله تعالى بقوله:
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [البقرة: 283] . وقال
الشعبي: كانوا يرون أن قوله: فَإِنْ أَمِنَ ناسخ لأمره بالكتب،
وحكى نحوه ابن جريج، وقاله ابن زيد، وروي عن أبي سعيد الخدري،
وقال جمهور العلماء:
الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب، وإذا كان
الغريم تقيا فما يضره الكتاب وإن كان غير ذلك فالكتب ثقاف في
دينه وحاجة صاحب الحق، وقال بعضهم: إن أشهدت فحزم، وإن ائتمنت
ففي حل وسعة، وهذا هو القول الصحيح، ولا يترتب نسخ في هذا لأن
الله تعالى ندب إلى الكتب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع،
فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس، ثم علم تعالى أنه سيقع
الائتمان فقال إن وقع ذلك فَلْيُؤَدِّ [البقرة: 283] الآية،
فهذه وصية للذين عليهم الديون، ولم يجزم تعالى الأمر نصا بأن
لا يكتب إذا وقع الائتمان، وأما الطبري رحمه الله فذهب إلى أن
الأمر بالكتب فرض واجب وطول في الاحتجاج، وظاهر قوله أنه يعتقد
الأوامر على الوجوب حتى يقوم دليل على غير ذلك.
واختلف الناس في قوله تعالى: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ فقال
عطاء وغيره: واجب على الكاتب أن يكتب، وقال الشعبي وعطاء أيضا:
إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب، وقال السدي: هو
واجب مع الفراغ، وقوله تعالى: بِالْعَدْلِ معناه بالحق
والمعدلة، والباء متعلقة بقوله تعالى: وَلْيَكْتُبْ، وليست
متعلقة ب كاتِبٌ لأنه كان يلزم أن لا يكتب وثيقة إلا العدل في
نفسه، وقد يكتبها الصبي والعبد والمسخوط إذا أقاموا فقهها، أما
أن المنتصبين لكتبها لا يتجوز للولاة ما أن يتركوهم إلا عدولا
مرضيين، وقال مالك رحمه الله: لا يكتب الوثائق من الناس إلا
عارف بها عدل في نفسه مأمون، لقوله تعالى وَلْيَكْتُبْ
بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ثم نهى الله تعالى الكتاب عن
الإباية، وأبى يأبى شاذ لم يجىء إلا قلى يقلى وأبا يأبى، ولا
يجيء فعل يفعل بفتح العين في المضارع إلا إذا رده حرف حلق، قال
الزجّاج والقول في أبى أن الألف فيه أشبهت الهمزة فلذلك جاء
مضارعه يفعل بفتح العين، وحكى المهدوي عن الربيع والضحاك أن
قوله وَلا يَأْبَ منسوخ بقوله لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ
[البقرة: 282] والكاف في قوله كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ متعلقة
بقوله: أَنْ يَكْتُبَ المعنى كتبا كما علمه الله، هذا قول
بعضهم، ويحتمل أن تكون كَما متعلقة بما في قوله وَلا يَأْبَ من
المعنى أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو، وليفضل
كما أفضل الله عليه، ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى
تاما عند قوله: أَنْ يَكْتُبَ، ثم يكون قوله: كَما عَلَّمَهُ
اللَّهُ ابتداء كلام، وتكون الكاف متعلقة بقوله فَلْيَكْتُبْ.
قال القاضي أبو محمد: وأما إذا أمكن الكتاب فليس يجب الكتب على
معين، ولا وجوب الندب، بل له الامتناع إلا إن استأجره، وأما
إذا عدم الكاتب فيتوجه وجوب الندب حينئذ على الحاضر، وأما
الكتب في الجملة فندب كقوله تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ
[الحج: 77] وهو من باب عون الضائع.
قوله عز وجل:
وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ
رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فإن كان الّذى عليه
الحقّ
(1/379)
سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يملّ هو
فليملل وليّه بالعدل أمر الله تعالى الذي عليه الحق بالإملاء،
لأن الشهادة إنما تكون بحسب إقراره، وإذا كتبت الوثيقة وأقرّ
بها فهو كإملاء له. وأمره الله بالتقوى فيما يملي ونهي عن أن
يَبْخَسْ شيئا من الحق، والبخس النقص بنوع من المخادعة
والمدافعة، وهؤلاء الذين أمروا بالإملاء هم المالكون لأنفسهم
إذا حضروا، ثم ذكر الله تعالى ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل
زمن.
فقال فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً وكون
الحق يترتب في جهات سوى المعاملات كالمواريث إذا قسمت وغير
ذلك، والسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه
ولا الإعطاء منها، مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج،
والسفه الخفة، ومنه قول الشاعر وهو ذو الرمة: [الطويل] .
مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت ... أعاليها مرّ الرّياح النّواسم
وهذه الصفة في الشريعة لا تخلو من حجر أب أو وصي، وذلك هو
وليه، ثم قال: أَوْ ضَعِيفاً والضعيف هو المدخول في عقله
الناقص الفطرة، وهذا أيضا قد يكون وليه أبا أو وصيا، الذي لا
يستطيع أن يمل هو الصغير، ووَلِيُّهُ وصيه أو أبوه والغائب عن
موضع الإشهاد إما لمرض أو لغير ذلك من العذر، ووَلِيُّهُ
وكيله، وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء، والأولى أنه ممن
لا يستطيع، فهذه أصناف تتميز، ونجد من ينفرد بواحد واحد منها،
وقد يجتمع منها اثنان في شخص واحد، وربما اجتمعت كلها في شخص،
وهذا الترتيب ينتزع من قول مالك وغيره من العلماء الحذاق، وقال
بعض الناس: السفيه الصبي الصغير، وهذا خطأ، وقال قوم الضعيف هو
الكبير الأحمق، وهذا قول حسن، وجاء الفعل مضاعفا في قوله: أَنْ
يُمِلَّ لأنه لو فك لتوالت حركات كثيرة، والفك في هذا الفعل
لغة قريش. وبِالْعَدْلِ معناه بالحق وقصد الصواب، وذهب الطبري
إلى أن الضمير في وَلِيُّهُ عائد على الْحَقُّ، وأسند في ذلك
عن الربيع وعن ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي شيء لا يصح عن ابن عباس، وكيف
تشهد على البينة على شيء وتدخل مالا في ذمة السفيه بإملاء الذي
له الدين؟ هذا شيء ليس في الشريعة، والقول ضعيف إلا أن يريد
قائله أن الذي لا يستطيع أَنْ يُمِلَّ بمرضه إذا كان عاجزا عن
الإملاء فليمل صاحب الحق بالعدل ويسمع الذي عجز، فإذا كمل
الإملاء أقر به، وهذا معنى لم تعن الآية إليه، ولا يصح هذا إلا
فيمن لا يستطيع أن يمل بمرض.
