تفسير ابن عطية
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا
(69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ
عَلِيمًا (70) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا
حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ
مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ
أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ
مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ
فَوْزًا عَظِيمًا (73)
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى
بِاللَّهِ عَلِيماً (70)
لما ذكر الله الأمر الذي لو فعلوه لأنعم عليهم، ذكر بعد ذلك
ثواب من يفعله، وهذه الآية تفسير قوله تعالى: اهْدِنَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 5] ، وقالت طائفة إنما نزلت هذه الآية
لما قال عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الذي أري الأذان،
يا رسول الله إذا مت ومتنا كنت في عليين فلا نراك ولا نجتمع
بك، وذكر حزنه على ذلك، فنزلت هذه الآية، وحكى مكي عن عبد الله
هذا، أنه لما مات النبي عليه السلام، قال اللهم أعمني حتى لا
أرى شيئا بعده، فعمي، وذكر أن جماعة من الأنصار قالت ذلك أو
نحوه، حكاه الطبري عن ابن جبير وقتادة والسدي.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى- أنهم معهم- أنهم في دار واحدة،
ومتنعم واحد، وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله، وذهب عنه أن
يعتقد أنه مفضول، وإن كنا نحن قد علمنا من الشريعة أن أهل
الجنة تختلف مراتبهم على قدر أعمالهم، وعلى قدر فضل الله على
من شاء، و «الصدّيق» فعيل من الصدق، وقيل من الصدقة. وروي عن
النبي عليه السلام، الصديقون المتصدقون، والشهداء المقتولون في
سبيل الله، هم المخصوصون بفضل الميتة، وهم الذين فرق الشرع
حكمهم في ترك الغسل والصلاة، لأنهم أكرم من أن يشفع لهم. وسموا
بذلك لأن الله شهد لهم بالجنة، وقيل لأنهم شهدوا لله بالحق في
موتهم ابتغاء مرضاته، ولكن لفظ، الشُّهَداءِ في هذه الآية يعم
أنواع الشهداء، ورَفِيقاً موحد في معنى الجمع، كما قال:
ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج: 5] ونصبه على التمييز، وقيل
على الحال، والأول أصوب، وقرأ أبو السمال، «وحسن» بسكون السين،
وذلك مثل شجر بينهم.
وقوله تعالى: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ رد على تقدير معترض
يقول، وما الذي يوجب استواء أهل الطاعة والنبيين في الآخرة،
والفرق بينهم في الدنيا بيّن؟ فذكر الله أن ذلك بفضله لا بوجوب
عليه، والإشارة ب ذلِكَ إلى كون المطيعين مع المنعم عليهم،
وأيضا فلا نقرر الاستواء، بل هم معهم في دار والمنازل متباينة،
ثم قال وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً وفيها معنى أن يقول، فسلموا
فعل الله وتفضله من الاعتراض عليه، واكتفوا بعلمه في ذلك
وغيره، ولذلك أدخلت الباء على اسم الله، لتدل على الأمر الذي
في قوله:
وَكَفى.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 73]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا
ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ
لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً
(72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ
كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا
لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)
(2/76)
هذا خطاب للمخلصين من أمة محمد عليه
السلام، وأمر لهم بجهاد الكفار، والخروج في سبيل الله، وحماية
الشرع، وخُذُوا حِذْرَكُمْ، معناه: احزموا واستعدوا بأنواع
الاستعداد، فهنا يدخل أخذ السلاح وغيره، وانْفِرُوا معناه:
اخرجوا مجدين مصممين، يقال: نفر الرجل ينفر بكسر الفاء نفيرا،
ونفرت الدابة تنفر بضم الفاء نفورا، وثُباتٍ معناه: جماعات
متفرقات، فهي كناية عن السرايا وجَمِيعاً، معناه: الجيش الكثيف
مع النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا قال ابن عباس وغيره،
والثبة:
حكي أنها فوق العشرة من الرجال، وزنها فعلة بفتح العين، أصلها
ثبوة، وقيل: ثبية، حذفت لامها بعد أن تحركت وانقلبت ألفا حذفا
غير مقبس، ولذلك جمعت ثبون، بالواو والنون عوضا من المحذوف
وكسر أولها في الجمع دلالة على خروجها عن بابها، لأن بابها أن
تجمع بالتاء أبدا، فيقال: ثُباتٍ، وتصغر ثبية أصلها ثبيوة،
وأما ثبة الحوض وهي وسطه الذي يثوب الماء إليه، فالمحذوف منها
العين، وأصلها ثوبة وتصغيرها ثوبية، وهي من ثاب يثوب، وكذلك
قال أبو علي الفارسي في بيت أبي ذؤيب: [الطويل]
فلمّا جلاها بالأيام تحيّزت ... ثبات عليها ذلّها واكتئابها
انه اسم مفرد ليس يجمع سيق على الأصل، لأن أصل ثبة ثبوة، تحركت
بالواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، فساقها أبو ذؤيب في هذه
الحال.
وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ إِنَّ إيجاب، والخطاب لجماعة
المؤمنين، والمراد ب «من» المنافقون، وعبر عنهم ب مِنْكُمْ إذ
هم في عداد المؤمنين، ومنتحلون دعوتهم، واللام الداخلة على
«من» لام التأكيد، دخلت على اسم إِنَّ لما كان الخبر متقدما في
المجرور، وذلك مهيع في كلامهم، كقولك: إن في الدار لزيدا،
واللام الداخلة على لَيُبَطِّئَنَّ لام قسم عند الجمهور،
تقديره وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ والله لَيُبَطِّئَنَّ وقيل: هي
لام تأكيد، ولَيُبَطِّئَنَّ معناه: يبطىء غيره أي يثبطه ويحمله
على التخلف عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ مجاهد
«ليبطئن» بالتخفيف في الطاء، ومُصِيبَةٌ يعني من قتل واستشهاد،
وإنما هي مصيبة بحسب اعتقاد المنافقين ونظرهم الفاسد، أو على
أن الموت كله مصيبة كما شاءه الله تعالى، وإنما الشهادة في
الحقيقة نعمة لحسن مآلها، وشَهِيداً معناه مشاهدا فالمعنى: أن
المنافق يسره غيبه إذا كانت شدة وذلك يدل على أن تخلفه إنما هو
فزع من القتال ونكول عن الجهاد.
وقوله تعالى: وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ الآية،
المعنى ولئن ظفرتم وغنمتم وكل ذلك من فضل الله، ندم المنافق إن
لم يحضر ويصب الغنيمة، وقال: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ
فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً، متمنيا شيئا قد كان عاهد أن يفعله
ثم غدر في عهده، لأن المؤمن إنما يتمنى مثل هذا إذا كان المانع
له من الحضور عذرا واضحا، وأمرا لا قدرة له معه، فهو يتأسف بعد
ذلك على فوات الخير، والمنافق يعاطي المؤمنين المودة، ويعاهد
على التزام كلف الإسلام، ثم يتخلف نفاقا وشكا وكفرا بالله
ورسوله، ثم يتمنى عند ما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين، فعلى هذا
يجيء قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ
مَوَدَّةٌ
(2/77)
فَلْيُقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ
أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا
لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا
مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا
مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ
نَصِيرًا (75)
التفاتة بليغة، واعتراضا بين القائل
والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم. وحكى الطبري عن قتادة
وابن جريج، أنهما كانا يتأولان قول المنافق يا لَيْتَنِي
كُنْتُ مَعَهُمْ على معنى الحسد منه للمؤمنين في نيل رغيبة،
وقرأ الحسن لَيَقُولَنَّ بضم اللام على معنى «من» وضم اللام
لتدل على الواو المحذوفة. ويدل مجموع هاتين الآيتين على أن
خارج المنافقين فإنما كان يقصد الغنيمة، ومتخلفهم إنما كان
يقصد الشك وتربص الدوائر بالمؤمنين وكَأَنْ مضمنة معنى
التشبيه، ولكنها ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر،
وإنما تجيء بعدها الجمل، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص
«تكن» بتاء، وقرأ غيرهما «يكن» بياء، وذلك حسن للفصل الواقع
بين الفعل والفاعل، وقوله: فَأَفُوزَ نصب بالفاء في جواب
التمني، وقرأ الحسن ويزيد النحوي فَأَفُوزَ بالرفع على القطع
والاستئناف، التقدير: فأنا أفوز. قال روح: لم يجعل ل «ليت»
جوابا. وقال الزجّاج: إن قوله: كأن لم يكن بينكم وبينه مودة
مؤخر. وإنما موضعه فإن أصابتكم مصيبة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف لأنه يفسد فصاحة
الكلام.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 75]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ
الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً
عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ
وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ
هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)
هذا أمر من الله عز وجل للمؤمنين الذين وصفهم بالجهاد في سبيل
الله، ويَشْرُونَ معناه: يبيعون في هذا الموضع، وإن جاء في
مواضع: يشترون، فالمعنى هاهنا يدل على أنه بمعنى «يبيعون» ثم
وصف الله ثواب المقاتل في سبيل الله، فذكر غايتي حالتيه،
واكتفى بالغايتين عما بينهما، وذلك أن غاية المغلوب في القتال
أن يقتل، وغاية الذي يقتل ويغنم أن يتصف بأنه غالب على
الإطلاق، «والأجر العظيم» : الجنة، وقالت فرقة، «فليقاتل»
بسكون لام الأمر، وقرأت فرقة «فليقاتل» بكسرها، وقرأ محارب بن
دثار «فيقتل أو يغلب» على بناء الفعلين للفاعل، وقرأ الجمهور
نُؤْتِيهِ بالنون، وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف «فسوف يؤتيه»
بالياء.
وقوله تعالى: وَما لَكُمْ اللام متعلقة بما يتعلق بالمستفهم
عنه من معنى الفعل، تقديره وأي شيء موجود أو كائن أو نحو ذلك
لكم، ولا تُقاتِلُونَ في موضع نصب على الحال، تقديره تاركين أو
مضيعين. وقوله: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ عطف على اسم الله تعالى،
أي وفي سبيل المستضعفين، وقيل:
عطف على «السبيل» ، أي وفي المستضعفين لاستنقاذهم، ويعني ب
الْمُسْتَضْعَفِينَ من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة
قريش وأذاهم لا يستطيعون خروجا، ولا يطيب لهم على الأذى إقامة،
وفي هؤلاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «اللهم أنج
سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج
(2/78)
الَّذِينَ آمَنُوا
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ
الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا
أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ
يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً
وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ
لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ
الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا
تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
المستضعفين من المؤمنين» . والْوِلْدانِ
بابه أن يكون جمع وليد، وقد يكون جمع ولد كورل وورلان، فهي على
الوجهين عبارة عن الصبيان، والقرية هاهنا مكة بإجماع من
المتأولين.
قال القاضي أبو محمد: والآية تتناول المؤمنين والأسرى وحواضر
الشرك إلى يوم القيامة، ووحد الظالم لأنه موضع اتخاذ الفعل،
ألا ترى أن الفعل إنما تقديره الذي ظلم أهلها، ولما لم يكن
للمستضعفين حيلة إلا الدعاء، دعوا في الاستنقاذ وفيما يواليهم
من معونة الله تعالى وما ينصرهم على أولئك الظلمة من فتح الله
تبارك وتعالى.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 76 الى 77]
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ
فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ
كانَ ضَعِيفاً (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ
كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ
فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ
يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً
وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا
أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا
قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ
فَتِيلاً (77)
هذه الآية تقتضي تقوية قلوب المؤمنين وتحريضهم، والطَّاغُوتِ
كل ما عبد واتبع من دون الله، وتدل قرينة ذكر الشيطان بعد ذلك
على أن المراد ب الطَّاغُوتِ هنا الشيطان، وإعلامه تعالى بضعف
كَيْدَ الشَّيْطانِ تقوية لقلوب المؤمنين، وتجرئة لهم على
مقارعة الكيد الضعيف، فإن العزم والحزم الذي يكون على حقائق
الإيمان يكسره ويهده، ودخلت كان دالة على لزوم الصفة.
وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ اختلف
المتأولون فيمن المراد بقوله الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ؟ فقال ابن
عباس وغيره: كان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والمقداد
بن عمرو الكندي وجماعة سواهم قد أنفوا من الذل بمكة قبل الهجرة
وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيح لهم مقاتلة
المشركين، فأمرهم الله تعالى بكف الأيدي، وأن لا يفعلوا، فلما
كان بالمدينة وفرض القتال، شق ذلك على بعضهم وصعب موقعه،
ولحقهم ما يلحق البشر من الخور والكع عن مقارعة العدو فنزلت
الآية فيهم، وقال قوم:
كان كثير من العرب قد استحسنوا الدخول في دين محمد عليه السلام
على فرائضه التي كانت قبل القتال من الصلاة والزكاة ونحوها
والموادعة وكف الأيدي، فلما نزل القتال شق ذلك عليهم وجزعوا
له، فنزلت الآية فيهم، وقال مجاهد وابن عباس أيضا: إنما الآية
حكاية عن اليهود أنهم فعلوا ذلك مع نبيهم في وقته، فمعنى
الحكاية عنهم تقبيح فعلهم، ونهي المؤمنين عن فعل مثله، وقالت
فرقة: المراد بالآية المنافقون من أهل المدينة عبد الله بن
أبيّ وأمثاله، وذلك أنهم كانوا قد سكنوا على الكره إلى فرائض
الإسلام مع الدعة وعدم القتال، فلما نزل القتال شق عليهم وصعب
عليهم صعوبة شديدة، إذ كانوا مكذبين بالثواب، ذكره المهدوي.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويحسن هذا القول أن ذكر
المنافقين يطرد فيما بعدها من الآيات، ومعنى كُفُّوا
أَيْدِيَكُمْ أمسكوا عن القتال، والفريق: الطائفة من الناس،
كأنه فارق غيره. وقوله:
(2/79)
أَيْنَمَا تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ
مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ
هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ
يعني أنهم كانوا يخافون الله في جهة الموت، لأنهم لا يخشون
الموت إلا منه، فلما كتب عليهم قتال الناس رأوا أنهم يموتون
بأيديهم، فخشوهم في جهة الموت كما كانوا يخشون الله، وقال
الحسن: قوله: كَخَشْيَةِ اللَّهِ يدل على أنها في المؤمنين،
وهي خشية خوف لا خشية مخالفة، ويحتمل أن يكون المعنى يخشون
الناس على حد خشية المؤمنين الله عز وجل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ترجيح لا قطع، وقوله:
أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً قالت فرقة: أَوْ بمعنى الواو، وفرقة: هي
بمعنى «بل» ، وفرقة: هي للتخيير، وفرقة: على بابها في الشك في
حق المخاطب، وفرقة: هي على جهة الإبهام على المخاطب.
قال القاضي أبو محمد: وقد شرحت هذه الأقوال كلها في سورة
البقرة في قوله: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [الآية: 74] أن
الموضعين سواء، وقولهم، لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ رد
في صدر أوامر الله تعالى وقلة استسلام، «والأجل القريب» يعنون
به موتهم على فرشهم، هكذا قال المفسرون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يحسن إذا كانت الآية في اليهود أو
المنافقين، وأما إذا كانت في طائفة من الصحابة، فإنما طلبوا
التأخر إلى وقت ظهور الإسلام وكثرة عددهم.
قُلْ يا محمد لهؤلاء: مَتاعُ الدُّنْيا، أي الاستمتاع بالحياة
فيها الذي حرصتم عليه وأشفقتم من فقده قَلِيلٌ، لأنه فان زائل
وَالْآخِرَةُ التي هي نعيم مؤبد خَيْرٌ لمن أطاع الله واتقاه
في الامتثال لأوامره، على المحاب والمكاره، وقرأ نافع وأبو
عمرو وابن عامر وعاصم «تظلمون» بالتاء على الخطاب، وقرأ ابن
كثير وحمزة والكسائي «يظلمون» بالياء على ترك المخاطبة وذكر
الغائب، والفتيل الخيط في شق نواة التمرة، وقد تقدم القول فيه.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 78]
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ
فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا
هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً
(78)
المعنى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ جزاء
وجوابه. وهكذا قراءة الجمهور، وقرأ طلحة بن سليمان «يدرككم»
بضم الكافين ورفع الفعل، قال أبو الفتح: ذلك على تقدير دخول
الفاء كأنه قال: فيدرككم الموت، وهي قراءة ضعيفة، وهذا إخبار
من الله يتضمن تحقير الدنيا، وأنه لا منجى من الفناء والتنقل،
واختلف المتأولون في قوله: فِي بُرُوجٍ فالأكثر والأصح أنه
أراد البروج والحصون التي في الأرض المبنية، لأنها غاية البشر
في التحصن والمنعة، فمثل الله لهم بها، قال قتادة: المعنى في
قصور محصنة، وقاله ابن جريج والجمهور، وقال السدي: هي بروج في
السماء الدنيا مبنية، وحكى مكي هذا القول عن مالك، وأنه قال:
ألا ترى إلى قوله وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [البروج: 1]
وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ،
معناه في قصور من حديد.
(2/80)
مَا أَصَابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ
فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى
بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ
أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا
بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ
الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى
بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يعطيه اللفظ،
وإنما البروج في القرآن إذا وردت مقترنة بذكر السماء بروج
المنازل للقمر وغيره على ما سمتها العرب وعرفتها، وبرج معناه
ظهر، ومنه البروج أي المطولة الظاهرة، ومنه تبرج المرأة،
ومُشَيَّدَةٍ قال الزجّاج وغيره: معناه مرفوعة مطولة، لأن شاد
الرجل البناء إذا صنعه بالشيد وهو الجص إذا رفعه، وقالت طائفة:
مُشَيَّدَةٍ معناه: محسنة بالشيد، وذلك عندهم أن «شاد الرجل»
معناه: جصص بالشيد، وشيد معناه: كرر ذلك الفعل فهي للمبالغة،
كما تقول: كسرت العود مرة، وكسرته في مواضع منه كثيرة مرارا،
وخرقت الثوب وخرقته، إذا كان الخرق منه في مواضع كثيرة، فعلى
هذا يصح أن تقول: شاد الرجل الجدار مرة وشيد الرجل الجدار إذا
أردت المبالغة، لأن التشييد منه وقع في مواضع كثيرة، ومن هذا
المعنى قول الشاعر [عدي بن زياد العبادي] : [الخفيف]
شاده مرمرا وجلّله كل ... سا فللطير في ذراه وكور
والهاء والميم في قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ رد على الذين قيل
لهم، كفوا أيديكم وهذا يدل على أنهم المنافقون، لأن المؤمنين
لا تليق بهم هذه المقالة، ولأن اليهود لم يكونوا للنبي عليه
السلام تحت أمر، فتصيبهم بسببه أسواء، ومعنى الآية، وإن تصب
هؤلاء المنافقين حسنة من هزم عدو أو غنيمة أو غير ذلك رأوا أن
ذلك بالاتفاق من صنع الله، لا أنه ببركة اتباعك والإيمان بك،
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ، أي هزيمة أو شدة جوع وغير ذلك،
قالوا: هذه بسببك، لسوء تدبيرك، كذا قال ابن زيد، وقيل لشؤمك
علينا. قاله الزجّاج وغيره، وقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ إعلام من الله تعالى، أن الخير والشر، والحسنة والسيئة
خلق له ومن عنده، لا رب غيره ولا خالق ولا مخترع سواه،
فالمعنى: قل يا محمد لهؤلاء: ليس الأمر كما زعمتم من عندي ولا
من عند غيري، بل هو كله من عند الله، قال قتادة: النعم
والمصائب من عند الله، قال ابن زيد، النصر والهزيمة، قال ابن
عباس: السيئة والحسنة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله شيء واحد، ثم وبخهم بالاستفهام
عن علة جهلهم، وقلة فهمهم وتحصيلهم لما يخبرون به من الحقائق،
والفقه في اللغة الفهم، وأوقفته الشريعة على الفهم في الدين
وأموره، وغلب عليه بعد الاستعمال في علم المسائل الأحكامية،
والبلاغة في الاستفهام عن قلة فقههم بينة، لأنك إذا استفهمت عن
علة أمر ما، فقد تضمن كلامك إيجاب ذلك الأمر تضمنا لطيفا
بليغا، ووقف أبو عمرو والكسائي على قوله فَما ووقف الباقون على
اللام في قوله: فَما لِ، اتباعا للخط، ومنعه قوم جملة، لأنه
حرف جر فهي بعض المجرور، وهذا كله بحسب ضرورة وانقطاع نفس،
وأما أن يختار أحد الوقف فيما ذكرناه ابتداء فلا.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 79 الى 81]
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ
سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً
وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ
أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ
عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ
وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)
(2/81)
قالت فرقة: ما شرطية، ودخلت مِنْ بعدها لأن
الشرط ليس بواجب فأشبه النفي الذي تدخله مِنْ، وقالت فرقة ما
بمعنى الذي، ومِنْ لبيان الجنس، لأن المصيب للإنسان أشياء
كثيرة: حسنة وسيئة، ورخاء وشدة، وغير ذلك، والخطاب للنبي صلى
الله عليه وسلم، وغيره داخل في المعنى، وقيل:
الخطاب للمرء على الجملة، ومعنى هذه الآية عند ابن عباس وقتادة
والحسن والربيع وابن زيد وأبي صالح وغيرهم، القطع واستئناف
الإخبار من الله تعالى، بأن الحسنة منه وبفضله، والسيئة من
الإنسان بإذنابه، وهي من الله بالخلق والاختراع، وفي مصحف ابن
مسعود، «فمن نفسك» «وأنا قضيتها عليك» وقرأ بها ابن عباس، وحكى
أبو عمرو أنها في مصحف ابن مسعود «وأنا كتبتها» وروي أن أبيا
وابن مسعود قرأ «وأنا قدرتها عليك» ويعضد هذا التأويل أحاديث
عن النبي عليه السلام معناها، أن ما يصيب ابن آدم من المصائب،
فإنما هي عقوبة ذنوبه. ومن ذلك أن أبا بكر الصديق لما نزلت
مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] جزع فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألست تمرض؟ ألست تسقم؟ ألست
تغتم؟
وقال أيضا عليه السلام: «ما يصيب الرجل خدشة عود ولا عثرة قدم
ولا اختلاج عرق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» . ففي هذا
بيان أو تلك كلها مجازاة على ما يقع من الإنسان، وقالت طائفة:
معنى الآية كمعنى التي قبلها في قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ
حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء: 78]
على تقدير حذف يقولون، فتقديره فمال هؤلاء القوم لا يكادون
يفقهون حديثا، يقولون: ما أصابك من حسنة، ويجيء القطع على هذا
القول من قوله: وَأَرْسَلْناكَ، وقالت طائفة: بل القطع في
الآية من أولها، والآية مضمنة الإخبار أن الحسنة من الله
وبفضله، وتقدير ما بعده وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ
نَفْسِكَ، على جهة الإنكار والتقرير، فعلى هذه المقالة ألف
الاستفهام محذوقة من الكلام، وحكى هذا القول المهدوي،
ورَسُولًا نصب على الحال، وهي حال تتضمن معنى التأكيد في قوله
تعالى، وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ثم تلاه بقوله:
وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً توعد للكفرة، وتهديد تقتضيه قوة
الكلام، لأن المعنى شهيدا على من كذبه.
