تفسير ابن عطية
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ
شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
مجحفة لسعة الحال أن الفرض لا يسقط، وعلى
هذا المنزع جماعة أهل العلم وعليه مضت الأعصار، وهذه نبذة من
فقه الاستطاعة، وليس هذا الجمع بموضع لتقصي ذلك والله
المستعان.
والسبيل- تذكر وتؤنث، والأغلب والأفصح التأنيث، قال الله
تعالى: تَبْغُونَها عِوَجاً [آل عمران: 99] وقال: قُلْ هذِهِ
سَبِيلِي [يوسف: 108] ومن التذكير قول كعب بن مالك.
قضى يوم بدر أن تلاقي معشرا ... بغوا وسبيل البغي بالناس جائز
والضمير في إِلَيْهِ، عائد على البيت، ويحتلم أن يعود على
الحج، وقوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
عَنِ الْعالَمِينَ قال ابن عباس: المعنى، من زعم أن الحج ليس
بفرض عليه، وقال مثله الضحاك وعطاء وعمران القطان والحسن
ومجاهد، وروي عن النبي عليه السلام أنه قرأ الآية، فقال له رجل
من هذيل: يا رسول الله من تركه كفر، فقال له النبي صلى الله
عليه وسلم من تركه لا يخاف عقوبته، ومن حجه لا يرجو ثوابه فهو
ذلك وقال بمعنى هذا الحديث ابن عباس ومجاهد أيضا، وهذا والذي
قبله يرجع إلى كفر الجحد والخروج عن الملة، وقال ابن عمر
وجماعة من العلماء معنى الآية، من كفر بالله واليوم الآخر وهذا
قريب من الأول، وقال ابن زيد: معنى الآية من كفر بهذه الآيات
التي في البيت، وقال السدي وجماعة من أهل العلم: معنى الآية:
ومن كفر بأن وجد ما يحج به ثم لم يحج، قال السدي: من كان بهذه
الحال فهو كافر.
قال القاضي أبو محمد: فهذا كفر معصية، كقوله عليه السلام: من
ترك الصلاة فقد كفر وقوله: لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم
رقاب بعض، على أظهر محتملات هذا الحديث. وبيّن أن من أنعم الله
عليه بمال وصحة ولم يحج فقد كفر النعمة، ومعنى قوله تعالى:
غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ الوعيد لمن كفر، والقصد بالكلام،
فإن الله غني عنهم، ولكن عمم اللفظ ليبرع المعنى، وينتبه الفكر
على قدرة الله وسلطانه واستغنائه من جميع الوجوه حتى ليس به
افتقار إلى شيء، لا ربّ سواه.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ
وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
هذه الآيات توبيخ لليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم
والْكِتابِ التوراة، وجعلهم أهله بحسب زعمهم ونسبهم، وإلا
فأهله على الحقيقة هم المؤمنون، و «آيات الله» يحتمل أن يريد
بها القرآن، ويحتمل أن يراد بالآيات العلامات الظاهرة على يدي
محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى
ما تَعْمَلُونَ وعيد محض: أي يجازيكم به ويعاقبكم، قال الطبري:
هاتان الآيتان قوله، قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ
تَكْفُرُونَ وما بعدهما، إلى قوله أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ [آل عمران: 105] ، نزلت بسبب رجل من يهود، حاول
الإغواء بين الأوس والخزرج، قال ابن إسحاق: حدثني الثقة عن زيد
بن أسلم، قال شاش ابن قيس اليهودي، وكان شيخا قد عسى في
الجاهلية، عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين، والحسد
(1/480)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى
عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ
يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(101)
لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم من الأوس والخزرج، وهم في مجلس يتحدثون، فغاظه ما
رأى من جماعتهم، وصلاح ذات بينهم، بعد ما كان بينهم من العداوة
فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم
إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا من يهود، فقال أمد
إليهم، واجلس معهم، وذكرهم يوم بعاث، وما كان قبله من أيام
حربهم، وأنشدهم ما قالوه من الشعر في ذلك، ففعل الفتى، فتكلم
القوم عند ذلك فتفاخروا وتنازعوا، حتى تواثب رجلان من الحيين
على الركب، أوس بن قيظي، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس،
وجبار بن صخر من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن
شئتم والله رددناها الآن جذعة، فغضب الفريقان: وقالوا: قد
فعلنا السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة، يريدون الحرة، فخرجوا
إليها، وتحاوز الناس على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية،
وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه
من المهاجرين، فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى
الجاهلية وأنا بين أظهركم، ووعظهم فعرف القوم أنها نزغة من
الشيطان، فألقوا السلاح وبكوا وعانق الناس بعضهم بعضا من الأوس
والخزرج، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، سامعين
مطيعين فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع هذه الآيات، وقال
الحسن وقتادة والسدي: إن هذه الآيات نزلت في أحبار اليهود
الذين كانوا يصدون المسلمين عن الإسلام، بأن يقولوا لهم، إن
محمدا ليس بالموصوف في كتابنا.
قال الفقيه الإمام: ولا شك في وقوع هذين السببين وما شاكلهما
من أفعال اليهود وأقوالهم، فنزلت الآيات في جميع ذلك و «صد»
معناه: أعرض عن الشيء وانصرف عنه، وهو فعل يقف ويتعدى بلفظ
واحد، تقول: صددت عن كذا، وصددت غيري عنه، فالذي في هذه الآية
هو الفعل المتعدي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «تصدون» بضم التاء
وكسر الصاد، وهذا هو الفعل الواقف، نقل بالهمزة فعدي، وسَبِيلِ
اللَّهِ في هذه الآية، هو الإسلام الذي هو طريق إلى رضى الله
وجنته، ومَنْ مفعولة ب تَصُدُّونَ والضمير في تَبْغُونَها عائد
على السبيل، ومعنى «تبغون» على ما فسر الزجّاج والطبري
وغيرهما: تطلبون فالمعنى تطلبون لها العوج، أي الاعوجاج
والانفساد، تقول العرب: أبغني كذا بألف موصولة، بمعنى اطلبه
لي، فإذا أرادوا أعني على طلبه واطلبه معي، قطعوا الألف مفتوحة
وقيل: إن تبغون هنا، من البغي الذي هو التعدي، أي تبغون عليها،
ويكون، عِوَجاً على هذا التأويل نصبه على الحال من الضمير في
«تبغون» أي «عوجا» منكم وعدم استقامة، والعوج بكسر العين: ما
كان في الأمور والحجج غير الأجرام، والعوج بفتح العين، ما كان
في الأجرام، كالجدار والعصا ونحو ذلك، قال ابن قتيبة: والأرض
خاصة من الأجرام يقال فيها: عوج بكسر العين، ومنه قول الله
تعالى: لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: 107] قال بعض
اللغويين هما لغتان بمعنى واحد، وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ
شُهَداءُ، يريد جمع شاهد، على ما في التوراة من صفة محمد
وصدقه، وباقي الآية وعيد.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 100 الى 101]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ
كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى
عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ
يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
(101)
(1/481)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ
فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
الخطاب بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا عام في المؤمنين، والإشارة بذلك- وقت نزوله- إلى الأوس
والخزرج بسبب نائرة شاس بن قيس، و «الفريق» - الجماعة من الناس
والمراد بها هنا الأحبار والرؤوس، ويَرُدُّوكُمْ معناه:
بالإضلال والتشكيك والمخادعة وإظهار الغش في معرض النصح، ثم
وقف تعالى المؤمنين على هذا الأمر المستبعد المستشنع الذي
يريده بهم اليهود، فقال وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ بهذه
الأحوال الموصوفة؟ وكَيْفَ في موضع نصب على الحال، كما هي في
قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ
أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: 28] والمعنى أجاحدين تكفرون؟
أجاهلين أمستخفين أمرتدين؟ ونحو هذا من التقدير والواو في
قوله: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ عاطفة جملة كلام على جملة كلام،
ولا يجوز أن تكون كَيْفَ في هذه الآية كما هي في قولك، كيف
تفعل كذا، وأنت تسأل عن شيء ثابت الوقوع متحصلة، لأنه كان يلزم
أن يكون كفر المؤمنين مقررا مثبت الوقوع، وتأمل معنى كَيْفَ
إذا وليها فعل، ومعناها إذا وليها اسم، وقرأ جمهور الناس
«تتلى» بالتاء من فوق، وقرأ الحسن:
«يتلى» بالياء إذا الآيات هي القرآن، وقوله تعالى: وَفِيكُمْ
هي ظرفية الحضور والمشاهدة لشخصه عليه السلام، وهو في أمته إلى
يوم القيامة، بأقواله وآثاره، ويَعْتَصِمْ معناه: يتمسك
ويستذري، وعصم الشيء إذا منع وحمي، ومنه قوله يَعْصِمُنِي مِنَ
الْماءِ [هود: 43] والعصم الأسباب التي يمتّ بها، ويعتصم من
الخيبة في الغرض المطلوب، وقال الأعشى: [المتقارب]
إلى المرء قيس أطيل السّرى ... وآخذ من كلّ حيّ عصم
وتصرف اللفظة كثير جدا، وباقي الآية بيّن، والله المستعان.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 103]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ
أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ
النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
الخطاب بهذه الآية يعم جميع المؤمنين، والمقصود به وقت نزولها
الأوس والخزرج الذين شجر بينهم بسعاية شاس بن قيس ما شجر، و
«تقاة» مصدر وزنه فعلة، أصله تقية، وقد تقدم قوله: إلا أن
تتقوا منهم تقاة، ويصح أن تكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل
وإن كان لم يتصرف منه فيكون كرماة ورام، أو يكون جمع تقي إذ
فعيل وفاعل بمنزلة، والمعنى على هذا: اتقوا الله كما يحق أن
يكون متقوه المختصون به، ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى،
واختلف العلماء في قوله: حَقَّ تُقاتِهِ فقالت فرقة: نزلت
الآية على عموم لفظها، وألزمت الأمة أن تتقي الله غاية التقوى
حتى لا يقع إخلال في شيء من الأشياء، ثم إن الله نسخ ذلك عن
الأمة بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
[التغابن: 16] وبقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ
(1/482)
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
[البقرة: 286] قال ذلك قتادة والسدي والربيع بن أنس وابن زيد
وغيرهم، وقالت جماعة من أهل العلم: لا نسخ في شيء من هذا، وهذه
الآيات متفقات، فمعنى هذه: اتقوا الله حقّ تقاته فيما استطعتم،
وذلك أن حَقَّ تُقاتِهِ هو بحسب أوامره ونواهيه، وقد جعل تعالى
الدين يسرا، وهذا هو القول الصحيح، وألا يعصي ابن آدم جملة لا
في صغيرة ولا في كبيرة، وألا يفتر في العبادة أمر متعذر في
جبلة البشر، ولو كلف الله هذا لكان تكليف ما لا يطاق، ولم
يلتزم ذلك أحد في تأويل هذه الآية، وإنما عبروا في تفسير هذه
الآية بأن قال ابن مسعود رضي الله عنه: حَقَّ تُقاتِهِ: هو أن
يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، وكذلك عبر
الربيع بن خيثم وقتادة والحسن، وقال ابن عباس رضي الله عنهما:
معنى قوله، واتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ: جاهدوا في الله
حق جهاده ولا نسخ في الآية، وقال طاوس في معنى قوله تعالى:
اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ: يقول تعالى، إن لم تتقوه ولم
تستطيعوا ذلك فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وقوله تعالى: وَلا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ معناه: دوموا على
الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه. هكذا هو وجه الأمر في
المعنى، وجاءت العبارة على هذا النظم الرائق الوجيز، ونظيره ما
حكى سيبويه من قولهم: لا أرينك هاهنا، وإنما المراد: لا تكن
هاهنا فتكون رؤيتي لك، ومُسْلِمُونَ في هذه الآية، هو المعنى
الجامع التصديق والأعمال، وهو الدين عند الله وهو الذي بني على
خمس.
وقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً معناه
تمنعوا وتحصنوا به، فقد يكون الاعتصام بالتمسك باليد، وبارتقاء
القنن، وبغير ذلك مما هو منعة، ومنه الأعصم في الجبل، ومنه
عصمة النكاح، و «الحبل» في هذه الآية مستعار لما كان السبب
الذي يعتصم به، وصلة ممتدة بين العاصم والمعصوم، ونسبة بينهما،
شبه ذلك بالحبل الذي شأنه أن يصل شيئا بشيء، وتسمى العهود
والمواثيق حبالا، ومنه قول الأعشى:
وإذا تجوّزها حبال قبيلة ... أخذت من الأدنى إليك حبالها
ومنه قول الآخر: [الكامل] (إني بحبلك واصل حبلي) ومنه قول الله
تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ
[آل عمران: 112] واختلفت عبارة المفسرين في المراد في هذه
الآية بِحَبْلِ اللَّهِ، فقال ابن مسعود: «حبل الله» الجماعة،
وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن بني
إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على
اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قال فقيل يا رسول
الله: وما هذه الواحدة؟ قال فقبض يده وقال: الجماعة وقرأ،
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً، وقال ابن مسعود في
خطبة: عليكم جميعا بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر
به، وقال قتادة رحمه الله: «حبل الله» الذي أمر بالاعتصام به
هو القرآن، وقال السدي: «حبل الله» كتاب الله، وقاله أيضا ابن
مسعود والضحاك، وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى
الأرض، وقال أبو العالية: «حبل الله» في هذه الآية هو الإخلاص
في التوحيد وقال ابن زيد: «حبل الله» هو الإسلام.
(1/483)
قال القاضي أبو محمد: وقيل غير هذا مما هو
كله قريب بعضه من بعض، وقوله تعالى: جَمِيعاً حال من الضمير في
قوله، اعْتَصِمُوا، فالمعنى: كونوا في اعتصامكم مجتمعين. وَلا
تَفَرَّقُوا يريد التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف على
الجهاد وحماية الدين وكلمة الله تعالى، وهذا هو الافتراق
بالفتن والافتراق في العقائد، وأما الافتراق في مسائل الفروع
والفقه فليس يدخل في هذه الآية، بل ذلك، هو الذي قال فيه رسول
الله صلى الله عليه وسلم: خلاف أمتي رحمة، وقد اختلف الصحابة
في الفروع أشد اختلاف، وهم يد واحدة على كل كافر، وأما الفتنة
على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فمن التفرق المنهي عنه، أما
أن التأويل هو الذي أدخل في ذلك أكثر من دخله من الصحابة رضي
الله عن جميعهم.
قوله تعالى:
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ....
هذه الآية تدل على أن الخطاب بهذه الآية إنما هو للأوس
والخزرج، وذلك أن العرب وإن كان هذا اللفظ يصلح في جميعها
فإنها لم تكن في وقت نزول هذه الآية اجتمعت على الإسلام ولا
تألفت قلوبها، وإنما كانت في قصة شاس بن قيس في صدر الهجرة،
وحينئذ نزلت هذه الآية، فهي في الأوس والخزرج، كانت بينهم
عداوة وحروب، منها يوم بعاث وغيره، وكانت تلك الحروب والعداوة
قد دامت بين الحيين مائة وعشرين سنة، حتى رفعها الله بالإسلام،
فجاء النفر الستة من الأنصار إلى مكة حجاجا، فعرض رسول الله
صلى الله عليه وسلم نفسه عليهم، وتلا عليهم القرآن، كما كان
يصنع مع قبائل العرب، فآمنوا به وأراد الخروج معهم، فقالوا يا
رسول الله: إن قدمت بلادنا على ما بيننا من العداوة والحرب،
خفنا أن لا يتم ما نريده منك، ولكن نمضي نحن ونشيع أمرك،
ونداخل الناس، وموعدنا وإياك العام القابل، فمضوا وفعلوا،
وجاءت الأنصار في العام القابل، فكانت العقبة الثانية وكانوا
اثني عشر رجلا، فيهم خمسة من الستة الأولين، ثم جاؤوا من العام
الثالث، فكانت بيعة العقبة الكبرى، حضرها سبعون وفيهم اثنا عشر
نقيبا، ووصف هذه القصة مستوعب في سيرة ابن هشام، ويسر الله
تعالى الأنصار للإسلام بوجهين، أحدهما أن بني إسرائيل كانوا
مجاورين لهم وكانوا يقولون لمن يتوعدونه من العرب، يبعث لنا
نبي الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما رأى النفر من الأنصار
محمدا صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم لبعض: هذا والله النبي
الذي تذكره بنو إسرائيل فلا تسبقن إليه، والوجه الآخر، الحرب
التي كانت ضربتهم وأفنت سراتهم، فرجوا أن يجمع الله به كلمتهم
كالذي كان، فعدد الله تعالى عليهم نعمته في تأليفهم بعد
العداوة، وذكرهم بها، وقوله تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ عبارة عن
الاستمرار وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما، وإنما خصت هذه
اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبدأ النهار، وفيها مبدأ
الأعمال، فالحال التي يحسها المرء من نفسه فيها هي حاله التي
يستمر عليها يومه في الأغلب، ومنه قول الربيع بن ضبع:
[المنسرح]
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
(1/484)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
و «الإخوان» جمع أخ، ويجمع إخوة، وهذان
أشهر الجمع فيه، على أن سيبويه رحمه الله يرى أن إخوة اسم جمع،
وليس ببناء جمع لأن فعلا لا يجمع على فعلة، قال بعض الناس:
الأخ في الدين يجمع إخوانا، والأخ في النسب يجمع إخوة: هكذا
كثر استعمالهم.
قال القاضي أبو محمد. وفي كتاب الله تعالى: إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ الحجرات: 10] وفيه، أَوْ بَنِي
إِخْوانِهِنَّ [النور: 31] ، فالصحيح أنهما يقالان في النسب،
ويقالان في الدين، و «الشفا» حرف كل جرم له مهوى، كالحفرة
والبئر والجرف والسقف والجدار ونحوه، ويضاف في الاستعمال إلى
الأعلى، كقوله شَفا جُرُفٍ [التوبة: 109] وإلى الأسفل كقوله
شَفا حُفْرَةٍ، ويثنى شفوان، فشبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه
وحربهم المدنية من الموت بالشفا، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم
دأبا، فأنقذهم الله بالإسلام، والضمير في مِنْها عائد على
النار، أو على «الحفرة» ، والعود على الأقرب أحسن، وقال بعض
الناس حكاه الطبري: إن الضمير عائد على «الشفا» ، وأنث الضمير
من حيث كان الشفا مضافا إلى مؤنث، فالآية كقول جرير:
رأت مرّ السنين أخذن منّي ... كما أخذ السّرار من الهلال
إلى غير ذلك من الأمثلة.
قال القاضي: وليس الأمر كما ذكر، والآية لا يحتاج فيها إلى هذه
الصناعة، إلا لو لم تجد معادا للضمير إلا «الشفا» ، وأما ومعنا
لفظ مؤنث يعود الضمير عليه، ويعضده المعنى المتكلم فيه، فلا
يحتاج إلى تلك الصناعة وقوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ آياتِهِ إشارة إلى ما بين في هذه الآيات، أي فكذلك يبين
لكم غيرها، وقوله، لَعَلَّكُمْ ترجّ في حق البشر، أي من تأمل
منكم الحال رجا الاهتداء.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 105]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما
جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105)
قرأ الحسن والزهري وأبو عبد الرحمن وعيسى بن عمر وأبو حيوة:
«ولتكن» بكسر اللام على الأصل، إذ أصلها الكسر، وكذلك قرؤوا
لام الأمر في جميع القرآن، قال الضحاك والطبري وغيرهما: أمر
المؤمنون أن تكون منهم جماعة بهذه الصفة، فهم خاصة أصحاب
الرسول، وهم خاصة الرواة.
قال القاضي: فعلى هذا القول «من» للتبعيض، وأمر الله الأمة بأن
يكون منها علماء يفعلون هذه الأفاعيل على وجوهها ويحفظون
قوانينها على الكمال، ويكون سائر الأمة متبعين لأولئك، إذ هذه
الأفعال لا تكون إلا بعلم واسع، وقد علم تعالى أن الكل لا يكون
عالما، وذهب الزجّاج وغير واحد من المفسرين، إلى أن المعنى:
ولتكونوا كلكم أمة يدعون، «ومن» لبيان الجنس قال: ومثله من
كتاب الله، فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
(1/485)
الْأَوْثانِ
[الحج: 30] ومثله من الشعر قول القائل: [البسيط]
أخو رغائب يعطيها ويسألها ... يأبى الظّلامة منه النّوفل
الزّفر
قال القاضي: وهذه الآية على هذا التأويل إنما هي عندي بمنزلة
قولك: ليكن منك رجل صالح، ففيها المعنى الذي يسميه النحويون،
التجريد، وانظر أن المعنى الذي هو ابتداء الغاية يدخلها، وكذلك
يدخل قوله تعالى: مِنَ الْأَوْثانِ ذاتها ولا تجده يدخل قول
الشاعر: منه النوفل الزفر، ولا تجده يدخل في «من» التي هي صريح
بيان الجنس، كقولك ثوب من خز، وخاتم من فضة، بل هذه يعارضها
معنى التبعيض، ومعنى الآية على هذا التأويل: أمر الأمة بأن
يكونوا يدعون جميع العالم إلى الخير، الكفار إلى الإسلام،
والعصاة إلى الطاعة، ويكون كل واحد من هذه الأمور على منزلته
من العلم والقدرة، قال أهل العلم: وفرض الله بهذه الآية، الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من فروض الكفاية إذا قام به
قائم سقط عن الغير، وللزوم الأمر بالمعروف شروط، منها أن يكون
بمعروف لا بتخرق، فقد قال صلى الله عليه وسلم: من كان آمرا
بمعروف، فليكن أمره ذلك بمعروف، ومنها أن لا يخاف الآمر أذى
يصيبه، فإن فعل مع ذلك فهو أعظم لأجره، وقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع
فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» .
قال القاضي: والناس في تغيير المنكر والأمر بالمعروف على
مراتب، ففرض العلماء فيه تنبيه الحكام والولاة، وحملهم على
جادة العلم، وفرض الولاة تغييره بقوتهم وسلطانهم، ولهم هي
اليد، وفرض سائر الناس رفعه إلى الحكام والولاة بعد النهي عنه
قولا، وهذا في المنكر الذي له دوام، وأما إن رأى أحد نازلة
بديهة من المنكر، كالسلب والزنى ونحوه، فيغيرها بنفسه بحسب
الحال والقدرة، ويحسن لكل مؤمن أن يحتمل في تغيير المنكر، وإن
ناله بعض الأذى، ويؤيد هذا المنزع أن في قراءة عثمان بن عفان
وابن مسعود وابن الزبير «يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر،
ويستعينون بالله على ما أصابهم» ، فهذا وإن كان لم يثبت في
المصحف، ففيه إشارة إلى التعرض لما يصيب عقب الأمر والنهي، كما
هي في قوله تعالى:
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ
عَلى ما أَصابَكَ [لقمان: 17] وقوله تعالى: يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، لا يَضُرُّكُمْ
مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105] معناه إذا لم
يقبل منكم ولم تقدروا على تغيير منكره، وقال بعض العلماء:
«المعروف» التوحيد، والْمُنْكَرِ الكفر، والآية نزلت في
الجهاد.
قال الفقيه القاضي: ولا محالة أن التوحيد والكفر هما رأس
الأمرين، ولكن ما نزل عن قدر التوحيد والكفر، يدخل في الآية
ولا بد، الْمُفْلِحُونَ الظافرون ببغيتهم، وهذا وعد كريم.
ثم نهى الله تعالى هذه الأمة عن أن يكونوا كالمتفرقين من
الأمم، واختلفت عبارة المفسرين في المشار إليهم، فقال ابن
عباس: هي إشارة إلى كل من افترق في الأمم في الدين فأهلكهم
الافتراق، وقال الحسن: هي إشارة إلى اليهود والنصارى، وقال
الزجاج: يحتمل أن تكون الإشارة أيضا إلى فرق اليهود وفرق
النصارى، ومجيء الْبَيِّناتُ هو ببعث الرسل، وإنزال الكتب،
وأسند الفعل دون علامة إلى الْبَيِّناتُ، من حيث نزلت منزلة
البيان، ومن حيث لا حقيقة لتأنيثها، وباقي الآية وعيد، وقوله:
عَذابٌ عَظِيمٌ يعني أنه أعظم من سواه، ويتفاضل هذان العرضان
بأن أحدهما يتخلله فتور، وأما الجزء الفرد من
(1/486)
يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ
وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا
الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا
الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (107)
هذا وذلك فسواء، هذا تحرير مذهب أصحابنا
الأصوليين رحمهم الله.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 106 الى 107]
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا
الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
(106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي
رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)
والعامل في قوله يَوْمَ الفعل الذي تتعلق به اللام، في قوله
ولَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105] قال الزجاج: تقديره
ويثبت لهم عذاب عظيم.
قال القاضي: وذلك ضعيف من جهة المعنى، لأنه يقتضي أن عظم
العذاب في ذلك اليوم، ولا يجوز أن يكون العامل قوله عذاب، لأنه
مصدر قد وصف، «وبياض الوجوه» : عبارة عن إشراقها واستنارتها
وبشرها برحمة الله، قال الزجّاج- وغيره-: ويحتمل عندي أن يكون
ذلك من آثار الوضوء كما قال النبي عليه السلام، أنتم الغر
المحجلون من آثار الوضوء، وأما «سواد الوجوه» ، فقال المفسرون
هي عبارة عن اربدادها وإظلامها بغمم العذاب، ويحتمل أن يكون
ذلك تسويدا ينزله الله بهم على جهة التشويه والتمثيل بهم، على
نحو حشرهم زرقا وهذه أقبح طلعة، ومن ذلك قول بشار: [البسيط]
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود
وقرأ يحيى بن وثاب، «تبيض وتسود» بكسر التاء، وقرأ الزهري،
«تبياض» وجوه، و «تسواد» وجوه بألف، وهي لغة، ولما كان صدر هذه
الآية، إخبارا عن حال لا تخص أحدا معينا، بدىء بذكر البياض
لشرفه، وأنه الحالة المثلى، فلما فهم المعنى، وتعين له «الكفار
والمؤمنون» ، بدىء بذكر الذين اسودت وجوههم للاهتمام بالتحذير
من حالهم، وقوله تعالى: أَكَفَرْتُمْ تقرير وتوبيخ، متعلق
بمحذوف، تقديره، فيقال لهم: أكفرتم؟ وفي هذا المحذوف هو جواب
«أما» ، وهذا هو فحوى الخطاب، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدر
لا يستغني المعنى عنه، كقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ [البقرة: 184] المعنى
فأفطر فعدة وقوله تعالى: بَعْدَ إِيمانِكُمْ يقتضي أن لهؤلاء
الموقنين إيمانا متقدما، فاختلف أهل التأويل في تعيينهم، فقال
أبي بن كعب: الموقفون جميع الكفار، والإيمان الذي قيل لهم
بسببه بَعْدَ إِيمانِكُمْ هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل
لهم- ألست بربكم؟ قالوا بلى- وقال أكثر المتأولين: إنما عني
بالتوقيف في هذه الآية أهل القبلة من هذه الأمة، ثم اختلفوا،
فقال الحسن: الآية في المنافقين، يؤمنون بألسنتهم ويكفرون
بقلوبهم، فيقال لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟ أي ذلك
الإيمان بألسنتهم، وقال السدي: هي فيمن كفر من أهل القبلة حين
اقتتلوا، وقال أبو أمامة: الآية في الخوارج وقال قتادة: الآية
في أهل الردة، ومنه الحديث: ليردن عليّ الحوض رجال من أصحابي
حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا فأقول: أصحابي أصحابي، فيقال إنك
لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: فسحقا فسحقا، وفي بعض طرقه:
فأناديهم: ألا هلم، ألا هلم، وذكر النحاس قولا: إن الآية في
اليهود، وذلك أنهم آمنوا بصفة محمد واستفتحوا به، فلما جاءهم
من غيرهم كفروا، فهذا كفر بعد إيمان، وروي عن مالك أنه قال:
الآية في أهل الأهواء.
(1/487)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ
نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا
لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا
لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ
(110)
قال القاضي: إن كان هذا ففي المجلحين منهم
القائلين ما هو كفر، وروي حديث: أن الآية في القدرية وقال أبو
أمامة: سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنها في
الحرورية، وقد تقدم عنه أنها في الخوارج وهو قول واحد، وما في
قوله بِما كُنْتُمْ مصدرية وقوله تعالى: فَفِي رَحْمَتِ
اللَّهِ أي في النعيم الذي هو موجب رحمة الله وقوله بعد ذلك
هُمْ فِيها تأكيد بجملتين، إذ كان الكلام يقوم دونها.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 108 الى 110]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا
اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ
الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ
وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110)
الإشارة بتلك إلى هذه الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفار
وتنعيم المؤمنين، ولما كان فيها ذكر التعذيب، أخبر تعالى: أنه
لا يريد أن يقع منه ظلم لأحد من العباد، وإذا لم يرد ذلك فلا
يوجد البتة، لأنه لا يقع من شيء إلا ما يريد تعالى، وقوله
تعالى: بِالْحَقِّ معناه: بالإخبار الحق، ويحتمل أن يكون
المعنى: نَتْلُوها عَلَيْكَ مضمنة الأفاعيل التي هي «حق» في
أنفسها، من كرامة قوم، وتعذيب آخرين، وقرأ أبو نهيك: «يتلوها»
بالياء، وجاء الإعلام بأنه تعالى لا يريد ظلما في حكمه، فإذا
لا يوجد.
ولما كان للذهن أن يقف هنا في الوجه الذي به خص الله قوما بعمل
يرحمهم من أجله، وآخرين بعمل يعذبهم عليه، ذكر تعالى الحجة
القاطعة في ملكه جميع المخلوقات، وأن «الحق» لا يعترض عليه،
وذلك في قوله، وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ الآية، وقال: ما ولم يقل «من» من حيث هي جمل وأجناس،
وذكر الطبري: أن بعض البصريين نظر قوله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ
فأظهر الاسم، ولم يقل إليه بقول الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا
وما جرى مجراه، وقاله الزجّاج، وحكي أن العرب تفعل ذلك إرادة
تفخيم الكلام والتنبيه على عظم المعنى.
قال القاضي أبو محمد: والآية تشبه البيت في قصد فخامة النظم،
وتفارقه من حيث الآية جملتان مفترقتان في المعنى، فلو تكررت
جمل كثيرة على هذا الحد لحسن فيها كلها إظهار الاسم، وليس
التعرض بالضمير في ذلك بعرف، وأما البيت وما أشبهه فالضمير فيه
هو العرف، إذ الكلام في معنى واحد، ولا يجوز إظهار الاسم إلا
في المعاني الفخمة في النفوس من التي يؤمن فيها اللبس على
السامع، وقرأ بعض السبعة، «ترجع الأمور» بفتح التاء على بناء
الفعل للفاعل، وقد تقدم ذكر ذلك.
واختلف المتأولون في معنى قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ فقال عمر بن الخطاب: هذه
(1/488)
لأولنا، ولا تكون لآخرنا وقال عكرمة: نزلت
في ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل.
قال القاضي أبو محمد: يريد ومن شاكلهم، وقال ابن عباس رضي الله
عنهما: نزلت في الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة.
قال القاضي: فهذا كله قول واحد، مقتضاه أن الآية نزلت في
الصحابة، قيل لهم كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، فالإشارة بقوله
أُمَّةٍ إلى أمة محمد معينة، فإن هؤلاء هم خيرها، وقال الحسن
بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم: معنى الآية، خطاب الأمة
بأنهم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فلفظ أُمَّةٍ، على
هذا التأويل اسم جنس كأنه قيل لهم كنتم خير الأمم، ويؤيد هذا
التأويل كونهم شهداء على الناس، وقول النبي صلى الله عليه
وسلم: نحن الآخرون السابقون الحديث. وروى بهز بن حكيم عن أبيه
عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما وهو مسند
ظهره إلى الكعبة، نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها
وخيرها قال مجاهد: معنى الآية «كنتم خير الناس» - وقال الحسن:
نحن آخرها وأكرمها على الله تعالى، وقال أبو هريرة رضي الله
عنه: معنى الآية كنتم للناس خير الناس.
قال القاضي أبو محمد: فَأُمُّهُ على هذا التأويل، اسم جنس، قال
أبو هريرة: يجيئون بالكفار في السلاسل فيدخلونهم في الإسلام.
قال القاضي: ولم يبعث نبي إلى الأمم كافة إلا محمد صلى الله
عليه وسلم، فهو وأمته يدعون إلى الإيمان ويقاتلون العالم عليه،
فهم خير الناس للناس، وليس يلزم على هذا التأويل أنها أفضل
الأمم من نفس لفظ الآية، لكن يعلم هذا من لفظ آخر، وهي كقوله
صلى الله عليه وسلم: أرأف أمتي بأمتي أبوبكر، فليس يقتضي هذا
اللفظ أن أبابكر أرأف الناس على الإطلاق، في مؤمن وكافر.
قال القاضي: والرأفة على الإطلاق ليست بجارية مع الشرع كما
يجب، وأما قوله، كُنْتُمْ على صيغة المضي، فإنها التي بمعنى
الدوام، كما قال: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النساء:
96- 99- 100- 152، الفرقان: 70، الأحزاب: 5- 50- 59- 73،
الفتح: 14] ، إلى غير هذا من الأمثلة، وقال قوم: المعنى كنتم
في علم الله، وقيل: في اللوح المحفوظ، وقيل فيما أخبر به الأمم
قديما عنكم وخَيْرَ على هذه الأقوال كلها خبر كان، ويحتمل أن
تكون كان التامة، ويكون خَيْرَ أُمَّةٍ نصبا على الحال، وهذا
يتجه على بعض التأويلات التي ذكرناها دون بعض.
قال القاضي: وهذه الخيرية التي فرضها الله لهذه الأمة إنما
يأخذ بحظه منها من عمل هذه الشروط من الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر والإيمان بالله، وقوله: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وما
بعده، أحوال في موضع نصب، ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب على جهة
التوبيخ المقرون بالنصح، أنهم لو آمنوا لنجّوا أنفسهم من عذاب
الله، وجاءت لفظة خَيْرَ في هذه الآية وهي صيغة تفضيل، ولا
مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير، وإنما جاز ذلك لما في
لفظة خَيْرَ من الشياع وتشعب الوجوه، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب
وما جرى مجراها، وقد بيّن هذا المعنى في غير هذا الموضع بأوعب
من هذا، وقوله تعالى:
(1/489)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ
إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ
ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ
أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ
مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ
بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ
(112)
مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ تنبيه على حال عبد
الله بن سلام وأخيه وثعلبة بن سعية وغيرهم ممن آمن، ثم حكم
الله على أكثرهم بالفسق في كفره لأنهم حرفوا وبدلوا وعاندوا
بعد معرفتهم بحقيقة أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فهم كفار
فسقة في الكفر قد جمعوا المذمتين.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 111 الى 112]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ
يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ
مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ
اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا
يَعْتَدُونَ (112)
قوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً معناه: لن يصيبكم
منهم ضرر في الأبدان ولا في الأموال، وإنما هو أذى بالألسنة،
فالاستثناء متصل، وقال الحسن، وقتادة وغيرهما: «الأذى» هو
تحريفهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم إياه.