قوله عز وجل:
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ
يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ
مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ
إِحْداهُمَا الْأُخْرى الاستشهاد: طلب الشهادة وعبر ببناء
مبالغة في شَهِيدَيْنِ دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه،
(1/380)
فكأنها إشارة إلى العدالة: وقوله تعالى:
مِنْ رِجالِكُمْ نص في رفض الكفار والصبيان والنساء، وأما
العبيد فاللفظ يتناولهم. واختلف العلماء فيهم فقال شريح وإسحاق
بن راهويه وأحمد بن حنبل: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلا،
وغلبوا لفظ الآية. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور
العلماء: لا تجوز شهادة العبد، وغلبوا نقص الرق، واسم كان
الضمير الذي في قوله يَكُونا.
والمعنى في قول الجمهور، فإن لم يكن المستشهد رجلين أي إن أغفل
ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما، وقال قوم: بل المعنى فإن لم
يوجد رجلان، ولا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال،
وهذا قول ضعيف، ولفظ الآية لا يعطيه بل الظاهر منه قول
الجمهور، وقوله: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مرتفع بأحد ثلاثة
أشياء، إما أن تقدر فليستشهد رجل وامرأتان، وإما فليكن رجل
وامرأتان ويصح أن تكون يَكُونا هذه التامة والناقصة، ولكن
التامة أشبه، لأنه يقل الإضمار، وإما فرجل وامرأتان يشهدون،
وعلى كل وجه فالمقدر هو العامل في قوله: أَنْ تَضِلَّ
إِحْداهُما وروى حميد بن عبد الرحمن عن بعض أهل مكة أنهم قرؤوا
«وامرأتان» بهمز الألف ساكنة.
قال ابن جني: لا نظير لتسكين الهمزة المتحركة على غير قياس
وإنما خففوا الهمزة فقربت من الساكن، ثم بالغوا في ذلك فصارت
الهمزة ألفا ساكنة كما قال الشاعر: [الطويل] .
يقولون جهلا ليس للشّيخ عيّل ... لعمري لقد أعيلت وأن رقوب
يريد «وأنا» ، ثم بعد ذلك يدخلون الهمزة على هذه الألف كما هي.
وهي ساكنة وفي هذا نظر، ومنه قراءة ابن كثير «عن ساقيها»
وقولهم يا ذو خاتم قال أبو الفتح: فإن قيل شبهت الهمزة بالألف
في أنها ساوتها في الجهر والزيادة والبدل والحذف وقرب المخرج
وفي الخفاء فقول مخشوب لا صنعة فيه، ولا يكاد يقنع بمثله،
وقوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ رفع في موضع
الصفة لقوله عز وجل: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ.
قال أبو علي: ولا يدخل في هذه الصفة قوله: شَهِيدَيْنِ اختلاف
الإعراب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حكم لفظي، وأما المعنى فالرضى شرط
في الشهيدين كما هو في الرجل والمرأتين.
قال ابن بكير وغيره: قوله مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مخاطبة للحكام.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير نبيل، إنما الخطاب لجميع الناس،
لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام، وهذا كثير في كتاب
الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض، وفي قوله: مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ دليل على أن في الشهود من لا يرضى، فيجيء من ذلك أن
الناس ليسوا بمحمولين على العدالة حتى تثبت لهم. وقرأ حمزة
وحده: «إن تضل» بكسر الألف وفتح التاء وكسر الضاد «فتذكر» بفتح
الذال ورفع الراء وهي قراءة الأعمش. وقرأها الباقون «أن تضل»
بفتح الألف «فتذكر» بنصب الراء. غير أن ابن كثير وأبا عمرو
خففا الذال والكاف، وشددها الباقون، وقد تقدم القول فيما هو
العامل في قوله: أَنْ تَضِلَّ، وأَنْ مفعول من أجله والشهادة
لم تقع لأن تضل إحداهما. وإنما وقع إشهاد امرأتين لأن تذكر
(1/381)
إحداهما إن ضلت الأخرى. قال سيبويه: وهذا
كما تقول: أعددت هذه الخشبة أن يميل هذا الحائط فأدعمه.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ولما كانت النفوس
مستشرفة إلى معرفة أسباب الحوادث، قدم في هذه العبارة ذكر سبب
الأمر المقصود أن يخبر به، وفي ذلك سبق النفوس إلى الإعلام
بمرادها، وهذا من أنواع أبرع الفصاحة، إذ لو قال رجل لك: أعددت
هذه الخشبة أن أدعم بها الحائط، لقال السامع: ولم تدعم حائطا
قائما؟ فيجب ذكر السبب فيقال: إذا مال. فجاء في كلامهم تقديم
السبب أخصر من هذه المحاورة. وقال أبو عبيد: معنى تَضِلَّ
تنسى.
قال القاضي أبو محمد: والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء
منها وذكر جزء. ويبقى المرء بين ذلك حيران ضالا، ومن نسي
الشهادة جملة فليس يقال: ضل فيها، فأما قراءة حمزة فجعل أَنْ
الجزاء، والفاء في قوله فَتُذَكِّرَ جواب الجزاء، وموضع الشرط
وجوابه رفع بكونه صفة للمذكور، وهما المرأتان، وارتفع «تذكر»
كما ارتفع قوله تعالى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ
مِنْهُ [المائدة: 95] هذا قول سيبويه.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وأما نصب قوله «فتذكر» على
قراءة الجماعة فعلى العطف على الفعل المنصوب ب أَنْ، وتخفيف
الكاف على قراءة أبي عمرو وابن كثير هو بمعنى تثقيله من الذكر،
يقال: ذكرت وأذكرته تعديه بالتضعيف أو بالهمز، وروي عن أبي
عمرو بن العلاء وسفيان بن عيينة أنهما قالا: معنى قوله:
«فتذكر» بتخفيف الكاف أي تردها ذكرا في الشهادة، لأن شهادة
امرأة تصف شهادة، فإذا شهدتا صار مجموعهما كشهادة ذكر، وهذا
تأويل بعيد، غير فصيح، ولا يحسن في مقابلة الضلال إلا الذكر،
وذكرت بشد الكاف يتعدى إلى مفعولين، وأحدهما في الآية محذوف،
تقديره فتذكر إحداهما الأخرى «الشهادة» ، التي ضلت عنها، وقرأ
الجحدري وعيسى بن عمر: «أن تضل» بضم التاء وفتح الضاد بمعنى
تنسى، هكذا حكى عنهما أبو عمرو الداني، وحكى النقاش عن الجحدري
ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تضل الشهادة، تقول: أضللت الفرس
والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما، وقرأ حميد بن عبد
الرحمن ومجاهد «فتذكر» بتخفيف الكاف المكسورة ورفع الراء،
وتضمنت هذه الآية جواز شهادة امرأتين بشرط اقترانهما برجل،
واختلف قول مالك في شهادتهما، فروى عنه ابن وهب أن شهادة
النساء لا تجوز إلا حيث ذكرها الله في الدين، أو فيما لا يطلع
عليه أحد إلا هن للضرورة إلى ذلك، وروى عنه ابن القاسم أنها
تجوز في الأموال والوكالات على الأموال وكل ما جر إلى مال،
وخالف في ذلك أشهب وغيره، وكذلك إذا شهدن على ما يؤدي إلى غير
مال، ففيها قولان في المذهب.