والمعنى أن الرسول إنما يأمر وينهى بيانا من الله وتبليغا،
فإنما هي أوامر الله ونواهيه، وقالت فرقة:
سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحبني
فقد أحب الله» ، فاعترضت اليهود عليه في هذه المقالة، وقالوا:
هذا محمد يأمر بعبادة الله وحده، وهو في هذا القول مدّع
للربوبية، فنزلت هذه الآية تصديقا للرسول عليه السلام، وتبيينا
لصورة التعلق بينه وبين فضل الله تعالى، وتَوَلَّى معناه أعرض،
وأصل تَوَلَّى في المعنى أن يتعدى بحرف، فنقول تولى فلان عن
الإيمان، وتولى إلى الإيمان، لأن اللفظة تتضمن إقبالا وإدبارا،
لكن الاستعمال غلب عليها في كلام العرب على الإعراض والإدبار،
حتى استغني فيها عن ذكر الحرف الذي يتضمنه، وحَفِيظاً يحتمل
معنيين، أي ليحفظهم حتى لا يقعوا في الكفر والمعاصي ونحوه، أو
ليحفظ مساوئهم وذنوبهم ويحسبها عليهم، وهذه الآية تقتضي
الإعراض عن من تولى والترك له، وهي قبل نزول القتال وإنما كانت
توطئة ورفقا من الله تعالى حتى يستحكم أمر الإسلام.
وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ الآية نزلت في المنافقين
باتفاق من المفسرين، المعنى يقولون لك
(2/82)
أَفَلَا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا
جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا
بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي
الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
يا محمد: أمرنا طاعة، فإذا خرجوا من عندك
اجتمعوا ليلا وقالوا غير ما أظهروا لك. وبَيَّتَ معناه فعل
ليلا، فإما أخذ من بات، وإما من البيت لأنه ملتزم بالليل وفي
الأسرار التي يخاف شياعها، ومن ذلك قول الشاعر [الأسود بن
يعفر] : [المتقارب]
أتوني فلم أرض ما بيّتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر
ومنه قول النمر بن تولب:
هبّت لتعذلني بليل اسمعي ... سفها تبيتك للملامة فاهجعي
المعنى وتقول لي: اسمع، وزيدت الياء إشباعا لتصريع القافية
واتباعا للياء، كقول امرئ القيس:
ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي وقوله بأمثل، وقرأ جمهور
القراء بَيَّتَ بتحريك التاء، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغامها في
الطاء، وقرأ ابن مسعود «بيت مبيت منهم يا محمد» وقوله: تَقُولُ
يحتمل أن يكون معناه تقول أنت يا محمد، ويحتمل، تقول هي لك،
ويَكْتُبُ معناه على وجهين، إما يكتبه عنده حسب كتب الحفظة حتى
يقع الجزاء، وإما يكتبه في كتابه إليك، أي ينزله في القرآن
ويعلم بها، قال هذا القول الزجّاج، والأمر بالإعراض إنما هو عن
معاقبتهم ومجازاتهم، وأما استمرار دعوتهم وعظتهم فلازم. قال
الضحاك: معنى «أعرض عنهم» لا تخبر بأسمائهم، وهذا أيضا قبل
نزول القتال على ما تقدم. ثم أمر الله تعالى بالتوكل عليه
والتمسك بعروته الوثقى ثقة بإنجاز وعده في النصر، و «الوكيل»
القائم بالأمور المصلح لما يخاف من فسادها، وليس ما غلب
الاستعمال في الوكيل في عصرنا بأصل في كلام العرب، وهي لفظة
رفيعة وضعها الاستعمال العامي، كالعريف والنقيب وغيره.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 82 الى 83]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ
غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ
أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي
الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)
المعنى: هؤلاء المنافقون الطاعنون عليك الرافعون بغير برهان في
صدر نبوتك، ألا يرجعون إلى النصفة. وينظرون موضع الحجة
ويتدبرون كلام الله تعالى؟ فتظهر لهم براهينه، وتلوح أدلته،
«والتدبر» :
النظر في أعقاب الأمور وتأويلات الأشياء، هذا كله يقتضيه قوله:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وهذا أمر بالنظر والاستدلال،
ثم عرف تعالى بمواقع الحجة، أي لو كان من كلام البشر لدخله ما
في كلام البشر من القصور، وظهر فيه التناقض والتنافي الذي لا
يمكن جمعه، إذ ذلك موجود في كلام البشر، والقرآن منزه عنه، إذ
هو كلام المحيط بكل شيء علما.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فإن عرضت لأحد شبهة وظن
اختلافا في شيء من كتاب الله، فالواجب أن يتهم نظره ويسأل من
هو أعلم منه، وذهب الزجّاج: إلى أن معنى الآية لوجدوا فيما
نخبرك به
(2/83)
مما يبيتون اختلافا، أي: فإذ تخبرهم به على
حد ما يقع، فذلك دليل أنه من عند الله غيب من الغيوب، هذا معنى
قوله، وقد بينه ابن فورك والمهدوي.
وقوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ الآية،
قال جمهور المفسرين: الآية في المنافقين حسبما تقدم من ذكرهم،
والآية نازلة في سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعوثه،
والمعنى: أن المنافقين كانوا يشرهون إلى سماع ما يسوء النبي في
سراياه، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين أو فتح عليهم، حقروها
وصغروا شأنها وأذاعوا بذلك التحقير والتصغير، وإذا طرأت لهم
شبهة خوف المسلمين أو مصيبة عظموها وأذاعوا ذلك التعظيم،
وأَذاعُوا بِهِ معناه: أفشوه، وهو فعل يتعدى بحرف جر وبنفسه
أحيانا، تقول أذعت كذا وأذعت به. ومنه قول أبي الأسود:
[الطويل]
أذاعوا به في النّاس حتّى كأنّه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب
وقالت فرقة: الآية نازلة في المنافقين، وفي من ضعف جلده عن
الإيمان من المؤمنين وقلت تجربته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فإما أن يكون ذلك في أمر
السرايا فإنهم كانوا يسمعون أقوال المنافقين فيقولونها مع من
قالها، ويذيعونها مع من أذاعها، وهم غير متثبتين في صحتها،
وهذا هو الدال على قلة تجربتهم، وإما أن يكون ذلك في سائر
الأمور الواقعة، كالذي قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنه
جاء وقوم في المسجد يقولون طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم
نساءه، قال: فدخلت على عائشة فقلت: يا بنة أبي بكر بلغ من أمرك
أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: يا بن الخطاب
عليك بعيبتك، قال: فدخلت على حفصة فقلت: يا حفصة قد علمت أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يحبك، ولولا أنا لطلقك،
فجعلت تبكي، قال: فخرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو في غرفة له، ورباح مولاه جالس على أسكفة الغرفة،
فقلت: يا رباح استأذن لي على رسول الله، فنظر إلى الغرفة ثم
نظر إليّ وسكت، فقلت: يا رباح استأذن لي على رسول الله فلعله
يظن أني جئت من أجل حفصة، والله لو أمرني أن أضرب عنقها
لضربته، فنظر ثم أشار إليّ بيده: أن ادخل، فدخلت وإذا رسول
الله صلى الله عليه وسلم مضطجع على حصير وقد أثر في جنبه، وإذا
ليس في غرفته.
وهذا التأويل جار مع قول عمر، أنا استنبطته ببحثي وسؤالي،
وتحتمل الآية أن يكون المعنى لعلمه المسئولون المستنبطون،
فأخبروا بعلمهم، وقرأ أبو السمال، «لعلمه» بسكون اللام وذلك
مثل «شجر بينهم» ، والضمير في رَدُّوهُ عائد على الأمر، وفي
ومِنْهُمْ يحتمل أن يعود على الرَّسُولِ وأُولِي الْأَمْرِ،
ويحتمل أن يعود على الجماعة كلها، أي لعلمه البحثة من الناس،
وقوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
الآية، هذا خطاب لجميع المؤمنين باتفاق من المتأولين، والمعنى:
ولولا هداية الله وإرشاده لكم بالإيمان وذلك فضل منه ورحمة-
لكنتم على كفركم، وذلك هو اتباع الشيطان. وحكى الزجاج: لولا
فضل الله في هذا القرآن ورسالة محمد عليه السلام، واختلف
المتأولون في الاستثناء بقوله إِلَّا قَلِيلًا مم هو؟ فقال ابن
عباس وابن زيد: ذلك مستثنى من قوله: «أذاعوا به إلا قليلا» ،
ورجحه الطبري، وقال قتادة: ذلك مستثنى من قوله: «يستنبطونه إلا
قليلا» ، وقالت فرقة:
(2/84)
ذلك مستثنى من قوله: لَاتَّبَعْتُمُ
الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا، على سرد الكلام دون تقدير تقديم،
ثم اختلفت هذه الفرقة، فقال الضحاك: إن الله هدى الكل منهم إلى
الإيمان، فكان منهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك،
ولا عنت له شبهة ارتياب، فذلك هو القليل، وسائر من أسلم من
العرب لم يخل من الخواطر، فلولا فضل الله بتجديد الهداية لهم
لضلوا واتبعوا الشيطان إلا قبضة من شعير وقبضة من قرظ، وإذا
أفيقان معلقان، فبكيت، فقال رسول الله عليه السلام: ما يبكيك
يا بن الخطاب؟ فقلت يا رسول الله:
أنت صفوة الله من خلقه ورسوله، وليس لك من الدنيا إلا هذا،
وكسرى وقيصر في الأشجار والأنهار، فقال أهاهنا أنت يا عمر؟ أما
ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ فقلت: بلى، ثم جعلت
أحدثه حتى تهلل وابتسم، فقلت يا رسول الله: إنهم ادعوا أنك
طلقت نساءك، فقال: لا، فقلت أتأذن لي أن أعرف الناس؟
قال: افعل إن شئت، قال: فقمت على باب المسجد، فقلت: ألا إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه، فأنزل الله في
هذه القصة وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ
الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ الآية وأنا الذي استنبطته.
وقوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ الآية، المعنى:
لو أمسكوا عن الخوض واستقصوا الأمور من قبل الرسول. أو أُولِي
الْأَمْرِ وهم الأمراء، قاله السدي وابن زيد، وقيل: أهل العلم،
قاله الحسن وقتادة وغيرهما، والمعنى يقتضيهما معا لَعَلِمَهُ
طلابه من أُولِي الْأَمْرِ والبحثة عنه وهم مستنبطوه، كما
يستنبط الماء وهو النبط أي الماء المستخرج من الأرض. ومنه قول
الشاعر:
قريب ثراه ما ينال عدوّه ... له نبطا آبي الهوان قطوب
يعني بالنبط الماء المستنبط.
وقوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا. هذا خطاب
للمؤمنين باتفاق من المتأولين. والمعنى: لولا هداية الله لكم
وإرشاده لبقيتم على كفركم، وهو اتباع الشيطان. وقال الضحاك:
هدى الكل منهم للإيمان فمنهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط
خاطر شك ولا عنت له شبهة ارتياب، وذلك هو القليل وسائر من أسلم
من العرب لم يخل من الخواطر، فلولا فضل الله بتجريد الهداية
لهم لضلّوا واتبعوا الشيطان.
قال القاضي أبو محمد: هذا معنى قول الضحاك، ويجيء الفضل معينا،
أي رسالة محمد والقرآن، لأن الكل إنما هدي بفضل الله على
الإطلاق، وقال قوم: المخاطب بقوله لَاتَّبَعْتُمُ جميع
المؤمنين، وقوله: إِلَّا قَلِيلًا إشارة إلى من كان قبل
الإسلام غير متبع للشيطان على ملة إبراهيم، كورقة بن نوفل،
وزيد بن عمرو بن نفيل، وغيرهما، وقال قوم: الاستثناء إنما هو
من الاتباع، أي لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ كلكم إِلَّا
قَلِيلًا من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها، وقال قوم: قوله:
إِلَّا قَلِيلًا عبارة عن العدم، يريدون لاتبعتم الشيطان كلكم،
وهذا الأخير قول قلق، وليس يشبه ما حكى سيبويه من قولهم: أرض
قل ما تنبت كذا، بمعنى لا تنبته لأن اقتران القلة بالاستثناء
يقتضي حصولها، ولكن قد ذكره الطبري.
قوله تعالى:
(2/85)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا
وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ
مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا
أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
حَسِيبًا (86)
[سورة النساء (4) : الآيات 84 الى 86]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ
وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ
تَنْكِيلاً (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ
نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ
لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً
(85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ
مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
حَسِيباً (86)
هذا أمر في ظاهر اللفظ للنبي عليه السلام وحده، لكن لم نجد قط
في خبر أن القتال فرض على النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة
مدة ما، المعنى- والله أعلم- أنه خطاب للنبي عليه السلام في
اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه، أي أنت يا
محمد وكل واحد من أمتك القول له فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر
أن يجاهد ولو وحده، ومن ذلك قول النبي عليه السلام «والله
لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي» وقول أبي بكر وقت الردة: «ولو
خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي» ، وخلط قوم في تعلق الفاء من
قوله فَقاتِلْ بما فيه بعد، والوجه أنها عاطفة جملة كلام على
جملة، وهي دالة على اطراح غير ما أمر به، ثم خص النبي عليه
السلام بالأمر بالتحريض، أي الحث على المؤمنين في القيام
بالفرض الواجب عليهم، وعَسَى إذا وردت من الله تعالى فقال
عكرمة وغيره: إنها واجبة، لأنها من البشر متوقعة مرجوة ففضل
الله تعالى يوجب وجوبها، وفي هذا وعد للمؤمنين بغلبتهم للكفرة،
ثم قوى بعد ذلك، قلوبهم بأن عرفهم شدة بأس الله، وأنه أقدر على
الكفرة، وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا لهم، التنكيل: الأخذ بأنواع
العذاب وترديده عليهم.
وقوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً الآية. أصل
الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع، وهو الزوج في العدد، لأن
الشافع ثان لوتر المذنب، والشفيع ثان لوتر المشتري، واختلف في
هذه الآية المتأولون، فقال الطبري: المعنى من يشفع وتر الإسلام
بالمعونة للمسلمين، أو من يشفع وتر الكفر بالمعونة على
الإسلام، ودله على هذا التأويل ما تقدم من أمر القتال، وقال
مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: هي في شفاعات الناس بينهم في
حوائجهم، فمن يشفع لينفع فله نصيب، ومن يشفع ليضر فله كفل،
وقال الحسن وغيره: «الشفاعة الحسنة» هي في البر والطاعة،
والسيئة هي في المعاصي، وهذا كله قريب بعضه من بعض، «والكفل»
النصيب، ويستعمل في النصيب من الخير ومن الشر، وفي كتاب الله
تعالى يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد: 28]
ومُقِيتاً معناه قديرا، ومنه قول الشاعر، وهو الزبير بن عبد
المطلب: [الوافر]
وذي ضغن كففت النّفس عنه ... وكنت على إذايته مقيتا
أي قديرا، وعبر عنه ابن عباس ومجاهد، بحفيظ وشهيد، وعبد الله
بن كثير، بأنه الواصب القيم بالأمور، وهذا كله يتقارب، ومنه
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «كفى بالمرء إثما أن يضيع من
يقيت» على من رواها هكذا أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال
وغيره، وذهب مقاتل بن حيان، إلى أنه الذي يقوت كل حيوان، وهذا
على أن يقال أقات بمعنى قات، وعلى هذا يجيء قوله عليه السلام
«من يقيت» من أقات وقد حكى الكسائي «أقات» يقيت، فأما قول
الشاعر [السموأل بن عادياء] : [الخفيف]
(2/86)
اللَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا
رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ
أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ
أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
سَبِيلًا (88)
ليت شعري وأشعرنّ إذا ما ... قرّبوها
مطويّة ودعيت
أإلى الفضل أم عليّ؟ إذا حو ... سبت، إنّي على الحساب مقيت
فقال فيه الطبري: إنه من غير هذا المعنى المتقدم، وإنه بمعنى
موقوت.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا يضعفه أن يكون بناء فاعل
بمعنى بناء مفعول.
وقوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ الآية. التحية وزنها تفعلة من
حيي، وهذا هو الأغلب من مصدر فعل في المعتل، وروي عن مالك أن
هذه الآية في تشميت العاطس، وفيه ضعف، لأنه ليس في الكلام على
ذلك دلالة، أما أن الرد على المشمت مما يدخل بالقياس في معنى
رد التحية، وهذا هو منحى مالك رحمه الله إن صح ذلك عنه والله
أعلم، واختلف المتأولون، فقالت فرقة: التحية أن يقول الرجل:
سلام عليك، فيجب على الآخر أن يقول: عليك السلام ورحمة الله،
فإن قال البادئ: السلام عليك ورحمة الله، قال الراد عليك
السلام ورحمة الله وبركاته، فإن قال البادئ: السلام عليك ورحمة
الله وبركاته، فقد انتهى ولم يبق للراد أن يحيي بأحسن منها،
فهاهنا يقع الرد المذكور في الآية، فالمعنى عند أهل هذه القالة
إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ، فإن نقص المسلم من النهاية فحيوا
بأحسن. وإن انتهى فردوا، وقالت فرقة: إنما معنى الآية تخيير
الراد، فإذا قال البادئ: السلام عليك، فللراد أن يقول، وعليك
السلام فقط، وهذا هو الرد، وله أن يقول، وعليك السلام ورحمة
الله، وهذا هو التحية بأحسن منها، وقال ابن عباس وغيره: المراد
بالآية، إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ، فإن كانت من مؤمن فحيوا
بأحسن منها، وإن كانت من كافر فردوا على ما قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يقال لهم: وعليكم، وروي عن ابن عمرو وابن
عباس وغيرهما، انتهى السلام إلى البركة، وجمهور أهل العلم على
أن لا يبدأ أهل الكتاب بسلام، فإن سلم أحد ساهيا أو جاهلا
فينبغي أن يستقيله سلامه، وشذ قوم في إباحة ابتدائهم، والأول
أصوب، لأن به يتصور إذ لا لهم، وقال ابن عباس: كل من سلم عليك
من خلق الله فرد عليه وإن كان مجوسيا، وقال عطاء: الآية في
المؤمنين خاصة، ومن سلم من غيرهم قيل له: عليك، كما في الحديث،
وأكثر أهل العلم على أن الابتداء بالسلام سنة مؤكدة، ورده
فريضة، لأنه حق من الحقوق، قاله الحسن بن أبي الحسن وغيره،
وحَسِيباً معناه:
حفيظا، وهو فعيل من الحساب، وحسنت هاهنا هذه الصفة، إذ معنى
الآية في أن يزيد الإنسان أو ينقص أو يوفي قدر ما يجيء به.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 87 الى 88]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ
حَدِيثاً (87) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ
وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ
تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)
لما تقدم الإنذار والتحذير الذي تضمنه قوله تعالى إِنَّ
اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً [النساء: 86] تلاه
مقويا له الإعلام بصفة الربوبية، وحال الوحدانية، والإعلام
بالحشر، والبعث من
(2/87)
القبور، للثواب، والعقاب، إعلاما بقسم،
والمقسم به تقديره وهو: أو وحقه، أو وعظمته، لَيَجْمَعَنَّكُمْ
والجمع هنا بمعنى الحشر، فلذلك حسنت بعده إِلى، أي: إليه السوق
والحشر، والْقِيامَةِ: أصلها القيام، ولما كان قيام الحشر من
أذل الحال وأضعفها إلى أشد الأهوال وأعظمها لحقته هاء المبالغة
ولا رَيْبَ فِيهِ تبرئة هي وما بعدها بمثابة الابتداء تطلب
الخبر، ومعناه: لا ريب فيه في نفسه وحقيقة أمره، وإن ارتاب فيه
الكفرة فغير ضائر، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً؟
ظاهره الاستفهام ومعناه تقرير الخبر، تقديره:
لا أحد أصدق من الله تعالى، لأن دخول الكذب في حديث البشر إنما
علته الخوف والرجاء أو سوء السجية، وهذه منفية في حق الله
تعالى وتقدست أسماؤه، والصدق في حقيقته أن يكون ما يجري على
لسان المخبر موافقا لما في قلبه، وللأمر المخبر عنه في وجوده،
وحَدِيثاً نصب على التمييز.
