تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)

[المجلد الثاني]
سورة النّساء
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
هذه السورة مدنية، إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح، في عثمان بن طلحة وهي قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء: 58] قال النقاش: وقيل نزلت السورة عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة.
قال القاضي أبو محمد: وقد قال بعض الناس: إن قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ حيث وقع إنما هو مكي فيشبه أن يكون صدر هذه السورة مكيا، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني وإن نزل في مكة أو في سفر من أسفار النبي عليه السلام، وقال النحاس: هذه السورة مكية.
قال القاضي أبو محمد: ولا خلاف أن فيها ما نزل بالمدينة، وفي البخاري: آخر آية نزلت يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء: 176] ذكرها في تفسير سورة- براءة- من رواية البراء بن عازب، وفي البخاري عن عائشة أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعني قد بنى بها.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)
«يا» حرف نداء، و «أي» منادى مفرد- و «ها» تنبيه، والنَّاسُ- نعت لأي أو صلة على مذهب أبي الحسن الأخفش، «والرب» : المالك، وفي الآية تنبيه على الصانع وعلى افتتاح الوجود، وفيها حض على التواصل لحرمة هذا النسب وإن بعد، وقال: واحِدَةٍ على تأنيث لفظ النفس، وهذا كقول الشاعر:
[الوافر]
أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة ذاك الكمال
وقرأ ابن أبي عبلة- «من نفس واحد» - بغير هاء، وهذا على مراعاة المعنى، إذ المراد بالنفس آدم صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما، والخلق في الآية: بمعنى الاختراع، ويعني بقوله:

(2/3)


زَوْجَها حواء، والزوج في كلام العرب: امرأة الرجل، ويقال زوجة، ومنه بيت أبي فراس: [الطويل]
وإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشّرى يستبيلها
وقوله مِنْها، قال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة: إن الله تعالى خلق آدم وحشا في الجنة وحده، ثم نام فانتزع الله أحد أضلاعه القصيرى من شماله، وقيل: من يمينه فخلق منه حواء، ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام: «إن المرأة خلقت من ضلع، فإن ذهبت تقيمها كسرتها» وكسرها طلاقها. وقال بعضهم: معنى مِنْها من جنسها، واللفظ يتناول المعنيين، أو يكون لحمها وجواهرها من ضلعه، ونفسها من جنس نفسه، وبَثَّ معناه: نشر، كقوله تعالى: كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: 4] أي المنتشر، وحصره ذريتها إلى نوعين الرجال والنساء مقتض أن الخنثى ليس بنوع، وأنه وإن فرضناه مشكل الظاهر عندنا، فله حقيقة ترده إلى أحد هذين النوعين، وفي تكرار الأمر بالاتقاء تأكيد وتنبيه لنفوس المأمورين. والَّذِي في موضع نصب على النعت- وتَسائَلُونَ معناه: تتعاطفون به، فيقول أحدكم:
أسألك بالله أن تفعل كذا وما أشبهه وقالت طائفة معناه: تَسائَلُونَ بِهِ حقوقكم وتجعلونه مقطعا لها وأصله:
«تتساءلون» ، فأبدلت التاء الثانية سينا وأدغمت في السين، وهذه قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وابن عمرو، بخلاف عنه، وقرأ الباقون- «تساءلون» - بسين مخففة وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفا فهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة، قال أبو علي: وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال كما قالوا: طست فأبدلوا من السين الواحدة تاء، إذ الأصل طس: قال العجاج: [الرجز]
لو عرضت لأيبليّ قسّ ... أشعث في هيكله مندسّ
حنّ إليها كحنين الطّسّ وقال ابن مسعود- «تسألون» - خفيفة بغير ألف، والْأَرْحامَ نصب على العطف على موضع به لأن موضعه نصب، والأظهر أنه نصب بإضمار فعل تقديره: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وهذه قراءة السبعة إلا حمزة، وعليها فسر ابن عباس وغيره، وقرأ عبد الله بن يزيد- والأرحام- بالرفع وذلك على الابتداء والخبر مقدر، تقديره: والأرحام أهل أن توصل، وقرأ حمزة وجماعة من العلماء- «والأرحام» - بالخفض عطفا على الضمير، والمعنى عندهم: أنها يتساءل بها كما يقول الرجل: أسألك بالله وبالرحم، هكذا فسرها الحسن وإبراهيم النخعي ومجاهد، وهذه القراءة عند رؤساء نحويي البصرة لا تجوز، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض، قال الزجاج عن المازني: لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان يحل كل واحد منهما محل صاحبه، فكما لا يجوز: مررت بزيدوك، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد، وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر، كما قال: [البسيط]
فاليوم قد بتّ تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيّام من عجب
وكما قال: [الطويل]
نعلّق في مثل السّواري سيوفنا ... وما بينها والكعب غوط نفانف

(2/4)


وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)

واستهلها بعض النحويين، قال أبو علي: ذلك ضعيف في القياس.
قال القاضي أبو محمد: المضمر المخفوض لا ينفصل فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرف، ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان: أحدهما أن ذكر الأرحام فيما يتساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا تفرق في معنى الكلام وغض من فصاحته، وإنما الفصاحة في أن يكون لذكر الأرحام فائدة مستقلة، والوجه الثاني أن في ذكرها على ذلك تقريرا للتساؤل بها والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله عليه السلام: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وقالت طائفة: إنما خفض- «والأرحام» - على جهة القسم من الله على ما اختص به لا إله إلا هو من القسم بمخلوقاته، ويكون المقسم عليه فيما بعد من قوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً وهذا كلام يأباه نظم الكلام وسرده، وإن كان المعنى يخرجه- وكانَ في هذه الآية ليست لتحديد الماضي فقط، بل المعنى: كان وهو يكون، والرقيب: بناء الاسم الفاعل من رقب يرقب إذا أحد النظر بالبصر أو بالبصيرة إلى أمر ما ليتحققه على ما هو عليه، ويقترن بذلك حفظ ومشاهدة وعلم بالحاصل عن الرقبة، وفي قوله عَلَيْكُمْ ضرب من الوعيد، ولم يقل «لكم» للاشتراك الذي كان يدخل من أنه يرقب لهم ما يصنع غيرهم، ومما ذكرناه قيل للذي يرقب خروج السهم من ربابة الضريب في القداح رقيب، لأنه يرتقب ذلك. ومنه قول أبي دؤاد: [مجزوء الكامل] كمقاعد الرّقباء للضّرباء أيديهم نواهد قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 2 الى 3]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3)
الْيَتامى: جمع يتيم ويتيمة، واليتم في كلام العرب فقد الأب قبل البلوغ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يتم بعد بلوغ» وهو في البهيمة فقد الأم في حال الصغر، وحكى اليتم في الإنسان من جهة الأم، وقال ابن زيد: هذه المخاطبة هي لمن كانت عادته من العرب أن لا يرث الصغير من الأولاد مع الكبير، فقيل لهم: ورثوهم أموالهم، ولا تتركوا أيها الكبار حظوظكم حلالا طيبا وتأخذوا الكل ظلما حراما خبيثا، فيجيء فعلكم ذلك تبدلا، وقالت طائفة: هذه المخاطبة هي لأوصياء الأيتام، والمعنى: إذا بلغوا وأونس منهم الرشد. وسماهم يتامى وهم قد بلغوا، استصحابا للحالة الأولى التي قد ثبتت لهم من اليتم، وَلا تَتَبَدَّلُوا قيل: المراد ما كان بعضهم يفعل من أن يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله، والدرهم الطيب بالزائف من ماله، قاله سعيد بن المسيب والزهري والسندي والضحاك، وقيل: المراد بذلك لا تأكلوا أموالهم خبيثا، وتدعوا أموالكم طيبا، وقيل: معناه لا تتعجلوا أكل «الخبيث» من أموالهم، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله، قاله مجاهد وأبو صالح، و «الخبيث» و «الطيب» : إنما هو هنا

(2/5)


بالتحليل والتحريم، وروي عن ابن محيصن أنه قرأ- «ولا تبدلوا» - بإدغام التاء في التاء وجاز في ذلك الجمع بين ساكنين، لأن أحدهما حرف مد ولين يشبه الحركة، وقوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ استوى الأيتام في النهي عن أكل «أموالهم» ، كانوا ورثة ممنوعين من الميراث ومحجورين، والآية نص في [النهي عن] قصد مال اليتيم بالأكل والتمول على جميع وجوهه، وروي عن مجاهد أنه قال: الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك، ثم نسخ منه النهي بقوله: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة: 220] وقد تقدم ذكر هذا في سورة البقرة، وقال ابن فورك عن الحسن: إنه تأول الناس من هذه الآية النهي عن الخلط فاجتنبوه من قبل أنفسهم، فخفف عنهم في آية البقرة، وقالت طائفة من المتأخرين إِلى بمعنى مع، وهذا غير جيد، وروي عن مجاهد أن معنى الآية: ولا تأكلوا أموالهم مع أموالكم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تقريب للمعنى، لا أنه أراد أن الحرف بمعنى الآخر، وقال الحذاق:
إِلى هي على بابها وهي تتضمن الإضافة، التقدير: «لا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم في الأكل» ، كما قال تعالى مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: 52، الصف: 14] أي من ينضاف إلى الله في نصرتي والضمير في إِنَّهُ عائد على الأكل الذي تضمنه الفعل الظاهر، والحوب الإثم، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما، تقول: حاب الرجل يحوب حوبا وحابا وحوبا إذا أثم، قال أمية بن الأسكر: [الوافر]
وإنّ مهاجرين تكنّفاه ... غداتئذ لقد خطئا وخابا
وقرأ الحسن: «حوبا» بفتح الحاء، وهي لغة بني تميم، وقيل: هو بفتح الحاء المصدر وبضمها الاسم، وتحوب الرجل إذا ألقى الحوب عن نفسه، وكذلك تحنث وتأثم وتحرج، فإن هذه الأربعة بخلاف تفعل كله، لأن تفعل معناه الدخول في الشيء كتعبد وتكسب وما أشبهه، ويلحق بهذه الأربعة تفكهون، في قوله تعالى: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الواقعة: 65] أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم، بدليل قوله بعد ذلك إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [الواقعة: 66 و 67] أي يقولون ذلك، وقوله: كَبِيراً نص على أن أكل مال اليتيم من الكبائر.
وقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى قال أبو عبيدة: خِفْتُمْ هنا بمعنى أيقنتم، واستشهد بقول الشاعر: [دريد بن الصمة] : [الطويل]
فقلت لهم خافوا بألفي مدجّج
وما قاله غير صحيح، ولا يكون الخوف بمعنى اليقين بوجه وإنما هو من أفعال التوقع، إلا أنه قد يميل الظن فيه إلى إحدى الجهتين، وأما أن يصل إلى حد اليقين فلا، وتُقْسِطُوا معناه تعدلوا، يقال: أقسط الرجل إذا عدل، وقسط إذا جار، وقرأ ابن وثاب والنخعي، - «ألا تقسطوا» بفتح التاء من قسط على تقدير زيادة- لا- كأنه قال: وَإِنْ خِفْتُمْ أن تجوروا، واختلف في تأويل الآية، فقالت عائشة رضي الله عنها:
نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال ولياتهم، فيريدون أن يبخسوهن في المهر لمكان ولايتهم عليهن، فقيل لهم: أقسطوا في مهورهن، فمن خاف ألا يقسط فليتزوج ما طاب له من الأجنبيات اللواتي

(2/6)


يكايسن في حقوقهن وقاله ربيعة، وقال عكرمة: نزلت في قريش، وذلك أن الرجل منهم كان يتزوج العشر وأكثر وأقل، فإذا ضاق ماله مال على مال يتيمه فتزوج منه، فقيل لهم: إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا، وقال سعيد بن جبير والسدي وقتادة وابن عباس: إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى، ولا تتحرج في العدل بين النساء، كانوا يتزوجون العشر وأكثر، فنزلت الآية في ذلك، أي كما تخافون «ألا تقسطوا في اليتامى» ، فكذلك فتحرجوا في النساء، «وانكحوا» على هذا الحد الذي يبعد الجور عنه، وقال مجاهد: إنما الآية تحذير من الزنى وزجر عنه، أي كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك فتحرجوا من الزنى، وانكحوا على ما حد لكم، قال الحسن وأبو مالك وسعيد بن جبير: ما طابَ، معناه ما حل.
قال القاضي أبو محمد: لأن المحرمات من النساء كثير. وقرأ ابن أبي عبلة، «من طاب» على ذكر من يعقل، وحكى بعض الناس أن ما في هذه الآية ظرفية، أي ما دمتم تستحسنون النكاح.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا المنزع ضعف وقال ما ولم يقل- من- لأنه لم يرد تعيين من يعقل، وإنما أراد النوع الذي هو الطيب من جهة التحليل، فكأنه قال: «فانكحوا الطيب» ، وهذا الأمر بالنكاح هو ندب لقوم وإباحة لآخرين بحسب قرائن المرء، والنكاح في الجملة والأغلب مندوب إليه، قال عليه السلام: من استطاع منكم الباءة فليتزوج. ومَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ: موضعها من الإعراب نصب على البدل من ما طابَ، وهي نكرات لا تنصرف لأنها معدولة وصفة كذا قاله أبو علي. وقال غيره: هي معدولة في اللفظ وفي المعنى، وأيضا فإنها معدولة وجمع، وأيضا فإنها معدولة مؤنثة، قال الطبري: هي معارف لأنها لا تدخلها الألف واللام، وخطأ الزجاج هذا القول، وهي معدولة عن اثنين، وثلاثة، وأربعة، إلا أنها مضمنة تكرار العدد إلى غاية المعدود، وأنشد الزجاج لشاعر [ساعدة بن جؤيّة] : [الطويل]
ولكنّما أهلي بواد أنيسه ... ذئاب تبغّي الناس مثنى وموحد
فإنما معناه اثنين اثنين، وواحد واحدا، وكذلك قولك: جاء الرجال مثنى وثلاث، فإنما معناه:
اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «وربع» ساقطة الألف، وتلك لغة مقصدها التخفيف كما قال الشاعر: على لسان الضب: [المجتث]
لا أشتهي أن أردّا ... إلا عرادا عردّا
وعنكثا ملتبدّا ... وصليانا بردا
يريد باردا. وقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قال الضحاك وغيره:
المعنى ألا تعدلوا في الميل والمحبة والجماع والعشرة بين الأربع أو الثلاث أو الاثنتين، ويتوجه على قول من قال: إنها نزلت فيمن يخاف أن ينفق مال اليتامى في نكاحاته، أن يكون المعنى: ألا تعدلوا في نكاح الأربع والثلاث حتى تنفقوا فيه أموال يتاماكم، أي فتزوجوا واحدة بأموالكم، أو تسرّوا منها، ونصب واحدة بإضمار فعل تقديره: فانكحوا واحدة. وقرأ عبد الرحمن بن هرمز والحسن: «فواحدة» بالرفع على الابتداء، وتقدير الخبر: فواحدة كافية، أو ما أشبهه، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. وما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يريد

(2/7)


وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)

به الإماء، والمعنى: إن خاف ألا يعدل في عشرة واحدة فما ملكت يمينه، وأسند الملك إلى اليمين إذ هي صفة مدح، واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكنها، ألا ترى أنها المنفقة، كما قال عليه السلام: «حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وهي المعاهدة المبايعة، وبها سميت الأليّة يمينا، وهي المتلقية لكتاب النجاة ولرايات المجد، وقد نهى عليه السلام عن استعمالها في الاستنجاء وأمر المرء بالأكل بها.
أَدْنى معناه: أقرب، وهو من الدنو، وموضع- أن- من الإعراب نصب بإسقاط الخافض، والناصب أريحية الفعل الذي في أَدْنى، التقدير: ذلك أدنى إلى أن لا تعولوا، وتَعُولُوا معناه: تميلوا، قاله ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس وأبو مالك والسدي وغيرهم، يقال: عال الرجل يعول: إذا مال وجار، ومنه قول أبي طالب في شعره في النبي صلى الله عليه وسلم:
بميزان قسط لا يخسّ شعيرة ... ووزان صدق وزنه غير عائل
يريد غير مائل، ومنه قول عثمان لأهل الكوفة حين كتب إليهم: إني لست بميزان لا أعول، ويروى بيت أبي طالب: «له شاهد من نفسه غير عائل» وعال يعيل، معناه: افتقر فصار عالة، وقالت فرقة منهم زيد بن أسلم وابن زيد والشافعي: معناه: ذلك أدنى ألا يكثر عيالكم، وحكى ابن الأعرابي أن العرب تقول: عال الرجل يعول إذا كثر عياله، وقدح في هذا الزجاج وغيره، بأن الله قد أباح كثرة السراري، وفي ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القدح غير صحيح، لأن السراري إنما هن مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما العيال الفادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 4 الى 5]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)
وقوله: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً قال ابن عباس وقتادة وابن جريج: إن الخطاب في هذه الآية للأزواج، أمرهم الله أن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم، وقال أبو صالح: الخطاب لأولياء النساء، لأن عادة بعض العرب كانت أن يأكل ولي المرأة مهرها، فرفع الله ذلك بالإسلام وأمر بأن يدفع ذلك إليهن، وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه: زعم حضرمي أن المراد بالآية المتشاغرون الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى، فأمروا أن يضربوا المهور.
قال القاضي أبو محمد: والآية تتناول هذه الفرق الثلاث، وقرأ جمهور الناس والسبعة «صدقاتهن» بفتح الصاد وضم الدال، وقرأ موسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم «صدقاتهن» بضم الصاد والدال، وقرأ قتادة وغيره «صدقاتهن» بضم الصاد وسكون الدال. وقرأ ابن وثاب والنخعي «صدقتهن» بالإفراد وضم الصاد وضم الدال. والإفراد من هذا كله صدقة وصدقة. ونِحْلَةً: معناه: نحلة

(2/8)


منكم لهن أي عطية، وقيل التقدير: من الله عز وجل لهن، وذلك لأن الله جعل الصداق على الرجال ولم يجعل على النساء شيئا، وقيل نِحْلَةً معناه: شرعة، مأخوذ من النحل تقول: فلان ينتحل دين كذا، وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء، ويتجه مع سواه، ونصبها على أنها من الأزواج بإضمار فعل من لفظها، تقديره- انحلوهن نحلة، ويجوز أن يعمل الفعل الظاهر، وإن كان من غير اللفظ لأنه مناسب للنحلة في المعنى ونصبها على أنها من الله عز وجل بإضمار فعل مقدر من اللفظ لا يصح غير ذلك، وعلى أنها شريعة هي أيضا من الله وقوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً الخطاب حسبما تقدم من الاختلاف في الأزواج والأولياء، والمعنى: إن وهبن غير مكرهات طيبة نفوسهن، والضمير في مِنْهُ راجع على الصداق، وكذلك قال عكرمة وغيره، أو على الإيتاء، وقال حضرمي: سبب الآية أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوا إلى الزوجات، ونَفْساً نصب على التمييز، ولا يجوز تقدمه على العامل عند سيبويه إلا في ضرورة شعر مع تصرف العامل، وإجازة غيره في الكلام. ومنه قول الشاعر [المخبل السعدي] : [الطويل] وما كان نفسا بالفراق تطيب و «من» - تتضمن الجنس هاهنا، ولذلك يجوز أن تهب المهر كله، ولو وقفت «من» على التبعيض لما جاز ذلك، وقرىء «هنيا مريا» دون همز، وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن والزهري. قال الطبري: ومن هناء البعير أن يعطي الشفاء.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وإنما قال اللغويون: الطعام الهنيء هو السائغ المستحسن الحميد المغبة، وكذلك المريء، قال اللغويون: يقولون هنأني الطعام ومرأني على الإتباع، فإذا أفردوا قالوا: أمرأني على وزن أفعل. قال أبو علي: وهذا كما جاء في الحديث «ارجعن مأزورات غير مأجورات» فإنما اعتلت الواو من موزورات اتباعا للفظ مأجورات، فكذلك مرأني اتباعا لهنأني، ودخل رجل على علقمة- وهو يأكل شيئا مما وهبته امرأته من مهرها- فقال له: كل من الهنيء المريء، قال سيبويه هَنِيئاً مَرِيئاً صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره، المختزل للدلالة التي في الكلام عليه، كأنهم قالوا: ثبت ذلك «هنيئا مريئا» .
وقوله وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ الآية، اختلف المتأولون في المراد ب السُّفَهاءَ، فقال ابن مسعود والسدي والضحاك والحسن وغيرهم: نزلت في ولد الرجل الصغار وامرأته، وقال سعيد بن جبير: نزلت في المحجورين «السفهاء» وقال مجاهد: نزلت في النساء خاصة، وروي عن عبد الله بن عمر أنه مرت به امرأة لها شارة فقال لها وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الآية، وقال أبو موسى الأشعري والطبري وغيرهما: نزلت في كل من اقتضى الصفة التي شرط الله من السفه كان من كان، وقول من خصها بالنساء يضعف من جهة الجمع، فإن العرب إنما تجمع فعيلة على فعائل أو فعيلات، وقوله: أَمْوالَكُمُ يريد أموال المخاطبين، هذا قول أبي موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة، وقال سعيد بن جبير: يريد أموال «السفهاء» ، وأضافها إلى المخاطبين تغبيطا بالأموال، أي هي لهم إذا احتاجوا، كأموالكم لكم التي تقي أعراضكم، وتصونكم وتعظم أقداركم، ومن مثل هذا وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] وما جرى مجراه، وقرأ

(2/9)


وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)

الحسن بن أبي الحسن والنخعي «اللاتي» والأموال: جمع لما لا يعقل، فالأصوب فيه قراءة الجماعة، وقيما جمع قيمة كديمة وديم، وخطأ ذلك أبو علي وقال: هي مصدر كقيام وقوام وأصلها قوم، ولكن شذت في الرد إلى الياء كما شذ قولهم: جياد في جمع جواد، وكما قالت بنو ضبة: طويل وطيال، ونحو هذا، وقوما وقواما وقياما، معناها: ثباتا في صلاح الحال، ودواما في ذلك، وقرأ نافع وابن عامر قيما بغير ألف، وروي أن أبا عمرو فتح القاف من قوله: قواما، وقياما- كان أصله قواما، فردت كسرة القاف الواو ياء للتناسب، ذكرها ابن مجاهد ولم ينسبها، وهي قراءة أبي عمرو والحسن، وقرأ الباقون قِياماً وقرأت طائفة «قواما» ، وقوله: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ قيل: معناه: فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجه وبنيه الأصاغر، وقيل: في المحجورين من أموالهم، ومَعْرُوفاً قيل: معناه: ادعوا لهم: بارك الله فيكم وحاطكم وصنع لكم، وقيل: معناه عدوهم وعدا حسنا، أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم، ومعنى اللفظ كل كلام تعرفه النفوس وتأنس إليه ويقتضيه الشرع.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : آية 6]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)
هذه مخاطبة للجميع، والمعنى: يخلص التلبس بهذا الأمر للأوصياء، والابتلاء: الاختبار، وبَلَغُوا النِّكاحَ، معناه: بلغوا مبلغ الرجال بحلم وحيض أو ما يوازيه، ومعناه: جربوا عقولهم وقرائحهم وتصرفهم، وآنَسْتُمْ، معناه علمتم وشعرتم وخبرتم، كما قال الشاعر: [الخفيف]
آنست نبأة وأفزعها القنّاص ... عصرا وقد دنا الإمساء
وقرأ ابن مسعود- «حستم» - بالحاء وسكون السين على مثال فعلتم، وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو السمال وابن مسعود وعيسى الثقفي: «رشدا» بفتح الراء والشين والمعنى واحد، ومالك رحمه الله يرى الشرطين:
البلوغ، والرشد المختبر، وحينئذ يدفع المال، وأبو حنيفة يرى أن يدفع المال بالشرط الواحد ما لم يحتفظ له سفه كما أبيحت التسرية بالشرط الواحد وكتاب الله قد قيدها بعدم الطول وخوف العنت، إلى غير ذلك من الأمثلة، كاليمين والحنث اللذين بعدهما تجب الكفارة، ولكنها تجوز قبل الحنث.
قال القاضي أبو محمد: والتمثيل عندي في دفع المال بنوازل الشرطين غير صحيح، وذلك أن البلوغ لم تسقه الآية سياق الشرط، ولكنه حالة الغالب على بني آدم أن تلتئم عقولهم فيها، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه، فقال: إذا بلغ ذلك الوقت فلينظر إلى الشرط وهو الرشد حينئذ، وفصاحة الكلام تدل على ذلك، لأن التوقيف بالبلوغ جاء «بإذا» والمشروط جاء «بإن» التي هي قاعدة حروف الشرط، وإِذا ليست بحرف شرط لحصول ما بعدها، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر، وقال: فعلوا ذلك

(2/10)


مضطرين، وإنما جوزي بها لأنها تحتاج إلى جواب، ولأنها يليها الفعل مظهرا أو مضمرا، واحتج الخليل على منع شرطيتها بحصول ما بعدها، ألا ترى أنك تقول أجيئك إذا احمر البسر، ولا تقول: إن احمر البسر، وقال الحسن وقتادة: الرشد في العقل والدين، وقال ابن عباس: بل في العقل وتدبير المال لا غير، وهو قول ابن القاسم في مذهبنا، والرواية الأخرى: أنه في العقل والدين مروية عن مالك، وقالت فرقة:
دفع الوصي المال إلى المحجور يفتقر إلى أن يرفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده، أو يكون ممن يأمنه الحاكم في مثل ذلك، وقالت فرقة: ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان.
قال القاضي أبو محمد: والصواب في أوصياء زمننا أن لا يستغنى عن رفعه إلى السلطان وثبوت الرشد عنده، لما حفظ من تواطؤ الأوصياء على أن يرشد الوصي ويبرى المحجور لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت، وقوله: وَلا تَأْكُلُوها الآية، نهي من الله تعالى للأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم، والإسراف: الإفراط في الفعل، والسرف الخطأ في مواضع الإنفاق، ومنه قول الشاعر [جرير] : [البسيط] ما في عطائهم منّ ولا سرف أي لا يخطئون مواضع العطاء. وَبِداراً: معناه مبادرة كبرهم، أي إن الوصي يستغنم مال محجوره فيأكل ويقول: أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله، قاله ابن عباس وغيره. وأَنْ يَكْبَرُوا نصب ببدارا، ويجوز أن يكون التقدير مخافة أن وقوله: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ الآية، يقال: عف الرجل عن الشيء واستعف: إذا أمسك، فأمر الغني بالإمساك عن مال اليتيم، وأباح الله للوصي الفقير أن يأكل من مال يتيمه بالمعروف، واختلف العلماء في حد المعروف، فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية: إن ذلك القرض أن يتسلف من مال يتيمه ويقضي إذا أيسر، ولا يتسلف أكثر من حاجته، وقال ابن عباس أيضا وعكرمة والسدي وعطاء: روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إني نزلت من مال الله منزلة والي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت. وروي عن إبراهيم وعطاء وغيرهما أنه لا قضاء على الوصي الفقير فيما أكل بالمعروف، قال الحسن: هي طعمة من الله له، وذلك أن يأكل ما يقيمه أكلا بأطراف الأصابع، ولا يكتسي منه بوجه، وقال إبراهيم النخعي ومكحول: يأكل ما يقيمه ويكتسي ما يستر عورته، ولا يلبس الكتان والحلل، وقال ابن عباس وأبو العالية والحسن والشعبي: إنما يأكل الوصي بالمعروف إذا شرب من اللبن وأكل من الثمر بما يهنأ الجربى ويليط الحوض ويجد الثمر وما أشبهه، وقالت فرقة: المعروف أن يكون له أجر بقدر عمله وخدمته، وقال الحسن بن حي: إن كان وصي أب فله الأكل بالمعروف، وإن كان وصي حاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه، وقال ابن عباس والنخعي: المراد أن يأكل الوصي بالمعروف من ماله حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: المراد اليتامى في الحالين، أي: من كان منهم غنيا فليعف بماله، ومن كان فقيرا فليتقتر عليه بالمعروف والاقتصاد، وقوله: فَإِذا دَفَعْتُمْ الآية. أمر من الله بالتحرز والحزم، وهذا هو الأصل في الإشهاد في المدفوعات كلها، إذا كان حبسها أولا معروفا، وقالت فرقة:
الإشهاد هاهنا فرض وقالت فرقة: هو ندب إلى الحزم، وروى عمر بن الخطاب وابن جبيرة أن هذا هو دفع

(2/11)


لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)