قوله عز وجل:
وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ
تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ
أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى
أَلَّا تَرْتابُوا قال قتادة والربيع وغيرهما: معنى الآية، إذا
دعوا أن يشهدوا فيتقيد حق بشهادتهم، وفي هذا المعنى
(1/382)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ
بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا
عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ
شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ
ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ
تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى
وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا
أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ
ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ
وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ
وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا
فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ
اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
نزلت، لأنه كان يطوف الرجل في القوم الكثير
يطلب من يشهد له فيتحرجون هم عن الشهادة فلا يقوم معه أحد،
فنزلت الآية في ذلك، وقال الحسن بن أبي الحسن: الآية جمعت
أمرين: لا تأب إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دعيت إلى
أدائها، وقاله ابن عباس، وقال مجاهد: معنى الآية، لا تأب إذا
دعيت إلى أداء شهادة قد حصلت عندك، وأسند النقاش إلى النبي صلى
الله عليه وسلم أنه فسر الآية بهذا، قال مجاهد: فأما إذا دعيت
لتشهد أولا، فإن شئت فاذهب، وإن شئت فلا تذهب، وقاله لا حق بن
حميد وعطاء وإبراهيم وابن جبير والسدي وابن زيد وغيرهم.
قال القاضي أبو محمد: والآية كما قال الحسن جمعت أمرين على جهة
الندب، فالمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة
لكثرة الشهود وإلا من تعطل الحق فالمدعو مندوب، وله أن يتخلف
لأدنى عذر وإن تخلف لغير عذر فلا إثم عليه ولا ثواب له، وإذا
كانت الضرورة وخيف تعطل الحق أدنى خوف قوي الندب وقرب من
الوجوب، وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة
فواجب عليه القيام بها، لا سيما إن كانت محصلة، وكان الدعاء
إلى أدائها، فإن هذا الظرف آكد لأنها قلادة في العنق وأمانة
تقتضي الأداء، وَلا تَسْئَمُوا معناه تملوا، وصَغِيراً أَوْ
كَبِيراً حالان من الضمير في تَكْتُبُوهُ، وقدم الصغير اهتماما
به، وهذا النبي الذي جاء عن السآمة إنما جاء لتردد المداينة
عندهم، فخيف عليهم أن يملوا الكتب وأَقْسَطُ معناه أعدل. وهذا
أفعل من الرباعي وفيه شذوذ، فانظر هل هو من قسط بضم السين؟ كما
تقول: «أكرم» من «كرم» يقال: أَقْسَطُ بمعنى عدل وقسط بمعنى
جار، ومنه قوله تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا
لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الجن: 15] ومن قدر قوله تعالى: وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ بمعنى
وأشد إقامة فذلك أيضا أفعل من الرباعي، ومن قدرها من قام بمعنى
اعتدل زال عن الشذوذ، وَأَدْنى معناه أقرب، وتَرْتابُوا معناه،
تشكوا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي. «يسأموا» و «يكتبوا» و
«يرتابوا» كلها بالياء على الحكاية عن الغائب.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 282]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ
كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما
عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ
شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ
ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ
تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا
يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ
تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ
أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى
أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً
تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ
تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ
كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ
بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
لما علم الله تعالى مشقة الكتاب عليهم نص على ترك ذلك ورفع
الجناح فيه في كل مبايعة بنقد، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل
كالمطعوم ونحوه لا في كثير كالأملاك ونحوها. وقال السدي
والضحاك:
هذا فيما كان يدا بيد تأخذ وتعطي، وأن في موضع نصب على
الاستثناء المنقطع، وقوله تعالى:
تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ يقتضي التقابض والبينونة بالمقبوض،
ولما كانت الرباع والأرض وكثير من الحيوان لا تقوى البينونة به
ولا يعاب عليه حسن الكتب فيها ولحقت في ذلك بمبايعة الدين وقرأ
عاصم وحده «تجارة» نصبا، وقرأ الباقون «تجارة» رفعا، قال أبو
علي وأشك في ابن عامر، وإذا أتت بمعنى حدث ووقع غنيت
(1/383)
عن خبر، وإذا خلع منها معنى الحدوث لزمها
الخبر المنصوب، فحجة من رفع تجارة إن كان بمعنى حدث ووقع، وأما
من نصب فعلى خبر كان، والاسم مقدر تقديره عند أبي علي إما
المبايعة التي دلت الآيات المتقدمة عليها، وإما إِلَّا أَنْ
تَكُونَ التجارة تِجارَةً، ويكون ذلك مثل قول الشاعر: [الطويل]
.
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
أي إذا كان اليوم يوما.
قال القاضي أبو محمد: هكذا أنشد أبو علي البيت، وكذلك أبو
العباس المبرد، وأنشده الطبري:
[الطويل]
ولله قومي أيّ قوم لحرّة ... إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
وأنشده سيبويه بالرفع إذا كان يوم ذو كواكب.
وقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ قال الطبري معناه
وأشهدوا على صغير ذلك وكبيره، واختلف الناس هل ذلك على الوجوب
أو على الندب؟ فقال الحسن والشعبي وغيرهما: ذلك على الندب،
وقال ابن عمرو والضحاك: ذلك على الوجوب، وكان ابن عمر يفعله في
قليل الأشياء وكثيرها، وقاله عطاء ورجح ذلك الطبري.
قال القاضي أبو محمد: والوجوب في ذلك قلق أما في الدقائق فصعب
شاق وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستيلاف بترك الإشهاد،
وقد يكون عادة في بعض البلاد، وقد يستحيي من العالم والرجل
الكبير الموقر فلا يشهد عليه، فيدخل ذلك كله في الائتمان،
ويبقى الأمر بالإشهاد ندبا لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم
يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا.
وحكى المهدوي عن قوم أنهم قالوا: وَأَشْهِدُوا إِذا
تَبايَعْتُمْ منسوخ بقوله فَإِنْ أَمِنَ [البقرة: 283] ، وذكره
مكي عن أبي سعيد الخدري.
واختلف الناس في معنى قوله تعالى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا
شَهِيدٌ. فقال الحسن وقتادة وطاوس وابن زيد وغيرهم: المعنى ولا
يضار الكاتب بأن يكتب ما لم يمل عليه ولا يضار الشاهد بأن يزيد
في الشهادة أو ينقص منها، وقال مثله ابن عباس ومجاهد وعطاء إلا
أنهم قالوا: لا يضار الكاتب والشاهد بأن يمتنعا.