وقوله: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ الآية. الخطاب
للمؤمنين، وهذا ظاهره استفهام، والمقصد منه التوبيخ، واختلف
المتأولون فيمن المراد ب الْمُنافِقِينَ؟ فقال ابن عباس: هم
قوم كانوا بمكة فكتبوا إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة، أنهم قد آمنوا وتركوا الهجرة، وأقاموا بين أظهر
الكفار، ثم سافر قوم منهم إلى الشام فأعطتهم قريش بضاعات
وقالوا لهم: إنكم لا تخافون أصحاب محمد، لأنكم تخدعونهم بإظهار
الإيمان لهم، فاتصل خبرهم بالمدينة، فاختلف المؤمنون فيهم،
فقالت طائفة: نخرج إلى أعداء الله المنافقين، وقالت طائفة: بل
هم مؤمنون لا سبيل لنا إليهم، فنزلت الآية، وقال مجاهد: بل
نزلت في قوم جاؤوا إلى المدينة من مكة، فأظهروا الإسلام، ثم
قالوا: لنا بضاعات بمكة فانصرفوا إليها وأبطنوا الكفر، فاختلف
فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذان القولان يعضدهما ما في
آخر الآية من قوله تعالى حَتَّى يُهاجِرُوا [النساء: 89] ،
وقال زيد بن ثابت: نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم أحد، عبد الله بن أبيّ وأصحابه، لأن
أصحاب النبي عليه السلام اختلفوا فيهم، وقال السدي: بل نزلت في
قوم منافقين كانوا بالمدينة فطلبوا الخروج عنها نفاقا وكفرا،
وقالوا: إنّا اجتويناها، وقال ابن زيد: إنما نزلت في المنافقين
الذين تكلموا في حديث الإفك، لأن الصحابة اختلفوا فيهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: الاختلاف في هذه النازلة كان
بين أسيد بن حضير وسعد بن عبادة، حسبما وقع في البخاري، وكان
لكل واحد أتباع من المؤمنين على قوله، وكل من قال في هذه
الآية: إنها فيمن كان بالمدينة يرد عليه قوله: حَتَّى
يُهاجِرُوا [النساء: 89] لكنهم يخرجون المهاجرة إلى هجر ما نهى
الله عنه، وترك الخلاف والنفاق، كما قال عليه السلام، والمهاجر
من هجر ما نهى الله عنه، وفِئَتَيْنِ معناه فرقتين، ونصبهما
على الحال كما تقول: ما لك قائما، هذا مذهب البصريين، وقال
الكوفيون: نصبه بما يتضمنه ما لكم من الفعل، والتقدير ما لكم
كنتم فِئَتَيْنِ، أو صرتم، وهذا الفعل المقدر ينصب عندهم
النكرة والمعرفة، كما نقول ما لك الشاتم لزيد، وخطأ هذا القول
الزجّاج، لأن المعرفة لا تكون حالا، وأَرْكَسَهُمْ معناه رجعهم
في كفرهم وضلالهم، «والركس» الرجيع، ومنه حديث النبي عليه
السلام في الاستنجاء، «فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال إنها
ركس» ومنه قول أمية بن أبي الصلت: [البسيط]
(2/88)
وَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا
تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا
وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ
صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ
فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ
عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
فأركسوا في حميم النّار إنّهم ... كانوا
عصاة وقالوا الإفك والزّورا
وحكى النضر بن شميل والكسائي، «ركس وأركس» بمعنى واحد، أي
رجعهم، ومن قال من المتأولين: أهلكهم أو أضلهم فإنما هي
بالمعنى، لأن ذلك كله يتضمنه ردهم إلى الكفر، وبِما كَسَبُوا
معناه بما اجترحوا من الكفر والنفاق، أي إن كفرهم بخلق من الله
واختراع وبتكسب منهم، وقوله:
أَتُرِيدُونَ استفهام معناه الإبعاد واليأس مما أرادوه،
والمعنى أتريدون أيها المؤمنون القائلون: بأن أولئك المنافقين
مؤمنون أن تسموا بالهدى من قد يسره الله لضلالة وحتمها عليه،
ثم أخبر تعالى أنه من يضلل فلا سبيل إلى إصلاحه ولا إلى
إرشاده.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 89]
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً
فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا
وَلا نَصِيراً (89)
الضمير في وَدُّوا عائد على المنافقين، وهذا كشف من الله لخبث
معتقدهم، وتحذير للمؤمنين منهم. والمعنى تمنوا كفركم، وهي غاية
المصائب بكم، وهذا الود منهم يحتمل أن يكون عن حسد منهم لهم
على ما يرون للمؤمنين من ظهور في الدنيا، فتجري الآية مع ود
كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من
عند أنفسهم، ويحتمل أمر المنافقين أن يكون أنهم رأوا المؤمنين
على غير شيء فودوا رجوعهم إلى عبادة الأصنام، والأول أظهر،
وقوله: فَلا تَتَّخِذُوا الآية. هذا نهي عن موالاتهم حتى
يهاجروا، لأن الهجرة في سبيل الله تتضمن الإيمان، وفِي سَبِيلِ
اللَّهِ معناه في طريق مرضاة الله، لأن سبل الله كثيرة، وهي
طاعاته كلها، المعنى فإن أعرضوا عن الهجرة وتولوا عن الإيمان
فخذوهم، وهذا أمر بالحمل عليهم ومجاهرتهم بالقتال.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 90]
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ
يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ
لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ
اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ
السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً
(90)
كان هذا الحكم في أول الإسلام قبل أن يستحكم أمر الطاعة من
الناس، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هادن من العرب
قبائل، كرهط هلال بن عويمر الأسلمي، وسرقة بن مالك بن جعشم،
وخزيمة بن عامر بن عبد مناف، فقضت هذه الآية بأنه من وصل من
المشركين الذين لا عهد بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم
إلى هؤلاء أهل العهد فدخل في عدادهم وفعل من الموادعة فلا سبيل
عليه، قال عكرمة والسدي وابن زيد: ثم لما تقوى الإسلام وكثر
ناصروه نسخت هذه والتي بعدها بما في سورة براءة،
(2/89)
وقال أبو عبيدة وغيره: يَصِلُونَ في هذا
الموضع معناه، ينتسبون، ومنه قول الأعشى: [الطويل]
إذا اتّصلت قالت: أبكر بن وائل ... وبكر سبتها والأنوف رواغم
يريد إذا انتسبت.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا غير صحيح، قال الطبري:
قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا وهم قرابة السابقين
إلى الإسلام يقضي بأن قرابة من له ميثاق أجدر بأن تقاتل، فإن
قيل: إن النبي عليه السلام لم يقاتل قريشا إلا بعد نسخ هذه
الآية، قيل: التواريخ تقضي بخلاف ذلك، لأن الناسخ لهذه الآية
هي سورة براءة، ونزلت بعد فتح مكة وإسلام جميع قريش، وقوله
تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ عطف على يَصِلُونَ، ويحتمل أن يكون على
قوله: بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ والمعنى في العطفين
مختلف وهذا أيضا حكم كان قبل أن يستحكم أمر الإسلام، فكان
المشرك إذا اعتزل القتال وجاء إلى دار الإسلام مسالما كارها
لقتال قومه، مع المسلمين ولقتال المسلمين مع قومه لا سبيل
عليه، وهذه نسخت أيضا بما في براءة. وحَصِرَتْ: ضاقت وحرجت،
ومنه الحصر في القول، وهو: ضيق الكلام على المتكلم، وقرأ الحسن
وقتادة «حصرة» كذا قال الطبري: وحكى ذلك المهدوي عن عاصم من
رواية حفص، وحكي عن الحسن أنه قرأ «حصرات» وفي مصحف أبيّ سقط
أَوْ جاؤُكُمْ، وحَصِرَتْ عند جمهور النحويين في موضع نصب على
الحال بتقدير قد حصرت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يصحب الفعل الماضي إذا كان في موضع
الحال والداعي إليه أن يفرق بين تقدير الحال وبين خبر مستأنف،
كقولك جاء زيد ركب الفرس، فإن أردت بقولك ركب الفرس خبرا آخر
عن زيد، لم تحتج إلى تقدير قد، وإن أردت به الحال من زيد قدرته
بقد، قال الزجاج:
حَصِرَتْ خبر بعد خبر، وقال المبرد: حَصِرَتْ دعاء عليهم.
قال القاضي أبو محمد: وقال بعض المفسرين: لا يصح هنا الدعاء،
لأنه يقتضي الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم، ذلك فاسد.
قال المؤلف: وقول المبرد يخرج على أن الدعاء عليهم بأن لا
يقاتلوا المسلمين تعجيز لهم، والدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا
قومهم تحقير لهم، أي هم أقل وأحقر، ويستغنى عنهم، كما تقول إذا
أردت هذا المعنى: لا جعل الله فلانا عليّ ولا معي أيضا، بمعنى
استغنى عنه واستقل دونه، واللام في قوله:
لَسَلَّطَهُمْ جواب لَوْ، وفي قوله: فَلَقاتَلُوكُمْ لام
المحاذاة والازدواج، لأنها بمثابة الأولى، لو لم تكن الأولى
كنت تقول: لو شاء الله لقاتلوكم، والمعنى تقرير المؤمنين على
مقدار النقمة وصرفها، أي لو شاء الله لقواهم وجرأهم عليكم، فإذ
قد أنعم الله عليكم بالهدنة فاقبلوها وأطيعوا فيها، وقرأت
طائفة «فلقتلوكم» . وقرأ الجحدري والحسن «فلقتّلوكم» بتشديد
التاء، والمعنى فإن اعتزلوكم أي هادنوكم وتاركوكم في القتل،
والسَّلَمَ هنا الصلح، قاله الربيع، ومنه قول الطرماح بن حكيم:
وذاك أن تميما غادرت سلما ... للأسد كل حصان رعثة الكبد
(2/90)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ
مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ
يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا
أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
وقال الربيع: السَّلَمَ هاهنا الصلح، وكذا
قرأته عامة القراء، وقرأ الجحدري «السلم» بسكون اللام، وقرأ
الحسن «السّلم» بكسر السين وسكون اللام، فمعنى جملة هذه الآية،
خذوا المنافقين الكافرين واقتلوهم حيث وجدتموهم، إلا من دخل
منهم في عداد من بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ والتزم
مهادنتكم أو من جاءكم وقد كره قتالكم وقتال قومه، وهذا بفضل
الله عليكم ودفاعه عنكم، لأنه لو شاء لسلط هؤلاء الذين هم بهذه
الصفة من المتاركة عليكم فَلَقاتَلُوكُمْ، فإن اعتزلوكم أي إذا
وقع هذا فلم يقاتلوكم، فلا سبيل لكم عليهم، وهذا والذي في سورة
الممتحنة من قوله تعالى لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ
لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ
دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8] منسوخ بما في
سورة براءة، قاله قتادة وابن زيد وغيرهما.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 91]
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ
وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ
أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا
لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)
لما وصف الله تعالى فيما تقدم صفة المحقين في المتاركة،
المجدين في إلقاء السلم، نبه على طائفة مخادعة مبطلة مبطنة
كانوا يريدون الإقامة في مواضعهم مع أهليهم، يقولون لهم: نحن
معكم وعلى دينكم، ويقولون أيضا للمسلمين إذا وفدوا وأرسلوا:
نحن معكم وعلى دينكم خبثة منهم وخديعة، قيل:
كانت أسد وغطفان بهذه الصفة، وقيل: نزلت في نعيم بن مسعود
الأشجعي، كان ينقل بين النبي عليه السلام والكفار الأخبار،
وقيل: نزلت في قوم يجيئون من مكة إلى النبي عليه السلام رياء،
يظهرون الإسلام ثم يرجعون إلى قريش فيكفرون، ففضح الله تعالى
هؤلاء، وأعلم أنهم على غير صفة من تقدم، وقوله:
إِلَى الْفِتْنَةِ معناه إلى الاختبار، حكي أنهم كانوا يرجعون
إلى قومهم فيقال لأحدهم: قل: ربي الخنفساء، وربي العود، وربي
العقرب، ونحوه، فيقولها، ومعنى أُرْكِسُوا رجعوا رجع ضلالة أي
أهلكوا في الاختيار بما واقعوه من الكفر، وقرأ عبد الله بن
مسعود، «ركسوا» بضم الراء من غير ألف، وحكاه عنه أبو الفتح بشد
الكاف على التضعيف، والخلاف في السَّلَمَ حسبما تقدم، وهذه
الآية حض على قتل هؤلاء المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم إلى
حال الآخرين المعتزلين الملقين للسلم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: وتأمل فصاحة الكلام
في أن سياقه في الصيغة المتقدمة قبل هذه سياق إيجاب الاعتزال.
وإيجاب إلقاء السلم، ونفي المقاتلة، إذ كانوا محقين في ذلك
معتقدين له، وسياقه في هذه الصيغة المتأخرة سياق نفي الاعتزال،
ونفي إلقاء السلم، إذ كانوا مبطلين فيه مخادعين، والحكم سواء
على السياقين، لأن الذين لم يجعل الله عليهم سبيلا لو لم
يعتزلوا لكان حكمهم حكم هؤلاء الذين جعل عليهم «سلطان مبين» ،
وكذلك هؤلاء الذين عليهم السلطان، إذ لم يعتزلوا، لو اعتزلوا
لكان حكمهم حكم الذين لا سبيل عليهم. ولكنهم بهذه العبارة تحت
القتل إن لم يعتزلوا،
(2/91)
وَمَا كَانَ
لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ
قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا
فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
وثَقِفْتُمُوهُمْ مأخوذ من الثقاف، أي
ظفرتم بهم مغلوبين متمكنا منهم، والسلطان الحجة، قال عكرمة:
حيث ما وقع السلطان في كتاب الله تعالى فهو الحجة.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 92]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ
يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ
اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)
قال جمهور المفسرين: معنى هذه الآية: وما كان في إذن الله وفي
أمره للمؤمن أن يقتل مؤمنا بوجه، ثم استثنى استثناء منقطعا ليس
من الأول، وهو الذي تكون فيه إلا بمعنى لكن، والتقدير لكن
الخطأ قد يقع.