قال القاضي أبو محمد: وتنقصهم المؤمنين وطعنهم عليهم جملة
وأفرادا، وهذا كله عظيم مقلق وبسببه استحقوا القتل والإجلاء،
وضرب الجزية، لكن أراد الله تعالى بهذه الآية أن يلحظهم
المؤمنون بعين الاحتقار حتى لا يصدوا أحدا عن دينه ولا يشغلوه
عن عبادة ربه، وهكذا هي فصاحة العرب، ومن هذا المعنى في
التحقير قول ثمامة بن أثال: يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن
تنعم تنعم على شاكر، وإن شئت المال فاسأل منه ما شئت، فقوله:
ذا دم، روي بالذال منقوطة، وبالدال غير منقوطة، فذم بفتح الذال
وبكسرها أراد بها الذمام، وأما الدال غير منقوطة، فيحتمل أنه
أراد التعظيم لأمر نفسه، وذلك بأحد وجهين: إما أن يريد الوعيد،
أي تقتل ذا دم مطلوب بثأره له حماة فاحذر عاقبة ذلك، وإما أن
يريد تقتل ملكا يستشفى بدمه، كما كانت العرب تعتقد في دماء
الملوك، فهذا استعطاف لا وعيد، أي لا ينبغي ذلك أن تفسد مثلي،
وهذا كما استعطف الأشعث بن قيس أبا بكر رضي الله عنه بهذا
المعنى، ويحتمل كلام ثمامة، أنه أراد تحقير أمر نفسه وليذهب عن
نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم المسرة بنيل مثل هذا الأمر
العظيم، ويجري ذلك مجرى قول أبي جهل لعبد الله بن مسعود: وهل
أعمد من رجل قتلتموه؟ ومثله قول الأسير لعمر بن عبد العزيز،
حين قال له: لأقتلنك، قال: إن ذلك لا ينقص من عدد الخزر شيئا
فكأن ثمامة أراد: إن تقتلني تقتل حيوانا حقيرا شأنه، كما يقتل
كل ذي دم فما بالك تفعل ذلك وتدع الإنعام عليّ؟ فالآية تنظر
إلى هذا المعنى من جهة أنه حقر عند المؤمنين ما هو عظيم في
نفسه تنبيها لهم، وأخبر الله تعالى في قوله: وَإِنْ
يُقاتِلُوكُمْ الآية، بخبر غيب صححه الوجود، فهي من آيات محمد
صلى الله عليه وسلم، وفائدة الخبر هي في قوله: ثُمَّ لا
يُنْصَرُونَ أي لا تكون حربهم معكم سجالا وخص الْأَدْبارَ
بالذكر دون الظهر تخسيسا للفارّ، وهكذا هو حيث تصرف.
وقوله: ضُرِبَتْ معناه: أثبتت بشدة والتزام مؤكد، وهذا وصف حال
تقررت على اليهود في أقطار
(1/490)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ
آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
الأرض قبل مجيء الإسلام، قال الحسن: جاء
الإسلام وإن المجوس لتجبيهم الجزية، وما كانت لهم عزة ومنعة
إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض فأزالها الله بالإسلام، ولم تبق
لهم راية أصلا في الأرض، والذِّلَّةُ فعلة من الذل ثُقِفُوا
معناه أخذوا وهم بحال المذنب المستحق الإهلاك، ومنه قوله
تعالى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ [الأنفال: 57]
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ ثقفتموهم [التوبة: 5]
واللفظة مأخوذة من الثقاف، ومنه قول الشاعر:
تدعو ثقيفا وقد عضّ الحديد بها ... عضّ الثّقاف على صمّ
الأنابيب
وقوله تعالى: إِلَّا بِحَبْلٍ استثناء منقطع، وهو نظير قوله
تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا
خَطَأً [النساء: 92] لأن بادي الرأي يعطي أن له أن يقتل خطئا،
وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة، وليس الأمر كذلك،
وإنما الكلام محذوف، يدركه فهم السامع الناظر في الأمر،
وتقديره في آياتنا فلا نجاة من الموت إِلَّا بِحَبْلٍ، وقوله
تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا
كأنه بالمعنى هلكوا واستؤصلوا، فلذلك حسن أن يجيء بعده إِلَّا
بِحَبْلٍ، وقرب فهم ذلك للسامع، قال الزجّاج: المعنى ضربت
عليهم الذلة إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه، و «الحبل»
العهد، شبه به لأنه يصل قوما بقوم كما يفعل الحبل في الأجرام،
وباؤُ معناه مضوا متحملين لهذا الحكم، و «غضب الله عليهم» ،
بما دلت عليه هذه الأمور التي أوقع بهم، وأفعال بني إسرائيل
على وجه الدهر من التعنت والعصيان توجب الغضب، فلذلك خصوا به،
والنصارى إنما ضلوا فقط، والْمَسْكَنَةُ التذلل والضعة، وهي
حالة الطواف الملتمس للقمة واللقمتين المضارع المفارق لحالة
التعفف والتعزز به، فليس أحد من اليهود وإن كان غنيا إلا وهو
بهذه الحال، وقوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى الغضب وضرب الذلة
والمسكنة، فعاقبهم الله على كفرهم وقتلهم الأنبياء بذلك، و
«آيات الله» : يحتمل أن يراد بها المتلوة، ويحتمل أن يريد
العبر التي عرضت عليهم، وقوله: بِغَيْرِ حَقٍّ تأكيد ومبالغة
وقطع لما عسى أن يكون في وهم إنسان ممكنا بوجه ما، وقوله
تعالى:
ذلِكَ بِما عَصَوْا حمله المفسرون على أن الإشارة بذلك إلى
الشيء الذي أشير إليه بذلك الأول، قاله الطبري والزجّاج
وغيرهما. والذي أقول: إن الإشارة ب ذلِكَ الأخير إنما هي إلى
كفرهم وقتلهم، وذلك أن الله تعالى، استدرجهم فعاقبهم على
العصيان والاعتداء بالمصير إلى الكفر وقتل الأنبياء، وهو الذي
يقول أهل العلم: إن الله تعالى يعاقب على المعصية بالإيقاع في
معصية، ويجازي على الطاعة بالتوفيق إلى طاعة، وذلك موجود في
الناس إذا تؤمل، وعصيان بني إسرائيل واعتداؤهم في السبت وغيره
متقرر في غير ما موضع من كتاب الله، وقال قتادة رحمه الله عند
ما فسر هذه الآية: اجتنبوا المعصية والعدوان فإن بها أهلك من
كان قبلكم من الناس.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 114]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ
يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ
(113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ
(114)
(1/491)
لما مضت الضمائر في الكفر والقتل والعصيان
والاعتداء عامة في جميع أهل الكتاب، عقب ذلك بتخصيص الذين هم
على خير وإيمان، وذلك أن أهل الكتاب لم يزل فيهم من هو على
استقامة، فمنهم من مات قبل أن يدرك الشرائع فذلك من الصالحين،
ومنهم من أدرك الإسلام فدخل فيه.
قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا النظر أن جميع اليهود على عوج
من وقت عيسى، وتجيء الآية إشارة إلى من أسلم فقط، أو يكون
اليهود في معنى الأمة القائمة إلى وقت عيسى، ثم ينتقل الحكم في
النصارى، ولفظ أَهْلِ الْكِتابِ يعم الجميع، والضمير في
لَيْسُوا لمن تقدم ذكره في قوله مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ
وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمران: 110] وما قال أبو
عبيدة من أن الآية نظيرة قول العرب أكلوني البراغيث خطأ مردود،
وكذلك أيضا ما حكي عن الفراء أن أُمَّةٌ مرتفعة ب سَواءً على
أنها فاعلة كأنه قال: لا تستوي أمة كذا وإن في آخر الكلام
محذوفا معادلا تقديره وأمة كافرة، فأغنى القسم الأول عن ذكرها
ودل عليه كما قال أبو ذؤيب:
عصيت إليها القلب إنّي لأمرها ... سميع فما أدري أرشد طلابها؟
المعنى أم غيّ، فاقتصر لدلالة ما ذكر عليه.
قال القاضي أبو محمد: وإنما الوجه أن الضمير في لَيْسُوا يراد
به من تقدم ذكره، وسَواءً خبر ليس، ومِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
مجرور فيه خبر مقدم، وأُمَّةٌ رفع بالابتداء قال ابن عباس رضي
الله عنهما: لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسيد
بن سعية وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود، معهم، قال الكفار من
أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلا شرارنا ولو كانوا خيارا ما
تركوا دين آبائهم، فأنزل الله تعالى في ذلك لَيْسُوا سَواءً
الآية، وقال مثله قتادة وابن جريج.
قال القاضي أبو محمد: وهو أصح التأويلات، وقال عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه: معنى الآية:
ليس اليهود وأمة محمد سواء، وقاله السدي.
قال القاضي أبو محمد: فمن حيث تقدم ذكر هذه الأمة في قوله
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: 110] وذكر أيضا اليهود قال
الله لنبيه لَيْسُوا سَواءً والْكِتابِ على هذا جنس كتب الله
وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط، والمعنى: مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ وهم أهل القرآن أمة قائمة، واختلف عبارة المفسرين في
قوله قائِمَةٌ فقال مجاهد: معناه عادلة، وقال قتادة والربيع
وابن عباس: معناه قائمة على كتاب الله وحدوده مهتدية، وقال
السدي: القائمة القانتة المطيعة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله يرجع إلى معنى واحد من الاعتدال
على أمر الله، ومنه قيل للدنانير أو الدراهم الوازنة قائمة
وهذه الآية تحتمل هذا المعنى وأن لا تنظر اللفظة إلى هيئة
الأشخاص وقت تلاوة آيات الله، ويحتمل أن يراد ب قائِمَةٌ وصف
حال التالين في آناءَ اللَّيْلِ، ومن كانت هذه حاله فلا محالة
أنه معتدل على أمر الله، وهذه الآية في هذين الاحتمالين مثل ما
تقدم في قوله إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً
(1/492)
[آل عمران: 75] ويَتْلُونَ معناه: يسردون،
وآياتِ اللَّهِ في هذه الآية هي كتبه، و «الآناء» :
الساعات واحدها «إني» بكسر الهمزة وسكون النون، ويقال فيه
«أني» بفتح الهمزة، ويقال «إنى» بكسر الهمزة وفتح النون
والقصر، ويقال فيه «أنى» بفتح الهمزة ويقال «إنو» بكسر الهمزة
وسكون النون وبواو مضمومة ومنه قول الهذيلي: [البسيط]
حلو ومرّ كعطف القدح مرّته ... في كلّ إني قضاه الليل ينتعل
وحكم هذه الآية لا يتفق في شخص بأن يكون كل واحد يصلي جميع
ساعات الليل وإنما يقوم هذا الحكم من جماعة الأمة، إذ بعض
الناس يقوم أول الليل، وبعضهم آخره، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود
إلى نومه، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات عبارة آناءَ
اللَّيْلِ بالقيام، وهكذا كان صدر هذه الأمة، وعرف الناس
القيام في أول الثلث الآخر من الليل أو قبله بشيء، وحينئذ كان
يقوم الأكثر، والقيام طول الليل قليل وقد كان في الصالحين من
يلتزمه، وقد ذكر الله تعالى القصد من ذلك في سورة المزمل،
وقيام الليل لقراءة العلم المبتغى به وجه الله داخل في هذه
الآية، وهو أفضل من التنفل لمن يرجى انتفاع المسلمين بعلمه،
وأما عبارة المفسرين في آناءَ اللَّيْلِ، فقال الربيع وقتادة
وغيرهما: آناءَ اللَّيْلِ ساعات الليل، وقال عبد الله بن كثير:
سمعنا العرب تقول آناءَ اللَّيْلِ ساعات الليل، وقال السدي:
آناءَ اللَّيْلِ جوف الليل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قلق، أما ان جوف الليل جزء من
الآناء، وقال ابن مسعود: نزلت هذه الآية بسبب أن النبي صلى
الله عليه وسلم احتبس عنا ليلة عن صلاة العشاء وكان عند بعض
نسائه فلم يأت حتى مضى ليل، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع،
فقال: أبشروا فإنه ليس أحد من أهل الكتاب يصلي هذه الصلاة،
فأنزل الله تعالى: لَيْسُوا سَواءً الآية، فالمراد بقوله:
يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ صلاة العشاء، وروى
سفيان الثوري عن منصور أنه قال: بلغني أن هذه الآية نزلت في
المصلين بين العشاءين وقوله تعالى: وَهُمْ يَسْجُدُونَ ذهب بعض
الناس إلى أن السجود هنا عبارة عن الصلاة، سماها بجزء شريف
منها كما تسمى في كثير من المواضع ركوعا، فهي على هذا جملة في
موضع الحال، كأنه قال:
يتلون آيات الله آناء الليل مصلين، وذهب الطبري وغيره إلى أنها
جملة مقطوعة من الكلام الأول، أخبر عنهم أنهم أيضا أهل سجود.
قال القاضي أبو محمد: ويحسن هذا من جهة أن التلاوة آناء الليل
قد يعتقد السامع أن ذلك في غير الصلاة، وأيضا فالقيام في قراءة
العلم يخرج من الآية على التأويل الأول، ويثبت فيها على هذا
الثاني ف هُمْ يَسْجُدُونَ على هذا نعت عدد بواو العطف، كما
تقول: جاءني زيد الكريم والعاقل.
ويُؤْمِنُونَ معناه: يصدقون، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان
بالأنبياء، لأنه من جائزات العقل التي أثبتها السمع من
الأنبياء، وقوله تعالى: وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وصف
بأنهم متى دعوا إلى خير من نصر مظلوم وإغاثة مكروب وجبر مهيض
وعبادة الله أجابوا، ومنه فعل مالك رضي الله عنه في ركعتي
المسجد، وقال: دعوتني إلى خير فأجبت إليه، ومما يدخل في ضمن
قوله تعالى: وَيُسارِعُونَ فِي
(1/493)
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
(115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
الْخَيْراتِ
أن يكون المرء مغتنما للخمس، كما قال النبي صلى الله عليه
وسلم: اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك،
وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل مماتك، وغناك قبل فقرك، فيكون متى
أراد أن يصنع خيرا بادر إليه ولم يسوف نفسه بالأمل، فهذه أيضا
مسارعة في الخيرات، وذكر بعض الناس قال: دخلت مع بعض الصالحين
في مركب فقلت له: ما تقول أصلحك الله في الصوم في السفر؟ فقال
لي: إنها المبادرة يا ابن أخي، قال المحدث: فجاءني والله بجواب
ليس من أجوبة الفقهاء، ثم وصف الله تعالى من تحصلت له هذه
الصفات، بأنه من جملة الصالحين، ومِنَ يحسن أن تكون للتبعيض،
ويحسن أن تكون لبيان الجنس.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 115 الى 117]
وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ
تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ
اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ
الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «تفعلوا
وتكفروه» بالتاء على مخاطبة هذه الأمة، وقرأ حمزة والكسائي
وحفص عن عاصم بالياء فيهما، على مشابهة ما تقدم من «يتلون
ويؤمنون» وما بعدهما، وكان أبو عمرو يقرأ بالوجهين، وتكفروه
معناه: يعطى دونكم فلا تثابون عليه، ومن هذا قول النبي صلى
الله عليه وسلم: من أزلت إليه نعمة فليذكرها فإن ذكرها فقد
شكرها، فإن لم يفعل فقد كفرها، ومنه قول الشاعر: [عنترة] :
[الكامل] :
(والكفر مخبثة لنفس المنعم) وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالْمُتَّقِينَ وعد ووعيد.
ثم عقب تعالى ذكر هذا الصنف الصالح بذكر حال الكفار، ليبين
الفرق، وخص الله تعالى «الأموال والأولاد» بالذكر لوجوه. منها
أنها زينة الحياة الدنيا، وعظم ما تجري إليه الآمال، ومنها
أنها ألصق النصرة بالإنسان وأيسرها، ومنها أن الكفار يفخرون
بالآخرة لا همة لهم إلا فيها هي عندهم غاية المرء وبها كانوا
يفخرون على المؤمنين، فذكر الله أن هذين اللذين هما بهذه
الأوصاف لا غناء فيهما من عقاب الله في الآخرة، فإذا لم تغن
هذه فغيرها من الأمور البعيدة أحرى أن لا يغني وقوله تعالى:
أصحابه إضافة تخصيص ما، تقتضي ثبوت ذلك لهم ودوامه.
وقوله تعالى: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ
الدُّنْيا
الآية، معناه: المثال القائم في النفوس من إنفاقهم الذي يعدونه
قربة وحسبة وتحنثا ومن حبطه يوم القيامة وكونه هباء منثورا،
وذهابه كالمثال القائم في النفوس من زرع قوم نبت واخضرّ وقوي
الأمل فيه فهبت عليه يحٍ فِيها صِرٌّ
محرق فأهلكته، فوقع
(1/494)
التشبيه بين شيئين وشيئين، ذكر الله عز وجل
أحد الشيئين المشبهين وترك ذكر الآخر ثم ذكر أحد الشيئين
المشبه بهما وليس الذي يوازي المذكور الأول، وترك ذكر الآخر،
ودل المذكور أن على المتروكين، وهذه غاية البلاغة والإيجاز،
ومثل ذلك قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ
الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ [البقرة: 171] ، وقرأ عبد
الرحمن بن هرمز الأعرج، «تنفقون» بالتاء على معنى قل لهم يا
محمد، وثَلُ
رفع بالابتداء وخبره في محذوف به تتعلق الكاف من قوله مَثَلِ
، وا
بمعنى الذي وجمهور المفسرين على أن نْفِقُونَ
يراد به الأموال التي كانوا ينفقونها في التحنث وفي عداوة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك عندهم قربة، وقال السدي:
نْفِقُونَ
معناه من أقوالهم التي يبطنون ضدها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، لأنه يقتضي أن الآية في
منافقين والآية إنما هي في كفار يعلنون مثل ما يبطنون، وذهب
بعض المفسرين إلى أن نْفِقُونَ
يراد به أعمالهم من الكفر ونحوه، أي هي «كالريح التي فيها صر»
، فتبطل كل ما لهم من صلة رحم وتحنث بعتق ونحوه، كما تبطل
الريح الزرع، وهذا قول حسن لولا بعد الاستعارة في الإنفاق، و
«الصر» البرد الشديد، المحرق لكل ما يهب عليه وهو معروف قال
ابن عباس وجمهور المفسرين: «الصر» البرد، وتسميه العرب الضريب،
وذهب الزجّاج وغيره:
إلى أن اللفظة من التصويت، من قولهم صر الشيء، ومنه الريح
الصرصر، قال الزجاج: فالصر صوت النار التي في الريح.
قال القاضي: «الصر» هو نفس جهنم الذي في الزمهرير يحرق نحوا
مما تحرق النار، و «الحرث» شامل للزرع والثمار، لأن الجميع مما
يصدر عن إثارة الأرض، وهي حقيقة الحرث، ومنه الحديث لا زكاة
إلا في عين أو حرث أو ماشية، وقال عز وجل: لَمُوا أَنْفُسَهُمْ
فما بال هذا التخصيص والمثل صحيح، وإن كان الحرث لمن لم يظلم
نفسه؟ فالجواب أن ظلم النفس في هذه الآية تأوله جمهور المفسرين
بأنه ظلم بمعاصي الله، فعلى هذا وقع التشبيه بحرث من هذه صفته،
إذ عقوبته أوخى وأخذ الله له أشد والنقمة إليه أسرع وفيه أقوى،
كما روي في جوف العير وغيره، وأيضا فمن أهل العلم من يرى أن كل
مصائب الدنيا فإنما هي بمعاصي العبيد، وينتزع ذلك من غير ما
آية في القرآن، فيستقيم على قوله: إن كل حرث تحرقه ريح فإنما
هو لمن قد ظلم نفسه، وذهب بعض الناس ونحا إليه المهدوي: إلى أن
قوله تعالى:
ْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
معناه زرعوا في غير أوان الزراعة.
قال أبو محمد: وينبغي أن يقال في هذا: لَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بأن وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل، ويخص
هؤلاء بالذكر لأن الحرق فيما جرى هذا المجرى أو عب وأشد تمكنا،
وهذا المنزع يشبهه من جهة ما قول امرئ القيس: [المتقارب]
وسالفة كسحوق اللّيا ... ن أضرم فيها الغويّ السعر
فخصص الغويّ لأنه يلقي النار في النخلة الخضراء الحسنة التي لا
ينبغي أن تحرق، فتطفىء النار عن نفسها رطوبتها بعد أن تتشذب
وتسود، فيجيء الشبه حسنا، والرشيد لا يضرم النار إلا فيما يبس
واستحق فهو يذهب ولا يبقى منه ما يشبه به، والضمير في لَمَهُمُ
للكفار الذين تقدم ضميرهم في نْفِقُونَ
(1/495)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ
لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ
الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ (118)
وليس هو للقوم ذوي الحرث لأنهم لم يذكروا
ليرد عليهم، ولا ليبين ظلمهم وأيضا فقوله: لكِنْ أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ
، يدل على فعل الحال في حاضرين.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 118]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ
دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ
بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي
صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يتخذوا من الكفار
واليهود أخلاء يأنسون بهم في الباطن من أمورهم ويفاوضونهم في
الآراء ويستنيمون إليهم، وقوله: مِنْ دُونِكُمْ
يعني من دون المؤمنين، ولفظة «دون» تقتضي فيما أضيف إليه أنه
معدوم من القصة التي فيها الكلام، فشبه الأخلاء بما يلي بطن
الإنسان من ثوبه، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه
وسلم: ما من خليفة ولا ذي إمرة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره
بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من
عصم الله، وقوله: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا معناه لا يقصرون
لكم فيما فيه الفساد عليكم، تقول: ما ألوت في كذا أي ما قصرت
بل اجتهدت ومنه قول زهير:
جرى بعدهم قوم لكي يلحقوهم ... فلم يلحقوا ولم يليموا ولم
يألوا
أي لم يقصروا، والخبل والخبال: الفساد، وقال ابن عباس: كان
رجال من المؤمنين يواصلون رجالا من اليهود للجوار والحلف الذي
كان بينهم في الجاهلية، فنزلت الآية في ذلك، وقال أيضا ابن
عباس وقتادة والربيع والسدي: نزلت في المنافقين: نهى الله
المؤمنين عنهم، وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم
عربيا فسره الحسن بن أبي الحسن، فقال أراد عليه السلام، لا
تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ولا تنقشوا في خواتيمكم
(محمدا) .
قال القاضي: ويدخل في هذه الآية استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في
البيع والشراء والاستنامة إليهم، وروي أن أبا موسى الأشعري
استكتب ذميا فكتب إليه عمر يعنفه، وتلا عليه هذه الآية، وقيل
لعمر:
إن هاهنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم،
أفلا يكتب عنك؟ فقال: إذا أتخذ بطانة من دون المؤمنين، وما في
قوله، ما عَنِتُّمْ مصدرية، فالمعنى: وَدُّوا عنتكم، و «العنت»
: المشقة والمكروه يلقاه المرء وعقبة عنوت: أي شاقة، وقوله
تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ [النساء: 35] معناه
المشقة إما في الزنا وإما في ملك الإرب قال السدي: معناه
«ودوا» ما ضللتم، وقال ابن جريج: المعنى «ودوا» أن تعنتوا في
دينكم ويقال عنت الرجل يعنت بكسر النون في الماضي، وقوله
تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ يعني
بالأقوال، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه وخص
تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى شدقهم وثرثرتهم في
أقوالهم هذه، ويشبه هذا الذي قلناه ما في الحديث أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم نهى أن يتشحى الرجل في عرض أخيه، معناه: أن
يفتح فاه به يقال شحّى الحمار فاه
(1/496)
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ
بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا
وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ
الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
بالنهيق وشحّى اللجام في الفرس، والنهي في
أن يأخذ أحد عرض أخيه همسا راتب، فذكر التشحي إنما هو إشارة
إلى التشدق والانبساط، وقوله: وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ إعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون
بأفواههم، وفي قراءة عبد الله بن مسعود: «قد بدا البغضاء»
بتذكير الفعل، لما كانت الْبَغْضاءُ بمعنى البغض، ثم قال تعالى
للمؤمنين، قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ تحذيرا وتنبيها، وقد علم تعالى أنهم عقلاء ولكن
هذا هز للنفوس كما تقول: إن كنت رجلا فافعل كذا وكذا.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 119]
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا
آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ
الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ (119)
تقدم إعراب نظير هذه الآية وقراءتها في قوله تعالى آنفا: ها
أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل
عمران: 66] والضمير في تُحِبُّونَهُمْ لمنافقي اليهود الذين
تقدم ذكرهم في قوله: بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران: 118]
والضمير في هذه الآية اسم للجنس، أي تؤمنون بجميع الكتب وهم لا
يؤمنون بقرآنكم، وإنما وقف الله تعالى المؤمنين بهذه الآية على
هذه الأحوال الموجبة لبغض المؤمنين لمنافقي اليهود واطراحهم
إياهم، فمن تلك الأحوال أنهم لا يحبون المؤمنين وأنهم يكفرون
بكتابهم وأنهم ينافقون عليهم ويستخفون بهم ويغتاظون ويتربصون
الدوائر عليهم، وقوله تعالى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ
عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه ومنه قول أبي
طالب: [الطويل] (يعضّون غيظا خلفنا بالأنامل) ومنه قول الآخر
[الفرزدق] :
وقد شهدت قيس فما كان نصرها ... قتيبة إلّا عضّها بالأباهم
وهذا العض هو بالأسنان، وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة
النفس الغائظة، كما أن عض اليد على اليد يتبع هيئة النفس
النادمة فقط، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم
ونحوه، ويكتب هذا العض بالضاد، ويكتب عظ الزمان بالظاء المشالة
وواحد «الأنامل» أنملة بضم الميم، ويقال بفتحها والضم أشهر،
ولا نظير لهذا الاسم في بنائه إلا أشد، له نظائر في الجموع،
وقوله وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ يقتضي أن الآية في
منافقي اليهود لا في منافقي العرب، ويعترضها أن منافقي اليهود
لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيمانا مطلقا
ويكفرون في الباطن، كما كان المنافقون من العرب يفعلون، إلا ما
روي من أمر زيد بن الصيت القينقاعي فلم يبق إلا أن قولهم:
آمَنَّا معناه: صدقنا أنه نبي مبعوث إليكم، أي فكونوا على
دينكم ونحن أولياؤكم وإخوانكم ولا نضمر لكم إلا المودة، ولهذا
كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة، وهذا منزع قد حفظ أن كثيرا من
اليهود كان يذهب إليه، ويدل على هذا التأويل أن المعادل لقولهم
آمَنَّا، «عض الأنامل من الغيظ» ، وليس هو ما يقتضي الارتداد
كما هو في قوله
(1/497)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا
بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ
كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
(120)
تعالى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ
قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة: 14] بل هو ما يقتضي البغض
وعدم المودة، وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال: هم
الإباضية.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الصفة قد تترتب في أهل بدع من الناس
إلى يوم القيامة، وقوله تعالى:
قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، قال فيه الطبري وكثير من المفسرين:
هو دعاء عليهم.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا يتجه أن يدعى عليهم بهذا
مواجهة، قال قوم: بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أن
يواجهوهم بهذا.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا زال معنى الدعاء وبقي معنى
التقريع والإغاظة، ويجري المعنى مع قول مسافر بن أبي عمرو:
وننمي في ارومتنا ونفقأ عين من حسدا وينظر إلى هذا المعنى في
قوله، مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ قوله تعالى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ
إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ [الحج: 15] ، وقوله: إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وعيد يواجهون به على هذا
التأويل الأخير في مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ و «ذات الصدور» : ما
تنطوي عليه، والإشارة هنا إلى المعتقدات ومن هذا قول أبي بكر
الصديق رضي الله عنه: إنما هو ذو بطن بنت خارجة، ومنه قولهم:
الذيب مغبوط بذي بطنه، وال «ذات» : لفظ مشترك في معان لا يدخل
منها في هذه الآية إلا ما ذكرناه.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 120]
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ
سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
«الحسنة والسيئة» في هذه الآية لفظ عام في كل ما يحسن ويسوء،
وما ذكر المفسرون من الخصب والجدب واجتماع المؤمنين ودخول
الفرقة بينهم وغير ذلك من الأقوال، فإنما هي أمثلة وليس ذلك
باختلاف وذكر تعالى «المس في الحسنة» ليبين أن بأدنى طروء
الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين، ثم عادل ذلك بالسيئة
بلفظ الإصابة وهي عبارة عن التمكن، لأن الشيء المصيب لشيء فهو
متمكن منه أو فيه، فدل هذا المنزع البليغ على شدة العداوة، إذ
هو حقد لا يذهب عند الشدائد، بل يفرحون بنزول الشدائد
بالمؤمنين، وهكذا هي عداوة الحسد في الأغلب، ولا سيما في مثل
هذا الأمر الجسيم الذي هو ملاك الدنيا والآخرة وقد قال الشاعر:
[البسيط]
كلّ العداوة قد ترجى إزالتها ... إلّا عداوة من عاداك من حسد
ولما قرر تعالى هذا الحال لهؤلاء المذكورين، وأوجبت الآية أن
يعتقدهم المؤمنون بهذه الصفة، جاء قوله تعالى: وَإِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً
تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم، وشرط ذلك بالصبر والتقوى، وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو ونافع: «لا يضركم» بكسر الضاد وجزم الراء
وهو من ضار يضير
(1/498)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ
مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
بمعنى ضر يضر وهي لغة فصيحة، وحكى الكسائي:
ضار يضور، ولم يقرأ على هذه اللغة، ومن ضار يضير في كتاب الله
لا ضَيْرَ [الشعراء: 50] ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي:
فقيل تحمّل فوق طوقك إنّها ... مطبّعة من يأتها لا يضيرها
يصف مدينة، والمعنى فليس يضيرها، وفي هذا النفي المقدر بالفاء
هو جواب الشرط، ومن اللفظ قول توبة بن الحمير:
وقال أناس لا يضيرك نأيها ... بلى كلّ ما شقّ النّفوس يضيرها
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: «لا يضرّكم» بضم الضاد
والراء والتشديد في الراء، وهذا من ضر يضر، وروي عن حمزة مثل
قراءة أبي عمرو، وأما إعراب هذه القراءة فجزم، وضمت الراء
للالتقاء، وهو اختيار سيبويه في مثل هذا اتباعا لضمة الضاد،
ويجوز فتح الراء وكسرها مع إرادة الجزم، فأما الكسر فلا أعرفها
قراءة، وعبارة الزجّاج في هذا متجوز فيها، إذ يظهر من درج
كلامه أنها قراءة، وأما فتح الراء من قوله «لا يضرّكم» فقرأ به
عاصم فيما رواه أبو زيد عن المفضل عنه، ويجوز أيضا أن يكون
إعراب قوله، «لا يضركم» ، رفعا إما على تقدير، فليس يضركم، على
نحو تقدم في بيت أبي ذؤيب، وإما على نية التقدم على «وإن
تصبروا» كما قال [جرير بن عبد الله] : [الرجز]
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنّك إن يصرع أخوك تصرع
المراد أنك تصرع، وقرأ أبي بن كعب: «لا يضرركم» براءين وذلك
على فك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز وعليها قوله تعالى في الآية
إِنْ تَمْسَسْكُمْ ولغة سائر العرب الإدغام في مثل هذا كله، و
«الكيد» الاحتيال بالأباطيل وقوله تعالى: وَأَكِيدُ كَيْداً
[الطارق: 16] إنما هي تسمية العقوبة باسم الذنب، وقوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وعيد، والمعنى محيط
جزاؤه وعقابه وبالقدرة والسلطان، وقرأ الحسن: «بما تعملون»
بالتاء، وهذا إما على توعد المؤمنين في اتخاذ هؤلاء بطانة،
وإما على توعد هؤلاء المنافقين بتقدير: قل لهم يا محمد.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 122]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ
مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ
هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ
وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
(122)
ذهب الطبري رحمه الله إلى أن هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها
من الآيات والظاهر أنها استقبال أمر آخر، لأن تلك مقاولة في
شأن منافقي اليهود، وهذا ابتداء عتب المؤمنين في أمر أحد،
فالعامل في إِذْ فعل مضمر تقديره واذكر، وقال الحسن: هذا الغدو
المذكور في هذه الآية «لتبويء المؤمنين» الذي كان في غزوة
الأحزاب.
قال القاضي أبو محمد: وخالفه الناس، والجمهور على أن ذلك كان
في غزوة أحد، وفيها نزلت هذه
(1/499)
الآيات كلها، وكان من أمر غزوة أحد أن
المشركين اجتمعوا في ثلاثة آلاف رجل، وقصدوا المدينة ليأخذوا
بثأرهم في يوم بدر، فنزلوا عند أحد يوم الأربعاء الثاني عشر من
شوال سنة ثلاث من الهجرة، على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة،
وأقاموا هنالك يوم الخميس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم
بالمدينة يدبر وينتظر أمر الله تعالى، فلما كان في صبيحة يوم
الجمعة جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس واستشارهم
وأخبرهم أنه كان يرى بقرة تذبح وثلما في ذباب سيفه، وأنه يدخل
يده في درع حصينة، وأنه تأولها المدينة، وقال لهم، أرى أن لا
نخرج إلى هؤلاء الكفار، فقال له عبد الله بن أبي ابن سلول: أقم
يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس، فإن هم أقاموا أقاموا بشر
محبس، وإن انصرفوا مضوا خائبين، وإن جاؤونا إلى المدينة
قاتلناهم في الأفنية ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من
الآطام، فو الله ما حاربنا قط عدوا في هذه المدينة إلا غلبناه،
ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا، فوافق هذا الرأي رأي رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ورأي جماعة عظيمة من المهاجرين
والأنصار، وقال قوم من صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر: يا
رسول الله اخرج بنا إلى عدونا، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب،
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس صلاة الجمعة
وقد جشمه هؤلاء الداعون إلى الحرب، فدخل إثر صلاته بيته ولبس
سلاحه، فندم أولئك القوم وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلما خرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في سلاحه،
قالوا: يا رسول الله أقم إن شئت، فإنّا لا نريد أن نكرهك، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن
يضعها حتى يقاتل ثم خرج بالناس، وسار حتى قرب من عسكر المشركين
هناك وبات تلك الليلة، وقد غضب عبد الله بن أبي ابن سلول وقال:
أطاعهم وعصاني، فلما كان في صبيحة يوم السبت، اعتزم رسول الله
صلى الله عليه وسلم على السير إلى مناجزة المشركين، فنهض وهو
في ألف رجل، فانعزل عنه عند ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول
بثلاثمائة رجل من الناس، من منافق ومتبع، وقالوا: نظن أنكم لا
تلقون قتالا، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سبعمائة،
فهمت عند ذلك بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج
بالانصراف، ورأوا كثافة المشركين وقلة المسلمين، وكادوا أن
يجبنوا ويفشلوا فعصمهم الله تعالى، وذم بعضهم بعضا، ونهضوا مع
النبي صلى الله عليه وسلم، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى أطل على المشركين، فتصافّ الناس، وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد أمر على الرماة عبد الله بن جبير، وكانوا خمسين
رجلا، وجعلهم يحمون الجبل وراء المسلمين، وأسند هو إلى الجبل،
فلما أضرمت الحرب انكشف المشركون وانهزموا، وجعل نساء المشركين
تبدو خلاخلهن وهن يسندن في صفح جبل، فلما رأى الرماة ذلك
قالوا: الغنيمة الغنيمة أيها المسلمون، وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد قال لهم: لا تبرحوا من هنا ولو رأيتمونا
تتخطفنا الطير، فقال لهم عبد الله بن جبير وقوم منهم: اتقوا
الله واثبتوا كما أمركم نبيكم، فعصوا وخالفوا وزالوا متبعين،
وكان خالد بن الوليد قد تجرد في جريدة خيل وجاء من خلف
المسلمين حيث كان الرماة، فحمل على الناس ووقع التخاذل وصيح في
المسلمين من مقدمتهم ومن ساقتهم، وصرخ صارخ: قتل محمد، فتخاذل
الناس واستشهد من المسلمين نيف على سبعين، قال مكي: قال مالك
رحمه الله: قتل من المهاجرين يوم أحد أربعة، ومن الأنصار سبعون
وتحيز رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى الجبل
(1/500)
وتحاوز الناس، هذا مختصر من القصة يتركب
عليه تفسير الآية، وأمر «أحد» بطوله وما تخلله من الأفعال
والأقوال، مستوعب في كتب السير، وليس هذا التعليق مما يقتضي
ذكره وحكى مكي عن السدي ما يظهر منه أن القتال كان يوم الجمعة،
وحكى عنه الطبري، أن نزول أبي سفيان بأحد كان
في الثالث من شوال، وذلك كله ضعيف، وقال النقاش: وقعة «أحد» في
الحادي عشر من شوال، وذلك خطأ، قال الطبري وغيره: فغدو رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة إلى التدبير مع الناس
واستشارتهم هو الذي عبر عنه بقوله تعالى: تُبَوِّئُ
الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ.