ما يستقرضه الوصي الفقير إذا أيسر، واللفظ يعم هذا وسواه، والحسيب هنا المحسب، أي هو كاف من الشهود، هكذا قال الطبري، والأظهر حَسِيباً معناه: حاسبا أعمالكم ومجازيا بها، ففي هذا وعيد لكل جاحد حق.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 9]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)
سمى الله عز وجل الأب والدا لأن الولد منه ومن الوالدة، كما قال الشاعر: [الرجز] بحيث يعتش الغراب البائض لأن البيض من الأنثى والذكر، قال قتادة وعكرمة وابن زيد: وسبب هذه الآية، أن العرب كان منها من لا يورث النساء ويقول: لا يرث إلا من طاعن بالرمح وقاتل بالسيف فنزلت هذه الآية، قال عكرمة: سببها خبر أم كحلة، مات زوجها وهو أوس بن سويد وترك لها بنتا فذهب عم بنيها إلى أن لا ترث فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال العم: هي يا رسول الله لا تقاتل ولا تحمل كلا ويكسب عليها ولا تكسب، واسم العم ثعلبة فيما ذكره. ونَصِيباً مَفْرُوضاً، نصب على الحال، كذا قال مكي، وإنما هو اسم نصب كما ينصب المصدر في موضع الحال، تقديره: فرضا، ولذلك جاز نصبه، كما تقول: لك عليّ كذا وكذا حقا واجبا، ولولا معنى المصدر الذي فيه ما جاز في الاسم الذي ليس بمصدر هذا النصب، ولكان حقه الرفع.
وقوله: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ الآية، اختلف المتأولون فيمن خوطب بهذه الآية على قولين: أحدهما أنها مخاطبة للوارثين، والمعنى: إذا حضر قسمتكم لمال موروثكم هذه الأصناف الثلاثة، فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ، ثم اختلف قائلو هذا القول، فقال سعيد بن المسيب وأبو مالك والضحاك وابن عباس فيما حكى عنه المهدوي: نسخ ذلك بآية المواريث. وكانت هذه قسمة قبل المواريث، فأعطى الله بعد ذلك كل ذي حق حقه، وجعلت الوصية للذين يحزنون ولا يرثون، وقال ابن عباس والشعبي ومجاهد وابن جبير: ذلك محكم لم ينسخ، وقال ابن جبير: وقد ضيع الناس هذه الآية، قال الحسن: ولكن الناس شحوا، وامتثل ذلك جماعة من التابعين، عروة بن الزبير وغيره، وأمر به أبو موسى الأشعري، واختلف القائلون بأحكامها، فقالت فرقة: ذلك على جهة الفرض والوجوب أن يعطى الورثة لهذه الأصناف ما تفه وطابت به نفوسهم، كالماعون والثوب الخلق، وما خف كالتابوت، وما تعذر قسمه، وقال ابن جبير والحسن: ذلك على جهة الندب، فمن تركه فلا حرج عليه، واختلف في هذا القول إذا كان الوارث صغيرا لا يتصرف في ماله، فقال

(2/12)


سعيد بن جبير وغيره: هذا على وجه المعروف فقط، يقوله ولي الوارث دون عطاء ينفذ، وقالت فرقة: بل يعطي ولي الوارث الصغير من مال محجوره بقدر ما يرى، والقول الثاني فيمن خوطب بها: إن الخطاب للمحتضرين الذين يقسمون أموالهم بالوصية، فالمعنى: إذا حضركم الموت أيها المؤمنون، وقسمتم أموالكم بالوصية، وحضركم من لا يرث من ذي القرابة واليتامى فارزقوهم منه، قال ابن عباس وسعيد بن المسيب وابن زيد قال: كانوا يقولون للوصي: فلان يقسم ماله، ومعنى «حضر» : شهد، إلا أن الصفة بالضعف واليتم والمسكنة تقضي أن ذلك هو علة الرزق، فحيث وجدت رزقوا وإن لم يحضروا القسمة، وأُولُوا: اسم جمع لا واحد له من لفظه، ولا يكون إلا مضافا للإبهام الذي فيه، وربما كان واحده من غير لفظة: ذو، واليتم: الانفراد واليتيم: الفرد، وكذلك سمي من فقد أباه يتيما لانفراده، ورأى عبيدة ومحمد بن سيرين أن الرزق في هذه الآية، أن يصنع لهم طعام يأكلونه، وفعلا ذلك، ذبحا شاة من التركة، والضمير في قوله: فَارْزُقُوهُمْ وفي قوله: لَهُمْ عائد على الأصناف الثلاثة، وغير ذلك من تفريق عود الضميرين كما ذهب إليه الطبري تحكم- والقول المعروف: كل ما يؤنس به من دعاء أو عدة أو غير ذلك.
وقوله وَلْيَخْشَ جزم بلام الأمر، ولا يجوز إضمار هذه اللام عند سيبويه، قياسا على حروف الجر، إلا في ضرورة شعر، ومنه قول الشاعر: [الوافر]
محمّد تفد نفسك كلّ نفس ... إذا ما خفت من أمر تبالا
وقرأ أبو حيوة وعيسى بن عمر والحسن والزهري: بكسر لامات الأمر في هذه الآية، وقد تقدم الكلام على لفظ ذُرِّيَّةً في سورة آل عمران، ومفعول يخشى محذوف لدلالة الكلام عليه، وحسن حذفه من حيث يتقدر فيه التخويف بالله تعالى. والتخويف بالعاقبة في الدنيا، فينظر كل متأول بحسب الأهم في نفسه، وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو حيوة والزهري وابن محيصن وعائشة: «ضعفاء» بالمد وضم الضاد، وروي عن ابن محيصن «ضعفا» بضم الضاد والعين وتنوين الفاء، وأمال حمزة ضِعافاً وأمال- خافُوا، والداعي إلى إمالة خافُوا الكسرة التي في الماضي في قولك: خفت، ليدل عليها، وخافُوا جواب لَوْ، تقديره: لو تركوا لخافوا، ويجوز حذف اللام في جواب- لو- تقول- لو قام زيد لقام عمرو، ولو قام زيد قام عمرو، واختلف من المراد بهذه الآية؟ فقال ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد: المراد من حضر ميتا حين يوصي فيقول له: قدم لنفسك وأعط فلان وفلانة ويؤذي الورثة بذلك، فكأن الآية تقول لهم: كما كنتم تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم وذريته، ولا تحملوه على تبذير ماله وتركهم عالة. وقال مقسم وحضرمي: نزلت في عكس ذلك، وهو أن يقول للمحتضر: أمسك على ورثتك وأبق لولدك، وينهاه عن الوصية فيضر بذلك ذوي القربى، وكل من يستحق أن يوصي له، فقيل لهم: كما كنتم تخشون على ذريتكم وتسرون بأن يحسن إليهم، فكذلك فسدوا القول في جهة المساكين واليتامى، واتقوا الله في ضرهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس، بل الناس صنفان يصلح لأحدهما القول الواحد، وللآخر القول الثاني، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثة مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن

(2/13)


إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)

أن يندب إلى الوصية، ويحمل على أن يقدم لنفسه، وإذا ترك ورثة ضعفاء مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين، فالمراعى إنما هو الضعف، فيجب أن يمال معه، وقال ابن عباس أيضا: المراد بالآية ولاة الأيتام، فالمعنى: أحسنوا إليهم وسددوا القول لهم، واتقوا الله في أكل أموالهم كما تخافون على ذريتكم أن يفعل بهم خلاف ذلك، وقالت فرقة: بل المراد جميع الناس، فالمعنى: أمرهم باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس وإن لم يكونوا في حجورهم، وأن يسددوا لهم القول كما يريد كل أحد أن يفعل بولده بعده، ومن هذا ما حكاه الشيباني قال: كنا على قسطنطينة في عسكر مسلمة بن عبد الملك، فجلسنا يوما في جماعة من أهل العلم فيهم الديلمي فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان، فقلت له: يا أبا بسر ودي أن لا يكون لي ولد، فقال لي: ما عليك، ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت أحب أم كره، ولكن إن أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم، ثم تلا هذه الآية. «والسديد» معناه: المصيب للحق، ومنه قول الشاعر:
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
معناه، لما وافق الأغراض التي يرمي إليها.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 10 الى 11]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)
قال ابن زيد: نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء والصغار، ويأكلون أموالهم، وقال أكثر الناس: نزلت في الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم، وهي تتناول كل آكل وإن لم يكن وصيا، وسمي آخذ المال على كل وجوهه آكلا لما كان المقصود هو الأكل وبه أكثر الإتلاف للأشياء، وفي نصه على البطون من الفصاحة تبيين نقصهم، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخلاق، من التهافت بسبب البطن، وهو أنقص الأسباب وألأمها حتى يدخلوا تحت الوعيد بالنار، وظُلْماً معناه: ما جاوز المعروف مع فقر الوصي، وقال بعض الناس: المعنى أنه لما يؤول أكلهم للأموال إلى دخولهم النار قيل: يَأْكُلُونَ النار، وقالت طائفة: بل هي حقيقة أنهم يطعمون النار، وفي ذلك أحاديث، منها حديث أبي سعيد الخدري قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به، قال، رأيت أقواما لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار، تخرج من أسافلهم، قلت:
يا جبريل من هؤلاء؟ قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، وقرأ جمهور الناس «وسيصلون» على إسناد الفعل إليهم، وقرأ ابن عامر بضم الياء واختلف عن عاصم، وقرأ أبو حيوة، وَسَيَصْلَوْنَ على بناء الفعل للمفعول بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام على التكثير، وقرأ ابن أبي عبلة «وسيصلون» بضم الياء واللام، وهي ضعيفة، والأول أصوب، لأنه كذلك جاء في القرآن في قوله: لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى [الليل: 16]

(2/14)


وفي قوله: صالِ الْجَحِيمِ [الصافات: 163] والصلي هو التسخن بقرب النار أو بمباشرتها، ومنه قول الحارث بن عباد:
لم أكن من جناتها، علم الله ... وإني بحرّها اليوم صال
والمحترق الذي يذهبه الحرق ليس بصال إلا في بدء أمره، وأهل جهنم لا تذهبهم فهم فيها صالون، «والسعير» : الجمر المشتعل، وهذه آية من آيات الوعيد، والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة، لئلا يقع الخبر بخلاف مخبره، ساقط بالمشيئة عن بعضهم، وتلخيص الكلام في المسألة: أن الوعد في الخير، والوعيد في الشر، هذا عرفهما إذا أطلقا، وقد يستعمل الوعد في الشر مقيدا به، كما قال تعالى: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ، الَّذِينَ كَفَرُوا [الحج: 72] فقالت المعتزلة: آيات الوعد كلها في التائبين والطائعين، وآيات الوعيد في المشركين والعصاة بالكبائر، وقال بعضهم: وبالصغائر، وقالت المرجئة: آيات الوعد كلها فيمن اتصف بالإيمان الذي هو التصديق، كان من كان من عاص أو طائع، وقلنا أهل السنة والجماعة: آيات الوعد في المؤمنين الطائعين ومن حازته المشيئة من العصاة، وآيات الوعيد في المشركين ومن حازه الإنفاذ من العصاة، والآية الحاكمة بما قلناه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48 و 116] فإن قالت المعتزلة لمن يشاء يعني التائبين، رد عليهم بأن الفائدة في التفضيل كانت تنفسد، إذ الشرك أيضا يغفر للتائب، وهذا قاطع بحكم قوله لِمَنْ يَشاءُ بأن ثم مغفورا له وغير مغفور، واستقام المذهب السني.
وقوله تعالى: يُوصِيكُمُ يتضمن الفرض والوجوب، كما تتضمنه لفظة أمر- كيف تصرفت، وأما صيغة الأمر من غير اللفظة ففيها الخلاف الذي سيأتي موضعه إن شاء الله، ونحو هذه الآية قوله تعالى:
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [الأنعام: 151] وقيل: نزلت هذه الآية بسبب بنات سعد بن الربيع وقال السدي: نزلت بسبب بنات عبد الرحمن بن ثابت أخي حسان بن ثابت، وقيل: بسبب جابر بن عبد الله، إذ عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، قال جابر بن عبد الله، وذكر أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون إلا من لاقى الحروب وقاتل العدو، فنزلت الآيات تبيينا أن لكل أنثى وصغير حظه، وروي عن ابن عباس: أن نزول ذلك كان من أجل أن المال كان للولد، والوصية للوالدين، فنسخ ذلك بهذه الآيات، ومِثْلُ مرتفع بالابتداء أو بالصفة، تقديره حظ مثل حظ، وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «في أولادكم أن للذكر» وقوله تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً الآية الأولاد لفظ يجمع الذكران والإناث، فلما أراد بهذه الآية أن يخص الإناث بذكر حكمهن أنث الفعل للمعنى، ولو اتبع لفظ الأولاد لقال كانوا، واسم- كان- مضمر، وقال بعض نحويي البصرة: تقديره وإن كن المتروكات «نساء» ، وقوله: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ معناه: «اثنتين» فما فوقهما، تقتضي ذلك قوة الكلام، وأما الوقوف مع اللفظ فيسقط معه النص على الاثنتين، ويثبت الثلثان لهما بالإجماع الذي مرت عليه الأمصار والأعصار، ولم يحفظ فيه خلاف، إلا ما روي عن عبد الله بن عباس: أنه يرى لهما النصف. ويثبت أيضا ذلك لهما بالقياس على الأختين المنصوص عليهما، ويثبت ذلك لهما بالحديث الذي ذكره الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2/15)


قضى للابنتين بالثلثين، ومن قال: فَوْقَ زائدة واحتج بقوله تعالى: فَوْقَ الْأَعْناقِ [الأنفال: 12] هو الفصيح، وليست فَوْقَ زائدة بل هي محكمة المعنى لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ، كما قال دريد بن الصمة «اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال: وقد احتج لأخذهما الثلثين بغير هذا، وكله معارض، قال إسماعيل القاضي: إذا كانت البنت تأخذ مع أخيها الثلث إذا انفرد، فأحرى أن تأخذ ذلك مع أختها قال غيره: وكما كان حكم الاثنين فما فوقهما من الإخوة للأم واحدا، فكذلك البنات، وقال النحاس: لغة أهل الحجاز وبني أسد، الثلث والربع إلى العشر، وقد قرأ الحسن ذلك كله بإسكان الأوسط، وقرأه الأعرج، ومذهب الزجاج: أنها لغة واحدة، وأن سكون العين تخفيف، وإذا أخذ بنات الصلب الثلثين، فلا شيء بعد ذلك لبنات الابن، إلا أن يكون معهن أخ لهن، أو ابن أخ، فيرد عليهن، وعبد الله بن مسعود لا يرى لهن شيئا، وإن كان الأخ أو ابن الأخ، ويرى المال كله للذكر وحده دونهن.
قوله تعالى:
قرأ السبعة سوى نافع «واحدة» بالنصب على خبر كان، وقرأ نافع واحدة بالرفع على أن كان بمعنى وقع وحصر، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: «النّصف» بضم النون، وكذلك قرأه علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت في جميع القرآن، وقوله: وَلَدٌ يريد ذكرا أو أنثى، واحدا أو جماعة للصلب أو ولد ولد ذكر، فإن ذلك كيف وقع يجعل فرض الأب السدس، وإن أخذ النصف في ميراثه فإنما يأخذه بالتعصيب، وقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ الآية، المعنى: فإن لم يكن له ولد، ولا ولد ولد ذكر، ذكرا كان أو أنثى، وقوله: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ تقتضي قوة الكلام أنهما منفردان عن جميع أهل السهام من ولد وغيره، فعلى هذا يكون قوله وَوَرِثَهُ حكما لهما بالمال فإذا ذكر وحدّ بعد ذلك نصيب أحدهما أخذ النصيب الآخر، كما تقول لرجلين: هذا المال بينكما، ثم تقول لأحدهما، أنت يا فلان لك منه الثلث، فقد حددت للآخر منه الثلثين، بنص كلامك، وعلى أن فريضتهما خلت من الولد وغيره يجيء قول أكثر الناس: إن للأم مع الانفراد الثلث من المال كله، فإن كان معهما زوج كان «للأم السدس» ، وهو الثلث بالإضافة إلى الأب، وعلى أن الفريضة خلت من الولد فقط يجيء قول شريح وابن عباس: إن الفريضة إذا خلت من الولد أخذت «الأم الثلث» من المال كله مع الزوج، وكان ما بقي للأب ويجيء على هذا، قوله: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ. منفردين أو مع غيرهم. وقرأ حمزة والكسائي «فلإمه» بكسر الهمزة، وهي لغة حكاها سيبويه، وكذلك كسر الهمزة من قوله: فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [النجم: 32] وفي أُمِّها [القصص: 59] وفي أُمُّ الْكِتابِ [آل عمران: 7، الرعد: 39، الزخرف: 4] وهذا كله إذا وصلا اتباعا للكسرة أو الياء التي قبل الهمزة، وقرأ الباقون كل هذا بضم الهمزة، وكسر همزة الميم من «أمهاتكم» اتباعا لكسر الهمزة، ومتى لم

(2/16)


يكن وصل وياء أو كسرة فالضم باتفاق، وقوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ الإخوة يحطون الأم إلى السدس ولا يأخذونه، أشقاء كانوا أو للأب أو للأم، وقال من لا يعد قوله إلا في الشذوذ: إنهم يحطون ويأخذون ما يحطون لأنفسهم مع الأب، روي عن ابن عباس، وروي عنه خلافه مثل قول «السدس» الذي يحجبون «الأم» عنه، قال قتادة: وإنما أخذه الأب دونهم، لأنه يمونهم، ويلي نكاحهم، والنفقة عليهم، هذا في الأغلب، ومجمعون على أن أخوين فصاعدا يحجبون الأم عنه، إلا ما روي عن عبد الله بن عباس، أن الأخوين في حكم الواحد، ولا يحجب الأم أقل من ثلاثة. واستدل الجميع بأن أقل الجمع اثنان، لأن التثنية جمع شيء إلى مثله، فالمعنى يقتضي أنها جمع، وذكر المفسرون أن العرب قد تأتي بلفظ الجمع وهي تريد التثنية، كما قال تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ [الأنبياء: 78] وكقوله في آية الخصم إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا [ص: 21، 22] وكقوله: وَأَطْرافَ النَّهارِ [طه: 130] واحتجوا بهذا كله في أن الإخوة يدخل تحته الأخوان.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآيات كلها لا حجة فيها عندي على هذه الآية، لأنه قد تبين في كل آية منها بالنص أن المراد اثنان، فساغ التجوز بأن يؤتى بلفظ الجمع بعد ذلك، إذ معك في الأولى- يحكمان- وفي الثانية- إن هذا أخي، وأيضا فالحكم قد يضاف إلى الحاكم والخصوم، وقد يتسور مع الخصم غيرهما فهم جماعة، وأما «النهار» في الآية الثالثة فالألف واللام فيه للجنس فإنما أراد طرفي كل يوم وأما إذا ورد لفظ الجمع ولم يقترن به ما يبين المراد فإنما يحمل على الجمع، ولا يحمل على التثنية، لأن اللفظ مالك للمعنى وللبنية حق، وذكر بعض من احتج لقول عبد الله بن عباس: أن بناء التثنية يدل على الجنس والعدد، كبناء الإفراد وبناء الجمع يدل على الجنس ولا يدل على العدد فلا يصح أن يدخل هذا على هذا، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي- «يوصي» - بإسناد الفعل إلى الموروث، إذ قد تقدم له ذكر، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر، «يوصى» بفتح الصاد ببنية الفعل للمفعول الذي لم يسّم فاعله، وقرأ الحسن بن أبي الحسن، «يوصّى» بفتح الصاد وتشديدها، وكل هذا في الموضعين، وقرأ حفص عن عاصم في الأولى بالفتح، وفي الثانية بالكسر، وهذه الآية إنما قصد بها تقديم هذين الفعلين على الميراث، ولم يقصد بها ترتيبهما في أنفسهما، ولذلك تقدمت الوصية في اللفظ، والدين مقدم على الوصية بإجماع، والذي أقول في هذا: إنه قدم الوصية إذ هي أقل لزوما من الدين، اهتماما بها وندبا إليها، كما قال تعالى: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً [الكهف: 49] وأيضا قدمها من جهة أنها مضمنها الوصية التي هي كاللازم يكون لكل ميت، إذ قد حض الشرع عليها، وأخر الدين لشذوذه، وأنه قد يكون ولا يكون، فبدأ بذكر الذي لا بد منه، ثم عطف بالذي قد يقع أحيانا، ويقوي هذا كون العطف ب أَوْ، ولو كان الدين راتبا لكان العطف بالواو، وقدمت الوصية أيضا إذ هي حظ مساكين وضعاف وأخر الدين إذ هو حظ غريم يطلبه بقوة، وهو صاحب حق له فيه، كما قال عليه السلام إن لصاحب الحق مقالا وأجمع العلماء على أن ليس لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث، واستحب كثير منهم أن لا يبلغ الثلث، وأن يغض الناس إلى الربع.

(2/17)


وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : آية 12]
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ رفع الابتداء، والخبر مضمر تقديره: هم المقسوم عليهم، وهم المعطون، وهذا عرض للحكمة في ذلك، وتأنيس للعرب الذين كانوا يورثون على غير هذه الصفة، ولا تَدْرُونَ عامل في الجملة بالمعنى ومعلق عن العمل في اللفظ بحسب المعمول فيه، إذ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، ونَفْعاً، قال مجاهد والسدي وابن سيرين: معناه في الدنيا، أي إذا اضطر إلى إنفاقهم للحاجة، نحا إليه الزجاج، وقد ينفقون دون اضطرار، وقال ابن عباس والحسن، في الآخرة، أي بشفاعة الفاضل للمفضول، وقال ابن زيد: فيهما، واللفظ يقتضي ذلك، وفَرِيضَةً نصب على المصدر المؤكد، إذ معنى يُوصِيكُمُ يفرض عليكم، وقال مكي وغيره: هي حال مؤكدة، وذلك ضعيف، والعامل يُوصِيكُمُ، وكانَ هي الناقصة، قال سيبويه لما رأوا علما وحكمة قيل لهم: إن الله لم يزل هكذا وصيغة- كان- لا تعطي إلا المضي، ومن المعنى بعد يعلم أن الله تعالى كان كذلك، وهو ويكون، لا من لفظ الآية، وقال قوم:
كانَ بمعنى وجد ووقع، وعَلِيماً، حال، وفي هذا ضعف، ومن قال: كانَ زائدة فقوله خطأ.
وقوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ الآية. الخطاب للرجال، والولد هاهنا بنو الصلب وبنو ذكورهم وإن سفلوا، ذكرانا وإناثا، واحدا فما زاد هذا بإجماع من العلماء.
قوله تعالى:
والولد في هذه الآية كما تقدم في الآية التي قبلها، والثمن للزوجة أو للزوجات هن فيه مشتركات بإجماع، ويلحق العول فرض الزوج والزوجة، كما يلحق سائر الفرائض المسماة، إلا عند ابن عباس، فإنه قال: يعطيان فرضهما بغير عول، والكلالة: مأخوذة من تكلل النسب: أي أحاط، لأن الرجل إذا لم يترك والدا ولا ولدا فقد انقطع طرفاه، وبقي أن يرثه من يتكلله نسبه، أي يحيط به من نواحيه كالإكليل، وكالنبات إذا أحاط بالشيء، ومنه: روض مكلل بالزهر، والإكليل منزل القمر يحيط به فيه كواكب، ومن الكلالة قول الشاعر: [المتقارب]

(2/18)


فإنّ أبا المرء أحمص له ... ومولى الكلالة لا يغضب
فالأب والابن هما عمودا النسب، وسائر القرابة يكللون، وقال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس وسليم بن عبيد وقتادة والحكم وابن زيد والزهري وأبو إسحاق السبيعي:
«الكلالة» خلو الميت عن الولد والوالد، وهذا هو الصحيح، وقالت طائفة: هي خلو الميت من الولد فقط، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعن عمر، ثم رجعا عنه، وروي عن ابن عباس، وذلك مستقرا من قوله في الإخوة مع الوالدين: إنهم يحطون الأم ويأخذون ما يحطونها.
قال القاضي أبو محمد: هكذا حكى الطبري. ويلزم على قول ابن عباس إذ ورثهم بأن الفريضة «كلالة» أن يعطيهم الثلث بالنص، وقالت طائفة منهم الحكم بن عتيبة: «الكلالة» الخلو من الوالد، وهذان القولان ضعيفان، لأن من بقي والده أو ولده، فهو موروث بجزم نسب لا بتكلل، وأجمعت الآن الأمة على أن الإخوة لا يرثون مع ابن ولا مع أب، وعلى هذا مضت الأمصار والأعصار، وقرأ جمهور الناس- «يورث» بفتح الراء، وقرأ الأعمش وأبو رجاء- «يورّث» - بكسر الراء وتشديدها، قال أبو الفتح بن جني: قرأ الحسن «يورث» من أورث، وعيسى «يورّث» بشد الراء من ورث، والمفعولان على كلتا القراءتين محذوفان، التقدير: يورث وارثه ماله كلالة، ونصب كَلالَةً على الحال، واختلفوا في «الكلالة» فيما وقعت عليه في هذه الآية، فقال عمر وابن عباس: «الكلالة» الميت الموروث إذا لم يكن له أب، ونصبها على خبر كان، وقال ابن زيد: «الكلالة» الوارثة بجملتها، الميت والأحياء كلهم «كلالة» ، ونصبها على الحال أو على النعت لمصدر محذوف تقديره وراثة «كلالة» ، ويصح على هذا أن تكون كانَ تامة بمعنى وقع، ويصح أن تكون ناقصة وخبرها يُورَثُ وقال عطاء: «الكلالة» المال، ونصب على المفعول الثاني.
قال القاضي أبو محمد: والاشتقاق في معنى الكلالة يفسد تسمية المال بها، وقالت طائفة: الكلالة الورثة، وهذا يستقيم على قراءة «يورث» بكسر الراء، فينصب كَلالَةً على المفعول، واحتج هؤلاء بحديث جابر بن عبد الله، إذ عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنما يرثني «كلالة» أفأوصي بمالي كله؟ وحكى بعضهم: أن تكون «الكلالة» الورثة، ونصبها على خبر كانَ، وذلك بحذف مضاف، تقديره ذا كلالة، ويستقيم سائر التأويلات على كسر الراء، وقوله أَوِ امْرَأَةٌ عطف على الرجل، وقوله تعالى: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ الآية، الضمير في له عائد على الرجل، واكتفى بإعادته عليه دون المرأة، إذ المعنى فيهما واحد، والحكم قد ضبطه العطف الأول، وأصل أُخْتٌ: أخوة، كما أصل بنت: بنية، فضم أول أخت إذ المحذوف منها واو، وكسر أول بنت إذ المحذوف ياء، وهذا الحذف والتعليل على غير قياس، وأجمع العلماء على أن الإخوة في هذه الآية الإخوة لأم، لأن حكمهم منصوص في هذه الآية على صفة، وحكم سائر الإخوة مخالف له، وهو الذي في كلالة آخر السورة، وقرأ سعد بن أبي وقاص «وله أخ أو أخت لأمه» والأنثى والذكر في هذه النازلة سواء، وشركتهم في الثلث متساوية وإن كثروا، هذا إجماع، فإن ماتت امرأة وتركت زوجا وأما وإخوة أشقاء، فللزوج النصف، وللأم السدس وما بقي فللإخوة، فإن كانوا لأم فقط، فلهم الثلث، فإن تركت الميتة زوجا وأما وأخوين لأم وإخوة لأب وأم، فهذه الحمارية، قال قوم: فيها للإخوة للأم الثلث، ولا شيء للإخوة الأشقاء، كما لو مات رجل وخلف أخوين لأم، وخلف مائة أخ لأب

(2/19)


تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)

وأم، فإنه يعطى الأخوان الثلث، والمائة الثلثين، فيفضلون بالثلث عليهم، وقال قوم: الأم واحدة وهب أباهم كان حمارا، وأشركوا بينهم في الثلث وسموها أيضا المشتركة.
قال القاضي أبو محمد: ولا تستقيم هذه المسألة ان لو كان الميت رجلا، لأنه يبقى للأشقاء، ومتى بقي لهم شيء فليس لهم إلا ما بقي، والثلث للإخوة للأم.
غَيْرَ مُضَارٍّ نصب على الحال، والعامل يُوصى، ووَصِيَّةٍ نصب على المصدر في موضع الحال، والعامل يُوصِيكُمُ وقيل: هو نصب على الخروج من قوله: فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ أو من قوله فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ ويصح أن يعمل مُضَارٍّ في وَصِيَّةٍ، والمعنى: أن يقع الضرر بها وبسببها، فأوقع عليها تجوزا، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «غير مضار وصية» بالإضافة، كما تقول:
شجاع حرب، ومدره حرب، وبضة المتجرد، في قول طرفة بن العبد، والمعنى على ما ذكرناه من التجوز في اللفظ لصحة المعنى، وقال ابن عباس: الضرار في الوصية من الكبائر، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ضارّ في وصية ألقاه الله تعالى في واد في جهنم.
قال القاضي أبو محمد: ووجوه المضارّة كثيرة لا تنحصر، وكلها ممنوعة: يقر بحق ليس عليه، ويوصي بأكثر من ثلثه، أو لوارثه، أو بالثلث فرارا عن وارث محتاج، وغير ذلك، ومشهور مذهب مالك وابن القاسم أن الموصي لا يعد فعله مضارّة ما دام في الثلث، فإن ضارّ الورثة في ثلثه مضى ذلك، وفي المذهب قوله: إن المضارة ترد وإن كانت في الثلث، إذا علمت بإقرار أو قرينة ويؤيد هذا قوله تعالى:
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ [البقرة: 182] .
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 13 الى 14]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)
وقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ الآية تِلْكَ إشارة إلى القسمة المتقدمة في المواريث، والحد: الحجز المانع لأمر ما أن يدخل على غيره أو يدخل عليه غيره، ومن هذا قولهم للبواب حداد لأنه يمنع، ومنه إحداد المرأة وهو امتناعها عن الزينة، هذا هو الحد في هذه الآية، وقوله: مِنْ تَحْتِهَا يريد من تحت بنائها، وأشجارها الذي من أجله سميت جنة، لأن أنهار الجنة إنما هي على وجه أرضها في غير أخاديد، وحكى الطبري: أن الحدود عند السدي هنا شروط الله، وعند ابن عباس: طاعة الله، وعند بعضهم: سنة الله، وعند بعضهم: فرائض الله، وهذا كله معنى واحد وعبارة مختلفة، وخالِدِينَ قال الزجاج: هي حالة

(2/20)


وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)