وهذا كقول الشاعر [الهذلي] : [البسيط]
أمسى سقام خلاء لا أنيس به ... إلّا السّباع وإلّا الرّيح
بالغرف
قال القاضي أبو محمد: سقام اسم واد، والغرف شجر يدبغ بلحائه،
وكما قال جرير: [الطويل]
من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ ... على الأرض إلّا ريط برد
مرحّل
وفي هذا الشاهد نظر، ويتجه في معنى الآية وجه آخر، وهو أن تقدر
كانَ بمعنى استقر ووجد، كأنه قال، وما وجد ولا تقرر ولا ساغ
لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً، إذ هو
مغلوب فيه أحيانا، فيجيء الاستثناء على هذا غير منقطع، وتتضمن
الآية على هذا إعظام العمد وبشاعة شأنه، كما تقول: ما كان لك
يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسيا، إعظاما للعمد والقصد مع خطر
الكلام به البتة، وقرأ الزهري «خطا» مقصورا غير مهموز، وقرأ
الحسن والأعمش مهموزا ممدودا، وقال مجاهد وعكرمة والسدي وغيرهم
نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة المخزومي حين قتل الحارث
بن يزيد بن نبيشة، وذلك أنه كان يعذبه بمكة، ثم أسلم الحارث
وجاء مهاجرا فلقيه عياش بالحرة، فظنه على كفره فقتله، ثم جاء
فأخبر النبي عليه السلام فشق ذلك عليه ونزلت الآية، فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم فحرر» ، وقال ابن زيد:
نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان يرعى غنما وهو يتشهد فقتله
وساق غنمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت الآية وقيل:
نزلت في أبي حذيفة اليمان حين قتل خطأ يوم أحد، وقيل غير هذا،
والله أعلم، وقوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً الآية. بيّن
الله تعالى في هذه الآية حكم المؤمن إذا قتل المؤمن خطأ،
وحقيقة الخطأ أن لا يقصده بالقتل، ووجوه الخطأ كثيرة لا تحصى،
يربطها عدم القصد، قال ابن عباس
(2/92)
والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم:
«الرقبة المؤمنة» هي الكبيرة التي قد صلت وعقلت الإيمان، ولا
يجزىء في ذلك الصغير، وقال عطاء بن أبي رباح: يجزىء الصغير
المولود بين المسلمين، وقالت جماعة منهم مالك بن أنس: يجزىء كل
من يحكم له بحكم الإسلام في الصلاة عليه إن مات ودفنه، قال
مالك:
ومن صلى وصام أحب إليّ، وأجمع أهل العلم على أن الناقص النقصان
الكثير كقطع اليدين أو الرجلين أو الأعمى لا يجزىء فيما حفظت،
فإن كان النقصان يسيرا تتفق له معه المعيشة والتحرف، كالعرج
ونحوه ففيه قولان، ومُسَلَّمَةٌ معناه مؤداة مدفوعة، وهي على
العاقلة فيما جاز ثلث الدية، وإِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا يريد
أولياء القتيل، وقرأ أبي بن كعب «يتصدقوا» وقرأ الحسن وأبو عبد
الرحمن وعبد الوارث عن أبي عمرو «تصدقوا» بالتاء على المخاطبة
للحاضر، وقرأ نبيح العتري «تصدقوا» بالتاء وتخفيف الصاد، و
«الدية» مائة من الإبل على أهل الإبل عند قوم، وعند آخرين على
الناس كلهم، إلا أن لا يجد الإبل أهل الذهب والفضة، فحينئذ
ينتقلون إلى الذهب والفضة، يعطون منها قيمة الإبل في وقت
النازلة بالغة ما بلغت، واختلف في المائة من الإبل، فقال علي
بن أبي طالب: هي مربعة، ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وعشرون بنت
مخاض، وعشرون بنت لبون، وقال عبد الله بن مسعود: مخمسة، عشرون
حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون
ابن لبون ذكرا، ولبعض الفقهاء غير هذا الترتيب، وعمر بن الخطاب
وغيره يرى الدية من البقر مائتي بقرة. ومن الغنم ألفي شاة، ومن
الحلل مائة حلة، وورد بذلك حديث عن النبي عليه السلام في مصنف
أبي داود، والحلة ثوبان من نوع واحد في كلام العرب، وكانت في
ذلك الزمن صفة تقاوم المائة من الإبل، فمضى القول على ذلك،
وأما الذهب فهي ألف دينار، قررها عمر ومشى الناس عليها، وأما
الفضة فقررها عمر اثني عشر ألفا، وبه قال مالك، وجماعة تقول:
عشرة آلاف درهم. وقوله تعالى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ
لَكُمْ الآية. المعنى عند ابن عباس وقتادة والسدي وإبراهيم
وعكرمة وغيرهم، فإن كان هذا المقتول خطأ رجلا مؤمنا، قد آمن
وبقي في قومه وهم كفرة عدو لكم، فلا دية فيه، وإنما كفارته
تحرير الرقبة، والسبب عندهم في نزولها أن جيوش رسول الله صلى
الله عليه وسلم كانت تمر بقبائل الكفار فربما قتل من قد آمن
ولم يهاجر، أو من قد هاجر ثم رجع إلى قومه، فيقتل في حملات
الحرب على أنه من الكفار، فنزلت الآية، وتسقط الدية عند قائلي
هذه المقالة لوجهين، أولهما أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن
تدفع الدية إليهم يتقوون بها، والآخر أن حرمة هذا الذي آمن ولم
يهاجر قليلة، فلا دية فيه، واحتجوا بقوله تعالى: وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال: 72] وقالت فرقة: بل الوجه
في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط، فسواء كان القتيل خطأ بين
أظهر المسلمين أو بين قومه، لم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه،
كفارته التحرير ولا دية فيه، لأنه لا يصح دفعها إلى الكفار.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقائل المقالة الأولى يقول: إن
قتل المؤمن في بلد المسلمين وقومه حرب ففيه الدية لبيت المال
والكفارة، وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ المعنى عند الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم
وغيرهم وإن كان هذا المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم،
فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم، فكفارته التحرير وأداء
الدية، وقرأ الحسن «وإن كان من قوم
(2/93)
وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا
عَظِيمًا (93)
بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن» وقال ابن
عباس والشعبي وإبراهيم أيضا. المقتول من أهل العهد خطأ لا
يبالى كان مؤمنا أو كافرا على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم
والتحرير، واختلف على هذا في دية المعاهد، فقال أبو حنيفة
وغيره: ديته كدية المسلم، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله
عنهما، وقال مالك وأصحابه: ديته على نصف دية المسلم، وقال
الشافعي وأبو ثور: ديته على ثلث دية المسلم، وقوله تعالى:
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الآية يريد عند الجمهور فمن لم يجد العتق
ولا اتسع ماله له فيجزيه «صيام شهرين» متتابعين في الأيام لا
يتخللها فطر، وقال مكي عن الشعبي: «صيام الشهرين» يجزىء عن
الدية والعتق لمن لم يجدها، وهذا القول وهم، لأن الدية إنما هي
على العاقلة وليست على القاتل، والطبري حكى القول عن مسروق،
وتَوْبَةً نصب على المصدر ومعناه رجوعا بكم إلى التيسير
والتسهيل.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 93]
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ
خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ
لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)
«المتعمد» في لغة العرب القاصد إلى الشيء، واختلف العلماء في
صفة المتعمد في القتل، فقال عطاء وإبراهيم النخعي وغيرهما: هو
من قتل بحديدة كالسيف أو الخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من
المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقيل الحجارة
ونحوه، وقالت فرقة: «المتعمد» كل من قتل بحديدة كان القتل أو
بحجر أو بعصا أو بغير ذلك، وهذا قول الجمهور وهو الأصح، ورأى
الشافعي وغيره أن القتل بغير الحديد المشحوذ هو شبه العمد،
ورأوا فيه تغليظ الدية، ومالك رحمه الله لا يرى شبه العمد ولا
يقول به في شيء، وإنما القتل عنده ما ذكره الله تعالى عمدا
وخطأ لا غير، والقتل بالسم عنده عمد، وإن قال ما أردت إلا
سكره، وقوله: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ
تقديره عند أهل السنة، فجزاؤه أن جازاه بذلك أي هو أهل ذلك
ومستحقه لعظم ذنبه، ونص على هذا أبو مجلز وأبو صالح وغيرهما
وهذا مبني على القول بالمشيئة في جميع العصاة قاتل وغيره،
وذهبت المعتزلة إلى عموم هذه الآية، وأنها مخصصة بعمومها لقوله
تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48-
116] وتوركوا في ذلك على ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال: نزلت
الشديدة بعد الهينة، يريد نزلت وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً
مُتَعَمِّداً بعد وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ
[النساء: 48 و 116] فهم يرون أن هذا الوعيد نافذ حتما على كل
قاتل يقتل مؤمنا، ويرونه عموما ماضيا لوجهه، مخصصا للعموم في
قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء:
48 و 116] كأنه قال: إلا من قتل عمدا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وأهل الحق يقولون لهم: هذا
العموم منكسر غير ماض لوجهه من جهتين، إحداهما ما أنتم معنا
مجمعون عليه من الرجل الذي بشهد عليه أو يقر بالقتل عمدا ويأتي
السلطان أو الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قودا، فهذا غير
متبع في الآخرة، والوعيد غير نافذ عليه إجماعا متركبا على
الحديث الصحيح من طريق عبادة بن الصامت، أنه من عوقب في الدنيا
فهو كفارة له، وهذا نقض
(2/94)
للعموم، والجهة الأخرى أن لفظ هذه الآية
ليس بلفظ عموم، بل لفظ مشترك يقع كثيرا للخصوص، كقوله تعالى:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ
الْكافِرُونَ [المائدة: 44] وليس حكام المؤمنين إذا حكموا بغير
الحق في أمر بكفرة بوجه، وكقول الشاعر [زهير بن أبي سلمى] :
[الطويل]
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدّم ومن لا يظلم النّاس يظلم
وهذا إنما معناه الخصوص، لأنه ليس كل من لا يظلم يظلم، فهذه
جهة أخرى تدل على أن العموم غير مترتب، وما احتجوا به من قول
زيد بن ثابت فليس كما ذكروه، وإنما أراد زيد أن هذه الآية نزلت
بعد سورة الفرقان، ومراده باللينة قوله تعالى: وَلا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا
بِالْحَقِّ [الفرقان: 68] ، وإن كان المهدوي قد حكى عنه أنه
قال: أنزلت الآية وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً بعد
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
[النساء: 48- 116] بأربعة أشهر فإذا دخله التخصيص، فالوجه أن
هذه الآية مخصوصة في الكافر يقتل المؤمن، أما على ما روي أنها
نزلت في شأن مقيس بن حبابة، حين قتل أخاه هشام بن حبابة رجل من
الأنصار، فأخذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم الدية، ثم بعثه
مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر ما، فعدا عليه مقيس فقتله ورجع
إلى مكة مرتدا، وجعل ينشد: [الطويل]
قتلت به فهرا وحمّلت عقله ... سراة بني النّجّار أرباب فارع
حللت به وتري وأدركت ثورتي ... وكنت إلى الأوثان أوّل راجع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أؤمنه في حل ولا في
حرم» ، وأمر بقتله يوم فتح مكة، وهو متعلق بالكعبة، وأما أن
يكون على ما حكي عن ابن عباس أنه قال مُتَعَمِّداً معناه
مستحلا لقتله. فهذا يؤول أيضا إلى الكفر، وفي المؤمن الذي قد
سبق في علم الله أنه يعذبه بمعصيته على ما قدمنا من تأويل،
فجزاؤه أن جازاه، ويكون قوله خالِداً إذا كانت في المؤمن بمعنى
باق مدة طويلة على نحو دعائهم للملوك بالتخليد ونحو ذلك، ويدل
على هذا سقوط قوله «أبدا» فإن التأبيد لا يقترن بالخلود إلا في
ذكر الكفار.
واختلف العلماء في قبول توبة القاتل، فجماعة على أن لا تقبل
توبته، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر، وكان ابن
عباس يقول: الشرك والقتل مبهمان، من مات عليهما خلد، وكان
يقول:
هذه الآية مدنية نسخت الآية التي في الفرقان، إذ الفرقان مكية
والجمهور على قبول توبته، وروي عن بعض العلماء أنهم كانوا
يقصدون الإغلاظ والتخويف أحيانا، فيطلقون: لا تقبل توبة
القاتل، منهم ابن شهاب كان إذا سأله من يفهم منه أنه قد قتل
قال له: توبتك مقبولة، وإذا سأله من لم يفعل، قال له: لا توبة
للقاتل، ومنهم ابن عباس وقع عنه في تفسير عبد بن حميد أن رجلا
سأله أللقاتل توبة؟ فقال له: لا توبة للقاتل وجزاؤه جهنم، فلما
مضى السائل قال له أصحابه: ما هكذا كنا نعرفك تقول إلا أن
للقاتل التوبة، فقال لهم: إني رأيته مغضبا وأظنه يريد أن يقتل،
فقاموا فطلبوه وسألوا عنه، فإذا هو كذلك. وذكر هبة الله في
كتاب الناسخ والمنسوخ له: أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:
وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48- 116]
وقال: هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر، فإنهما قالا: هي
محكمة.
(2/95)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ
السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
(94)
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفيما قاله
هبة الله نظر، لأنه موضع عموم وتخصيص، لا موضع نسخ، وإنما ركب
كلامه على اختلاف الناس في قبول توبة القاتل. والله أعلم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى
إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ
الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ
كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً
(94)
تقول العرب: ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره
مقترنة ب «في» ، وتقول: ضربت الأرض دون «في» إذا قصدت قضاء
حاجة الإنسان، ومنه قول- النبي عليه السلام: «لا يخرج الرجلان
يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فرجيهما فإن الله يمقت على
ذلك» ، وسبب هذه الآية: أن سرية من سرايا رسول الله لقيت رجلا
له جمل ومتيع، وقيل غنيمة، فسلم على القوم وقال: لا إله إلا
الله محمد رسول الله، فحمل عليه أحدهم فقتله، فشق ذلك على رسول
الله ونزلت الآية فيه، واختلف المفسرون في تعيين القاتل
والمقتول في هذه النازلة، فالذي عليه الأكثر- وهو في سيرة ابن
إسحاق وفي مصنف أبي داود وغيرهما: أن القاتل محلم بن جثامة
والمقتول عامر بن الأضبط، والحديث بكماله في المصنف لأبي داود،
وفي السير وفي الاستيعاب، وقالت فرقة: القاتل أسامة بن زيد،
والمقتول مرداس بن نهيك الغطفاني، وقالت فرقة: القاتل أبو
قتادة، وقالت فرقة: القاتل غالب الليثي، والمقتول مرداس، وقالت
فرقة: القاتل هو أبو الدرداء، ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض
حين مات هو محلم بن جثامة.
وقرأ جمهور السبعة فَتَبَيَّنُوا وقرأ حمزة والكسائي «فتثبتوا»
بالثاء مثلثة في الموضعين وفي الحجرات، وقال قوم: «تبينوا»
أبلغ وأشد من «تثبتوا» ، لأن المتثبت قد لا يتبين، وقال أبو
عبيد: هما متقاربان.
قال القاضي أبو محمد: والصحيح ما قال أبو عبيد، لأن تبين الرجل
لا يقتضي أن الشيء بان له، بل يقتضي محاولة اليقين، كما أن ثبت
تقتضي محاولة اليقين، فهما سواء، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة
وابن كثير في بعض طرقه، «السّلم» بتشديد السين وفتحه وفتح
اللام، ومعناه: الاستسلام أي ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر
دعوتكم، وقرأ بقية السبعة «السلام» يريد سلم ذلك المقتول على
السرية، لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده، ويحتمل
أن يراد به الانحياز والترك، قال الأخفش: يقال: فلان سلام إذا
كان لا يخالط أحدا، وروي في بعض طرق عاصم «السّلم» بكسر السين
وشده وسكون اللام وهو الصلح، والمعنى المراد بهذه الثلاثة
يتقارب، وقرأ الجحدري «السّلم» بفتح السين وسكون اللام،
والعرض: هو المتيع والجمل، أو الغنيمة التي كانت للرجل
المقتول، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو حمزة واليماني «لست
مؤمنا» بفتح الميم، أي لسنا نؤمنك في نفسك، وقوله تعالى:
فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ عدة بما يأتي به الله على
وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور أي فلا تتهافتوا.
(2/96)
لَا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ
الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ
غَفُورًا رَحِيمًا (96)
واختلف المتأولون في قوله تعالى: كَذلِكَ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فقال سعيد بن جبير: معناه كنتم مستخفين
من قومكم بإسلامكم، خائفين منهم على أنفسكم، فمنّ الله عليكم
بإعزاز دينكم، وإظهار شريعتكم، فهم الآن كذلك، كل واحد منهم
خائف من قومه، متربص أن يصل إليكم فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه
حتى تتبينوا أمره، وقال ابن زيد: كذلك كنتم كفرة فمنّ الله
عليكم بأن أسلمتم، فلا تنكروا أن يكون هو كافرا ثم يسلم لحينه
حين لقيكم، فيجب أن يتثبت في أمره، ويحتمل أن يكون المعنى
إشارة بذلك إلى القتل قبل التثبت، أي على هذه الحال كنتم في
جاهليتكم لا تتثبتون، حتى جاء الله بالإسلام ومنّ عليكم، ثم
أكد تبارك وتعالى الوصية بالتبين، وأعلم أنه خبير بما يعمله
العباد، وذلك منه خبر يتضمن تحذيرا منه تعالى، لأن المعنى
إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً، فاحفظوا
نفوسكم، وجنبوا الزلل الموبق بكم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً
وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ
الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95)
دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ
غَفُوراً رَحِيماً (96)
في قوله: لا يَسْتَوِي إبهام على السامع هو أبلغ من تحديد
المنزلة التي بين المجاهد والقاعد، فالمتأمل يمشي مع فكرته ولا
يزال يتخيل الدرجات بينهما، والْقاعِدُونَ عبارة عن المتخلفين،
إذ القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب،
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة، «غير أولي الضرر» برفع الراء
من غير، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي «غير» بالنصب، واختلف عن
عاصم، فروي عنه الرفع والنصب، وقرأ الأعمش وأبو حيوة «غير»
بكسر الراء فمن رفع جعل غير صفة للقاعدين عند سيبويه، كما هي
عنده صفة في قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ [الفاتحة: 7] بجر
غير صفة، ومثله قول لبيد: [الرمل]
وإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنّما يجزى الفتى غير الجمل
قال المؤلف: كذا ذكره أبو علي، ويروى ليس الجمل، ومن قرأ بنصب
الراء جعله استثناء من القاعدين، قال أبو الحسن: ويقوي ذلك
أنها نزلت بعدها على طريق الاستثناء والاستدراك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد يتحصل الاستدراك بتخصيص
القاعدين بالصفة، قال الزجّاج: يجوز أيضا في قراءة الرفع أن
يكون على جهة الاستثناء، كأنه قال: «لا يستوي القاعدون
والمجاهدون إلا أولو الضرر» فإنهم يساوون المجاهدين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا مردود، لأن أُولِي
الضَّرَرِ لا يساوون المجاهدين، وغايتهم أن خرجوا من التوبيخ
والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر، قال: ويجوز في قراءة
نصب
(2/97)
الراء أن يكون على الحال، وأما كسر الراء
فعلى الصفة للمؤمنين، وروي من غير طريق أن الآية نزلت لا
يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجاهِدُونَ
فجاء ابن أم مكتوم حين سمعها، فقال: يا رسول الله هل من رخصة؟
فإني ضرير البصر فنزلت عند ذلك غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ قال
الفلتان بن عاصم كنا قعودا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل
عليه، وكان إذا أوحي إليه دام بصره مفتوحة عيناه وفرغ سمعه
وبصره لما يأتيه من الله، وكنا نعرف ذلك في وجهه، فلما فرغ قال
للكاتب: اكتب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُجاهِدُونَ إلى آخر الآية. قال: فقام الأعمى، فقال: يا
رسول الله ما ذنبنا؟ قال: فأنزل الله على رسوله، فقلنا للأعمى:
إنه ينزل عليه. قال: فخاف أن ينزل فيه شيء فبقي قائما مكانه
يقول: أتوب إلى رسول الله حتى فرغ رسول الله، فقال الكاتب:
اكتب غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وأولو الضرر هم أهل الأعذار إذ
قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد. قاله ابن عباس وغيره. وقوله
تعالى: بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ هي الغاية في كمال
الجهاد. ولما كان أهل الديوان متملكين بذلك العطاء يصرفون في
الشدائد وتروعهم البعوث والأوامر. قال بعض العلماء: هم أعظم
أجرا من المتطوع لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار
ونحوها. واحتج بهذه الآية المظهرة لفضل المال من قال: إن الغنى
أفضل من الفقر وإن متعلقه بها لبين.
وفسر الناس الآية على أن تكملة التفضيل فيها ب «الدرجة» ثم
بالدرجات إنما هو مبالغة وتأكيد وبيان، وقال ابن جريج الفضل
بدرجة هو على القاعدين من أهل العذر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لأنهم مع المؤمنين بنياتهم كما
قال النبي عليه السلام في غزوة تبوك «إن بالمدينة رجالا ما
قطعنا واديا ولا سلكنا جبلا ولا طريقا إلا وهم معنا حبسهم
العذر» قال ابن جريج. والتفضيل «بالأجر العظيم والدرجات» هو
على القاعدين من غير أهل العذر، والْحُسْنى الجنة، وهي التي
وعدها المؤمنون، وكذلك قال السدي وغيره.
وقال ابن محيريز: «الدرجات» هي درجات في الجنة، سبعون، ما بين
الدرجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة، وقال بهذا القول
الطبري ورجحه، وقال ابن زيد: «الدرجات» في الآية هي السبع
المذكورات في سورة براءة، فهي قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 120] الآيات فذكر فيها الموطئ الغائظ
للكفار، والنيل من العدو، والنفقة الصغيرة والكبيرة، وقطع
الأودية والمسافات.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ودرجات الجهاد لو حصرت أكثر من
هذه، لكن يجمعها بذل النفس والاعتمال بالبدن والمال في أن تكون
كلمة الله هي العليا، ولا شك أن بحسب مراتب الأعمال ودرجاتها
تكون مراتب الجنة ودرجاتها، فالأقوال كلها متقاربة، وباقي
الآية وعد كريم وتأنيس. ونصب دَرَجاتٍ إما على البدل من الأجر،
وإما على إضمار فعل على أن تكون تأكيدا للأجر، كما تقول: لك
عليّ ألف درهم عرفا، كأنك قلت أعرفها عرفا.
قوله تعالى:
(2/98)
إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا
فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ
قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا
فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
(97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ
سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ
عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ
يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ
مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ
الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
[سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 100]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي
أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ
جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ
حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى
اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا
غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي
الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)
المراد بهذه الآية إلى قوله مَصِيراً جماعة من أهل مكة كانوا
قد أسلموا وأظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به، فلما
هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا مع قومهم، وفتن منهم
جماعة فافتتنوا، فلما كان أمر بدر خرج منهم قوم مع الكفار
فقتلوا ببدر، فنزلت الآية فيهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما،
كان قوم من أهل مكة قد أسلموا وكانوا يستخفون بإسلامهم،
فأخرجهم المشركون يوم بدر فأصيب بعضهم، فقال المسلمون كان
أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الآية. قال: فكتب إلى من
بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، أن لا عذر لهم، فخرجوا
فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية الأخرى،
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا
أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ
اللَّهِ [العنكبوت: 10] الآية فكتب إليهم المسلمون بذلك فخرجوا
ويئسوا من كل خير. ثم نزلت فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا
وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
[النحل: 110] فكتبوا إليهم بذلك، أن الله قد جعل لكم مخرجا
فخرجوا فلحقهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل،
وقال عكرمة: نزلت هذه الآية في خمسة قتلوا ببدر، وهم قيس بن
الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن أسد، وقيس بن
الوليد بن المغيرة، وأبو العاصي بن منبه بن الحجاج، وعلي بن
أمية بن خلف، قال النقاش: في أناس سواهم أسلموا ثم خرجوا إلى
بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: غر هؤلاء دينهم.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: وكان العباس ممن خرج مع
الكفار لكنه نجا وأسر، وكان من المطعمين في نفير بدر، قال
السدي: لما أسر العباس وعقيل ونوفل، قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم للعباس: افد نفسك وابن أخيك، فقال له العباس: يا
رسول الله، ألم نصل قبلتك ونشهد شهادتك؟ قال «يا عباس: إنكم
خاصمتم فخصمتم» ، ثم تلا عليه هذه الآية أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها قال السدي: فيوم نزلت هذه
الآية كان من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر، إلا من لا
يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: وفي هذا الذي قاله السدي
نظر، والذي يجري مع الأصول أن من مات من أولئك بعد أن قبل
الفتنة وارتد فهو كافر ومأواه جهنم على جهة الخلود، وهذا هو
ظاهر أمر تلك الجماعة وإن فرضنا فيهم من مات مؤمنا وأكره على
الخروج، أو مات بمكة فإنما هو عاص في ترك الهجرة، مأواه جهنم
على جهة العصيان دون خلود، لكن لما لم يتعين أحد أنه مات على
الإيمان لم يسغ ذكرهم في الصحابة، ولم يعتد بما كان عرف منهم
قبل، ولا حجة للمعتزلة في شيء من أمر هؤلاء على
(2/99)
تكفيرهم بالمعاصي، وأما العباس فقد ذكر ابن
عبد البر رحمه الله أنه أسلم قبل بدر، ولذلك قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم في يوم بدر من لقي العباس فلا يقتله، فإنما
أخرج كرها.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق- رحمه الله- وذكر أنه إنما أسلم
مأسورا حين ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم أمر المال الذي
ترك عند أم الفضل، وذكر أنه أسلم في عام خيبر، وكان يكتب إلى
رسول الله بأخبار المشركين، وكان يحب أن يهاجر، فكتب إليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن امكث بمكة فمقامك بها أنفع لنا.