قال القاضي: ولا سيما أن غدو النبي صلى الله عليه وسلم إنما
كان ورأيه أن لا يخرج الناس، فكان لا يشك في نفسه أن يقسم
أقطار المدينة على قبائل الأنصار، وقال غير الطبري: بل نهوض
النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بعد الصلاة، هو غدوه،
وبوأ المؤمنين في وقت حضور القتال، وقيل ذلك في ليلته، وسماه
«غدوا» إذ كان قد اعتزم التدبير، والشروع في الأمر من وقت
الغدو.
قال القاضي أبو محمد: ولا سيما أن صلاة الجمعة ربما كانت قبل
الزوال، حسبما وردت بذلك أحاديث، فيجيء لفظ الغدو متمكنا، وقيل
إن «الغدو» المذكور هو «غدوة» يوم السبت إلى القتال، ومن حيث
لم يكن في تلك الليلة موافقا للغدو فهو كأنه كان في أهله وبوأ
المسلمين بأمره الرماة وبغير ذلك من تدبيره مصاف الناس
وتُبَوِّئُ معناه: تعين لهم مقاعد يتمكنون فيها ويثبتون تقول:
تبوأت مكان كذا، إذا حللته حلولا متمكنا تثبت فيه، ومنه قوله
تعالى: نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: 74]
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: من كذب عليّ متعمدا
فليتبوأ مقعده من النار، ومنه قول الشاعر: [مجزوء الكامل مرفل]
كم صاحب لي صالح ... بوّأته بيديّ لحدا
ومنه قول الأعشى: [الطويل]
وما بوّأ الرّحمن بيتك منزلا ... بشرقيّ أجياد الصّفا والمحرم
وقوله تعالى: مَقاعِدَ جمع مقعد وهو مكان القعود، وهذا بمنزلة
قولك مواقف، ولكن لفظة القعود أدل على الثبوت، ولا سيما أن
الرماة إنما كانوا قعودا، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولا،
والمبارزة والسرعان يجولون، وقوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ أي ما
تقول ويقال لك وقت المشاورة وغيره.
وإِذْ الثانية بدل من الأولى، وهَمَّتْ معناه أرادت ولم تفعل،
والفشل في هذا الموضع هو الجبن الذي كاد يلحق بني سلمة وبني
حارثة و «الفشل» في البدن هو الإعياء والتبليح، و «الفشل» في
الرأي هو العجز والحيرة وفساد العزم، وقال جابر بن عبد الله:
ما وددنا أنها لم تنزل، لقوله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما،
وقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أمر في
ضمنه التغبيط للمؤمنين بمثل ما فعله بنو حارثة وبنو سلمة من
المسير مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ عبد الله بن مسعود،
«تبوىء للمؤمنين» بلام الجر، وقرأ «والله وليهم» على معنى
الطائفتين لا على اللفظ.
(1/501)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ
أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ
آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا
يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
مُسَوِّمِينَ (125)
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 123 الى 125]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ
فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ
تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ
رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ
(124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ
فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ
الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
لما أمر الله تعالى بالتوكل عليه، ذكر بأمر «بدر» الذي كان
ثمرة التوكل على الله والثقة به، فمن قال من المفسرين إن قول
النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ. كان
في غزوة بدر، فيجيء التذكير بأمر «بدر» وبأمر الملائكة وقتالهم
فيه مع المؤمنين، محرضا على الجد والتوكل على الله، ومن قال:
إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ الآية،
إنما كان في غزوة أحد، كان قوله تعالى:
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ إلى تَشْكُرُونَ اعتراضا
بين الكلام جميلا، والنصر ببدر هو المشهور الذي قتل فيه صناديد
قريش، وعلى ذلك اليوم انبنى الإسلام، وكانت «بدر» يوم سبعة عشر
من رمضان يوم جمعة لثمانية عشر شهرا من الهجرة، و «بدر» ماء
هنالك سمي به الموضع، وقال الشعبي: كان ذلك الماء لرجل من
جهينة يسمى بدرا فبه سمي، قال الواقدي: فذكرت هذا لعبد الله بن
جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا:
بأي شيء سميت الصفراء والجار وغير ذلك من المواضع؟ قال وذكرت
ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري فقال: سمعت شيوخا من بني غفار
يقولون: هو ماؤنا ومنزلنا وما ملكه أحد قط يقال له بدر، وما هو
من بلاد جهينة إنما هي بلاد غفار، قال الواقدي: فهذا المعروف
عندنا، وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ معناه قليلون، وذلك
أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر رجلا، وكان عدوهم
ما بين التسعمائة إلى الألف، وأَذِلَّةٌ جمع ذليل، واسم الذل
في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزة، ولكن
نسبتهم إلى عدوهم وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض يقتضي عند
التأمل ذلتهم، وأنهم مغلوبون، وقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم في ذلك اليوم: اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، وهذه
الاستعارة كاستعارة الكذب في قوله في الموطأ، كذب كعب، وكقوله
كذب أبو محمد، وكاستعارة المسكنة لأصحاب السفينة على بعض
الأقوال، إذ كانت مسكنتهم بالنسبة إلى الملك القادر الغاصب، ثم
أمر تعالى المؤمنين بالتقوى، ورجاهم بالإنعام الذي يوجب الشكر،
ويحتمل أن يكون المعنى: اتقوا الله عسى أن يكون تقواكم شكرا
على النعمة في نصره ببدر.
وقوله تعالى: إِذْ تَقُولُ العامل في إِذْ فعل مضمر، ويحتمل أن
يكون العامل نَصَرَكُمُ وهذا على قول الجمهور: إن هذا القول من
النبي صلى الله عليه وسلم كان ببدر قال الشعبي والحسن بن أبي
الحسن وغيرهما إن هذا كان ببدر، قال الشعبي بلغ المؤمنين أن
كرز بن جابر بن حسل المحاربي محارب فهر، قد جاء في مدد
للمشركين، فغم ذلك المؤمنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
للمؤمنين عن أمر الله تعالى، هذه المقالة فصبر المؤمنون
واتقوا، وهزم المشركون وبلغت الهزيمة كرزا ومن معه فانصرفوا
ولم يأتوا من فورهم، ولم يمدّ المؤمنون بالملائكة، وكانت
الملائكة بعد ذلك تحضر حروب النبي صلى الله
(1/502)
عليه وسلم مددا، وهي تحضر حروب المسلمين
إلى يوم القيامة.
قال القاضي: وخالف الناس الشعبي في هذه المقالة، وتظاهرت
الروايات بأن الملائكة حضرت بدرا وقاتلت، ومن ذلك قول أبي أسيد
مالك بن ربيعة، لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب
الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أتمارى، ومنه حديث الغفاري
وابن عمه اللذين سمعا من الصحابة، أقدم حيزوم فانكشف قناع قلب
أحدهما فمات مكانه، وتماسك الآخر، وقال ابن عباس: لم تقاتل
الملائكة في يوم من الأيام إلا يوم بدر، وكانوا يكونون في سائر
الأيام عددا ومددا لا يضربون، ومن ذلك قول أبي سفيان بن الحارث
لأبي لهب: ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلون
ويأسرون، وعلى ذلك فو الله ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على
خيل بلق بين السماء والأرض ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء، ومن
ذلك أن أبا اليسر كعب بن عمرو الأنصاري أحد بني سلمة أسر يوم
بدر العباس بن عبد المطلب وكان أبو اليسر رجلا مجموعا وكان
العباس رجلا طويلا جسيما فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد أعانك عليه ملك كريم، الحديث بطوله، وقد قال بعض الصحابة:
كنت يوم بدر أتبع رجلا من المشركين لأضربه بسيفي فلما دنوت منه
وقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه فعلمت أن ملكا قتله، وقال قتادة
ابن دعامة: أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف من الملائكة،
قال الطبري: وقال آخرون: إن الله وعد المؤمنين يوم بدر أن
يمدهم في حروبهم كلها إن صبروا واتقوا، فلم يفعلوا ذلك إلا في
يوم الأحزاب، فأمدهم حين حاصروا قريظة، ثم أدخل تحت هذه
الترجمة عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال: حاصرنا قريظة مدة
فلم يفتح علينا فرجعنا، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
دعا بغسل يريد أن يغسل رأسه، إذ جاءه جبريل عليه السلام فقال:
وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها فلف رسول الله صلى
الله عليه وسلم رأسه بخرقة ولم يغسله، ونادى فينا فقمنا كالين
متعبين، حتى أتينا قريظة والنضير، فيومئذ أمدنا الله بالملائكة
بثلاثة آلاف، وفتح لنا فتحا يسيرا، فانقلبنا بنعمة من الله
وفضل، وقال عكرمة: كان الوعد يوم بدر، فلم يصبروا يوم أحد ولا
اتقوا، فلم يمدوا ولو مدوا لم يهزموا، وقال الضحاك: كان هذا
الوعد والمقالة للمؤمنين يوم أحد، ففر الناس وولوا مدبرين فلم
يمدهم الله، وإنما مدوا يوم بدر بألف من الملائكة مردفين، وقال
ابن زيد: قال المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد
وهم ينتظرون المشركين:
يا رسول الله أليس يمدنا الله كما أمدنا يوم بدر؟ فقال لهم
النبي صلى الله عليه وسلم: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ الآية وإنما
أمدهم يوم بدر بألف قال ابن زيد: فلم يصبروا، وقوله تعالى:
أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ تقرير على اعتقادهم الكفاية في هذا العدد
من الملائكة، ومن حيث كان الأمر بينا في نفسه أن الملائكة
كافية، بادر المتكلم إلى الجواب ليبني ما يستأنف من قوله عليه
فقال: بَلى وهي جواب المقررين، وهذا يحسن في الأمور البينة
التي لا محيد في جوابها، ونحوه قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام: 19] وفي مصحف أبي بن
كعب، «ألا يكفيكم» وقد مضى القول في قوله: وَيَمُدُّهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ [البقرة: 15] وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «بثلاثة
آلاف» ، يقف على الهاء، وكذلك «بخمسة آلاف» ، ووجه هذه القراءة
ضعيف، لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان الاتصال، إذ هما كالاسم
الواحد، وإنما الثاني كمال للأول، والهاء إنما هي أمارة وقف،
فيقلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال، لكن قد جاء نحو هذا
(1/503)
للعرب في مواضع، فمن ذلك ما حكاه الفراء
أنهم يقولون: أكلت لحما، شاة، يريدون لحم شاة فمطلوا الفتحة
حتى نشأت عنها ألف، كما قالوا في الوقف، قالا: يريدون قال: ثم
مطلوا الفتحة في القوافي ونحوها من مواضع الروية والتثبت، ومن
ذلك في الشعر قول الشاعر: [عنترة] : [الرجز] :
ينباع من ذفرى غضوب جسرة يريد ينبع فمطل ومنه قول الآخر:
[الرجز]
أقول إذ جرت على الكلكال ... يا ناقتا ما جلت من مجال
يريد على الكلكل، فمطل ومنه قول الآخر: [لابن هرمة] : [الوافر]
فأنت من الغوائل حين ترمي ... ومن ذمّ الرجال بمنتزاح
يريد بمنتزح، قال أبو الفتح: فإذا جاز ان يعترض هذا التمادي
بين أثناء الكلمة الواحدة، جاز التمادي والتأني بين المضاف
والمضاف إليه إذ هما في الحقيقة اثنان، وقرأ ابن عامر وحده:
«منزّلين» بفتح النون والزاي مشددة، وقرأ الباقون: منزلين
بسكون النون وفتح الزاي مخففة، وقرأ ابن أبي عبلة: «منزّلين»
بفتح النون وكسر الزاي مشددة، معناها: ينزلون النصر، وحكى
النحاس قراءة ولم ينسبها: «منزلين» بسكون النون وكسر الزاي
خفيفة، وفسرها بأنهم ينزلون النصر.
وبَلى - جواب للنفي الذي في أَلَنْ وقد تقدم معناه، ثم ذكر
تعالى الشرط الذي معه يقع الإمداد وهو الصبر، والتقى. و
«الفور» : النهوض المسرع إلى الشيء مأخوذ من فور القدر والماء
ونحوه، ومنه قوله تعالى: وَفارَ التَّنُّورُ [هود: 40] فالمعنى
ويأتوكم في نهضتكم هذه، قال ابن عباس: مِنْ فَوْرِهِمْ هذا:
معناه من سفرهم هذا، قال الحسن والسدي: معناه، من وجههم هذا،
وقاله قتادة، وقال مجاهد وعكرمة وأبو صالح مولى أم هاني: من
غضبهم هذا.
قال القاضي: وهذا تفسير لا يخص اللفظة قد يكون «الفور» لغضب
ولطمع ولرغبة في أجر، ومنه الفور في الحج والوضوء، وقرأ أبو
عمرو وابن كثير وعاصم: «مسوّمين» ، بكسر الواو، وقرأ الباقون:
«مسوّمين» بفتح الواو، فأما من قرأ بفتح الواو فمعناه: معلمين
بعلامات، قال أبو زيد الأنصاري: «السومة» العلامة تكون على
الشاة وغيرها يجعل عليها لون يخالف لونها لتعرف، وروي أن
الملائكة أعلمت يومئذ بعمائم بيض، حكاه المهدوي عن الزجّاج،
إلا جبريل عليه السلام فإنه كان بعمامة صفراء على مثال عمامة
الزبير بن العوام، وقاله ابن إسحاق، وقال مجاهد: كانت خيلهم
مجزوزة الأذناب والأعراف معلمة النواصي والأذناب بالصوف
والعهن، وقال الربيع: كانت سيماهم أنهم كانوا على خيل بلق،
وقال عباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير: نزلت الملائكة في
سيما الزبير عليهم عمائم صفر، وقال ذلك عروة وعبد الله ابنا
الزبير: وقال عبد الله: كانت ملاءة صفراء فاعتم الزبير بها،
ومن قرأ: «مسوّمين» بكسر الواو، فيحتمل من المعنى مثل ما تقدم،
أي هم قد أعلموا أنفسهم بعلامة وأعلموا خيلهم، ورجح الطبري
وغيره هذه القراءة، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين
يوم بدر: سوّموا فإن الملائكة قد سوّمت، فهم على
(1/504)
وَمَا جَعَلَهُ
اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ
بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ
لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
هذا مسومون، وقال كثير من أهل التفسير: إن
معنى «مسوّمين» بكسر الواو أي هم قد سوموا خيلهم: أي أعطوها
سومها من الجري والقتال والإحضار فهي سائمة، ومنه سائمة
الماشية، لأنها تركت وسومها من الرعي، وذكر المهدوي هذا المعنى
في «مسوّمين» بفتح الواو أي أرسلوا وسومهم.
قال القاضي: وهذا قلق: وقد قاله ابن فورك أيضا.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 126 الى 129]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا
خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ
(128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
الضمير في جَعَلَهُ اللَّهُ عائد على الإنزال والإمداد، و
«البشرى» مصدر واللام في وَلِتَطْمَئِنَّ متعلقة بفعل مضمر يدل
عليه جعله، ومعنى الآية: وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به
وتطمئن به قلوبكم وتروا حفاية الله بكم، وإلا فالكثرة لا تغني
شيئا إلا أن ينصر الله، وقوله: وَمَا النَّصْرُ يريد للمؤمنين،
وكذلك أيضا هي الإدالة للكفار من عند الله.
واللام في قوله: لِيَقْطَعَ متعلقة بقوله وَمَا النَّصْرُ
إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وعلى هذا لا يكون قطع الطرف مختصا
بيوم، اللهم إلا أن تكون الألف واللام في «النصر» للعهد، وقيل:
العامل فيه «ولقد نصركم» حكاه ابن فورك وهو قلق، لأن قوله:
أَوْ يَكْبِتَهُمْ لا يترتب عليه، وقد يحتمل أن تكون اللام في
قوله لِيَقْطَعَ متعلقة ب جَعَلَهُ، فيكون قطع الطرف إشارة إلى
من قتل ببدر، على ما قال الحسن وابن إسحاق وغيرهم، أو إلى من
قتل بأحد على ما قال السدي، وقتل من المشركين ببدر سبعون، وقتل
منهم يوم أحد اثنان وعشرون رجلا، وقال السدي: قتل منهم ثمانية
عشر والأول أصح، و «الطرف» الفريق، ومتى قتل المسلمون كفارا في
حرب فقد قطعوا طَرَفاً، لأنه الذي وليهم من الكفار فكأن جميع
الكفار رقعة وهؤلاء المقتولون طرف منها أي حاشية، ويحتمل أن
يكون قوله تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفاً بمنزلة ليقطع دابرا
وقوله:
أَوْ يَكْبِتَهُمْ معناه: أو يخزيهم، والكبت الصرع لليدين،
وقال النقاش وغيره: التاء بدل من دال كبته أصله كبده أي فعل به
يؤذي كبده، وإذا نصر الله على أمة كافرة فلا بد من أحد هذين
الوجهين، إما أن يقتل منهم أو يخيبوا، فذلك نوع من الهزم.
وقوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ توقيف على أن
الأمر كله لله، وهذا التوقيف يقتضي أنه كان بسبب من جهة النبي
صلى الله عليه وسلم وروي في ذلك أنه لما هزم أصحابه وشج في
وجهه، حتى دخلت بعض حلق الدرع في خده وكسرت رباعيته وارتث
بالحجارة حتى صرع لجنبه، تحيز عن الملحمة، وجعل يمسح الدم من
وجهه ويقول: لا يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، هكذا لفظ الحديث من
طريق أنس بن
(1/505)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا
مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
(132)
مالك، وفي بعض الطرق، وكيف يفلح؟ وفي بعضها
أن سالما مولى أبي حذيفة كان يغسل الدم عن وجه رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال فأفاق وهو يقول: كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم
وهو يدعوهم إلى الله؟
فنزلت الآية، بسبب هذه المقالة.
قال القاضي: وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لحقه في تلك الحال
يأس من فلاح كفار قريش، فمالت نفسه إلى أن يستأصلهم الله ويريح
منهم، فروي أنه دعا عليهم أو أستأذن في أن يدعو عليهم، وروى
ابن عمر وغيره: أنه دعا على أبي سفيان والحارث بن هشام وصفوان
بن أمية باللعنة، إلى غير هذا من معناه، فقيل له بسبب ذلك،
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أي عواقب الأمور بيد الله،
فامض أنت لشأنك ودم على الدعاء إلى ربك، قال الطبري وغيره من
المفسرين: قوله: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ عطف على
يَكْبِتَهُمْ.
قال القاضي: فقوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ اعتراض
أثناء الكلام، وقوله: أَوْ يَتُوبَ معناه:
فيسلمون، وقوله: أَوْ يُعَذِّبَهُمْ معناه: في الآخرة بأن
يوافوا على الكفر، قال الطبري وغيره: ويحتمل أن يكون قوله أَوْ
يَتُوبَ بمعنى حتى يتوب أو إلى أن يتوب فيجيء بمنزلة قولك: لا
أفارقك أو تقضيني حقي، وكما تقول: لا يتم هذا الأمر أو يجيء
فلان، وقوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ليس
باعتراض على هذا التأويل، وإنما المعنى الإخبار لمحمد عليه
السلام أنه ليس يتحصل له من أمر هؤلاء الكفار شيء يؤمله إلا أن
يتوب الله عليهم فيسلموا، فيرى محمد عليه السلام أحد أمليه
فيهم، أو يعذبهم الله بقتل في الدنيا، أو بنار في الآخرة أو
بهما، فيرى محمد صلى الله عليه وسلم الأمل الآخر، وعلى هذا
التأويل فليس في قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ردع
كما هو في التأويل الأول، وذلك التأويل الأول أقوى، وقرأ أبي
بن كعب، «أو يتوب أو يعذب» برفع الباء فيهما، المعنى: أو هو
يتوب، ثم قرر تعالى ظلم هؤلاء الكفار.
ثم أكد معنى قوله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ بالقول
العام وذكر الحجة الساطعة في ذلك وهي ملكه الأشياء، إذ ذلك
مقتض أن يفعل بحق ملكه ما شاء، لا اعتراض عليه ولا معقب لحكمه،
وذكر أن الغفران أو التعذيب إنما هو بمشيئته وحسب السابق في
علمه، ثم رجا في آخر ذلك تأنيسا للنفوس وجلبا لها إلى طاعته،
وذلك كله في قوله تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما
فِي الْأَرْضِ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وما في قوله ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، إشارة إلى جملة العالم فلذلك
حسنت ما، وما ذكر في هذه الآية من أن هذه الآية ناسخة لدعاء
النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين كلام ضعيف كله، وليس
هذا من مواضع الناسخ والمنسوخ.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 132]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا
أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ
لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
هذا النهي عن أكل الربا اعتراض أثناء قصة «أحد» ، ولا أحفظ
سببا في ذلك مرويا، والربا الزيادة،
(1/506)
وَسَارِعُوا إِلَى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ
الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (134)
وقد تقدم ذكر مثل هذه الآية وأحكام الربا
في سورة البقرة، وقوله أَضْعافاً نصب في موضع الحال، ومعناه:
الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدين، فكان الطالب يقول:
أتقضي أم تربي؟ وقوله:
مُضاعَفَةً إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام، كما كانوا
يصنعون، فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه، ولذلك
ذكرت حال التضعيف خاصة، وقد حرم الله جميع أنواع الربا، فهذا
هو مفهوم الخطاب إذ المسكوت عنه من الربا في حكم المذكور،
وأيضا فإن الربا يدخل جميع أنواعه التضعيف والزيادة على وجوه
مختلفة من العين أو من التأخير ونحوه.
والنَّارَ في قوله: وَاتَّقُوا النَّارَ هي اسم الجنس، ويحتمل
أن تكون للعهد، ثم ذكر أنها أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ، أي إنهم
هم المقصود والمراد الأول، وقد يدخلها سواهم من العصاة، فشنع
أمر النار بذكر الكفر، وحسن للمؤمن أن يحذرها ويبعد بطاعة الله
عنها وهذا كما قال في الجنة: أعدت للمتقين، أي هم المقصود، وإن
كان يدخلها غيرهم من صبي ومجنون ونحوه ممن لا يكلف ولا يوصف
بتقوى، هذا مذهب أهل العلم في هذه الآية، وحكى الماوردي وغيره،
عن قوم أنهم ذهبوا إلى أن أكلة الربا إنما توعدهم الله بنار
الكفرة، إذ النار سبع طبقات، العليا منها وهي جهنم للعصاة،
والخمس للكفار والدرك الأسفل للمنافقين، قالوا: فأكلة الربا
إنما يعذبون يوم القيامة بنار الكفرة لا بنار العصاة، وبذلك
توعدوا، فالألف واللام على هذا في قوله وَاتَّقُوا النَّارَ
إنما هي للعهد.
ثم أمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، والطاعة هي موافقة الأمر
الجاري عند المأمور مع مراد الأمر وقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله،
ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني، وقال
محمد بن إسحاق إن هذه الآية من قوله تعالى: وَأَطِيعُوا
اللَّهَ هي ابتداء المعاتبة في أمر أحد، وانهزام من فر وزوال
الرماة عن مراكزهم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 133 الى 134]
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
(133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
قرأ نافع وابن عامر: «سارعوا» بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل
المدينة وأهل الشام، وقرأ باقي السبعة بالواو، قال أبو علي:
كلا الأمرين شائع مستقيم، فمن قرأ بالواو فلأنه عطف الجملة على
الجملة، ومن ترك الواو فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى
مستغنية بذلك عن العطف بالواو، وأمال الكسائي الألف من قوله
سارِعُوا ومن قوله يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [المؤمنون: 61]
ونُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ [المؤمنون: 56] في كل ذلك،
قال أبو علي: والإمالة هنا حسنة لوقوع الراء المكسورة بعدها،
والمسارعة المبادرة وهي مفاعلة، إذ الناس كأن كل واحد يسرع
ليصل قبل غيره، فبينهم في ذلك مفاعلة، ألا ترى إلى قوله تعالى:
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ [المائدة: 48] وقوله إِلى
مَغْفِرَةٍ معناه: سارعوا
(1/507)
بالتقوى والطاعة والتقرب إلى ربكم إلى حال
يغفر الله لكم فيها، أي يستر ذنوبكم بعفوه عنها وإزالة حكمها،
ويدخلكم جنة، قال أنس بن مالك ومكحول في تفسير سارِعُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ، معناه: إلى تكبيرة الإحرام مع الإمام.
قال الفقيه القاضي: هذا مثال حسن يحتذى عليه في كل طاعة، وقوله
تعالى: عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ تقديره: كعرض
السماوات والأرض، وهذا كقوله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان: 28] أي كخلق نفس
واحدة وبعثها، فجاء هذا الاقتضاب المفهوم الفصيح، ومنه قول
الشاعر: [ذو الخرق الطهوي] : [الوافر] :
حسبت بغام راحلتي عناقا ... وما هي ويب غيرك بالعناق
ومنه قول الآخر:
كأنّ غديرهم بجنوب سلي ... نعام فاق في بلد قفار
التقدير صوت عناق وغدير نعام.
وأما معنى قوله تعالى: عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ
فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب، فروي عن ابن عباس رضي
الله عنهما أنه قال: تقرن السماوات والأرضون بعضها إلى بعض كما
يبسط الثوب، فذلك عرض الجنة ولا يعلم طولها إلا الله، وفي
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن بين المصراعين من
أبواب الجنة مسيرة أربعين سنة، وسيأتي عليها يوم يزدحم الناس
فيها كما تزدحم الإبل إذا وردت خمصا ظماء وفي الحديث عنه صلى
الله عليه وسلم: أن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد في ظلها
مائة عام لا يقطعها فهذا كله يقوي قول ابن عباس وهو قول
الجمهور، إن الجنة أكبر من هذه المخلوقات المذكورة وهي ممتدة
عن السماء حيث شاء الله تعالى، وذلك لا ينكر، فإن في حديث
النبي عليه السلام: ما السماوات السبع والأرضون السبع في
الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض، وما الكرسي في
العرش إلا كحلقة في فلاة من الأرض، فهذه مخلوقات أعظم بكثير
جدا من السماوات والأرض، وقدرة الله تعالى أعظم من ذلك كله،
وروى يعلى بن أبي مرة قال: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بحمص، شيخا كبيرا قد فند فقال قدمت
على النبي عليه السلام، بكتاب هرقل، فناول الصحيفة رجلا عن
يساره فقلت: من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية، فإذا كتاب
هرقل: إنك كتبت إليّ تدعوني إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، فأين النار؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، فأين الليل إذا جاء
النهار؟ وروى قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: جاء رجلان من
اليهود من نجران إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال أحدهما:
تقولون جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، أين تكون
النار؟ فقال عمر رضي الله عنه أرأيت النهار إذا جاء أين يكون
الليل؟ والليل إذا جاء أين يكون النهار؟ فقال اليهودي: إنه
لمثلها في التوراة فقال له صاحبه: لم أخبرته؟ دعه إنه بكل
موقن.
قال القاضي أبو محمد: فهذه الآثار كلها هي في طريق واحد، من أن
قدرة الله تتسع لهذا كله،
(1/508)
وخص العرض بالذكر لأنه يدل متى ذكر على
الطول، والطول إذا ذكر لا يدل على قدر العرض، بل قد يكون
الطويل يسير العرض كالخيط ونحوه، ومن ذلك قول العرب بلاد
عريضة، وفلاة عريضة، وقال قوم:
قوله تعالى: عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ معناه: كعرض
السماوات والأرض، كما هي طباقا، لا بأن تقرن كبسط الثياب،
فالجنة في السماء، وعرضها كعرضها وعرض ما وراءها من الأرضين
إلى السابعة، وهذه الدلالة على العظم أغنت عن ذكر الطول، وقال
قوم: الكلام جار على مقطع العرب من الاستعارة، فلما كانت الجنة
من الاتساع والانفساح في غاية قصوى، حسنت العبارة عنها بعرضها
السماوات والأرض، كما تقول لرجل: هذا بحر، ولشخص كبير من
الحيوان: هذا جبل، ولم تقصد الآية تحديد العرض.
قال القاضي أبو محمد: وجلب مكي هذا القول غير ملخص، وأدخل حجة
عليه قول العرب: أرض عريضة وليس قولهم، أرض عريضة، مثل قوله:
عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إلا في دلالة ذكر العرض على
الطول فقط، وكذلك فعل النقاش وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال للفارين يوم أحد: لقد ذهبتم فيها عريضة، وقال ابن فورك:
الجنة في السماء، ويزاد فيها يوم القيامة.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا متعلق لمنذر بن سعيد وغيره ممن
قال: إن الجنة لم تخلق بعد، وكذلك النار، وهو قول ضعيف، وجمهور
العلماء على أنهما قد خلقتا، وهو ظاهر كتاب الله تعالى في
قوله، أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ وأُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [آل
عمران: 131] وغير ذلك، وهو نص في الأحاديث كحديث الإسراء
وغيره، مما يقتضي أن ثم جنة قد خلقت، وأما من يقول: يزاد فيهما
فلا ترد عليه الأحاديث، لكنه يحتاج إلى سند يقطع العذر،
وأُعِدَّتْ معناه: يسرت وانتظروا بها.
ثم وصف تعالى المتقين الذين أعدت لهم الجنة بقوله: الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ الآية، وظاهر هذه الآية أنها مدح بفعل المندوب
إليه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ
، معناه: في العسر واليسر.
قال القاضي: إذ الأغلب أن مع اليسر النشاط وسرور النفس، ومع
العسر الكراهية وضر النفس، وكظم الغيظ رده في الجوف إذا كاد أن
يخرج من كثرته، فضبطه ومنعه كظم له، والكظام: السير الذي يشد
به فم الزق والقربة، وكظم البعير جرته: إذا ردها في جوفه، وقد
يقال لحبسه الجرة قبل أن يرسلها إلى فيه، كظم، حكاه الزجّاج،
فقال: كظم البعير والناقة إذا لم يجترا ومنه قول الراعي:
[الكامل]
فأفضن بعد كظومهنّ بجرّة ... من ذي الأباطح أذرعين حقيلا
والْغَيْظَ: أصل الغضب، وكثيرا ما يتلازمان، ولذلك فسر بعض
الناس الْغَيْظَ بالغضب وليس تحرير الأمر كذلك، بل الْغَيْظَ
فعل النفس لا يظهر على الجوارح، والغضب حال لها معه ظهور في
الجوارح وفعل ما ولا بد، ولهذا جاز إسناد الغضب إلى الله
تعالى، إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم، ولا يسند إليه
تعالى غيظ، وخلط ابن فورك في هذه اللفظة، ووردت في كظم الغيظ
وملك النفس عند الغضب أحاديث، وذلك من أعظم العبادة وجهاد
النفس، ومنه قول عليه السلام: ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد
الذي يملك نفسه عند الغضب، ومنه قول النبي عليه السلام: ما من
جرعة يتجرعها
(1/509)
وَالَّذِينَ إِذَا
فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا
اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا
فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ
مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
(136)
العبد خير له وأعظم أجرا من جرعة غيظ في
الله، وروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: من كظم غيظا
وهو يقدر على إنفاذه، ملأه الله أمنا وإيمانا، والعفو عن الناس
من أجل ضروب فعل الخير، وهذا حيث يجوز للإنسان ألا يعفو، وحيث
يتجه حقه، وقال أبو العالية: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ، يريد
المماليك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن على جهة المثال، إذ هم الخدمة،
فهم مذنبون كثيرا، والقدرة عليهم متيسرة، وإنفاذ العقوبة سهل،
فلذلك مثل هذا المفسر به، وذكر تعالى بعد ذلك أنه يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ، فعم هذه الوجوه وسواها من البر، وهذا يدلك على
أن الآية في المندوب إليه، ألا ترى إلى سؤال جبريل عليه
السلام، فقال: ما الإيمان؟ ثم قال ما الإسلام؟ فذكر له رسول
الله صلى الله عليه وسلم المفروضات، ثم قال له: ما الإحسان؟
قال: أن تعبد الله كأنك تراه، الحديث.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 135 الى 136]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ
وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا
عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ
جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ
الْعامِلِينَ (136)
ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفا دون الصنف الأول، فألحقهم
بهم برحمته ومنه، فهؤلاء هم التوابون، وروي في سبب هاتين
الآيتين: أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، كانت بنو إسرائيل
أكرم على الله منا حين كان المذنب منهم يصبح وعقوبته مكتوبة
على باب داره، فأنزل الله هذه الآية توسعة ورحمة وعوضا من ذلك
الفعل ببني إسرائيل، ويروى أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية،
وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: ما من عبد يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ويصلي ركعتين
ويستغفر إلا غفر له، وقوله وَالَّذِينَ عطف جملة ناس على جملة
أخرى، وليس الَّذِينَ بنعت كرر معه واو العطف، لأن تلك الطبقة
الأولى تنزه عن الوقوع في الفواحش، و «الفاحشة» هنا صفة لمحذوف
أقيمت الصفة مقامه، التقدير: فعلوا فعلة فاحشة، وهو لفظ يعم
جميع المعاصي، وقد كثر اختصاصه بالزنا، حتى فسر السدي هذه
الآية بالزنا، وقال جابر بن عبد الله لما قرأها: زنى القوم ورب
الكعبة، وقال إبراهيم النخعي: الفاحشة من الظلم، والظلم من
الفاحشة وقال قوم: الفاحشة في هذه الآية إشارة إلى الكبائر،
وظلم النفس إشارة إلى الصغائر، وذَكَرُوا اللَّهَ معناه:
بالخوف من عقابه والحياء منه، إذ هو المنعم المتطول ومن هذا
قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رحم الله صهيبا لو لم يخف
الله لم يعصه، و «استغفروا» معناه: طلبوا الغفران، واللام
معناها: لأجل «ذنوبهم» ، ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى:
وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، اعتراضا موقفا
للنفس، داعيا إلى الله، مرجيا في عفوه، إذا رجع إليه، وجاء اسم
اللَّهَ مرفوعا بعد الاستثناء والكلام موجب، حملا على المعنى،
إذ هو بمعنى وما يغفر الذنوب إلا الله، وقوله تعالى: وَلَمْ
يُصِرُّوا الإصرار معناه: اعتزام الدوام على الأمر، وترك
الإقلاع عنه، ومنه صر الدنانير: أي الربط عليها، ومنه قول أبي
السمال قعنب العدوي: «علم الله أنها مني صرى» .
(1/510)
قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ
لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا
تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ
مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ (140)
يريد: عزيمة. فالإصرار اعتزام البقاء على
الذنب، ومنه قول النبي عليه السلام: لا توبة مع إصرار، وقال
أيضا: ما أصر من استغفر، واختلفت عبارة المفسرين في الإصرار،
فقال قتادة: هو الذي يمضي قدما في الذنب لا تنهاه مخافة الله.
وقال الحسن: إتيان العبد الذنب هو الإصرار حتى يتوب، وقال
مجاهد:
لَمْ يُصِرُّوا معناه: لم يمضوا وقال السدي: «الإصرار» هو ترك
الاستغفار، والسكوت عنه مع الذنب، وقوله تعالى: وَهُمْ
يَعْلَمُونَ قال السدي: معناه وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا، وقال
ابن إسحاق: معناه، وهم يعلمون بما حرمت عليهم، وقال آخرون:
معناه، وهم يعلمون أن باب التوبة مفتوح لهم وقيل:
المعنى، وهم يعلمون أني أعاقب على الإصرار.