على التقدير، أي مقدرين خالِدِينَ فِيها، وجمع خالِدِينَ على معنى مَنْ بعد أن تقدم الإفراد مراعاة للفظ مَنْ، وعكس هذا لا يجوز.
وقوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية، قرأ نافع وابن عامر «ندخله» بنون العظمة، وقرأ الباقون، يدخله بالياء فيهما جميعا، وهذه آيتا وعد ووعيد، وتقدم الإيجاز في ذلك، ورجّى الله تعالى على التزام هذه الحدود في قسمة الميراث، وتوعد على العصيان فيها بحسب إنكار العرب لهذه القسمة، وقد كلم فيها النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن وغيره.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)
قوله وَاللَّاتِي: اسم جمع التي، وتجمع أيضا على «اللواتي» ، ويقال: اللائي بالياء، والْفاحِشَةَ في هذا الموضع: الزنا، وكل معصية فاحشة، لكن الألف واللام هنا للعهد، وقرأ ابن مسعود «بالفاحشة» ببناء الجر وقوله: مِنْ نِسائِكُمْ إضافة في معنى الإسلام، لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين بنسب، ولا يلحقها هذا الحكم، وجعل الله الشهادة على الزنا خاصة لا تتم إلا بأربعة شهداء، تغليظا على المدعي وسترا على العباد، وقال قوم: ذلك ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وكانت هذه أول عقوبات الزناة- الإمساك في البيوت، قال عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد: حتى نسخ بالأذى الذي بعده، ثم نسخ ذلك بآية النور وبالرجم في الثيب، وقالت فرقة: بل كان الأذى هو الأول، ثم نسخ بالإمساك ولكن التلاوة أخرت وقدمت، ذكره ابن فورك، وسَبِيلًا معناه مخرجا بأمر من أوامر الشرع، وروى حطان بن عبد الله الرقاشي عن عمران بن حصين، أنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل عليه الوحي، ثم أقلع عنه ووجهه محمر، فقال: قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم.
وَالَّذانِ- تثنية الذي، وكان القياس أن يقال: اللذيان كرحيان المتمكنة وبين الأسماء المبهمات. قال أبو علي: حذفت الياء تخفيفا إذ قد أمن من اللبس في اللذان، لأن النون لا تنحذف ونون التثنية في الأسماء المتمكنة قد تنحذف مع الإضافة في رحياك ومصطفيا القوم، فلو حذفت الياء لاشتبه المفرد بالاثنين، وقرأ ابن كثير «اللذانّ» بشد النون، وتلك عوض من الياء المحذوفة، وكذلك قرأ هذان، وفذانك، وهاتين، بالتشديد في جميعها، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بتخفيف جميع ذلك، وشدد أبو عمرو، «فذانك» وحدها ولم يشدد غيرها، وَالَّذانِ رفع بالابتداء، وقيل على معنى: فيما يتلى

(2/21)


عليكم «اللذان» ، واختلف في الأذى، فقال عبادة والسدي: هو التعيير والتوبيخ وقالت فرقة: هو السبّ والجفاء دون تعيير، وقال ابن عباس: هو النيل باللسان واليد وضرب النعال وما أشبهه، قال مجاهد وغيره:
الآية الأولى في النساء عامة لهن، محصنات وغير محصنات، والآية الثانية في الرجال، وبين بلفظ التثنية صنفي الرجال ممن أحصن وممن لم يحصن، فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى، وهذا قول يقتضيه اللفظ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة عليه، ويؤيده من جهة اللفظ قوله في الأولى مِنْ نِسائِكُمْ وقوله في الثانية مِنْكُمْ، وقال السدي وقتادة وغير هما: الآية الأولى في النساء المحصنات، يريد ويدخل معهن من أحصن من الرجال بالمعنى، والآية الثانية هي في الرجل والمرأة البكرين.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى هذا القول تام، إلا أن لفظ الآية يقلق عنه، وقد رجحه الطبري، وقرأ ابن مسعود «والذين يفعلونه منكم» وأجمع العلماء على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد في سورة النور، قاله الحسن ومجاهد وغيرهما، إلا من قال: إن الأذى والتعيير باق مع الجلد لأنهما لا يتعارضان بل يتحملان على شخص واحد، وأما الحبس فمنسوخ بإجماع، وآية الجلد عامة في الزناة محصنهم وغير محصنهم، وكذلك عممه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حطان بن عبد الله الرقاشي الذي ذكرته آنفا، وإن كان في صحيح مسلم فهو خبر آحاد، ثم ورد بالخبر المتواتر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ولم يجلد، فمن قال: إن السنة المتواترة تنسخ القرآن، جعل رجم الرسول دون جلد ناسخا لجلد الثيب، وهذا الذي عليه الأئمة: أن السنة المتواترة تنسخ القرآن، إذ هما جميعا وحي من الله، ويوجبان جميعا العلم والعمل، وإنما اختلفا في أن السنة نقص منها الإعجاز، وصح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في خبر ماعز، وفي حديث المرأة التي بعث إليها أنيس، ومن قال إن السنة المتواترة لا تنسخ القرآن، قال: إنما يكون حكم القرآن موقفا، ثم تأتي السنة مستأنفة من غير أن تتناول نسخا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تخيل لا يستقيم، لأنا نجد السنة ترفع بحكمها ما استقر من حكم القرآن على حد النسخ، ولا يرد ذلك نظر، ولا ينخرم منه أصل، أما أن هذه النازلة بعينها يتوجه عندي أن يقال فيها: إن الناسخ لحكم الجلد هو القرآن المتفق على رفع لفظه وبقاء حكمه، في قوله تعالى: الشيخ والشيخة- إذا زنيا- فارجموهما البتة، وهذا نص في الرجم، وقد قرره عمر على المنبر بمحضر الصحابة، وذكر أنهم قرأوه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث بكماله في مسلم وأيضا فيعضد أن ذلك من القرآن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له: فاقض بيننا يا رسول الله بكتاب الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لأقضين بينكما بكتاب الله، ثم أمر أنيسا برجم المرأة إن هي اعترفت، فدل هذا الظاهر على أن الرجم كان في القرآن، وأجمعت الأمة على رفع لفظة، وهاتان الآيتان أعني الجلد والرجم لو لم يقع بيان من الرسول لم يجب أن تنسخ إحداهما الأخرى، إذ يسوغ اجتماعهما على شخص واحد، وحديث عبادة المتقدم يقوي جميعهما، وقد أخذ به علي رضي الله عنه في شراحة جلدها ثم رجمها، وقال: أجلدها بكتاب الله وأرجمها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال الحسن وإسحاق بن راهويه، ولكن لما بين الرسول برجمه دون جلد كان فعله بمثابة قوله مع هذه الآية: فقوا ولا

(2/22)


إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)

تجلدوا فيكون القرآن هو الناسخ والسنة هي المبينة ويصح أن نعترض من ينسخ بالسنة في هذه النازلة فنقول: الناسخ من شروطه أن يستقل في البيان بنفسه، وإذا لم يستقل فليس بناسخ، وآية الرجم بعد أن يسلم ثبوتها لا تستقل في النسخ بنفسها، بل تنبني مع الجلد وتجتمع، كما تضمن حديث عبادة بن الصامت، لكن إسقاط الرسول الجلد هو الناسخ، لأن فعله في ذلك هو بمنزلة قوله: لا تجلدوا الثيب، وأما البكر فلا خلاف أنه يجلد، واختلف في نفيه، فقال الخلفاء الأربعة وابن عمر ومالك والشافعي وجماعة: لا نفي اليوم، وقالت جماعة: ينفى وقيل: نفيه سجنه، ولا تنفى المرأة ولا العبد، هذا مذهب مالك وجماعة من العلماء، وقوله: فَأَعْرِضُوا عَنْهُما كانت هذه العقوبة من الإمساك والأذى إرادة أن يتوب الزناة، وهو الرجوع عن الزنا والإصرار عليه، فأمر الله تعالى المؤمنين، إذا تاب الزانيان وأصلحا في سائر أعمالهما أن يكف عنهما الأذى، وجاء الأمر بهذا الكف الذي هو «أعرضوا» وفي قوة اللفظ غض من الزناة وإن تابوا، لأن تركهم إنما هو إعراض، ألا ترى إلى قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] وليس الإعراض في الآيتين أمرا بهجرة، ولكنها متاركة معرض، وفي ذلك احتقار لهم بحسب المعصية المتقدمة، ويحسب الجهالة في الآية الأخرى، والله تعالى تواب، أي راجع بعباده عن المعاصي إلى تركها ولزوم الطاعة.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)
إِنَّمَا حاصرة، وهو مقصد المتكلم بها أبدا، فقد تصادف من المعنى ما يقتضي العقل فيه الحصر، كقوله تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النساء: 171] وقد تصادف من المعنى ما لا يقتضي العقل فيه الحصر، كقوله: إنما الشجاع عنترة فيبقى الحصر في مقصد المادح، ويتحصل من ذلك لكل سامع تحقيق هذه الصفة للموصوف بمبالغة، وهذه الآية مما يوجب النظر فيها أنها حاصرة، وهي في عرف الشرع:
الرجوع من شر إلى خير، وحد التوبة: الندم على فارط فعل، من حيث هو معصية الله عز وجل، وإن كان الندم من حيث أضر ذلك الفعل في بدن أو ملك فليس بتوبة، فإن كان ذلك الفعل مما يمكن هذا النادم فعله في المستأنف فمن شروط التوبة العزم على ترك ذلك الفعل في المستأنف، وإلا فثم إصرار لا توبة معه، وإن كان ذلك الفعل لا يمكنه، مثل أن يتوب من الزنا فيجب بأثر ذلك ونحو ذلك، فهذا لا يحتاج إلى شرط العزم على الترك، والتوبة فرض على المؤمنين بإجماع الأمة، والإجماع هي القرينة التي حمل بها قوله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً [النور: 31] على الوجوب، وتصح التوبة من ذنب من الإقامة على غيره من غير نوعه، خلافا للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائبا من أقام على ذنب،

(2/23)


وتصح التوبة وإن نقضها التائب في ثاني حال بمعاودة الذنب، فإن التوبة الأولى طاعة قد انقضت وصحت، وهو محتاج بعد موافقة الذنب إلى توبة أخرى مستأنفة، والإيمان للكافر ليس نفس توبته، وإنما توبته ندمه على سالف كفره، وقوله تعالى: عَلَى اللَّهِ فيه حذف مضاف تقديره: على فضل الله ورحمته لعباده، وهذا نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال الله ورسوله أعلم، قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم سكت قليلا، ثم قال: يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله؟ قال الله ورسوله أعلم، قال: أن يدخلهم الجنة، فهذا كله إنما معناه: ما حقهم على فضل الله ورحمته، والعقيدة: أنه لا يجب على الله تعالى شيء عقلا، لكن إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء سمعا، فمن ذلك تخليد الكفار في النار، ومن ذلك قبول إيمان الكافر، والتوبة لا يجب قبولها على الله تعالى عقلا، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب، قال أبو المعالي وغيره: فهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن لا قطعا على الله بقبول التوبة.
قال القاضي أبو محمد: وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى، فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامة الشروط، فقول أبي المعالي يغلب على الظن قبول توبته، وقال غيره: يقطع على الله تعالى بقبول توبته، كما أخبر عن نفسه عز وجل.
قال القاضي أبو محمد: وكان أبي رحمة الله عليه يميل إلى هذا القول ويرجحه، وبه أقول، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الشورى: 25] وقوله: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ [طه: 82] والسُّوءَ في هذه الآية يعم الكفر والمعاصي، وقوله تعالى: بِجَهالَةٍ معناه: بسفاهة وقلة تحصيل أدى إلى المعصية، وليس المعنى أن تكون «الجهالة» ان ذلك الفعل معصية، لأن المتعمد للذنوب كان يخرج من التوبة، وهذا فاسد إجماعا، وبما ذكرته في «الجهالة» قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر ذلك عنهم أبو العالية، وقال قتادة: اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة، عمدا كانت أو جهلا، وقال به ابن عباس ومجاهد والسدي، وروي عن مجاهد والضحاك أنهما قالا: «الجهالة» هنا العمد، وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها «جهالة» .
قال القاضي أبو محمد: يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله، وهذا المعنى عندي جار مع قوله تعالى: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [محمد: 36، الحديد: 20] وقد تأول قوم قول عكرمة بأنه للذين يعملون السوء في الدنيا.
قال القاضي أبو محمد: فكأن «الجهالة» اسم للحياة الدنيا، وهذا عندي ضعيف، وقيل بِجَهالَةٍ، أي لا يعلم كنه العقوبة، وهذا أيضا ضعيف، ذكره ابن فورك ورد عليه، واختلف المتأولون في قوله تعالى:
مِنْ قَرِيبٍ فقال ابن عباس والسدي: معنى ذلك قبل المرض والموت، وقال أبو مجلز ومحمد بن قيس والضحاك وعكرمة وابن زيد وغيرهم: معنى ذلك قبل المعاينة للملائكة والسوق، وأن يغلب المرء على نفسه، وروى أبو قلابة، أن الله تعالى لما خلق آدم فرآه إبليس أجوف، ثم جرى له ما جرى ولعن وأنظر،

(2/24)


قال: وعزتك لا برحت من قلبه ما دام فيه الروح، فقال الله تعالى: وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح.
قال القاضي أبو محمد: فابن عباس رضي الله عنه ذكر أحسن أوقات التوبة، والجمهور حددوا آخر وقتها، وقال إبراهيم النخعي: كان يقال: التوبة مبسوطة لأحدكم ما لم يؤخذ بكظمه، وروى بشير بن كعب والحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ويغلب على عقله.
قال القاضي أبو محمد: لأن الرجاء فيه باق ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل في المستأنف، فإذا غلب تعذرت التوبة لعدم الندم والعزم على الترك، وقوله تعالى: مِنْ قَرِيبٍ إنما معناه: «من قريب» إلى وقت الذنب، ومدة الحياة كلها قريب، والمبادر في الصحة أفضل، والحق لأمله من العمل الصالح، والبعد كل البعد الموت، ومنه قول مالك بن الريب: [الطويل] وأين مكان البعد إلّا مكانيا وقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي بمن يتوب وييسره هو للتوبة حكيما فيما ينفذه من ذلك، وفي تأخير من يؤخر حتى يهلك.
ثم نفى بقوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ الآية أن يدخل في حكم التائبين من حضره موته وصار في حيز اليأس، وحضور الموت هو غاية قربه، كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق، فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان، وبهذا قال ابن عباس وابن زيد وجماعة المفسرين، وقال الربيع: الآية الأولى قوله:
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ هي في المؤمنين، والآية الثانية قوله: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ الآية نزلت في المسلمين ثم نسخت بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48، 116] فحتم أن لا يغفر للكافر وأرجأ المؤمنين إلى مشيئته لم ييئسهم من المغفرة.
قال القاضي أبو محمد: وطعن بعض الناس في هذا القول بأن خبر، والأخبار لا تنسخ. وهذا غير لازم، لأن الآية لفظها الخبر، ومعناه تقرير حكم شرعي، فهي نحو قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] ونحو قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [سورة الأنفال: 65] وإنما يضعف القول بالنسخ من حيث تنبني الآيتان ولا يحتاج إلى تقرير نسخ، لأن هذه الآية لم تنف أن يغفر للعاصي الذي لم يتب من قريب، فنحتاج أن نقول، إن قوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ [النساء: 48، 116] نسخها وإنما نفت هذه الآية أن يكون تائبا من لم يتب إلا مع حضور الموت، فالعقيدة عندي في هذه الآيات: أن من تاب من قريب فله حكم التائب فيغلب الظن عليه أنه ينعم ولا يعذب، هذا مذهب أبي المعالي وغيره، وقال غيرهم: بل هو مغفور له قطعا، لإخبار الله تعالى بذلك، وأبو المعالي يجعل تلك الأخبار ظواهر مشروطة بالمشيئة، ومن لم يتب حتى حضره الموت فليس في حكم التائبين، فإن كان كافرا فهو يخلد، وإن كان مؤمنا فهو عاص في المشيئة، لكن يغلب الخوف عليه، ويقوي الظن في تعذيبه، ويقطع من جهة السمع أن من هذه الصنيفة من يغفر الله له تعالى تفضلا منه ولا يعذبه.
وأعلم الله تعالى أيضا أن الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فلا مستعتب لهم ولا توبة في الآخرة، وقوله تعالى:

(2/25)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)

أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً إن كانت الإشارة إلى الذين يموتون وهم كفار فقط، فالعذاب عذاب خلود، وإن كانت الإشارة إليهم وإلى من ينفذ عليه الوعيد، ممن لا يتوب إلا مع حضور الموت من العصاة فهو في جهة هؤلاء، عذاب ولا خلود معه، وأَعْتَدْنا معناه: يسرناه وأحضرناه، وظاهر هذه الآية أن النار مخلوقة بعد.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : آية 19]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)
اختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً فقال ابن عباس: كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته من أهلها، إن شاؤوا تزوجها أحدهم، وإن شاؤوا زوجوها من غيرهم، وإن شاؤوا منعوها الزواج، فنزلت الآية في ذلك، قال أبو إمامة بن سهل بن حنيف:
لما توفي أبو قيس بن الأسلت، أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان لهم ذلك في الجاهلية، فنزلت الآية في ذلك، ذكر النقاش: أن اسم ولد أبي قيس محصن.
قال القاضي أبو محمد: كانت هذه السيرة في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التراضي، ألا ترى أن أبا عمرو بن أمية، خلف على امرأة أبيه بعد موته، فولدت من أبي عمرو مسافرا وأبا معيط وكان لها من أمية أبو العيص وغيره، فكان بنو أمية إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما، وقال بمثل هذا القول الذي حكيت عن ابن عباس عكرمة والحسن البصري وأبو مجلز، قال عكرمة: نزلت في كبيشة بنت معن الأنصارية، توفي عنها أبو قيس بن الأسلت، وقال مجاهد: كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه إذا لم يكن ولدها، وقال السدي: كان ولي الميت إذا سبق فألقى على امرأة الميت ثوبه، فهو أحق بها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها.
قال القاضي أبو محمد: والروايات في هذا كثيرة بحسب السير الجاهلية، ولا منفعة في ذكر جميع ذلك، إذ قد أذهبه الله بقوله: لا يَحِلُّ لَكُمْ ومعنى الآية على هذا القول: لا يَحِلُّ لَكُمْ أن تجعلوا النساء كالمال، يورثن عن الرجال الموتى، كما يورث المال، والمتلبس بالخطاب أولياء الموتى، وقال بعض المتأولين: معنى الآية: لا يَحِلُّ لَكُمْ عضل النساء اللواتي أنتم أولياء لهن وإمساكهن دون تزويج حتى يمتن فتورث أموالهن.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا القول فالموروث مالها لا هي، وروي نحو هذا عن ابن عباس وغيره، والمتلبس بالخطاب أولياء النساء وأزواجهن، إذا حبسوهن مع سوء العشرة طماعية أن يرثها، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير: «كرها» بفتح الكاف حيث وقع في النساء وسورة التوبة وفي الأحقاف، وقرأ

(2/26)


حمزة والكسائي جميع ذلك بضم الكاف، وقرأ عاصم وابن عامر في النساء والتوبة بفتح الكاف، وفي الأحقاف في الموضعين بضمها، والكره والكره لغتان كالضعف والضعف، والفقر والفقر، قاله أبو علي، وقال الفراء: هو بضم الكاف المشقة وبفتحها إكراه غير، وقاله ابن قتيبة، واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ الآية، فقال ابن عباس وغيره: هي أيضا في أولئك الأولياء الذين كانوا يرثون المرأة لأنهم كانوا يتزوجونها إذا كانت جميلة، ويمسكونها حتى تموت إذا كانت دميمة، وقال نحوه الحسن وعكرمة.
قال القاضي أبو محمد: ويجيء في قوله: آتَيْتُمُوهُنَّ خلط أي ما آتاها الرجال قبل، فهي كقوله:
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] وغير ذلك وقال ابن عباس أيضا: هي في الأزواج، في الرجل يمسك المرأة ويسيء عشرتها حتى تفتدي منه، فذلك لا يحل له، وقال مثله قتادة، وقال ابن البيلماني: الفصل الأول من الآية هو في أمر الجاهلية، والثاني في العضل، هو في أهل الإسلام في حبس الزوجة ضرارا للفدية، وقال ابن مسعود: معنى الآية: لا ترثوا النساء كفعل الجاهلية، وَلا تَعْضُلُوهُنَّ في الإسلام، وقال نحو هذا القول السدي والضحاك، وقال السدي: هذه الآية خطاب للأولياء، كالعضل المنهي عنه في سورة البقرة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يقلق، إلا أن يكون العضل من ولي وارث، فهو يؤمل موتها، وإن كان غير وارث فبأي شيء يذهب؟، وقال ابن زيد: هذا العضل المنهي عنه في هذه الآية هو من سير الجاهلية في قريش بمكة، إذا لم يتوافق الزوجان طلقها على ألا تتزوج إلا بإذنه، ويشهد عليها بذلك، فإذا خطبت فإن أعطته ورشته وإلا عضل، ففي هذا نزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد: والذي أقول: إن العضل في اللغة الحبس في شدة ومضرة، والمنع من الفرج في ذلك فمن ذلك قولهم: أعضلت الدجاجة وعضلت إذا صعب عليها وضع البيضة، ومنه أعضل الداء إذا لحج ولم يبرأ، ومنه داء عضال. ومشى عرف الفقهاء على أن العضل من الأولياء في حبس النساء عن التزويج، وهو في اللغة أعم من هذا حسبما ذكرت، يقع من ولي ومن زوج، وأقوى ما في هذه الأقوال المتقدمة، أن المراد الأزواج، ودليل ذلك قوله: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ وإذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعا من الأمة، وإنما ذلك للزوج على ما سنبين بعد إن شاء الله، وكذلك قوله: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ إلى آخر الآية يظهر منه تقوية ما ذكرته، وإن حان ذلك يحتمل أن يكون أمرا منقطعا من الأول يخص به الأزواج. وأما العضل فمنهي عنه كل من يتصور في نازلة عاضلا، ومتى صح في ولي أنه عاضل نظر القاضي في أمر المرأة وزوجها ولم يلتفت، إلا الأب في بناته، فإنه إن كان في أمره إشكال فلا يعترض قولا واحدا، وإن صح عضله ففيه قولان في مذهب مالك: أحدهما أنه كسائر الأولياء: يزوج القاضي من شاء التزويج من بناته وطلبه، والقول الآخر إنه لا يعرض له، ويحتمل قوله:
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ أن يكون جزما، فتكون الواو عاطفة جملة كلام مقطوعة من الأولى، ويحتمل أن يكون تَعْضُلُوهُنَّ نصبا عطفا على تَرِثُوا فتكون الواو مشركة عاطفة فعل على فعل، وقرأ ابن مسعود: «ولا أن تعضلوهن» . فهذه القراءة تقوي احتمال النصب، وأن العضل مما لا يحل بالنص، وعلى تأويل الجزم

(2/27)


هو نهي معرض لطلب القرائن في التحريم أو الكراهية، واحتمال النصب أقوى، واختلف الناس في معنى الفاحشة هنا، فقال الحسن بن أبي الحسن: هو الزنا، وإذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى سنة، وترد إلى زوجها ما أخذت منه، وقال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه، وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن، وقال عطاء الخراساني: كان هذا الحكم ثم نسخ بالحدود، وهذا قول ضعيف، وقال ابن عباس رحمه الله: «الفاحشة» في هذه الآية البغض والنشوز، وقاله الضحاك وغيره، قالوا: فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو مذهب مالك، إلا أني لا أحفظ له نصا في معنى «الفاحشة» في هذه الآية، وقال قوم: «الفاحشة» البذاء باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا، وهذا في معنى النشوز، ومن أهل العلم من يجيز أخذ المال من الناشز على جهة الخلع، إلا أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها ركونا إلى قوله تعالى: لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ وقال مالك وأصحابه وجماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك.
قال القاضي أبو محمد: والزنا أصعب على الزوج من النشوز والأذى، وكل ذلك فاحشة تحل أخذ المال، وقرأ ابن مسعود: «إلا أن يفحشن وعاشروهن» .
قال القاضي أبو محمد: وهذا خلاف مفرط لمصحف الإمام، وكذلك ذكر أبو عمرو عن ابن عباس وعكرمة وأبيّ بن كعب، وفي هذا نظر، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر «مبينّة» و «آيات مبيّنات» بفتح الياء فيهما، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص والمفضل عن عاصم: «مبيّنة» ، و «مبيّنات» - بكسر الياء فيهما، وقرأ نافع وأبو عمرو: «مبيّنة» بالكسر، و «مبيّنات» بالفتح- وقرأ ابن عباس: «بفاحشة مبينة» بكسر الباء وسكون الياء، من أبان الشيء، وهذه القراءات كلها لغات فصيحة، يقال: بين الشيء وأبان: إذا ظهر، وبان الشيء وبينته، وقوله تعالى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أمر للجميع، إذ لكل أحد عشرة، زوجا كان أو وليا، ولكن المتلبس في الأغلب بهذا الأمر الأزواج، والعشرة المخالطة والممازجة، ومنه قول طرفة: [الرمل]
فلئن شطّت نواها مرّة ... لعلى عهد حبيب معتشر
جعل- الحبيب- جمعا كالخليط والفريق، يقال: عاشره معاشرة، وتعاشر القوم واعتشروا، وأرى اللفظة من أعشار الجزور، لأنها مقاسمة ومخالطة ومخالقة جميلة، فأمر الله تعالى الرجال بحسن صحبة النساء، وإلى هذا ينظر قول النبي صلى الله عليه وسلم: فاستمتع بها وفيها عوج، ثم أدب تعالى عباده بقوله: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ إلى آخر الآية، قال السدي: الخير الكثير في المرأة الولد، وقال نحوه ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: ومن فصاحة القرآن العموم الذي في لفظة شيء لأنه يطرد هذا النظر في كل ما يكرهه المرء مما يجمل الصبر عليه، فيحسن الصبر، إذ عاقبته إلى خير، إذا أريد به وجه الله.

(2/28)


وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)

قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 20 الى 21]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)
لما مضى في الآية المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة، وأن للزوج أخذ المال منها، عقب ذلك ذكر الفراق الذي سببه الزوج، والمنع من أخذ مالها مع ذلك، فهذا الذي في هذه الآية هو الذي يختص الزوج بإرادته، واختلف العلماء، إذا كان الزوجان يريدان الفراق، وكان منهما نشوز وسوء عشرة، فقال مالك رحمه الله: للزوج أن يأخذ منها إذا سببت الفراق، ولا يراعى تسبيبه هو، وقالت جماعة من العلماء:
لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وبظلمه في ذلك، وقال بعض الناس: يخرج في هذه الآية جواز المغالاة بالمهور، لأن الله تعالى قد مثل بقنطار، ولا يمثل تعالى إلا بمباح، وخطب عمر بن الخطاب فقال: ألا لا تغالوا بمهور نسائكم، فإن الرجل يغالي حتى يكون ذلك في قلبه عداوة للمرأة، يقول:
تجشمت إليك علق القربة أو عرق القربة، فيروى أن امرأة كلمته من وراء الناس فقالت، كيف هذا؟ والله تعالى يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً قال: فأطرق عمر ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر، ويروى أنه قال: امرأة أصابت ورجل أخطأ، والله المستعان، وترك الإنكار، وقال قوم: لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور لأن التمثيل جاء على جهة المبالغة، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، وهذا كقوله عليه السلام، من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة، فمعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص، وقد قال النبي عليه السلام لابن أبي حدرد- وقد جاء يستعينه في مهره- فسأله عن المهر، فقال: مائتين، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة أو جبل، الحديث- فاستقرأ بعض الناس من هذا منع المغالاة بالمهور.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يلزم، لأن هذا أحوج نفسه إلى الاستعانة والسؤال، وذلك مكروه باتفاق، وإنما المغالاة المختلف فيها مع الغنى وسعة المال، وقرأ ابن محيصن بوصل ألف «إحداهن» ، وهي لغة تحذف على جهة التخفيف. ومنه قول الشاعر: [الطويل] ونسمع من تحت العجاج لها زملا وقول الآخر: [الكامل] إن لم أقاتل فالبسوني برقعا وقد تقدم القول في قدر القنطار في سورة آل عمران، وقرأ أبو السمال «منه شيئا» بفتح الياء والتنوين، وهي قراءة أبي جعفر، والبهتان: مصدر في موضع الحال، ومعناه: محيرا لشنعته وقبح الأحدوثة والفعلة فيه.