قال القاضي أبو محمد: لكن عامله رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين أسر على ظاهر أمره.
وقوله تعالى: تَوَفَّاهُمُ يحتمل أن يكون فعلا ماضيا لم يستند
بعلامة تأنيث، إذ تأنيث لفظ الْمَلائِكَةُ غير حقيقي، ويحتمل
أن يكون فعلا مستقبلا على معنى تتوفاهم، فحذفت إحدى التاءين
ويكون في العبارة إشارة إلى ما يأتي من هذا المعنى في المستقبل
بعد نزول الآية. وقرأ إبراهيم «توفاهم» بضم التاء، قال أبو
الفتح: كأنه يدفعون إلى الملائكة ويحتسبون عليهم. و «توفاهم»
بفتح التاء معناه: تقبض أرواحهم، وحكى ابن فورك عن الحسن أن
المعنى: تحشرهم إلى النار وظالِمِي أَنْفُسِهِمْ نصب على الحال
أي ظالميها بترك الهجرة، قال الزجّاج: حذفت النون من «ظالمين»
تخفيفا، كقوله تعالى: بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:
95] ، وقول الملائكة فِيمَ كُنْتُمْ؟ تقرير وتوبيخ، وقول هؤلاء
كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ اعتذار غير صحيح، إذ
كانوا يستطيعون الحيل ويهتدون السبيل ثم وقفتهم الملائكة على
ذنبهم بقولهم أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً والأرض في
قول هؤلاء هي أرض مكة خاصة، وأَرْضُ اللَّهِ هي الأرض
بالإطلاق. والمراد فتهاجروا فيها إلى موضع الأمن، وهذه المقالة
إنما هي بعد توفي الملائكة لأرواح هؤلاء. وهي دالة على أنهم
ماتوا مسلمين، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شيء من هذا،
وإنما أضرب عن ذكرهم في الصحابة لشدة ما واقعوه، ولعدم تعين
أحد منهم بالإيمان، ولاحتمال ردته، وتوعدهم الله تعالى بأن
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ.
ثم استثنى منهم من كان استضعافه على حقيقة من زمنة الرجال
وضعفة النساء والولدان، كعياش بن أبي ربيعة والوليد بن هشام
وغيرهما، قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين، هي من
النساء وأنا من الولدان، والحيلة: لفظ عام لأسباب أنواع
التخلص، و «السبيل» : سبيل المدينة فيما ذكر مجاهد والسدي
وغيرهما والصواب أنه عام في جميع السبل.
ثم رجّى الله تعالى هؤلاء بالعفو عنهم، وعَسَى من الله واجبة.
أما أنها دالة على ثقل الأمر المعفو عنه، قال الحسن: عَسَى من
الله واجبة، قال غيره: هي بمنزلة الوعد، إذ ليس يخبر ب عَسَى
عن شك ولا توقع، وهذا يرجع إلى الوجوب، قال آخرون: هي على
معتقد البشر، أي ظنكم بمن هذه حاله ترجّي عفو الله عنه.
والمراغم: المتحول والمذهب، كذا قال ابن عباس والضحاك والربيع
وغيرهم، ومنه قول النابغة الجعدي: [المتقارب]
(2/100)
كطود يلاذ بأركانه ... عزيز المراغم
والمذهب
وقول الآخر: [المتقارب]
إلى بلد غير داني المحل ... بعيد المراغم والمضطرب
وقال مجاهد: «المراغم» المتزحزح عما يكره. وقال ابن زيد:
«المراغم» المهاجر، وقال السدي:
«المراغم» المبتغى للمعيشة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وهذا كله تفسير بالمعنى، فأما
الخاص باللفظة، فإن «المراغم» موضع المراغمة، وهو أن يرغم كل
واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده، فكفار قريش
أرغموا أنوف المحبوسين بمكة، فلو هاجر منهم مهاجر في أرض الله
لأرغم أنوف قريش بحصوله في منعة منهم، فتلك المنعة هي موضع
المراغمة. وكذلك الطود الذي ذكر النابغة، من صعد فيه أمام طالب
له وتوقل فقد أرغم أنف ذلك الطالب. وقرأ نبيح والجراح والحسن
بن عمران «مرغما» بفتح الميم وسكون الراء دون ألف. قال أبو
الفتح: هذا إنما هو على حذف الزوائد من راغم، والجماعة على
«مراغم» ، وقال ابن عباس والربيع والضحاك وغيرهم: السَّعَةِ
هنا هي السعة في الرزق، وقال قتادة: المعنى سعة من الضلالة إلى
الهدى ومن العيلة إلى الغنى، وقال مالك: السعة سعة البلاد.
قال القاضي رحمه الله: والمشبه لفصاحة العرب أن يريد سعة الأرض
وكثرة المعاقل، وبذلك تكون «السعة» في الرزق واتساع الصدر
لهمومه وفكره وغير ذلك من وجوه الفرح، ونحو هذا المعنى قول
الشاعر [حطان بن المعلّى] .
لكان لي مضطرب واسع ... في الأرض ذات الطّول والعرض
ومنه قول الآخر: [الوافر]
وكنت إذا خليل رام قطعي ... وجدت وراي منفسحا عريضا
وهذا المعنى ظاهر من قوله تعالى: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ
واسِعَةً وقال مالك بن أنس رضي الله عنه:
الآية تعطي أن كل مسلم ينبغي أن يخرج من البلاد التي تغير فيها
السنن ويعمل فيها بغير الحق، وقوله تعالى وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ الآية: حكم باق في الجهاد والمشي إلى الصلاة والحج
ونحوه، أما أنه لا يقال: إن بنفس خروجه ونيته حصل في مرتبة
الذي قضى ذلك الفرض أو العبادة في الجملة، ولكن يقال:
وقع له بذلك أجر عظيم، وروي: أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من
كنانة، وقيل: من خزاعة من بني ليث، وقيل: من جندع، لما سمع قول
الله عز وجل الذين لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ
سَبِيلًا قال:
إني لذو مال وعبيد- وكان مريضا- فقال: أخرجوني إلى المدينة،
فأخرج في سرير فأدركه الموت بالتنعيم، فنزلت الآية بسببه،
واختلف في اسمه، فحكى الطبري عن ابن جبير: أنه ضمرة بن العيص،
أو العيص بن ضمرة بن زنباع، وحكي عن السدي: أنه ضمرة بن جندب،
وحكي عن عكرمة: أنه جندب بن ضمرة الجندعي، وحكي عن ابن جبير
أيضا: أنه ضمرة بن بغيض الذي من بني ليث، وحكى أبو عمر بن عبد
البر: أنه ضمرة بن العيص، وحكى المهدوي: أنه ضمرة بن نعيم،
وقيل: ضمرة بن خزاعة، وقرأت
(2/101)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا
مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا
مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ
الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا
مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا
فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ
عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ
مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ
بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا
أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ
لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
الجماعة «ثم يدركه الموت» بالجزم عطفا على
يَخْرُجْ وقرأ طلحة بن سليمان وإبراهيم النخعي فيما ذكر أبو
عمرو «ثم يدركه» برفع الكاف- قال أبو الفتح: هذا رفع على أنه
خبر مبتدأ محذوف، أي: ثم هو يدركه الموت فعطف الجملة من
المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم بفاعله، فهما إذن جملة،
فكأنه عطف جملة على جملة، وعلى هذا حمل يونس بن حبيب قول
الأعشى: [البسيط]
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنّا معشر نزل
المراد وأنتم تنزلون وعليه قول الآخر [رويشد بن كثير الطائي] :
[البسيط]
إن تذنبوا ثمّ تأتيني بقيتكم ... فما عليّ بذنب عندكم فوت
المعنى: ثم أنتم تأتيني. وهذا أوجه من أن يحمله على قول الآخر:
[الوافر]
ألم يأتيك والأنباء تنمى
وقرأ الحسن بن أبي الحسن وقتادة ونبيح والجراح «ثم يدركه» بنصب
الكاف وذلك على إضمار «أن» كقول الأعشى: [الطويل]
لنا هضبة لا ينزل الذّلّ وسطها ... ويأوي إليها المستجير
فيعصما
أراد: فأن يعصم- قال أبو الفتح: وهذا ليس بالسهل وإنما بابه
الشعر لا القرآن، وأنشد ابن زيد:
[الوافر]
سأترك منزلي لبني تميم ... والحق بالحجاز فأستريحا
والآية أقوى من هذا لتقدم الشرط قبل المعطوف.
قال القاضي أبو محمد: ومن هذه الآية رأى بعض العلماء أن من مات
من المسلمين وقد خرج غازيا فله سهمه من الغنيمة، قاسوا ذلك على
«الأجر» ، وقد تقدم معنى الهجرة فيما سلف ووقع عبارة عن الثبوت
وقوة اللزوم وكذلك هي- وجب- لأن الوقوع والوجوب نزول في
الأجرام بقوة. فشبه لازم المعاني بذلك.
وباقي الآية بيّن.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 102]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا
لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ
فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا
فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى
لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ
فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ
مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102)
ضَرَبْتُمْ معناه: سافرتم. فأهل الظاهر يرون القصر في كل سفر
يخرج عن الحاضرة، وهي من حيث تؤتى الجمعة، وهذا قول ضعيف،
واختلف العلماء في حد المسافة التي تقصر فيها الصلاة، فقال
مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وابن راهويه: تقصر الصلاة في
أربعة برد، وذلك ثمانية وأربعون ميلا.
(2/102)
وحجتهم أحاديث رويت في ذلك عن ابن عمر وابن
عباس، وقال الحسن والزهري: تقصر الصلاة في مسيرة يومين ولم
يذكرا أميالا، وروي هذا القول عن مالك، وروي عنه أيضا: تقصر
الصلاة في يوم وليلة، وهذه الأقوال الثلاثة تتقارب في المعنى،
وروي عن ابن عباس وابن عمر: أن الصلاة تقصر في مسيرة اليوم
التام، وقصر ابن عمر في ثلاثين ميلا، وعن مالك في العتبية فيمن
خرج إلى ضيعته على مسيرة خمسة وأربعين ميلا، قال: يقصر، وعن
ابن القاسم في العتبية: أن قصر في ستة وثلاثين فلا إعادة عليه،
وقال يحيى بن عمر: يعيد أبدا، وقال ابن عبد الحكم: في الوقت،
وقال ابن مسعود وسفيان والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن: من
سافر مسيرة ثلاث قصر، قال أبو حنيفة: ثلاثة أيام ولياليها سير
الإبل ومشي الأقدام، وروي عن أنس بن مالك: أنه قصر في خمسة عشر
ميلا، قال الأوزاعي: عامة العلماء في القصر في مسيرة اليوم
التام، وبه نأخذ.
واختلف الناس في نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فأجمع الناس
على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم وإحياء نفس،
واختلف الناس فيما سوى ذلك، فالجمهور على جواز القصر في السفر
المباح، كالتجارة ونحوها، وروي عن ابن مسعود أنه قال: لا تقصر
الصلاة إلا في حج أو جهاد، وقال عطاء لا تقصر الصلاة إلا في
سفر طاعة وسبيل من سبل الخير، وقد روي عن عطاء أنها تقصر في كل
المباح، والجمهور من العلماء على أنه لا قصر في سفر المعصية،
كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما، وروي عن الأوزاعي وأبي
حنيفة إباحة القصر في جميع ذلك. وجمهور العلماء على أن المسافر
لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية، وحينئذ هو ضارب في الأرض،
وهو قول مالك في المدونة وابن حبيب وجماعة المذهب، قال ابن
القاسم في المدونة: ولم يحد لنا مالك في القرب حدا، وروي عن
مالك إذا كانت قرية يجمع أهلها فلا يقصر حتى يجاوزها بثلاثة
أميال وإلى ذلك في الرجوع، وإن كانت لا يجمع أهلها قصر إذا
جاوز بساتينها، وروي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا
فصلى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من
أصحاب ابن مسعود، وبه قال عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى،
وروي عن مجاهد أنه قال: لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل،
وهو شاذ، وقد ثبت أن النبي عليه السلام صلى الظهر بالمدينة
أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، وليس بينهما ثلث يوم، ويظهر
من قوله تعالى فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا أن
القصر مباح أو مخير فيه، وقد روى ابن وهب عن مالك: أن المسافر
مخير، وقاله الأبهري، وعليه حذاق المذهب، وقال مالك في
المبسوط: القصر سنة. وهذا هو جمهور المذهب، وعليه جواب المدونة
بالإعادة في الوقت لمن أتم في سفره، وقال محمد بن سحنون
وإسماعيل القاضي: القصر فرض، وبه قال حماد بن أبي سليمان، وروي
نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وروي عن ابن عباس أنه قال: من صلى
في السفر أربعا فهو كمن صلى في الحضر ركعتين، وحكى ابن المنذر
عن عمر بن الخطاب: أنه قال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر
على لسان نبيكم، وقد خاب من افترى، ويؤيد هذا قول عائشة: فرضت
الصلاة ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في
صلاة الحضر، واختلف العلماء في معنى قوله تعالى: أَنْ
تَقْصُرُوا فذهب جماعة من العلماء إلى أنه القصر إلى اثنين من
أربع، روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: سأل قوم من التجار رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنّا نضرب
(2/103)
في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ثم انقطع الكلام، فلما كان بعد
ذلك بحول غزا النبي عليه السلام، فصلى الظهر، فقال المشركون:
لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، فهلا شددتم عليهم، فقال
قائل منهم: إن لهم أخرى في أثرها، فأنزل الله تعالى بين
الصلاتين إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
إلى آخر صلاة الخوف، وذكر الطبري في سرد هذه المقالة حديث يعلى
بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب، إن الله تعالى يقول إِنْ
خِفْتُمْ وقد أمن الناس، فقال عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول
الله عن ذلك فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» ،
قال الطبري: وهذا كله قول حسن، إلا أن قوله تعالى: وَإِذا
كُنْتَ تؤذن بانقطاع ما بعدها مما قبلها، فليس يترتب من لفظ
الآية، إلا أن القصر مشروط بالخوف، وفي قراءة أبيّ بن كعب «أن
تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا» - بسقوط إِنْ
خِفْتُمْ وثبتت في مصحف عثمان رضي الله عنه، وذهبت جماعة أخرى
إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة القصر في السفر للخائف من
العدو، فمن كان آمنا فلا قصر له، وروي عن عائشة أنها كانت تقول
في السفر: أتموا صلاتكم، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يقصر، فقالت: إنه كان في حرب وكان يخاف، وهل أنتم
تخافون؟ وقال عطاء: كان يتم الصلاة من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم عائشة وسعد بن أبي وقاص، وأتم عثمان بن عفان،
ولكن
علل ذلك بعلل غير هذه، وكذلك علل إتمام عائشة أيضا بغير هذا
وقال آخرون: القصر المباح في هذه الآية إنما هو قصر الركعتين
إلى ركعة، والركعتان في السفر إنما هي تمام، وقصرها أن تصير
ركعة، قال السدي: إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام، والقصر
لا يحل إلا أن يخاف، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة
لا تزيد عليها شيئا، ويكون للإمام ركعتان، وروي عن ابن عمر رضي
الله عنه أنه قال: ركعتان في السفر تمام غير قصر، إنما القصر
في صلاة المخافة يصلي الإمام بطائفة ركعة، ثم يجيء هؤلاء فيصلي
بهم ركعة، فتكون للإمام ركعتان ولهم ركعة، ركعة، وقال نحو هذا
سعيد بن جبير وجابر بن عبد الله وكعب من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم، وفعله حذيفة بطبرستان وقد سأله الأمير سعيد بن
العاصي ذلك، وروى ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى
كذلك في غزوة ذي قرد ركعة بكل طائفة ولم يقضوا، وقال مجاهد عن
ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي
السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، وروى جابر بن عبد الله: أن
النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بأصحابه يوم حارب خصفة وبني
ثعلبة، وروى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك
بين ضجنان وعسفان، وقال آخرون: هذه الآية مبيحة القصر من حدود
الصلاة وهيئتها عند المسايفة واشتعال الحرب، فأبيح لمن هذه
حاله أن يصلي إيماء برأسه، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه إلى
تكبيرتين إلى تكبيرة على ما تقدم من أقوال العلماء في تفسير
قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً
[البقرة: 239] ورجح الطبري هذا القول، وقال: إنه يعادله قوله
فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي بحدودها
وهيئتها الكاملة، وقرأ الجمهور «تقصروا» بفتح التاء وضم الصاد،
وروى الضبي عن أصحابه «تقصروا» بضم التاء وكسر الصاد وسكون
القاف وقرأ الزهري «تقصّروا» بضم التاء وفتح القاف وكسر الصاد
وشدها. ويَفْتِنَكُمُ معناه: يمتحنكم بالحمل عليكم وإشغال
نفوسكم في صلاتكم، ونحو
(2/104)
هذا قول صاحب الحائط: لقد أصابتني في مالي
هذا فتنة، وأصل الفتنة الاختبار بالشدائد، وإلى هذا المعنى
ترجع كيف تصرفت، وعدو وصف يجري على الواحد والجماعة، و «مبين»
مفعل من أبان، المعنى: قد جلحوا في عدواتكم وراموكم كل مرام.
وقوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ الآية قال جمهور الأمة:
الآية خطاب للنبي عليه السلام، وهو يتناول الأمراء بعده إلى
يوم القيامة، وقال أبو يوسف وإسماعيل بن علية: الآية خصوص
للنبي صلى الله عليه وسلم، لأن الصلاة بإمامة النبي عليه
السلام لا عوض منها، وغيره من الأمراء منه العوض، فيصلي الناس
بإمامين، طائفة بعد طائفة، ولا يحتاج إلى غير ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وكذلك جمهور العلماء على أن صلاة الخوف
تصلى في الحضر إذا نزل الخوف، وقال قوم: لا صلاة خوف في حضر،
وقاله في المذهب عبد الملك بن الماجشون، وقال الطبري:
فَأَقَمْتَ لَهُمُ معناه: حدودها وهيئتها، ولم تقصر على ما
أبيح قبل في حال المسايفة، وقوله فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
مَعَكَ، أمر بالانقسام، أي وسائرهم وجاه العدو حذرا وتوقع
حملته، وأعظم الروايات والأحاديث على أن صلاة الخوف إنما نزلت
الرخصة فيها في غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة محارب وخصفة، وفي
بعض الروايات: أنها نزلت في ناحية عسفان وضجنان، والعدو: خيل
قريش، عليها خالد بن الوليد، واختلف من المأمور بأخذ الأسلحة
هنا؟ فقيل الطائفة المصلية، وقيل: بل الحارسة.