ثم شرك تعالى الطائفتين المذكورتين في قوله أُولئِكَ
جَزاؤُهُمْ الآية، وهذه تؤذن بأن الله تعالى أوجب على نفسه
بهذا الخبر الصادق قبول توبة التائب، وليس يجب عليه تعالى من
جهة العقل شيء، بل هو بحكم الملك لا معقب لأمره، وقوله:
وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ بمنزلة قوله: ونعم الأجر، لأن
نعم وبئس تطلب الأجناس المعرفة أو ما أضيف إليها وليست هذه
الآية بمنزلة قوله تعالى: ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ [الأعراف:
177] لأن المثل هنا أضيف إلى معهود لا إلى جنس، فلذلك قدره أبو
علي: ساء المثل مثل القوم، ويحتمل أن يكون مثل القوم مرتفعا
«بساء» ولا يضمر شيء.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 140]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا
بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ
مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ
نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ (140)
الخطاب بقوله تعالى: قَدْ خَلَتْ للمؤمنين، والمعنى: لا يذهب
بكم إن ظهر الكفار المكذبون عليكم بأحد «فإن العاقبة للمتقين»
وقديما أدال الله المكذبين على المؤمنين، ولكن انظروا كيف هلك
المكذبون بعد ذلك، فكذلك تكون عاقبة هؤلاء، وقال النقاش:
الخطاب ب قَدْ خَلَتْ للكفار.
قال الفقيه القاضي أبو محمد: وذلك قلق، وخَلَتْ معناه: مضت
وسلفت، قال الزجّاج: التقدير أهل سنن، و «السنن» : الطرائق من
السير والشرائع والملك والفتن ونحو ذلك، وسنة الإنسان: الشيء
الذي يعمله ويواليه، ومن ذلك قول خلد الهذلي، لأبي ذؤيب:
فلا تجزعن من سنّة أنت سرتها ... فأوّل راض سنّة من يسيرها
وقال سليمان بن قتة:
وإنّ الألى بالطّفّ من آل هاشم ... تأسّوا فسنّوا للكرام
التأسّيا
وقال لبيد:
من معشر سنّت لهم آباؤهم ... ولكلّ قوم سنّة وإمامها
(1/511)
وقال ابن زيد: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ
سُنَنٌ معناه: أمثال.
قال الفقيه الإمام: هذا تفسير لا يخص اللفظة، وقال تعالى:
فَسِيرُوا وهذا الأمر قد يدرك بالإخبار دون السير لأن الإخبار
إنما يكون ممن سار وعاين، إذ هو مما يدرك بحاسة البصر وعن ذلك
ينتقل خبره، فأحالهم الله تعالى على الوجه الأكمل، وقوله:
فَانْظُروا، هو عند الجمهور من نظر العين، وقال قوم: هو
بالفكر.
وقوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ قال الحسن: الإشارة إلى
القرآن، وقال قتادة في تفسير الآية: هو هذا القرآن جعله الله
بيانا للناس عامة وهدى وموعظة للمتقين خاصة، وقال بمثله ابن
جريج والربيع.
قال القاضي: كونه بيانا للناس ظاهر، وهو في ذاته أيضا هدى
منصوب وموعظة، لكن من عمي بالكفر وضل وقسا قلبه لا يحسن أن
يضاف إليه القرآن، وتحسن إضافته إلى «المتقين» الذين فيهم نفع
وإياهم هدى، وقال ابن إسحاق والطبري وجماعة: الإشارة ب هذا إلى
قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ الآية، قال
ابن إسحاق: المعنى هذا تفسير للناس إن قبلوه، قال الشعبي:
المعنى، هذا بيان للناس من العمى.
ثم نهى عز وجل المؤمنين عن الوهن لما أصابهم بأحد، والحزن على
من فقد، وعلى مذمة الهزيمة، وآنسهم بأنهم الْأَعْلَوْنَ أصحاب
العاقبة، والوهن: الضعف، واللين والبلى، ومنه: وَهَنَ
الْعَظْمُ مِنِّي [مريم: 4] ومنه قول زهير: [البسيط] فأصبح
الحبل منها وأهنأ خلقا ومن كرم الخلق ألا يهن الإنسان في حربه
وخصامه، ولا يلين إذا كان محقا، وأن يتقصى جميع قدرته ولا يضرع
ولو مات، وإنما يحسن اللين في السلم والرضى، ومنه قول النبي
صلى الله عليه وسلم:
«المؤمن هين لين، والمؤمنون هينون لينون» ومنه قول الشاعر:
[المنخل الهذلي] : [المتقارب] .
لعمرك ما إن أبو مالك ... بواه ولا بضعيف قواه
إذا سدته سدت مطواعة ... ومهما وكلت إليه كفاه
وفي هذا الأسلوب الذي ذكرته يجري قول النابغة: ولا تقعد على
ضمد إلّا لمثلك أو من أنت سابقه وفيه يجري قول العرب: إذا لم
تغلب اخلب، على من تأوله من المخلب، أي حارب ولو بالأظافر،
وهذا هو فعل عبد الله بن طارق وهو من أصحاب عاصم بن عدي حين
نزع يده من القرآن وقاتل حتى قتل، وفعل المنذر بن محمد بن عقبة
بن أحيحة بن الجلاح في يوم بئر معونة، ومن رآه من معنى الخلب
والخلابة الذي هو الخديعة والمكر، فهو رأي دهاة العرب، وليس
برأي جمهورها، ومنه فعل عمرو بن سعيد الأشدق مع عبد الملك بن
مروان عند قتله إياه، والأمثلة في ذلك كثيرة، وأيضا فليس المكر
والخديعة بذل محض، ولذلك رآه بعضهم، وأما قولهم إذا عز أخوك
فهن، فالرواية الصحيحة المعنى فيه بكسر الهاء بمعنى: لن
(1/512)
وأضعف ضعف المطواع، وأما الرواية بضم الهاء
فهي أمر بالهوان، وما أعرف ذلك في شيء من مقاطع العرب، وأما
الشرع فقد قال النبي عليه السلام: لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه،
ورأيت لعاصم أن المثل على ضم الهاء إنما هو من الهون الذي هو
الرفق، وليس من الهوان، قال منذر بن سعيد: يجب بهذه الآية أن
لا يوادع العدو ما كانت للمسلمين قوة، فإن كانوا في قطر ما على
غير ذلك فينظر الإمام لهم بالأصلح، وقوله تعالى: وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ إخبار بعلو كلمة الإسلام.
هذا قول الجمهور وظاهر اللفظ، وقاله ابن إسحاق: وروي عن ابن
عباس وابن جريج: إنما قال الله لهم ذلك بسبب علوهم في الجبل،
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انحاز في نفر يسير
من أصحابه إلى الجبل، فبينما هو كذلك إذ علا خالد بن الوليد
عليهم الجبل فقال رسول الله عليه السلام:
اللهم لا يعلوننا، ثم قام وقام من معه فقاتل أصحابه وقاتل
حينئذ عمر بن الخطاب حتى أزالوا المشركين عن رأس الجبل، وصعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيه، فأنزل الله تعالى
عليه، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ
وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يحتمل أن يتعلق الشرط
بقوله وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا فيكون المقصد هز النفوس
وإقامتها، ويحتمل أن يتعلق بقوله وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ
فيكون الشرط على بابه دون تجوز، ويترتب من ذلك الطعن على من
نجم نفاقه في ذلك اليوم، وعلى من تأود إيمانه واضطرب يقينه،
ألا لا يتحصل الوعد إلا بالإيمان، فالزموه.
ثم قال تعالى، تسلية للمؤمنين: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ
فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ والأسوة مسلاة للبشر،
ومنه قول الخنساء: [الوافر]
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزّي النّفس عنه بالتأسّي
والسلو بالتأسي هو النفع الذي يجره إلى نفسه الشاهد المحدود،
فلذلك ردت شهادته فيما حد فيه وإن تاب وحسنت حاله، و «القرح» :
القتل والجراح، قاله مجاهد والحسن والربيع وقتادة وغيرهم،
والمعنى: إن مسكم في أحد فقد مس كفار قريش ببدر بأيديكم، وقرأ
نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص: «قرح»
بفتح القاف، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر: «قرح»
بضم القاف، وكلهم سكن الراء، قال أبو علي: هما لغتان كالضّعف
والضّعف والكره والكره، والفتح أولى، لأنها لغة أهل الحجاز
والأخذ بها أوجب لأن القرآن عليها نزل.
قال القاضي أبو محمد: هذه القراءات لا يظن إلا أنها مروية عن
النبي عليه السلام: وبجميعها عارض جبريل عليه السلام مع طول
السنين توسعة على هذه الأمة، وتكملة للسبعة الأحرف حسب ما
بيناه في صدر هذا التعليق، وعلى هذا لا يقال: هذه أولى من جهة
نزول القرآن بها، وإن رجحت قراءة فبوجه غير وجه النزول، قال
أبو الحسن الأخفش: «القرح» و «القرح» مصدران بمعنى واحد، ومن
قال القرح بالفتح الجراحات بأعيانها، والقرح بضم القاف ألم
الجراحات قبل منه إذا أتى برواية، لأن هذا مما لا يعلم بقياس،
وقال بهذا التفسير الطبري، وقرأ الأعمش «إن تمسسكم» بالتاء من
فوق، «قروح» بالجمع، «فقد
(1/513)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
مس القوم قرح مثله» ، وقرأ محمد بن السميفع
اليماني «قرح» بفتح القاف والراء، قال أبو الفتح: هي لغة في
القرح كالشل والشلل والطرد والطرد. هذا مذهب البصريين، وليس
هذا عندهم من تأثير حرف الحلق، وأنا أميل في هذا إلى قول
أصحابنا البغداديين، في أن لحرف الحلق في مثل هذا أثرا معتمدا،
وقد سمعت بعض بني عقيل يقول: نحوه بفتح الحاء، يريد نحوه، ولو
كانت الكلمة مبنية على فتح الحاء لأعلت الواو وكعصاة وفتاة،
وسمعت غيره يقول: أنا محموم بفتح الحاء قال ابن جني: ولا قرابة
بيني وبين البصريين ولكنها بيني وبين الحق، والحمد لله.
أخبر تعالى على جهة التسلية أن الْأَيَّامُ على قديم الدهر
وغابره أيضا إنما جعلها دولا بين البشر، أي: فلا تنكروا أن
يدال عليكم الكفار، وقال تعالى: نُداوِلُها فهي مفاعلة من جهة
واحدة، وإنما ساغ ذلك لأن المداولة منه تعالى هي بين شيئين،
فلما كان ذلك الفريقان يتداولان حسن ذلك، و «الدّولة» بضم
الدال المصدر، و «الدّولة» بفتح الدال الفعلة الواحدة من ذلك،
فلذلك يقال في دولة فلان لأنها مرة في الدهر، وسمع بعض العرب
الأقحاح قارئا يقرأ هذه الآية، فقال: إنما هو، «وتلك الأيام
نداولها بين العرب» ، فقيل له: إنما هو «بين الناس» فقال: إنا
لله، ذهب ملك العرب ورب الكعبة، وقوله تعالى:
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا دخلت الواو لتؤذن أن
اللام متعلقة بمقدر في آخر الكلام، تقديره: وليعلم الله الذين
آمنوا، فعل ذلك، وقوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ معناه: ليظهر في
الوجود إيمان الذين قد علم أزلا أنهم يؤمنون، وليساوق علمه
إيمانهم ووجودهم، وإلا فقد علمهم في الأول، وعلمه تعالى لا
يطرأ عليه التغيير ونحو هذا: أن يضرب حاكم أحدا ثم يبين سبب
الضرب ويقول: فعلت هذا التبيين لأضرب مستحقا، معناه: ليظهر أن
فعلي وافق استحقاقه، وقوله تعالى: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ
شُهَداءَ، معناه: أهل فوز في سبيله حسبما ورد في فضائل الشهيد.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 141]
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ
الْكافِرِينَ (141)
ثم أخبر تعالى: أن إدالته الكفار على المؤمنين إنما هي
لِيُمَحِّصَ المؤمنين، وأن إدالة المؤمنين على الكفار إنما هي
لمحق الكفار، هذا مقتضى ألفاظ الآية، وقد قال ابن عباس وغيره:
جعل الله الدولة لرسوله يوم بدر، وعليه يوم أحد وذهب كثير من
أهل العلم إلى العبارة عن إدالة المؤمنين بالنصر، وعن إدالة
الكفار بالإدالة، وروي في ذلك عن النبي عليه السلام حديث: إنهم
يدالون كما تنصرون، و «التمحيص» :
التنقية. قال الخليل: التمحيص من العيب يقال: محص الحبل إذا
زال عنه بكثرة مره على اليد زئبره وامّلس هكذا ساق الزجّاج
اللفظة «الحبل» ورواها النقاش محص الجمل: إذا زال عنه وبره
وامّلس، وقال حنيف الحناتم، وقد ورد ماء يقال له طويلع: إنك
لمحص الرشاء، بعيد المستقى، مطل على الأعداء، فالمعنى: إنه
لبعده يلمس حبله بالطين الحر ومد الأيدي، فمعنى الآية: أن الله
يمحص المؤمنين إذا أدال
(1/514)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ
جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ
كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ
فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
عليهم، بأنه ينقي المتشهدين من ذنوبهم،
وينقي الأحياء من منافقهم إذ يميزهم، وأنه يَمْحَقَ
الْكافِرِينَ إذا نصر عليهم أي ينقصهم والمحق: الذهاب شيئا
شيئا، ومنه محاق القمر.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 143]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ
(142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
(143)
أَمْ هي بمعنى الإضراب عن الكلام الأول والترك له، وفيها لازم
معنى الاستفهام، فلذلك قدرها سيبويه ببل وألف الاستفهام،
وحَسِبْتُمْ معناه ظننتم. وهذه الآية وما بعدها تقريع وعتب
لطوائف المؤمنين الذين وقعت منهم الهفوات المشهورة في يوم
واحد، وقوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ نفي مؤكد وهو معادل لقول
القائل: قد كان كذا، فلما أكد هذا الخبر الموجب، بقد، أكد
النفي المعادل له بلما، وإذا قال القائل: كان كذا، فمعادله لم
يكن دون تأكيد في الوجهين، قاله سيبويه: وقرأ جمهور الناس:
بكسر الميم للالتقاء في قوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ وقرأ يحيى بن
وثاب وإبراهيم النخعي: «ولما يعلم» بفتح الميم اتباعا لفتحة
اللام، وقرأ الجمهور «ويعلم» على النصب بإضمار- أن- عند
البصريين، وبواو الصرف عند الكوفيين وروي عن أبي عمرو بن
العلاء أنه قرأ: «ويعلم» بالرفع على استئناف الفعل، وقرأ الحسن
بن أبي الحسن ويحيى بن يعمر وأبو حيوة وعمرو بن عبيد: «ويعلم»
بكسر الميم جزما معطوفا على قوله وَلَمَّا يَعْلَمِ.
ثم خاطب المؤمنين بقوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ
الْمَوْتَ والسبب في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج
في غزوة بدر يريد عير قريش مبادرا فلم يوعب الناس معه، إذ كان
الظن أنه لا يلقى حربا، فلما قضى الله ببدر ما قضى وفاز
حاضروها بالمنزلة الرفيعة، كان المتخلفون من المؤمنين عنها
يتمنون حضور قتال الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم ليكون
منهم في ذلك غناء يلحقهم عند ربهم ونبيهم بمنزلة أهل بدر،
ولأنس بن النضر في ذلك كلام محفوظ، فلما جاء أمر أحد- وحضر
القتال لم يصدق كل المؤمنين، فعاتبهم الله بهذه الآية وألزمهم
تعالى تمني الموت من حيث تمنوا لقاء الرجال بالحديد ومضاربتهم
به، وهي حال في ضمنها في الأغلب الموت، ولا يتمناها إلا من
طابت نفسه بالموت، فصار الموت كأنه المتمنى، وإلا فنفس قتل
المشرك للمسلم لا يجوز أن يتمنى من حيث هو قتل، وإنما تتمنى
لواحقه من الشهادة والتنعيم، وقرأ الجمهور: «من قبل أن تلقوه»
، وقرأ الزهري وإبراهيم النخعي «من قبل أن تلاقوه» وهذه
والأولى في المعنى سواء من حيث- لقي- معناه يتضمن أنه من اثنين
وإن لم يكن على وزن فاعل، وقرأ مجاهد «من قبل» بضم اللام وترك
الإضافة، وجعل أَنْ تَلْقَوْهُ بدلا من الْمَوْتَ، وقوله
تعالى: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ يريد رأيتم أسبابه وهي الحرب
المشتعلة والرجال بأيديهم السيوف، وهذا كما قال عمير بن وهب
يوم بدر: رأيت البلايا، تحمل المنايا، وكما قال الحارث بن
هشام: [الكامل]
ووجدت ريح الموت من تلقائهم ... في مأزق والخيل لم تتبدد
(1/515)
وَمَا مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ
مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ
يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا
وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ
يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي
الشَّاكِرِينَ (145)
يريد لقرب الأمر، ونحو هذا قول عامر بن
فهيرة:
لقد رأيت الموت قبل ذوقه يريد لما اشتد به المرض، وقرأ طلحة بن
مصرف «فلقد رأيتموه» ، وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
يحتمل ثلاثة معان: أحدها التأكيد للرؤية وإخراجها من الاشتراك
الذي بين رؤية القلب ورؤية العين في اللفظ، والآخر أن يكون
المعنى وأنتم تنظرون في أسباب النجاة والفرار وفي أمر محمد
عليه السلام هل قتل أم لا؟ وذلك كله نقض لما كنتم عاهدتم الله
عليه، وحكى مكي عن قوم أنهم قالوا: المعنى: وأنتم تنظرون إلى
محمد، وهذا قول ضعيف، إلا أن ينحى به إلى هذا القول الذي ذكرته
أنه النظر في أمره هل قتل؟
والاضطراب بحسب ذلك، والمعنى الثالث أن يكون قد وقفهم على
تمنيهم ومعاهدتهم، وعلى أنهم رأوا ذلك الذي تمنوا، ثم قال على
جهة التوبيخ والعتب: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ في فعلكم الآن بعد
انقضاء الحرب هل وفيتم أم خالفتم؟ كأنه قال: وأنتم حسباء
أنفسكم، فتأملوا قبيح فعلكم وفي هذا التوبيخ على هذا الوجه ضرب
جميل من الإبقاء والصون والاستدعاء، قال ابن فورك: المعنى
وأنتم تتأملون الحال في ذلك وتفكرون فيها كيف هي؟ وهذا نحو ما
تقدم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 144 الى 145]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
(144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ
اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا
نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ
مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
هذا استمرار في عتبهم، وإقامة لحجة الله عليهم، المعنى: أن
محمدا صلى الله عليه وسلم رسول كسائر الرسل، قد بلغ كما بلغوا،
ولزمكم أيها المؤمنون العمل بمضمن الرسالة وليست حياة الرسول
وبقاؤه بين أظهركم شرطا في ذلك، لأن الرسول يموت كما مات الرسل
قبله، وخَلَتْ معناه مضت وسلفت، وصارت إلى الخلاء من الأرض.
وقرأ جمهور الناس «الرسل» بالتعريف، وفي مصحف ابن مسعود «رسل»
دون تعريف، وهي قراءة حطان بن عبد الله، فوجه الأولى تفخيم ذكر
الرسل، والتنويه بهم على مقتضى حالهم من الله تعالى، ووجه
الثانية أنه موضع تيسير لأمر النبي عليه السلام في معنى
الحياة، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك، فجيء تنكير
«الرسل» جاريا في مضمار هذا الاقتصاد به صلى الله عليه وسلم،
وهكذا يفعل في مواضع الاقتصاد بالشيء، فمنه قوله تعالى:
وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] وقوله تعالى:
وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] إلى غير ذلك من
الأمثلة، ذكر ذلك أبو الفتح، والقراءة بتعريف «الرسل» أوجه في
الكلام، وقوله تعالى: أَفَإِنْ ماتَ الآية، دخلت ألف الاستفهام
على جملة الكلام على الحد الذي يخبر به ملتزمه، لأن أقبح
الأحوال أن يقولوا: إن مات محمد أو قتل انقلبنا، فلما كان
فعلهم ينحو هذا المنحى وقفوا على الحد الذي به يقع الإخبار،
وقال كثير من
(1/516)
المفسرين: ألف الاستفهام دخلت في غير
موضعها، لأن الغرض إنما هو: أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد؟
فالسؤال إنما هو عن جواب الشرط.
قال الفقيه القاضي أبو محمد: وبذلك النظر الذي قدمته يبين وجه
فصاحة دخول الألف على الشرط، وذلك شبيه بدخول ألف التقريب في
قوله: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ [البقرة: 170، المائدة: 104]
ونحوه من الكلام، كأنك أدخلت التقرير على ما ألزمت المخاطب أنه
يقوله، والانقلاب على العقب يقتضي التولي عن المنقلب عنه، ثم
توعد تعالى المنقلب على عقبه بقوله تعالى: فَلَنْ يَضُرَّ
اللَّهَ شَيْئاً لأن المعنى فإنما يضر نفسه وإياها يوبق، ثم
وعد الشاكرين وهم الذين صدقوا وصبروا ولم ينقلب منهم أحد على
عقبيه بل مضى على دينه قدما حتى مات، فمنهم سعد بن الربيع
وتقضي بذلك وصيته إلى الأنصار، ومنهم أنس بن النضر، ومنهم
الأنصاري الذي ذكر الطبري عنه بسند أنه مر عليه رجل من
المهاجرين، والأنصاريّ يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن
محمدا قد قتل، فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ،
فقاتلوا عن دينكم.
قال الفقيه أبو محمد: فهؤلاء أصحاب النازلة يومئذ صدق فعلهم
قولهم. ثم يدخل في الآية الشاكرون إلى يوم القيامة، قال ابن
إسحاق معنى وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أي من أطاعه
وعمل بأمره، وذكر الطبري بسند عن علي بن أبي طالب وذكر غيره:
أنه قال في تفسير هذه الآية: «الشاكرون» : الثابتون على دينهم،
أبو بكر وأصحابه وكان يقول: أبو بكر أمير الشاكرين، وهذه عبارة
من علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنما هي إلى صدع أبي بكر رضي
الله عنه بهذه الآية في يوم موت النبي عليه السلام وثبوته في
ذلك الموطن، وثبوته في أمر الردة، وذلك أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لما قبض وشاع موته، هاج المنافقون وتكلموا، وهموا
بالاجتماع والمكاشفة، أوقع الله تعالى في نفس عمر رضي الله عنه
أن النبي لم يقبض فقام بخطبته المشهورة المخوفة للمنافقين
برجوع النبي عليه السلام، ففت ذلك في أعضاد المنافقين وتفرقت
كلمتهم ثم جاء أبو بكر بعد أن نظر إلى النبي عليه السلام فسمع
كلام عمر فقال له: اسكت، فاستمر عمر في كلامه فتشهد أبو بكر
فأصغى الناس إليه، فقال: أما بعد فإنه من كان يعبد الله تعالى،
فإن الله حي لا يموت ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات،
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ، وتلا الآية كلها، فبكى الناس ولم يبق أحد إلا قرأ
الآية كأن الناس ما سمعوها قبل ذلك اليوم، قالت عائشة رضي الله
عنها في البخاري: فنفع الله بخطبة عمر، ثم بخطبة أبي بكر.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: فهذا من المواطن التي ظهر فيها
شكر أبي بكر وشكر الناس بسببه.
ثم أخبر تعالى عن النفوس أنها إنما تموت بأجل مكتوب محتوم واحد
عند الله تعالى، أي فالجبن لا يزيد فيه، والشجاعة والإقدام لا
تنقص منه، وفي هذه الآية تقوية النفوس للجهاد، قال ابن فورك:
وفيها تسلية في موت النبي عليه السلام، والعبارة بقوله: وَما
كانَ قد تجيء فيما هو ممكن قريب نحو قول أبي بكر الصديق رضي
الله عنه: ما كان لأبن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله،
وقد تقع في الممتنع عقلا نحو قوله ما كانَ لَكُمْ أَنْ
تُنْبِتُوا شَجَرَها [النمل: 60] فهي عبارة لا صيغة لها ولا
تتضمن نهيا كما
(1/517)
وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا
لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا
اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
يقول بعض المفسرين، وإنما يفهم قدر معناها
من قرائن الكلام الذي تجيء العبارة فيه، و «نفس» في هذه الآية:
اسم الجنس، و «الإذن» التمكين من الشيء مع العلم بالشيء
المأذون فيه، فإن انضاف إلى ذلك قول فهو الأمر، وقوله: كِتاباً
نصب على التمييز ومُؤَجَّلًا صفة. وهذه الآية ردّ على المعتزلة
في قولهم بالأجلين، وأما الانفصال عن تعلقهم بقوله تعالى:
وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [نوح: 4] ونحو هذا من
الآيات، فسيجيء في مواضعه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: نُؤْتِهِ مِنْها مشروط بالمشيئة، أي نؤت من شئنا
منها ما قدر له، بيّن ذلك قوله تعالى:
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ
لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: 18] ، وقرينة الكلام تقتضي أنه لا
يؤتى شيئا من الآخرة لأن من كانت نيته من عمله مقصورة على طلب
الدنيا، فلا نصيب له في الآخرة، والأعمال بالنيات، وقرينة
الكلام في قوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ
مِنْها لا تمنع أن يؤتى نصيبا من الدنيا، وقرأ جمهور الناس
«نؤته ونؤته وسنجزي» . كلها بنون العظمة، وقرأ الأعمش بالياء
في الثلاثة، وذلك على حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه، قال ابن
فورك: في قول الله تعالى: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ إشارة إلى
أنه ينعمهم بنعيم الدنيا لا أنهم يقصرون على الآخرة.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 146]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ
فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما
ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
(146)
ثم ضرب تعالى المثل للمؤمنين بمن سلف من صالحي الأمم الذين لم
يثنهم عن دينهم قتل الكفار لأنبيائهم فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ الآية، وفي كَأَيِّنْ أربع لغات: «كأين» على وزن كعين
بفتح العين، و «كأين» ، على وزن كاعن و «كأين» على وزن كعين
بسكون العين وكان على وزن كعن بكسر العين، وأكثر ما استعملت
العرب في أشعارها التي على وزن كاعن، فمن ذلك قول الشاعر:
[الطويل]
وكائن رددنا عنكم من مدجّج ... يجيء أمام القوم يردي مقنّعا
وقال جرير: [الطويل]
وكائن بالأباطح من صديق ... يراني لو أصبت هو المصابا
وقال آخر: [زهير] : [الطويل] :
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التّكلّم
وقد جاء في اللغة التي ذكرتها أولا قول الشاعر: [الوافر]
كأيّن في المعاشر من أناس ... أخوهم فوقهم وهم كرام
(1/518)
وهذه اللغة هي أصل هذه اللفظة، لأنها كاف
التشبيه دخلت على «أي» كما دخلت على «ذا» في قولك لفلان كذا
وكذا، وكما دخلت على «أن» في قولك كأن زيدا أسد، لكن بقي لها
معنى التشبيه في كأن وزال عنها ذلك في كذا وكذا، وفي
كَأَيِّنْ، وصرفت العرب كَأَيِّنْ في معنى «كم» التي هي
للتكثير، وكثر استعمالهم للفظة حتى لعب فيها لسان العرب على
اللغات الأربع التي ذكرت، وهذا كما لعب في قولهم:
لعمري حتى قالوا: وعملي، وكما قالوا: أطيب وأيطب، وكما قالوا:
طبيخ في بطيخ، فعوملت الكاف «وأي» معاملة ما هو شيء واحد، فأما
اعتلال لغة من قال: «كأين» على وزن فاعل، فإنهم أخذوا الأصل
الذي هو «كاين» فقلبوا الياء قبل الهمزة ونقلت حركة كل واحد
منهما إلى أختها، فجاء «كيا» على وزن كيع، فحذفوا الياء
الثانية المفتوحة تخفيفا، كما حذفوا الياء من ميت وهين ولين
فقالوا: ميت وهين ولين، وكما حذفوا الياء الثانية من «أي»
تخفيفا ومنه قول الفرزدق بن غالب التميمي:
تنظرت نصرا والسماكين أيهما ... عليّ من الغيث استهلت مواطره؟
فجاء «كيا» على وزن كيع، فأبدلت هذه الياء الساكنة ألفا مراعاة
للفتحة التي قبلها، كما قالوا: في يوجل يأجل، وكما أبدلوا
الياء ألفا في «طاى» وكما أبدلت في آية عند سيبويه، إذ أصلها
عنده أية على وزن فعلة بسكون العين، فجاء «كاء» ثم كتب هذا
التنوين نونا في المصحف، فأما قياس اللغة فحذفه في الوقف، فكما
يقولون: مررت بزيد فكذلك يقولون كأي، ووقف عليه أبو عمرو بياء
دون نون، وكذلك روى سورة بن المبارك عن الكسائي، ووقف سائر
القراء بإثبات النون مراعاة لخط المصحف، قال أبو علي: ولو قيل
إنه لما تصرف في الكلمة بالقلب صارت بمنزلة النون التي من نفس
الكلمة وصارت بمنزلة لام فاعل فأقرت في الوقف، لكان قولا،
ويقوي ذلك أنهم لما حذفوا الكلام من قولهم أما لا، جعلوها
بالحذف ككلمة واحدة، فأجازوا الإمالة في ألف «لا» كما تجوز في
التي من نفس الكلمة في الأسماء والأفعال، فيوقف على «كأين»
بالنون ولا يتوقف على النون إذا لم تقلب، كما لا تميل الألف من
«لا» إذا لم يحذف فعلها.
قال الفقيه أبو محمد: وبهذه اللغة التي فيها هذا القلب قرأ ابن
كثير وحده، وقرأ سائر السبعة باللغة التي هي الأصل «كأين» ،
وذهب يونس بن حبيب في «كأين» إلى أنه فاعل من الكون، وقوله
مردود، إذ يلزم عنه إعراب الكلمة ولم يعربها أحد من العرب،
وأما اللغة التي هي «كأين» على وزن كعين فهي قراءة ابن محيصن
والأشهب العقيلي، وتعليل هذه اللغة أنه علل الأصل الذي هو
«كأين» بالتعليل المتقدم، فلما جاء «كيا» على وزن كيعن، ترك
هؤلاء إبدال الياء الساكنة ألفا كما تقدم في التعليل الأول،
وقلبوا الكلمة فجعلوها «كأين» على وزن كعين، وحسن هذا من
وجهين: أحدهما أن التلعب والتصرف في هذه الكلمة مهيع، والثاني
أنهم راجعوا الأصل الذي هو تقديم الهمزة على الياء، وأما اللغة
التي هي كان على وزن كع فهي قراءة ابن محيصن أيضا، حكاها عنه
أبو عمرو الداني، وقرأها الحسن بن أبي الحسن، إلا أنه سهل
الهمزة ياء، فقرأ كي في جميع القرآن، وتعليل هذه اللغة أنهم
حذفوا الألف من «كاء» الممدودة على وزن كاعن بعد ذلك التصرف
كله تخفيفا، وهذا كما قالوا: أم والله، يريدون: أما، وكما
قالوا على لسان الضب [المجتث] :
لا أشتهي أن أردّا ... إلّا عرادا عردّا
وصليانا بردا ... وعنكثا ملتبّدا
(1/519)
أرادوا: عاردا وبادرا، فحذفوا تخفيفا، وهذا
كثير في كلامهم، وَكَأَيِّنْ في هذه الآية في موضع رفع
بالابتداء، وهي بمنزلة «كم» وبمعناها تعطي في الأغلب التكثير،
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: «قتل» ، بضم القاف وكسر التاء
مخففة، وقرأ الباقون «قاتل معه» بألف بين القاف والتاء، وقرأ
قتادة «قتل» بضم القاف وكسر التاء مشددة على التكثير، وقوله
تعالى: «قتل» قال فيه جماعة من المفسرين منهم الطبري:
إنه مستند إلى ضمير نَبِيٍّ، والمعنى عندهم أن النبي قتل، قال
ابن عباس في قوله: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل
عمران: 161] النبي يقتل، فكيف لا يخان، وإذا كان هذا ف
رِبِّيُّونَ مرتفع بالظرف بلا خلاف، وقوله: مَعَهُ رِبِّيُّونَ
على هذا التأويل يجوز أن يكون صفة ل نَبِيٍّ، ويجوز أن يكون
حالا من الضمير الذي أسند إليه «قتل» فإن جعلته صفة أضمرت
للمبتدأ الذي هو كَأَيِّنْ خبرا تقديره في آخر الكلام: مضى أو
ذهب أو فقد: فَما وَهَنُوا وإن جعلت مَعَهُ رِبِّيُّونَ حالا
من الضمير فخبر المبتدأ في قوله: «قتل» وإذا جعلته صفة فالضمير
في مَعَهُ عائد على «النبي» ، وإذا جعلته حالا فالضمير في
مَعَهُ عائد على الضمير ذي الحال، وعلى كلا الوجهين من الصفة
أو الحال ف «معه ربيون» متعلق في الأصل بمحذوف، وليس متعلقا
«بقتل» ، وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة معه: إن «قتل» إنما
هو مستند إلى قوله: رِبِّيُّونَ وهم المقتولون قال الحسن وسعيد
بن جبير: لم يقتل نبي في حرب قط.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا القول يتعلق قوله: مَعَهُ ب
قتل- وهذه الجملة- قتل معه ربيون، هي الابتداء ويتصور في قراءة
من قرأ «قاتل» جميع ما ذكرته من التقديرات في قراءة «قتل» ،
وأما قراءة قتادة «قتل» فقال أبو الفتح: لا يحسن أن يسند الفعل
إلا إلى الربيين، لما فيه من معنى التكثير الذي لا يجوز أن
يستعمل في قتل شخص واحد، فإن قيل: يستند إلى نبي مراعاة لمعنى
«كم» فالجواب أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله مِنْ
نَبِيٍّ ودل الضمير المفرد في مَعَهُ على أن المراد إنما هو
التمثيل بواحد واحد، فخرج الكلام على معنى «كم» قال أبو الفتح:
وهذه القراءة تقوي قول من قال من السبعة: إن «قتل» - بتخفيف
التاء أو «قاتل» إنما يستند إلى الربيين، ورجح الطبري استناد
«قتل» إلى «النبي» بدلالة نازلة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك
أن المؤمنين إنما تخاذلوا لما قيل قتل محمد- فضرب المثل بنبي
قتل.
قال القاضي أبو محمد: وإذا لم يسند الفعل إلى «نبي» فإنما يجيء
معنى الآية: تثبيت المؤمنين بعد من قتل منهم فقط، وترجيح
الطبري حسن، ويؤيد ذلك ما تقدم من قوله تعالى: أَفَإِنْ ماتَ
أَوْ قُتِلَ [آل عمران: 144] وحجة من قرأ «قاتل» أنها أعم في
المدح لأنه يدخلها فيها من قتل ومن بقي.
قال الفقيه أبو محمد: ويحسن عندي على هذه القراءة إسناد الفعل
إلى الربيين، وعلى قراءة «قتل» إسناده إلى نبي، وأجمع السبعة
وجماعة من الناس على كسر الراء من «ربيون» وقرأ علي بن أبي
طالب رضي الله عنه وابن مسعود وابن عباس وعكرمة والحسن وأبو
رجاء وعمرو بن عبيد وعطاء بن السائب:
«ربيون» بضم الراء، وروى قتادة عن ابن عباس «ربيون» بفتح
الراء، قال ابن جني: الفتح في الراء لغة تميم وكلها لغات،
واختلف الناس في معنى رِبِّيُّونَ فقال ابن مسعود: الربيون
الألوف من الناس والجمع الكثير، وقال ابن عباس: رِبِّيُّونَ
جموع كثير، وقاله الحسن وقتادة وعكرمة ولقول عبد الله بن مسعود
وابن
(1/520)
وَمَا كَانَ
قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ
أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
(147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ
الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
عباس: إنهم الألوف، قال بعض المفسرين: هم
عشرة آلاف فصاعدا، أخذ ذلك من بناء الجمع الكثير في قولهما: هم
الألوف وهذا في الربيين أنهم الجماعات الكثيرة هو من الربة
بكسر الراء وهي الجماعة الكثيرة، قاله يونس بن حبيب، وقال: إن
قوله تعالى: قتل معه ربيون منسوبون إليها، قال قطرب:
جماعة العلماء على قول يونس، وقال الزجّاج: يقال: إن الربة
عشرة آلاف، وروي عن ابن عباس وعن الحسن بن أبي الحسن وغيرهما
أنهم قالوا: رِبِّيُّونَ معناه علماء، وقال الحسن: فقهاء
علماء، قال أيضا:
علماء صبر، وهذا القول هو على النسبة إلى الرب، إما لأنهم
مطيعون له، أو من حيث هم علماء بما شرع، ويقوي هذا القول في
قراءة من قرأ «ربيون» بفتح الراء وأما في ضم الراء وكسرها
فيجيء على تغيير النسب، كما قالوا في النسبة إلى الحرم: حرمي
بكسر الحاء، وإلى البصرة، بصري بكسر الباء، وفي هذا نظر، وقال
ابن زيد: «الربانيون» : الولاة، والربيون الرعية الأتباع
للولاة.