(2/29)


وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)

ثم وعظ تعالى عباده مذكرا لهم بالمودة التي بين الزوجين الموجبة لحياطة مال المرأة، إذ قد أخذ منها العوض عما أعطيته، وَكَيْفَ في موضع نصب على الحال وأَفْضى معناه: باشر وجاوز أقصى المجاوزة ومنه قول الشاعر: [الطويل]
بلى وثأى أفضى إلى كلّ كثبة ... بدا سيرها من ظاهر بعد باطن
وفي مثل الناس، فوضى فضا، أي مختلطون يباشر أمر بعضهم بعضا وتقول أفضت الحال إلى كذا أي صارت إليه، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم: الإفضاء في هذه الآية الجماع، قال ابن عباس: ولكن الله كريم يكني، واختلف الناس في المراد بالميثاق الغليظ، فقال الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم: هو قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: 229] وقال مجاهد وابن زيد: الميثاق الغليظ عقدة النكاح، وقول الرجل: نكحت وملكت النكاح ونحوه، فهذه التي بها تستحل الفروج، وقال عكرمة والربيع: الميثاق الغليظ يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلام الله، وقال قوم:
الميثاق الغليظ الولد، ومن شاذ الأقوال في هذه الآية، أن بكر بن عبد الله المزني قال: لا يجوز أن يؤخذ من المختلعة قليل ولا كثير، وإن كانت هي المريدة للطلاق، ومنها أن ابن زيد قال: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [البقرة: 229] .
قال القاضي أبو محمد: وليس في شيء من هذه الآيات ناسخ ولا منسوخ، وكلها ينبني بعضها مع بعض.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 22 الى 23]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)
هذه الآية مخاطبة للمؤمنين من العرب في مدة نزول الآية ومعنى الآية: والتحريم الذي بعدها مستقر على المؤمنين أجمع، وسبب الآية: أن العرب كان منهم قبائل قد اعتادت أن يخلف الرجل على امرأة أبيه، على ما ذكرناه من أمر أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، ومن ذلك خبر أبي قيس بن الأسلت، ومن ذلك صفوان بن أمية بن خلف، تزوج بعد أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد، وكانت امرأة أبيه قتل عنها، ومن ذلك منظور بن زيان، خلف على مليكة بنت خارجة، وكانت عند أبيه زيان بن سيار، إلى كثير من هذا، وقد كان في العرب من تزوج ابنته، وهو حاجب بن زرارة، تمجس وفعل هذه الفعلة، ذكر ذلك

(2/30)


النضر بن شميل في كتاب المثالب، فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السير، وقال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فنزلت هذه الآية في ذلك، واختلف المتأولون في مقتضى ألفاظ الآية، فقالت فرقة: قوله: ما نَكَحَ يراد به النساء. أي لا تنكحوا النساء اللواتي نكح آباؤكم، وقوله: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ معناه: لكن ما قد سلف فدعوه، وقال بعضهم المعنى لكن ما قد سلف فهو معفو عنكم لمن كان واقعه، فكأنه قال تعالى ولا تفعلوا حاشا ما قد سلف، ف ما على هذا القول واقعة على من يعقل من حيث هؤلاء النساء صنف من أصناف من يعقل، وما تقع للأصناف والأوصاف ممن يعقل، وقالت فرقة: قوله: ما نَكَحَ يراد به فعل الآباء، أي لا تنكحوا كما نكح آباؤكم من عقودهم الفاسدة، وقوله: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ معناه إلا ما تقدم منكم ووقع من تلك العقود الفاسدة فمباحة لكم الإقامة عليه في الإسلام، إذا كان مما يقرر الإسلام عليه من جهة القرابة، ويجوزه الشرع أن لو ابتدئ نكاحه في الإسلام على سنته، وقيل: معنى إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي فهو معفو عنكم.
قال القاضي أبو محمد: وما على هذا مصدرية، وفي قراءة أبيّ بن كعب «إلا ما قد سلف إلا من تاب» .
قال القاضي أبو محمد: وكذلك حكاه أبو عمرو الداني، وقال ابن زيد: معنى الآية: النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء، «إلا ما قد سلف» من الآباء في الجاهلية من الزنا، لا على وجه المناكحة، فذلك جائز لكم زواجهم في الإسلام، لأن ذلك الزنا كان فاحشة ومقتا، قال ابن زيد: فزاد في هذه الآية المقت، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل هذه الآية: كل امرأة تزوجها أبوك أو ابنك دخل أو لم يدخل، فهي عليك حرام وكانَ في هذه الآية تقتضي الماضي والمستقبل، وقال المبرد: هي زائدة، وذلك خطأ يرد عليه وجود الخبر منصوبا، والمقت: البغض والاحتقار بسبب رذيلة يفعلها الممقوت، فسمى تعالى هذا النكاح مَقْتاً إذ هو ذا مقت يلحق فاعله، وقال أبو عبيدة وغيره: كانت العرب تسمي الولد الذي يجيء من زوج الوالد المقتي، وقوله: وَساءَ سَبِيلًا أي بئس الطريق والمنهج لمن يسلكه، إذ عاقبته إلى عذاب الله.
وقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الآية، حكم حرم الله به سبعا من النسب، وستا من بين رضاع وصهر، وألحقت السنة المأثورة سابعة، وذلك الجمع بين المرأة وعمتها، ومضى عليه الإجماع، وروي عن ابن عباس أنه قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، وتلا هذه الآية، وقال عمرو بن سالم مولى الأنصار: مثل ذلك، وجعل السابعة قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ [النساء: 24] ، وتحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه، ويسميه أهل العلم- المبهم- أي لا باب فيه، ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته، وكذلك تحريم البنات والأخوات، فالأم كل من ولدت المرء وإن علت والبنت كل من ولدها وإن سفلت، والأخت كل من جمعه وإياها صلب أو بطن، والعمة أخت الأب، والخالة أخت الأم، كذلك فيهما العموم والإبهام، وكذلك عمة الأب وخالته، وعمة الأم وخالتها، وكذلك عمة العمة، وأما خالة العمة فينظر، فإن كانت العمة أخت أب لأم، أو لأب وأم فلا تحل خالة العمة، لأنها أخت الجدة، وإن كانت العمة إنما هي أخت أب لأب فقط فخالتها أجنبية من بني أخيها، تحل للرجال، ويجمع بينها وبين النساء،

(2/31)


وكذلك عمة الخالة ينظر، فإن كانت الخالة أخت أم لأب، فعمتها حرام، لأنها أخت جد، وإن كانت الخالة أخت أم لأم فقط فعمتها أجنبية من بني أختها، وكذلك في بنات الأخ وبنات الأخت العموم والإبهام، سواء كانت الأخوة شقيقة. أو لأب أو لأم، وقرأ أبو حيوة «من الرّضاعة» بكسر الراء، والرضاع يحرم ما يحرم النسب، والمرضعة أم، وما تقدم من أولادها وتأخر إخوة، وفحل اللبن أب، وما تقدم من أولاده وتأخر إخوة، وقرأ ابن مسعود «اللاي» بكسر الياء، وقرأ ابن هرمز «وأمهاتكم التي» بالإفراد، كأنه من جهة الإبهام يقع مع الواحد والجماعة، واختلف الناس في تأويل قوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ فقال جمهور أهل العلم: هي تامة العموم فيمن دخل بها أو لم يدخل، فبالعقد على الابنة حرمت الأم، وهذا مذهب جملة الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وروي عن علي بن أبي طالب أنه قيل له في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أيتزوج أمها؟ قال: نعم، هي بمنزلة الربيبة.
قال القاضي أبو محمد: يريد أن قوله تعالى: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ شرط في هذه، وفي الربيبة، وروي نحوه عن ابن عباس، وروي عنه كقول الجمهور، وروي عن زيد بن ثابت، أنه كان يقول: إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها، وإن طلقها قبل أن يدخل بها، فإن شاء فعل، وقال مجاهد: الدخول مراد في النازلتين، وقول جمهور الناس مخالف لهذا القول، وروي في ذلك عن زيد بن ثابت أنه قال: أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ مبهمة، وإنما الشرط في الربائب، وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أكان ابن عباس يقرأ «وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن» ؟ فقال لا تترأ، قال حجاج: قلت لابن جريج: ما تترأ؟ قال كأنه قال، لا لا، ويرد هذا القول من جهة الإعراب أن المجرورين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحدا، ومعناه: إذا اختلفا في العامل، وهذه الآية قد اختلف فيها جنس العامل.
قوله تعالى:
وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ....
الربيبة: بنت امرأة الرجل من غيره، سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبته. وربيبة: فعيلة بمعنى مفعولة، وقوله تعالى: اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ذكر الأغلب في هذه الأمور، إذ هي حالة الربيبة في الأكثر، وهي محرمة وإن كانت في غير الحجر، لأنها في حكم أنها في الحجر، إلا ما روي عن علي أنه قال: تحل إذا لم تكن في الحجر وإن دخل بالأم، إذا كانت بعيدة عنه، ويقال: حجر بكسر الحاء وفتحها، وهو مقدم ثوب الإنسان وما بين يديه منه في حالة اللبس، ثم استعملت اللفظة في الحفظ والستر، لأن اللابس إنما تحفظ طفلا وما أشبهه بذلك الموضع من الثوب، واختلف العلماء في معنى قوله: دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فقال ابن عباس وطاوس وابن دينار: الدخول في هذا الموضع الجماع، فإن طلق الرجل بعد البناء وقبل الوطء، فإن ابنتها له حلال، وقال جمهور من العلماء منهم مالك بن أنس وعطاء بن أبي رباح

(2/32)


وغيرهم: إن التجريد والتقبيل والمضاجعة وجميع أنواع التلذذ يحرم الابنة كما يحرمها الوطء، والحلائل:
جمع حليلة، وهي الزوجة، لأنها تحل مع الرجل حيث حل، فهي فعلية بمعنى فاعلة، وذهب الزجاج وقوم: إلى أنها من لفظة الحلال، فهي حليلة بمعنى محللة، وقوله: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب، وكان عندهم أمرا كثيرا قوي الحكم، قال عطاء ابن أبي رباح: يتحدث- والله أعلم- أنها نزلت في محمد عليه السلام حين تزوج امرأة زيد بن حارثة، فقال المشركون: قد تزوج امرأة ابنه، فنزلت الآية، وحرمت حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب بالإجماع المستند إلى قوله صلى الله عليه وسلم، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، وقوله تعالى:
وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ لفظ يعم الجمع بنكاح وبملك يمين، وأجمعت الأمة على منع جمعهما بنكاح، وأما بملك يمين، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: أحلتهما آية، وحرمتهما آية، فأما أنا في خاصة نفسي فلا أرى الجمع بينهما حسنا، وروي نحو هذا عن ابن عباس، ذكره ابن المنذر، وذكر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك، وجعل مالكا فيمن كرهه.
قال القاضي أبو محمد: ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك، وكذلك الأم وبنتها، ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء، وتستقرأ الكراهية من قول مالك: إنه إذا وطئ واحدة ثم وطئ أخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما فلم يلزمه حدا، واختلف العلماء بعد القول بالمنع من الجمع بينهما بالوطء، إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه، ببيع أو عتق أو بأن يزوجها، قال ابن المنذر: وفيها قول ثان لقتادة، وهو أنه إن كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها، ثم يمسك عنها حتى يستبرىء الأولى المحرمة، ثم يغشى الثانية.
قال القاضي أبو محمد: ومذهب مالك رحمه الله، إذا كان أختان عند رجل يملك، فله أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته، فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله، من إخراج عن الملك، أو تزويج، أو عتق إلى أجل، أو إخدام طويل، فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى، ولم يبق ذلك إلى أمانته، لأنه متهم فيمن قد وطئ، ولم يكن قبل متهما إذ كان لم يطأ إلا الواحدة، وإن كانت عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها، ففيها في المذهب ثلاثة أقوال، في النكاح الثالث من المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهيته لهذا النكاح، إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء، وذلك مكروه إلا في الحيض، لأنه أمر غالب كثير، وفي الباب بعينه قول آخر: إن النكاح لا ينعقد، وقال أشهب في كتاب الاستبراء: عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وأجمعت الأمة على ذلك وقد رأى بعض العلماء أن هذا الحديث ناسخ لعموم قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ

(2/33)


وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)

[النساء: 24] وذلك لأن الحديث من المتواتر، وكذلك قوله عليه السلام، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، قيل أيضا إنه ناسخ، وقوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ استثناء منقطع، معناه لكن ما قد سلف من ذلك ووقع وأزاله الإسلام فإن الله يغفره، والإسلام يجبّه.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : آية 24]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)
قوله عز وجل: وَالْمُحْصَناتُ عطف على المحرمات قبل، والتحصن: التمنع، يقال حصن المكان: إذا امتنع، ومنه الحصن، وحصنت المرأة: امتنعت بوجه من وجوه الامتناع، وأحصنت نفسها، وأحصنها غيرها، والإحصان تستعمله العرب في أربعة أشياء، وعلى ذلك تصرفت اللفظة في كتاب الله عز وجل، فتستعمله في الزواج، لأن ملك الزوجة منعة وحفظ، ويستعملون الإحصان في الحرية لأن الإماء كان عرفهن في الجاهلية الزنا، والحرة بخلاف ذلك، ألا ترى إلى قول هند بنت عتبة للنبي عليه السلام، حين بايعته، وهل تزني الحرة؟ فالحرية منعة وحفظ، ويستعملون الإحصان في الإسلام لأنه حافظ، ومنه قول النبي عليه السلام «الإيمان قيد الفتك» ومنه قول الهذلي:
فليس كعهد الدّار يا أمّ مالك ... ولكن أحاطت بالرّقاب السّلاسل
ومنه قول الشاعر:
قالت هلمّ إلى الحديث فقلت لا ... يأبى عليك الله والإسلام
ومنه قول سحيم:
كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا ومنه قول أبي حية:
رمتني وستر الله بيني وبينها فإن أحد الأقوال في الستر أنه أراد به الإسلام، ويستعملون الإحصان في العفة، لأنه إذا ارتبط بها إنسان وظهرت على شخص ما وتخلق بها، فهي منعة وحفظ، وحيثما وقعت اللفظة في القرآن فلا تجدها تخرج عن هذه المعاني، لكنها قد تقوى فيها بعض هذه المعاني دون بعض، بحسب موضع وموضع، وسيأتي بيان ذلك في أماكنه إن شاء الله.
فقوله في هذه الآية وَالْمُحْصَناتُ، قال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو

(2/34)


سعيد الخدري: هن ذوات الأزواج، أي هن محرمات، إلا ما ملكت اليمين بالسبي، من أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه، وإن كان لها زوج، وروى أبو سعيد الخدري: أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا وأصابوا سبيا لهن أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون من غشيانهن، فنزلت الآية مرخصة، وقال عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن ابن أبي الحسن وأبيّ بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس أيضا: معنى الْمُحْصَناتُ ذوات الأزواج، فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الأمة ذات الزوج، فإن بيعها طلاقها، وهبتها طلاقها والصدقة بها طلاقها، وأن تعتق طلاقها، وأن تورث طلاقها، وتطليق الزوج طلاقها، وقال ابن مسعود: إذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحقّ ببضعها، ومذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء أن انتقال الملك في الأمة لا يكون طلاقا، ولا طلاق لها إلا الطلاق، وقال قوم: الْمُحْصَناتُ في هذه الآية العفائف، أي كل النساء حرام، وألبسهن اسم الإحصان، إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك، إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قالوا: معناه بنكاح أو شراء، كل ذلك تحت ملك اليمين، قال بهذا القول أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء، ورواه عبيدة عن عمر رضي الله عنه، وقال ابن عباس: الْمُحْصَناتُ العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب.
قال القاضي أبو محمد: وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا، وأسند الطبري عن عروة أنه قال في تأويل قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ: هن الحرائر، ويكون إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ معناه بنكاح، هذا على اتصال الاستثناء، وإن أريد الإماء فيكون الاستثناء منقطعا، وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كان نساء يأتيننا مهاجرات، ثم يهاجر أزواجهن فمنعناهن بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول يرجع إلى ما قد ذكر من الأقوال، وأسند الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ فلم يقل فيها شيئا؟ فقال سعيد: كان ابن عباس لا يعلمها، وأسند أيضا عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل، قوله: وَالْمُحْصَناتُ إلى قوله: حَكِيماً.
قال القاضي أبو محمد: ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول؟ وروي عن ابن شهاب أنه سئل عن هذه الآية وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ فقال: يروى أنه حرم في هذه الآية ذوات الأزواج والعفائف من حرائر ومملوكات، ولم يحل شيئا من ذلك إلا بالنكاح أو الشراء والتملك، وهذا قول حسن عمم لفظ الإحسان ولفظ ملك اليمين، وعلى هذا التأويل يتخرج عندي قول مالك في الموطأ، فإنه قال: هن ذوات الأزواج، وذلك راجع إلى أن الله حرم الزنا، ففسر الإحصان بالزواج، ثم عاد عليه بالعفة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة، «والمحصنات» بفتح الصاد في كل القرآن، وقرأ الكسائي كذلك في هذا الموضع وحده، وقرأ سائر ما في القرآن المحصنات بكسر الصاد «ومحصنات» كذلك، وروي عن علقمة أنه قرأ جميع ما في القرآن بكسر الصاد، ففتح الصاد هو على معنى أحصنهن غيرهن من زوج أو إسلام أو عفة أو حرية وكسر الصاد هو على معنى أنهن أحصنّ أنفسهن بهذه الوجوه أو ببعضها، وقرأ يزيد بن قطيب «والمحصنات» بضم الصاد، وهذا على إتباع الضمة الضمة، وقرأ جمهور الناس «كتاب الله» وذلك نصب على المصدر المؤكد، وقرأ أبو حيوة

(2/35)


ومحمد بن السميفع اليماني «كتب الله عليكم» على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى، وقال عبيدة السلماني وغيره: قوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النساء: 3] وفي هذا بعد، والأظهر أن قوله كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله، واختلفت عبارة المفسرين في قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ فقال السدي: المعنى وأحل لكم ما دون الخمس، أن تبتغوا بأموالكم، على وجه النكاح، وقال نحوه عبيدة السلماني، وقال عطاء وغيره: المعنى «وأحل لكم ما وراء» من حرم من سائر القرابة، فهن حلال لكم تزويجهن، وقال قتادة: المعنى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ من الإماء.
قال القاضي أبو محمد: ولفظ الآية يعم جميع هذه الأقوال، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «وأحل لكم» بفتح الألف والحاء، وهذه مناسبة لقوله كِتابَ اللَّهِ إذ المعنى كتب الله ذلك كتابا، وقرأ حمزة والكسائي «وأحل» بضم الهمزة وكسر الحاء وهذه مناسبة لقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرمات، فهن وراء أولئك بهذا الوجه، وأَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ، لفظ يجمع التزوج والشراء وأَنْ في موضع نصب، وعلى قراءة حمزة في موضع رفع، ويحتمل النصب بإسقاط الباء، ومُحْصِنِينَ، معناه متعففين أي تحصنون أنفسكم بذلك غَيْرَ مُسافِحِينَ، أي غير زناة، والسفاح: الزنا، وهو مأخوذ من سفح الماء أي صبه وسيلانه، ولزم هذا الاسم الزنا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الدفاف في عرس: هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر، واختلف المفسرون في معنى قوله: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً فقال ابن عباس ومجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: المعنى فإذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء ولو مرة فقد وجب إعطاء الأجر، وهو المهر كله، ولفظة فَمَا تعطي أن بيسير الوطء يجب إيتاء الأجر، وروي عن ابن عباس أيضا ومجاهد والسدي وغيرهم: أن الآية في نكاح المتعة، وقرأ ابن عباس وأبيّ بن كعب وسعيد بن جبير، «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهنّ أجورهن» وقال ابن عباس لأبي نضرة: هكذا أنزلها الله عز وجل، وروى الحكم بن عتيبة، أن عليا رضي الله عنه قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقيّ، وقد كانت المتعة في صدر الإسلام، ثم نهى عنها النبي عليه السلام، وقال ابن المسيب: نسختها آية الميراث، إذ كانت المتعة لا ميراث فيها، وقيل قول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] وقالت عائشة: نسخها قوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ ولا زوجية مع الأجل ورفع الطلاق، والعدة، والميراث، وكانت: أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى، وعلى أن لا ميراث بينهما، ويعطيها ما اتفقا عليه، فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل، وتستبرئ رحمها لأن الولد لاحق فيه بلا شك، فإن لم تحمل حلت لغيره.
قال القاضي أبو محمد: وفي كتاب النحاس: في هذا خطأ فاحش في اللفظ، يوهم أن الولد لا يلحق في نكاح المتعة، وحكى المهدوي عن ابن المسيب: أن نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود، وفيما حكاه ضعف، وفَرِيضَةً نصب على المصدر في موضع الحال، واختلف المفسرون في معنى قوله: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ الآية، فقال القائلون بأن الآية المتقدمة أمر بإيتاء مهور النساء إذا دخل بهن: إن هذه إشارة

(2/36)


وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

إلى ما يتراضى به من حط أو تأخير بعد استقرار الفريضة، فإن ذلك الذي يكون على وجه الرضا جائز ماض، وقال القائلون بأن الآية المتقدمة هي أمر المتعة: إن الإشارة بهذه إلى أن ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة وزيادة في الأجر جائز سائغ، وباقي الآية بين قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : آية 25]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد ومالك بن أنس في المدونة، الطول هنا السعة في المال، وقال ربيعة وإبراهيم النخعي: الطول هنا الجلد والصبر لمن أحب أمة وهويها حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها، فإن له أن يتزوج الأمة إذا لم يملك هواها، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة، ثم يكون قوله تعالى: لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ على هذا التأويل بيانا في صفة عدم الجلد، وعلى التأويل الآخر يكون تزوج الأمة معلقا بشرطين: عدم السعة في المال وخوف العنت، فلا يصح إلا باجتماعهما، وهذا هو نص مذهب مالك في المدونة من رواية ابن نافع وابن القاسم وابن وهب وابن زياد.
ان الحر لا يتزوج الأمة على حال إلا ألا يجد سعة في المال لمهر حرة، وأن يخشى العنت مع ذلك، وقال مالك في كتاب محمد: إذا وجد المهر ولكنه لا يقدر على النفقة فإنه لا يجوز له أن يتزوج أمة، وقال أصبغ: ذلك جائز، إذ نفقة الأمة على أهلها إذا لم يضمها إليه، وقال مطرف وابن الماجشون: لا يحل للحر أن ينكح أمة، ولا يقر إن وقع، إلا أن يجتمع الشرطان كما قال الله تعالى، وقاله أصبغ، قال: وقد كان ابن القاسم يذكر أنه سمع مالكا يقول: نكاح الأمة حلال في كتاب الله عز وجل.
قال القاضي أبو محمد: وهو في المدونة، وقال سحنون في غيرها: ذلك في قوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النور: 32] . وقاله ابن مزين.
قال القاضي أبو محمد: وليس في الآية ما يلزم منه تحليل الأمة لحر دون الشرطين، وقال مالك في المدونة: ليست الحرة بطول تمنع من نكاح الأمة إذا لم يجد سعة لأخرى وخاف العنت، وقال في كتاب محمد: ما يقتضي أن الحرة بمثابة الطول، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: وهو ظاهر القرآن، وروي نحو هذا عن ابن حبيب، وقاله أبو حنيفة: فمقتضى هذا أن من عنده حرة فلا يجوز له نكاح أمة، وإن عدم السعة وخاف العنت، لأنه طالب شهوة وعنده امرأة، وقال به الطبري واحتج له، وطَوْلًا- يصح في إعرابه أن يكون مفعولا بالاستطاعة، وأَنْ يَنْكِحَ في موضع نصب بدل من قوله طَوْلًا أو في موضع نصب بتقدير لأن ينكح، وفي هذا نظر، ويصح أن يكون طَوْلًا نصبا على المصدر، والعامل فيه الاستطاعة لأنها بمعنى يتقارب، وأَنْ يَنْكِحَ على هذا مفعول بالاستطاعة أو بالمصدر، تقول: طال الرجل طولا بفتح الطاء إذا تفضل ووجد واتسع عرفه، وطَوْلًا بضم الطاء في ضد القصر والْمُحْصَناتِ في هذا الموضع الحرائر، يدل على ذلك التقسيم بينهن وبين الإماء، وقالت فرقة: معناه العفائف وهو ضعيف لأن الإماء يقعن تحته،

(2/37)


وقد تقدم الذكر للقراءة في الْمُحْصَناتِ، والْمُؤْمِناتِ صفة، فأما من يقول في الرجل يجد طولا لحرة كتابية لا لمؤمنة: إنه يمتنع عن نكاح الإماء، فهي صفة غير مشترطة، وإنما جاءت لأنها مقصد النكاح، إذ الأمة مؤمنة، وهذا هو المذهب المالكي، نص عليه ابن الماجشون في الواضحة ومن قال في الرجل لا يجد طولا إلا الكتابية: إنه يتزوج الأمة إن شاء، فصفة الْمُؤْمِناتِ عنده في الآية مشترطة في إباحة نكاح الإماء، والمسألة مختلف فيها حسبما ذكرناه، وما في قوله: فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يصح أن تكون مصدرية، تقديره: فمن ملك أيمانكم ويصح أن يراد بها النوع المملوك، فهي واقعة عليه، والفتاة- وإن كانت واقعة في اللغة على الشابة أية كانت، فعرفها في الإماء، وفتى- كذلك، وهذه المخاطبات بالكاف والميم عامة، أي: منكم الناكحون ومنكم المالكون، لأن الرجل ينكح فتاة نفسه، وهذا التوسع في اللغة كثير، والْمُؤْمِناتِ في هذا الموضع صفة مشترطة عند مالك وجمهور أصحابه، لأنهم يقولون: لا يجوز زواج أمة غير مسلمة بوجه، وقالت طائفة من أهل العلم منهم أصحاب الرأي: نكاح الأمة الكتابية جائز، وقوله الْمُؤْمِناتِ على جهة الوجه الفاضل، واحتجوا بالقياس على الحرائر، وذلك أنه لما لم يمنع قوله الْمُؤْمِناتِ في الحرائر من نكاح الكتابيات الحرائر، فكذلك لا يمنع قوله الْمُؤْمِناتِ في الإماء من نكاح الكتابيات الإماء، وقال أشهب في المدونة: جائز للعبد المسلم أن يتزوج أمة كتابية.
قال القاضي أبو محمد: فالمنع عنده أن يفضل الزوج في الحرية والدين معا، وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ معناه: أن الله عليم ببواطن الأمور ولكم ظواهرها، فإذا كانت الفتاة ظاهرها الإيمان فنكاحها صحيح، وعلم باطنها إلى الله، وإنما هذا لئلا يستريب متحير بإيمان بعض الإماء، كالقريبة عهد بالسباء، أو كالخرساء وما أشبهه. وفي اللفظ أيضا تنبيه على أنه ربما كان إيمان أمة أفضل من إيمان بعض من الحرائر، أي: فلا تعجبوا بمعنى الحرية، وقوله: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ قالت طائفة: هو رفع على الابتداء والخبر، والمقصد بهذا الكلام أي إنكم أيها الناس سواء بنو الحرائر وبنو الإماء، أكركم عند الله أتقاكم، فهذه توطئة لنفوس العرب التي كانت تستهجن ولد الأمة، فلما جاء الشرع بجواز نكاحها، أعلموا مع ذلك أن ذلك التهجين لا معنى له، وقال الطبري: هو رفع بفعل تقديره: فلينكح مما ملكت «أيمانكم بعضكم من بعض» فعلى هذا في الكلام تقديم وتأخير. وهذا قول ضعيف.
قوله: بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ معناه: بولاية أربابهن المالكين، وقوله: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني مهورهن، قاله ابن زيد وغيره، وبِالْمَعْرُوفِ معناه: بالشرع والسنة، وهذا يقتضي أنهن أحق بمهورهن من السادة، وهو مذهب مالك قال في كتاب الرهون: ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز. قال سحنون في

(2/38)


غير المدونة: كيف هذا؟ وهو لا يبوئه معها بيتا. وقال بعض الفقهاء: معنى ما في المدونة: أنه بشرط التبوئة، فعلى هذا لا يكون قول سحنون خلافا ومُحْصَناتٍ وما بعده حال، فالظاهر أنه بمعنى عفيفات إذ غير ذلك من وجوه الإحصان بعيد إلا مسلمات فإنه يقرب، والعامل في الحال فَانْكِحُوهُنَّ ويحتمل أن يكون فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ كلاما تاما، ثم استأنف «وآتوهن أجورهن مزوجات غير مسافحات» ، فيكون العامل وَآتُوهُنَّ، ويكون معنى الإحصان: التزويج، و «المسافحات» من الزواني: المبتذلات اللواتي هن سوق للزنا، «ومتخذات الأخدان» : هن المتسترات اللواتي يصحبن واحدا واحدا ويزنين خفية، وهذان كانا نوعين في زنا الجاهلية، قاله ابن عباس وعامر الشعبي والضحاك وغيرهم، وأيضا فهو تقسيم عقلي لا يعطي الوجود إلا أن تكون الزانية إما لا ترديد لامس وإما أن تختص من تقتصر عليه، وقوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ الآية قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «أحصن» على بناء الفعل للمفعول، وقرأ حمزة والكسائي على بناء الفعل للفاعل، واختلف عن عاصم، فوجه الكلام أن تكون القراءة الأولى بالتزوج، والثانية بالإسلام أو غيره مما هو من فعلهن، ولكن يدخل كل معنى منهما على الآخر، واختلف المتأولون فيما هو الإحصان هنا، فقال الجمهور: هو الإسلام، فإذا زنت الأمة المسلمة حدت نصف حد الحرة- وإسلامها هو إحصانها الذي في الآية، وقالت فرقة: إحصانها الذي في الآية هو التزويج لحر، فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها، قاله سعيد بن جبير والحسن وقتادة، وقالت فرقة:
الإحصان- في الآية التزوج، إلا أن الحد واجب على الأمة المسلمة بالسنة، وهي الحديث الصحيح في مسلم والبخاري، أنه قيل: يا رسول الله، الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ فأوجب عليها الحد. قال الزهري:
فالمتزوجة محدودة بالقرآن والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الحديث والسؤال من الصحابة يقتضي أنهم فهموا من القرآن أن معنى أُحْصِنَّ تزوجن، وجواب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك يقتضي تقرير المعنى ومن أراد أن يضعف قول من قال: إنه الإسلام بأن الصفة لهن بالإيمان قد تقدمت وتقررت فذلك غير لازم، لأنه جائز أن يقطع في الكلام ويزيد، فإذا كن على هذه الحالة المتقدمة من الإيمان فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ، وذلك سائغ صحيح، والفاحشة هنا: الزنى بقرينة إلزام الحد، والْمُحْصَناتِ في هذه الآية الحرائر، إذ هي الصفة المشروطة في الحد الكامل، والرجم لا يتنصف، فلم يرد في الآية بإجماع، ثم اختلف، فقال ابن عباس والجمهور: على الأمة نصف المائة لا غير ذلك، وقال الطبري وجماعة من التابعين: على الأمة نصف المائة ونصف المدة، وهي نفي ستة أشهر، والإشارة بذلك إلى نكاح الأمة، والْعَنَتَ في اللغة: المشقة، وقالت طائفة: المقصد به هاهنا الزنا، قاله مجاهد: وقال ابن عباس: ما ازلحف ناكح الأمة عن الزنا إلا قريبا، قال: والْعَنَتَ الزنا، وقاله عطية العوفي والضحاك، وقالت طائفة: الإثم، وقالت طائفة: الحد.
قال القاضي أبو محمد: والآية تحتمل ذلك كله، وكل ما يعنت عاجلا وآجلا. وقوله تعالى: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ يعني عن نكاح- الإماء- قاله سعيد بن جبير ومجاهد والسدي وابن عباس رضي الله عنهما، وهذا ندب إلى الترك، وعلته ما يؤدي إليه نكاح الإماء من استرقاق الولد ومهنتهن، وهذه الجملة ابتداء وخبر تقديره: وصبركم خير لكم وَاللَّهُ غَفُورٌ، أي لمن فعل وتزوج.