قال القاضي أبو محمد: ولفظ الضرر يعم هذا والقول الأول، والأصل
في يضار على هذين القولين «يضارر» بكسر الراء ثم وقع الإدغام
وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد
والضحاك والسدي وطاوس وغيرهم: معنى الآية وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ
وَلا شَهِيدٌ بأن يؤذيه طالب الكتبة أو الشهادة فيقول اكتب لي
أو اشهد لي في وقت عذر أو شغل للكاتب أو الشاهد فإذا اعتذرا
بعذرهما حرج وآذاهما، وقال خالفت أمر الله ونحو هذا من القول،
ولفظ المضارة إذ هو من اثنين يقتضي هذه المعاني كلها، والكاتب
والشهيد على القول الأول رفع بفعلهما وفي القول الثاني رفع على
المفعول الذي لم يسم
(1/384)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى
سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ
أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا
الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
فاعله، وأصل يُضَارَّ على القول الثاني
«يضارر» بفتح الراء، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن
ابن مسعود ومجاهد أنهم كانوا يقرؤون «ولا يضارر» بالفك وفتح
الراء الأولى، وهذا على معنى أن يبدأهما بالضرر طالب الكتبة
والشهادة، وذكر ذلك الطبري عنهم في ترجمة هذا القول وفسر
القراءة بهذا المعنى فدل ذلك على أن الراء الأولى مفتوحة كما
ذكرنا، وحكى أبو عمرو الداني عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن
أبي إسحاق ومجاهد أن الراء الأولى مكسورة، وحكى عنهم أيضا
فتحها، وفك الفعل هي لغة أهل الحجاز والإدغام لغة تميم، وقرأ
أبو جعفر بن القعقاع وعمرو بن عبيد «ولا يضار» بجزم الراء، قال
أبو الفتح: تسكين الراء مع التشديد فيه نظر، ولكن طريقه أجرى
الوصل مجرى الوقف، وقرأ عكرمة «ولا يضارر» بكسر الراء الأولى
«كاتبا ولا شهيدا» بالنصب أي لا يبدأهما صاحب الحق بضرر، ووجوه
المضارة لا تنحصر، وروى مقسم عن عكرمة أنه قرأ «ولا يضار»
بالإدغام وكسر الراء للالتقاء، وقرأ ابن محيصن «ولا يضار» برفع
الراء مشددة، قال ابن مجاهد: ولا أدري ما هذه القراءة؟
قال أبو الفتح هذا الذي أنكره ابن مجاهد معروف، وذلك على أن
تجعل لا نفيا أي ليس ينبغي أن يضار كما قال الشاعر: [الطويل]
على الحكم المأتيّ يوما إذا انقضى ... قضيّته أن لا يجوز ويقصد
فرفع ويقصد على إرادة وينبغي أن يقصد فكذلك يرتفع «ولا يضارّ»
على معنى وينبغي أن لا يضار، قال: وإن شئت كان لفظ خبر على
معنى النهي.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قريب من النظر الأول.
وقوله تعالى: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ من
جعل المضارة المنهي عنها زيادة الكاتب والشاهد فيما أملي
عليهما أو نقصهما منه فالفسوق على عرفه في الشرع وهو مواقعة
الكبائر، لأن هذا من الكذب المؤذي في الأموال والأبشار، وفيه
إبطال الحق، ومن جعل المضارة المنهي عنها أذى الكاتب والشاهد
بأن يقال لهما: أجيبا ولا تخالفا أمر الله أو جعلها امتناعهما
إذا دعيا فالفسوق على أصله في اللغة الذي هو الخروج من شيء كما
يقال فسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، وفسقت الرطبة فكأن فاعل
هذا فسق عن الصواب والحق في هذه النازلة، ومن حيث خالف أمر
الله في هذه الآية فيقرب الأمر من الفسوق العرفي في الشرع،
وقوله بِكُمْ تقديره فسوق حال بكم، وباقي الآية موعظة وتعديد
نعمه والله المستعان والمفضل لا رب غيره، وقيل إن معنى الآية
الوعد بأن من اتقى علم الخير وألهمه.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 283]
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ
مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ
الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ
وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ
آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ
الأموال والأديان عقب ذلك بذكر حال
(1/385)
الأعذار المانعة من الكتب وجعل لها الرهن
ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو الغالب من الأعذار لا
سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر،
فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس
وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب
الرهن.
وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي طلب منه سلف
الشعير، فقال: إنما يريد محمد أن يذهب بمالي، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم «كذب إني لأمين في الأرض أمين في السماء، ولو
ائتمنني لأديت، اذهبوا إليه بدرعي» .
وقد قال جمهور من العلماء الرهن في السفر ثابت في القرآن، وفي
الحضر ثابت في الحديث.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن، إلا أنه لم يمعن فيه النظر في
لفظ السفر في الآية، وإذا كان السفر في الآية مثالا من الأعذار
فالرهن في الحضر موجود في الآية بالمعنى، إذ قد تترتب الأعذار
في الحضر، وذهب الضحاك ومجاهد إلى أن الرهن والائتمان إنما هو
في السفر، وأما في الحضر فلا ينبغي شيء من ذلك، وضعف الطبري
قولهما في الرهن بحسب الحديث الثابت الذي ذكرته، وقوي قولهما
في الائتمان، والصحيح ضعف القول في الفصلين بل يقع الائتمان في
الحضر كثيرا ويحسن، وقرأ جمهور القراء «كاتبا» بمعنى رجل يكتب،
وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «كتابا» بكسر الكاف وتخفيف التاء
وألف بعدها وهو مصدر، قال مكي: وقيل هو جمع كاتب كقائم وقيام.
قال القاضي أبو محمد: ومثله صاحب وصحاب، وقرأ بذلك مجاهد وأبو
العالية وقالا: المعنى وإن عدمت الدواة والقلم أو الصحيفة،
ونفي وجود الكتاب يكون بعدم أي آلة اتفق من الآلة، فنفي الكتاب
يعمها، ونفي الكاتب أيضا يقتضي نفي الكتاب فالقراءتان حسنتان
إلا من جهة خط المصحف، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «كتابا» بضم
الكاف على جمع كاتب، وهذا يحسن من حيث لكل نازلة كاتب، فقيل
للجماعة ولم تجدوا كتابا، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة
من قرأ «كاتبا» ، وحكى المهدوي عن أبي العالية أنه قرأ «كتبا»
وهذا جمع كتاب من حيث النوازل مختلفة، وهذا هو الجنس الذي تدل
عليه قراءة من قرأ «كتابا» .