قال الفقيه أبو محمد: كأن هذا من حيث هم مربوبون، وقال النقاش:
اشتقاق ربي من ربا الشيء يربو إذا كثر، فسمي بذلك الكثير
العلم.
قال الفقيه أبو محمد: وهذا ضعيف، وقال مكي: ربي بكسر الراء
منسوب إلى الرب لكن كسرت راؤه اتباعا للكسرة والياء اللتين بعد
الراء، وروي بضم الراء كذلك لكنهم ضموها كما قيل: دهري بضم
الدال في النسب إلى الدهر، وقرأ جمهور الناس «فما وهنوا» بفتح
الهاء، وقرأ الأعمش والحسن وأبو السمال «وهنوا» بكسر الهاء،
وهما لغتان بمعنى، يقال: وهن بكسر الهاء يوهن ووهن بفتح الهاء
يهن، وقرأ عكرمة وأبو السمال أيضا «وهنوا» بإسكان الهاء، وهذا
الوهن في قوله آنفا وَلا تَهِنُوا [آل عمران: 139] والضمير في
قوله: فَما وَهَنُوا عائد على جميع الربيين في قول من أسند قتل
إلى نبي، ومن أسنده إلى الربيين قال في هذا الضمير إنه يعود
على من بقي منهم، إذ المعنى يفهم نفسه، وقوله تعالى: وَما
ضَعُفُوا معناه لم يتكسبوا من العجز والإلقاء باليد ما ينبي عن
ضعفهم، وقوله تعالى: وَمَا اسْتَكانُوا ذهبت طائفة من النحاة
إلى أنه من السكون فوزنه افتعلوا استكنوا، فمطلت فتحة الكاف
فحدث من مطلها ألف، وذهبت طائفة إلى أنه مأخوذ من كان يكون
فوزنه على هذا الاشتقاق استفعلوا أصله استكونوا، نقلت حركة
الواو إلى الكاف، وقلبت ألفا، كما فعلوا في قولك: استعانوا
واستقاموا، والمعنى: أنهم لم يضعفوا ولا كانوا قريبا من ذلك،
كما تقول: ما فعلت كذا ولا كدت، فتحذف لأن الكلام يدل على أن
المراد، وما كدت أن أفعل، ومحبة الله تعالى للصابرين ما يظهر
عليهم من نصره وتنعيمه.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 147 الى 148]
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ
أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147)
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ
الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
هذه الآية في ذكر الربيين، أي هذا كان قولهم، لا ما قاله بعضكم
يا أصحاب محمد، من قول من قال: نأخذ أمانا من أبي سفيان ومن
قول من قال: نرجع إلى ديننا الأول، ومن قول من فر، فلا شك أن
قوله
(1/521)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا
يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
(149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ
(150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ
بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى
الظَّالِمِينَ (151)
مناسب لفعله ولو بعض المناسبة، إلى غير ذلك
مما اقتضته تلك الحال من الأقوال، وقرأ السبعة وجمهور الناس
«قولهم» بالنصب، ويكون الاسم فيما بعد إِلَّا وقرأ جماعة من
القراء «قولهم» بالرفع وجعلوا الخبر فيما بعد إِلَّا وروى ذلك
حماد بن سلمة عن ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم، ذكره المهدوي،
واستغفار هؤلاء القوم الممدوحين في هذا الموطن ينحو إلى أنهم
رأوا ما نزل من مصائب الدنيا إنما هو بذنوب من البشر وقوله
تعالى: ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا عبارتان عن معنى
قريب بعضه من بعض، جاء ذلك للتأكيد ولتعم مناحي الذنوب، وكذلك
فسر ابن عباس وغيره، وقال الضحاك: الذنوب عام، والإسراف في
الأمر أريد به الكبائر خاصة، وقولهم: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا
يحتمل أن يجري مع ما قبله من معنى الاستغفار، فيكون المعنى:
اجعلنا دائبين على طاعتك والإيمان بك، وتثبيت القدم على هذا:
استعارة، ويحتمل أن يكون في معنى ما بعده من قوله: وَانْصُرْنا
عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فيراد ثبوت القدم حقيقة في مواقف
الحرب، قال ابن فورك: في هذا الدعاء رد على القدرية، لقولهم:
إن الله لا يخلق أفعال العبد، ولو كان ذلك لم يسغ أن يدعي فيما
لا يفعله.
وثَوابَ الدُّنْيا في هذه الآية: الظهور على عدوهم، قاله ابن
إسحاق وقتادة وغيرهما، وقال ابن جريج: الظفر والغنيمة، وفسر
بهذا جماعة من المؤلفين في التفسير، قال النقاش: ليس إلا الظفر
والغلبة فقط، لأن الغنيمة لم تحلل إلا لهذه الأمة.
قال الفقيه الإمام: وهذا اعتراض صحيح، وَحُسْنَ ثَوابِ
الْآخِرَةِ الجنة بلا خلاف، وعبر بلفظة «حسن» زيادة في الترغيب
وباقي الآية بين.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 151]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ
كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا
خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ
النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى
الظَّالِمِينَ (151)
الإشارة بقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا إلى المنافقين الذين جنبوا
المسلمين وقالوا في أمر- أحد- لو كان محمد نبيا لم يهزم،
والذين قالوا: قد قتل محمد فلنرجع إلى ديننا الأول، إلى نحو
هذه الأقوال، ثم اللفظ يقتضي كل كافر كان في ذلك الوقت ويكون
إلى يوم القيامة، نهى الله المؤمنين عن طاعتهم.
وبَلِ ترك للكلام الأول ودخول في غيره، وقرأ جمهور الناس «بل
الله مولاكم» على الابتداء والخبر، وهذا تثبيت، وقرأ الحسن بن
أبي الحسن «بل الله» بالنصب على معنى: بل أطيعوا الله.
وقوله تعالى: سَنُلْقِي استعارة، إذ حقيقة الإلقاء إنما هي في
الأجرام، وهذا مثل قوله تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور: 4] ونحوه قول
الفرزدق: [الطويل]
(1/522)
هما نفثا في فيّ من فمويهما ... على
النّابح العاوي أشدّ رجام
وقرأ جمهور الناس «سنلقي» بنون العظمة، وقرأ أيوب السختياني
«سيلقي» بالياء على معنى هو، وقرأ ابن عامر والكسائي «الرعب»
بضم العين حيث وقع، وقرأ الباقون «الرعب» بسكون العين، وهذا
كقولهم:
عنق وعنق وكلاهما حسن فصيح، وسبب هذه الآية: أنه لما ارتحل أبو
سفيان بالكفار بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي
طالب وقال: انظر القوم، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وركبوا الإبل
فهم متشمرون إلى مكة، وإن كانوا على الخيل فهم عائدون إلى
المدينة، فمضى علي فرآهم قد جنبوا الخيل فأخبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فسر وسر المسلمون، ثم رجع رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى المدينة فتجهز واتبع المشركين يريهم الجلد، فبلغ
حمراء الأسد وأن أبا سفيان قال له كفار قريش: أحين قتلناهم
وهزمناهم ولم يبق إلا الفل والطريد ننصرف عنهم؟ ارجع بنا إليهم
حتى نستأصلهم فعزموا على ذلك، وكان معبد بن أبي معبد الخزاعي
قد جاء إلى رسول الله عليه السلام وهو على كفره، إلا أن خزاعة
كلها كانت تميل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له:
والله يا محمد لقد ساءنا ما أصابك، ولوددنا أنك لم ترزأ في
أصحابك، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس بما
عزمت عليه قريش من الانصراف، اشتد ذلك عليهم، فسخر الله ذلك
الرجل معبد بن أبي معبد، وألقى بسببه الرعب في قلوب الكفار،
وذلك أنه لما سمع الخبر، ركب حتى لحق بأبي سفيان بالروحاء،
وقريش قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟
قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط،
يتحرقون عليكم، قد اجتمع إليه من كان تخلف عنه، وندموا على ما
صنعوا، قال: ويلك ما تقول؟ قال والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى
نواصي الخيل، قال: فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل
بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، والله لقد حملني ما رأيت على
أن قلت فيه شعرا قال وما قلت؟ قال قلت: [البسيط]
كادت تهدّ من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد
الأبابيل
تردي بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت عدوا أظنّ الأرض مائلة ... لمّا سموا برئيس غير مخذول
إلى آخر الشعر، فوقع الرعب في قلوب الكفار، وقال صفوان بن
أمية: لا ترجعوا فإني أرى أنه سيكون للقوم قتال غير الذي كان،
فنزلت هذه الآية في هذا الإلقاء، وهي بعد متناولة كل كافر،
ويجري معها قول النبي عليه السلام: نصرت بالرعب مسيرة شهر،
ويظهر أن هذه الفضيلة إنما أعلم عليه السلام بها بعد هذه
الأحوال كلها حين امتد ظل الإسلام، قال بعض أهل العلم: إنه لما
أمر الله المؤمن بالصبر، ووعده النصر، وأخبره أن الرعب ملقى في
قلوب الكفار، نقص الرعب من كل كافر جزءا مع زيادة شجاعة
المؤمن، إذ قد وعد النصر فلذلك كلف المؤمن الوقوف للكافرين،
وقوله تعالى: بِما أَشْرَكُوا هذه باء السبب، والمعنى: أن
المشرك بالله نفسه مقسمة في الدنيا وليس له بالله تعالى ثقة،
فهو يكره الموت ويستشعر الرعب منه، و «السلطان» : الحجة
والبرهان، ثم أخبر تعالى بعاقبة الكفار في الآخرة،
(1/523)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا
فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ
بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ
الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
و «المأوى» : مفعل من أويت إلى المكان إذا
دخلته وسكنت فيه، و «المثوى» ، مفعل من: ثويت، والتقدير:
وبئس مثوى الظالمين هي.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 152]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ
بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي
الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ
الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ
وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ (152)
جاءت المخاطبة في هذه الآيات بجمع ضمير المؤمنين، وإن كانت
الأمور التي عاتبهم الله تعالى عليها لم يقع فيها جميعهم،
ولذلك وجوه من الفصاحة: منها وعظ الجميع وزجره، إذ من لم يفعل
معد أن يفعل إن لم يزجر، ومنها الستر والإبقاء على من فعل،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد المؤمنين النصر
يومئذ على خبر الله تعالى- إن صبروا وجدوا- فصدق الله الوعد
أولا، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاف المسلمين
يومئذ ورتب الرماة على ما قد ذكرناه في صدر تفسير هذه الآيات
في قصة أحد، فبارز علي بن أبي طالب أبا سعد بن أبي طلحة وهو
صاحب لواء المشركين، وحمل الزبير وأبو دجانة فهزّا عسكر
المشركين، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فأبلى
حمزة بن عبد المطلب وعاصم بن أبي الأقلح، وانهزم المشركون وقتل
منهم اثنان وعشرون رجلا فهذا معنى قوله تعالى: إِذْ
تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ والحس: القتل الذريع، يقال حسهم إذا
استأصلهم قتلا، وحس البرد النبات وقال رؤبة:
[الرجز]
إذا تشكّوا سنّة حسوسا ... تأكل بعد الأخضر اليبيسا
قال بعض الناس: هو مأخوذ من الحاسة، والمعنى في حس: أفسد
الحواس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، و «الإذن» : التمكين مع العلم
بالممكن منه، وقوله تعالى:
حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ يحتمل أن تكون حَتَّى غاية مجردة، كأنه
قال: إلى أن فشلتم، ويقوي هذا أن إِذا بمعنى «إذ» لأن الأمر قد
كان تقضى، وإنما هي حكاية حال، فتستغني إِذا على هذا النظر عن
جواب، والأظهر الأقوى أن إِذا على بابها تحتاج إلى الجواب،
وتكون حتى كأنها حرف ابتداء على نحو دخولها على الجمل، واختلف
النحاة في جواب إِذا فذهبت فرقة إلى أن الجواب قوله
تَنازَعْتُمْ، والواو زائدة، وحكى المهدوي عن أبي علي أنه قال:
الجواب قوله: صَرَفَكُمْ وثُمَّ زائدة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول لا يشبه نظر أبي علي وسيبويه
والخليل وفرسان الصناعة، إن الجواب محذوف مقدر، يدل عليه
المعنى، تقديره: انهزمتم ونحوه، و «الفشل» - استشعار العجز
وترك الجد، وهذا مما فعله يومئذ قوم، و «التنازع» هو الذي وقع
بين الرماة، فقال بعضهم: الغنيمة
(1/524)
إِذْ تُصْعِدُونَ
وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي
أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا
تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى
طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ
شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ
لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ
كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ
اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي
قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
الغنيمة، الحق بنا بالمسلمين، وقال بعضهم:
بل نثبت كما أمرنا وَعَصَيْتُمْ عبارة عن ذهاب من ذهب من
الرماة حتى تمكن خالد بن الوليد من غرة المسلمين، وقوله تعالى:
مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ يعني من هزم القوم، قال
الزبير بن العوام: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة
وصواحبها مشمرات هاربات ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مالت
الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب وخلوا
ظهورنا للخيل، فأتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمدا قد
قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم، وقوله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ
يُرِيدُ الدُّنْيا إخبار عن الذين حرصوا على الغنيمة وكان
المال همهم، قاله ابن عباس وسائر المفسرين، وقال عبد الله بن
مسعود: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ
الدُّنْيا وقوله تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ
إخبار عن ثبوت من الرماة مع عبد الله بن جبير امتثالا للأمر
حتى قتلوا، ويدخل في هذا أنس بن النضر وكل من جد ولم يضطرب من
المؤمنين، وقوله تعالى: لِيَبْتَلِيَكُمْ معناه: لينزل بكم ذلك
البلاء من القتل والتمحيص، وقوله تعالى: وَلَقَدْ عَفا
عَنْكُمْ إعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل، وهذا تحذير،
والمعنى «ولقد عفا عنكم» بأن لم يستأصلوكم، فهو بمنزلة: ولقد
أبقى عليكم، ويحتمل أن يكون إخبارا بأنه عفا عن ذنوبهم في قصة
أحد، فيكون بمنزلة العفو المذكور بعد، وبالتفسير الأول قال ابن
جريج وابن إسحاق وجماعة من المفسرين، وقال الحسن بن أبي الحسن:
قتل منهم سبعون، وقتل عم النبي عليه السلام وشج في وجهه وكسرت
رباعيته وإنما العفو أن لم يستأصلهم، هؤلاء مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم وفي سبيل الله غضاب لله، يقاتلون أعداء الله،
نهوا عن شيء فضيعوه، فو الله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم،
فأفسق الفاسقين اليوم يجترم كل كبيرة، ويركب كل داهية، ويسحب
عليها ثيابه، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 154]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ
يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ
لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى
طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ
يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ
يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ
الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا
يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ
شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ
لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى
مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ
وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ (154)
العامل في إِذْ قوله: عَفا [آل عمران: 152] وقرأ جمهور الناس
بضم التاء وكسر العين من «أصعد» ومعناه: ذهب في الأرض، وفي
قراءة أبي بن كعب، «إذ تصعدون في الوادي» .
قال القاضي أبو محمد: والصعيد وجه الأرض، وصعدة اسم من أسماء
الأرض، فأصعد معناه:
دخل في الصعيد، كما أصبح دخل في الصباح إلى غير ذلك، والعرب
تقول أصعدنا من مكة وغيرها، إذا استقبلوا سفرا بعيدا وأنشد أبو
عبيدة لحادي الإبل: [الرجز]
قد كنت تبكين على الإصعاد ... فالآن صرّحت وصاح الحادي
(1/525)
وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو عبد الرحمن
واليزيد ومجاهد وقتادة «إذ تصعدون» بفتح التاء والعين، من صعد
إذا علا، والمعنى بهذا صعود من صعد في الجبل والقراءة الأولى
أكثر، وقوله تعالى:
وَلا تَلْوُونَ مبالغة في صفة الانهزام وهو كما قال دريد:
وهل يرد المنهزم شيء؟
وهذا أشد من قول امرئ القيس: [الطويل] أخو الجهد لا يلوي على
من تعذّرا وقرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية شبل «إذ يصعدون
ولا يلوون» بالياء فيهما على ذكر الغيب، وقرأ بعض القراء «ولا
تلؤون» بهمز الواو المضمومة، وهذه لغة، وقرأ بعضهم «ولا تلون»
بضم اللام وواو واحدة، وهي قراءة متركبة على لغة من همز الواو
المضمومة، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام وحذفت إحدى الواوين
الساكنتين، وقرأ الأعمش وعاصم في رواية أبي بكر «تلوون» بضم
التاء من ألوى وهي لغة، وقرأ حميد بن قيس «على أحد» بضم الألف
والحاء، يريد الجبل، والمعنى بذلك رسول الله عليه السلام، لأنه
كان على الجبل، والقراءة الشهيرة أقوى لأن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فر الناس عنه، وهذه الحال من
إصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم، وروي أنه كان ينادي: إليّ عباد
الله، والناس يفرون. وفي قوله تعالى: فِي أُخْراكُمْ مدح للنبي
عليه السلام فإن ذلك هو موقف الابطال في أعقاب الناس، ومنه قول
الزبير بن باطا ما فعل مقدمتنا إذ حملنا وحاميتنا إذ فررنا،
وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، ومنه قول
سلمة بن الأكوع كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله
عليه وسلم، وقوله تعالى: فَأَثابَكُمْ معناه: جازاكم على
صنيعكم، وسمي الغم ثوابا على معنى أنه القائم في هذه النازلة
مقام الثواب، وهذا كقوله: [الوافر] تحيّة بينهم ضرب وجيع وكقول
الآخر: [الفرزدق] : [الطويل]
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا
فجعل القيود والسياط عطاء، ومحدرجة: بمعنى مدحرجة، واختلف
الناس في معنى قوله تعالى:
غَمًّا بِغَمٍّ فقال قوم: المعنى «أثابكم غما» بسبب الغم الذي
أدخلتموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المؤمنين،
بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم.
قال القاضي أبو محمد: فالباء على هذا باء السبب، وقال قوم:
«أثابكم غما بغم» ، الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر.
قال القاضي أبو محمد: فالباء باء معادلة، كما قال أبو سفيان:
يوم بيوم بدر والحرب سجال، وقالت جماعة كبيرة من المتأولين:
المعنى أثابكم غما على غم، أو غما مع غم، وهذه باء الجر
المجرد، واختلفوا في ترتيب هذين الغمين فقال قتادة ومجاهد:
الغم الأول أن سمعوا: ألا إن محمدا قد قتل، والثاني، القتل
(1/526)
والجراح الواقعة فيهم، وقال الربيع وقتادة
أيضا بعكس هذا الترتيب، وقال السدي ومجاهد أيضا وغيرهما: بل
الغم الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق، والغم
الثاني هو إشراف أبي سفيان على النبي ومن كان معه، ذلك أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم طفق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى
قوم من أصحابه قد علوا صخرة في سفح الجبل فمشى نحوهم فأهوى
إليه رجل بسهم ليرميه، فقال:
أنا رسول الله، ففرحوا بذلك، وفرح هو عليه السلام إذ رأى من
أصحابه الامتناع، ثم أخذوا يتأسفون على ما فاتهم من الظفر،
وعلى من مات من أصحابهم فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم أبو
سفيان من علو في خيل كثيرة، فنسوا ما نزل بهم أولا، وأهمهم أمر
أبي سفيان، فقال رسول الله عليه السلام: ليس لهم أن يعلونا،
اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد، ثم ندب أصحابه فرموهم
بالحجارة، وأغنى هنالك عمر بن الخطاب حتى أنزلوهم. واختلفت
الروايات في هذه القصة من هزيمة- أحد- اختلافا كثيرا، وذلك أن
الأمر هول، فكل أحد وصف ما رأى وسمع، قال كعب بن مالك: أول من
ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، رأيت عينيه تزهران تحت
المغفر، وروي أن الخيل المستعلية إنما كانت حملة خالد بن
الوليد، وأن أبا سفيان إنما دنا، والنبي عليه السلام في عرعرة
الجبل، ولأبي سفيان في ذلك الموقف قول كثير، ولعمر معه مراجعة
محفوظة اختصرتها إذ لا تخص الآية، وقوله تعالى: لِكَيْلا
تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ معناه: من الغنيمة وما أَصابَكُمْ
معناه: من القتل والجرح وذل الانهزام وما نيل من نبيكم.
قال القاضي أبو محمد: واللام من قوله: لِكَيْلا متعلقة
بأثابكم، المعنى: لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم،
فأنتم آذيتم أنفسكم، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة،
وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما هو مع ظنه البراءة بنفسه وفي
قوله تعالى: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ توعد.
ثم ذكر الله تعالى أمر النعاس الذي أمن به المؤمنين، فغشي أهل
الإخلاص، وذلك أنه لما ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب، قال
النبي عليه السلام لعلي بحضرة أصحابه المتحيزين في تلك الساعة
إليه:
اذهب فانظر إلى القوم، فإن جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة،
وإن كانوا على خيلهم فهم عامدون إلى المدينة، فاتقوا الله
واصبروا، ووطنهم على القتال، فمضى علي ثم رجع، فأخبر أنهم
جنبوا الخيل وقعدوا على أثقالهم عجالا، فآمن الموقنون المصدقون
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألقى الله عليهم النعاس، وبقي
المنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يصدقون، بل كان ظنهم أن أبا
سفيان يؤم المدينة ولا بد، فلم يقع على أحد منهم نوم، وإنما
كان همهم في أحوالهم الدنيوية، قال أبو طلحة: لقد نمت في ذلك
اليوم حتى سقط سيفي من يدي مرارا، وقال الزبير بن العوام، لقد
رفعت رأسي يوم أحد من النوم فجعلت أنظر إلى أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم، فما منهم أحد إلا وهو يميل تحت جحفته، وقال
ابن مسعود: نعسنا يوم- أحد- والنعاس في الحرب أمنة من الله،
والنعاس في الصلاة من الشيطان، وقرأ جمهور الناس «أمنة» بفتح
الميم، وقرأ ابن محيصن والنخعي «أمنة» بسكون الميم، وهما بمعنى
الأمن، وفتح الميم أفصح، وقوله: نُعاساً بدل، وقرأ ابن كثير
ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «يغشي» بالياء حملا على لفظ
النعاس بإسناد الفعل إلى ضمير البدل، وقرأ حمزة والكسائي
«تغشى» بالتاء حملا على لفظ- الأمنة- بإسناد الفعل إلى ضمير
المبدل منه، والواو في قوله تعالى: وَطائِفَةٌ قَدْ
أَهَمَّتْهُمْ هي واو
(1/527)
الحال كما تقول: جئت وزيد قائم، قاله
سيبويه وغيره قال الزجّاج: وجائز أن يكون خبر قوله وَطائِفَةٌ
قوله- يظنون- ويكون قد أهمتهم صفة للطائفة، وقوله تعالى: قَدْ
أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ذهب أكثر المفسرين قتادة والربيع
وابن إسحاق وغيرهم: إلى أن اللفظة من الهم الذي هو بمعنى الغم
والحزن، والمعنى:
أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة، قد جلبت إليهم الهم خوف
القتل وذهاب الأموال، تقول العرب:
أهمني الشيء إذا جلب الهم، وذكر بعض المفسرين: أن اللفظة من
قولك: هم بالشيء يهم إذا أراد فعله.
قال القاضي أبو محمد: أهمتهم أنفسهم المكاشفة. ونبذ الدين،
وهذا قول من قال: قد قتل محمد، فلنرجع إلى ديننا الأول ونحو
هذا من الأقوال.
قوله تعالى:
يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ...
قوله تعالى: غَيْرَ الْحَقِّ معناه: يظنون أن الإسلام ليس بحق
وأن أمر محمد عليه السلام يضمحل ويذهب، وقوله: ظَنَّ
الْجاهِلِيَّةِ ذهب جمهور الناس إلى أن المراد مدة الجاهلية
القديمة قبل الإسلام، وهذا كما قال: حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ
[الفتح: 26] وتَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ [الأحزاب: 33] ، وكما
تقول شعر الجاهلية، وكما قال ابن عباس: سمعت أبي في الجاهلية
يقول: اسقنا كأسا دهاقا، وذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد في
هذه الآية ظن الفرقة الجاهلية، والإشارة إلى أبي سفيان ومن
معه، والأمر محتمل، وقد نحا هذا المنحى قتادة والطبري، وقوله
تعالى: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ حكاية
كلام قالوه، قال قتادة وابن جريج: قيل لعبد الله بن أبي ابن
سلول: قتل بنو الخزرج فقال: «وهل لنا من الأمر من شيء» ؟ يريد
أن الرأي ليس لنا، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا فلم يخرج
فلم يقتل أحد منا، وهذا منهم قول بأجلين، وكأن كلامهم يحتمل
الكفر والنفاق، على معنى: ليس لنا من أمر الله شيء، ولا نحن
على حق في اتباع محمد، ذكره المهدوي وابن فورك، لكن يضعف ذلك
أن الرد عليهم إنما جاء على أن كلامهم في معنى سوء الرأي في
الخروج، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد، وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ
الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ اعتراض أثناء الكلام فصيح، وقرأ
جمهور القراء «كلّه» - بالنصب على تأكيد الأمر، لأن «كله»
بمعنى أجمع، وقرأ أبو عمرو بن العلاء «كلّه لله» برفع كل على
الابتداء والخبر، ورجح الناس قراءة الجمهور لأن التأكيد أملك
بلفظة «كل» ، وقوله تعالى: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا
يُبْدُونَ لَكَ يحتمل أن يكون إخبارا عن تسترهم بمثل هذه
الأقوال التي ليست بمحض كفر، بل هي جهالة، ويحتمل أن يكون
إخبارا عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر
من هذه النزعات، وأخبر تعالى عنهم على
(1/528)
إِنَّ الَّذِينَ
تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ
عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
الجملة دون تعيين، وهذه كانت سنته في
المنافقين، لا إله إلا هو، وقوله تعالى: يَقُولُونَ لَوْ كانَ
لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا هي مقالة سمعت
من معتب بن قشير المغموص عليه بالنفاق، وقال الزبير بن العوام
فيما أسند الطبري عنه: والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي
بني عمرو بن عوف، والنعاس يغشاني، ما أسمعه إلا كالحلم حين قال
لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا.
قال القاضي أبو محمد: وكلام معتب يحتمل من المعنى ما احتمل
كلام عبد الله بن أبي، ومعتب هذا ممن شهد بدرا، ذكر ذلك ابن
إسحاق وغيره، وقال ابن عبد البر: إنه شهد العقبة، وذلك وهم،
والصحيح أنه لم يشهد عقبة، وقوله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ
فِي بُيُوتِكُمْ الآية رد على الأقوال، وإعلام بأن أجل كل امرئ
إنما هو واحد، فمن لم يقتل فهو يموت لذلك الأجل على الوجه الذي
قدر الله تعالى، وإذا قتل فذلك هو الذي كان في سابق الأزل،
وقرأ جمهور الناس «في بيوتكم» بضم الباء، وقرأ بعض القراء وهي
بعض طرق السبعة «في بيوتكم» ، بكسر الباء، وقرأ جمهور الناس
«لبرز» بفتح الراء والباء على معنى:
صاروا في البراز من الأرض، وقرأ أبو حيوة «لبرّز» بضم الباء
وكسر الراء وشدها، وقرأ جمهور الناس:
«عليهم القتل» أي كتب عليهم في قضاء الله وتقديره، وقرأ الحسن
والزهري: «عليهم القتال» وتحتمل هذه القراءة معنى الاستغناء عن
المنافقين، أي لو تخلفتم أنتم لبرز المؤمنون الموقنون المطيعون
في القتال المكتوب عليهم، وقوله تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ
ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ الآية،
اللام في قوله تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ متعلقة بفعل متأخر تقديره
وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة والابتلاء هنا هو
الاختبار، والتمحيص: تخليص الشيء من غيره، والمعنى ليختبره
فيعلمه علما مساوقا لوجوده وقد كان متقررا قبل وجود الابتلاء
أزلا، و «ذات الصدور» ما تنطوي عليه من المعتقدات، هذا هو
المراد في هذه الآية.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 155]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما
كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
اختلف المتأولون في من المراد بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ
تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فقال الفاروق
عمر بن الخطاب رضي الله عنه: المراد بها جميع من تولى ذلك
اليوم عن العدو.
قال القاضي أبو محمد: يريد على جميع أنحاء التولي الذي لم يكن
تحرفا لقتال، وأسند الطبري رحمه الله قال: خطب عمر رضي الله
عنه يوم الجمعة فقرأ آل عمران، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها،
فلما انتهى إلى قوله إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، قال: لما كان يوم- أحد- هزمنا
ففررت حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني أنزو كأني أروى، والناس
يقولون قتل محمد، فقلت: لا أجد أحدا يقول: قتل محمد إلا قتلته،
حتى اجتمعنا على الجبل فنزلت هذه الآية كلها، قال قتادة: هذه
الآية في كل من فر بتخويف الشيطان وخدعه، وعفا الله عنهم هذه
الزلة، قال ابن فورك: لم يبق مع النبي يومئذ إلا ثلاثة
(1/529)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ
كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا
قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ
وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (156)
عشر رجلا، أبو بكر، وعلي، وطلحة، وسعد بن
أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وسائرهم من الأنصار أبو طلحة
وغيره وقال السدي وغيره: إنه لما انصرف المسلمون عن حملة
المشركين عليهم صعد قوم الجبل، وفر آخرون حتى أتوا المدينة،
فذكر الله في هذه الآية الذين فروا إلى المدينة خاصة.
قال القاضي: جعل الفرار إلى الجبل تحيزا إلى فئة، وقال عكرمة:
نزلت هذه الآية فيمن فر من المؤمنين فرارا كثيرا، منهم رافع بن
المعلى، وأبو حذيفة بن عتبة ورجل آخر، قال ابن إسحاق: فر عثمان
بن عفان، وعقبة بن عثمان وأخوه سعد، ورجلان من الأنصار زرقيان،
حتى بلغوا الجعلب، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص، فأقاموا
به ثلاثة أيام، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال لهم: لقد ذهبتم فيها عريضة، قال ابن زيد: فلا أدري هل عفا
عن هذه الطائفة خاصة؟ أم على المؤمنين جميعا؟ و «استزل» -
معناه طلب منهم أن يزلوا، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه،
وقوله تعالى:
بِبَعْضِ ما كَسَبُوا ظاهره عند جمهور المفسرين: أنه كانت لهم
ذنوب عاقبهم الله عليها بتمكين الشيطان من استزلالهم، وبخلق ما
اكتسبوه أيضا هم من الفرار، وذهب الزجّاج وغيره: إلى أن
المعنى، أن الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة، فكرهوا الموت قبل
التوبة منها والإقلاع عنها، قال المهدوي: بما اكتسبوا من حب
الغنيمة والحرص على الحياة.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل لفظ الآية أن تكون الإشارة في
قوله: بِبَعْضِ ما كَسَبُوا إلى هذه العبرة، أي كان للشيطان في
هذا الفعل الذي اكتسبوه استزلال لهم، فهو شريك في بعضه، ثم
أخبر تعالى بعفوه عنهم، فتأوله جمهور العلماء على حط التبعة في
الدنيا والآخرة، وكذلك تأوله عثمان بن عفان في حديثه مع عبيد
الله بن عدي بن الخيار، وكذلك تأوله ابن عمر في حديثه مع الرجل
العراقي، وقال ابن جريج: معنى الآية، عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ
إذ لم يعاقبهم، والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما
علمت، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموبقات مع
الشرك وقتل النفس وغيرها.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 156]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ
أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما
قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ
وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (156)
نهى الله تعالى المؤمنين عن الكون مثل الكفار والمنافقين في
هذا المعتقد الفاسد، الذي هو أن من سافر في تجارة ونحوها ومن
قاتل فقتل لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض
فيه نفسه للسفر أو للقتال، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول
بالأجلين، وهو نحو منه، وقوله تعالى:
لِإِخْوانِهِمْ هي أخوة نسب، لأن قتلى- أحد- كانوا من الأنصار،
أكثرهم من الخزرج، ولم يكن فيهم من المهاجرين إلا أربعة، وصرح
بهذه المقالة فيما ذكر السدي ومجاهد وغيرهما، عبد الله بن أبي
المنافق وأصحابه، وقيل: بل قالها جميع المنافقين، ودخلت إِذا
في هذه الآية وهي حرف استقبال، من حيث
(1/530)
«الذين» اسم فيه إبهام يعم من قال في
الماضي، ومن يقول في المستقبل، ومن حيث هذه النازلة تتصور في
مستقبل الزمان، ويطرد النهي للمؤمنين فيها، فوضعت إِذا لتدل
على اطراد الأمر في مستقبل الزمان، وهذه فائدة وضع المستقبل
موضع الماضي، كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ
السَّلامِ [يونس: 25] إلى نحوها من الآيات وكما قالت:
وفينا نبي يعلم ما في غد كما أن فائدة وضعهم الماضي موضع
المستقبل للدلالة على ثبوت الأمر، لأن صيغة الماضي متحققة
الوقوع، فمن ذلك قول الشاعر:
وإنّي لآتيكم تشكّر ما مضى ... من الأمر واستيجاب ما كان في غد
ومنه قول الربيع:
أصبحت لا أملك السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
و «الضرب في الأرض» : الإبعاد في السير، ومنه ضرب الدهر
ضربانه: إذا بعدت المدة، وضرب الأرض: هو الذهاب فيها لحاجة
الإنسان خاصة بسقوط «في» وقال السدي وغيره: في هذه الآية،
الضرب في الأرض: السير في التجارة، وقال ابن إسحاق وغيره: بل
هو السير في جميع طاعات الله ورسوله، والضرب في الأرض يعم
القولين، وغُزًّى: جمع غاز، وزنه- فعل- بضم الفاء وشد العين
المفتوحة كشاهد وشهد وقائل وقول، وينشد بيت رؤبة: [الرجز]
فالآن قد نهنهني تنهنهي ... وقول حلم ليس بالمسفّه
(وقول، الاده فلاده) يريد إن لم تتب الآن فلا تتوب أبدا، وهو
مثل معناه: إن لم تكن كذا فلا تكن كذا، وقد روي، وقولهم إلا ده
فلا ده، قال سيبويه وغيره: لا يدخل غُزًّى الجر ولا الرفع،
وقرأته عامة القراء بتشديد الزاي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن
والزهري: «غزى» مخففة الزاي، ووجهه إما أن يريد غزاة، فحذف
الهاء إخلادا إلى لغة من يقول «غزّى» بالتشديد، وهذ الحرف كثير
في كلامهم، قول الشاعر يمدح الكسائيّ: [الطويل]
أبى الذّمّ أخلاق الكسائيّ وانتمى ... به المجد أخلاق الأبوّ
السوابق
يريد الأبوة جمع أب، كما أن العمومة جمع عم، والبنوة جمع ابن
وقد قالوا: ابن وبنو، وتحتمل قراءتهما أن تكون تخفيفا للزاي من
«غزى» ، ونظيره قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً [النبأ: 28] في قول من قال:
إنه تخفيف، وقد قيل: إنه مصدر جرى على غير المصدر، وقرأ الحسن
«وما قتّلوا» مشددة التاء، وقوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللَّهُ
ذلِكَ قال مجاهد: معناه يحزنهم قوله ولا ينفعهم.