(2/39)


يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)

قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)
اختلف النحاة في اللام من قوله: لِيُبَيِّنَ فمذهب سيبويه رحمه الله: أن التقدير «لأن يبين» والمفعول مضمر، تقديره: يريد الله هذا، فإن كانت لام الجر أو لام كي فلا بد فيهما من تقدير «أن» لأنهما لا يدخلان إلا على الأسماء وقال الفراء والكوفيون: اللام نفسها بمنزلة «أن» وهو ضعيف، ونظير هذه اللام قول الشاعر: [الطويل] أريد لأنسى ذكرها وقال بعض النحاة: التقدير إرادتي لأنسى. وَيَهْدِيَكُمْ بمعنى: يرشدكم، لا يتوجه غير ذلك، بقرينة السنن، وال سُنَنَ: الطرق ووجوه الأمور وأنحاؤها.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر من قوة هذا الكلام أن شرعتنا في المشروعات كشرعة من قبلنا، وليس ذلك كذلك، وإنما هذه الهداية في أحد أمرين، إما في أنّا خوطبنا في كل قصة نهيا وأمرا، كما خوطبوا هم أيضا في قصصهم، وشرع لنا كما شرع لهم، فهدينا سننهم في ذلك، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم، والأمر الثاني أن هدينا سننهم في أن أطعنا وسمعنا كما سمعوا وأطاعوا، فوقع التماثل من هذه الجهة، والذين من قبلنا: هم المؤمنون في كل شريعة، وتوبة الله على عبده هي رجوعه به عن المعاصي إلى الطاعات وتوفيقه له، وحسن عَلِيمٌ هنا بحسب ما تقدم من سنن الشرائع وموضع المصالح وحَكِيمٌ أي مصيب بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان.
وتكرار إرادة الله تعالى التوبة على عباده تقوية للإخبار الأول، وليس المقصد في هذه الآية إلا الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات، فقدمت إرادة الله توطئة، مظهرة لفساد إرادة متبعي الشهوات، واختلف المتأولون في متبعي الشهوات، فقال مجاهد: هم الزناة، وقال السدي: هم اليهود والنصارى، وقالت فرقة: هم اليهود خاصة، لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب، وقال ابن زيد:
ذلك على العموم في هؤلاء، وفي كل متبع شهوة، ورجحه الطبري، وقرأ الجمهور «ميلا» بسكون الياء، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «ميلا» بفتح الياء.
وقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ المقصد الظاهر بهذه الآية أنها في تخفيف الله تعالى ترك نكاح الإماء بإباحة ذلك، وأن إخباره عن ضعف الإنسان إنما هو في باب النساء، أي لما علمنا ضعفكم عن الصبر عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء، وكذلك قال مجاهد وابن زيد وطاوس، وقال طاوس: ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء.

(2/40)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)

قال القاضي أبو محمد: ثم بعد هذا المقصد تخرج الآية في مخرج التفضل، لأنها تتناول كل ما خفف الله تعالى عن عباده، وجعله الدين يسرا، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاما، حسبما هو في نفسه ضعيف يستميله هواه في الأغلب والْإِنْسانُ رفع على ما لم يسم فاعله، وضَعِيفاً حال، وقرأ ابن عباس ومجاهد «وخلق الإنسان» على بناء الفعل للفاعل وضَعِيفاً حال أيضا على هذه القراءة، ويصح أن يكون خُلِقَ بمعنى جعل، فيكسبها ذلك قوة التعدي إلى مفعولين، فيكون قوله ضَعِيفاً مفعولا ثانيا.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 30]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكن إن كانت تجارة فكلوها، وقرأ المدنيون وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو: «تجارة» بالرفع على تمام «كان» وأنها بمعنى: وقع، وقرأت فرقة، هي الكوفيون حمزة وعاصم والكسائي: «تجارة» بالنصب على نقصان «كان» ، وهو اختيار أبي عبيد.
قال القاضي أبو محمد: وهما قولان قويان، إلا أن تمام «كان» يترجح عند بعض، لأنها صلة «لأن» فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها، وهذا ترجيح ليس بالقوي ولكنه حسن، وأَنْ في موضع نصب، ومن نصب «تجارة» جعل اسم كان مضمرا، تقديره الأموال أموال تجارة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، أو يكون التقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة، ومثل ذلك قول الشاعر:
[الطويل] إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا أي: إذا كان اليوم يوما، والاستثناء منقطع في كل تقدير وفي قراءة الرفع. فأكل الأموال بالتجارة جائز بإجماع الأمّة، والجمهور على جواز الغبن في التجارة، مثال ذلك: أن يبيع الرجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة، فذلك جائز، ويعضده حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا يبع حاضر لباد» لأنه إنما أراد بذلك أن يبيع البادي باجتهاده، ولا يمنع الحاضر الحاضر من رزق الله في غبنه، وقالت فرقة: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات، وأما المتفاحش الفادح فلا، وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله. وعَنْ تَراضٍ معناه عن رضا، إلا أنها جاءت من المفاعلة، إذ التجارة من اثنين. واختلف أهل العلم في التراضي، فقالت طائفة: تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختر فيقول: قد اخترت، وذلك بعد العقدة أيضا، فينجزم حينئذ، هذا هو قول الشافعي وجماعة من الصحابة، وحجته حديث النبي صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار ما

(2/41)


لم يتفرقا إلا بيع الخيار» ، وهو حديث ابن عمر وأبي برزة، ورأيهما- وهما الراويان- أنه افتراق الأبدان.
قال القاضي أبو محمد: والتفرق لا يكون حقيقة إلا بالأبدان، لأنه من صفات الجواهر، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله: تمام التراضي أن يعقد البيع بالألسنة فتنجزم العقدة بذلك ويرتفع الخيار، وقالا في الحديث المتقدم: إنه التفرق بالقول، واحتج بعضهم بقوله تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النبأ: 130] فهذه فرقة بالقول لأنها بالطلاق، قال من احتج للشافعي: بل هي فرقة بالأبدان، بدليل تثنية الضمير، والطلاق لا حظّ للمرأة فيه، وإنما حظها في فرقة البدن التي هي ثمرة الطلاق، قال الشافعي: ولو كان معنى قوله: يتفرقا بالقول الذي هو العقد لبطلت الفائدة في قوله: البيعان بالخيار، لأنه لا يشك في أن كل ذي سلعة مخير ما لم يعقد، فجاء الإخبار لا طائل فيه، قال من احتجّ لمالك: إنما القصد في الحديث الإخبار عن وجوب ثبوت العقد، فجاء قوله: البيعان بالخيار توطئة لذلك، وإن كانت التوطئة معلومة، فإنها تهيىء النفس لاستشعار ثبوت العقد ولزومها، واستدل الشافعي بقوله عليه السلام: «لا يسم الرجل على سوم أخيه، ولا يبع الرجل على بيع أخيه» فجعلها مرتبتين لأن حالة البيعين بعد العقد قبل التفرق تقتضي أن يفسد مفسد بزيادة في السلعة فيختار ربها حل الصفقة الأولى، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الإفساد، ألا ترى أنه عليه السلام قال: «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه» فهي في درجة لا يسم، ولم يقل: لا ينكح على نكاح أخيه لأنه لا درجة بعد عقد النكاح تقتضي تخييرا بإجماع من الأمة، قال من يحتج لمالك رحمه الله: قوله عليه السلام: لا يسم ولا يبع، هي درجة واحدة كلها قبل العقد، وقال: لا يبع تجوزا في لا يسم، إذ ماله إلى البيع، فهي جميعا بمنزلة قوله: لا يخطب، والعقد جازم فيهما جميعا.
قال القاضي أبو محمد: وقوله في الحديث «إلا بيع الخيار» معناه عند المالكيين: المتساومان بالخيار ما لم يعقدا، فإذا عقدا بطل الخيار إلا في بيع الخيار الذي عقد من أوله على خيار مدة ما، فإنه لا يبطل الخيار فيه، ومعناه عند الشافعيين: المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما، إلا بيعا يقول فيه أحدهما لصاحبه اختر فيختار، فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا، فإن فرض بيع خيار فالمعنى إلا بيع الخيار فإنه يبقي الخيار بعد التفرق بالأبدان، وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ قرأ الحسن «ولا تقتّلوا» على التكثير، فأجمع المتأولون أن المقصد بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضها، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل، أو بأن يحملها على غرر ربما مات منه، فهذا كله يتناوله النهي، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد خوفا على نفسه منه، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه.
وقوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً اختلف المتأولون في المشار إليه بذلك، فقال عطاء: ذلك عائد على القتل لأنه أقرب مذكور، وقالت فرقة: ذلك عائد على أكل المال بالباطل وقتل النفس، لأن النهي عنهما جاء متسقا مسرودا، ثم ورد الوعيد حسب النهي، وقالت فرقة ذلك عائد على كل ما نهى عنه من القضايا من أول السورة إلى قوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ وقال الطبري: ذلك عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد، وذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً

(2/42)


إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)

[النساء: 19] لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد إلا من قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً فإنه والنواهي بعده لا وعيد معها، إلا قوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً والعدوان: تجاوز الحد، ونُصْلِيهِ معناه: نمسه حرها، كما تعرض الشاة المصلية، أي نحرقه بها، وقرأ الأعمش والنخعي، «نصليه» بفتح النون، وقراءة الجمهور بضم النون على نقل صلى بالهمز، وقراءة هذين على لغة من يقول: صليته نارا، بمعنى أصليته، وحكى الزجّاج أنها قد قرئت «نصلّيه» بفتح الصاد وشد اللام المكسورة ويسير ذلك على الله عز وجل، لأن حجته بالغة، وحكمه لا معقب له.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : آية 31]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)
تَجْتَنِبُوا معناه: تدعون جانبا، وقرأ ابن مسعود وابن جبير «إن تجتنبوا كبير» وقرأ المفضل عن عاصم «يكفّر» و «يدخلكم» على علامة الغائب، وقرأ الباقون بالنون والقراءتان حسنتان، وقرأ ابن عباس «عنكم من سيئاتكم» بزيادة «من» وقرأ السبعة سوى نافع «مدخلا» بضم الميم، وقرأ نافع: «مدخلا» بالفتح وقد رواه أيضا أبو بكر عن عاصم هاهنا وفي الحج، ولم يختلف في سورة بني إسرائيل في مُدْخَلَ ومُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء: 80] أنهما بضم الميم، قال أبو علي: «مدخلا» بالفتح يحتمل أن يكون مصدرا، والعامل فيه فعل يدل عليه الظاهر، التقدير: ويدخلكم فتدخلون مدخلا، ويحتمل أن يكون مكانا، فيعمل فيه الفعل الظاهر، وكذلك يحتمل «مدخلا» بضم الميم للوجهين، وإذا لم يعمل الفعل الظاهر فمعموله الثاني محذوف، تقديره: ويدخلكم الجنة، واختلف أهل العلم في «الكبائر» ، فقال علي بن أبي طالب: هي سبع، الإشراك بالله، وقتل النفس، وقذف المحصنات، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا والفرار يوم الزحف، والتعرب بعد الهجرة، وقال عبيد بن عمير: الكبائر سبع في كل واحدة منها آية في كتاب الله عز وجل.
قال القاضي أبو محمد: وذكر كقول علي، وجعل الآية في التعرب قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى [محمد: 25] ، ووقع في البخاري في كتاب الحدود في باب رمي المحصنات «اتقوا السبع الموبقات، الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وقال عبد الله بن عمر: هي تسع «الإشراك بالله، والقتل، والفرار، والقذف، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وإلحاد في المسجد الحرام، والذي يستسحر، وبكاء الوالدين من العقوق» قال عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي: هي في جميع ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها وهي إِنْ تَجْتَنِبُوا وقال عبد الله بن مسعود: هي أربع أيضا الإشراك بالله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، وروي أيضا عن ابن مسعود: هي ثلاث: القنوط، واليأس، والأمن المتقدمة، وقال ابن عباس أيضا وغيره: «الكبائر» كل ما

(2/43)


وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)

ورد عليه وعيد بنار أو عذاب أو لعنة أو ما أشبه ذلك، وقالت فرقة من الأصوليين: هي في هذا الموضع أنواع الشرك التي لا تصلح معها الأعمال، وقال رجل لابن عباس: أخبرني عن الكبائر السبع، فقال: هي إلى السبعين أقرب، وقال ابن عباس: كل ما نهى الله عنه فهو كبير، فهنا يدخل الزنا، وشرب الخمر، والزور، والغيبة، وغير ذلك مما قد نص عليه في أحاديث لم يقصد الحصر للكبائر بها، بل ذكر بعضها مثالا، وعلى هذا القول أئمة الكلام: القاضي، وأبو المعالي، وغيرهما: قالوا: وإنما قيل: صغيرة بالإضافة إلى أكبر منها وهي في نفسها كبيرة من حيث المعصي، بالجميع واحد، وهذه الآية يتعاضد معها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الوضوء من مسلم، عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يأت كبيرة، وذلك الدهر كله. واختلف العلماء في هذه المسألة فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث يرون أن الرجل إذا اجتنب الكبائر وامتثل الفرائض، كفرت صغائره كالنظر وشبهه قطعا بظاهر هذه الآية وظاهر الحديث، وأما الأصوليون فقالوا: لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وإنما يحمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء، والمشيئة ثابتة، ودل على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض بتكفير صغائره قطعا لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بأنه لا تباعة فيه، وذلك نقض لعرى الشريعة. ومحمل الكبائر عند الأصوليين في هذه الآية أجناس الكفر، والآية التي قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها: قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48 و 116] وكَرِيماً يقتضي كرم الفضيلة ونفي العيوب، كما تقول: ثوب كريم، وكريم المحتد، وهذه آية رجاء، روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: خمس آيات من سورة النساء هي أحب إليّ من الدنيا جميعا، قوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا الآية، وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48 و 116] ، وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ
[النساء: 110] وقوله أيضا: يُضاعِفْها [النساء: 40] وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [النساء: 152] .
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : آية 32]
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)
سبب الآية أن النساء قلن: ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث وشركناهم في الغزو، وروي أن أم سلمة قالت ذلك أو نحوه، وقال الرجال: ليت لنا في الآخرة حظا زائدا على النساء، كما لنا عليهن في الدنيا، فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد: لأن في تمنيهم هذا تحكما على الشريعة وتطرقا إلى الدفع في صدر حكم الله، فهذا نهي عن كل تمنّ لخلاف حكم شرعي، ويدخل في النهي أن يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا، على أن يذهب ما عند الآخر، إذ هذا هو الحسد بعينه، وقد كره بعض العلماء أن يتمنى أحد حال

(2/44)


وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)

رجل ينصبه في فكره وإن لم يتمنّ زوال حاله، وهذا في نعم الدنيا، وأما في الأعمال الصالحة فذلك هو الحسن، وأما إذا تمنى المرء على الله من غير أن يقرن أمنيته بشيء مما قدمناه فذلك جائز، وذلك موجود في حديث النبي عليه السلام في قوله «وددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا فأقتل» وفي غير موضع، ولقوله تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ وقوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الآية قال قتادة: معناه من الميراث، لأن العرب كانت لا تورث النساء.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف، ولفظة الاكتساب ترد عليه ردا بينا، ولكنه يتركب على قول النساء: ليتنا ساوينا الرجال في الميراث، فكأنه قيل بسببهن: لا تتمنوا هذا فلكل نصيبه، وقالت فرقة:
معناه من الأجر والحسنات، فكأنه قيل للناس: لا تتمنوا في أمر خلاف ما حكم الله به، لاختيار ترونه أنتم، فإن الله قد جعل لكلّ أحد نصيبا من الأجر والفضل، بحسب اكتسابه فيما شرع له.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول هو الواضح البيّن الأعم، وقالت فرقة: معناه: لا تتمنوا خلاف ما حد الله في تفضيله، فإنه تعالى قد جعل لكل أحد مكاسب تختص به، فهي نصيبه، قد جعل الجهاد والإنفاق وسعي المعيشة وحمل الكلف كالأحكام والإمارة والحسبة وغير ذلك للرجال، وجعل الحمل ومشقته وحسن التبعل وحفظ غيب الزوج وخدمة البيوت للنساء.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كقول الذي قبله، إلا أنه فارقه بتقسيم الأعمال، وفي تعليقه النصيب بالاكتساب حض على العمل، وتنبيه على كسب الخير، وقرأ جمهور السبعة «واسألوا» بالهمز وسكون السين، وقرأ الكسائي وابن كثير «وسلوا» ألقيا حركة الهمزة على السين، وهذا حيث وقعت اللفظة إلا في قوله وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ [الممتحنة: 10] فإنهم أجمعوا على الهمز فيه، قال سعيد بن جبير، وليث بن أبي سليم: هذا في العبارات والدين وأعمال البر ليس في فضل الدنيا، وقال الجمهور: ذلك على العموم، وهو الذي يقتضيه اللفظ، وقوله: وَسْئَلُوا يقتضي مفعولا ثانيا، فهو عند بعض النحويين في قوله:
مِنْ فَضْلِهِ التقدير واسألوا الله فضله، وسيبويه لا يجيز هذا لأن فيه حذف «من» في الواجب، والمفعول عنده مضمر، تقديره واسألوا الله الجنة أو كثيرا أو حظا من فضله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الأصح، ويحسن عندي أن يقدر المفعول- أمانيكم، إذ ما تقدم يحسن هذا التقدير، وقوله: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً معناه: أن علم الله قد أوجب الإصابة والإتقان والإحكام، فلا تعارضوا بثمن ولا غيره، وهذه الآية تقتضي أن الله يعلم الأشياء، والعقائد توجب أنه يعلم المعدومات الجائز وقوعها وإن لم تكن أشياء، والآية لا تناقض ذلك، بل وقفت على بعض معلوماته وأمسكت عن بعض.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 33 الى 34]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)

(2/45)


«كل» إنما تستعمل مضافة ظهر المضاف إليه أو تقدر، فهي بمثابة قبل وبعد، ولذلك أجاز بعض النحاة مررت بكل، على حد قبل وبعد، فالمقدر هنا على قول فرقة، ولكل أحد وعلى قول فرقة «ولكل شيء» يعني التركة، والمولى في كلام العرب: لفظة يشترك فيها القريب القرابة، والصديق، والحليف، والمعتق، والمعتق، والوارث، والعبد، فيما حكى ابن سيده، ويحسن هنا من هذا الاشتراك الورثة، لأنها تصلح على تأويل «ولكل أحد» ، وعلى تأويل، «ولكل شيء» وبذلك فسر قتادة والسدي وابن عباس وغيرهم: أن «الموالي» العصبة والورثة، قال ابن ابن زيد: لما أسلمت العجم سموا موالي استعارة وتشبيها، وذلك في قول الله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ [الأحزاب: 5] .
قال القاضي أبو محمد: وقد سمي قوم من العجم ببني العم، ومِمَّا متعلقة «بشيء» ، تقديره ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا ورثة، وهي متعلقة على تأويل «ولكل أحد» بفعل مضمر تقديره: ولكل أحد جعلنا موالي يرثون مما ترك الوالدان والأقربون، ويحتمل على هذا أن تتعلق «من» ب مَوالِيَ، وقوله: وَالَّذِينَ رفع بالابتداء والخبر في قوله: فَآتُوهُمْ وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «عاقدت» على المفاعلة أي إيمان هؤلاء عاقدت أولئك، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «عقدت» بتخفيف القاف على حذف مفعول، تقديره: عقدت إيمانكم حلفهم أو ذمتهم، وقرأ حمزة في رواية علي ابن كبشة عنه، «عقّدت» مشددة القاف، واختلف المتأولون في من المراد ب الَّذِينَ، فقال الحسن وابن عباس وابن جبير وقتادة وغيرهم: هم الأحلاف، فإن العرب كانت تتوارث بالحلف فشدد الله ذلك بهذه الآية، ثم نسخه بآية الأنفال وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال: 75] وقال ابن عباس أيضا: هم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم، فإنهم كانوا يتوارثون بهذه الآية حتى نسخ ذلك بما تقدم.
قال القاضي أبو محمد: وورد لابن عباس: أن المهاجرين كانوا يرثون الأنصار دون ذوي رحمهم، للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فنزلت الآية في ذلك ناسخة، وبقي إيتاء النصيب من النصر والمعونة، أو من المال على جهة الندب في الوصية، وقال سعيد بن المسيب: هم الأبناء الذين كانوا يتبنون، والنصيب الذي أمر الناس بإيتائه هو الوصية لا الميراث، وقال ابن عباس أيضا: هم الأحلاف إلا أن النصيب هو المؤازرة في الحق والنصر والوفاء بالحلف لا الميراث، وروي عن الحسن: أنها في قوم يوصى لهم فيموت الموصى له قبل نفوذ الوصية ووجوبها فأمر الموصي أن يؤديها إلى ورثة الموصى له.

(2/46)


قال القاضي أبو محمد: ولفظة المعاقدة والأيمان ترجح أن المراد الأحلاف لأن ما ذكر من غير الأحلاف ليس في جميعه معاقدة ولا أيمان، وشَهِيداً معناه: أن الله شهيد بينكم على المعاقدة والصلة، فأوفوا بالعهد بحسب ذلك مراقبة ورهبة.
وقوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ الآية، قوام فعال: بناء مبالغة، وهو من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد، فقيام الرجل على النساء هو على هذا الحد، وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة يقتضي أن للرجال عليهن استيلاء وملكا ما، قال ابن عباس: الرجال أمراء على النساء، وعلى هذا قال أهل التأويل و «ما» في قوله: بِما فَضَّلَ اللَّهُ مصدرية، ولذلك استغنت عن العائد، وكذلك بِما أَنْفَقُوا والفضيلة: هي الغزو وكمال الدين والعقل وما أشبهه، والإنفاق: هو المهر والنفقة المستمرة على الزوجات، وقيل: سبب هذه الآية أن سعد بن الربيع لطم زوجه حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، فجاءت مع أبيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر أن تلطمه كما لطمها، فنزلت الآية مبيحة للرجال تأديب نسائهم، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقض الحكم الأول وقال: أردت شيئا وما أراد الله خير، وفي طريق آخر أردت شيئا وأراد الله غيره، وقيل: إن في هذا الحكم المردود نزلت وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: 114] وقيل سببها قول أم سلمة المتقدم، أي: لما تمنى النساء درجة الرجال عرفن وجه الفضيلة. والصلاح في قوله فَالصَّالِحاتُ هو الصلاح في الدين، و «والقانتات» معناه: مطيعات، والقنوت الطاعة، ومعناه لأزواجهن، أو لله في أزواجهن، وغير ذلك، وقال الزجّاج: إنها الصلاة، وهذا هنا بعيد ولِلْغَيْبِ معناه: كل ما غاب عن علم زوجها مما استرعته، وذلك يعم حال غيب الزوج وحال حضوره، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها» ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، وفي مصحف ابن مسعود «فالصوالح قوانت حوافظ» وهذا بناء يختص بالمؤنث، وقال ابن جني: والتكسير أشبه لفظا بالمعنى، إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصود هنا، وبِما حَفِظَ اللَّهُ الجمهور على رفع اسم الله بإسناد الفعل إليه، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الله» بالنصب على إعمال حَفِظَ فأما قراءة الرفع «فما» مصدرية تقديره: يحفظ الله، ويصح أن تكون بمعنى «الذي» ويكون العائد الذي في حَفِظَ ضمير نصب ويكون المعنى أما حفظ الله ورعايته التي لا يتم أمر دونها، وأما أوامره ونواهيه للنساء، فكأنها حفظه، فمعناه: أن النساء يحفظن بإرادته وبقدره، وأما قراءة ابن القعقاع بما حفظ الله، فالأولى أن تكون «ما» بمعنى «الذي» وفي حَفِظَ ضمير مرفوع، والمعنى حافظات للغيب بطاعة وخوف وبر ودين حفظ الله في أوامره حين امتثلنها، وقيل: يصح أن تكون «ما» مصدرية، على أن تقدير الكلام بما حفظن الله وينحذف الضمير، وفي حذفه قبح لا يجوز إلا في الشعر، كما قال [الأعشى] : [المتقارب] فإنّ الحوادث أودى بها يريد أودين، والمعنى: يحفظن الله في أمره حين امتثلنه، وقال ابن جني: الكلام على حذف مضاف تقديره: بما حفظ دين الله وأمر الله، وفي مصحف ابن مسعود «بما حفظ الله فأصلحوا إليهن» .

(2/47)


وَاللَّاتِي في موضع رفع بالابتداء والخبر فَعِظُوهُنَّ، ويصح أن تكون في موضع نصب بفعل مضمر تقديره: وعظوا اللاتي تخافون نشوزهن، كقوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ [المائدة: 38] على قراءة من قرأها بالنصب، قال سيبويه: النصب القياس، إلا أن الرفع أكثر في كلامهم، وحكي عن سيبويه: أن تقدير الآية عنده: وفيما يتلى عليكم اللاتي. قالت فرقة معنى تَخافُونَ تعلمون وتتيقنون، وذهبوا في ذلك إلى أن وقوع النشوز هو الذي يوجب الوعظ، واحتجوا في جواز وقوع الخوف بمعنى اليقين بقول أبي محجن:
ولا تدفنّني بالفلاة فإنّني ... أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها
وقالت فرقة: الخوف هاهنا على بابه في التوقع، لأن الوعظ وما بعده إنما هو في دوام ما ظهر من مبادئ ما يتخوف، «والنشوز» : أن تتعرج المرأة وترتفع في خلقها، وتستعلي على زوجها، وهو من نشز الأرض، يقال ناشز وناشص ومنه بيت الأعشى: [الطويل]
تجلّلها شيخ عشاء فأصبحت ... قضاعيّة تأتي الكواهن ناشصا
وفَعِظُوهُنَّ معناه: ذكروهن أمر الله، واستدعوهن إلى ما يجب عليهن بكتاب الله وسنة نبيه، وقرأ إبراهيم النخعي «في المضجع» ، وهو واحد يدل على الجمع، واختلف المتأولون في قوله: اهْجُرُوهُنَّ فقالت فرقة معناه جنبوا جماعهن، وجعلوا فِي للوعاء على بابها دون حذف، قال ابن عباس: يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها، وقال مجاهد: جنبوا مضاجعتهن، فيتقدر على هذا القول حذف تقديره:
واهجروهن برفض المضاجع أو بترك المضاجع وقال سعيد بن جبير: هي هجرة الكلام أي لا تكلموهن وأعرضوا عنهن فيقدر حذف تقديره: واهجروهن في سبب المضاجع حتى يراجعنها، وقال ابن عباس أيضا:
معناه وقولوا لهن هجرا من القول، أي إغلاظا، حتى يراجعن المضاجع، وهذا لا يصح تصريفه إلا على من حكى هجر وأهجر بمعنى واحد، وقال الطبري: معناه اربطوهن بالهجار، كما يربط البعير به، وهو حبل يشد به البعير، فهي في معنى اضربوهن ونحوها، ورجح الطبري منزعه هذا وقدح في سائر الأقوال، وفي كلامه في هذا الموضع نظر، والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح، وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضربا غير مبرح» وقال عطاء: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال بالشراك ونحوه، وروي عن ابن شهاب أنه قال: لا قصاص بين الرجل وامرأته إلا في النفس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تجاوز، قال غيره: إلا في النفس والجراح، وهذه العظة والهجر والضرب مراتب، إن وقعت الطاعة عند إحداها لم يتعد إلى سائرها. وتَبْغُوا معناه تطلبوا وسَبِيلًا أي إلى الأذى، وهو التعنيت والتعسف بقول أو فعل، وهذا نهي عن ظلمهن بغير واجب بعد تقدير الفضل عليهن والتمكين من أدبهن، وحسن معه الاتصاف بالعلو والكبر، أي قدره فوق كل قدر ويده بالقدرة فوق كل يد، فلا يستعمل أحد على امرأته، فالله بالمرصاد، وينظر هذا إلى حديث أبي مسعود فصرفت وجهي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا العبد» .