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وجمهور من العلماء
«فرهان» ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «فرهن» بضم الراء والهاء،
وروي عنهما تخفيف الهاء. وقد قرأ بكل واحدة جماعة غيرهما.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: رهن الشيء في كلام
العرب معناه: دام واستمر، يقال أرهن لهم الشراب وغيره قال ابن
سيده: ورهنه أي أدامه، ومن رهن بمعنى دام قول الشاعر: [السريع]
اللحم والخبز لهم راهن ... وقهوة راووقها ساكب
أي دائم قال أبو علي ولما كان الرهن بمعنى الثبوت والدوام فمن
ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى يد الراهن
بوجه من الوجوه لأنه فارق ما جعل له، ويقال أرهن في السلعة إذا
غالى فيها حتى أخذها بكثير الثمن، ومنه قول الشاعر في وصف
ناقة: [البسيط]
(1/386)
يطوي ابن سلمى بها من راكب بعدا ... عيدية
أرهنت فيها الدّنانير
العيد بطن من مهرة، وإبل مهرة موصوفة بالنجابة، ويقال في معنى
الرهن الذي هو التوثقة من الحق:
أرهنت إرهانا فيما حكى بعضهم، وقال أبو علي يقال: أرهنت في
المغالاة، وأما في القرض والبيع فرهنت.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ويقال بلا خلاف في
البيع والقرض: رهنت رهنا، ثم سمي بهذا المصدر الشيء المدفوع،
ونقل إلى التسمية، ولذلك كسر في الجمع كما تكسر الأسماء وكما
تكسر المصادر التي يسمى بها وصار فعله ينصبه نصب المفعول به لا
نصب المصدر، تقول: رهنت رهنا فذلك كما تقول رهنت ثوبا، لا كما
تقول: رهنت الثوب رهنا وضربت ضربا، قال أبو علي: وقد يقال في
هذا المعنى أرهنت، وفعلت فيه أكثر، ومنه قول الشاعر: [الوافر]
يراهنني ويرهنني بنيه ... وأرهنه بنيّ بما أقول
وقال الأعشى: [الكامل]
حتّى يقيدك من بنيه رهينة ... نعش ويرهنك السّماك الفرقدا
فهذه رويت من رهن وأما أرهن فمنه قول همام بن مرة: [المتقارب]
ولمّا خشيت أظافرهم ... نجوت وأرهنتهم مالكا
قال الزجّاج يقال في الرهن رهنت وأرهنت، وقاله ابن الأعرابي،
ويقال رهنت لساني بكذا ولا يقال فيه أرهنت.
قال القاضي أبو محمد: فمن قرأ «فرهان» فهو جمع رهن، ك «كبش» و
«كباش» ، و «كعب» وكعاب، ونعل ونعال، وبغل وبغال، ومن قرأ
«فرهن» بضم الراء والهاء فهو جمع رهن، ك «سقف وسقف، وأسد وأسد،
إذ فعل وفعل يتقاربان في أحكامهما، ومن قرأ «فرهن» بسكون الهاء
فهو تخفيف رهن، وهي لغة في هذا الباب كله، كتف وفخذ وعضد وغير
ذلك، قال أبو علي: وتكسير رهن على أقل العدد لم أعلمه جاء، ولو
جاء لكان قياسه أفعل ككلب وأكلب، وكأنهم استغنوا بالكثير عن
القليل في قولهم: ثلاثة شسوع، وكما استغني ببناء القليل عن
بناء الكثير في رسن وأرسان، فرهن يجمع على بناءين من أبنية
الجموع وهما فعل وفعال، فمما جاء على «فعل» قول الأعشى:
[الكامل]
آليت لا أعطيه من أبنائنا ... رهنا فيفسدهم كمن قد أفسدا
قال الطبري: تأول قوم أن «رهنا» بضم الراء والهاء جمع رهان،
فهو جمع جمع، وحكاه الزجّاج عن الفرّاء، ووجه أبو علي قياسا
يقتضي أن يكون رهانا جمع رهن بأن يقال يجمع فعل على فعال كما
جمعوا فعالا على فعائل في قول ذي الرمة: [الطويل]
وقرّبن بالزرق الجمائل بعد ما ... تقوّب عن غربان أوراكها
الخطر
(1/387)
ثم ضعف أبو علي هذا القياس وقال إن سيبويه
لا يرى جمع الجمع مطردا فينبغي أن لا يقدم عليه حتى يرد سماعا.
وقوله عز وجل: مَقْبُوضَةٌ يقتضي بينونة المرتهن بالرهن، وأجمع
الناس على صحة قبض المرتهن، وكذلك على قبض وكيله فيما علمت.
واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه، فقال مالك وجميع
أصحابه وجمهور العلماء قبض العدل قبض، وقال الحكم بن عتيبة
وأبو الخطاب قتادة بن دعامة وغيرهما: ليس قبض العدل بقبض، وقول
الجمهور أصح من جهة المعنى في الرهن.
وقوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ الآية، شرط ربط به وصية الذي عليه
الحق بالأداء، وقوله فَلْيُؤَدِّ أمر بمعنى الوجوب بقرينة
الإجماع على وجوب أداء الديون وثبوت حكم الحاكم به وجبره
الغرماء عليه، وبقرينة الأحاديث الصحاح في تحريم مال الغير،
وقوله أَمانَتَهُ مصدر سمي به الشيء الذي في الذمة، وأضافها
إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليه نسبة، ويحتمل أن يريد
بالأمانة نفس المصدر، كأنه قال:
فليحفظ مروءته، فيجيء التقدير: فليؤد ذا أمانته، وقرأ عاصم
فيما روى عنه أبو بكر الذي اؤتمن برفع الألف ويشير بالضم إلى
الهمزة، قال أحمد بن موسى وهذه الترجمة غلط، وقرأ الباقون
بالذال مكسورة وبعدها همزة ساكنة بغير إشمام، وهذا هو الصواب
الذي لا يجوز غيره، وروى سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضم، وهذا
خطأ أيضا لا يجوز، وصوّب أبو علي هذا القول كله الذي لأحمد بن
موسى واحتج له، وقرأ ابن محيصن «الذي أيتمن» بياء ساكنة مكان
الهمزة، وكذلك ما كان مثله.
وقوله تعالى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ نهي على الوجوب بعدة
قرائن، منها الوعيد وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق،
وقال ابن عباس على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر حيثما
استخبر، قال ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله
يرجع ويرعوي.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا عندي بحسب
قرينة حال الشاهد والمشهود فيه والنازلة، لا سيما مع فساد
الزمن وأرذال الناس ونفاق الحيلة وأعراض الدنيا عند الحكام،
فرب شهادة إن صرح بها في غير موضع النفوذ كانت سببا لتخدم
باطلا ينطمس به الحق، وآثِمٌ معناه قد تعلق به الحكم اللاحق عن
المعصية في كتمان الشهادة، وإعرابه أنه خبر «إن» ، وقَلْبُهُ
فاعل ب آثِمٌ، ويجوز أن يكون ابتداء وقَلْبُهُ فاعل يسد مسد
الخبر، والجملة خبر إن، ويجوز أن يكون قَلْبُهُ بدلا على بدل
البعض من الكل.
وخص الله تعالى ذكر القلب إذ الكتم من أفعاله، وإذ هو المضغة
التي بصلاحها يصلح الجسد كما قال عليه السلام، وقرأ ابن أبي
عبلة «فإنه آثم قلبه» بنصب الباء، قال مكي هو على التفسير ثم
ضعفه من أجل أنه معرفة.
وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ توعد وإن
كان لفظها يعم الوعيد والوعد.
(1/388)
لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي
أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 284]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ
تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ
بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
المعنى جميع ما في السموات وما في الأرض ملك الله وطاعة، لأنه
الموجد المخترع لا رب غيره، وعبر ب ما وإن كان ثم من يعقل لأن
الغالب إنما هو جماد، ويقل من يعقل من حيث قلت أجناسه، إذ هي
ثلاثة: ملائكة، وإنس، وجن، وأجناس الغير كثيرة.
وقوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ معناه أن الأمر سواء، لا
تنفع فيه المواراة والكتم، بل يعلمه ويحاسب عليه، وقوله: فِي
أَنْفُسِكُمْ تقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد
واستصحبت الفكرة فيه، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست
في النفس إلا على تجوز.
واختلف الناس في معنى هذه الآية، فقال ابن عباس وعكرمة والشعبي
هي في معنى الشهادة التي نهي عن كتمها، ثم أعلم في هذه الآية
أن الكاتم لها المخفي في نفسه محاسب، وقال ابن عباس أيضا وأبو
هريرة والشعبي وجماعة من الصحابة والتابعين إن هذه الآية لما
نزلت شق ذلك على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا هلكنا
يا رسول الله إن حوسبنا بخواطر نفوسنا، وشق ذلك على النبي صلى
الله عليه وسلم لكنه قال لهم أتريدون أن تقولوا كما قالت بنو
إسرائيل: سمعنا وعصينا؟! بل قولوا سمعنا وأطعنا، فقالوها،
فأنزل الله بعد ذلك لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَها [البقرة: 286] ، فكشف عنهم الكربة ونسخ الله بهذه
الآية تلك، هذا معنى الحديث المروي، لأنه تطرق من جهات،
واختلفت عباراته واستثبتت عبارة هؤلاء القائلين بلفظة النسخ في
هذه النازلة. وقال سعيد بن مرجانة جئت عبد الله بن عمر فتلا
هذه الآية، إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ
يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ثم قال: والله لئن أخذنا بهذه الآية
لنهلكن، ثم بكى حتى سالت دموعه، وسمع نشيجه، قال ابن مرجانة
فقمت حتى جئت ابن عباس فأخبرته بما قال ابن عمر وبما فعل،
فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن، لقد وجد المسلمون منها حين
نزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر فأنزل الله لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها الآية فنسخت الوسوسة، وثبت
القول والفعل، وقال الطبري وقال آخرون هذه الآية محكمة غير
منسوخة، والله تعالى يحاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما
لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم فأضمروه ونووه وأرادوه، فيغفر
للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق، ثم أدخل عن ابن عباس ما
يشبه هذا المعنى، وقال مجاهد الآية فيما يطرأ على النفوس من
الشك واليقين، وقال الحسن الآية محكمة ليست بمنسوخة، قال
الطبري وقال آخرون نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس، إلا
أنهم قالوا إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفس وصحبه
الفكر هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها، ثم أسند عن
عائشة رضي الله عنها نحو هذا المعنى، ورجح الطبري أن الآية
محكمة غير منسوخة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصواب، وذلك أن قوله تعالى:
وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
(1/389)
تُخْفُوهُ
معناه مما هو في وسعكم وتحت كسبكم، وذلك استصحاب المعتقد
والفكر فيه، فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق
الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم، فبيّن الله تعالى لهم ما
أراد بالآية الأولى وخصصها، ونص على حكمه أنه لا يُكَلِّفُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] ، والخواطر ليست هي ولا
دفعها في الوسع، بل هو أمر غالب، وليست مما يكسب ولا يكتسب،
وكان في هذا البيان فرحهم وكشف كربهم، وباقي الآية محكمة لا
نسخ فيها.
ومما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ،
فإن ذهب ذاهب إلى تقرير النسخ فإنما يترتب له في الحكم الذي
لحق الصحابة حين فزعوا من الآية، وذلك أن قول النبي صلى الله
عليه وسلم لهم: «قولوا سمعنا وأطعنا» يجيء منه الأمر بأن يبنوا
على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران، فإذا قرر هذا
الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه، وتشبه الآية حينئذ قوله عز وجل
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ [الأنفال: 65] فهذا لفظ الخبر ولكن معناه: التزموا
هذا وابنوا عليه واصبروا بحسبه، ثم نسخ ذلك بعد ذلك.
وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر
المائة للمائتين، وهذه الآية في البقرة أشبه شيء بها، وقرأ ابن
كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي «فيغفر» ، «ويعذب» جزما،
وقرأ ابن عامر وعاصم «فيغفر» و «يعذب» رفعا، فوجه الجزم أنه
أتبعه ما قبله ولم يقطعه، وهكذا تحسن المشاكلة في كلامهم، ووجه
الرفع أنه قطعه من الأول، وقطعه على أحد وجهين، إما أن تجعل
الفعل خبرا لمبتدأ محذوف فيرتفع الفعل لوقوعه موقع خبر
المبتدأ، وإما أن تعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدمها، وقرأ
ابن عباس والأعرج وأبو حيوة «فيغفر» و «يعذب» بالنصب على إضمار
«أن» ، وهو معطوف على المعنى كما في قوله: فَيُضاعِفَهُ
[الحديد 11] وقرأ الجعفي وخلاد وطلحة بن مصرف يغفر بغير فاء،
وروي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود، قال ابن جني هي على البدل
من يحاسبكم فهي تفسير المحاسبة، وهذا كقول الشاعر: [الطويل]
رويدا بني شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غدا خيلي على سفوان
تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى ... إذا ما غدت في المأزق
المتدان
فهذا على البدل، وكرر الشاعر الفعل لأن الفائدة فيما يليه من
القول.
وقوله تعالى: وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يعني من العصاة الذين
ينفذ عليهم الوعيد، قال النقاش يغفر لمن يشاء، أي لمن ينزع
عنه، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أي من أقام عليه، وقال سفيان
الثوري يغفر لمن يشاء العظيم ويعذب من يشاء على الصغير.
قال القاضي أبو محمد: وتعلق بهذه قوم ممن قال بجواز تكليف ما
لا يطاق، وقال إن الله قد كلفهم أمر الخواطر، وذلك مما لا
يطاق.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير بين، وإنما كان أمر الخواطر
تأويلا تأوله أصحاب النبي صلى الله
(1/390)
آمَنَ الرَّسُولُ
بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ
آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
عليه وسلم، ولم يثبت تكليفا إلا على الوجه
الذي ذكرنا من تقدير النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على ذلك.
ومسألة تكليف ما لا يطاق، نتكلم عليها فيما بعد إن شاء الله
تعالى.