قال القاضي: فالإشارة في ذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم، جعل
الله ذلك حسرة، لأن الذي يتيقن
(1/531)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ
أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا
غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ
عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
أن كل موت وقتل فبأجل سابق، يجد برد اليأس
والتسليم لله تعالى على قلبه، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في
بيته لم يمت، يتحسر ويتلهف، وعلى هذا التأويل مشى المتأولون،
وهو أظهر ما في الآية، وقال قوم: الإشارة بذلك إلى انتهاء
المؤمنين ومخالفتهم الكافرين في هذا المعتقد، فيكون خلافهم لهم
حسرة في قلوبهم، وقال قوم: الإشارة بذلك إلى نفس نهي الله
تعالى عن الكون مثل الكافرين في هذا المعتقد لأنهم إذا رأوا أن
الله تعالى قد وسمهم بمعتقد وأمر بخلافهم كان ذلك حسرة في
قلوبهم، ويحتمل عندي أن تكون الإشارة إلى النهي والانتهاء معا،
فتأمله «والحسرة» : التلهف على الشيء والغم به، ثم أخبر تعالى
خبرا جزما أنه الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ بقضاء حتم، لا كما يعتقد
هؤلاء، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي:
«والله بما يعلمون» بالياء، فهذا وعيد للمنافقين، وقرأ الباقون
«تعلمون» بالتاء على مخاطبة المؤمنين، فهذا توكيد للنهي في
قوله لا تَكُونُوا ووعيد لمن خالفه ووعد لمن امتثله.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 157 الى 159]
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ
لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى
اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ
لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
اللام في قوله تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ هي المؤذنة بمجيء
القسم، واللام في قوله: لَمَغْفِرَةٌ هي المتلقية للقسم،
والتقدير: والله لمغفرة، وترتب الموت قبل القتل في قوله ما
ماتُوا وَما قُتِلُوا [آل عمران: 156] مراعاة لرتبة الضرب في
الأرض والغزو فقدم الموت الذي هو بإزاء المتقدم الذكر وهو
الضرب، وقدم القتل في قوله تعالى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ لأنه
ابتداء إخبار، فقدم الأشرف الأهم، والمعنى: أو متم في سبيل
الله، فوقع أجركم على الله، ثم قدم الموت في قوله تعالى:
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لأنها آية وعظ بالآخرة
والحشر، وآية تزهيد في الدنيا والحياة، والموت المذكور فيها هو
موت على الإطلاق في السبيل وفي المنزل وكيف كان، فقدم لعمومه
وأنه الأغلب في الناس من القتل، وقرأ نافع وحمزة والكسائي
«متم» بكسر الميم و «متنا» و «مت» بالكسر في جميع القرآن وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: بضم الميم في جميع القرآن، وروى
أبو بكر عن عاصم ضم الميم في جميع القرآن، وروى عنه حفص ضم
الميم في هذين الموضعين «أو متم ولئن متم» فقط، وكسر الميم حيث
ما وقعت في جميع القرآن، قال أبو علي: ضم الميم هو الأشهر
والأقيس، مت تموت مثل: قلت تقول وطفت تطوف، والكسر شاذ في
القياس وإن كان قد استعمل كثيرا، وليس كما شذ قياسا واستعمالا
كشذوذ اليجدع ونحوه، ونظير مت تموت بكسر الميم فضل بكسر الضاد
يفضل في الصحيح وأنشدوا:
ذكرت ابن عباس بباب ابن عامر ... وما مر من عمري ذكرت وما فضل
وقوله تعالى: لَمَغْفِرَةٌ رفع بالابتداء وَرَحْمَةٌ، عطف على
المغفرة وخَيْرٌ خبر الابتداء، والمعنى: المغفرة والرحمة
اللاحقة عن القتل أو الموت في سبيل الله خير، فجاء لفظ المغفرة
غير معرف
(1/532)
إشارة بليغة إلى أن أيسر جزء منها خير من
الدنيا، وأنه كاف في فوز العبد المؤمن، وتحتمل الآية أن يكون
قوله لَمَغْفِرَةٌ إشارة إلى القتل أو الموت في سبيل الله، سمى
ذلك مغفرة ورحمة إذ هما مقترنان به ويجيء التقدير: لذلك مغفرة
ورحمة وترتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدر، وقوله خَيْرٌ
صفة لخبر الابتداء، وقرأ جمهور الناس «تجمعون» بالتاء على
المخاطبة وهي أشكل بالكلام، وقرأ قوم منهم عاصم فيما روى عن
حفص «يجمعون» بالياء، والمعنى مما يجمعه المنافقون وغيرهم.
ثم ذكر تعالى الحشر إليه، وأنه غاية لكل أحد قتل أو مات، وفي
الآية تحقير لأمر الدنيا وحض على طلب الشهادة، أي إذا كان
الحشر في كلا الأمرين فالمضي إليه في حال الشهادة أولى.
وقوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ، معناه: فبرحمة من
الله «وما» قد جرد عنها معنى النفي ودخلت للتأكيد وليست بزائدة
على الإطلاق لا معنى لها، وأطلق عليها سيبويه اسم الزيادة من
حيث زال عملها، وهذه بمنزلة قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ [النساء: 155] قال الزجاج: الباء بإجماع من
النحويين صلة وفيها معنى التأكيد، ومعنى الآية: التقريع لجميع
من أخل يوم- أحد- بمركزه، أي كانوا يستحقون الملام منك، وأن لا
تلين لهم، ولكن رحم الله جميعكم، أنت يا محمد بأن جعلك الله
على خلق عظيم، وبعثك لتتمم محاسن الأخلاق، وهم بأن لينك لهم
وجعلت بهذه الصفات لما علم تعالى في ذلك من صلاحهم وأنك لَوْ
كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ،
وتفرقوا عنك، والفظ: الجافي في منطقه ومقاطعه، وفي صفة النبي
عليه السلام في الكتب المنزلة: ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في
الأسواق، وقال الجواري لعمر بن الخطاب: أنت أفظ وأغلظ من رسول
الله الحديث، وفظاظة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما كانت
مستعملة منه آلة لعضد الحق والشدة في الدين، والفظاظة: الجفوة
في المعاشرة قولا وفعلا ومنه قول الشاعر: [البسيط]
أخشى فظاظة عمّ أو جفاء أخ ... وكنت أخشى عليها من أذى الكلم
وغلظ القلب: عبارة عن تجهم الوجه وقلة الانفعال في الرغائب
وقلة الإشفاق والرحمة ومن ذلك قول الشاعر: [البسيط]
يبكى علينا ولا نبكي على أحد ... لنحن أغلظ أكبادا من الإبل
والانفضاض: افتراق الجموع ومنه فض الخاتم.
قوله تعالى:
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ....
أمر الله تعالى رسوله بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ، وذلك
أنه أمره بأن يعفو عليه السلام عنهم ما
(1/533)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا
الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
له في خاصته عليهم من تبعة وحق، فإذا صاروا
في هذه الدرجة، أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة،
فإذا صاروا في هذه الدرجة كانوا أهلا للاستشارة في الأمور
والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل
العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه، وقد مدح الله
المؤمنين بقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خاب من استخار ولا ندم من
استشار، وقال عليه السلام: المستشار مؤتمن، وصفة المستشار في
الأحكام أن يكون عالما دينا، وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل، فقد
قال الحسن بن أبي الحسن: ما كمل دين امرئ لم يكمل عقله، وصفة
المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادا في
المستشير، والشورى بركة، وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافة- وهي
أعظم النوازل- شورى، وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا
هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يشاور أصحابه، وقد قال في غزوة بدر:
أشيروا عليّ أيها الناس، في اليوم الذي تكلم فيه المقداد، ثم
سعد بن عبادة، ومشاورته عليه السلام إنما هي في أمور الحروب
والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل، وأما في حلال أو حرام أو حد
فتلك قوانين شرع. ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ
[الأنعام: 38] وكأن الآية نزلت مؤنسة للمؤمنين، إذ كان تغلبهم
على الرأي في قصة- أحد- يقتضي أن يعاقبوا بأن لا يشاوروا في
المستأنف، وقرأ ابن عباس «وشاورهم في بعض الأمر» وقراءة
الجمهور إنما هي باسم الجنس الذي يقع للبعض وللكل، ولا محالة
أن اللفظ خاص بما ليس من تحليل وتحريم، والشورى مبينة على
اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ويتخير، فإذا
أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه، عزم عليه وأنفذه متوكلا على
الله، إذ هي غاية الاجتهاد المطلوب منه، وبهذا أمر تعالى نبيه
في هذه الآية، وقرأ جابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر بن محمد
وعكرمة «عزمت» - بضم التاء سمى الله تعالى إرشاده وتسديده عزما
منه، وهذا في المعنى نحو قوله تعالى:
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء: 105]
ونحو قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ
اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] فجعل تعالى هزمه المشركين بحنين
وتشويه وجوههم رميا، إذ كان ذلك متصلا برمي محمد عليه السلام
بالحصباء. وقد قالت أم سلمة ثم عزم الله لي، والتوكل على الله
تعالى من فروض الإيمان وفصوله، ولكنه مقترن بالجد في الطاعة
والتشمير والحزامة بغاية الجهد: وليس الإلقاء باليد وما أشبهه
بتوكل، وإنما هو كما قال عليه السلام: قيدها وتوكل.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 160]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ
يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
ثم ثبت تعالى المؤمنين بقوله: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا
غالِبَ لَكُمْ أي فالزموا الأمور التي أمركم بها ووعدكم النصر
معها، و «الخذل» : هو الترك في مواطن الاحتياج إلى التارك،
وأصله من خذل الظباء، وبهذا قيل لها: خاذل إذ تركتها أمها،
وهذا على النسب أي ذات خذل لأن المتروكة هي الخاذل بمعنى
مخذولة، وقوله تعالى: فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ تقدير
جوابه: لا من- والضمير في بَعْدِهِ يحتمل العودة على المكتوبة،
ويحتمل العودة على الخذل الذي تضمنه قوله إِنْ يَخْذُلْكُمْ.
قوله تعالى:
(1/534)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ
لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ
كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 161 الى 163]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما
غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما
كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ
وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ
عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)
تقدم القول في صيغة: وما كان لكذا أن يكون كذا، في قوله تعالى:
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ [آل عمران: 145] وقرأ ابن
كثير وأبو عمرو وعاصم «يغل» بفتح الياء وضم الغين، وبها قرأ
ابن عباس وجماعة من العلماء، وقرأ باقي السبعة «أن يغل» بضم
الياء وفتح الغين، وبها قرأ ابن مسعود وجماعة من العلماء،
واللفظة: بمعنى الخيانة في خفاء، قال بعض اللغويين هي مأخوذة
من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والدوح، قال أبو
عمرو: تقول العرب: أغل الرجل يغل إغلالا: إذا خان، ولم يؤد
الأمانة، ومنه قول النمر بن تولب: [الطويل]
جزى الله عنّي جمرة ابنة نوفل ... جزاء مغلّ بالأمانة كاذب
وقال شريح: ليس على المستعير غير المغل ضمان، قال أبو علي:
وتقول من الغل الذي هو الضغن: غل يغل بكسر الغين، ويقولون في
الغلول من الغنيمة: غل يغل بضم الغين، والحجة لمن قرأ يغل أن
ما جاء من هذا النحو في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل على
نحو ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يوسف:
38] ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف: 76]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ [آل عمران: 145] وَما كانَ
اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ [التوبة: 115]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:
179] ولا يكاد يجيء: ما كان زيد ليضرب، فيسند الفعل فيه إلى
المفعول به، وفي هذا الاحتجاج نظر، وروي عن ابن عباس أنه قرأ
«يغل» بضم الغين، فقيل له: إن ابن مسعود قرأ «يغل» بفتح الغين،
فقال ابن عباس: بلى والله ويقتل، واختلف المفسرون في السبب
الذي أوجب أن ينفي الله تعالى عن النبي أن يكون غالا على هذه
القراءة- التي هي بفتح الياء وضم الغين، فقال ابن عباس وعكرمة
وسعيد بن جبير وغيرهم: نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت من المغانم
يوم بدر، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم: لعل
رسول الله أخذها فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد: قيل: كانت هذه المقالة من مؤمنين لم
يظنوا أن في ذلك حرجا، وقيل كانت من منافقين، وقد روي أن
المفقود إنما كان سيفا، قال النقاش: ويقال: إنما نزلت لأن
الرماة قالوا يوم أحد: الغنيمة الغنيمة أيها الناس، إنما نخشى
أن يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: من أخذ شيئا فهو له، فلما
ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: خشيتم أن نغل؟ ونزلت
هذه الآية، وقال الضحاك: بل السبب أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم، فقسم للناس
ولم يقسم للطلائع، فأنزل الله تعالى عليه عتابا، وَما كانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أي يقسم لبعض ويترك بعضا، وروي نحو هذا
القول عن ابن عباس، ويتجه على هذا أن تكون الآية إعلاما بعدل
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه للغنائم، وردا على الأعراب
الذين صاحوا به: اقسم علينا غنائمنا يا محمد، وازدحموا حتى
اضطروه إلى السمرة التي أخذت رداءه، ونحا إليه الزجّاج، وقال
ابن إسحاق: الآية إنما نزلت إعلاما بأن النبي عليه السلام لم
يكتم شيئا مما أمر بتبليغه.
(1/535)
قال القاضي: وكأن الآية على هذا في قصة-
أحد- لما نزل عليه: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:
159] إلى غير ذلك مما استحسنوه بعد إساءتهم من العفو عنهم
ونحوه، وبالجملة فهو تأويل ضعيف، وكان يجب أن يكون «يغل» بضم
الياء وكسر الغين، لأنه من الإغلال في الأمانة، وأما قراءة من
قرأ «أن يغل» بضم الياء وفتح الغين، فمعناها عند جمهور من أهل
العلم: أن ليس لأحد أن يغله: أي يخونه في الغنيمة، فالآية في
معنى نهي الناس عن الغلول في المغانم والتوعد عليه، وخص النبي
بالذكر وإن كان ذلك محظورا مع الأمراء لشنعة الحال مع النبي
صلى الله عليه وسلم، لأن المعاصي تعظم مع حضرته لتعين توقيره،
والولاة هم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فلهم حظهم من
التوقير، وقال بعض الناس: معنى «أن يغل» أن يوجد غالا، كما
تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا، فهذه القراءة على هذا التأويل
ترجع إلى معنى «يغل» بفتح الياء وضم الغين، وقال أبو علي
الفارسي: معنى «يغل» بضم الياء وفتح الغين يقال له: غللت وينسب
إلى ذلك، كما تقول أسقيته، إذا قلت: سقاك الله كما قال ذو
الرمة:
[الطويل]
وأسقيه حتى كاد ممّا أبثّه ... تكلّمني أحجاره وملاعبه
وهذا التأويل موقر للنبي عليه السلام، ونحوه في الكلام: أكفرت
الرجل إذا نسبته إلى الكفر، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
لا آكل سمنا حتى يحيا الناس من أول ما يحيون: أي يدخلون في
الحيا وقوله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وعيد لمن يغل من الغنيمة، أو في زكاته، فيجحدها
ويمسكها، فالفضيحة يوم القيامة بأن يأتي على رؤوس الأشهاد
بالشيء الذي غل في الدنيا، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم خطب فقال: ألا يخشى رجل منكم يجيء يوم القيامة
على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا
أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ثم ذكر ذلك عليه السلام في
بقرة لها خوار وجمل له رغاء، وفرس له حمحمة، وروى نحو هذا
الحديث ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أعرفن
أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء، الحديث بطوله، وروى
نحوه أبو حميد الساعدي وعمر بن الخطاب وعبد الله بن أنيس، وقال
رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أدوا الخياط والمخيط، فقام رجل
فجاء بشراك أو شراكين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
شراك أو شراكان من نار، وقال في مدعم، إن الشملة التي غل من
المغانم يوم خيبر لتشتعل عليه نارا.
قال القاضي: وهذه الفضيحة التي يوقع الله بالغالّ، هي نظيرة
الفضيحة التي توقع بالغادر، في أن ينصب له لواء بغدرته حسب
قوله عليه السلام، وجعل الله هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر
ويفهمونه، ألا ترى إلى قول الحارد: [الكامل]
أسميّ ويحك هل سمعت بغدرة ... رفع اللّواء لنا بها في المجمع
وكانت العرب ترفع للغادر لواء، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته،
وقد تقدم القول في نظير، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما
كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281] .
وقوله تعالى: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ الآية، توقيف
على تباين المنزلتين وافتراق الحالتين،
(1/536)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ
قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ
مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا
قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
والرضوان: مصدر، وقرأه عاصم- فيما روي عنه-
بضم الراء- وقرأ جميعهم بكسرها، وحكى أبو عمرو الداني عن
الأعمش، أنه قرأها- بكسر الراء وضم الضاد، وهذا كله بمعنى واحد
مصدر من الرضى، والمعنى، اتبعوا الطاعة الكفيلة برضوان الله،
ففي الكلام حذف مضاف، وباءَ بِسَخَطٍ- معناه: مضى متحملا له،
والسخط: صفة فعل، وقد تتردد متى لحظ فيها معنى الإرادة، وقال
الضحاك: إن هذه الآية مشيرة إلى أن من لم يغل واتقى فله
الرضوان، وإلى أن من غل وعصى فله السخط، وقال غيره: هي مشيرة
إلى أن من استشهد- بأحد- فله الرضوان، وإلى المنافقين الراجعين
عن النبي صلى الله عليه وسلم فلهم السخط، وباقي الآية بيّن.
واختلف المفسرون في قوله تعالى: هُمْ دَرَجاتٌ من المراد بذلك؟
فقال ابن إسحاق وغيره:
المراد بذلك الجمعان المذكوران، أهل الرضوان وأصحاب السخط، أي
لكل صنف منهم تباين في نفسه في منازل الجنة، وفي أطباق النار
أيضا، وقال مجاهد والسدي ما ظاهره: إن المراد بقوله هُمْ إنما
هو لمتبعي الرضوان، أي لهم درجات كريمة عند ربهم، وفي الكلام
حذف مضاف تقديره «هم درجات» والدرجات المنازل بعضها أعلى من
بعض في المسافة أو في التكرمة، أو العذاب، وقرأ إبراهيم النخعي
«هم درجة» بالإفراد، وباقي الآية وعيد ووعد.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 164 الى 165]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ
فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ
(164) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ
مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
اللام في لَقَدْ لام القسم، ومَنَّ في هذه الآية معناه: تطول
وتفضل، وقد يقال: منّ بمعنى:
كدر معروفه بالذكر فهي لفظة مشتركة.
وقوله تعالى: مِنْ أَنْفُسِهِمْ معناه في الجنس واللسان
والمجاورة فكونه من الجنس يوجب الأنس به وقلة الاستيحاش منه،
وكونه بلسانهم يوجب حسن التفهيم وقرب الفهم، وكونه جارا وربيا
يوجب التصديق والطمأنينة، إذ قد خبروه وعرفوا صدقه وأمانته
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسب قومه، وكذلك الرسل،
قال النقاش: ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت رسول الله صلى
الله عليه وسلم من قبل أمهاتهم إلا بني تغلب لنصرانيتهم،
والآيات في هذه الآية، يحتمل أن يراد بها القرآن ويحتمل أن
يراد بها العلامات، والأول أظهر، وَيُزَكِّيهِمْ معناه: يطهرهم
من دنس الكفر والمعاصي، قال بعض المفسرين:
معناه يأخذ منهم الزكاة، وهذا ضعيف، والْكِتابَ: القرآن،
وَالْحِكْمَةَ، السنة المتعلمة من لسانه عليه السلام، ثم ذكر
حالتهم الأولى من الضلال ليظهر الفرق بتجاور الضدين- وقيل:
لفظة مبنية لما تضمنت الإضافة، فأشبهت الحروف في تضمن المعاني
فبنيت.
(1/537)
وَمَا أَصَابَكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ
الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا
وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ
ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ
هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ
يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
ثم وقف تعالى المؤمنين على الخطأ في قلقهم
للمصيبة التي نزلت بهم وإعراضهم عما نزل بالكفار، وعرفهم أن
ذلك لسبب أنفسهم، والواو في قوله: أَوَلَمَّا عطف جملة على
جملة دخلت عليها ألف التقرير على معنى إلزام المؤمنين هذه
المقالة في هذه الحال، والمصيبة التي نالت المؤمنين هي: قصد-
أحد- وقتل سبعين منهم، واختلف في المثلين اللذين أصاب المؤمنين
فقال قتادة والربيع: وابن عباس وجمهور المتأولين: ذلك في يوم
بدر، قتل المؤمنون من كفار قريش سبعين، وأسروا سبعين، وقال
الزجّاج: أحد المثلين: هو قتل السبعين يوم بدر، والثاني: هو
قتل اثنين وعشرين من الكفار يوم- أحد- فهو قتل بقتل، ولا مدخل
للأسرى في هذه الآية، هذا معنى كلامه، لأن أسارى بدر أسروا ثم
فدوا، فلا مماثلة بين حالهم وبين قتل سبعين من المؤمنين،
وأَنَّى- معناها: كيف ومن أين؟ ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام
أن يقول لهم: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، واختلف الناس كيف
هو من عند أنفسهم ولأي سبب؟
فقال الجمهور من المفسرين: لأنهم خالفوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة ويترك كفار قريش
بشر محبس فأبوا إلا الخروج حتى جرت القصة، وقالت طائفة: قوله
تعالى:
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إشارة إلى عصيان الرماة وتسبيبهم
الهزيمة على المؤمنين. وقال الحسن وعلي بن أبي طالب رضي الله
عنهما: بل ذلك لما قبلوا الفداء يوم بدر، وذلك أن عليا بن أبي
طالب رضي الله عنه قال:
لما فرغت هزيمة المشركين ببدر جاء جبريل عليه السلام إلى النبي
عليه السلام فقال: يا محمد إن الله قد كره ما يصنع قومك في أخذ
الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين: أن يقدموا الأسارى
فتضرب أعناقهم، أو يأخذوا الفداء، على أن يقتل من أصحابك عدة
هؤلاء الأسارى، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فذكر
ذلك لهم فقالوا: يا رسول الله، عشائرنا وإخواننا، بل نأخذ
فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم، فليس في
ذلك ما نكره، قال: فقتل منهم يوم أحد- سبعون رجلا.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 166 الى 167]
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ
اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً
لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ
لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي
قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167)
الخطاب بقوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ للمؤمنين، والْجَمْعانِ
هما عسكر النبي صلى الله عليه وسلم وعسكر قريش يوم- أحد- ودخلت
الفاء في قوله: فَبِإِذْنِ اللَّهِ رابطة مشددة، وذلك للإبهام
الذي في ما فأشبه الكلام الشرط، وهذا كما قال سيبويه: الذي قام
فله درهمان، فيحسن دخول الفاء إذا كان القيام سبب الإعطاء،
وكذلك ترتيب هذه الآية، فالمعنى إنما هو، وما أذن الله فيه فهو
الذي أصاب، لكن قدم الأهم في نفوسهم والأقرب إلى حسهم، والإذن:
التمكين من الشيء مع العلم به، وقوله تعالى:
وَلِيَعْلَمَ معناه: ليكون العلم مع وجود المؤمنين والمنافقين،
أي مساوقين للعلم الذي لم يزل ولا يزال واللام في قوله:
لِيَعْلَمَ متعلقة بفعل مقدر في آخر الكلام، والإشارة بقوله:
نافَقُوا وقيل لهم هي إلى
(1/538)
الَّذِينَ قَالُوا
لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا
قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا
بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (170)
عبد الله بن أبي وأصحابه الذين انصرفوا معه
عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم- أحد- وذلك أنه كان من رأي
عبد الله بن أبي أن لا يخرج إلى كفار قريش، فلما خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالناس على الوجه الذي قد ذكرناه، قال عبد
الله بن أبي: أطاعهم وعصاني، فانخذل بنحو ثلث الناس، فمشى في
أثرهم عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري أبو جابر بن عبد الله
فقال لهم:
اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا،
أو نحو هذا من القول، فقال له ابن أبي: ما أرى أن يكون قتال،
ولو علمنا أن يكون قتال لكنا معكم، فلما يئس منهم عبد الله
قال: اذهبوا أعداء الله، فسيغني الله رسوله عنكم، ومضى مع
النبي صلى الله عليه وسلم فاستشهد، واختلف الناس في معنى قوله:
أَوِ ادْفَعُوا فقال السدي وابن جريج وغيرهما معناه: كثروا
السواد وإن لم تقاتلوا، فيندفع القوم لكثرتكم، وقال أبو عون
الأنصاري: معناه رابطوا، وهذا قريب من الأول، ولا محالة أن
المرابط مدافع، لأنه لولا مكان المرابطين في الثغور لجاءها
العدو، والمكثر للسواد مدافع، وقال أنس بن مالك: رأيت يوم
القادسية عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى، وعليه درع يجر أطرافها
وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال: بلى،
ولكني أكثر المسلمين بنفسي، وروي أنه قال: فكيف بسوادي في سبيل
الله، وذهب بعض المفسرين إلى أن قول عبد الله بن عمرو: أَوِ
ادْفَعُوا، إنما هو استدعاء القتال حمية، لأنه دعاهم إلى
القتال في سبيل الله، وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، فلما
رأى أنهم ليسوا أهل ذلك، عرض عليهم الوجه الذي يحشمهم ويبعث
الأنفة، أي أو قاتلوا دفاعا عن الحوزة، ألا ترى أن قزمان قال:
والله ما قاتلت إلا على أحساب قومي، وألا ترى أن بعض الأنصار
قال يوم- أحد- لما رأى قريشا قد أرسلت الظهر في زروع قناة قال:
أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب؟ وكان النبي صلى الله عليه
وسلم قد أمر أن لا يقاتل أحد حتى يأمره بالقتال، فكأن عبد الله
بن عمرو بن حرام دعاهم إلى هذا المقطع العربي الخارج عن الدين
والقتال في سبيل الله، وذهب جمهور المفسرين إلى أن قوله:
أَقْرَبُ مأخوذ من القرب ضد البعد، وسدت- اللام- في قوله:
لِلْكُفْرِ، ولِلْإِيمانِ- مسد إلى، وحكى النقاش: أن قوله
أَقْرَبُ مأخوذ من القرب بفتح القاف والراء وهو الطلب، والقارب
طالب الماء، وليلة القرب ليلة الورد، فاللفظة بمعنى أطلب،
واللام متمكنة على هذا القول، وقوله: بِأَفْواهِهِمْ تأكيد،
مثل يطير بجناحيه، وقوله: ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ يريد ما
يظهرون من الكلمة الحاقنة لدمائهم، ثم فضحهم تعالى بقوله:
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ أي من الكفر وعداوة الدين
وفي الكلام توعد لهم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 168 الى 170]
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما
قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا
بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (170)
الَّذِينَ بدل من «الذين» المتقدم، و «إخوانهم» المقتولون من
الخزرج وهي أخوة نسب ومجاورة،
(1/539)
وقوله تعالى: لِإِخْوانِهِمْ معناه لأجل
إخوانهم وفي شأن إخوانهم، ويحتمل أن يكون قوله:
لِإِخْوانِهِمْ للأحياء من المنافقين، ويكون الضمير في
أَطاعُونا هو للمقتولين، وقوله: وَقَعَدُوا جملة في موضع الحال
وهي حالة معترضة أثناء الكلام، وقوله: لَوْ أَطاعُونا يريد في
أن لا يخرجوا إلى قريش، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «ما قتّلوا»
بشد التاء، وهذا هو القول بالأجلين، فرد الله تعالى عليهم
بقوله: قُلْ فَادْرَؤُا الآية، والدرء الدفع ومنه قول دغفل
النسابة: [الرجز]
صادف درء السّيل درءا يدفعه ... والعبء لا تعرفه أو ترفعه
ولزوم هذه الحجة هو أنكم أيها القائلون: إن التوقي واستعمال
النظر يدفع الموت، فتوقوا وانظروا في الذي يغشاكم منه حتف
أنوفكم، فادفعوه إن كان قولكم صدقا، أي إنما هي آجال مضروبة
عند الله.
وقرأ جمهور القراء: «ولا تحسبن» بالتاء مخاطبة للنبي عليه
السلام، وقرأ حميد بن قيس، «ولا يحسبن» بالياء على ذكر الغائب،
ورويت عن ابن عمر وذكره أبو عمرو وكأن الفاعل مقدر: ولا يحسبن
أحد أو حاسب، وأرى هذه القراءة بضم الباء فالمعنى: ولا يحسب
الناس، ويحسبن، معناه يظن، وقرأ الحسن: «الذين قتّلوا» ، بشد
التاء، وابن عامر من السبعة، وروي عن عاصم أنه قرأ: «الذين
قاتلوا» بألف بين القاف والتاء، وأخبر الله تعالى في هذه الآية
عن الشهداء: أنهم في الجنة يرزقون، هذا موضع الفائدة، ولا
محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح
سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل، حتى كأن
حياة الدنيا دائمة لهم، قال الحسن بن أبي الحسن: ما زال ابن
آدم يتحمد حتى صار حيا لا يموت بالشهادة في سبيل الله، فقوله:
بَلْ أَحْياءٌ مقدمة لقوله: يُرْزَقُونَ إذ لا يرزق إلا حي،
وهذا كما تقول لمن ذم رجلا: بل هو رجل فاضل، فتجيء باسم الجنس
الذي تركب عليه الوصف بالفضل، وقرأ جمهور الناس: «بل أحياء»
بالرفع على خبر ابتداء مضمر، أي هم أحياء، وقرأ ابن أبي عبلة،
«بل أحياء» بالنصب، قال الزجّاج: ويجوز النصب على معنى بل
أحسبهم أحياء، قال أبو علي في الأغفال: ذلك لا يجوز لأن الأمر
يقين فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل
المحسبة.
قال القاضي: فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن تضمر فعلا غير
المحسبة، اعتقدهم أو اجعلهم وذلك ضعيف إذ لا دلالة في الكلام
على ما يضمر، وقوله عِنْدَ رَبِّهِمْ فيه حذف مضاف تقديره: عند
كرامة ربهم، لأن عِنْدَ تقتضي غاية القرب، ولذلك لم تصغر قاله
سيبويه، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أرواح
الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق، يخرج عليهم رزقهم من
الجنة بكرة وعشيا، وروي عنه عليه السلام أنه قال: أرواح
الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها.
قال القاضي رحمه الله: وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة، يجمعها
أنهم يرزقون، وقال عليه السلام:
إنما نسمة المؤمن طير تعلق في ثمار الجنة، ويروى يعلق بفتح
اللام وبالياء، والحديث معناه في الشهداء خاصة، لأن أرواح
المؤمنين غير الشهداء، إنما ترى مقاعدها من الجنة دون أن
تدخلها، وأيضا فإنها لا ترزق، وتعلق معناه: تصيب العلقة من
الطعام، وفتح اللام هو من التعلق، وقد رواه القراء في إصابة
(1/540)
يَسْتَبْشِرُونَ
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ
(172)
العلقة، وروي عن النبي عليه السلام أنه
قال: إنه الله تعالى يطلع إلى الشهداء فيقول: يا عبادي ما
تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون يا ربنا لا فوق ما أعطيتنا، هذه الجنة
نأكل منها حيث نشاء، لكنا نريد أن تردنا إلى الدنيا فنقاتل في
سبيلك فنقتل مرة أخرى، فيقول تعالى: قد سبق أنكم لا تردون،
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله: ألا
أبشرك يا جابر؟ قال جابر: قلت بلى يا رسول الله، قال: إن أباك
حيث أصيب- بأحد- أحياه الله، ثم قال: ما تحب يا عبد الله بن
عمرو أن أفعل بك؟ قال: يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل
فيك فأقتل مرة أخرى، وقال قتادة رحمه الله: ذكر لنا أن رجالا
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ليتنا نعلم ما
فعل إخواننا الذين أصيبوا- بأحد- فنزلت هذه الآية وقال محمد بن
قيس بن مخرمة في حديث: إن الشهداء قالوا يا ربنا ألا رسول يخبر
نبينا عنا بما أعطيتنا؟ فقال الله تعالى:
أنا رسولكم، فنزل جبريل بهذه الآية وكثرت هذه الأحاديث في هذا
المعنى، واختلفت الروايات وجميع ذلك جائز على ما اقتضبته من
هذه المعاني وقوله تعالى: فَرِحِينَ نصب في موضع الحال وهو من
الفرح بمعنى السرور، و «الفضل» في هذه الآية: التنعيم المذكور.
يَسْتَبْشِرُونَ معناه: يسرون ويفرحون، وليست استفعل في هذا
الموضع بمعنى طلب البشارة، بل هي بمعنى استغنى الله واستمجد
المرخ والعفار، وذهب قتادة والربيع وابن جريج وغيرهم: إلى أن
هذا الاستبشار إنما هو بأنهم يقولون: إخواننا الذين تركناهم
خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم فيستشهدون
فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه فيسرون لهم بذلك، إذ يحصلون
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وذهب فريق من العلماء وأشار إليه
الزجّاج وابن فورك: إلى أن الإشارة في قوله: بِالَّذِينَ لَمْ
يَلْحَقُوا إلى جميع المؤمنين، أي لم يلحقوا بهم في فضل
الشهادة لكن الشهداء لما عاينوا ثواب الله، وقع اليقين بأن دين
الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليه، فهم فرحون لأنفسهم بما
آتاهم الله من فضله، وَيَسْتَبْشِرُونَ للمؤمنين بأنهم لا خوف
عليهم ولا هم يحزنون» ، وأَلَّا مفعول من أجله، التقدير، بأن
لا خوف، ويجوز أن يكون في موضع خفض بدل اشتمال.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 171 الى 172]
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ
اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ
الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ
عَظِيمٌ (172)
ثم أكد تعالى استبشارهم بقوله: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ ثم
بين تعالى بقوله: وَفَضْلٍ فوقع إدخاله إياهم الجنة الذي هو
فضل منه لا بعمل أحد، وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر
أنها على قدر الأعمال، وقرأ الكسائي وجماعة من أهل العلم: «وإن
الله» - بكسر الألف من «أن» ، وقرأ باقي السبعة وجمهور
العلماء: «وأن الله» - بفتح الألف، فمن قرأ بالفتح فذلك داخل
فيما يستبشر به، المعنى، بنعمة وبأن الله، ومن قرأ بالكسر فهو
إخبار مستأنف، وقرأ عبد الله «وفضل والله لا يضيع» .