(2/48)


وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)

قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : آية 35]
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)
قسمت هذه الآية النساء تقسيما عقليا، لأنها إما طائعة، وإما ناشزة، والنشز إما من يرجع إلى الطواعية، وإما من يحتاج إلى الحكمين، واختلف المتأولون أيضا في الخوف هاهنا حسب ما تقدم، ولا يبعث الحكمان إلا مع شدة الخوف، و «الشقاق» : مصدر شاق يشاق، وأجري «البين» مجرى الأسماء وأزيل عنه الظرفية، إذ هو بمعنى حالهما وعشرتهما وصحبتهما، وهذا من الإيجاز الذي يدل فيه الظاهر على المقدر، واختلف من المأمور ب «البعثة» ، فقيل: الحاكم، فإذا أعضل على الحاكم أمر الزوجين، وتعاضدت عنده الحجج، واقترنت الشبه، واغتم وجه الإنفاذ على أحدهما، بعث حكمين من الأهل ليباشرا الأمر، وخص الأهل لأنهم مظنة العلم بباطن الأمر، ومظنة الإشفاق بسبب القرابة، وقيل: المخاطب الزوجان وإليهما تقديم الحكمين، وهذا في مذهب مالك، والأول لربيعة وغيره، واختلف الناس في المقدار الذي ينظر فيه الحكمان، فقال الطبري: قالت فرقة: لا ينظر الحكمان إلا فيما وكلهما به الزوجان وصرحا بتقديمهما عليه، ترجم بهذا ثم أدخل عن علي غيره، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: ينظر الحكمان فى الإصلاح، وفي الأخذ والإعطاء، إلا في الفرقة فإنها ليست إليهما، وقالت فرقة: ينظر الحكمان في كل شيء، ويحملان على الظالم، ويمضيان ما رأياه من بقاء أو فراق، وهذا هو مذهب مالك والجمهور من العلماء، وهو قول علي بن أبي طالب في المدونة وغيرها، وتأول الزجّاج عليه غير ذلك، وأنه وكل الحكمين على الفرقة، وأنها للإمام، وذلك وهم من أبي إسحاق، واختلف المتأولون في من المراد بقوله:
إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً فقال مجاهد وغيره: المراد الحكمان، أي إذا نصحا وقصدا الخير بورك في وساطتهما، وقالت فرقة: المراد الزوجان، والأول أظهر، وكذلك الضمير في بَيْنِهِما، يحتمل الأمرين، والأظهر أنه للزوجين، والاتصاف ب «عليم خبير» يشبه ما ذكر من إرادة الإصلاح.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : آية 36]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36)
«الواو» لعطف جملة الكلام على جملة غيرها، والعبادة: التذلل بالطاعة، ومنه طريق معبد، وبعير معبد، إذا كانا معلمين، وإِحْساناً نصب على المصدر، والعامل فعل مضمر تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وما ذكر الطبري أنه نصب بالإغراء خطأ، والقيام بحقوق الوالدين اللازمة لهما من التوقير والصون

(2/49)


والإنفاق إذا احتاجا واجب، وسائر ذلك من وجوه البر والإلطاف وحسن القول، والتصنع لهما مندوب إليه مؤكد فيه، وهو البر الذي تفضل فيه الأم على الأب، حسب قوله عليه السلام للذي قال له من أبر؟ قال أمك قال ثم من؟ قال أمك قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أباك، ثم الأقرب فالأقرب، وفي رواية: ثم أدناك أدناك، وقرأ ابن أبي عبلة «إحسان» بالرفع، و «ذو القربى» : هو القريب النسب من قبل الأب والأم، وهذا من الأمر بصلة الرحم وحفظها، وَالْيَتامى: جمع يتيم، وهو فاقد الأب قبل البلوغ، وإن ورد في كلام العرب يتم من قبل الأم فهو مجاز واستعارة، وَالْمَساكِينِ: المقترون من المسلمين الذين تحل لهم الزكاة، وجاهروا بالسؤال، واختلف في معنى الْجارِ ذِي الْقُرْبى وفي معنى الْجُنُبِ، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم: الجار ذو القربى هو الجار القريب النسب، وَالْجارِ الْجُنُبِ هو الجار الأجنبي الذي لا قرابة بينك وبينه، وقال نوف الشامي: الجار ذو القربى هو الجار المسلم، وَالْجارِ الْجُنُبِ هو الجار اليهودي أو النصراني، فهي عنده قرابة الإسلام وأجنبية الكفر، وقالت فرقة: الجار ذو القربى هو الجار القريب المسكن منك، والجار الجنب هو البعيد المسكن منك، وكأن هذا القول منتزع من الحديث، قالت عائشة، يا رسول الله إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال إلى أقربهما منك بابا، واختلف الناس في حد الجيرة، فقال الأوزاعي: أربعون دارا من كل ناحية جيرة، وقالت فرقة: من سمع إقامة الصلاة فهو جار ذلك المسجد، وبقدر ذلك في الدور وقالت فرقة: من ساكن رجلا في محلة أو مدينة فهو جاره، والمجاورة مراتب بعضها ألصق من بعض، أدناها الزوج كما قال الأعشى: [الطويل] أيا جارتي بيني وبعد ذلك الجيرة الخلط، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
سائل مجاور جرم هل جنيت لها ... حربا تفرّق بين الجيرة الخلط
وحكى الطبري عن ميمون بن مهران: أن الجار ذا القربى أريد به جار القريب، وهذا خطأ في اللسان، لأنه جمع على تأويله بين الألف واللام والإضافة، وكأن وجه الكلام وجار ذي القربى، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «والجار ذا القربى» بنصب الجار، وحكى مكي عن ابن وهب أنه قال عن بعض الصحابة في الْجارِ الْجُنُبِ: إنها زوجة الرجل وروى المفضل عن عاصم أنه قرأ «والجار الجنب» بفتح الجيم وسكون النون، والْجُنُبِ في هذه الآية معناه. البعيد، والجنابة البعد، ومنه قول الشاعر وهو الأعشى: [الطويل]
أتيت حريثا زائرا عن جنابة ... فكان حريث عن عطائي جامدا
ومنه قول الآخر، وهو علقمة بن عبدة: [الطويل]
فلا تحرمنّي نائلا عن جنابة ... فإني امرؤ وسط القباب غريب
وهو من الاجتناب، وهو أن يترك الشيء جانبا، وسئل أعرابي عن الْجارِ الْجُنُبِ، فقال: هو الذي

(2/50)


الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)

يجيء فيحل حيث تقع عينك عليه، قال أبو علي: جنب صفة كناقة أجد، ومشية سجح، وجنب التطهر مأخوذ من الجنب، وقال ابن عباس وابن جبير وقتادة ومجاهد والضحاك: الصاحب بالجنب هو الرفيق في السفر، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن مسعود وابن أبي ليلى وإبراهيم النخعي: الصاحب بالجنب الزوجة، وقال ابن زيد: هو الرجل يعتريك ويلم بك لتنفعه، وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه، وهما على راحلتين، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة فقطع قضيبين، أحدهما معوج وخرج فأعطى صاحبه القويم وحبس هو المعوج، فقال له الرجل: كنت يا رسول الله أحق بهذا، فقال له: يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسؤول عن صحبته ولو ساعة من نهار، وقال المفسرون طرّا: ابن السبيل هو المسافر على ظهر طريقه، وسمي ابنه للزومه له كما قيل ابن ماء للطائر الملازم للماء، ومنه قول النبي عليه السلام: «لا يدخل الجنة ابن زنى» أي: ملازمه الذي يستحق بالمثابرة عليه
أن ينسب إليه، وذكر الطبري أن مجاهدا فسره بأنه المار عليك في سفره، وأن قتادة وغيره فسره بأنه الضيف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله قول واحد، وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يريد العبيد الأرقاء، ونسب الملك إلى اليمين إذ هي في المعتاد جارحة البطش والتغلب والتملك، فأضيفت هذه المعاني وإن لم تكن بها إليها تجوزا والعبيد موصى بهم في غير ما حديث يطول ذكرها، ويغني عن ذلك اشتهارها، ومعنى لا يُحِبُّ في هذه الآية لا تظهر عليه آثار نعمه في الآخرة ولا آثار حمده في الدنيا، فهي المحبة التي هي صفة فعل أبعدها عمن صفته الخيلاء والفخر، يقال خال الرجل يخول خولا إذا تكبر وأعجب بنفسه، وأنشد الطبري: [المتقارب]
فإن كنت سيّدنا سدتنا ... وإن كنت للخال فاذهب فخل
قال القاضي أبو محمد: ونفي المحبة عمن هذه صفته ضرب من التوعد، وخص هاتين الصفتين هنا إذ مقتضاهما العجب والزهو، وذلك هو الحامل على الإخلال بالأصناف الذين تقدم أمر الله بالإحسان إليهم، ولكل صنف نوع من الإحسان يختص به، ولا يعوق عن الإحسان إليهم إلا العجب أو البخل، فلذلك نفى الله محبته عن المعجبين والباخلين على أحد التأويلين حسبما نذكره الآن بعد هذا، وقال أبو رجاء الهروي: لا تجده سيء الملكة إلا وجدته مختالا فخورا، ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا، والفخر عد المناقب تطاولا بذلك.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 37 الى 39]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)

(2/51)


قالت فرقة الَّذِينَ في موضع نصب بدل من مِنْ، في قوله مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً [النساء: 36] ومعناه على هذا: «يبخلون بأموالهم ويأمرون الناس» يعني إخوانهم، ومن هو مظنة طاعتهم بالبخل بالأموال، فلا تنفق في شيء من وجود الإحسان إلى من ذكر، وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، يعني: من الرزق والمال، فيجيء على هذا أن الباخلين منفية عنهم محبة الله، والآية إذا في المؤمنين، فالمعنى: أحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمى، فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان إليهم من المؤمنين، وأما الكافرون فإنه أعد لهم عَذاباً مُهِيناً، ففضل توعد المؤمنين من توعد الكافرين، بأن جعل الأول عدم المحبة، والثاني عَذاباً مُهِيناً، وقالت فرقة: الَّذِينَ- في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف، تقديره بعد قوله مِنْ فَضْلِهِ معذبون أو مجازون أو نحوه، وقال الزجّاج: الخبر في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها [النساء: 40] وفي هذا تكلف ما، والآية على هذا كله في كفار، وقد روي: أنها نزلت في أحبار اليهود بالمدينة، فإنهم بخلوا بالإعلام بصفة محمد عليه السلام، وبما عندهم من العلم في ذلك، وأمروا الناس بالبخل على جهتين، بأن قالوا لأتباعهم وعوامهم: اجحدوا أمر محمد، وابخلوا به، وبأن قالوا للأنصار: لم تنفقون أموالكم على هؤلاء المهاجرين فتفتخرون عليهم؟ ونحو هذا مروي عن مجاهد وحضرمي وابن زيد وابن عباس، وحقيقة «البخل» : منع ما في اليد، والشح: هو البخل الذي تقترن به الرغبة فيما في أيدي الناس، «وكتمان الفضل» هو على هذا: كتمان العلم، والتوعد بالعذاب المهين لهم، وقرأ عيسى ابن عمر والحسن «بالبخل» بضم الباء والخاء، وقرأ الجمهور بضم الباء وسكون الخاء، وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي الحديد «بالبخل» بفتح الباء والخاء، وقرأ ابن الزبير وقتادة وجماعة: بفتح الباء وسكون الخاء، وهي كلها لغات، وَأَعْتَدْنا معناه: يسرنا وأعددنا وأحضرنا، والعتيد: الحاضر، والمهين: الذي يقترن به خزي وذل، وهو أنكى وأشد على المعذب.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ الآية- قال الطبري: الَّذِينَ في موضع خفض عطف على الكافرين، ويصح أن يكون في موضع رفع عطفا على الَّذِينَ يَبْخَلُونَ على تأويل: من رآه مقطوعا ورأى الخبر محذوفا، وقال: إنها نزلت في اليهود، ويصح أن يكون في موضع رفع على العطف وحذف الخبر، وتقديره: بعد اليوم الآخر معذبون، وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في اليهود، قال الطبري: وهذا ضعيف، لأنه نفى عن هذه الصفة الإيمان بالله واليوم الآخر، واليهود ليسوا كذلك.
قال القاضي أبو محمد: وقول مجاهد متجه على المبالغة والإلزام، إذا إيمانهم باليوم الآخر كلا إيمان، من حيث لا ينفعهم، وقال الجمهور: نزلت في المنافقين، وهذا هو الصحيح، وإنفاقهم: هو ما كانوا يعطون من زكاة، وينفقون في السفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، «رياء» ودفعا عن أنفسهم، لا إيمانا بالله، ولا حبا في دينه وَرِئاءَ نصب على الحال من الضمير في يُنْفِقُونَ والعامل يُنْفِقُونَ، ويكون قوله: وَلا يُؤْمِنُونَ في الصلة، لأن الحال لا تفرق إذا كانت مما هو في الصلة، وحكى المهدوي: أن الحال تصح أن تكون من الَّذِينَ فعلى هذا يكون وَلا يُؤْمِنُونَ مقطوعا ليس من الصلة،

(2/52)


إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)

والأول أصح، وما حكى المهدوي ضعيف، ويحتمل أن يكون وَلا يُؤْمِنُونَ في موضع الحال، أي: غير مؤمنين، فتكون الواو واو الحال. و «القرين» : فعيل بمعنى فاعل، من المقارنة وهي الملازمة والاصطحاب، وهي هاهنا مقارنة مع خلطة وتواد، والإنسان كله يقارنه الشيطان، لكن الموفق عاص له، ومنه قيل لما يلزمان الإبل والبقر قرينان، وقيل للحبل الذي يشدان به: قرن، قال الشاعر: [البسيط]
كمدخل رأسه لم يدنه أحد ... بين القرينين حتّى لزّه القرن
فالمعنى: ومن يكن الشيطان له مصاحبا وملازما، أو شك أن يطيعه فتسوء عاقبته، وقَرِيناً نصب على التمييز، والفاعل ل «ساء» مضمر، تقديره ساء القرين قرينا، على حد بئس، وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف: 50] وذلك مردود، لأن بَدَلًا حال، وفي هذا نظر.
وقوله تعالى: وَماذا عَلَيْهِمْ «ما» رفع بالابتداء، و «ذا» صلة، وعَلَيْهِمْ خبر الابتداء، التقدير:
وأي شيء عليهم؟ ويصح أن تكون «ما» اسما بانفرادها، و «ذا» بمعنى «الذي» ابتداء وخبر، وجواب «لو» في قوله: ماذا فهو جواب مقدم.
قال القاضي أبو محمد: وكأن هذا الكلام يقتضي أن الإيمان متعلق بقدرتهم ومن فعلهم، ولا يقال لأحد: ما عليك لو فعلت إلا فيما هو مقدور له، وهذه شبهة للمعتزلة، والانفصال عنها أن المطلوب إنما هو تكسبهم واجتهادهم وإقبالهم على الإيمان، وأما الاختراع فالله المنفرد به، وفي هذا الكلام تفجع ما عليهم، واستدعاء جميل يقتضي حيطة وإشفاقا وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً إخبار يتضمن وعيدا، وينبه على سوء تواطئهم، أي: لا ينفعهم كتم مع علم الله تعالى بهم.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : آية 40]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)
مِثْقالَ مفعال من الثقل، و «الذرة» : الصغيرة الحمراء من النمل، وهي أصغر ما يكون إذا مر عليها حول، لأنها تصغر وتجري كما تفعل الأفعى، تقول العرب: أفعى جارية، وهي أشدها، وقال امرؤ القيس:
[الطويل]
من القاصرات الطّرف لو دبّ محول ... من الذّرّ فوق الإتب منها لأثّرا
فالمحول الذي أتى عليه حول. وقال حسان: [الخفيف]
لو يدبّ الحوليّ من ولد ألذ ... ر عليها لأندبتها الكلوم
وعبر عن الذرة يزيد بن هارون «بأنها دودة حمراء» ، وهي عبارة فاسدة، وروي عن ابن عباس:
«الذرة» رأس النملة، وقرأ ابن عباس «إن الله لا يظلم مثقال نملة» ومِثْقالَ مفعول ثان ل يَظْلِمُ، والأول مضمر التقدير، أن الله لا يظلم أحدا مثقال ويَظْلِمُ لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، وإنما عدي هنا

(2/53)


إلى مفعولين بأن يقدر في معنى ما يتعدى إلى مفعولين، كأنه قال: إن الله لا ينقص أو لا يبخس أو لا يغصب، ويصح أن يكون نصب مِثْقالَ على أنه بيان وصفة لمقدار الظلم المنفي، فيجيء على هذا نعتا لمصدر محذوف، التقدير: إن الله لا يظلم ظلما مثقال ذرة، كما تقول: إن الأمير لا يظلم قليلا ولا كثيرا، أي لا يظلم ظلما قليلا ولا كثيرا، فعلى هذا وقف يَظْلِمُ على مفعول واحد، وقال قتادة عن نفسه، ورواه عن بعض العلماء، لأن تفضل حسناتي سيئاتي بمثقال ذرة أحب إليّ من الدنيا جميعا، وحذفت النون من «تكن» لكثرة الاستعمال، وشبهها خفة بحروف المد واللين، وقرأ جمهور السبعة «حسنة» بالنصب على نقصان «كان» واسمها مضمر تقديره وإن تك زنة الذرة حسنة، وقرأ نافع وابن كثير «حسنة» بالرفع على تمام «كان» التقدير: وإن تقع حسنة أو توجد حسنة، ويُضاعِفْها جواب الشرط، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعفها» مشددة العين بغير ألف، قال أبو علي: المعنى فيهما واحد، وهما لغتان، وقرأ الحسن «يضعفها» بسكون الضاد وتخفيف العين، ومضاعفة الشيء في كلام العرب: زيادة مثله إليه، فإذا قلت: ضعفت، فقد أتيت ببنية التكثير، وإذا كانت صيغة الفعل دون التكثير تقتضي الطي مرتين فبناء التكثير يقتضي أكثر من المرتين إلى أقصى ما تريد من العدد، وإذا قلت ضاعفت فليس ببنية تكثير، ولكنه فعل صيغته دالة على الطي مرتين فما زاد، هذه أصول هذا الباب على مذهب الخليل وسيبويه، وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب المجاز: أن «ضاعفت» يقتضي مرارا كثيرة، وضعفت يقتضي مرتين، وقال مثله الطبري ومنه نقل، ويدلك على تقارب الأمر في المعنى ما قرئ به في قوله فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة: 245] فإنه قرئ «يضاعفه ويضعفه» وما قرئ به في قوله تعالى: يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] فإنها قرئ «يضعف لها العذاب ضعفين» وقال بعض المتأولين: هذه الآية خص بها المهاجرون، لأن الله أعلم في كتابه: أن الحسنة لكل مؤمن مضاعفة عشر مرار، وأعلم في هذه:
أنها مضاعفة مرارا كثيرة جدا حسب ما روى أبو هريرة من أنها تضاعف ألفي ألف مرة، وروى غيره من أنها تضاعف ألف ألف مرة، ولا يستقيم أن يتضاد الخبران، فهذه مخصوصة للمهاجرين السابقين، حسبما روى عبد الله بن عمر: أنها لما نزلت مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: 160] في الناس كافة، قال رجل: فما للمهاجرين؟ فقال ما هو أعظم من هذا إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ الآية فخصوا بهذا كما خصت نفقة سبيل الله بتضعيف سبعمائة مرة، ولا يقع تضاد في الخبر، وقال بعضهم: بل وعد بذلك جميع المؤمنين، وروي في ذلك أحاديث، وهي: أن الله عز وجل يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فينادي هذا فلان بن فلان، فمن كان له عنده حق فليقم قال: فيحب الإنسان أن لو كان له يومئذ الحق على أبيه وابنه، فيأتي كل من له حق فيأخذ من حسناته حتى يقع الانتصاف، ولا يبقى له إلا وزن الذرة، فيقول الله تعالى:
أضعفوها لعبدي واذهبوا به إلى الجنة، وهذا يجمع معاني ما روي مما لم نذكره، والآية تعم المؤمنين والكافرين، فأما المؤمنون فيجازون في الآخرة على مثاقيل الذر فما زاد، وأما الكافرون فما يفعلون من خير فتقع المكافأة عليه بنعم الدنيا ويجيئون يوم القيامة ولا حسنة لهم، ولَدُنْهُ معناه من عنده، قال سيبويه:
ولدن: هي لابتداء الغاية، فهي تناسب أحد مواضع من، ولذلك التأما ودخلت مِنْ عليها، والأجر العظيم: الجنة، قاله ابن مسعود وسعيد بن جبير وابن زيد، والله إذا منّ بتفضله بلغ بعبده الغاية.

(2/54)


فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)

قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 41 الى 42]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)
تقدم في الآية قبلها الإعلام بتحقيق الأحكام يوم القيامة، فحسن بعد ذلك التنبيه على الحالة التي يحضر ذلك فيها، ويجاء فيها بالشهداء على الأمم، ومعنى الآية: أن الله يأتي بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ومعنى «الأمة» في هذه الآية: غير المعنى المتعارف في إضافة الأمم إلى الأنبياء، فإن المتعارف أن تريد بأمة محمد عليه السلام جميع من آمن به وكذلك في كل نبي، وهي هنا جميع من بعث إليه من آمن منهم ومن كفر، وكذلك قال المتأولون: إن الإشارة «بهؤلاء» إلى كفار قريش وغيرهم من الكفار، وإنما خص كفار قريش بالذكر لأن وطأة الوعيد أشد عليهم منها على غيرهم و «كيف» في موضع نصب مفعول مقدم بفعل تقديره في آخر الآية: ترى حالهم، أو يكونون، أو نحوه، وقال مكي في الهداية:
جِئْنا عامل في «كيف» ، وذلك خطأ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه، وكذلك ذرفت عيناه عليه السلام حين قرأها عليه عبد الله بن مسعود في الحديث المشهور وما ذكره الطبري من شهادة أمة محمد بتبليغ الرسل، وما جرى في معنى ذلك من القصص الذي ذكر مكي، كسؤال اللوح المحفوظ، ثم إسرافيل ثم جبريل، ثم الأنبياء، فليست هذه آيته، وإنما آيته لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] ويَوْمَئِذٍ ظرف ويصح أن يكون نصب «يوم» في هذا الموضع على الظرف، على أنه معرب مع الأسماء غير المتمكنة، ويصح أن يكون نصبه على أنه مبني على النصب مع الأسماء غير المتمكنة، و «الود» إنما هو في ذلك اليوم، وقرأ نافع وابن عامر «تسّوّى» بتشديد السين والواو على إدغام التاء الثانية من تتسوى، وقرأ حمزة والكسائي «تسّوّى» بتخفيف السين وتشديد الواو، على حذف التاء الثانية المذكورة، وهما بمعنى واحد، واختلف فيه، فقالت فرقة: تنشق الأرض فيحصلون فيها ثم تتسوى هي في نفسها عليهم وبهم، وقالت فرقة: معناه لو تستوي هي معهم في أن يكونوا ترابا كآبائهم، فجاء اللفظ على أن الأرض هي المستوية معهم، والمعنى إنما هو أنهم يستوون مع الأرض، ففي اللفظ قلب يخرج على نحو اللغة التي حكاها سيبويه، أدخلت القلنسوة في رأسي وأدخلت فمي في الحجر، وما جرى مجراه، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو «تسوى» على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله، فيكون الله تعالى يفعل ذلك على حسب المعنيين المتقدمين، قال أبو علي: إمالة الفتحة إلى الكسرة والألف إلى الياء في «تسوى» حسنة، قالت طائفة: معنى الآية أن الكفار لما يرونه من الهول وشدة المخاوف يودون أن تسوى بهم الأرض فلا ينالهم ذلك الخوف، ثم استأنف الكلام فأخبر أنهم لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً لنطق جوارحهم بذلك كله، حين يقول بعضهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] فيقول الله: كذبتم، ثم ينطق جوارحهم فلا تكتم حديثا، وهذا قول ابن عباس، وقال فيه: إن الله إذا جمع الأولين والآخرين ظن بعض الكفار أن الإنكار ينجي، فقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ، فيقول الله: كذبتم، ثم ينطق جوارحهم فلا تكتم حديثا، وهكذا فتح ابن عباس على سائل أشكل عليه الأمر،

(2/55)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)

وقالت طائفة: مثل القول الأول، إلا أنها قالت: إنما استأنف الكلام بقوله: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ليخبر عن أن الكتم لا ينفع، وإن كتموا، لأن الله تعالى يعلم جميع أسرارهم وأحاديثهم، فمعنى ذلك:
وليس ذلك المقام الهائل مقاما ينفع فيه الكتم.
قال القاضي أبو محمد: الفرق بين هذين القولين أن الأول يقتضي أن الكتم لا ينفع بوجه، والآخر يقتضي أن الكتم لا ينفع وقع أو لم يقع، كما تقول: هذا مجلس لا يقال فيه باطل، وأنت تريد لا ينتفع به ولا يستمع إليه، وقالت طائفة: الكلام كله متصل، ومعناه: يود الذين كفروا لو تسوى بهم الأرض، ويودون أن لا يكتموا الله حديثا، وودهم لذلك إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ، وقالت طائفة: هي مواطن وفرق، وقالت طائفة: معنى الآية: يود الذين كفروا أن تسوى بهم الأرض، وأنهم لم يكتموا الله حديثا، وهذا على جهة الندم على الكذب أيضا، كما تقول: وددت أن أعزم كذا، ولا يكون كذا على جهة الفداء، أي يفدون كتمانهم بأن تسوى بهم الأرض، والرَّسُولَ في هذه الآية: للجنس، شرف بالذكر وهو مفرد دل على الجمع، وقرأ أبو السمال ويحيى بن يعمر: «وعصوا الرسول» بكسر الواو من عَصَوُا.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : آية 43]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)
سبب النهي عن قرب الصلاة في حال سكر: أن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شربت الخمر عند أحدهم قبل التحريم، فيهم أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف، فحضرت الصلاة، فتقدمهم علي بن أبي طالب، فقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] فخلط فيها، بأن قال:
«أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد» ، فنزلت الآية، وروي أن المصلي عبد الرحمن بن عوف، وجمهور المفسرين على أن المراد سكر الخمر، إلا الضحاك، فإنه قال: إنما المراد سكر النوم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، والخطاب لجميع الأمة الصالحين، وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت، وإنما هو مخاطب إذا صحا بامتثال ما يجب عليه، وبتكفير ما ضاع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق، على ما ذهب إليه بعض الناس، وقرأت فرقة سُكارى جمع سكران، وقرأت فرقة «سكرى» بفتح السين على مثال فعلى وقرأ الأعمش: «سكرى» بضم السين وسكون الكاف على مثال فعلى، وقرأ النخعي «سكرى» بفتح السين. قال أبو الفتح: هو تكسير سكران على سكارى، كما قالوا: روبى نياما وكقولهم:

(2/56)


هلكى وميدى في جمع هالك ومائد، ويحتمل أن يكون صفة لمؤنثة واحدة، كأن المعنى وأنتم جماعة سكرى، وأما «سكرى» بضم السين فصفة لواحدة، كحبلى. والسكر انسداد الفهم، ومنه سكرت الماء إذا سددت طريقه، وقالت طائفة: الصَّلاةَ هنا العبادة المعروفة، حسب السبب في نزول الآية، وقالت طائفة: الصَّلاةَ هنا المراد بها موضع الصلاة والصلاة معا، لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة، ولا يصلون إلا مجتمعين، فكانا متلازمين.
قال القاضي أبو محمد: وإنما احتيج إلى هذا الخلاف بحسب ما يأتي في تفسير عابري السبيل، ويظهر من قوله: حَتَّى تَعْلَمُوا أن السكران لا يعلم ما يقول ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه وغيره: إن السكران لا يلزمه طلاقه، فأسقط عنه أحكام القول، لهذا ولقول النبي عليه السلام للذي أقر بالزنى أسكران أنت؟ فمعناه: أنه لو كان سكران لم يلزمه الإقرار.
قال القاضي أبو محمد: وبين طلاق السكران وإقراره بالزنى فرق، وذلك أن الطلاق والإقرار بالمال والقذف وما أشبهه هذا يتعلق به حقوق الغير من الآدميين، فيتهم السكران إن ادعى أنه لم يعلم، ويحكم عليه حكم العالم، والإقرار بالزنا إنما هو حق لله تعالى، فإذا ادعى فيه بعد الصحو أنه كان غير عالم دين، وأما أحكام الجنايات، فهي كلها لازمة للسكران وَأَنْتُمْ سُكارى ابتداء وخبر، جملة في موضع الحال، وحكي عن ابن فورك أنه قال: معنى الآية النهي عن السكر، أي لا يكن منكم سكر، فيقع قرب الصلاة، إذ المرء مدعو إلى الصلاة دأبا، والظاهر أن الأمر ليس كذلك، وقد روي: أن الصحابة بعد هذه الآية كانوا يشربون ويقللون أثر الصبح وأثر العتمة، ولا تدخل عليهم صلاة إلا وهم صاحون، وقوله: وَلا جُنُباً عطف على موضع هذه الجملة المنصوبة، والجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان، هذا قول جمهور الأمة، وروي عن بعض الصحابة: لا غسل إلا على من أنزل، وهو من الجنابة، وهي: البعد، كأنه جانب الطهر أو من الجنب، كأنه ضاجع ومس بجنبه جنبا، وقرأت فرقة «جنبا» بإسكان النون، و «عابري سبيل» هو من العبور أي: الخطور والجواز، ومنه: عبر السفينة النهر، ومنه: ناقة عبر السير والفلاة والمهاجرة أي تعبرها بسرعة السير. قال الشاعر: وهي امرأة: [الكامل]
عيرانة سرح اليدين شملّة ... عبر الهواجر كالهزفّ الخاضب
وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم: عابر السبيل هو المسافر، فلا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم، وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود وعكرمة والنخعي وغيرهم: عابر السبيل الخاطر في المسجد، وهو المقصود في الآية، وهذا يحتاج إلى ما تقدم من أن القول بأن الصلاة هي المسجد والمصلى، وروى بعضهم: أن سبب الآية: أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد، فإذا أصابت أحدهم الجنابة اضطر إلى المرور في المسجد، فنزلت الآية في ذلك، ثم نزلت وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إلى آخر الآية، بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة المريسيع حين أقام على التماس العقد، هكذا قال الجمهور، وقال النخعي: نزلت في قوم أصابتهم جراح ثم أجنبوا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، ذكر النقاش: أن ذلك

(2/57)