قال القاضي أبو محمد: ولفظ الآية يتناول الكل، ولكن سلاح
المصلين ما خف، واختلفت الآثار في هيئة صلاة النبي عليه السلام
بأصحابه صلاة الخوف، وبحسب ذلك اختلف الفقهاء، فروى يزيد بن
رومان عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة أنه صلّى مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع، فصفت
طائفة معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت
قائما وأتموا ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة
الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا
وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم، وروى القاسم بن محمد عن صالح بن
خوات عن سهل هذا الحديث بعينه، إلا أنه روى أن النبي صلى الله
عليه وسلم حين صلّى بالطائفة الأخيرة ركعة، سلم، ثم قضت هي بعد
سلامه، وبهذا الحديث أخذ مالك رحمه الله في صلاة الخوف، كان
أولا يميل إلى رواية يزيد بن رومان، ثم رجع إلى رواية القاسم
بن محمد بن أبي بكر، وروى مجاهد وغيره عن ابن عياش الزرقي
واسمه زيد بن الصامت على خلاف فيه: أن النبي عليه السلام صلّى
صلاة الخوف بعسفان والعدو في قبلته، قال: فصلى بنا النبي صلى
الله عليه وسلم الظهر، فقال المشركون: لقد كانوا على حال لو
أصبنا غرتهم، فقالوا: تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من
أبنائهم وأنفسهم، قال: فنزل جبريل بين الظهر والعصر بهذه
الآيات، وأخبره خبرهم، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فصف العسكر خلفه صفين، ثم كبر فكبروا جميعا، ثم ركع فركعنا
جميعا، ثم رفع فرفعنا جميعا، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم
بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا
سجد الآخرون في مكانهم، ثم تقدموا إلى مصاف المتقدمين وتأخر
المتقدمون إلى مصاف المتأخرين، ثم ركع فركعوا جميعا، ثم رفع
فرفعوا جميعا، ثم سجد النبي فسجد الصف الذي يليه، فلما رفع سجد
الآخرون، ثم سلم فسلموا جميعا، ثم
(2/105)
انصرفوا، قال عبد الرزاق بن همام في مصنفه:
وروى الثوري عن هشام مثل هذا، إلا أنه قال: ينكص الصف المقدم
القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود، ويتقدم الآخرون فيسجدون
في مصاف الأولين، قال عبد الرزاق عن معمر عن خلاد بن عبد
الرحمن عن مجاهد قال: لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة
الخوف إلا مرتين، مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم، ومرة
بعسفان والمشركون بضجنان بينهم وبين القبلة.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر اختلاف الروايات عن النبي صلى الله
عليه وسلم يقتضي أنه صلى صلاة الخوف في غير هذين الموطنين،
وذكر ابن عباس أنه كان في غزوة ذي قرد صلاة خوف، وروى عبد الله
بن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة
والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام
أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك فصلى بهم النبي عليه
السلام ركعة، ثم سلم، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة في حين
واحد، وبهذه الصفة في صلاة الخوف أخذ أشهب رحمه الله، ومشى على
الأصل في أن لا يقضي أحد قبل زوال حكم الإمام، فكذلك لا يبني،
ذكر هذا عن أشهب جماعة منهم ابن عبد البر وابن يونس وغيرهما،
وحكى اللخمي عنه: أن مذهبه أن يصلي الإمام بطائفة ركعة ثم
ينصرفون تجاه العدو، وتأتي الأخرى فيصلي بهم ركعة ثم يسلم
وتقوم التي معه تقضي، فإذا فرغوا منه صاروا تجاه العدو، وقضت
الأخرى. وهذه سنة رويت عن ابن مسعود، ورجح ابن عبد البر القول
بما روي عن ابن عمر، وروي أن سهل بن أبي حثمة قد روي عنه مثل
ما روي عن ابن عمر سواء، وروى حذيفة حين حكى صلاة النبي عليه
السلام في الخوف: أنه صلى بكل طائفة ركعة، ولم يقض أحد من
الطائفتين شيئا زائدا على ركعة، وذكر ابن عبد البر وغيره عن
جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة
ركعتين، فكانت لرسول الله أربع، ولكل رجل ركعتان، وبهذه كان
يفتي الحسن بن أبي الحسن، وهو قول يجيزه كل من أجاز اختلاف نية
الإمام والمأموم في الصلاة، وقال أصحاب الرأي: إذا كانت صلاة
المغرب افتتح الإمام الصلاة ومعه طائفة، وطائفة بإزاء العدو،
فيصلي بالتي معه ركعتين، ثم يصيرون إلى إزاء العدو، وتأتي
الأخرى فيدخلون مع الإمام، فيصلي بهم ركعة ثم يسلم وحده، ثم
يقومون إلى إزاء العدو، وتأتي الطائفة التي صلت مع الإمام
ركعتين إلى مقامهم الأول في الصلاة، فيقضون ركعة وسجدتين
وحدانا ويسلمون، ثم يجيئون إلى إزاء العدو، وتنصرف الطائفة
الأخرى إلى مقام الصلاة، فيقضون ركعتين بقراءة وحدانا ويسلمون،
وكملت صلاتهم.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: وهذا طرد قول أصحاب الرأي في
سائر الصلوات، سأل مروان بن الحكم أبا هريرة، هل صليت مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ قال أبو هريرة:
نعم، قال مروان: متى؟ قال أبو هريرة: عام غزوة نجد: قام رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة،
وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة، فكبر رسول الله
وكبروا جميعا الذين معه والذين بإزاء العدو ثم ركع رسول الله
وركع معه الذين معه وسجدوا كذلك ثم قام رسول الله صلى الله
عليه وسلم فصارت الطائفة التي كانت معه إلى إزاء العدو وأقبلت
الطائفة التي كانت بإزاء العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله قائم
كما هو ثم قاموا فركع رسول الله ركعة أخرى وركعوا معه وسجد
فسجدوا
(2/106)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ
الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى
جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا
مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ
إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا
تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
معه ثم أقبلت الطائفة التي كانت بإزاء
العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله قاعد ثم كان السلام فسلم رسول
الله وسلموا جميعا. وأسند أبو داود في مصنفه عن عائشة رضي الله
عنها صفة في صلاة النبي صلاة الخوف تقرب مما روي عن أبي هريرة
وتخالفها في أشياء إلا أنها صفة صلاة الخوف من لدن قول أبي
يوسف وابن علية أحد عشر قولا منع صلاة الخوف لكونها خاصة النبي
صلى الله عليه وسلم وعشر صفات على القول الشهير فإنها باقية
للأمراء.
الضمير في سَجَدُوا للطائفة المصلية والمعنى: فإذا سجدوا معك
الركعة الأولى فلينصرفوا، هذا على بعض الهيئات المروية
والمعنى: فإذا سجدوا ركعة القضاء وهذا على هيئة سهل بن أبي
حثمة، والضمير في قوله: فَلْيَكُونُوا يحتمل أن يكون للذين
سجدوا ويحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولا بإزاء العدو ويجيء
الكلام وصاة في حال الحذر والحرب، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق
«فلتقم» بكسر اللام، وقرأ الجمهور وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ بالتاء،
وقرأ أبو حيوة «وليأت» بالياء، وقوله تعالى: وَدَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا الآية إخبار عن معتقد القوم وتحذير من الغفلة، لئلا
ينال العدو أمله. وأسلحة جمع سلاح، وفي قوله تعالى:
مَيْلَةً واحِدَةً بناء مبالغة أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى
ثانية، وقوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ الآية ترخيص، قال
ابن عباس: نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضا فوضع سلاحه
فعنفه بعض الناس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: كأنهم تلقوا الأمر بأخذ السلاح
على الوجوب، فرخص الله تعالى في هاتين الحالتين، وينقاس عليهما
كل عذر يحدث في ذلك الوقت، ثم قوى الله تعالى نفوس المؤمنين
بقوله إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 103 الى 104]
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً
وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) وَلا تَهِنُوا فِي
ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ
يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا
يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)
ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو إثر
صلاة الخوف، على حد ما أمروا عند
(2/107)
إِنَّا أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا
(105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا
رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ
أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا
أَثِيمًا (107)
قضاء المناسك بذكر الله، فهو ذكر باللسان،
وذهب قوم إلى أن قَضَيْتُمُ بمعنى فعلتم، أي إذا تلبستم
بالصلاة فلتكن على هذه الهيئات بحسب الضرورات: المرض، وغيره،
وبحسب هذه الآية رتب ابن المواز صلاة المريض فقال: يصلي قاعدا
فإن لم يطق فعلى جنبه الأيمن، فإن لم يطق فعلى الأيسر، فإن لم
يطق فعلى الظهر، ومذهب مالك في المدونة التخيير، لأنه قال:
فعلى جنبه أو على ظهره، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أنه قال:
يبتدىء بالظهر ثم بالجنب، قال ابن حبيب: وهو وهم، قال اللخمي:
وليس بوهم، بل هو أحكم في استقبال القبلة، وقال سحنون: يصلي
على جنبه الأيمن كما يجعل في قبره، فإن لم يقدر فعلى ظهره، و
«الطمأنينة» في الآية: سكون النفس من الخوف، وقال بعض
المتأولين: المعنى:
فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر فأقيموها تامة أربعا، وقوله
تعالى: كِتاباً مَوْقُوتاً معناه: منجما في أوقات، هذا ظاهر
اللفظ، وروي عن ابن عباس: أن المعنى فرضا مفروضا، فهما لفظان
بمعنى واحد كرر مبالغة.
وقوله تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ يبين أن
القضاء المشار إليه قبل، إنما هو قضاء صلاة الخوف، وتَهِنُوا
معناه تلينوا وتضعفوا، حبل واهن أي ضعيف، ومنه: وَهَنَ
الْعَظْمُ [مريم: 4] ، وابْتِغاءِ الْقَوْمِ: طلبهم، وقرأ عبد
الرحمن الأعرج «أن تكونوا» بفتح الألف، وقرأ يحيى بن وثاب
ومنصور بن المعتمر «تيلمون» في الثلاثة وهي لغة، وهذا تشجيع
لنفوس المؤمنين، وتحقير لأمر الكفرة، ومن نحو هذا المعنى قول
الشاعر [الشداخ بن يعمر الكناني] : [المنسرح]
القوم أمثالكم لهم شعر ... في الرّأس لا ينشرون إن قتلوا
ثم تأكد التشجيع بقوله تعالى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا
يَرْجُونَ وهذا برهان بيّن، ينبغي بحسبه أن تقوى نفوس
المؤمنين، وباقي الآية بيّن.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 107]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ
لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ
الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107)
في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتفويض إليه،
وتقويم أيضا على الجادة في الحكم، وتأنيب ما على قبول ما رفع
إليه في أمر بني أبيرق بسرعة، وقوله تعالى: بِما أَراكَ
اللَّهُ معناه:
على قوانين الشرع، إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي،
وقد تضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة، وقوله تعالى: وَلا
تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً سببها باتفاق من المتأولين أمر
بني أبيرق، وكانوا إخوة، بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلا
منافقا يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وينحل الشعر
غيره، فكان المسلمون يقولون: والله ما هو إلا شعر الخبيث، فقال
شعرا يتصل فيه، فمنه قوله:
أفكلما قال الرجال قصيدة ... نحلت وقالوا: ابن الأبيرق قالها
(2/108)
قال قتادة بن النعمان: وكان بنو أبيرق أهل
فاقة، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من دومك الشام فجعله في
مشربة له، وفي المشربة درعان له وسيفان، فعدي على المشربة من
الميل فنقبت وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة
فقال: يا بن أخي، تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت
مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، فقال: فتحسسنا في الدار وسألنا،
فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نراه
إلا على بعض طعامكم، قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا: «ونحن
نسأل» والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل، رجل منا له صلاح
وإسلام، فسمع ذلك لبيد فاخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال:
والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، قالوا: إليك
عنا أيها الرجل، فو الله ما أنت بصاحبنا فسألنا في الدار حتى
لم نشك أنهم أصحابها فقال لي عمي: يا بن أخي لو أتيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأخبرته بهذه القصة، فأتيته عليه السلام
فقصصتها عليه، فقال: انظر في ذلك، فلما سمع بذلك بنو أبيرق،
أتوا رجلا منهم يقال له: أسير بن عروة فكلموه في ذلك، واجتمع
إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل
بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة على بينة، قال قتادة:
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، قال: عمدت إلى أهل
بيت ذكر منهم إسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة عن غير بينة، قال:
فرجعت وقد وددت أن أخرج عن بعض مالي ولم أكلمه، فأتيت عمي
فقال: ما صنعت؟ فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن إِنَّا
أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الآيات. فالخائنون
بنو أبيرق، والبريء المرمي لبيد بن سهل، والطائفة التي همت:
أسير وأصحابه.
قال القاضي أبو محمد: وقال قتادة وغير واحد من المتأولين: هذه
القصة ونحوها إنما كان صاحبها طعمة بن أبيرق، ويقال فيه:
طعيمة، وقال السدي: القصة في طعمة بن أبيرق لكن بأن استودعه
يهودي درعا فجحده إياها وخانه فيها وطرحها في دار أبي مليل
الأنصاري، وأراد أن يرميه بسرقتها لما افتضح، وأبو مليل هو
البريء المشار إليه، وقال عكرمة: سرق طعمة بن أبيرق درعا من
مشربة ورمى بسرقتها رجلا من اليهود يقال له: زيد بن السمين.
قال القاضي أبو محمد: وجملة هذا يستدير على أن قوم طعمة أتوا
النبي وكلموه في أن يذب عن طعمة ويرفع الدعوى عنه، ودفعوا هم
عنه ومنهم من يعلم أنه سرق، فكانت هذه معصية من مؤمنيهم، وخلق
مقصود من منافقيهم فعصم الله رسوله من ذلك، ونبه على مقاله
لقتادة بن النعمان بقوله: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: وطعيمة بن أبيرق صرح
بعد ذلك بالارتداد وهرب إلى مكة، ونزل على سلافة فرماها حسان
بن ثابت بشعر، فأخذت رحل طعمة ورمت به في الأبطح وقالت:
اخرج عنا، أهديت إليّ شعر حسان، فروي: أنه نزل على الحجاج بن
علاط وسرقه فطرده، وروي أنه نقب حائط بيت ليسرقه فانهدم الحائط
عليه فقتله، وروي: أنه اتبع قوما من العرب فسرقهم فقتلوه.
وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ذهب الطبري إلى أن المعنى
استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين.
(2/109)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ
النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ
إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ
اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ
هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ
مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
قال القاضي أبو محمد: وهذا ليس بذنب، لأن
النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع عن الظاهر، وهو يعتقد
براءتهم، والمعنى: استغفر للمذنبين من أمتك والمتخاصمين في
الباطل، لا أن تكون ذا جدال عنهم، فهذا حدك، ومحلك من الناس أن
تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع، وتستغفر للمذنب.
وقوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ
أَنْفُسَهُمْ
لفظ عام يندرج طيه أصحاب النازلة ويتقرر به توبيخهم، وقوله
تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً
رفق وإبقاء، فإن الخوان: هو الذي تتكرر منه الخيانة، والأثيم:
هو الذي يقصدها، فيخرج من هذا الشديد الساقط مرة واحدة ونحو
ذلك مما يجيء من الخيانة بغير قصد أو على غفلة. واختيان
الأنفس: هو بما يعود عليها من الإثم والعقوبة في الدنيا
والآخرة.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 108 الى 110]
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ
الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها
أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ
مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110)
الضمير في يَسْتَخْفُونَ
للصنف المرتكب للمعاصي مستسرين بذلك عن الناس مباهتين لهم،
واندرج في طي هذا العموم، ودخل تحت هذه الأنحاء أهل الخيانة في
النازلة المذكورة، وأهل التعصب لهم والتدبير في خدع النبي صلى
الله عليه وسلم والتلبس عليه، ويحتمل أن يكون الضمير لأهل هذه
النازلة، ويدخل في معنى هذا التوبيخ كل من فعل نحو فعلهم،
ومعنى وَهُوَ مَعَهُمْ
بالإحاطة والعلم والقدرة، ويُبَيِّتُونَ
يدبرون ليلا، انطلقت العبارة على كل استسرار بهذا، إذ الليل
مظنة الاستتار والاختفاء، قال الطبري: وزعم بعض الطائيين: أن
التبييت في لغتهم التبديل، وأنشد للأسود بن عامر بن جوين
الطائي: [المتقارب]
وبيّت قولي عند الملي ... ك قاتلك الله عبدا كنودا
وقال أبو زيد يُبَيِّتُونَ
معناه: يؤلفون، ويحتمل أن تكون اللفظة مأخوذة من البيت، أي:
يستسرون في تدبيرهم بالجدرات.
وقوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
قد تقدمت وجوه القراءات فيه في سورة آل عمران، والخطاب بهذه
الآية للقوم الذين يتعصبون لأهل الريب والمعاصي، ويندرج طي هذا
العموم أهل النازلة، ويحتمل أن يكون الخطاب لأهل التعصب في هذه
النازلة وهو الأظهر عندي بحكم التأكيد ب هؤُلاءِ
، وهي إشارة إلى حاضرين، وقد تقدم إعراب مثل هذه الآية في سورة
آل عمران، «والمجادلة» : المدافعة بالقول وهي من فتل الكلام
وليه، إذ الجدل الفتل، وقوله تعالى: فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ
عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
وعيد محض، أي إن
(2/110)
وَمَنْ يَكْسِبْ
إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ
إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ
بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ
يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا
يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ
تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
الله يعلم حقيقة الأمر فلا يمكن أن يلبس
عليه بجدال ولا غيره، كما فعلتم بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذ
هو بشر يقضي على نحو ما يسمع.
ولما تمكن هذا الوعيد وقضت العقول بأن لا مجادل لله ولا وكيل
يقوم بأمور العصاة عنده، عقب ذلك هذا الرجاء العظيم، والمهل
المنفسح بقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ
نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
الآية. منحى من عمل السوء، وهما بمعنى واحد تكرر باختلاف لفظ
مبالغة، واستغفار الله تعالى مع التحقيق في ذلك توبة وقوله
تعالى: يَجِدِ اللَّهَ
استعارة، لما كانت الرحمة والغفران معدة للمستغفرين التائبين،
كانوا كالواجدين لمطلوب، وكأن التوبة ورود على رحمة الله وقرب
من الله، وقال عبد الله بن مسعود يوما في مجلسه: كان بنو
إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتبت كفارة ذلك الذنب على
بابه، وإذا أصاب البول شيئا من ثيابه قرضه بالمقراضين، فقال
رجل من القوم: لقد آتى الله بني إسرائيل خيرا، فقال عبد الله:
ما آتاكم الله خير مما آتاهم، جعل لكم الماء طهورا، وقال
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
الآية وهذه آية وعد بشرط المشيئة على ما تقتضيه عقيدة أهل
السنة، وفضل الله مرجو وهو المستعان.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 111 الى 113]
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ
احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما
يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
تقدم القول في معنى «الكسب» ، «والإثم» الحكم اللاحق عن
المعصية، ونسبة المرء إلى العقوبة فيها، وقوله: فَإِنَّما
يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
أي إياها يردي وبها يحل المكروه.
وقوله تعالى: خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
ذهب بعض الناس إلى أنهما لفظان بمعنى كرر لاختلاف اللفظ، وقال
الطبري: إنما فرق بين «الخطيئة والإثم» أن الخطيئة تكون عن عمد
وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد، وهذه الآية لفظها
عام، ويندرج تحت ذلك العموم وتوبيخه أهل النازلة المذكورة،
«وبريء» النازلة قيل: هو لبيد بن سهل، وقيل: هو زيد بن السمين
اليهودي، وقيل: أبو مليل الأنصاري، وقوله تعالى: فَقَدِ
احْتَمَلَ
تشبيه، إذ الذنوب ثقل ووزر، فهي كالمحمولات، وبُهْتاناً
معناه: كذبا على البريء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
إذا قلت في أخيك ما فيه مما يكره سماعه فقد اغتبته، فإن قلت ما
ليس فيه فقد بهته، فرمي البريء بهت له ونفس الخطيئة والإثم إثم
مبين، ومعصية هذا الرامي معصيتان.
(2/111)
لَا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ
مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ
أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
ثم وقف الله تعالى نبيه على مقدار عصمته
له، وأنها بفضل من الله ورحمة وقوله تعالى: لَهَمَّتْ
معناه: لجعلته همها وشغلها حتى تنفذه، وهذا يدل على أن الألفاظ
عامة في غير أهل النازلة، وإلا فأهل التعصب لبني أبيرق قد وقع
همهم وثبت، وإنما المعنى: ولولا عصمة الله لك لكان في الناس من
يشتغل بإضلالك، ويجعله هم نفسه أي كما فعل هؤلاء، لكن العصمة
تبطل كيد الجميع، فيبقى الضلال في حيزهم، ثم ضمن وعد الله
تعالى له أنهم «لا يضرونه شيئا» ، وقرر عليه نعمه لديه، من
إنزال الْكِتابَ
المتلو، وَالْحِكْمَةَ
التي بعضها خوطب به وبعضها جعلت له سجية ملكها، وقريحة يعمل
عنها، وينظر بين الناس بها، لا ينطق عن الهوى، وبهذين علمه ما
لم يكن يعلم، وباقي الآية بيّن.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 116]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ
بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ
نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ
مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً
(116)
الضمير في نَجْواهُمْ عائد على الناس أجمع، وجاءت هذه الآيات
عامة التناول، وفي عمومها يندرج أصحاب النازلة، وهذا عن
الفصاحة والإيجاز المضمن الماضي والغابر في عبارة واحدة،
والنجوى:
المسارّة، مصدر، وقد تسمى به الجماعة، كما يقال: قوم عدل ورضا،
وتحتمل اللفظة في هذه الآية أن تكون الجماعة وأن تكون المصدر
نفسه، فإن قدرناها الجماعة فالاستثناء متصل، كأنه قال: لا خير
في كثير من جماعاتهم المنفردة المتسارة إلا من، وإن قدرنا
اللفظة المصدر نفسه، كأنه قال: لا خير في كثير من تناجيهم،
فالاستثناء منقطع بحكم اللفظ، ويقدر اتصاله على حذف مضاف، كأنه
قال: إلا نجوى من، قال بعض المفسرين: النجوى كلام الجماعة
المنفردة كان ذلك سرا أو جهرا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: انفراد الجماعة من الاستسرار،
والغرض المقصود أن النجوى ليست بمقصورة على الهمس في الأذن
ونحوه، و «المعروف» : لفظ يعم الصدقة والإصلاح، ولكن خصّا
بالذكر اهتماما بهما، إذ هما عظيما الغناء في مصالح العباد، ثم
وعد تعالى «بالأجر العظيم» على فعل هذه الخيرات بنية وقصد لرضا
الله تعالى. وابْتِغاءَ نصب على المصدر، وقرأ ابن كثير ونافع
وعاصم والكسائي فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ بالنون وقرأ أبو عمرو وحمزة
«يؤتيه» بالياء والقراءتان حسنتان.
وقوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ الآية، لفظ عام نزل
بسبب طعمة بن أبيرق، لأنه ارتد وسار إلى مكة، فاندرج الإنحاء
عليه في طي هذا العموم المتناول لمن اتصف بهذه الصفات إلى يوم
القيامة، وقوله ما تَوَلَّى وعيد بأن يترك مع فاسد اختياره في
تولي الطاغوت، وقرأ ابن أبي عبلة «يوله» و «يصله» بالياء
فيهما.
(2/112)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا
مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ
عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
ثم أوجب تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به، وقد
مضى تفسير مثل هذه الآية وما يتصل بها من المعتقد والبعد في
صفة الضلال، مقتض بعد الرجوع إلى المحجة البيضاء وتعذره وإن
بقي غير مستحيل.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 117 الى 118]
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ
إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ
لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118)
الضمير في يَدْعُونَ عائد على من تقدم ذكره من الكفرة في قوله:
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ [النساء: 115] إِنْ نافية بمعنى
«ما» ويدعون عبارة مغنية موجزة في معنيي: يعبدون ويتخذون آلهة،
وقرأ أبو رجاء العطاردي «إن تدعون» بالتاء من فوق، ورويت عن
عاصم، واختلف في معنى «الإناث» ، فقال أبو مالك والسدي
وغيرهما: ذلك لأن العرب كانت تسمي أصنامها بأسماء مؤنثة،
فاللات والعزى ومناة ونائلة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: ويرد على هذا أنها كانت تسمي
بأسماء مذكرة كثيرة، وقال الضحاك وغيره: المراد ما كانت العرب
تعتقده من تأنيث الملائكة وعبادتهم إياها، فقيل لهم هذا على
جهة إقامة الحجة من فاسد قولهم، وقال ابن عباس والحسن وقتادة:
المراد: الخشب والحجارة وهي مؤنثات لا تعقل، فيخبر عنها كما
يخبر عن المؤنث من الأشياء فيجيء قوله: إِلَّا إِناثاً عبارة
عن الجمادات، وقيل:
إنما هذا لأن العرب كانت تسمي الصنم أنثى فتقول: أنثى بني
فلان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا على اختلافه يقضي
بتعييرهم بالتأنيث وأن التأنيث نقص وخساسة بالإضافة إلى
التذكير، وقيل معنى إِناثاً أوثانا، وفي مصحف عائشة «إن يدعون
من دونه إلا أوثانا» وقرأ ابن عباس فيما روى عنه أبو صالح «إلا
أنثا» يريد وثنا، فأبدل الهمزة واوا، وهو جمع جمع على ما حكى
بعض الناس، كأنه جمع وثنا على وثان، كجمل وجمال، ثم جمع وثانا
على وثن كرهان ورهن وكمثال ومثل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خطأ، لأن فعالا في جمع فعل إنما هو
للتكثير والجمع الذي هو للتكثير لا يجمع وإنما تجمع جموع
التقليل، والصواب أن تقول وثن جمع وثن دون واسطة، كأسد وأسد،
قال أبو عمرو: وبهذا قرأ ابن عمر وسعيد بن المسيب ومسلم بن
جندب وعطاء، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «إلا وثنا» بفتح الواو
والثاء على إفراد اسم الجنس، وقرأ ابن عباس أيضا «وثنا» بضم
الواو والثاء، وقرأت فرقة «إلا وثنا» ، وقرأت فرقة «إلا أثنا»
بسكون الثاء، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم «إلا أنثا» بتقديم
النون وهو جمع أنيث كغدير وغدر ونحو ذلك، وحكى الطبري: أنه جمع
إناث كثمار وثمر، وحكى هذه القراءة عن النبي صلى الله عليه
وسلم أبو عمرو الداني، قال: وقرأ بها ابن عباس وأبو حيوة
والحسن، واختلف في المعنى ب «الشيطان» ، فقالت فرقة: هو
الشيطان المقترن بكل صنم، فكأنه موحد باللفظ جمع بالمعنى، لأن
الواحد يدل على الجنس، وقال الجمهور: المراد إبليس وهذا هو
الصواب، لأن سائر المقالة به تليق،
(2/113)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ
آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ
اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ
اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ
وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا
(120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ
عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
ومَرِيداً معناه عاتيا صليبا في غوايته،
وهو فعيل من مرد: إذا عتا وغلا في انحرافه وتجرد للشر
والغواية.
وأصل اللعن: الإبعاد، وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط وغضب،
ويحتمل أن يكون لَعَنَهُ صفة الشيطان، ويحتمل أن يكون خبرا
عنه، والمعنى يتقارب على الوجهين، وقوله تعالى: وَقالَ
لَأَتَّخِذَنَّ الآية، التقدير: وقال الشيطان، والمعنى،
لأستخلصنهم لغوايتي: ولأخصنهم بإضلالي وهم الكفرة والعصاة،
والمفروض معناه في هذا الموضع المنحاز، وهو مأخوذ من الفرض وهو
الحز في العود وغيره، ويحتمل أن يريد واجبا أن أتخذه، وبعث
النار هو نصيب إبليس.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 119 الى 122]
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ
وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً
(119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ
إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا
يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ
حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)
قوله: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ معناه أصرفهم عن طريق الهدى،
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ لأسولن لهم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: وهذا لا ينحصر إلى
نوع واحد من الأمنية، لأن كل واحد في نفسه إنما تمنيه بقدر
نصبته وقرائن حاله، ومنه قوله عليه السلام: «إن الشيطان يقول
لمن يركب ولا يذكر الله: تغن، فإن لم يحسن قال له تمن» ،
واللامات كلها للقسم، «والبتك» : القطع. وكثر الفعل إذ القطع
كثير على أنحاء مختلفة، وإنما كنى عز وجل عن البحيرة والسائبة
ونحوه مما كانوا يثبتون فيه حكما، بسبب آلهتهم وبغير ذلك، وقرأ
أبو عمرو بن العلاء وَلَآمُرَنَّهُمْ بغير ألف، وقرأ أبيّ
«وأضلهم وأمنيهم وأمرهم» واختلف في معنى «تغيير خلق الله» ،
فقال ابن عباس وإبراهيم ومجاهد والحسن وقتادة وغيرهم:
أراد: يغيرون دين الله، وذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله
تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30] أي لدين الله،
والتبديل يقع موضعه التغيير، وإن كان التغيير أعم منه، وقالت
فرقة: «تغيير خلق الله» هو أن الله تعالى خلق الشمس والنار
والحجارة وغيرها من المخلوقات ليعتبر بها وينتفع بها، فغيرها
الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، وقال ابن عباس أيضا وأنس
وعكرمة وأبو صالح:
من تغيير خلق الله الإخصاء، والآية إشارة إلى إخصاء البهائم
وما شاكله، فهي عندهم أشياء ممنوعة، ورخص في إخصاء البهائم
جماعة إذا قصدت به المنفعة، إما السمن أو غيره، ورخصها عمر بن
عبد العزيز في الخيل، وقال ابن مسعود والحسن: هي إشارة إلى
الوشم وما جرى مجراه من التصنع للحسن، فمن ذلك الحديث: «لعن
رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمات والموشومات والمتنمصات
والمتفلجات
(2/114)
لَيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ
يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ
نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ
خَلِيلًا (125)
المغيرات خلق الله» . ومنه قوله عليه
السلام، «لعن الله الواصلة والمستوصلة» ، وملاك تفسير هذه
الآية: أن كل تغيير ضار فهو في الآية، وكل تغيير نافع فهو
مباح، ولما ذكر الله تعالى عتو الشيطان وما توعد به من بث
مكره، حذره تبارك وتعالى عباده، بأن شرط لمن يتخذه وليا جزاء
الخسران، وتصور الخسران إنما هو بأن أخذ هذا المتخذ حظ
الشيطان، فكأنه أعطى حظ الله تبارك وتعالى فيه وتركه من أجله.
وقوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ: يعدهم بأباطيله من
المال والجاه، وأن لا بعث ولا عقاب ونحو ذلك لكل أحد ما يليق
بحاله. ويمنيهم كذلك، ثم ابتدأ تعالى الخبر عن حقيقة ذلك
بقوله: وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً.
ثم أخبر تعالى بمصير المتخذين الشيطان وليا وتوعدهم بأن
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، ولا يدافعونها بحيلة، ولا يعدلون عنها.
ولا ينحرفون ولا يتروغون، و «المحيص» مفعول من حاص إذا راغ
ونفر، ومنه قول الشاعر [جعفر بن علبة الحارثي] : [الطويل]
ولم أدر إن حصنا من الموت حيصة ... كم العمر باق والمدى متطاول
ومنه الحديث، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، يقال حاص
الرجل من كذا، وجاض بالجيم والضاد المنقوطة إذا راغ بنفور،
ولغة القرآن الحاء والصاد غير منقوطة.
ولما أخبر تعالى عن الكفار الذين يتخذون الشيطان وليا، وأعلم
بغرور وعد الشيطان لهم، وأعلم بصيور أمرهم وأنه إلى جهنم،
فاقتضى ذلك كله التحذير، أعقب ذلك- عز وجل- بالترغيب في ذكره
حالة المؤمنين، وأعلم بصيور أمرهم وأنه إلى النعيم المقيم،
وأعلم بصحة وعده تعالى لهم، ثم قرر ذلك بالتوقيف عليه في قوله
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا والقيل والقول واحد،
ونصبه على التمييز، وقرأت فرقة «سندخلهم» بالنون وقرأت فرقة
«سيدخلهم» بالياء، ووَعْدَ اللَّهِ نصب على المصدر. وحَقًّا
مصدر أيضا مؤكد لما قبله.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 125]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ
يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً
(124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ
لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ
حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125)
اسم لَيْسَ مضمر، و «الأماني» : جمع أمنوية، وزنها أفعولة،
وهي: ما يتمناه المرء ويطيع نفسه فيه، وتجمع على أفاعيل،
فتجتمع ياءان فلذلك تدغم إحداهما في الأخرى فتجيء مشددة وهي
قراءة الجمهور، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو جعفر بن القعقاع
وشيبة بن نصاح والحكم والأعرج، «ليس بأمانيكم» ساكنة الياء،
وكذلك في الثانية، قال الفراء: هذا جمع على أفاعل، كما يقال
قراقير وقراقر إلى
(2/115)
غير ذلك. واختلف الناس فيمن المخاطب بهذه
الآية؟ فقال ابن عباس والضحاك وأبو صالح ومسروق وقتادة والسدي
وغيرهم: الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم:
وسبب الآية أن المؤمنين اختلفوا مع قوم من أهل الكتاب، فقال
أهل الكتاب: ديننا أقدم من دينكم وأفضل، ونبينا قبل نبيكم،
فنحن أفضل منكم، وقال المؤمنون: كتابنا يقضي على الكتب، ونبينا
خاتم النبيين، أو نحو هذا من المحاورة، فنزلت الآية، وقال
مجاهد وابن زيد: بل الخطاب لكفار قريش، وذلك أنهم قالوا: لن
نبعث ولا نعذب، وإنما هي حياتنا الدنيا لنا فيها النعيم ثم لا
عذاب، وقالت اليهود نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ
[المائدة: 18] ، إلى نحو هذا من الأقوال، كقولهم: لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى
[البقرة: 111] ، وغيره، فرد الله تعالى على الفريقين بقوله
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ثم
ابتدأ الخبر الصادق من قبله بقوله مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ
بِهِ وجاء هذا اللفظ عاما في كل سوء فاندرج تحت عمومه الفريقان
المذكوران، واختلف المتأولون في تعميم لفظ هذا الخبر، فقال
الحسن بن أبي الحسن: هذه الآية في الكافر، وقرأ وهل يجازى إلا
الكفور [سبأ: 17] قال: والآية يعني بها الكفار، ولا يعني بها
أهل الصلاة، وقال: والله ما جازى الله أحدا بالخير والشر إلا
عذبه، ولكنه يغفر ذنوب المؤمنين، وقال ابن زيد: في قوله تعالى
مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [وعد الله المؤمنين أن يكفر
عنهم سيئاتهم، ولم يعد أولئك يعني المشركين، وقال الضحاك مَنْ
يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ يعني بذلك اليهود والنصارى
والمجوس وكفار العرب.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: فهذا تخصيص للفظ الآية، ورأى
هؤلاء أن الكافر يجزى على كل سوء يعمله وأن المؤمن قد وعده
الله تكفير سيئاته، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: قوله تعالى:
مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً معناه، من يك مشركا والسوء هنا الشرك فهو
تخصيص لعموم اللفظ من جهة أخرى، لأن أولئك خصصوا لفظ مَنْ،
وهذان خصصا لفظ السوء، وقال جمهور الناس: لفظ الآية عام،
والكافر والمؤمن مجازى بالسوء يعمله، فأما مجازاة الكافر
فالنار، لأن كفره أوبقه، وأما المؤمن فبنكبات الدنيا، قال أبو
بكر الصديق رضي الله عنه: لما نزلت مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ قلت يا رسول الله ما أشد هذه الآية، فقال: يا أبا
بكر أما تحزن أما تمرض أما تصيبك اللأواء؟. فهذا بذلك، وقال
عطاء بن أبي رباح: لما نزلت هذه الآية، قال أبو بكر: جاءت
قاصمة الظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هي المصيبات
في الدنيا، وقالت بمثل هذا التأويل عائشة رضي الله عنها، وقال
أبيّ بن كعب، وسأله الربيع بن زياد عن معنى الآية وكأنه خافها،
فقال له أبيّ: ما كنت أظنك إلا أفقه مما أرى، ما يصيب الرجل
خدش ولا غيره إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: فالعقيدة في هذا: أن الكافر
مجازى والمؤمن يجازى في الدنيا غالبا، فمن بقي له سوء إلى
الآخرة فهو في المشيئة، يغفر الله لمن يشاء، ويجازي من يشاء،
وقرأ الجمهور «ولا يجد» بالجزم عطفا على يُجْزَ، وروى ابن بكار
عن ابن عامر: «ولا يجد» بالرفع على القطع، وقوله مِنْ دُونِ
لفظة تقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة، ويفسرها بعض
المفسرين بغير، وهو تفسير لا يطرد.
وقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ دخلت مَنْ
للتبعيض إذ، الصَّالِحاتِ على
(2/116)
وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ مُحِيطًا (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا
تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ
تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
الكمال مما لا يطيقه البشر، ففي هذا رفق
بالعباد، لكن في هذا البعض الفرائض وما أمكن من المندوب إليه،
ثم قيد الأمر بالإيمان إذ لا ينفع عمل دونه، وحكى الطبري عن
قوم: أن مَنْ زائدة، وضعفه كما هو ضعيف، وقرأ نافع وابن عامر
وحمزة والكسائي «يدخلون الجنة» بفتح الياء وضم الخاء، وكذلك
حيث جاء من القرآن، وروي مثل هذا عن عاصم، وقرأ أبو عمرو في
هذه الآية وفي مريم والملائكة وفي المؤمن «يدخلون» بضم الياء
وفتح الخاء، وقرأ بفتح الياء من سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
داخِرِينَ [غافر: 60] و «النقير» النكتة التي في ظهر نواة
التمرة ومنه تنبت، وروي عن عاصم «النقير» ما تنقره بأصبعك،
وهذا كله مثال للحقير اليسير.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فهنا كمل الرد على أهل الأماني
والإخبار بحقيقة الأمر.
ثم أخبر تعالى إخبارا موقفا على أنه لا أحسن دينا ممن أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ أي أخلص مقصده وتوجهه. وأحسن في أعماله،
واتبع الحنيفية التي هي مِلَّةَ إِبْراهِيمَ، إمام العالم
وقدوة أهل الأديان، ثم لما ذكر الله تعالى إبراهيم بأنه الذي
يجب اتباعه، شرفه بذكر الخلة، وإبراهيم صلى الله عليه وسلم
سماه الله خليلا، إذ كان خلوصه وعبادته واجتهاده على الغاية
التي يجري إليها المحب المبالغ، وكان لطف الله به ورحمته
ونصرته له بحسب ذلك، وذهب قوم إلى أن إبراهيم سمي خليلا من
الخلة بفتح الخاء، أي لأنه أنزل خلته وفاقته بالله تعالى، وقال
قوم: سمي خليلا لأنه فيما روي في الحديث جاء من عند خليل كان
له بمصر وقد حرمه الميرة التي قصد لها، فلما قرب من منزله ملأ
غرارتيه رملا ليتأنس بذلك صبيته، فلما دخل منزله نام كلالا
وهما، فقامت امرأته وفتحت الغرارة، فوجدت أحسن ما يكون من
الحواري، فعجنت منه، فلما انتبه قال: ما هذا؟ قالت من الدقيق
الذي سقت من عند خليلك المصري فقال: بل هو من عند خليلي الله
تعالى، فسمي بذلك خليلا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله-: وفي هذا ضعف، ولا تقتضي هذه
القصة أن يسمى بذلك اسما غالبا، وإنما هو شيء شرفه الله به كما
شرف محمدا صلى الله عليه وسلم، فقد صح في كتاب مسلم وغيره: أن
الله اتخذه خليلا.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 126 الى 127]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ
اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي
النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا
تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ
تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)
ذكر- عز وجل- سعة ملكه وإحاطته بكل شيء عقب ذكر الدين وتبيين
الجادة منه، ترغيبا في طاعة الله والانقطاع إليه.
وقوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ الآية، نزلت بسبب سؤال قوم من
الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن
(2/117)
في المواريث وغير ذلك، فأمر الله نبيه أن
يقول لهم اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ أي يبين لكم حكم ما
سألتم عنه.
وقوله تعالى وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ يحتمل ما أن تكون في موضع
خفض عطفا على الضمير في قوله فِيهِنَّ، أي: «ويفتيكم فيما يتلى
عليكم» ، قاله محمد بن أبي موسى، وقال: أفتاهم الله فيما سألوا
عنه وفيما لم يسألوا عنه، ويضعف هذا التأويل ما فيه من العطف
على الضمير المخفوض بغير إعادة حرف الخفض، ويحتمل أن تكون ما
في موضع رفع عطفا على اسم الله عز وجل، أي و «يفتيكم ما يتلى
عليكم في الكتاب» ، يعني القرآن، والإشارة بهذا إلى ما تقدم من
الآيات في أمر النساء، وهو قوله تعالى في صدر السورة وَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] . قالت عائشة: نزلت هذه
الآية أولا، ثم سأل ناس بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
أمر النساء فنزلت:
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ
فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ وقوله تعالى فِي يَتامَى
النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ
معناه: النهي عما كانت العرب تفعله من ضم اليتيمة الجميلة
الغنية بدون ما تستحقه من المهر، ومن عضل الدميمة الفقيرة
أبدا، والدميمة الغنية حتى تموت فيرثها العاضل، ونحو هذا مما
يقصد به الولي منفعة نفسه لا نفع اليتيمة، والذي كتب الله لهن
هو توفية ما تستحقه من مهر، وإلحاقها بأقرانها، وقرأ أبو عبد
الله المدني- «في ييامى النساء» بياءين، قال أبو الفتح: والقول
في هذه القراءة أنه أراد أيامى فقلبت الهمزة ياء، كما قلبت في
قولهم: باهلة بن يعصر، وإنما هو ابن أعصر لأنه إنما يسمى
بقوله: [الكامل] .
أبنيّ إن أباك غيّر لونه ... كرّ الليالي واختلاف الأعصر
وكما قلبت الياء همزة في قولهم: قطع الله أده، يريدون يده،
وأيامى: جمع أيم أصله: أيايم، قلبت اللام موضع العين، فجاء
أيامى، ثم أبدلت من الكسرة فتحة ومن الياء ألف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يشبه أن الداعي إلى هذا
استثقال الضمة على الياء، قال أبو الفتح: ولو قال قائل كسر أيم
على أيمى على وزن سكرى وقتلى من حيث الأيومة بلية تدخل كرها،
ثم كسر أيمى على أيامى لكان وجها حسنا، وقوله تعالى
وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إن كانت الجارية غنية جميلة
فالرغبة في نكاحها، وإن كانت بالعكس فالرغبة عن نكاحها، وكان
عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ الناس بالدرجة الفضلى في هذا
المعنى، فكان إذا سأل الولي عن وليته فقيل: هي غنية جميلة، قال
له:
أطلب لها من هو خير منك وأعود عليها بالنفع، وإذا قيل له: هي
دميمة فقيرة، قال له: أنت أولى بها وبالستر عليها من غيرك،
وقوله تعالى وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ عطف على
يَتامَى النِّساءِ، والذي تلي في الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الْوِلْدانِ هو قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلادِكُمْ [النساء: 11] ، وذلك: أن العرب كانت لا تورث
الصبية ولا الصبي الصغير، وكان الكبير ينفرد بالمال، وكانوا
يقولون: إنما يرث المال من يحمي الحوزة، ويرد الغنيمة، ويقاتل
عن الحريم، ففرض الله لكل أحد حقه، وقوله تعالى: وَأَنْ
تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ عطف أيضا على ما تقدم، والذي
تلي في هذا المعنى هو قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء: 2] إلى غير ذلك مما
ذكر في مال اليتيم، والقسط العدل، وباقي الآية وعد على فعل
الخير بالجزاء الجميل، بيّن.