ولما ذكر المغفرة والتعذيب بحسب مشيئته تعالى أعقب ذلك بذكر
القدرة على جميع الأشياء، إذ ما ذكر جزء منها.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 285]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا
وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
سبب هذه الآية أنه لما نزلت وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي
أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ الآية التي قبلها. وأشفق منها
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ثم تقرر
الأمر على أن قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا، فرجعوا إلى التضرع
والاستكانة، مدحهم الله وأثنى عليهم في هذه الآية، وقدم ذلك
بين يدي رفقه بهم وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم فجمع لهم
تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر،
وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى كما جرى لبني
إسرائيل ضد ذلك من ذمهم وتحميلهم المشقات من المذلة والمسكنة
والجلاء إذ قالوا سمعنا وعصينا، وهذه ثمرة العصيان والتمرد على
الله عاذنا الله من نقمه، وآمَنَ معناه صدق، والرَّسُولُ محمد
صلى الله عليه وسلم، وبِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ هو
القرآن وسائر ما أوحي إليه، من جملة ذلك هذه الآية التي
تأولوها شديدة الحكم، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما نزلت عليه قال: ويحق له أن يؤمن، وقرأ ابن مسعود «وآمن
المؤمنون» ، وكُلٌّ لفظة تصلح للإحاطة، وقد تستعمل غير محيطة
على جهة التشبيه بالإحاطة والقرينة تبين ذلك في كل كلام، ولما
وردت هنا بعد قوله وَالْمُؤْمِنُونَ دل ذلك على إحاطتها بمن
ذكر.
والإيمان بالله هو التصديق به وبصفاته ورفض الأصنام وكل معبود
سواه.
والإيمان بملائكته هو اعتقادهم عبادا لله، ورفض معتقدات
الجاهلية فيهم.
والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين
تضمن ذكرهم كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أو
ما أخبر هو به، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر
وابن عامر «وكتبه» على الجمع، وقرؤوا في التحريم و «كتابه» على
التوحيد، وقرأ أبو عمرو هنا وفي التحريم «وكتبه» على الجمع،
وقرأ حمزة والكسائي «وكتابه» على التوحيد فيهما، وروى حفص عن
عاصم هاهنا وفي التحريم «وكتبه» مثل أبي عمرو، وروى خارجة عن
نافع مثل ذلك، وبكل قراءة من هذه قرأ جمهور من العلماء، فمن
جمع أراد جمع كتاب، ومن أفرد أراد المصدر الذي يجمع كل مكتوب
كان نزوله من عند الله تعالى، هذا قول بعضهم وقد وجهه أبو علي
وهو كما قالوا: نسج اليمن، وقال أبو علي في صدر كلامه: أما
الإفراد في
(1/391)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا
تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا
وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
قول من قرأ «وكتابه» فليس كما تفرد المصادر
وإن أريد بها الكثير، كقوله تعالى: وَادْعُوا ثُبُوراً
كَثِيراً [الفرقان: 14] ونحو ذلك، ولكن كما تفرد الأسماء التي
يراد بها الكثرة، كقولهم: كثر الدينار والدرهم ونحو ذلك، فإن
قلت هذه الأسماء التي يراد بها الكثرة إنما تجيء مفردة وهذه
مضافة، قيل وقد جاء في المضاف ما يعني به الكثرة ففي التنزيل
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34]
وفي الحديث منعت العراق درهمها وقفيزها، فهذا يراد به الكثير
كما يراد بما فيه لام التعريف، ومنه قول ابن الرقاع:
يدع الحيّ بالعشيّ رعاها ... وهم عن رغيفهم أغنياء
ومجيء أسماء الأجناس معرفة بالألف واللام أكثر من مجيئها
مضافة، وقرأت الجماعة «ورسله» بضم السين، وكذلك «رسلنا» و
«رسلكم» و «رسلك» إلا أبا عمرو فروي عنه تخفيف «رسلنا» و
«رسلكم» ، وروي عنه في «رسلك» التثقيل والتخفيف، قال أبو علي
من قرأ «على رسلك» بالتثقيل فذلك أصل الكلمة، ومن خفف فكما
يخفف في الآحاد مثل عنق وطنب، فإذا خفف في الآحاد فذلك أحرى في
الجمع الذي هو أثقل، وقرأ يحيى بن يعمر «وكتبه ورسله» بسكون
التاء والسين، وقرأ ابن مسعود «وكتابه ولقائه ورسله» ، وقرأ
جمهور الناس «لا نفرق» بالنون، والمعنى يقولون لا نفرق، وقرأ
سعيد بن جبير ويحيى بن يعمر وأبو زرعة بن عمر بن جرير ويعقوب
«لا يفرق» بالياء، وهذا على لفظ كُلٌّ، قال هارون وهي في حرف
ابن مسعود «لا يفرقون» ، ومعنى هذه الآية أن المؤمنين ليسوا
كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
وقوله تعالى: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا مدح يقتضي الحض على
هذه المقالة وأن يكون المؤمن يمتثلها غابر الدهر، والطاعة قبول
الأوامر، وغُفْرانَكَ مصدر كالكفران والخسران، ونصبه على جهة
نصب المصادر، والعامل فيه فعل مقدر، قال الزجّاج تقديره اغفر
غفرانك، وقال غيره نطلب ونسأل غفرانك، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
إقرار بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال له
جبريل يا محمد إن الله قد أجل الثناء عليك وعلى أمتك، فسل
تعطه، فسأل إلى آخر السورة.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (2) : آية 286]
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما
كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا
إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا
إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا
رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ
عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا
فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها خبر
جزم نص على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من
أعمال القلوب والجوارح إلا وهي في وسع المكلف، وفي مقتضى
إدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر
الخواطر، وتأول من ينكر جواز تكليف ما لا يطاق هذه الآية بمعنى
أنه لا يكلف ولا كلف وليس ذلك بنص في الآية ولا أيضا يدفعه
اللفظ، ولذلك ساغ الخلاف.
(1/392)
وهذا المعنى الذي ذكرناه في هذه الآية يجري
مع معنى قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] وقوله تعالى: ما
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] وقوله:
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] .
واختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في
الدنيا بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعا الآن في الشرع، وأن هذه
الآية آذنت بعدمه، فقال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين
تكليف ما لا يطاق جائز عقلا ولا يحرم ذلك شيئا من عقائد الشرع،
ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعا به.
قال القاضي أبو محمد: وينظر إلى هذا تكليف المصور أن يعقد
شعيرة حسب الحديث.
واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة محمد صلى الله عليه
وسلم أم لا؟ فقالت فرقة وقع في نازلة أبي لهب لأنه حكم عليه
بتب اليدين وصلي النار، وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن، وتكليف الشرع
له الإيمان راتب، فكأنه كلف أن يؤمن وأن يكون في إيمانه أنه لا
يؤمن لأنه إذا آمن فلا محالة أنه يؤمن بسورة تَبَّتْ يَدا
أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] ، وقالت فرقة لم يقع قط، وقوله تعالى:
سَيَصْلى ناراً [المسد: 3] إنما معناه إن وافى على كفره.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وما لا يطاق ينقسم
أقساما: فمنه المحال عقلا كالجمع بين الضدين، ومنه المحال
عادة، كرفع الإنسان جبلا، ومنه ما لا يطاق من حيث هو مهلك
كالاحتراق بالنار ونحوه، ومنه ما لا يطاق للاشتغال بغيره، وهذا
إنما يقال فيه ما لا يطاق على تجوز كثير، ويُكَلِّفُ يتعدى إلى
مفعولين أحدهما محذوف تقديره «عبادة» أو شيئا، وقرأ ابن أبي
عبلة «إلا وسعها» بفتح الواو وكسر السين، وهذا فيه تجوز لأنه
مقلوب، وكان وجه اللفظ إلا وسعته، كما قال وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [البقرة: 255] وكما قال وَسِعَ كُلَّ
شَيْءٍ عِلْماً [طه: 98] ولكن يجيء هذا من باب أدخلت القلنسوة
في رأسي، وفمي في الحجر.
وقوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ يريد من الحسنات، وَعَلَيْها
مَا اكْتَسَبَتْ يريد من السيئات، قاله السدي وجماعة من
المفسرين، لا خلاف في ذلك، والخواطر ونحوها ليس من كسب
الإنسان. وجاءت العبارة في الحسنات ب لَها من حيث هي مما يفرح
الإنسان بكسبه ويسر بها فتضاف إلى ملكه، وجاءت في السيئات ب
عَلَيْها، من حيث هي أوزار وأثقال ومتحملات صعبة. وهذا كما
تقول لي مال وعلي دين، وكما قال المتصدق باللقطة: اللهم عن
فلان فإن أبى فلي وعليّ، وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف
حسنا لنمط الكلام. كما قال فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ
أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطلاق: 17] هذا وجه، والذي يظهر لي
في هذا أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة
أمر الله ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة إذ كاسبها
يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ويتخطاه إليها، فيحسن
في الآية مجيء التصريفين إحرازا لهذا المعنى، وقال المهدوي
وغيره: وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا صحيح في نفسه، لكن من غير هذه
الآية.
(1/393)
وقوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا معناه
قولوا في دعائكم.
واختلف الناس في معنى قوله نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا فذهب
الطبري وغيره إلى أنه النسيان بمعنى الترك، أي إن تركنا شيئا
من طاعتك وأنه الخطأ المقصود. قالوا وأما النسيان الذي يغلب
المرء والخطأ الذي هو عن اجتهاد فهو موضوع عن المرء، فليس
بمأمور في الدعاء بأن لا يؤاخذ به، وذهب كثير من العلماء إلى
أن الدعاء في هذه الآية إنما هو في النسيان الغالب والخطأ غير
المقصود، وهذا هو الصحيح عندي. قال قتادة في تفسير الآية بلغني
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تجاوز لأمتي عن
نسيانها وخطأها، وقال السدي لما نزلت هذه الآية فقالوها قال
جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: قد فعل الله ذلك يا محمد.
قال القاضي أبو محمد: فظاهر قوليهما ما صححته، وذلك أن
المؤمنين لما كشف عنهم ما خافوه في قوله تعالى: يُحاسِبْكُمْ
بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] أمروا بالدعاء في دفع ذلك النوع
الذي ليس من طاقة الإنسان دفعه، وذلك في النسيان والخطأ،
«والإصر» الثقل وما لا يطاق على أتم أنواعه، وهذه الآية على
هذا القول تقضي بجواز تكليف ما لا يطاق، ولذلك أمر المؤمنون
بالدعاء في أن لا يقع هذا الجائز الصعب. ومذهب الطبري والزجاج
أن تكليف ما لا يطاق غير جائز، فالنسيان عندهم المتروك من
الطاعات. والخطأ هو المقصود من العصيان، والإصر هي العبادات
الثقيلة كتكاليف بني إسرائيل من قتل أنفسهم وقرض أبدانهم
ومعاقباتهم على معاصيهم في أبدانهم حسبما كان يكتب على أبوابهم
وتحميلهم العهود الصعبة. وما لا طاقة للمرء به هو عندهم على
تجوز، كما تقول لا طاقة لي على خصومة فلان، ولغير ذلك من الأمر
تستصعبه وإن كنت في الحقيقة تطيقه أو يكون ذلك ما لا طاقَةَ
لَنا بِهِ من حيث هو مهلك لنا كعذاب جهنم وغيره. وأما لفظة
«أخطأ» فقد تجيء في القصد ومع الاجتهاد، قال قتادة: الإصر
العهد والميثاق الغليظ. وقاله مجاهد وابن عباس والسدي وابن
جريج والربيع وابن زيد وقال عطاء: الإصر المسخ قردة وخنازير.
وقال ابن زيد أيضا: الإصر الذنب لا كفارة فيه ولا توبة منه.
وقال مالك رحمه الله:
الإصر: الأمر الغليظ الصعب.
قال القاضي أبو محمد: والإصرة في اللغة الأمر الرابط من ذمام
أو قرابة أو عهد ونحوه، فهذه العبارات كلها تنحو نحوه، والإصار
الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها، والقد يضم عضدي الرجل يقال
أصر يأصر أصرا والإصر بكسر الهمزة من ذلك، وفي هذا نظر. وروي
عن عاصم أنه قرأ أصرا بضم الهمزة، ولا خلاف أن الذين من قبلنا
يراد به اليهود. قال الضحاك: والنصارى، وأما عبارات المفسرين
في قوله: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ
فقال قتادة لا تشدد علينا كما شددت على من كان قبلنا. وقال
الضحاك: لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق، وقال نحوه ابن زيد،
وقال ابن جريج: لا تمسخنا قردة وخنازير، وقال سلام بن سابور:
الذي لا طاقة لنا به الغلمة، وحكاه النقاش عن مجاهد وعطاء وعن
مكحول وروي أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه: وأعوذ بك من
غلمة ليس لها عدة، وقال السدي: هو التغليظ والأغلال التي كانت
على بني إسرائيل من التحريم، ثم قال تعالى فيما أمر المؤمنين
بقوله: وَاعْفُ عَنَّا
(1/394)
أي فيما واقعناه وانكشف وَاغْفِرْ لَنا أي
استر علينا ما علمت منا وَارْحَمْنا أي تفضل مبتدئا برحمة منك
لنا.
قال القاضي أبو محمد: فهي مناح للدعاء متباينة وإن كان الغرض
المراد بكل واحد منها واحدا وهو دخول الجنة وأَنْتَ مَوْلانا
مدح في ضمنه تقرب إليه وشكر على نعمه، ومولى هو من ولي فهو
مفعل أي موضع الولاية، ثم ختمت الدعوة بطلب النصر على الكافرين
الذي هو ملاك قيام الشرع وعلو الكلمة ووجود السبيل إلى أنواع
الطاعات.
وروي أن جبريل عليه السلام أتى محمدا صلى الله عليه وسلم فقال:
قل رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا،
فقالها فقال جبريل قد فعل، فقال: قل كذا وكذا فيقولها فيقول
جبريل: قد فعل إلى آخر السورة، وتظاهرت بهذا المعنى أحاديث،
وروي عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال
آمين.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هذا يظن به أنه
رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان ذلك فكمال، وإن كان
بقياس على سورة الحمد من حيث هناك دعاء وهنا دعاء فحسن، وروى
أبو مسعود عقبة بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليل كفتاه، يعني من قيام
الليل، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما أظن أحدا عقل
وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما. وروي أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: «أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت
العرش لم يؤتهن أحد قبلي» .
كملت سورة البقرة والحمد لله كثيرا
(1/395)
|