نزل بعبد الرحمن بن عوف، والمريض المقصود في هذه الآية هو الحضري، والذي يصح له التيمم هو الذي يخاف الموت لبرد الماء وللعلة به، وهذا يتيمم بإجماع، إلا ما روي عن عطاء: أنه يتطهر وإن مات، والذي يخاف حدوث علة على علة أو زيادة علة، والذي يخاف بطء برء، فهؤلاء يتيممون بإجماع من المذهب فيما حفظت، والأسباب التي لا يجد المريض بها الماء هي إما عدم المناول، وإما خوف ما ذكرناه. وقال داود: كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم، وهذا قول خلف، وإنما هو عند علماء الأمة المجدور، والمحصوب، والعلل المخوفة عليها من الماء، والمسافر في هذه الآية: هو الغائب عن الحضر، كان السفر مما تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر، هذا مذهب مالك وجمهور الفقهاء، وقال الشافعي في كتاب الأشراف: وقال قوم: لا يتيمم إلا في سفر يجوز فيه التقصير، وهذا ضعيف.
قال القاضي أبو محمد: وكذلك قالت فرقة: لا يتيمم في سفر معصية، وهذا أيضا ضعيف، والأسباب التي لا يجد بها المسافر الماء هي إما عدمه جملة، وإما خوف فوات الرفيق بسبب طلبه، وإما خوف على الرحل بسبب طلبه، وإما خوف سباع أو إذاية عليه، واختلف في وقت إيقاعه التيمم، فقال الشافعي: في أول الوقت، وقال أبو حنيفة وغيره: في آخر الوقت، وفرق مالك بين اليائس والعالم الطامع بإدراكه في الوقت، والجاهل بأمره جملة، وقال إسحق بن راهويه: لا يلزم المسافر طلب الماء إلا بين يديه وحوله، وقالت طائفة: يخرج من طلبه الغلوتين ونحوهما، وفي مذهب مالك يمشي في طلبه ثلاثة أميال، وقال الشافعي: يمشي في طلبه ما لم يخف فوات رفيق أو فوات الوقت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول حسن، وأصل الْغائِطِ ما انخفض من الأرض، وكانت العرب تقصد بقضاء حاجتها ذلك الصنف من المواضع، حتى كثر استعماله في قضاء الحاجة وصار عرفه، وقرأ قتادة والزهري «من الغيط» ساكنة الياء من غير ألف، قال ابن جني: هو محذوف من فيعل، عين هذه الكلمة واو، وهذا اللفظ يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى، واختلف الناس في حصرها، وأنبل ما اعتقد في ذلك: أن أنواع الأحداث ثلاثة، ما خرج من السبيلين معتاد، وما أذهب العقل، واللمس، هذا على مذهب مالك، وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من النجاسات من الجسد، ولا يراعى المخرج ولا غيره، ولا يعد اللمس فيها. وعلى مذهب الشافعي ما خرج من السبيلين، ولا يراعى الاعتياد، والإجماع من الأحداث على تسعة، أربعة من الذكر، وهي البول والمني والودي والمذي، وواحد من فرج المرأة وهو دم الحيض، واثنان من الدبر، وهما الريح والغائط، وذهاب العقل كالجنون والإغماء والنوم الثقيل، فهذه تنقض الطهارة الصغرى إجماعا، وغير ذلك كاللمس والدود يخرج من الدبر وما أشبهه مختلف فيه، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم لامَسْتُمُ وقرأ حمزة والكسائي «لمستم» وهي في اللغة لفظة قد تقع للمس الذي هو الجماع، وفي اللمس الذي هو جس اليد والقبلة ونحوه، إذ في جميع ذلك لمس، واختلف أهل العلم في موقعها هنا. فمالك رحمه الله يقول: اللفظة هنا على أتم عمومها تقتضي الوجهين، فالملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم، لأن اللمس نقض وضوءه، وقالت طائفة: هي هنا مخصصة للمس اليد، والجنب لا ذكر له إلا مع الماء، ولا سبيل له إلى التيمم، وإنما يغتسل الجنب أو يدع الصلاة حتى يجد الماء، روي هذا القول عن عمر رضي الله عنه وعن عبد الله بن

(2/58)


مسعود وغيرهما، وقال أبو حنيفة: هي هنا مخصصة للمس الذي هو الجماع، فالجنب يتيمم، واللامس باليد لم يجر له ذكر فليس بحدث، ولا هو ناقض لوضوء، فإذا قبّل الرجل امرأته للذة لم ينتقض وضوءه، ومالك رحمه الله يرى: أن اللمس ينقض إذا كان للذة، ولا ينقض إذا لم يقصد به اللذة، ولا إذا كان لابنة أو لأم، والشافعي رحمه الله يعمم لفظة النِّساءَ، فإذا لمس الرجل عنده أمه أو ابنته على أي وجه كان انتقض وضوءه، وعدم وجود الماء يترتب للمريض وللمسافر حسبما ذكرناه، ويترتب للصحيح الحاضر بالغلاء الذي يعم جميع الأصناف، واختلف فيه، فقال الحسن: يشتري الرجل الماء بماله كله ويبقى عديما، وهذا قول ضعيف، لأن دين الله يسر كما قال صلى الله عليه وسلم، ويريد بنا اليسر ولم يجعل علينا في الدين من حرج، وقالت طائفة: يشتري ما لم يزد على القيمة الثلث فصاعدا، وقالت طائفة: يشتري قيمة الدرهم بالدرهمين والثلاثة، ونحو هذا، وهذا كله في مذهب مالك رحمه الله، وقيل لأشهب: أيشتري القربة بعشرة دراهم؟ فقال ما أرى ذلك على الناس.
قال القاضي أبو محمد: وقدر هذه المسألة إنما هو بحسب غنى المشتري وحاجته، والوجه عندي أن يشتري ما لم يؤذ غلاؤه، ويترتب أيضا عدم الماء للصحيح الحاضر بأن يسجن أو يربط، وهذا هو الذي يقال فيه: إنه لم يجد ماء ولا ترابا، كما ترجم البخاري، ففيه أربعة أقوال، فقال مالك وابن نافع: لا يصلي ولا يعيد، وقال ابن القاسم: يصلي ويعيد، وقال أشهب: يصلي ولا يعيد، وقال أصبغ: لا يصلي ويقضي، إذا خاف الحضري فوات الوقت إن تناول الماء، فلمالك رحمه الله قولان في المدونة: إنه يتيمم ولا يعيد، وقال: إنه يعيد، وفي الواضحة وغيرها عنه: أنه يتناول الماء ويغتسل وإن طلعت الشمس. وعلى القول بأنه يتيمم ولا يعيد إذا بقي من الوقت شيء بقدر ما كان يتوضأ ويصلي ركعة، فقيل: يعيد، وقيل: لا يعيد، ومعنى قوله فَتَيَمَّمُوا في اللغة: اقصدوا، ومنه قول امرئ القيس [الطويل]
تيمّمت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظّلّ عرمضها طامي
ومنه قول أعشى بني ثعلبة: [المتقارب]
تيمّمت قيسا وكم دونه ... من الأرض من مهمه ذي شزن
ثم غلب هذا الاسم في الشرع على العبادة المعروفة، والصعيد في اللغة: وجه الأرض، قاله الخليل وغيره، ومنه قول ذي الرمة: [البسيط]
كأنّه بالضّحى ترمي الصّعيد به ... دبّابة في عظام الرّأس خرطوم
واختلف الفقهاء فيه من أجل تقييد الآية إياه بالطيب، فقالت طائفة: يتيمم بوجه الأرض، ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سبخة، وجعلت «الطيب» بمعنى الطاهر، وهذا مذهب مالك، وقالت طائفة منهم: «الطيب» بمعنى الحلال، وهذا في هذا الموضع قلق، وقال الشافعي وطائفة: «الطيب» بمعنى المنبت، كما قال جل ذكره وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ [الأعراف: 58] فيجيء الصعيد على هذا التراب، وهذه الطائفة لا تجيز التيمم بغير ذلك مما ذكرناه، فمكان الإجماع: أن يتيمم الرجل في تراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب، ومكان الإجماع في المنع: أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف،

(2/59)


أو الفضة والياقوت والزمرد، أو الأطعمة، كالخبز واللحم وغيرهما، أو على النجاسات- واختلف في غير هذا كالمعادن، فأجيز، وهو مذهب مالك، ومنع، وهو مذهب الشافعي، وأشار أبو الحسن اللخمي إلى أن الخلاف فيه موجود في المذهب، وأما الملح فأجيز في المذهب المعدني والجامد، ومنعا، وأجيز المعدني ومنع الجامد، والثلج في المدونة جوازه، ولمالك في غيرها منعه، وذكر النقاش عن ابن علية وابن كيسان:
أنهما أجازا التيمم بالمسك والزعفران.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ بحت من جهات، وأما التراب المنقول في طبق وغيره، فجمهور المذهب جواز التيمم به، وفي المذهب المنع، وهو في غير المذهب أكثر، وأما ما طبخ كالآجر والجص ففيه في المذهب قولان، الإجازة والمنع، وفي التيمم على الجدار الخلاف، وأما التيمم على النبات والعود فاختلف فيه في مذهب مالك، فالجمهور على منع التيمم على العود، وفي مختصر الوقار: أنه جائز، وحكى الطبري في لفظة «الصعيد» اختلافا: أنها الأرض الملساء وأنها الأرض المستوية، وأن «الصعيد» التراب، وأنه وجه الأرض.
وترتيب القرآن الوجه قبل اليدين، وبه قال الجمهور، ووقع في حديث عمار في البخاري في بعض الطرق تقديم اليدين، وقاله بعض أهل العلم: قياسا على تنكيس الوضوء، وتراعى في الوجه حدوده المعلومة في الوضوء، فالجمهور على أن استيعابه بالمسح في التيمم واجب، ويتتبعه كما يصنع بالماء، وأن لا يقصد ترك شيء منه، وأجاز بعضهم أن لا يتتبع كالغضون في الخفين، وما بين الأصابع في اليدين، وهو في المذهب قول محمد بن مسلمة. ومذهب مالك في المدونة: أن التيمم بضربتين، وقال ابن الجهم: التيمم واحدة، وقال مالك في كتاب محمد: إن تيمم بضربة أجزاه، وقال غيره في المذهب: يعيد في الوقت، وقال ابن نافع: يعيد أبدا، وقال مالك في المدونة: يبدأ بأصابع اليسرى على أصابع اليمنى، ثم يمر كذلك إلى المرفق، ثم يلوي بالكف اليسرى على باطن الذراع الأيمن، حتى يصل إلى الكوع. ثم يفعل باليمنى على اليسرى كذلك، فظاهر هذا الكلام أنه يستغنى عن مسح الكف بالأخرى، ووجهه أنهما في الإمرار على الذراع ماسحة ممسوحة، قال ابن حبيب: يمر بعد ذلك كفيه، فهذا مع تحكيم ظاهر المدونة خلاف، قال اللخمي: في كلام المدونة يريد ثم يمسح كفه بالأخرى فيجيء على تأويل أبي الحسن كلام ابن حبيب تفسيرا، وقالت طائفة: يبدأ بالشمال كما في المدونة، فإذا وصل على باطن الذراع إلى الرسغ، مشى على الكف، ثم كذلك باليمنى في اليسرى، ووجه هذا القول أن لا يترك من عضو بعد التلبس به موضعا، ثم يحتاج إلى العودة إليه بعد غيره، وقالت طائفة: يتناول بالتراب كما يتناول بالماء في صورة الإمرار دون رتبة، وقال مالك في المدونة: يمسح يديه إلى المرفقين، فإن مسح إلى الكوعين أعاد في الوقت، وقال ابن نافع: يعيد أبدا، قال غيرهما: في المذهب يمسح إلى الكوعين وهذا قول مكحول وجماعة من العلماء، وفي غير المذهب يمسح الكفين فقط، وفي ذلك حديث عن عمار بن ياسر، وهو قول الشعبي، وقال ابن شهاب: يمسح إلى الآباط، وذكره الطبري عن أبي بكر الصديق أنه قال لعائشة حين نزلت آية التيمم: إنك لمباركة، نزلت فيه رخصة، فضربنا ضربة لوجوهنا، وضربة بأيدينا إلى المناكب والآباط، وفي مصنف أبي داود عن الأعمش: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسح إلى

(2/60)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)

أنصاف ذراعيه، ولم يقل بهذا الحديث أحد من العلماء فيما حفظت، وما حكي الداودي من أن الكوعين فرض والمرافق سنة والآباط فضيلة، فكلام لا يعضده قياس ولا دليل، وإنما عمم قوم لفظة اليد فأوجبوه من المنكب، وقاس قوم على الوضوء فأوجبوه من المرافق، وعمم جمهور الأمة، ووقف قوم مع الحديث في الكوعين، وقيس أيضا على القطع، إذ هو حكم شرعي وتطهير، كما هذا تطهير، ووقف آخرون مع حديث عمار في الكفين، واختلف المذهب في تحريك الخاتم وتخليل الأصابع على قولين، يجب ولا يجب.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)
الرؤية في قوله أَلَمْ تَرَ من رؤية القلب، وهي علم بالشيء، وقال قوم: معناه «ألم تعلم» وقال آخرون: «ألم تخبر» ، وهذا كله يتقارب، والرؤية بالقلب تصل بحرف الجر وبغير حرف الجر، والمراد ب الَّذِينَ: اليهود، قاله قتادة وغيره، ثم اللفظ يتناول معهم النصارى، وقال ابن عباس: نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت اليهودي، وأُوتُوا أعطوا، و «النصيب» الحظ، والْكِتابِ: التوراة والإنجيل، وإنما جعل المعطى نصيبا في حق كل واحد منفرد، لأنه لا يحصر علم الكتاب واحد بوجه، ويَشْتَرُونَ عبارة عن إيثارهم الكفر وتركهم الإيمان، فكأنه أخذ وإعطاء، هذا قول جماعة، وقالت فرقة: أراد الذين كانوا يعطون أموالهم للأحبار على إقامة شرعهم فهذا شراء على وجهه على هذا التأويل، وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ، معناه أن تكفروا، وقرأ النخعي، «وتريدون أن تضلوا» ، بالتاء منقوطة من فوق في تريدون.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية وما بعدها، تقتضي توبيخا للمؤمنين على استنامة قوم منهم إلى أحبار اليهود، في سؤال عن دين، أو في موالاة أو ما أشبه ذلك، وهذا بيّن في ألفاظها، فمن ذلك، وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا، أي تدعوا الصواب في اجتنابهم، وتحسبوهم غير أعداء، والله أعلم بهم، وقوله:
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ خبر في ضمنه التحذير منهم، وبالله، في قوله: وَكَفى بِاللَّهِ في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض، وفائدة زيادته تبيين معنى الأمر في لفظ الخبر، أي اكتفوا بالله، فالباء تدل على المراد من ذلك، وَلِيًّا فعيلا، ونَصِيراً كذلك، من الولاية والنصر.
وقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا قال بعض المتأولين مِنَ راجعة على الَّذِينَ الأولى، فهي على هذا متعلقة ب تَرَ، وقالت طائفة، هي متعلقة ب نَصِيراً والمعنى ينصركم من الذين هادوا، فعلى

(2/61)


هذين التأويلين لا يوقف في قوله: نَصِيراً وقالت فرقة: هي لابتداء الكلام، وفيه إضمار تقديره قوم يحرفون، هذا مذهب أبي علي، ونظيره قول الشاعر [النابغة الذبياني] : [الوافر]
كأنك من جمال أبي أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشنّ
وقال الفراء وغيره: تقديره من، ومثله قول ذي الرمة: [الطويل]
فظلّوا ومنهم دمعه سابق له ... وآخر يثني دمعة العين باليد
فعلى هذا التأويل يوقف في قوله: نَصِيراً وقول سيبويه أصوب لأن إضمار الموصول ثقيل، وإضمار الموصوف أسهل، وهادُوا مأخوذ من هاد إذا تاب أو من يهود بن يعقوب وغيره التعريب، أو من التهود وهو الرويد من المشي واللين في القول، ذكر هذه كلها الخليل، وقد تقدم شرحها وبيانها في سورة البقرة، و «تحريف الكلم» على وجهين، إما بتغيير اللفظ، وقد فعلوا ذلك في الأقل، وإما بتغيير التأويل، وقد فعلوا ذلك في الأكثر، وإليه ذهب الطبري، وهذا كله في التوراة على قول الجمهور، وقالت طائفة: هو كلم القرآن، وقال مكي: كلام النبي محمد عليه السلام، فلا يكون التحريف على هذا إلا في التأويل، وقرأ النخعي وأبو رجاء: يحرفون الكلام بالألف، ومن جعل «من» متعلقة «بنصيرا» جعل «يحرفون» في موضع الحال، ومن جعلها منقطعة جعل «يحرفون» صفة، وقوله تعالى عنهم سَمِعْنا وَعَصَيْنا عبارة عن عتوهم في كفرهم وطغيانهم فيه، ومُسْمَعٍ لا يتصرف إلا من أسمع، وغَيْرَ مُسْمَعٍ يتخرج فيه معنيان: أحدهما غير مأمور وغير صاغر، كأنه قال: غير أن تسمع مأمورا بذلك، والآخر على جهة الدعاء، أي لا سمعت، كما تقول: امض غير مصيب، وغير ذلك، فكانت اليهود إذا خاطبت النبي بغير مسمع، أرادت في الباطن الدعاء عليه، وأرت ظاهرا أنها تريد تعظيمه، قال نحوه ابن عباس وغيره، وكذلك راعِنا كانوا يريدون منه في نفوسهم معنى الرعونة، وحكى مكي معنى رعاية الماشية، ويظهرون منه معنى المراعاة، فهذا معنى «ليّ اللسان» ، فقال الزجّاج: كانوا يريدون: اجعل سمعك لكلامنا مرعى.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا جفاء لا يخاطب به نبي، وفي مصحف ابن مسعود «راعونا» ومن قال: غَيْرَ مُسْمَعٍ غير مقبول منك فإنه لا يساعده التصريف، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد، ولَيًّا أصله لويا، قلبت الواو ياء وأدغمت. وَطَعْناً فِي الدِّينِ أي توهينا له وإظهارا للاستخفاف به قال القاضي أبو محمد: وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب، وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ الآية، المعنى: لو أنهم آمنوا وسمعوا وأطاعوا، واختلف المتأولون في قوله، وَانْظُرْنا فقال مجاهد وعكرمة وغيرهما: معناه انتظرنا، بمعنى: أفهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك، وهذا كما قال الحطيئة:
وقد نظرتكم إيناء صادرة ... للخمس طال بها مسحي وتنّاسي

(2/62)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)

وقالت فرقة: انظر- معناه: انظر إلينا، فكأنه استدعاء اهتبال وتحف، ومنه قول ابن الرقيات [الخفيف] :
ظاهرات الجمال والحسن ينظر ... ن كما تنظر الأراك الظّباء
وَأَقْوَمَ معناه: أعدل وأصوب، «واللعنة» : الإبعاد، فمعناه: أبعدهم من المهدي، وقَلِيلًا:
نعت، إما لإيمان وإما لنفر أو قوم، والمعنى مختلف، فمن عبر بالقلة عن الإيمان قال: إما هي عبارة عن عدمه على ما حكى سيبويه من قولهم: أرض قل ما تنبت كذا وهي لا تنبته جملة، وإما قلل الإيمان لما قلت الأشياء التي آمنوا بها فلم ينفعهم ذلك، وذلك أنهم كانوا يؤمنون بالتوحيد ويكفرون بمحمد وبجميع أوامر شريعته ونواهيها، ومن عبر بالقلة عن النفر قال: لا يؤمن منهم إلا قليل، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وغيرهما، وإذا قدرت الكلام نفرا قليلا، فهو نصب في موضع الحال وفي هذا نظر قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 47 الى 48]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)
هذا خطاب لليهود والنصارى، ولِما مَعَكُمْ معناه من شرع وملة، لا لما كان معهم من مبدل ومغير، و «الطامس» : الدائر المغير الاعلام، كما قال ذو الرمة: [البسيط]
من كل نضّاخة الذّفرى إذا عرقت ... عرضتها طامس الاعلام مجهول
ومن ذلك قيل للأعمى المسدودة عيناه: أعمى مطموس، وقالت طائفة: «طمس الوجوه» هنا: أن تعفى أثر الحواس فيها. وتزال الخلقة منه فيرجع كسائر الأعضاء في الخلو من أعضاء الحواس، فيكون أرد على «الأدبار» في هذا الموضع بالمعنى، أي خلوه من الحواس دبرا لكونه عامرا بها، وقال ابن عباس وعطية العوفي: «طمس الوجوه» أن تزال العينان خاصة منها وترد العينان في القفا فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشى القهقرى، وحكى الطبري عن فرقة: أن طمس الوجوه أن تتغير أعلامها وتصير منابت للشعر، فذلك هو الرد على الدبر، ورد على هذا القول الطبري، وقال مالك رحمه الله: كان أول إسلام كعب أنه مر برجل من أليل وهو يقرأ هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته. فأسلم مكانه، وقال: والله لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي، وقال مجاهد والحسن والسدي والضحاك: ذلك تجوز، وإنما المراد به وجوه الهدى والرشد، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها والتصيير إلى الكفر، وهو الرد على الأدبار، وقال ابن زيد: الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها، وطمسها: إخراجهم منها، والرد على الأدبار: هو رجوعهم إلى الشام من حبث أتوا أولا، وأَصْحابَ السَّبْتِ: هم أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت في الصيد، حسبما

(2/63)


تقدم، وكانت لعنتهم أن مسخوا خنازير وقردة، قاله قتادة والحسن والسدي: وأمر الله في هذا الموضع واحد الأمور، دال على جنسها، لا واحد الأوامر، فهي عبارة عن المخلوقات كالعذاب واللعنة هنا، أو ما اقتضاه كل موضع مما يختص به.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية، هذه مسألة الوعد والوعيد، وتلخيص الكلام فيها أن يقال: الناس أربعة أصناف، كافر مات على كفره، فهذا مخلد في النار بإجماع، ومؤمن محسن لم يذنب قطّ ومات على ذلك، فهذا في الجنة محتوم عليه حسب الخبر من الله تعالى بإجماع، وتائب مات على توبته فهو عند أهل السنة وجمهور فقهاء الأمة لاحق بالمؤمن المحسن إلا أن قانون المتكلمين أنه في المشيئة، ومذنب مات قبل توبته، فهذا موضع الخلاف، فقالت المرجئة: هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعيد كلها مخصصة في الكفار، وآيات الوعد عامة في المؤمنين، تقيّهم وعاصيهم. وقالت المعتزلة: إذا كان صاحب كبيرة فهو في النار ولا بد، وقالت الخوارج:
إذا كان صاحب كبيرة أو صغيرة فهو في النار مخلد ولا إيمان له، لأنهم يرون كل الذنوب كبائر، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعد كلها مخصصة في المؤمن المحسن الذي لم يعص قط، والمؤمن التائب، وجعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كفارا أو مؤمنين، وقال أهل السنة وأحق: آيات الوعد ظاهرة العموم، وآيات الوعيد ظاهرة العموم، ولا يصح نفوذ كلها لوجهه بسبب تعارضها، كقوله تعالى: لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 15- 16] ، وهذه الآية هي الحاكمة ببيان ما تعارض من آيات الوعد والوعيد وقوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الجن: 23] فلا بد أن نقول: إن آيات الوعد لفظها لفظ عموم، والمراد بها الخصوص في المؤمن المحسن، وفي التائب، وفيمن سبق في علمه تعالى العفو عنه دون تعذيب من العصاة، وأن آيات الوعيد لفظها عموم، والمراد بها الخصوص في الكفرة وفيمن سبق في علمه تعالى أنه يعذبه من العصاة، وتحكم بقولنا: هذه الآية النص في موضع النزاع، وهي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فإنها جلت الشك وردت على الطائفتين، المرجئة والمعتزلة، وذلك أن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فصل مجمع عليه، وقوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ فصل قاطع بالمعتزلة راد على قولهم ردا لا محيد عنه، ولو وقفنا في هذا الموضع من الكلام لصح قول المرجئة، فجاء قوله لِمَنْ يَشاءُ رادا عليهم، موجبا أن غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم، بخلاف ما زعموه من أنه مغفور لكل مؤمن.
قال القاضي أبو محمد: ورامت المعتزلة أن ترد هذه الآية إلى قولها، بأن قالوا: «من يشاء» هو التائب، وما أرادوه فاسد، لأن فائدة التقسيم في الآية كانت تبطل، إذا التائب من الشرك يغفر له.
قال القاضي أبو محمد: ورامت المرجئة أن ترد الآية إلى قولها، بأن قالوا: لِمَنْ يَشاءُ معناه:
يشاء أن يؤمن، لا يشاء أن يغفر له. فالمشيئة معلقة بالإيمان ممن يؤمن، لا بغفران الله لمن يغفر له، ويرد ذلك بأن الآية تقتضي على هذا التأويل أن قوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ عام في كافر ومؤمن، فإذا خصص المؤمنون بقوله لِمَنْ يَشاءُ وجب أن الكافرين لا يغفر لهم ما دون ذلك، ويجازون به.

(2/64)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)

قال القاضي أبو محمد: وذلك وإن كان مما قد قيل- فهو مما لم يقصد بالآية على تأويل أحد من العلماء، ويرد على هذا المنزع بطول التقسيم، لأن الشرك مغفور أيضا لمن شاء الله أن يؤمن.
قال القاضي أبو محمد: ومن آيات الوعيد التي احتج بها المعتزلة، قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النساء: 93] والآية مخرجة عنهم لوجوه، منها: أن الأصح في تأويل قوله تعالى مُتَعَمِّداً ما قال ابن عباس: إنه أراد مستحلا، وإذا استحل أحد ما حرم الله عليه فقد كفر، ويدل على ما قال ابن عباس: إنّا نجد الله تعالى في أمر القتل إذا ذكر القصاص لم يذكر الوعيد، وإذا ذكر الوعيد بالنار لم يذكر القصاص، فيظهر أن القصاص للقاتل المؤمن العاصي، والوعيد للمستحل الذي في حكم الكافر، ومنها من جهة أخرى أن الخلود إذا لم يقرن بقوله «أبدا» فجائز أن يراد به الزمن المتطاول، إذ ذلك معهود في كلام العرب، ألا ترى أنهم يحيّون الملوك بخلد الله ملكك، ومن ذلك قول امرئ القيس: [الطويل]
وهل يعمن إلّا سعيد مخلّد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وقال عبد الله بن عمرو لما نزلت قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53] قال بعض أصحاب النبي عليه السلام: والشرك يا رسول الله، فنزلت: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ولما حتم على أنه لا يغفر الشرك ذكر قبح موضعه وقدره في الذنوب، والفرية: أشد مراتب الكذب قبحا، وهو الاختلاق للعصبية.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 52]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)
هذا لفظ عام في ظاهره، ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود، واختلف في المعنى الذي به «زكوا أنفسهم» ، فقال قتادة والحسن: ذلك قولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] وقولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [البقرة: 111] وقال الضحاك والسدي: ذلك قولهم: لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر ليلا، وما فعلناه ليلا غفر نهارا، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب، وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة: تقديمهم أولادهم الصغار للصلاة لأنهم لا ذنوب لهم.
قال المؤلف: وهذا يبعد من مقصد الآية وقال ابن عباس: ذلك قولهم أبناؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا، وقال عبد الله بن مسعود: ذلك ثناء بعضهم على بعض، ومدحهم لهم وتزكيتهم لهم.
قال القاضي أبو محمد: فتقتضي هذه الآية الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزاكي

(2/65)


المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل، والضمير في يُزَكُّونَ عائد على المذكورين ممن زكى نفسه أو ممن يزكيه الله تعالى، وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمهم من غير هذه الآية، وقرأت طائفة «ولا تظلمون» بالتاء على الخطاب، «والفتيل» : هو ما فتل، فهو فعيل بمعنى مفعول، وقال ابن عباس وعطاء ومجاهد وغيرهم: «الفتيل» : الخيط الذي في شق نواة التمرة، وقال ابن عباس وأبو مالك والسدي:
هو ما خرج من بين إصبعيك أو كفيك إذا فتلتهما، وهذا كله يرجع إلى الكناية عن تحقير الشيء وتصغيره، وأن الله لا يظلمه، ولا شيء دونه في الصغر، فكيف بما فوقه، ونصبه على مفعول ثان ب يُظْلَمُونَ.
وقوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ الآية، يبين أن تزكيتهم أنفسهم كانت بالباطل والكذب، ويقوي أن التزكية كانت بقولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] إذ الافتراء في هذه المقالة أمكن، وكَيْفَ يصح أن يكون في موضع نصب ب يَفْتَرُونَ، ويصح أن تكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في قوله: يَفْتَرُونَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً خبر في مضمنه تعجب وتعجيب من الأمر، ولذلك دخلت الباء لتدل على معنى الأمر بالتعجب، وأن يكتفى لهم بهذا الكذب إثما ولا يطلب لهم غيره، إذ هو موبق ومهلك وإِثْماً نصب على التمييز.
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ الآية، ظاهرها يعم اليهود والنصارى، ولكن أجمع المتأولون على أن المراد بها طائفة من اليهود، والقصص يبين ذلك، واختلف في بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، فقال عكرمة وغيره: هما في هذا الموضع صنمان كانا لقريش، وذلك أن كعب بن الأشرف وجماعة معه وردوا مكة محرضين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت لهم قريش: إنكم أهل الكتاب، ومحمد صاحب كتاب، ونحن لا نأمنكم أن تكونوا معه، إلا أن تسجدوا لهذين الصنمين اللذين لنا، ففعلوا، ففي ذلك نزلت هذه الآية، وقال ابن عباس: بِالْجِبْتِ هنا: حيي بن أخطب وَالطَّاغُوتِ: كعب بن الأشرف. فالمراد على هذه الآية القوم الذين كانوا معهما من بني إسرائيل لإيمانهم بهما واتباعهم لهما، وقال ابن عباس: بِالْجِبْتِ. الأصنام، وَالطَّاغُوتِ. القوم المترجمون عن الأصنام، الذين يضلون الناس بتعليمهم إياهم عبادة الأصنام، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: بِالْجِبْتِ السحر، وَالطَّاغُوتِ: الشيطان، وقاله مجاهد والشعبي، وقال زيد بن أسلم: بِالْجِبْتِ: الساحر، وَالطَّاغُوتِ:
الشيطان، وقال سعيد بن جبير ورفيع: بِالْجِبْتِ: الساحر، والطَّاغُوتِ: الكاهن، وقال قتادة: بِالْجِبْتِ:
الشيطان، والطاغوت: الكاهن، وقال سعيد بن جبير أيضا: الجبت: الكاهن، والطاغوت: الشيطان، وقال ابن سيرين: بِالْجِبْتِ: الكاهن، وَالطَّاغُوتِ: الساحر، وقال مجاهد في كتاب الطبري: بِالْجِبْتِ: كعب ابن الأشرف، والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان.
قال ابن عطية: فمجموع هذا يقتضي أن بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ هو كل ما عبد وأطيع من دون الله تعالى، وكذلك قال مالك رحمه الله: الطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى، وذكر بعض الناس أن الجبت: هو من لغة الحبشة، وقال قطرب: بِالْجِبْتِ أصله الجبس، وهو الثقيل الذي لا خير عنده، وأما الطَّاغُوتِ فهو من طغى، أصله طغووت وزنه فعلوت، وتاؤه زائدة، قلب فرد فلعوت، أصله طوغوت، تحركت الواو وفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الآية سببها، أن قريشا قالت لكعب بن الأشرف