(1/541)
الَّذِينَ قَالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ
مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا
رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
وقوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا يحتمل
أن تكون الَّذِينَ صفة للمؤمنين على قراءة من كسر الألف من
«إن» ، والأظهر أن الَّذِينَ ابتداء وخبره في قوله تعالى:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الآية، فهذه الجملة هي خبر الابتداء
الأول، والمستجيبون لله والرسول هم الذين خرجوا مع النبي صلى
الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد في طلب قريش وانتظارهم لهم
وذلك أنه لما كان في يوم الأحد وهو الثاني من يوم أحد نادى
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس باتباع المشركين، وقال:
لا يخرجن معنا إلا من شاهدنا بالأمس، وكانت بالناس جراحة وقرح
عظيم، ولكن تجلدوا ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ
حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، وأقام بها
ثلاثة أيام، وجرت قصة معبد بن أبي معبد التي ذكرناها، ومرت
قريش وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأنزل
الله تعالى في شأن أولئك المستجيبين هذه الآية، ومدحهم لصبرهم،
وروي أنه خرج في الناس أخوان وبهما جراحة شديدة وكان أحدهما قد
ضعف، فكان أخوه يحمله عقبة ويمشي هو عقبة، ورغب جابر بن عبد
الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج معه فأذن له،
وأخبرهم تعالى أن الأجر العظيم قد تحصل لهم بهذه الفعلة، وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها غزوة.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 173 الى 174]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ
مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا
رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
الَّذِينَ صفة للمحسنين المذكورين، وهذا القول هو الذي قاله
الركب من عبد القيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه،
حين حملهم أبو سفيان ذلك، وقد ذكرته قبل، ف النَّاسُ الأول ركب
عبد القيس والنَّاسُ الثاني عسكر قريش، وقوله تعالى:
فَزادَهُمْ إِيماناً، أي ثبوتا واستعدادا، فزيادة الإيمان في
هذا هي في الأعمال، وأطلق العلماء عبارة: أن الإيمان يزيد
وينقص، والعقيدة في هذا أن نفس الإيمان الذي هو تصديق واحد
بشيء ما، إنما هو معنى فرد لا تدخله زيادة إذا حصل، ولا يبقى
منه شيء إذا زال، فلم يبق إلا أن تكون الزيادة والنقص في
متعلقاته دون ذاته، فذهب بعض العلماء إلى أنه يقال: يزيد وينقص
من حيث تزيد الأعمال الصادرة عنه وتنقص، لا سيما أن كثيرا من
العلماء يوقعون اسم الإيمان على الطاعات، وذهب قوم: إلى أن
الزيادة في الإيمان إنما هي بنزول الفروض والإخبار في مدة
النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المعرفة بها بعد الجهل غابر
الدهر وهذا إنما زيادة إيمان إلى إيمان، فالقول فيه إن الإيمان
يزيد وينقص قول مجازي ولا يتصور النقص فيه على هذا الحد وإنما
يتصور الأنقص بالإضافة إلى الأعلم، وذهب قوم من العلماء: إلى
أن زيادة الإيمان ونقصه إنما هي من طريق الأدلة، فتزيد الأدلة
عند واحد، فيقال في ذلك: إنها زيادة في الإيمان، وهذا كما يقال
في الكسوة، إنها زيادة في الإيمان، وذهب أبو المعالي في
الإرشاد: إلى أن زيادة الإيمان ونقصانه إنما هو
(1/542)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ
الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ
وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ
يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ
لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ
يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
بثبوت المعتقد وتعاوره دائبا، قال: وذلك أن
الإيمان عرض وهو لا يثبت زمانين فهو للنبي صلى الله عليه وسلم
وللصلحاء متعاقب متوال، وللفاسق والغافل غير متوال، يصحبه حينا
ويفارقه حينا في الفترة، فذلك الآخر أكثر إيمانا، فهذه هي
الزيادة والنقص وفي هذا القول نظر، وقوله تعالى: فَزادَهُمْ
إِيماناً لا يتصور أن يكون من جهة الأدلة، ويتصور في الآية
الجهات الأخر الثلاث، وروي أنه لما أخبر الوفد من عبد القيس
رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حملهم أبو سفيان، وأنه ينصرف
إليهم بالناس ليستأصلهم، وأخبر بذلك أيضا أعرابي، شق ذلك على
المسلمين فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فقالوا واستمرت عزائمهم
على الصبر ودفع الله عنهم كل سوء، وألقى الرعب في قلوب الكفار
فمروا.
وقوله تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ
يريد في السلامة والظهور في اتباع العدو وحماية الحوزة، وبفضل
في الأجر الذي حازوه والفضل الذي تجللوه، وباقي الآية بين قد
مضت نظائره، هذا هو تفسير الجمهور لهذه الآية، وأنها غزوة-
أحد- في الخرجة إلى حمراء الأسد وشذ مجاهد رحمه الله فقال:
إن هذه الآية من قوله: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إلى
قوله: فَضْلٍ عَظِيمٍ إنما نزلت في خروج النبي عليه السلام إلى
بدر الصغرى، وذلك أنه خرج لميعاد أبي سفيان في- أحد- إذ قال:
موعدنا بدر من العام المقبل، فقال النبي عليه السلام: قولوا
نعم: فخرج رسول الله قبل بدر وكان بها سوق عظيم، فأعطى رسول
الله صلى الله عليه وسلم أصحابه دراهم وقرب من بدر فجاءه نعيم
بن مسعود الأشجعي فأخبره أن قريشا قد اجتمعت وأقبلت لحربه هي
ومن انضاف إليها، فأشفق المسلمون من ذلك لكنهم قالوا:
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وصمموا حتى أتوا بدرا
فلم يجدوا عدوا ووجدوا السوق فاشتروا بدراهمهم أدما وتجارة
وانقلبوا ولم يلقوا كيدا وربحوا في تجارتهم، فذلك قوله تعالى:
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ أي فضل في تلك التجارة،
والصواب ما قاله الجمهور: إن هذه الآية نزلت في غزوة حمراء
الأسد، وما قال ابن قتيبة وغيره:
من أن لفظة النَّاسُ على رجل واحد من هذه الآية، فقول ضعيف.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 175 الى 177]
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا
تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلا
يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ
لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ
يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ
بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ (177)
مقتضى إِنَّما في اللغة الحصر، هذا منزع المتكلم بها من العرب،
ثم إذا نظر مقتضاها- عقلا- وهذا هو نظر الأصوليين- فهي تصلح
للحصر وللتأكيد الذي يستعار له لفظ الحصر، وهي في هذه الآية
حاصرة، والإشارة ب ذلِكُمُ إلى جميع ما جرى من أخبار الركب
العبديين، عن رسالة أبي سفيان ومن تحميل أبي سفيان ذلك الكلام،
ومن جزع من ذلك الخبر من مؤمن أو متردد، وذلِكُمُ في الإعراب
ابتداء، والشَّيْطانِ مبتدأ آخر، ويُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ خبر
عن الشيطان، والجملة خبر الابتداء
(1/543)
وَلَا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ
لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي
مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
الأول، وهذا الإعراب خير في تناسق المعنى
من أن يكون الشَّيْطانُ خبر ذلِكُمُ لأنه يجيء في المعنى
استعارة بعيدة، ويُخَوِّفُ فعل يتعدى إلى مفعولين، لكن يجوز
الاقتصار على أحدهما إذ الآخر مفهوم من بنية هذا الفعل، لأنك
إذا قلت: خوفت زيدا، فمعلوم ضرورة أنك خوفته شيئا حقه أن يخاف،
وقرأ جمهور الناس يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فقال قوم المعنى:
يخوفكم أيها المؤمنون أولياءه الذين هم كفار قريش، فحذف
المفعول الأول وقال قوم: المعنى يخوف المنافقين ومن في قلبه
مرض وهم أولياؤه، فإذا لا يعمل فيكم أيها المؤمنون تخويفه، إذ
لستم بأوليائه، والمعنى: يخوفهم كفار قريش، فحذف هنا المفعول
الثاني واقتصر على الأول، وقرأ ابن عباس فيما حكى أبو عمرو
الداني «يخوفكم أولياءه» المعنى يخوفكم قريش ومن معهم، وذلك
بإضلال الشيطان لهم وذلك كله مضمحل، وبذلك قرأ النخعي وحكى أبو
الفتح بن جني عن ابن عباس أنه قرأ «يخوفكم أولياءه» فهذه قراءة
ظهر فيها المفعولان، وفسرت قراءة الجماعة «يخوف أولياءه» قراءة
أبي بن كعب «يخوفكم بأوليائه» والضمير في قوله فَلا
تَخافُوهُمْ لكفار قريش وغيرهم من أولياء الشيطان، حقر الله
شأنه وقوى نفوس المؤمنين عليهم، وأمرهم بخوفه هو تعالى وامتثال
أمره، من الصبر والجلد، ثم قرر بقوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ كما تقول: إن كنت رجلا فافعل كذا.
وقرأ نافع وحده «يحزنك» بضم الياء من أحزن، وكذلك قرأ في جميع
القرآن، إلا في سورة الأنبياء لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ
الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] فإنه فتح الياء، وقرأ الباقون
«يحزنك» بفتح الياء من قولك حزنت الرجل، قال سيبويه: يقال حزن
الرجل وفتن إذا أصابه الحزن والفتنة، وحزنته وفتنته، إذا جعلت
فيه وعنده حزنا وفتنة، كما تقول: دهنت وكحلت، إذا جعلت دهنا
وكحلا، وأحزنته وأفتنته إذا جعلته حزينا وفاتنا، كما تقول:
أدخلته وأسمعته، هذا معنى قول سيبويه والمسارعة في الكفر هي
المبادرة إلى أقواله وأفعاله والجد في ذلك، وقرأ الحر النحوي
«يسرعون» في كل القرآن وقراءة الجماعة أبلغ، لأن من يسارع غيره
أشد اجتهادا من الذي يسرع وحده، ولذلك قالوا كل مجر بالخلاء
يسر، وسلّى الله نبيه بهذه الآية عن حال المنافقين والمجاهدين
إذ كلهم مسارع، وقوله تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ
شَيْئاً خبر في ضمنه وعيد لهم أي: إنما يضرون أنفسهم، والحظ
إذا لم يقيد فإنما يستعمل في الخير، ألا ترى قوله تعالى: وَما
يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 35] .
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا أطلق عليهم الشراء من
حيث كانوا متمكنين من قبول هذا وهذا فجاء أخذهم للواحد وتركهم
للآخر كأنه ترك لما قد أخذ وحصل، إذ كانوا ممكنين منه، ولمالك
رحمه الله متعلق بهذه الآية في مسألة شراء ما تختلف آحاد جنسه
مما لا يجوز التفاضل فيه، في أن منع الشراء على أن يختار
المبتاع، وباقي الآية وعيد كالمتقدم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 178 الى 179]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ
خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا
إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) ما كانَ اللَّهُ
لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى
يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي
مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
(1/544)
نُمْلِي معناه: نمهل ونمد في العمر،
والملاوة: المدة من الدهر والملوان الليل والنهار وتقول:
ملاك الله النعمة أي منحكها عمرا طويلا، وقرأ ابن كثير وأبو
عمرو ونافع: «يحسبن» بالياء من أسفل وكسر السين وفتح الباء،
وقرأ ابن عامر كذلك إلا في السين فإنه فتحها وقرأ حمزة تحسبن.
بالتاء من فوق الباء، وقرأ ابن عامر كذلك إلا في- السين- فإنه
فتحها، وقرأ حمزة «تحسبن» بالتاء من فوق وفتح السين، وقرأ عاصم
والكسائي، كل ما في هذه السورة بالتاء من فوق إلا حرفين، قوله
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا في هذه الآية وبعدها وَلا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ فأما من قرأ «ولا يحسبن»
بالياء من أسفل فإن الَّذِينَ فاعل وقوله أَنَّما نُمْلِي
لَهُمْ خَيْرٌ بفتح الألف من «أنما» ساد مسد مفعولي حسب، وذلك
أن «حسب» وما جرى مجراها تتعدى إلى مفعولين أو إلى مفعول يسد
مسد مفعولين، وذلك إذا جرى في صلة ما تتعدى إليه ذكر الحديث
والمحدث عنه، قال أبو علي: وكسر «إن» في قول من قرأ «يحسبن»
بالياء لا ينبغي، وقد قرىء فيما حكاه غير أحمد بن موسى وفي غير
السبع، ووجه ذلك أن يتلقى بها القسم كما يتلقى بلام الابتداء،
ويدخلان على الابتداء والخبر، أعني- اللام- وإن فعلق عن «إنما»
عمل الحسبان كما تعلق عن اللام في قولك: حسبت لزيد قائم، فيعلق
الفعل عن العمل لفظا، وأما بالمعنى فما بعد «أن أو اللام» ففي
موضع مفعولي «حسب» ، وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي، ففي
نُمْلِي عائد مستكن، ويحتمل أن تكون مصدرية فلا تحتاج إلى
تقدير عائد وأما من قرأ «ولا تحسبن» بالتاء فالذين مفعول أول
للحسبان، قال أبو علي: وينبغي أن تكون الألف من «إنما» مكسورة
في هذه القراءة، وتكون «إن» وما دخلت عليه في موضع المفعول
الثاني لتحسبن، ولا يجوز فتح الألف من «إنما» لأنها تكون
المفعول الثاني، والمفعول الثاني في هذا الباب هو المفعول
الأول بالمعنى، والإملاء لا يكون إياهم، قال مكي في مشكله: ما
عملت أحدا قرأ «تحسبن» بالتاء من فوق وكسر الألف من «إنما»
وجوز الزجّاج هذه القراءة «تحسبن» بالتاء و «أنما» بفتح الألف،
وظاهر كلامه أنها تنصب خيرا، قال وقد قرأ بها خلق كثير وساق
عليها مثالا قول الشاعر: [الطويل] (فما كان قيس هلكه هلك واحد)
بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل، فكذلك يكون أَنَّما نُمْلِي
بدلا من الَّذِينَ كَفَرُوا كقوله تعالى: وَما أَنْسانِيهُ
إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف: 63] وقوله وَإِذْ
يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ
[الأنفال: 7] ويكون «خيرا» المفعول الثاني قال أبو علي: لم
يقرأ هذه القراءة أحد، وقد سألت أحمد بن موسى عنها فزعم أنه لم
يقرأ بها أحد، ويظهر من كلام أبي علي أن أبا إسحاق إنما جوز
المسألة مع قراءة «خير» بالرفع، وأبو علي أعلم لمشاهدته أبا
إسحاق، وذكر قوم أن هذه القراءة تجوز على حذف مضاف تقديره: ولا
تحسبن شأن الذين كفروا أنما نملي لهم، فهذا كقوله تعالى:
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وغير ذلك ويذهب الأستاذ أبو
الحسن بن الباذش: إلى أنها تجوز على بدل أن من الذين وحذف
المفعول لحسب، إذ الكلام يدل عليه.
(1/545)
وَلَا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ
مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا
إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا
قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ
ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
قال القاضي: والمسألة جائزة إذ المعنى لا
تحسبن إملاءنا للذين كفروا خيرا لهم أو نحو هذا ومعنى هذه
الآية: الرد على الكفار في قولهم: إن كوننا ظاهرين ممولين أصحة
دليل على رضى الله بحالنا واستقامة طريقتنا عنده، فأخبر الله
أن ذلك التأخير والإمهال إنما هو إملاء واستدراج، ليكتسبوا
الآثام، وقال عبد الله بن مسعود: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا
والموت خير لها، أما البرة فلتسرع إلى رحمة الله، وقرأ وَما
عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [آل عمران: 198] وأما
الفاجرة فلئلا تزداد إثما، وقرأ هذه الآية ووصف العذاب بالمهين
معناه: التخسيس لهم، فقد يعذب من لا يهان، وذلك إذا اعتقدت
إقالة عثرته يوما ما.
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
فقال مجاهد وابن جريج وابن إسحاق وغيرهم: الخطاب للمؤمنين،
والمعنى: ما كان الله ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين مشكلا
أمرهم، يجري المنافق مجرى المؤمن، ولكنهم ميز بعضهم من بعض،
بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء في أحد من الأفعال والأقوال، وقال
قتادة والسدي: الخطاب للكفار، والمعنى: حتى يميز المؤمنين من
الكافرين بالإيمان والهجرة، وقال السدي وغيره: قال الكفار في
بعض جدلهم: أنت يا محمد تزعم في الرجل منا أنه من أهل النار،
وأنه إذا اتبعك من أهل الجنة، فكيف يصح هذا؟ ولكن أخبرنا بمن
يؤمن منا وبمن يبقى على كفره، فنزلت الآية، فقيل لهم: لا بد من
التمييز وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ
فيمن يؤمن ولا فيمن يبقى كافرا ولكن هذا رسول مجتبى فآمنوا به.
فإن آمنتم نجوتم وكان لكم أجر، وأما مجاهد وابن جريج وأهل
القول، فقولهم في تأويل قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أنه في أمر «أحد» أي ما كان
الله ليطلعكم على أنكم تهزمون، فكنتم تكعون عن هذا. وأيضا فما
كان ليطلعكم على المنافقين تصريحا بهم وتسمية لهم، ولكن هذا
بقرائن أفعالهم وأقوالهم في مثل هذا الموطن، وحتى- في قوله:
حَتَّى يَمِيزَ غاية مجردة، لأن الكلام قبلها معناه: الله يخلص
ما بينكم بابتلائه وامتحانه حتى يميز، وقرأ ابن كثير ونافع
وأبو عمرو وابن عامر وعاصم: «حتى يميز» - بفتح الياء وكسر
الميم وتخفيف الياء، وكذلك «ليميز» ، وقرأ حمزة والكسائي: «حتى
يميّز» و «ليميز الله» بضم الياء والتشديد، قال يعقوب بن
السكيت: مزت وميزت، لغتان بمعنى واحد، قال أبو علي: وليس ميزت
بمنقول من مزت، بدليل أن ميزت لا يتعدى إلى مفعولين وإنما
يتعدى إلى مفعول واحد كمزت، كما أن «ألقيت» ليس بمنقول من لقي،
إنما هو بمعنى أسقطت، والغيب هنا: ما غاب عن البشر مما هو في
علم الله من الحوادث التي تحدث ومن الأسرار التي في قلوب
المنافقين، ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس، قال
الزجّاج وغيره: روي أن بعض الكفار قال: لم لا يكون جميعنا
أنبياء؟ فنزلت هذه الآية، ويَجْتَبِي- معناه: يختار ويصطفي،
وهي من جبيت الماء والمال، وباقي الآية بين والله المستعان.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 180 الى 181]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ
سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ
مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا
إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما
قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ
ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181)
لّقد سمع الله
(1/546)
قول الّذين قالوا إنّ الله فقير ونحن
أغنياء القراءات في قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ كالتي تقدمت آنفا في قوله وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سواء، وقال السدي وجماعة من المتأولين:
الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله وأداء
الزكاة المفروضة ونحو ذلك، قالوا: ومعنى: سَيُطَوَّقُونَ ما
بَخِلُوا هو الذي ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال: ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله عن فضل ما
عنده فيبخل به عليه إلا خرج له يوم القيامة شجاع أقرع من الناس
يتلمظ حتى يطوقه. والأحاديث في مثل هذا من منع الزكاة واكتناز
المال كثيرة صحيحة. وقال ابن عباس: الآية إنما نزلت في أهل
الكتاب وبخلهم ببيان ما علمهم الله من أمر محمد صلى الله عليه
وسلم، وقال ذلك مجاهد وجماعة من أهل التفسير، وقوله تعالى
سَيُطَوَّقُونَ على هذا التأويل معناه سيحملون عقاب ما بخلوا
به، فهو من الطاقة كما قال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ [البقرة: 184] وليس من التطويق، وقال إبراهيم
النخعي: سَيُطَوَّقُونَ سيجعل لهم يوم القيامة طوق من نار،
وهذا يجري مع التأويل الأول الذي ذكرته للسدي وغيره، وقال
مجاهد: سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به يوم القيامة، وهذا
يضرب مع قوله: إن البخل هو بالعلم الذي تفضل الله عليهم بأن
علمهم إياه وإعراب قوله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ رفع في
قراءة من قرأ «يحسبن» بالياء من أسفل والمفعول الأول مقدر
بالصلة تقديره «ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم من فضله
بخلهم هو خيرا» ، والمفعول الثاني خيرا، وهو فاصلة وهي العماد
عند الكوفيين، ودل قوله: يَبْخَلُونَ على هذا البخل المقدر كما
دل السفيه على السفه في قول الشاعر: [الوافر]
إذ نهي السّفيه جرى إليه ... وخالف، والسّفيه إلى خلاف
فالمعنى جرى إلى السفه، وأما من قرأ «تحسبن» بالتاء من فوق ففي
الكلام حذف مضاف هو المفعول الأول، تقديره ولا تحسبن يا محمد
بخل الذين يبخلون خيرا لهم، قال الزّجاج: وهي مثل وَسْئَلِ
الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وقوله تعالى: وَلِلَّهِ مِيراثُ
السَّماواتِ خطاب على ما يفعله البشر دال على فناء الجميع وأنه
لا يبقى مالك إلا الله تعالى وإن كان ملكه تعالى على كل شيء لم
يزل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «والله بما يعملون» بالياء من
أسفل على ذكر الذين يبخلون ويطوقون، وقرأ الباقون بالتاء من
فوق، وذلك على الرجوع من الغيبة إلى المخاطبة لأنه قد تقدم
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران: 179] .
وقوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ الآية، قال ابن عباس: نزلت
بسبب فنحاص اليهودي وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث
أبا بكر الصديق رضي الله عنه إلى بيت المدراس ليدعوهم فوجد فيه
جماعة من اليهود قد اجتمعوا على فنحاص- وهو حبرهم- فقال أبو
بكر له: يا فنحاص اتق الله وأسلم فو الله إنك لتعلم أن محمدا
رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في
التوراة، فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من
حاجة وإنه إلينا لفقير وإنّا عنه لأغنياء، ولو كان غنيا لما
استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، في كلام طويل غضب أبو بكر
منه، فرفع يده فلطم وجه فنحاص وسبه وهمّ بقتله، ثم منعه من ذلك
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تحدث شيئا حتى
تنصرف إليّ، ثم
(1/547)
ذَلِكَ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ
إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا
بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ
مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ
قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
ذهب فنحاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فشكا فعل أبي بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ما
حملك على ما صنعت؟ قال يا رسول الله: إنه قال قولا عظيما فلم
أملك نفسي أن صنعت ما صنعت، فنزلت الآية في ذلك وقال قتادة:
نزلت الآية في حيي بن أخطب، وذلك أنه لما نزلت مَنْ ذَا
الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة: 245] قال:
يستقرضنا ربنا؟ إنما يستقرض الفقير الغني، وقال الحسن بن أبي
الحسن ومعمر وقتادة أيضا وغيرهم: لما نزلت مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة:
245] ، قالت اليهود: إنما يستقرض الفقير من الغني، ولا محالة
أن هذا قول صدر أولا عن فنحاص وحيي وأشباههما من الأحبار ثم
تقاولها اليهود، وهو قول يغلط به الأتباع ومن لا علم عنده
بمقاصد الكلام، وهذا تحريف اليهود التأويل على نحو ما صنعوا في
توراتهم وقوله تعالى: قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا دال على أنهم
جماعه.
قرأ حمزة وحده «سيكتب» بالياء من أسفل على بناء الفعل للمفعول
و «قتلهم» برفع اللام عطفا على المفعول الذي لم يسم فاعله، و
«يقول» بالياء من أسفل، وقرأ الباقون بنون الجمع، فإما أنها
نون العظمة، وإما هي للملائكة وما على هذه القراءة مفعولة بها،
و «قتلهم» بنصب اللام عطفا على ما وَنَقُولُ بالنون على نحو
سَنَكْتُبُ والمعنى في هاتين القراءتين قريب بعضه من بعض، قال
الكسائي: وفي قراءة عبد الله بن مسعود «ويقال ذوقوا» وقال أبو
معاذ النحوي في حرف ابن مسعود: «سنكتب ما يقولون ويقال لهم
ذوقوا» وقرأ طلحة بن مصرف «سنكتب ما يقولون» وحكى أبو عمرو عنه
أيضا أنه قرأ «ستكتب» بتاء مرفوعة ما قالُوا، بمعنى: ستكتب
مقالتهم، وهذه الآية وعيد لهم، أي سيحصى عليهم قولهم، والكتب
فيما قال كثير من العلماء هو في صحف تقيده الملائكة فيها، وتلك
الصحف المكتوبة هي التي توزن وفيها يخلق الله الثقل والخفة
بحسب العمل المكتوب فيها، وذهب قوم إلى أن الكتب عبارة عن
الإحصاء وعدم الإهمال، فعبر عن ذلك بما تفهم العرب منه غاية
الضبط والتقييد، فمعنى الآية: أن أقوال هؤلاء تكتب وأعمالهم،
ويتصل ذلك بأفعال آبائهم من قتل الأنبياء بغير حق ونحوه، ثم
يقال لجميعهم ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ وخلطت الآية الآباء مع
الأبناء في الضمائر، إذ الآباء هم الذين طوقوا لأبنائهم الكفر
وإذ الأبناء راضون بأفعال الآباء متبعون لهم، والذوق مع العذاب
مستعار، عبارة عن المباشرة، إذ الذوق من أبلغ أنواعها وحاسته
مميزة جدا، والْحَرِيقِ معناه: المحرق فعيل بمعنى مفعل وقيل:
الْحَرِيقِ طبقة من طبقات جهنم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 182 الى 183]
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ
بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ
عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا
بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ
مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ
قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)
وقوله تعالى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ توبيخ وتوقيف
داخل فيما يقال لهم يوم القيامة، ويحتمل أن
(1/548)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ
وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
يكون خطابا لمعاصري النبي عليه السلام يوم
نزول الآية، ونسب هذا التقديم إلى اليد إذ هي الكاسبة للأعمال
في غالب أمر الإنسان، فأضيف كل كسب إليها، ثم بين تعالى: أنه
يفعل هذا بعدل منه فيهم ووضع الشيء موضعه، والتقدير: وبأن الله
لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وجمع «عبدا» في هذه الآية على
عبيد، لأنه مكان تشفيق وتنجية من ظلم.
وقوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا
صفة راجعة إلى قوله: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ
وقال الزجاج: الَّذِينَ صفة للعبيد، وهذا مفسد للمعنى والرصف،
وهذه المقالة قالتها أحبار يهود مدافعة لأمر النبي صلى الله
عليه وسلم أي إنك لا تأتي بنار فنحن قد عهد إلينا أن لا نؤمن
لك، وعَهِدَ معناه: أمر والعهد: أخص من الأمر، وذلك أنه في كل
ما يتطاول أمره ويبقى في غابر الزمان، وتعدى «آمن» في هذه
الآية باللام والباء في ضمن ذلك، «وقربان» مصدر سمي به الشيء
الذي يقرب كالرهن، وكان أمر القربان حكما قديما في الأنبياء،
ألا ترى أن ابني آدم قربا قربانا، وذلك أنهم كانوا إذا أرادوا
معرفة قبول الله تعالى لصدقة إنسان أو عمله أو صدق قوله، قرب
قربانا شاة أو بقرة ذبيحة أو بعض ذلك وجعله في مكان للهواء
وانتظر به ساعة، فتنزل نار من السماء فتحرق ذلك الشيء، فهذه
علامة القبول، وإذا لم تنزل النار فليس ذلك العمل بمقبول، ثم
كان هذا الحكم في أنبياء بني إسرائيل، وكانت هذه النار أيضا
تنزل لأموال الغنائم فتحرقها، حتى أحلت الغنائم لمحمد صلى الله
عليه وسلم حسب الحديث وروي عن عيسى بن عمر، أنه كان يقرأ
«بقربان» بضم الراء وذلك للإتباع لضمة القاف وليست بلغة، لأنه
ليس في الكلام فعلان بضم الفاء والعين، وقد حكى سيبويه:
السلطان بضم اللام، وقال: إن ذلك على الإتباع.
قوله تعالى:
قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ ...
هذا رد عليهم في مقالتهم وتبيين لإبطالهم، أي: قَدْ جاءَكُمْ
رُسُلٌ بالآيات الباهرة البينة، وفي جملتها ما قلتم من أمر
القربان فلم قتلتموهم يا بني إسرائيل المعنى بل هذا منكم تعلل
وتعنت، ولو أتيتكم بالقربان لتعللتم بغير ذلك، والاقتراح لا
غاية له، ولا يجاب كل مقترح، ولم يجب الله مقترحا إلا وقد أراد
تعذيبه وأن لا يمهله، كقوم صالح وغيرهم، وكذلك قيل لمحمد في
اقتراح قريش فأبى، وقال: بل أدعوهم وأعالجهم.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 184]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)
ثم آنس تعالى نبيه بالأسوة والقدوة فيمن تقدم من الأنبياء أي:
فلا يعظم عليك ذلك، وقرأ ابن عامر: و «بالزبر» بإعادة باء
الجر، وسقوطها على قراءة الجمهور متجه، لأن الواو شركت الزبر
في الباء الأولى فاستغني عن إعادة الباء، وإعادتها أيضا متجهة
لأجل التأكيد، وكذلك ثبتت في مصاحف أهل الشام، وروي أيضا عن
ابن عامر إعادة الباء في قوله: «وبالكتاب المنير» والزُّبُرِ:
الكتاب المكتوب يقال: زبرت الكتاب إذا كتبته، وزبرته إذا
قرأته، والشاهد لأنه الكتاب قول امرئ القيس: [الطويل]
(1/549)
كُلُّ نَفْسٍ
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا
مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى
كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ
عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ
وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ
وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ
(187)
لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخطّ زبور في
عسيب يماني؟
وقال الزجّاج: زبرت كتبت، وذبرت بالذال: قرأت، و «المنير» :
وزنه مفعل من النور أي سطع نوره.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : آية 185]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ
أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ
وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا
إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)
والمعنى: كل نفس مخلوقة حية، والذوق هنا: استعارة وَإِنَّما
حاصرة على التوفية التي هي على الكمال، لأن من قضي له بالجنة
فهو ما لم يدخلها غير موفى، وخص تعالى ذكر «الأجور» لشرفها
وإشارة مغفرته لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ولا محالة أن
المعنى: أن يوم القيامة تقع توفية الأجور وتوفية العقاب،
وزُحْزِحَ معناه: أبعد، والمكان الزحزح: البعيد، وفاز معناه:
نجا من خطره وخوفه، والْغُرُورِ، الخدع والترجية بالباطل،
والحياة الدنيا وكل ما فيها من الأموال فهي متاع قليل تخدع
المرء وتمنيه الأباطيل وعلى هذا فسر الآية جمهور من المفسرين،
قال عبد الرحمن بن سابط: مَتاعُ الْغُرُورِ كزاد الراعي يزود
الكف من التمر أو الشيء من الدقيق يشرب عليه اللبن، قال
الطبري: ذهب إلى أن متاع الدنيا قليل لا يكفي من تمتع به ولا
يبلغه سفره.
قال القاضي: والْغُرُورِ في هذا المعنى مستعمل في كلام العرب،
ومنه قولهم في المثل: غش ولا تغتر، أي لا تجتز بما لا يكفيك،
وقال عكرمة: مَتاعُ الْغُرُورِ، القوارير أي لا بد لها من
الانكسار والفساد، فكذلك أمر الحياة الدنيا كله، وهذا تشبيه من
عكرمة، وقرأ عبد الله بن عمر «الغرور» بفتح الغين، وقرأ أبو
حيوة والأعمش: ذائِقَةُ بالتنوين الْمَوْتِ بالنصب، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم، لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا
وما فيها، ثم تلا هذه الآية.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 186 الى 187]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
(186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ
فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً
قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)
هذا الخطاب للنبي عليه السلام وأمته، والمعنى: لتختبرن
ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء، وبالإنفاق في سبيل
الله، وفي سائر تكاليف الشرع، والابتلاء في الأنفس بالموت
والأمراض، وفقد الأحبة بالموت، واختلف المفسرون في سبب قوله
تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ فقال عكرمة وغيره: السبب في ذلك قول فنحاص: إن الله
فقير ونحن أغنياء، وقوله: يد الله مغلولة
(1/550)
إلى غير ذلك، وقال الزهري وغيره: نزلت هذه
الآية بسبب كعب بن الأشرف، فإنه كان يهجو النبي صلى الله عليه
وسلم، وأصحابه ويشبب بنساء المسلمين، حتى بعث إليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم من قتله القتلة المشهورة في السيرة، و
«الأذى» : اسم جامع في معنى الضرر وهو هنا يشمل أقوالهم فيما
يخص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من سبهم وأقوالهم في جهة
الله تعالى وأنبيائه، وندب الله تعالى عباده إلى الصبر
والتقوى، وأخبر أنه من عزم الأمور، أي من أشدها وأحسنها، و
«العزم» : إمضاء الأمر المروي المنقح، وليس ركوب الأمر دون
روية عزما إلا على مقطع المشيخين من فتاك العرب كما قال:
إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ... ونكّب عن ذكر الحوادث جانبا
وقال النقاش: العزم والحزم بمعنى واحد، الحاء مبدلة من العين.
قال القاضي: وهذا خطأ، والحزم: جودة النظر في الأمور وتنقيحه
والحذر من الخطأ فيه، و «العزم» :
قصد الإمضاء، والله تعالى يقول: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ،
فَإِذا عَزَمْتَ [آل عمران: 159] فالمشاورة وما كان في معناها
هو الحزم، والعرب تقول: قد أحزم لو أعزم.
وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ الآية، توبيخ لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم، ثم
هو مع ذلك خبر عام لهم ولغيرهم. والعامل في إِذْ فعل مقدر
تقديره اذكر، وأخذ هذا الميثاق وهو على ألسنة الأنبياء أمة بعد
أمة، وقال ابن عباس والسدي وابن جريج: الآية في اليهود خاصة،
أخذ الله عليهم الميثاق في أمر محمد فكتموه ونبذوه، قال مسلم
البطين: سأل الحجاج بن يوسف جلساءه عن تفسير هذه الآية فقام
رجل إلى سعيد بن جبير فسأله فقال له: نزلت في يهود أخذ الميثاق
عليهم في أمر محمد فكتموه، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «وإذ أخذ
الله ميثاق النبيين لتبيننه» فيجيء قوله فَنَبَذُوهُ عائدا على
الناس الذين بين الأنبياء لهم، وقال قوم من المفسرين: الآية في
اليهود والنصارى، وقال جمهور من العلماء: الآية عامة في كل من
علمه الله علما، وعلماء هذه الأمة داخلون في هذا الميثاق، وقد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم فكتمه ألجم
يوم القيامة بلجام من نار، وقد قال أبو هريرة: إني لأحدثكم
حديثا، ولولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ثم تلا إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ
[البقرة: 174] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي
بكر: «ليبيننه للناس ولا يكتمونه» ، بالياء من أسفل فيهما،
وقرأ الباقون وحفص وعاصم بالتاء من فوق فيهما، وكلا القراءتين
متجه، والضمير في الفصلين عائد على الكتاب، وفي قراءة ابن
مسعود «لتبينونه» دون النون الثقيلة، وقد لا تلزم هذه النون
لام القسم، قاله سيبويه، و «النبذ» : الطرح، وقوله تعالى:
وَراءَ ظُهُورِهِمْ، استعارة لما يبالغ في اطراحه، ومنه
وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا [هود: 92] ، ومنه قول
الفرزدق: [الطويل]
تميم بن مرّ لا تكوننّ حاجتي ... بظهر فلا يعبى عليّ جوابها
ومنه بالمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجعلوني كقدح
الراكب. أراد عليه السلام، لا تجعلوا ذكري وطاعتي خلف أظهركم،
وهو موضع القدح ومنه قول حسان: [الطويل] (كما نيط خلف الراكب
القدح الفرد)
(1/551)
لَا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ
يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ
بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ
لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
والتشبيه بالقدح إنما هو في هيئته لا في
معناه، لأن الراكب يحتاجه، ومحله من محلات الراكب جليل، والثمن
القليل: هو مكسب الدنيا. وباقي الآية بين.