(2/66)


أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)

حين ورد مكة: أنت سيدنا وسيد قومك، إنّا قوم ننحر الكوماء، ونقري الضيف، ونصل الرحم، ونسقي الحجيج، ونعبد آلهتنا الذين وجدنا آباءنا يعبدون، وهذا الصنبور المنبتر من قومه قد قطع الرحم، فمن أهدى نحن أو هو؟ فقال كعب: أنتم أهدى منه وأقوم دينا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس: وحكى السدي: أن أبا سفيان خاطب كعبا بهذه المقالة، فالضمير في يَقُولُونَ عائد على كعب على ما تقدم- أو على الجماعة من بني إسرائيل التي كانت مع كعب، لأنها قالت بقوله في جميع ذلك على ما ذكر بعض المتأولين، و «الذين كفروا» في هذه الآية هم قريش، والإشارة ب هؤُلاءِ إليهم، وأَهْدى: وزنه أفعل وهو للتفضيل، والَّذِينَ آمَنُوا: هم النبي عليه السلام وأمته، وسَبِيلًا نصب على التمييز، وقالت فرقة: بل المراد في الآية من بني إسرائيل هو حيي بن أخطب وهو المقصود من أول الآيات، والمشار إليه بقوله أُولئِكَ هم المراد من بني إسرائيل، فمن قال: كانوا جماعة فذلك مستقيم لفظا ومعنى، ومن قال: هو كعب أو حيي، فعبر عنه بلفظ الجمع، لأنه كان متبوعا، وكان قوله مقترنا بقول جماعة.
ولَعَنَهُمُ معناه: أبعدهم من خيره ومقتهم، ومن يفعل الله ذلك به ويخذله فلا ناصر له من المخلوقين، وإن نصرته طائفة، فنصرتها كلا نصرة، إذ لا تغني عنه شيئا.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 53 الى 55]
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)
عرف أَمْ أن تعطف بعد استفهام متقدم، كقولك: أقام زيد أم عمرو، فإذا وردت ولم يتقدمها استفهام، فمذهب سيبويه: أنها مضمنة معنى الإضراب عن الكلام الأول والقطع منه، وهي مضمنة مع ذلك معنى الاستفهام، فهي بمعنى «بل» مع ألف الاستفهام، كقول العرب: إنها لإبل أم شاء، فالتقدير عند سيبويه، أنها لإبل بل أهي شاء. وكذلك هذا الموضع، تقديره: بل ألهم نصيب من الملك؟ وقد حكي عن بعض النحويين، أن أَمْ يستفهم بها ابتداء دون تقدم استفهام، حكاه ابن قتيبة في المشكل، وهذا غير مشهور للعرب، وقال بعض المفسرين: أَمْ بمعنى بل، ولم يذكروا الألف اللازمة، فأوجبوا على هذا حصول الملك للمذكورين في الآية، والتزموا ذلك وفسروا عليه، فالمعنى عندهم: بل هم ملوك أهل دنيا وعتو وتنعم، لا يبغون غيره، فهم بخلاء به، حريصون على أن لا يكون ظهور لسواهم.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى على الأرجح الذي هو مذهب سيبويه والحذاق، أنه استفهام على معنى الإنكار، أي ألهم ملك؟ فإذا لو كان لبخلوا، وقرأ ابن مسعود، «فإذا لا يؤتوا» بغير نون على إعمال «إذا» ، والمصحف على إلغائها، والوجهان جائزان، وإن كانت صدرا من أجل دخول الفاء عليها، والنقير، أعرف ما فيه أنها النكتة التي في ظهر النواة من التمرة، ومن هنالك تنبت، وهو قول الجمهور، وقالت فرقة:

(2/67)


هي النقطة التي في بطن النواة، وروي عن ابن عباس أنه قال: هو نقر الإنسان بأصبعه، وهذا كله يجمعه أنه كناية عن الغاية في الحقارة والقلة على مجاز العرب واستعارتها، و «إذا» في هذه الآية ملغاة لدخول فاء العطف عليها، ويجوز إعمالها، والإلغاء أفصح، وذلك أنها إذا تقدمت أعملت قولا واحدا، وإذا توسطت ألغيت قولا واحدا، فإذا دخل عليها وهي متقدمة فاء أو واو جاز إعمالها والإلغاء أفصح وهي لغة القرآن، وتكتب «إذا» بالنون وبالألف، فالنون هو الأصل، كعن ومن، وجاز كتبها بالألف لصحة الوقوف عليها فأشبهت نون التنوين، ولا يصح الوقوف على «عن ومن» .
وقوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ الآية، أَمْ هذه على بابها، لأن الاستفهام الذي في تقديرنا، بل ألهم قد تقدمها، واختلف المتأولون في المراد ب النَّاسَ في هذا الموضع، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والضحاك، هو النبي عليه السلام، والفضل النبوة فقط، والمعنى فلم يخصونه بالحسد ولا يحسدون آل إبراهيم في جميع ما آتيناهم من هذا وغيره من الملك؟ وقال ابن عباس والسدي أيضا: هو النبي صلى الله عليه وسلم، والفضل ما أبيح له من النساء فقط، وسبب الآية عندهم، أن اليهود قالت لكفار العرب: انظروا إلى هذا الذي يقول: إنه بعث بالتواضع، وإنه لا يملأ بطنه طعاما، ليس همه إلا في النساء، ونحو هذا، فنزلت الآية، والمعنى فلم يخصونه بالحسد ولا يحسدون آل إبراهيم؟ صلى الله عليه وسلم يعني سليمان وداود عليهما السلام في أنهما أعطيا النبوة والكتاب، وأعطيا مع ذلك ملكا عظيما، في أمر النساء، وهو ما روي أنه كان لسليمان سبعمائة امرأة، وثلاثمائة سرية، ولداود مائة امرأة، ونحو هذا من الأخبار الواردة في ذلك، فالملك في هذا القول إباحة النساء، كأنه المقصود أولا بالذكر، وقال قتادة:
النَّاسَ في هذا الموضع: العرب، حسدتها بنو إسرائيل في أن كان النبي عليه السلام منها، «والفضل» على هذا التأويل: هو محمد عليه السلام، فالمعنى: لم يحسدون العرب على هذا النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوتي آل إبراهيم صلى الله عليه وسلم- وهم أسلافهم- أنبياء وكتبا، كالتوراة والزبور، وَحِكْمَةٍ وهي الفهم في الدين وما يكون من الهدى مما لم ينص عليه الكتاب، وروي عن ابن عباس أنه قال: «نحن الناس» يريد قريشا، ومُلْكاً عَظِيماً: أي ملك سليمان، قاله ابن عباس: وقال مجاهد: الملك العظيم في الآية هو النبوة، وقال همام بن الحارث وأبو مسلمة: هو التأييد بالملائكة.
قال القاضي أبو محمد: والأصوب أنه ملك سليمان أو أمر النساء في التأويل المتقدم، وقوله تعالى:
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ الآية، اختلف المتأولون في عود الضمير من بِهِ فقال الجمهور: هو عائد على القرآن الذي في قوله تعالى: آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً [النساء: 47] فأعلم الله أن منهم من آمن كما أمر، فلذلك ارتفع الوعيد بالطمس ولم يقع، وصد قوم ثبت الوعيد عليهم في الآخرة بقوله: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً وقالت فرقة: الضمير عائد على إبراهيم عليه السلام، وحكى مكي في ذلك قصصا ليست بالثابتة، وقالت فرقة: هو عائد على الفضل الذي آتاه الله النبي عليه السلام، أو العرب على ما تقدم.
قال القاضي أبو محمد: قرأت فرقة: «صد» عنه بضم الصاد على بناء الفعل للمفعول، وسَعِيراً معناه: احتراقا وتلهبا، والسعير: شدة توقد النار، فهذا كناية عن شدة العذاب والعقوبة.

(2/68)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)

قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 56 الى 57]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)
تقدم في الآيات وصف المردة من بني إسرائيل وذكر أفعالهم وذنوبهم، ثم جاء بالوعيد النص لهم بلفظ جلي عام لهم ولغيرهم ممن فعل فعلهم من الكفر، والقراءة المشهورة نُصْلِيهِمْ بضم النون من أصليت ومعناه قربت من النار وألقيت فيها، وهو معنى صليت بتشديد اللام، وقرأ حميد «نصليهم» بفتح النون من صليت، ومعناه شويت، ومنه الحديث، أتي رسول الله بشاة مصلية، أي مشوية، وكذا وقع تصريف الفعل في العين وغيره، وقرأ سلام ويعقوب «نصليهم» بضم الهاء، واختلف المتأولون في معنى تبديل الجلود، فقالت فرقة: تبدل عليهم جلود غيرها، إذ نفوسهم هي المعذبة والجلود لا تألم في ذاتها، فإنها تبدل ليذوقوا تجديد العذاب، وقالت فرقة: «تبديل الجلود» هو إعادة ذلك الجلد بعينه الذي كان في الدنيا، تأكله النار ويعيده الله دأبا لتجدد العذاب، وإنما سماه «تبديلا» ، لأن أوصافه تتغير ثم يعاد، كما تقول: بدل من خاتمي هذا خاتما وهي فضته بعينها، فالبدل إنما وقع في تغيير الصفات، وقال ابن عمر، كلما احترقت جلودهم بدلوا جلودا بيضاء كالقراطيس، وقال الحسن بن أبي الحسن، تبدل عليهم في اليوم سبعين ألف مرة، وقالت فرقة: الجلود في هذا الموضع سرابيل القطران، سماها جلودا للزومها فصارت كالجلود، وهي تبدل دأبا عافانا الله من عذابه برحمته، حكاه الطبري، وحسن الاتصاف بعد هذه المقدمات بالعزة والإحكام، لأن الله لا يغالبه مغالب إلا غلبه الله، ولا يفعل شيئا إلا بحكمة وإصابة، لا إله إلا هو تبارك وتعالى.
ولما ذكر الله وعيد الكفار، عقب بوعد المؤمنين بالجنة على الإيمان والأعمال الصالحة، وقرأ ابن وثاب والنخعي، «سيدخلهم» بالياء وكذلك «يدخلهم» بعد ذلك وقد تقدم القول في معنى مِنْ تَحْتِهَا في سورة البقرة ومُطَهَّرَةٌ معناه: من الريب والأقذار التي هي معهودات في الدنيا وظَلِيلًا معناه: عند بعضهم يقي الحر والبرد، ويصح أن يريد أنه ظل لا يستحيل ولا ينتقل، كما يفعل ظل الدنيا، فأكده بقوله ظَلِيلًا لذلك، ويصح أن يصفه بظليل لامتداده، فقد قال عليه السلام: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة ما يقطعها» .
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 59]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)

(2/69)


قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب، وابن زيد: هذا خطاب لولاة المسلمين خاصة.
قال القاضي أبو محمد: فهو للنبي عليه السلام وأمرائه، ثم يتناول من بعدهم، وقال ابن جريج وغيره: ذلك خطاب للنبي عليه السلام في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، فطلبه العباس بن عبد المطلب لتنضاف له السدانة إلى السقاية، فدخل رسول الله الكعبة فكسر ما كان فيها من الأوثان، وأخرج مقام إبراهيم، ونزل عليه جبريل بهذه الآية. قال عمر بن الخطاب: وخرج رسول الله وهو يقرأ هذه الآية، وما كنت سمعتها قبل منه.
فدعا عثمان وشيبة، فقال لهما: خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، وحكى مكي أن شيبة أراد أن لا يدفع المفتاح، ثم دفعه وقال للنبي عليه السلام: خذه بأمانة الله.
قال القاضي أبو محمد: واختلف الرواة في بعض ألفاظ هذا الخبر، زيادة ونقصانا، إلا أنه المعنى بعينه، وقال ابن عباس: الآية في الولاة بأن يعظوا النساء في النشوز ونحوه، ويردوهن إلى الأزواج، والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس، ومع أن سببها ما ذكرناه تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات وعدل الحكومات وغيره، وتتناولهم ومن دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه، والصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات أمانات لله تعالى، وقال ابن عباس: لم يرخص الله لموسر ولا معسر أن يمسك الأمانة، ونِعِمَّا أصله نعم ما، سكنت الأولى وأدغمت في الثانية وحركت العين لالتقاء الساكنين، وخصت بالكسر اتباعا للنون، و «ما» المردفة على «نعم» إنما هي مهيئة لاتصال الفعل بها كما هي في «ربما ومما» في قوله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يحرك شفتيه، وكقول الشاعر: [الطويل]
وإنّا لممّا نضرب الكبش ضربة ... على رأسه تلقي اللّسان من الفم
ونحوه، وفي هذا هي بمنزلة «ربما» وهي لها مخالفة في المعنى، لأن «ربما» معناها: التقليل، و «مما» معناها التكثير، ومع أن «ما» موطئة فهي بمعنى «الذي» وما وطأت إلا وهي اسم، ولكن القصد إنما هو لما يليها من المعنى الذي في الفعل، وحسن الاتصاف بعد هذه المقدمات بالسمع والبصر، لأنها في الشاهد محصلات ما يفعل المأمور فيما أمر به.
وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة، تقدم في هذه إلى الرعية، فأمر بطاعته عز وجل، وهي امتثال أوامره ونواهيه، وطاعة رسوله، وطاعة الأمراء على قول الجمهور: أبي هريرة وابن عباس وابن زيد وغيرهم، فالأمر على هذا التأويل إشارة إلى القرآن والشريعة، أي: أولي هذا الأمر. وعن عبد الله ومجاهد وجماعة: أولو الأمر: أهل القرآن والعلم، فالأمر على هذا التأويل أشار

(2/70)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)

إلى القرآن والشريعة، أي: أولي هذا الأمر وهذا الشأن وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال: الإشارة هنا ب أُولِي الْأَمْرِ إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وحكي عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي بكر وعمر خاصة، وفي هذا التخصيص بعد، وحكى بعض من قال: إنهم الأمراء أنها نزلت في أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها عمار بن ياسر، وأميرها خالد بن الوليد، فقصدوا قوما من العرب، فأتاهم نذير فهربوا تحت الليل. وجاء منهم رجل إلى عسكر خالد، فدخل إلى عمار فقال: يا أبا اليقظان، إن قومي قد فروا، وإني قد أسلمت، فإن كان ينفعني إسلامي بقيت، وإلا فررت، فقال له عمار: هو ينفعك، فأقم، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد سوى الرجل المذكور فأخذه وأخذ ماله، فجاء عمار فقال: خل عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني، فقال خالد: وأنت تجير؟ فاستبّا وارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير، واستبّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال خالد: يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يسبني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خالد لا تسب عمارا، فإنه من سب عمارا سبه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله، ومن لعن عمارا لعنه الله، فغضب عمار، فقام فذهب، فتبعه خالد حتى اعتذر إليه فتراضيا، فأنزل الله عز وجل قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وطاعة الرسول هي اتباع سنته، قاله عطاء وغيره، وقال ابن زيد: معنى الآية وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.
قال القاضي أبو محمد: يريد «وسنته» بعد موته، المعنى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فيما بينكم أو أنتم وأمراؤكم، ومعنى التنازع أن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويذهبها، والرد إلى الله: هو النظر في كتابه العزيز، والرد إلى الرسول: هو سؤاله في حياته والنظر في سنته بعد وفاته عليه السلام، هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة والسدي، وهو الصحيح، وقال قوم: معناه قولوا: الله ورسوله أعلم، فهذا هو الرد، وفي قوله: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بعض وعيد، لأن فيه جزاء المسيء العاتي، وخاطبهم ب إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ وهم قد كانوا آمنوا، على جهة التقرير، ليتأكد الإلزام، وتَأْوِيلًا معناه: مآلا على قول جماعة، وقال مجاهد: أحسن جزاء، قال قتادة والسدي وابن زيد: المعنى أحسن عاقبة، وقالت فرقة:
المعنى أن الله ورسوله أحسن نظرا وتأولا منكم إذا انفردتم بتأولكم.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 61]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61)
تقول العرب: زعم فلان كذا، في الأمر الذي يضعف فيه التحقيق وتتقوى فيه شبه الإبطال، فغاية

(2/71)


درجة الزعم إذا قوي أن يكون مظنونا، يقال: «زعم» بفتح الزاي وهو المصدر، «وزعم» بضمها وهو الاسم وكذلك زعم المنافقين أنهم مؤمنون، هو مما قويت فيه شبهة الإبطال لسوء أفعالهم، حتى صححها الخبر من الله تعالى عنهم، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس مطية الرجل زعموا» وقد قال الأعشى: [المتقارب]
ونبّئت قيسا ولم أبله ... كما زعموا خير أهل اليمن
فقال الممدوح: وما هو إلا الزعم وحرمه، وإذا قال سيبويه: زعم الخليل، فإنما يستعملها فيما انفرد الخليل به، وكان أقوى رتب «زعم» أن تبقى معها عهدة الخبر على المخبر، و «أن» معمولة ل يَزْعُمُونَ.
وقال عامر الشعبي وغيره: نزلت الآية في منافق اسمه بشر، خاصم رجلا من اليهود، فدعاه اليهودي إلى المسلمين لعلمه أنهم لا يرتشون، وكان هو يدعو اليهودي إلى اليهود لعلمه أنهم يرتشون، فاتفقا بعد ذلك على أن أتيا كاهنا كان بالمدينة فرضياه، فنزلت هذه الآية فيهما وفي صنفيهما، «فالذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل» على محمد هم المنافقون، «والذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل» من قبله هم اليهود، وكل قد أمر في كتابه بالكفر بالطاغوت، والطَّاغُوتِ هنا الكاهن المذكور، فهذا تأنيب للصنفين، وقال ابن عباس: الطَّاغُوتِ هنا هو كعب بن الأشرف، وهو الذي تراضيا به، فعلى هذا إنما يؤنب صنف المنافقين وحده، وهم الذين آمنوا بما أنزل على محمد وبما أنزل من قبله بزعمهم، لأن اليهود لم يؤمروا في شرعهم بالكفر بالأحبار، وكعب منهم، وذكر النقاش: أن كعبا هذا أصله من طيىء وتهود، وقال مجاهد: نزلت في مؤمن ويهودي، وقالت فرقة: نزلت في يهوديين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذان القولان بعيدان من الاستقامة على ألفاظ الآية، وقال السدي: نزلت في المنافقين من قريظة والنضير، وذلك أنهم تفاخروا بسبب تكافؤ دمائهم، إذ كانت النضير في الجاهلية تدي من قتلت، وتستقيد إذا قتلت قريظة منهم، فأبت قريظة لما جاء الإسلام، وطلبوا المنافرة، فدعا المؤمنون منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا المنافقون إلى أبي بردة الكاهن، فنزلت الآية فيهم، وحكى الزجّاج: أن المنافق المتقدم الذكر أو غيره اختصم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقضى في أمره، فخرج وقال لخصمه: لا أرضى بحكمه، فذهبا إلى أبي بكر فقضى بينهما، فقال المنافق: لا أرضى، فذهبا إلى عمر فوصفا له جميع ما فعلا، فقال لهما: اصبرا حتى أقضي حاجة في منزلي ثم أخرج فأحكم بينكما، فدخل وأخذ سيفه وخرج، فضرب المنافق حتى برد، وقال: هذا حكمي فيمن لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية، وقال الحسن: احتكم المنافقون بالقداح التي يضرب بها عند الأوثان فنزلت الآية.
ويُضِلَّهُمْ معناه: يتلفهم، وجاء ضَلالًا على غير المصدر، تقديره: «فيضلون ضلالا» ، وبَعِيداً عبارة عن عظم الضلال وتمكنه حتى يبعد الرجوع عنه والاهتداء معه.
وقرأ الجمهور «تعالوا» بفتح اللام، وقرأ الحسن فيما روى عنه قتادة «تعالوا» بضمة، قال أبو الفتح:
وجهها أن لام الفعل من «تعاليت» حذفت تخفيفا، وضمت اللام التي هي عين الفعل، وذلك لوقوع واو

(2/72)


فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)

الجمع بعدها، كقولك: تقدموا وتأخروا، وهي لفظة مأخوذة من العلو، لما استعملت في دعاء الإنسان وجلبه وأشخاصه، سيقت من العلو تحسينا للأدب، كما تقول: ارتفع إلى الحق، ونحوه، ورَأَيْتَ هي رؤية عين لمن صد من المنافقين مجاهرة وتصريحا، وهي رؤية قلب لمن صد منهم مكرا وتخابثا ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالتأويل عليه والقرائن الصادرة عنه، فإذا كانت رؤية عين ف يَصُدُّونَ في موضع نصب على الحال، وإذا كانت رؤية قلب ف يَصُدُّونَ نصب على المفعول الثاني، وصُدُوداً مصدر عند بعض النحاة من صد، وليس عند الخليل بمصدر منه، والمصدر عنده «صدا» وإنما ذلك لأن فعولا إنما هو مصدر للأفعال غير المتعدية. كجلس جلوسا، وقعد قعودا و «صد» فعل متعد بنفسه مرة كما قال: فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [النمل: 24- العنكبوت: 38] ، ومرة بحرف الجر كقوله تعالى: يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً وغيره، فمصدره: صد، وصُدُوداً اسم.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 62 الى 64]
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64)
قالت فرقة: هي في المنافقين الذين احتكموا حسب ما تقدم، فالمعنى: فكيف بهم إذا عاقبهم الله بهذه الذنوب بنقمة منه؟ ثم حلفوا إن أردنا بالاحتكام إلى الطاغوت إلا توفيق الحكم وتقريبه، دون مر الحكم وتقصي الحق، وقالت فرقة: هي في المنافقين الذين طلبوا دم الذي قتله عمر، فالمعنى: فَكَيْفَ بهم إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ في قتل قريبهم ومثله من نقم الله تعالى، ثم إنهم حلفوا ما أرادوا بطلب دمه إِلَّا إِحْساناً وحقا، نحا إليه الزجّاج، وموضع «كيف» نصب بفعل تقديره: فكيف تراهم ونحوه، ويصح أن يكون موضعها رفعا، تقديره: فكيف صنيعهم.
وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ تكذيب المنافقين المتقدم ذكرهم وتوعدهم، أي فهو مجازيهم بما يعلم، و «أعرض عنهم» يعني عن معاقبتهم، وعن شغل البال بهم، وعن قبول أيمانهم الكاذبة في قوله يَحْلِفُونَ وليس بالإعراض الذي هو القطيعة والهجر، فإن قوله: وَعِظْهُمْ يمنع من ذلك، وَعِظْهُمْ معناه بالتخويف من عذاب الله، وغيره من المواعظ، والقول البليغ اختلف فيه، فقيل:
هو الزجر والردع والكف بالبلاغة من القول، وقيل: هو التوعد بالقتل إن استداموا حالة النفاق، قاله الحسن، وهذا أبلغ ما يكون في نفوسهم، والبلاغة: مأخوذة من بلوغ المراد بالقول، وحكي عن مجاهد أن قوله: فِي أَنْفُسِهِمْ، متعلق بقوله: مُصِيبَةٌ وهو مؤخر بمعنى التقديم، وهذا ضعيف.

(2/73)


فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)

وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ تنبيه على جلالة الرسل، أي: فأنت يا محمد منهم، تجب طاعتك وتتعين إجابة الدعوة إليك، ولِيُطاعَ، نصب بلام كي، وبِإِذْنِ اللَّهِ معناه بأمر الله، وحسنت العبارة بالإذن، إذ بنفس الإرسال تجب طاعته وإن لم ينص أمر بذلك، ويصح تعلق الباء من قوله بِإِذْنِ ب أَرْسَلْنا، والمعنى وما أرسلنا بأمر الله أي بشريعته وعبادته من رسول إلا ليطاع، والأظهر تعلقها ب «يطاع» والمعنى: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بأمر الله بطاعته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعلى التعليقين فالكلام عام اللفظ خاص المعنى، لأنا نقطع أن الله تبارك وتعالى قد أراد من بعض خلقه ألا يطيعوا، ولذلك خرجت طائفة معنى الإذن إلى العلم، وطائفة خرجته إلى الإرشاد لقوم دون قوم، وهذا تخريج حسن، لأن الله إذا علم من أحد أنه يؤمن ووفقه لذلك فكأنه أذن له فيه، وحقيقة الإذن: التمكين مع العلم بقدر ما مكن منه، وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية، معناه: بالمعصية والنفاق، ونقصها حظها من الإيمان و «استغفروا الله» معناه: طلبوا مغفرته، وتابوا إليه رجعوا، وتَوَّاباً: معناه راجعا بعباده.
قوله تعالى:

[سورة النساء (4) : الآيات 65 الى 68]
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)
قال الطبري: قوله: فَلا رد على ما تقدم، تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله، وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقال غيره: إنما قدم «لا» على القسم اهتماما بالنفي، وإظهارا لقوته، ثم كررها بعده تأكيدا للتهمم بالنفي، وكان يصح إسقاط لا الثانية، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي، ويذهب معنى الاهتمام، وشَجَرَ معناه: اختلط والتف من أمورهم، وهو من الشجر، شبيه بالتفاف الأغصان، وكذلك الشجير الذي امتزجت مودته بمودة صاحبه، وقرأ أبو السمال «شجر» بإسكان الجيم.
قال القاضي أبو محمد: وأظنه فر من توالي الحركات، وليس بالقوي، لخفة الفتحة، ويُحَكِّمُوكَ نصب بحتى، لأنها هاهنا غاية مجردة، ويَجِدُوا عطف عليه، والحرج: الضيق والتكلف والمشقة، قال مجاهد: حَرَجاً، شكا، وقوله: تَسْلِيماً مصدر مؤكد، منبىء على التحقيق في التسليم، لأن العرب إنما تردف الفعل بالمصدر إذا أرادت أن الفعل وقع حقيقة، كما قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: 164] وقد تجيء به مبالغة وإن لم يقع، ومنه: «وعجت عجيجا من جدام المطارف» .

(2/74)


وقال مجاهد وغيره: المراد بهذه الآية من تقدم ذكره، ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت، وفيهم نزلت، ورجح الطبري هذا، لأنه أشبه بنسق الآية وقالت طائفة: نزلت في رجل خاصم الزبير بن العوام في السقي بماء الحرة، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب ذلك الرجل وقال إن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستوعب للزبير حقه، فقال: احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر، ثم أرسل الماء، فنزلت الآية، واختلف أهل هذا القول في الرجل، فقال قوم: هو رجل من الأنصار من أهل بدر، وقال مكي وغيره: هو حاطب بن أبي بلتعة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصحيح الذي وقع في البخاري أنه رجل من الأنصار، وأن الزبير قال: فما أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك، وقالت طائفة: لما قتل عمر الرجل المنافق الذي لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، بلغ ذلك النبي وعظم عليه، وقال: ما كنت أظن أن عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن، فنزلت الآية نافية لإيمان ذلك الرجل الراد لحكم النبي، مقيمة عذر عمر بن الخطاب في قتله.
وكَتَبْنا معناه فرضنا، واقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ معناه ليقتل بعضكم بعضا، وقد تقدم نظيره في البقرة، وضم النون من أَنِ وكسرها جائز، وكذلك الواو من أَوِ اخْرُجُوا وبضمها قرأ ابن عامر ونافع وابن كثير والكسائي، وبكسرها قرأ حمزة وعاصم، وكسر أبو عمرو النون وضم الواو، وقَلِيلٌ رفع على البدل من الضمير في فَعَلُوهُ، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب «إلا قليلا» ، وذلك جائز أجرى النفي مجرى الإيجاب.
وسبب الآية على ما حكي: أن اليهود قالوا لما لم يرض المنافق بحكم النبي عليه السلام: ما رأينا أسخف من هؤلاء، يؤمنون بمحمد ويتبعونه، ويطؤون عقبة، ثم لا يرضون بحكمه، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا، وبلغ القتل فينا سبعين ألفا فقال ثابت بن قيس: لو كتب ذلك علينا لفعلناه، فنزلت الآية معلمة حال أولئك المنافقين، وأنه لو كتب ذلك على الأمة لم يفعلوه، وما كان يفعله إلا قليل مؤمنون محققون، كثابت وغيره، وكذلك روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثابت بن قيس وعمار وابن مسعود من القليل. وشركهم في ضمير مِنْهُمْ لما كان المنافقون والمؤمنون مشتركين في دعوة الإسلام وظواهر الشريعة، وقال أبو إسحاق السبيعي: لما نزلت وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي، وذكر مكي أن الرجل هو أبو بكر الصديق، وذكر النقاش: أنه عمر بن الخطاب، وذكر عن أبي بكر أنه قال: لو كتب علينا لبدأت بنفسي وبأهل بيتي.
وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا أي لو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيرا لهم، وتَثْبِيتاً معناه: يقينا وتصديقا ونحو هذا، أي يثبتهم الله، ثم ذكر تعالى ما كان يمن به عليهم من تفضله بالأجر، ووصفه إياه بالعظم مقتض ما لا يحصله بشر من النعيم المقيم، و «الصراط المستقيم» : الإيمان المؤدي إلى الجنة، وجاء ترتيب هذه الآية كذا، ومعلوم أن الهداية قبل إعطاء الأجر، لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب، فالمعنى: ولهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر.

(2/75)