قال أبو محمد: والظاهر في هذه الآية أنها نزلت في اليهود، وهم
المعنيون ثم إن كل كاتم من هذه الأمة يأخذ بحظه من هذه المذمة
ويتصف بها.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 188 الى 190]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا
وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا
تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ
لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190)
اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى: الَّذِينَ يَفْرَحُونَ
فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وابن زيد وجماعة: الآية
نزلت في المنافقين، وذلك أنهم كانوا إذا خرج النبي صلى الله
عليه وسلم للغزو تخلفوا عنه، فإذا جاء اعتذروا إليه وقالوا:
كانت لنا أشغال ونحو هذا، فيظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم
القبول ويستغفر لهم، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية، فكانوا
يفرحون بما يأتونه ويفعلونه من التخلف والاعتذار، ويحبون أن
يقال لهم: إنهم في حكم المجاهدين لكن العذر حبسهم، وقالت جماعة
كثيرة من المفسرين إنما نزلت الآية في أهل الكتاب أحبار اليهود
ثم اختلفوا فيما هو الذي أتوه وكيف أحبوا المحمدة فقال ابن
عباس رضي الله عنه: أتوا إضلال أتباعهم عن الإيمان بمحمد
وفرحوا بذلك لدوام رياستهم الدنيوية، وأحبوا أن يقال عنهم:
إنهم علماء بكتاب الله ومتقدم رسالاته، وقال ابن عباس أيضا
والضحاك والسدي: أتوا أنهم تعاقدوا وتكاتبوا من كل قطر
بالارتباط إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم والدفع في صدر
نبوته، وأحبوا أن يقال عنهم: إنهم أهل صلاة وصيام وعبادة،
وقالوا هم ذلك عن أنفسهم، وقال مجاهد: فرحوا بإعجاب أتباعهم
بتبديلهم تأويل التوراة، وأحبوا حمدهم إياهم على ذلك، وهم في
الحقيقة لم يفعلوا شيئا نافعا ولا صحيحا بل الحق أبلج، وقال
سعيد بن جبير: الآية في اليهود، فرحوا بما أعطى الله آل
إبراهيم من النبوءة والكتاب، فهم يقولون: نحن على طريقهم
ويحبون أن يحمدوا بذلك وهم ليسوا على طريقتهم، وقراءة سعيد بن
جبير: «أوتوا» بمعنى أعطوا بضم الهمزة والتاء، وعلى قراءته
يستقيم المعنى الذي قال. وقال ابن عباس أيضا: إن الآية نزلت في
قوم سألهم النبي عليه السلام عن شيء فكتموه الحق وقالوا له غير
ذلك، ففرحوا بما فعلوا وأحبوا أن يحمدوا بما أجابوا، وظنوا أن
ذلك قد قنع به واعتقدت صحته، وقال قتادة: إن الآية في يهود
خيبر، نافقوا على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين مرة،
وقالوا: نحن معكم وعلى رأيكم وردء لكم وهم يعتقدون خلاف ذلك،
فأحبوا الحمد على ما أظهروا وفرحوا بذلك، وقال الزجّاج: نزلت
الآية في قوم من اليهود، دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم
وكلموه في أشياء ثم خرجوا، فقالوا لمن لقوا من المسلمين: إن
النبي أخبرهم بأشياء قد عرفوها فحمدهم المسلمون على ذلك وطمعوا
بإسلامهم وكانوا قد أبطنوا خلاف ما أظهروا
(1/552)
للمسلمين وتمادوا على كفرهم، فنزلت الآية
فيهم وقرأ جمهور الناس: «أتوا» بمعنى فعلوا، كما تقول أتيت أمر
كذا، وقرأ مروان بن الحكم وإبراهيم النخعي: «آتوا» بالمد،
بمعنى أعطوا بفتح الهمزة والطاء.
قال أبو محمد: وهي قراءة تستقيم على بعض المعاني التي تقدمت،
وقرأ سعيد بن جبير وأبو عبد الرحمن السلمي، «أوتوا» بمعنى
أعطوا، وقد تقدمت مع معناها وقرأ أبو عمرو وابن كثير، لا يحسبن
الذين يفرحون «فلا يحسبنهم» بالياء من تحت فيهما وبكسر السين
وبرفع الباء في يحسبنهم، قال أبو علي: الَّذِينَ رفع بأنه فاعل
«يحسب» ، ولم تقع «يحسبن» على شيء، وقد تجيء هذه الأفعال لغوا
لا في حكم الجمل المفيدة نحو قول الشاعر: [الطويل]
وما خلت أبقى بيننا من مودة ... عراض المذاكي المسنفات
القلائصا
وقال الخليل: العرب تقول: ما رأيته يقول ذلك إلا زيد، وما
ظننته يقول ذلك إلا زيد فتتجه القراءة بكون قوله: «فلا
تحسبنهم» بدلا من الأول وقد عدي إلى مفعوليه وهما الضمير،
وقوله بِمَفازَةٍ فاستغني بذلك عن تعدية الأول إليها كما
استغني في قول الشاعر: [الطويل]
بأيّ كتاب أو بأيّة سنّة ... ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب؟
فاستغني بتعدية أحد الفعلين عن تعدية الآخر، والفاء في قوله
فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ زائدة، ولذلك حسن البدل، إذ لا يتمكن أن
تكون فاء عطف ولا فاء جزاء، فلم يبق إلا أن تكون زائدة لا يقبح
وجودها بين البدل والمبدل منه، وقوله على هذه القراءة «فلا
يحسبنهم» ، فيه تعدي فعل الفاعل إلى ضمير نفسه، نحو ظننتني
أخاه، ورأيتني الليلة عند الكعبة، ووجدتني رجعت من الإصغاء،
وذلك أن هذه الأفعال وما كان في معناها لما كانت تدخل على
الابتداء والخبر أشبهت «أن» وأخواتها، فكما تقول: إني ذاهب،
فكذلك تقول: ظننتني ذاهبا، ولو قلت: أظن نفسي أفعل كذا لم
يحسن، كما يحسن: أظنني فاعلا، قرأ نافع وابن عامر: «لا يحسبن
الذين» بالياء من تحت وفتح الباء، وكسر نافع السين، وفتحها ابن
عامر «فلا تحسبنهم» بالتاء من فوق، وفتح الباء، والمفعولان
اللذان يقتضيهما قوله «لا يحسبن الذين» محذوفان لدلالة ما ذكر
بعده، والكلام في ذلك كما تقدم في قراءة ابن كثير، إلا أنه لا
يجوز في هذا البدل الذي ذكره في قراءة ابن كثير وأبي عمرو
لاختلاف الفعلين واختلاف فعليهما، وقرأ حمزة «لا تحسبن» بالتاء
من فوق وكسر السين «فلا تحسبنهم» بالتاء من فوق وكسر السين
وفتح الباء ف الَّذِينَ على هذه القراءة مفعول أول «لتحسبن» ،
والمفعول الثاني محذوف لدلالة ما يجيء بعد عليه، كما قيل آنفا
في المفعولين، وحسن تكرار الفعل في قوله «فلا تحسبنهم» لطول
الكلام، وهي عادة العرب وذلك تقريب لذهن المخاطب، وقرأ الضحاك
بن مزاحم «فلا تحسبنهم» بالتاء من فوق وفتح السين وضم الباء، و
«المفازة» : مفعلة من فاز يفوز إذا نجا فهي بمعنى منجاة، وسمي
موضع المخاف مفازة على جهة التفاؤل، قاله الأصمعي وقيل: لأنها
موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول العرب: فوز الرجل إذا مات قال
ثعلب: حكيت لابن الأعرابي قول الأصمعي فقال:
أخطأ، قال لي أبو المكارم: إنما سميت «مفازة» لأن من قطعها
فاز، وقال الأصمعي: سمي اللديغ سليما تفاؤلا، قال ابن
الأعرابي: بل لأنه مستسلم لما أصابه، وبعد أن نهى أن يحسبوا
ناجين أخبر أن لهم عذابا.
(1/553)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ
النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنْصَارٍ (192)
ثم استفتح القول بذكر قدرة الله تعالى
وملكه فقال: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية،
قال بعض المفسرين: الآية رد على الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ
فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: 181] وقوله تعالى:
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. قال القاضي ابن الطيب
وغيره: ظاهره العموم، ومعناه الخصوص لأن الله تعالى لا يوصف
بالقدرة على المحالات هو الموجود في مقتضى كلام العرب.
ثم دل على مواضع النظر والعبرة، حيث يقع الاستدلال على الصانع
بوجود السماوات والأرضين والمخلوقات دال على العلم، ومحال أن
يكون موجود عالم مريد غير حي، فثبت بالنظر في هذه الآية عظم
الصفات وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ هو تعاقبهما، إذ
جعلهما الله خلفة، ويدخل تحت لفظة الاختلاف كونهما يقصر هذا
ويطول الآخر وبالعكس، ويدخل في ذلك اختلافهما بالنور والظلام،
و «الآيات» :
العلامات والْأَلْبابِ في هذه الآية: هي ألباب التكليف لا
ألباب التجربة، لأن كل من له علوم ضرورية يدركها فإنه يعلم
ضرورة ما قلناه من صفات الله تعالى.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 191 الى 192]
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى
جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ
فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ
النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنْصارٍ (192)
الَّذِينَ في موضع خفض صفة لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمران:
190] ، وهذا وصف ظاهره استعمال التحميد والتهليل والتكبير
ونحوه من ذكر الله، وأن يحصر القلب اللسان، وذلك من أعظم وجوه
العبادات، والأحاديث في ذلك كثيرة، وابن آدم منتقل في هذه
الثلاث الهيئات لا يخلو في غالب أمره منها فكأنها تحصر زمنه،
وكذلك جرت عائشة رضي الله عنها إلى حصر الزمن في قولها، كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه، فدخل
في ذلك كونه على الخلاء وغير ذلك، وذهبت جماعة من المفسرين إلى
أن قوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، إنما هو عبارة عن
الصلاة، أي لا يضيعونها ففي حال العذر يصلونها قعودا وعلى
جنوبهم، قال بعضهم وهي كقوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمُ
الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [النساء: 103] ، هذا تأويل من
تأول هنالك قضيتم بمعنى أديتم، لأن بعض الناس يقول قضيتم هنالك
بمعنى فرغتم منها، فإذا كانت هذه الآية في الصلاة ففقهها أن
الإنسان يصلي قائما، فإن لم يستطيع فقاعدا، ظاهر المدونة
متربعا، وروي عن مالك وبعض أصحابه أنه يصلي كما يجلس بين
السجدتين، فإن لم يستطع القعود صلى على جنبه أو ظهره على
التخيير، هذا مذهب المدونة، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم يصلي
على ظهره، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن، ثم على الأيسر، وفي
كتاب ابن المواز، يصلي على جنبه الأيمن، وإلا فعلى الأيسر،
وإلا فعلى الظهر، وقال سحنون يصلي على الأيمن كما يجعل في
لحده، وإلا فعلى ظهره، وإلا فعلى الأيسر، وحسن عطف قوله وَعَلى
جُنُوبِهِمْ، على قوله: قِياماً وَقُعُوداً لأنه في معنى
مضطجعين، ثم عطف على هذه العبادة التي هي ذكر الله باللسان أو
الصلاة فرضها ومندوبها بعبادة أخرى
(1/554)
عظيمة، وهي الفكرة في قدرة الله تعالى
ومخلوقاته، والعبر التي بث: [المتقارب]
وفي كل شيء له آية ... تدلّ على أنّه واحد
ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال:
تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق، فإنكم لا تقدرون قدره،
وهذا هو قصد الآية: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ، وقال بعض العلماء: المتفكر في ذات الله تعالى
كالناظر في عين الشمس، لأنه تعالى ليس كمثله شيء، وإنما
التفكير وانبساط الذهن في المخلوقات، وفي مخاوف الآخرة، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عبادة كتفكر، وقال الحسن بن
أبي الحسن: الفكرة مرآة المؤمن، ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته،
وقال ابن عباس وأبو الدرداء: فكرة ساعة خير من قيام ليلة، وقال
سري السقطي: فكرة ساعة خير من عبادة سنة، ما هو إلا أن تحل
أطناب خيمتك فتجعلها في الآخرة، وأخذ أبو سليمان الداراني قدح
الماء ليتوضا لصلاة الليل وعنده ضيف، فرآه لما أدخل أصبعه في
أذن القدح أقام كذلك مفكرا حتى طلع الفجر، فقال له ما هذا يا
أبا سليمان؟ فقال: إني لما طرحت أصبعي في أذن القدح تذكرت قول
الله جل وتعالى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ
وَالسَّلاسِلُ [غافر: 71] ، ففكرت في حالي، وكيف أتلقى الغل إن
طرح في عنقي يوم القيامة، فما زلت في ذلك حتى أصبحت.
قال القاضي: فهذه نهاية الخوف، وخير الأمور أوسطها، وليس علماء
الأمة الذين هم الحجة على هذا المنهاج، وقراءة علم كتاب الله
ومعاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يفهم ويرجى نفعه
أفضل من هذا، لكنه يحسن أن لا تخلو البلاد من مثل هذا، وحدثني
أبي رضي الله عنه عن بعض علماء المشرق قال: كنت بائتا في مسجد
الأقدام بمصر، فصليت العشاء فرأيت رجلا قد اضطجع في كساء له
مسجى بكسائه حتى أصبح، وصلينا نحن تلك الليلة وسهرنا، فلما
أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل فاستقبل القبلة فصلى مع الناس،
فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء، فلما فرغت الصلاة خرج
فتبعته لأعظه فلما دنوت منه سمعته ينشد: [المنسرح]
منسحق الجسم غائب حاضر ... منتبه القلب صامت ذاكر
منقبض في الغيوب منبسط ... كذاك من كان عارفا ذاكرا
يبيت في ليله أخا فكر ... فهو مدى اللّيل نائم ساهر
قال فعلمت أنه ممن يعبد بالفكرة وانصرفت عنه، وقوله تعالى:
رَبَّنا معناه يقولون ربنا على النداء، ما خلقت هذا باطلا،
يريد لغير غاية منصوبة بل خلقته وخلقت البشر لينظر فيه فتوحد
وتعبد، فمن فعل ذلك نعمته ومن ضل عن ذلك عذبته لكفره وقوله
عليك ما لا يليق بك، ولهذا المعنى الذي تعطيه قوة اللفظ حسن
قولهم: سُبْحانَكَ: أي تنزيها لك عما يقول المبطلون وحسن
قولهم: فَقِنا عَذابَ النَّارِ إذ نحن المسبحون المنزهون لك
الموحدون.
وقولهم: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ
أَخْزَيْتَهُ، استجارة واستعاذة، أي فلا تفعل بنا ذلك ولا
تجعلنا ممن يعمل عملها، والخزي: الفضيحة المخجلة الهادمة لقدر
المرء، خزي الرجل يخزى خزيا إذا
(1/555)
رَبَّنَا إِنَّنَا
سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا
بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ
الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى
رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا
تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
افتضح، وخزاية إذا استحيى، الفعل واحد
والمصدر مختلف، وقال أنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وابن
جريج وغيرهم: هذه إشارة إلى من يخلد في النار، ومن يخرج منها
بالشفاعة والإيمان فليس بمخزي، وقال جابر بن عبد الله وغيره:
كل من دخل النار فهو مخزي وإن خرج منها، وإن في دون ذلك لخزيا.
قال القاضي: أما إنه خزي دون خزي وليس خزي من يخرج منها بفضيحة
هادمة لقدره، وإنما الخزي التام للكفار وقوله تعالى: وَما
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ هو من قول الداعين، وبذلك يتسق
وصف الآية.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 193 الى 194]
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ
آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا
ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ
الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى
رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا
تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)
هذه الآيات حكاية عن أولي الألباب أنهم يقولون: رَبَّنا قال
أبو الدرداء: يرحم الله المؤمنين ما زالوا يقولون: «ربنا ربنا»
حتى استجيب لهم، واختلف المتأولون في المنادي، فقال ابن جريج
وابن زيد وغيرهما: المنادى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال محمد
بن كعب القرظي: المنادي كتاب الله وليس كلهم رأى النبي صلى
الله عليه وسلم وسمعه، ولما كانت يُنادِي بمنزلة يدعو، حسن
وصولها باللام بمعنى «إلى الإيمان» ، وقوله: أَنْ آمِنُوا «أن»
مفسرة لا موضع لها من الإعراب، وغفران الذنوب وتكفير السيئات
أمر قريب بعضه من بعض، لكنه كرر للتأكيد ولأنها مناح من الستر،
وإزالة حكم الذنب بعد حصوله، والْأَبْرارِ جمع بر، أصله برر
على وزن فعل، أدغمت الراء في الراء، وقيل: هو جمع بار كصاحب
وأصحاب، والمعنى: توفنا معهم في كل أحكامهم وأفعالهم.
وقوله: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ معناه:
على ألسنة رسلك، وقرأ الأعمش «رسلك» بسكون السين، وطلبوا من
الله تعالى إنجاز الوعد، وهو تعالى من لا يجوز عليه خلفه من
حيث في طلبه الرغبة أن يكونوا ممن يستحقه، فالطلبة والتخوف
إنما هو في جهتهم لا في جهة الله تعالى لأن هذا الدعاء إنما هو
في الدنيا، فمعنى قول المرء: اللهم أنجز لي وعدك، إنما معناه:
اجعلني ممن يستحق إنجاز الوعد، وقيل: معنى دعائهم الاستعجال مع
ثقتهم بأن الوعد منجز، وقال الطبري وغيره: معنى الآية ما
وعدتنا على ألسنة رسلك من النصر على الأعداء فكأن الدعوة إنما
هي في حكم الدنيا، وقولهم: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ
إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ، إشارة إلى قوله تعالى: يَوْمَ
لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
[التحريم: 8] فهذا وعده تعالى وهو دال على أن الخزي إنما هو مع
الخلود.
قوله تعالى:
(1/556)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ
هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي
سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
[سورة آل عمران (3) : آية 195]
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ
مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ
فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا
فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ
عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)
«استجاب» استفعل بمعنى أجاب، فليس استفعل على بابه من طلب
الشيء بل هو كما قال الشاعر: [الطويل]
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي لم يجبه، وقوله: أَنِّي يجوز أن تكون «أن» مفسرة ويمكن أن
تكون بمعنى «أني» ، وقرأ عيسى بن عمر: «إني» بكسر الهمزة، وهذه
آية وعد من الله تعالى: أي هذا فعله مع الذين يتصفون بما ذكر،
وروي أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، قد ذكر
الله تعالى الرجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك،
فنزلت الآية، ونزلت آيات في معناها فيها ذكر النساء، وقوله:
مِنْ ذَكَرٍ تبيين لجنس العامل، وقال قوم: مِنْ زائدة لتقدم
النفي من الكلام وقوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ يعني في
الأجر وتقبل العمل، أي إن الرجال والنساء في ذلك على حد واحد،
وبيّن تعالى حال المهاجرين، ثم الآية بعد تنسحب على كل من أوذي
في الله تعالى وهاجر أيضا إلى الله تعالى وإن كان اسم الهجرة
وفصلها الخاص بها قد انقطع بعد الفتح، فالمعنى باق إلى يوم
القيامة، وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: 261] و
«هاجر» مفاعلة من اثنين، وذلك أن الذي يهجر وطنه وقرابته في
الله كان الوطن والقرابة يهجرونه أيضا فهي مهاجرة، وقوله
تعالى: وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ عبارة إلزام ذنب للكفار،
وذلك أن المهاجرين إنما أخرجهم سوء العشرة وقبيح الأفعال
فخرجوا باختيارهم فإذا جاء الكلام في مضمار إلزام الذنب،
للكفار قيل أخرجوا من ديارهم، وإخراج أهله منه أكبر عند الله،
إلى غير ذلك من الأمثلة، وإذا جاء الكلام في مضمار الفخر
والقوة على الأعداء، تمسك بالوجه الآخر من أنهم خرجوا برأيهم،
فمن ذلك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان بن
الحارث حين أنشده: [الطويل] (وردني ... إلى الله من طردت كل
مطرد) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت طردتني كل
مطرد؟ إنكارا عليه ومن ذلك قول كعب بن زهير: [البسيط]
في عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكّة لمّا أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف ... عند اللّقاء ولا ميل معازيل
وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو: «وقاتلوا وقتلوا» بتخفيف التاء وضم
القاف، ومعنى هذه القراءة بيّن، وقرأ ابن كثير: «وقاتلوا
وقتّلوا» بتشديد التاء وهي في المعنى كالأولى في المبالغة في
القتل، وقرأ حمزة والكسائي: «وقتلوا وقاتلوا» يبدآن بالفعل
المبني للمفعول به، وكذلك اختلافهم في سورة التوبة، غير أن ابن
كثير وابن عامر يشددان في التوبة، ومعنى قراءة حمزة هذه: إما
أن لا تعطى الواو رتبة لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولا
في المعنى وليس كذلك العطف بالفاء، ويجوز أن يكون المعنى
وقتلوا وقاتل
(1/557)
لَا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ
قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
(197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ
لِلْأَبْرَارِ (198)
باقيهم فتشبه الآية قوله تعالى: فَما
وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ [آل عمران: 146] على تأويل من رأى أن
القتل وقع بالربيين، وقرأ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: و
«قتلوا» بفتح القاف والتاء من غير ألف، و «قتلوا» بضم القاف
وكسر التاء خفيفة، وهي قراءة حسنة المعنى مستوفية للفضلين على
الترتيب المتعارف، وقرأ محارب بن دثار: «وقتلوا» بفتح القاف
«وقاتلوا» ، وقرأ طلحة بن مصرف: «وقتّلوا» بضم القاف وشد التاء
«وقاتلوا» وهذه يدخلها إما رفض رتبة الواو، وإما أنه قاتل من
بقي، واللام في قوله: لَأُكَفِّرَنَّ لام القسم وثَواباً مصدر
مؤكد مثل قوله: صُنْعَ اللَّهِ [النمل: 88] وكِتابَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ [النساء: 24] وباقي الآية بين.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 198]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ
(196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ
لِلْأَبْرارِ (198)
نزلت لا يَغُرَّنَّكَ في هذه الآية، منزلة: لا تظن أن حال
الكفار حسنة فتهتم لذلك، وذلك أن المغتر فارح بالشيء الذي يغتر
به، فالكفار مغترون بتقلبهم والمؤمنون مهتمون به، لكنه ربما
يقع في نفس مؤمن أن هذا الإملاء للكفار إنما هو لخير لهم،
فيجيء هذا جنوحا إلى حالهم ونوعا من الاغترار فلذلك حسنت لا
يَغُرَّنَّكَ ونظيره قول عمر لحفصة: لا يغرنك إن كانت جارتك
أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعنى: لا
تغتري بما يتم لتلك من الإدلال فتقعي فيه فيطلقك النبي صلى
الله عليه وسلم، والخطاب للنبي عليه السلام، والمراد أمته
وللكفار في ذلك حظ، أي لا يغرنكم تقلبهم، وقرأ ابن أبي إسحاق
ويعقوب: «لا يغرنك» بسكون النون خفيفة، وكذلك «لا يصدنك ولا
يصدنكم ولا يغرنكم» - وشبهه، و «التقلب» : التصرف في التجارات
والأرباح والحروب وسائر الأعمال، ثم أخبر تعالى عن قلة ذلك
المتاع، لأنه منقض صائر إلى ذل وقل وعذاب.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «لكنّ الذين» ، بشد النون، وعلى أن
الَّذِينَ في موضع نصب اسما ل «لكنّ» ، ونُزُلًا: معناه تكرمة،
ونصبه على المصدر المؤكد، وقرأ الحسن: «نزلا» ساكنة الزاي،
وقوله تعالى: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ يحتمل
أن يريد: خير مما هؤلاء فيه من التقلب والتنعم، ويحتمل أن
يريد: خير مما هم فيه في الدنيا، وإلى هذا ذهب ابن مسعود فإنه
قال: ما من مؤمن ولا كافر إلا والموت خير له، أما الكافر فلئلا
يزداد إثما، وأما المؤمن فلأن ما عند الله خير للأبرار.
قال أبو محمد: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فقال القاضي ابن الطيب: هذا هو
بالإضافة إلى ما يصير إليه كل واحد منهما في الآخرة، فالدنيا
على المؤمن المنعم سجن بالإضافة إلى الجنة، والدنيا للكافر
الفقير المضيق عليه في حاله وصحته جنة بالإضافة إلى جهنم،
وقيل: المعنى أنها سجن المؤمن لأنها موضع تبعه في الطاعات
وصومه وقيامه، فهو فيها كالمعنت المنكل، وينتظر الثواب في
الأخرى التي هي جنته، والدنيا جنة الكافر، لأنها موضع ثوابه
على ما
(1/558)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا
يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ
لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ
الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا
وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (200)
عسى أن يعمل من خير، وليس ينتظر في الآخرة
ثوابا، فهذه جنته، وهذا القول عندي كالتفسير والشرح للأول.
قوله تعالى:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 199 الى 200]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ
لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً
أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ
سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
اختلف المتأولون فيمن عنى بهذه الآية، فقال جابر بن عبد الله
وابن جريج وقتادة وغيرهم: نزلت بسبب أصحمة النجاشي سلطان
الحبشة، وذلك أنه كان مؤمنا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم،
فلما مات عرف بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: اخرجوا فصلوا على
أخ لكم، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فكبر
أربعا، وفي بعض الحديث: أنه كشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم
عن نعشه في الساعة التي قرب منها للدفن، فكان يراه من موضعه
بالمدينة، فلما صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم قال
المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط،
فنزلت هذه الآية، وكان أصحمة النجاشي نصرانيا، وأصحمة تفسيره
بالعربية عطية، قاله سفيان بن عيينة وغيره، وروي أن المنافقين
قالوا بعد ذلك: فإنه لم يصل القبلة فنزلت وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115] وقال قوم: نزلت في عبد الله بن
سلام، وقال ابن زيد ومجاهد: نزلت في جميع من آمن من أهل
الكتاب، وخاشِعِينَ حال من الضمير في يُؤْمِنُ، ورد خاشِعِينَ
على المعنى في «من» لأنه جمع لا على لفظ «من» لأنه إفراد،
وقوله تعالى: لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا
مدح لهم وذم لسائر كفار أهل الكتاب لتبديلهم وإيثارهم كسب
الدنيا الذي هو ثمن قليل على آخرتهم وعلى آيات الله تعالى،
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ قيل معناه: سريع
إتيان بيوم القيامة، وهو يوم الحساب، فالحساب إذا سريع إذ كل
آت قريب، وقال قوم: سَرِيعُ الْحِسابِ أي إحصاء أعمال العباد
وأجورهم وآثامهم، إذ ذلك كله في عمله لا يحتاج فيه إلى عد
وروية ونظر كما يحتاج البشر.
ثم ختم الله تعالى السورة بهذه الوصاة التي جمعت الظهور في
الدنيا على الأعداء، والفوز بنعيم الآخرة، فحض على الصبر على
الطاعات وعن الشهوات، وأمر بالمصابرة فقيل: معناه مصابرة
الأعداء، قاله زيد بن أسلم، وقيل معناه: مصابرة وعد الله في
النصر، قاله محمد بن كعب القرظي: أي لا تسأموا وانتظروا الفرج،
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انتظار الفرج بالصبر
عبادة، وكذلك اختلف المتأولون في معنى قوله وَرابِطُوا فقال
جمهور الأمة معناه: رابطوا أعداءكم الخيل، أي ارتبطوها كما
(1/559)
يرتبطها أعداؤكم، ومنه قوله عز وجل: وَمِنْ
رِباطِ الْخَيْلِ [الأنفال: 8] ، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي
عبيدة، وقد كتب إليه يذكر جموع الروم، فكتب إليه عمر: أما بعد،
فإنه مهما نزل بعبد مؤمن شدة، جعل الله بعدها فرجا، ولن يغلب
عسر يسرين، وأن الله تعالى يقول في كتابه: يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا الآية، وقد
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية هي في انتظار الصلاة
بعد الصلاة، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو
يرابط فيه، واحتج بحديث علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله
وأبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أدلكم
على ما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء
على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد
الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط، والقول الصحيح
هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل، ثم
سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا، فارسا كان أو
راجلا، واللفظة مأخوذة من الربط، وقول النبي صلى الله عليه
وسلم: فذلك الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله، إذ
انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية، والرباط اللغوي
هو الأول، وهذا كقوله: ليس الشديد بالصرعة، كقوله: ليس المسكين
بهذا الطواف إلى غير ذلك من الأمثلة، والمرابط في سبيل الله
عند الفقهاء: هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة
ما، قاله ابن المواز ورواه، فأما سكان الثغور دائما بأهليهم
الذين يعتمرون ويكتسبون هنالك، فهم وإن كانوا حماة فليسوا
بمرابطين، وقوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ترجّ في حق البشر.
(1/560)
فهرس الجزء الأول من المحرر الوجيز
(1/561)
فهرس المحتويات مقدمة المحرر الوجيز 3
الترجمة 26 مصنفاته 28 صور المخطوط 30 مقدمة 33 باب ما ورد عن
النبي وعن الصحابة، وعن نبهاء العلماء في فضل القرآن المجيد 36
باب في فضل تفسير القرآن 40 باب ما قيل في الكلام في تفسير
القرآن 41 باب معنى قول النبي صلى الله عليه وسلّم إن هذا
القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه 43 باب ذكر جمع
القرآن 49 باب في ذكر الألفاظ التي في كتاب الله وللغات العجم
بها تعلق 51 نبذة مما قال العلماء في إعجاز القرآن 52 باب في
الألفاظ التي يقتضي الإيجاز استعمالها في تفسير كتاب الله
تعالى 54 باب في تفسير أسماء القرآن وذكر السورة والآية 56 باب
القول في الاستعاذة 58 القول في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم
60 تفسير سورة الفاتحة الآيات: 1- 7 65 القول في آمين 79 تفسير
سورة البقرة الآية: 1 81 الآية: 2 83 الآية: 3 84 الآيتان: 4،
5 85 الآيتان: 6، 7 86 الآيتان: 8، 9 89 الآيات: 10- 12 92
الآيتان: 13، 14 94 الآيتان: 15، 16 97 الآيتان: 17، 18 98
الآيتان: 19، 20 101 الآيتان: 21، 22 104 الآيتان: 23، 24 106
الآية: 25 108 الآية: 26 110 الآية: 27- 29 112 الآية: 30- 32
116 الآيتان: 33، 34 122 الآيتان: 35، 36 126 الآيات: 37- 39
130 الآيات: 40- 41 132 الآيات: 42- 46 135 الآيات: 47- 49 138
الآيات: 50- 53 141 الآيتان: 54، 55 145 الآيات: 56- 58 148
الآيتان: 59، 60 151 الآية: 61 152
(1/563)
الآيات: 62- 64 156 الآيات: 65- 67 159
الآيات: 68- 70 162 الآيات: 71- 73 163 الآيتان: 74، 75 165
الآيات: 76- 78 168 الآيات: 79- 82 170 الآيتان: 83، 84 171
الآية: 85 174 الآيات: 86- 88 176 الآيات: 89- 91 177 الآيات:
92- 95 180 الآيات: 96- 99 182 الآيات: 100- 102 184 الآيات:
102- 104 188 الآيتان: 105، 106 190 الآيات: 107- 109 194
الآيات: 110- 112 197 الآيات: 113- 115 198 الآيات: 116- 118
201 الآيات: 119- 121 203 الآيات: 122- 124 205 الآيتان: 125،
126 207 الآيات: 127- 129 210 الآيات: 130- 132 212 الآيات:
133- 135 213 الآيات: 136- 138 215 الآيات: 139- 141 216
الآيتان: 142، 143 217 الآيتان: 144، 145 221 الآيات: 146- 149
223 الآيتان: 150، 151 225 الآيات: 152- 157 226 الآيات: 158-
160 228 الآيات: 161- 164 231 الآيات: 165- 167 234 الآيات:
168- 171 236 الآيات: 172- 174 239 الآيات: 175- 177 241
الآيات: 178- 180 244 الآيات: 181- 184 248 الآيتان: 185، 186
253 الآية: 187 256 الآيات: 188- 190 260 الآيات: 191- 194 262
الآيتان: 195، 196 264 الآيات: 196- 198 269 الآيات: 199- 203
275 الآيات: 204- 208 278 الآيات: 209- 212 283 الآيتان: 213،
214 285 الآيات: 215- 217 288 الآيات: 217- 220 290 الآيتان:
220، 221 295 الآيات: 222- 224 297 الآيات: 225- 227 301
الآية: 228 304 الآية: 229 306 الآيتان: 230، 231 308 الآيتان:
231، 232 309 الآية: 233 310، 312 الآية: 234 313، 314 الآية:
235 315، 317 الآية: 236 318 الآية: 237 320 الآية: 238 322
الآية: 239 324 الآية: 240 325
(1/564)
الآيتان: 241، 242 326 الآية: 243 327
الآيتان: 244، 245 328 الآية: 246 330، 331 الآية: 247 331
الآيتان: 247، 248 332 الآية: 248 333 الآية: 249 334، 335
الآيتان: 250، 251 336 الآيتان: 251، 252 337 الآية: 253 338،
339 الآية: 254 339 الآية: 255 340، 341 الآية: 256 342 الآية:
257 344 الآية: 258 345 الآية: 259 347، 349 الآية: 260 352
الآيتان: 261، 262 355 الآيتان: 263، 264 357 الآية: 265 358
الآية: 266 360 الآية: 267 361 الآيتان: 268، 269 363 الآيتان:
270، 271 365 الآية: 272 367 الآية: 273 368 الآيتان: 274، 275
370 الآيتان: 276، 277 373 الآيتان: 278، 279 374 الآيتان:
280، 281 376 الآية: 282 378، 379، 382، 383 الآية: 283 385
الآية: 284 389 الآية: 285 391 الآية: 286 392 تفسير سورة آل
عمران الآيات: 1- 4 396 الآيات: 5- 7 399 الآية: 7 402
الآيتان: 8، 9 404 الآيتان: 10- 11 405 الآيتان: 12، 13 406
الآية: 14 408 الآية: 15 410 الآيتان: 16، 17 411 الآية: 18
412 الآية: 19 413 الآية: 20 413 الآيتان: 21، 22 414 الآيات:
23- 25 415 الآيتان: 26، 27 416 الآية: 28 419 الآيتان: 29، 30
420 الآيتان: 31، 32 421 الآيات: 33- 35 422 الآيتان: 36، 37
424 الآيتان: 38، 39 427 الآية: 40 431 الآية: 41 431 الآيتان:
42، 43 433 الآيتان: 44، 45 434 الآيتان: 46، 47 436 الآيتان:
48، 49 437 الآية: 49 439 الآيتان: 50، 51 441 الآيات: 52- 54
442
(1/565)
الآيات: 55- 57 444 الآيات: 58- 61 445
الآيات: 62- 64 448 الآيتان: 65، 66 449 الآيتان: 67، 68 451
الآيات: 69- 71 452 الآيتان: 72، 73 453 الآيات: 73- 75 457
الآيات: 75- 77 458 الآيتان: 78، 79 460 الآيات: 79- 81 462
الآيات: 81- 83 466 الآيتان: 84، 85 467 الآيات: 86- 89 467
الآيتان: 90، 91 469 الآيتان: 92، 93 471 الآيات: 94- 96 473
الآية: 97 475 الآيتان: 98، 99 480 الآيتان: 100، 101 481
الآيتان: 102، 103 482 الآية: 103 484 الآيتان: 104، 105 485
الآيتان: 106، 107 487 الآيات: 108- 110 488 الآيتان: 111، 112
490 الآيتان: 113، 114 492 الآيات: 115- 117 494 الآية: 118
496 الآية: 119 497 الآية: 120 498 الآيتان: 121، 122 499
الآيات: 123- 125 502 الآيات: 126- 129 505 الآيات: 130- 132
506 2 لآيتان: 133، 134 507 الآيتان: 135، 136 510 الآيات:
137- 140 511 الآيتان: 141، 142 514 الآيتان: 142، 143 515
الآيتان: 144، 145 516 الآيتان: 145، 146 518 الآيتان: 147،
148 521 الآيات: 149- 151 522 الآية: 152 524 الآيتان: 153،
154 525 الآية: 154 528 الآية: 155 529 الآية: 156 530 الآيات:
157- 159 532 الآيتان: 159، 160 533 الآيات: 161- 163 534
الآيتان: 164، 165 537 الآيتان: 166، 167 538 الآيات: 168- 170
539 الآيات: 170- 172 541 الآيتان: 173، 174 542 الآيات: 175-
177 543 الآيتان: 178، 179 545 الآيتان: 180، 181 546 الآيات:
181- 183 548 الآيتان: 183، 184 549 الآية: 185 550 الآيتان:
186، 187 550 الآيات: 188- 190 552 الآيتان: 191، 192 554
الآيتان: 193، 194 556 الآية: 195 556 الآيات: 196- 198 558
الآيتان: 199- 200 559
(1/566)
|