(2/118)
وَإِنِ امْرَأَةٌ
خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ
تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ
تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا
تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ
وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا
رَحِيمًا (129)
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 128 الى 129]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ
إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما
صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ
وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ
تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا
كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ
تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً
رَحِيماً (129)
هذه الآية حكم من الله تعالى في أمر المرأة التي تكون ذات سن
ودمامة، أو نحو ذلك مما يرغب زوجها عنها، فيذهب الزوج إلى
طلاقها، أو إلى إيثار شابة عليها، ونحو هذا مما يقصد به صلاح
نفسه ولا يضرها هي ضررا يلزمه إياها، بل يعرض عليها الفرقة أو
الصبر على الأثرة، فتزيد هي بقاء العصمة، فهذه التي أباح الله
تعالى بينهما الصلح، ورفع الجناح فيه، إذ الجناح في كل صلح
يكون عن ضرر من الزوج يفعله حتى تعالجه، وأباح الله تعالى
الصلح مع الخوف وظهور علامات النشوز أو الإعراض، وهو مع وقوعها
مباح أيضا، و «النشوز» : الارتفاع بالنفس عن رتبة حسن العشرة،
و «الإعراض» : أخف من النشوز، وأنواع الصلح كلها مباحة في هذه
النازلة، أن يعطي الزوج على أن تصبر هي، أو تعطي هي على أن لا
يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة، أو يقع الصلح على
الصبر على الاثرة، فهذا كله مباح، واختلف المفسرون في سبب
الآية، فقال ابن عباس وجماعة معه: نزلت في النبي صلى الله عليه
وسلم وسودة بنت زمعة، حدث الطبري بسند عن ابن عباس قال: خشيت
سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلقني
واحبسني مع نسائك، ولا تقسم لي، ففعل فنزلت وَإِنِ امْرَأَةٌ
خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً الآية، وفي
المصنفات أن سودة لما كبرت وهبت يومها لعائشة وهذا نحو الأول،
وقال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعبيدة السلماني وغيرهم:
نزلت الآية بسبب رافع بن خديج وخولة بنت محمد بن مسلمة، وذلك
أنه خلا من سنها فتزوج عليها شابة، فآثر الشابة فلم تصبر هي
فطلقها طلقة ثم تراجعا، فعاد فآثر الشابة فلم تصبر هي فطلقها
أخرى، فلما بقي من العدة يسير قال لها: إن شئت راجعتك وصبرت
على الاثرة، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك، قالت: بل راجعني
وأصبر، فراجعها فآثر الشابة فلم تصبر، فقال: إنما هي واحدة،
فإما أن تقري على ما ترين من الإثرة، وإلا طلقتك، فقرت فهذا هو
الصلح الذي أنزل الله فيه وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ الآية، وقال
مجاهد: نزلت الآية بسبب أبي السنابل ابن بعكك وامرأته، وقرأ
نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «يصّالحا» بفتح الياء وشد
الصاد وألف بعدها، وأصلها يتصالحا، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم
«يصلحا» بضم الياء وسكون الصاد دون ألف، وقرأ عبيدة السلماني
«يصالحا» بضم الياء من المفاعلة، وقرأ الجحدري وعثمان البتي
«يصلحا» بفتح الياء وشد الصاد أصلها يصطلحا، قال أبو الفتح:
أبدل الطاء صادا ثم أدغم فيها الصاد التي هي فاء فصارت «يصلحا»
، وقرأ الأعمش «إن اصالحا» ، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود،
وقوله صُلْحاً ليس الصلح مصدرا على واحد من هذه الأفعال التي
قرىء بها، فالذي يحتمل أن يكون اسما كالعطاء مع أعطيت والكرامة
مع أكرمت، فمن قرأ «يصلحا» كان تعديه إلى الصلح كتعديه إلى
الأسماء، كما تقول: أصلحت ثوبا، ومن قرأ
(2/119)
«يصالحا» من تفاعل وعرف تفاعل أنه لا
يتعدى، فوجهه أن تفاعل قد جاء متعديا في نحو قول ذي الرمة:
ومن جردة غفل بساط تحاسنت ... بها الوشي قرّات الرياح وخورها
ويجوز أن يكون الصلح مصدرا حذفت زوائده، كما قال: «وإن تهلك
فذلك كان قدري» أي تقديري.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: هذا كلام أبي علي على أن القدر
مصدر جار على ان قدرت الأمر بالتخفيف بمعنى قدرت بالتشديد،
وقوله تعالى وَالصُّلْحُ خَيْرٌ لفظ عام مطلق بمقتضى أن الصلح
الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على
الإطلاق، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين على ما ذكرنا
خير من الفرقة. وقوله تعالى وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ
معذرة عن عبيده تعالى أي لا بد للإنسان بحكم خلقته وجبلته من
أن يشح على إرادته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره. وخصص
المفسرون هذه اللفظة هنا فقال ابن جبير: هو شح المرأة بالنفقة
من زوجها وبقسمه لها أيامها، وقال ابن زيد: الشح هنا منه
ومنها.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: وهذا حسن، والشُّحَّ: الضبط
على المعتقدات والإرادات والهمم والأموال ونحو ذلك، فما أفرط
منها ففيه بعض المذمة، وهو الذي قال تعالى فيه وَمَنْ يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ [الحشر: 9] وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية
أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل، وهي رذيلة لكنها قد تكون
في المؤمن، ومنه الحديث «قيل يا رسول الله أيكون المؤمن بخيلا؟
قال نعم» . وأما الشُّحَّ ففي كل أحد، وينبغي أن يكون، لكن لا
يفرط إلا على الدين، ويدلك على أن الشح في كل أحد قوله تعالى:
وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وقوله شُحَّ نَفْسِهِ فقد
أثبت أن لكل نفس شحا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «أن تصدق
وأنت صحيح شحيح» وهذا لم يرد به واحدا بعينه، وليس يجمل أن
يقال هنا: أن تصدق وأنت صحيح بخيل، وقوله تعالى: وَإِنْ
تُحْسِنُوا ندب إلى الإحسان في تحسين العشرة وحمل خلق الزوجة
والصبر على ما يكره من حالها. وتمكن الندب إلى الإحسان من حيث
للزوج أن يشح فلا يحسن وَتَتَّقُوا معناه: تتقوا الله في وصيته
بالنساء، إذ هن عوان عند الأزواج حسبما فسره النبي صلى الله
عليه وسلم بقوله «استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم» .
وقوله تعالى وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ
النِّساءِ الآية. معناه: العدل التام على الإطلاق المستوي في
الأفعال والأقوال والمحبة والجماع وغير ذلك، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ثم يقول: «اللهم هذا فعلي
فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» يعني ميله بقلبه،
وكان عمر ابن الخطاب يقول: اللهم قلبي فلا أملكه، وأما ما سوى
ذلك فأرجو أن أعدل. وروي أن هذه الآية نزلت في النبي صلى الله
عليه وسلم وميله بقلبه إلى عائشة، فوصف الله تعالى حالة البشر،
وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض الأزواج دون
بعض، ونشاطهم إليهن وبشرهم معهن، ثم نهى عن «الميل كل الميل» ،
وهو أن يفعل فعلا يقصده من التفضيل وهو يقدر أن لا يفعله، فهذا
هو كُلَّ الْمَيْلِ، وإن كان في أمر حقير، فكأن الكلام فَلا
تَمِيلُوا النوع الذي هو كل الميل وهو المقصود من قول أو فعل،
(2/120)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا
يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا
حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ
تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ
وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ
وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا
(133)
وقوله تعالى فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ
أي لا هي أيم ولا ذات زوج، وهذا تشبيه بالشيء المعلق من شيء
لأنه لا على الأرض استقر، ولا على ما علق منه انحمل، وهذا مطرد
في قولهم في المثل: أرض من المركب بالتعليق، وفي عرف النحويين
في تعليق الفعل، ومنه في حديث أم زرع قول المرأة: زوجي العشنق،
إن انطلق أطلق، وإن أسكت أعلق، وقرأ أبيّ بن كعب «فتذروها
كالمسجونة» وقرأ عبد الله بن مسعود «فتذروها كأنها معلقة» ثم
قال تعالى وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا أي وإن تلتزموا ما
يلزمكم من العدل فيما تملكون فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً
رَحِيماً لما لا تملكونه متجاوزا عنه، وقال الطبري: معنى
الآية، غفورا لما سلف منكم من الميل كل الميل قبل نزول الآية.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: فعلى هذا فهي مغفرة مخصصة
لقوم بأعيانهم، واقعوا المحظور في مدة النبي صلى الله عليه
وسلم، وجاء في التي قبل وَإِنْ تُحْسِنُوا وفي هذه وَإِنْ
تُصْلِحُوا لأن الأول في مندوب إليه، وهذه في لازم، لأن الرجل
له هنالك أن لا يحسن وأن يشح ويصالح بما يرضيه، وفي هذه ليس له
أن يصلح، بل يلزمه العدل فيما يملك.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 130 الى 133]
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ
وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا
اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى
بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا
النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ
قَدِيراً (133)
الضمير في قوله يَتَفَرَّقا للزوجين اللذين تقدم ذكرهما، أي إن
شح كل واحد منهما فلم يتصالحا لكنهما تفرقا بطلاق فإن الله
تعالى يغني كل واحد منهما عن صاحبه بفضله ولطائف صنعه، في
المال والعشرة، والسعة وجود المرادات والتمكن منها، وذهب بعض
الفقهاء المالكيين إلى أن التفرق في هذه الآية هو بالقول، إذ
الطلاق قول، واحتج بهذه على قول النبي صلى الله عليه وسلم
«البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» إذ مذهب مالك في الحديث أنه
التفرق بالقول لا بالبدن.
قال القاضي أبو محمد: ولا حجة في هذه الآية، لأن إخبارها إنما
هو من افتراقهما بالأبدان، وتراخي المدة بزوال العصمة، و
«الإغناء» إنما يقع في ثاني حال، ولو كانت الفرقة في الآية
الطلاق لما كان للمرأة فيها نصيب يوجب ظهور ضميرها في الفعل،
وهذه نبذة من المعارضة في المسألة، و «الواسع» معناه: الذي
عنده خزائن كل شيء.
وقوله تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
تنبيه على موضع الرجاء لهذين المفترقين، ثم جاء بعد ذلك قوله
وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما
فِي الْأَرْضِ تنبيها على استغنائه عن
(2/121)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ
ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ
الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا
الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
العباد، ومقدمة للخبر بكونه غنيا حميدا، ثم
جاء بعد ذلك قوله وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا مقدمة للوعيد، فهذه وجوه
تكرار هذا الخبر الواحد ثلاث مرات متقاربة. وقوله تعالى
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لفظ عام لكل من أوتي كتابا، فإن وصية الله تعالى
عباده بالتقوى لم تزل منذ أوجدهم، و «الوكيل» : القائم بالأمور
المنفذ فيها ما رآه.
وقوله تعالى: أَيُّهَا النَّاسُ مخاطبة للحاضرين من العرب،
وتوقيف للسامعين لتحضر أذهانهم.
وقوله بِآخَرِينَ يريد من نوعكم، وروي عن أبي هريرة أنه لما
نزلت هذه الآية ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على كتف
سلمان الفارسي وقال: هم قوم هذا، وتحتمل ألفاظ الآية أن تكون
وعيدا لجميع بني آدم، ويكون الآخرون من غير نوعهم، كما قد روي:
أنه كان في الأرض ملائكة يعبدون الله قبل بني آدم، وقدرة الله
تعالى على ما ذكر تقضي بها العقول ببدائها، وقال الطبري هذا
الوعيد والتوبيخ هو للقوم الذين شفعوا في طعمة بن أبيرق
وخاصموا عنه في أمر خيانته في الدرع والدقيق.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: وهذا تأويل بعيد واللفظ إنما
يظهر حسن رصفه بعمومه وانسحابه على العالم جملة أو العالم
الحاضر.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 134 الى 135]
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً
(134) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ
الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى
أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ
اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)
أي: من كان لا مراد له إلا في ثواب الدنيا ولا يعتقد أن ثم
سواه، فليس هو كما ظن، بل عند الله تعالى ثواب الدارين، فمن
قصد الآخرة أعطاه الله من ثواب الدنيا وأعطاه قصده، ومن قصد
الدنيا فقط أعطاه من الدنيا ما قدر له وكان له في الآخرة
العذاب، والله تعالى «سميع» للأقوال، «بصير» بالأعمال والنيات.
ثم خاطب تعالى المؤمنين بقوله كُونُوا قَوَّامِينَ الآية، وهذا
بناء مبالغة، أي ليتكرر منكم القيام.
بِالْقِسْطِ وهو العدل، وقوله شُهَداءَ نصب على خبر بعد خبر،
والحال فيه ضعيفة في المعنى، لأنها تخصيص القيام بالقسط إلى
معنى الشهادة فقط، قوله لِلَّهِ المعنى لذات الله ولوجهه
ولمرضاته، وقوله وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ متعلق ب شُهَداءَ،
هذا هو الظاهر الذي فسر عليه الناس، وأن هذه الشهادة المذكورة
هي في الحقوق، ويحتمل أن يكون قوله شُهَداءَ لِلَّهِ معناه
بالوحدانية، ويتعلق قوله وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ب
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، والتأويل الأول أبين، وشهادة المرء
على نفسه إقراره بالحقائق وقوله الحق في كل أمر، وقيامه بالقسط
عليها كذلك، ثم ذكر الْوالِدَيْنِ لوجوب برهما وعظم قدرهما، ثم
ثنى
(2/122)
ب الْأَقْرَبِينَ إذ هم مظنة المودة
والتعصب، فجاء الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط
ويشهد عليه، وهذه الآية إنما تضمنت الشهادة على القرابة، فلا
معنى للتفقه منها في الشهادة لهم كما فعل بعض المفسرين ولا
خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية، وقوله تعالى: إِنْ
يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما معناه:
إن يكن المشهود عليه غنيا فلا يراعى لغناه، ولا يخاف منه، وإن
يكن فقيرا فلا يراعى إشفاقا عليه فإن الله تعالى أولى بالنوعين
وأهل الحالين، والغني والفقير اسما جنس والمشهود عليه كذلك،
فلذلك ثنى الضمير في قوله بِهِما، وفي قراءة أبيّ بن كعب
«فالله أولى بهم» على الجمع، وقال الطبري:
ثنى الضمير لأن المعنى فالله أولى بهذين المعنيين، غنى الغني
وفقر الفقير، أي: وهو أنظر فيهما، وقد حد حدودا وجعل لكل ذي حق
حقه، وقال قوم أَوِ بمعنى الواو، وفي هذا ضعف.
وذكر السدي: أن هذه الآية نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم،
اختصم إليه غني وفقير، فكان في ضلع الفقير علما منه أن الغني
أحرى أن يظلم الفقير، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط بين الغني
والفقير.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وارتبط هذا الأمر على ما قال
النبي صلى الله عليه وسلم:
«فأقضي له على نحو ما أسمع» ، أما أنه قد أبيح للحاكم أن يكون
في ضلع الضعيف، بأن يقيد له المقالات ويشد على عضده، ويقول له:
قل حجتك مدلا، وينبهه تنبيها لا يفت في عضد الآخر، ولا يكون
تعليم خصام، هكذا هي الرواية عن أشهب وغيره.
وذكر الطبري: أن هذه الآية هي بسبب نازلة طعمة بن أبيرق، وقيام
من قام في أمره بغير القسط، وقوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا
الْهَوى نهي بيّن، واتباع الهوى مرد مهلك، وقوله تعالى: أَنْ
تَعْدِلُوا يحتمل أن يكون معناه مخافة أن تعدلوا، ويكون العدل
هنا بمعنى العدول عن الحق، ويحتمل أن يكون معناه محبة أن
تعدلوا، ويكون العدل بمعنى القسط، كأنه قال: انتهوا خوف أن
تجوروا أو محبة أن تقسطوا، فإن جعلت العامل تَتَّبِعُوا فيحتمل
أن يكون المعنى محبة أن تجوروا، وقوله تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا
أَوْ تُعْرِضُوا قال ابن عباس: هو في الخصمين يجلسان بين يدي
القاضي فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر، فالليّ
على هذا مطل الكلام وجره حتى يفوت فصل القضاء وإنفاذه للذي
يميل القاضي عليه، وقد شاهدت بعض القضاة يفعلون ذلك، والله
حسيب الكل، وقال ابن عباس أيضا، ومجاهد، وقتادة والسدي وابن
زيد وغيرهم: هي في الشاهد يلوي الشهادة بلسانه ويحرفها، فلا
يقول الحق فيها، أو يعرض عن أداء الحق فيها.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: ولفظ الآية يعم القضاء
والشهادة والتوسط بين الناس، وكل إنسان مأخوذ بأن يعدل،
والخصوم مطلوبون بعدل ما في القضاة فتأمله، وقرأ جمهور الناس
«تلووا» بواوين من لوى يلوي على حسب ما فسرناه، وقرأ حمزة وابن
عامر وجماعة في الشاذ «وأن تلو» بضم اللام وواو واحدة، وذلك
يحتمل أن يكون أصله «تلئوا» على القراءة الأولى، همزت الواو
المضمومة كما همزت في أدؤر، وألقيت حركتها على اللام التي هي
فاء «لوى» ثم حذفت لاجتماع ساكنين، ويحتمل أن تكون «تلوا» من
قولك ولي الرجل الأمر، فيكون في الطرف الآخر من تُعْرِضُوا
كأنه قال تعالى للشهود
(2/123)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ
الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا
كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا
لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
وغيرهم: وإن وليتم الأمر وأعرضتم عنه فالله
تعالى خبير بفعلكم ومقصدكم فيه، فالولاية والإعراض طرفان،
والليّ والإعراض في طريق واحد، وباقي الآية وعيد.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 136 الى 137]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ
الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا
كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا
لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137)
اختلف الناس فيمن خوطب بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ فقالت فرقة: الخطاب لمن آمن بموسى
وعيسى من أهل الكتابين، أي: يا من قد آمن بنبي من الأنبياء،
آمن بمحمد عليه السلام، ورجح الطبري هذا القول، وقيل: الخطاب
للمؤمنين على معنى: ليكن إيمانكم هكذا على الكمال والتوفية
بالله تعالى وبمحمد عليه السلام وبالقرآن وسائر الكتب المنزلة،
ومضمن هذا الأمر الثبوت والدوام، وقيل:
الخطاب للمنافقين، أي: يا أيها الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم،
ليكن إيمانكم حقيقة على هذه الصورة، وقرأ أبو عمرو وابن كثير
وابن عامر، «نزّل» بضم النون وكسر الزاي المشددة على ما لم يسم
فاعله، وكذلك قرؤوا «والكتاب الذي أنزل من قبل» بضم الهمزة
وكسر الزاي على ما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون «نزل وأنزل»
بفتح النون والزاي وبفتح الهمزة في «أنزل» على إسناد الفعلين
إلى الله تعالى، وروي عن عاصم مثل قراءة أبي عمرو، وَالْكِتابِ
المذكور أولا هو القرآن، والمذكور ثانيا هو اسم جنس لكل ما نزل
من الكتاب، وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ إلى آخر
الآية وعيد وخبر، مضمنة تحذير المؤمنين من حالة الكفر.
واختلف المتأولون في المراد بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فقالت
طائفة منهم قتادة وأبو العالية: الآية في اليهود والنصارى،
آمنت اليهود بموسى والتوراة ثم كفروا، وآمنت النصارى بعيسى
والإنجيل ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم،
ورجح الطبري هذا القول، وقال الحسن بن أبي الحسن: الآية في
الطائفة من أهل الكتاب التي قالت آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ
عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ
[آل عمران: 72] وقال مجاهد وابن زيد: الآية في المنافقين، فإن
منهم من كان يؤمن ثم يكفر، ثم يؤمن ثم يكفر، يتردد في ذلك،
فنزلت هذه الآية فيمن ازداد كفرا بأن تم على نفاقه حتى مات.
قال القاضي: وهذا هو القول المترجح، وقول الحسن بن أبي الحسن
جيد محتمل، وقول قتادة وأبي العالية وهو الذي رجح الطبري قول
ضعيف، تدفعه ألفاظ الآية، وذلك أن الآية إنما هي في طائفة يتصف
كل واحد منها بهذه الصفة من التردد بين الكفر والإيمان، ثم
يزداد كفرا بالموافاة، واليهود والنصارى لم يترتب في واحد منهم
إلا إيمان واحد وكفر واحد، وإنما يتخيل فيهم الإيمان والكفر مع
تلفيق الطوائف
(2/124)
بَشِّرِ
الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ
الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ
فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ
بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ
إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي
جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
التي لم تتلاحق في زمان واحد، وليس هذا
مقصد الآية، وإنما توجد هذه الصفة في شخص من المنافقين، لأن
الرجل الواحد منهم يؤمن ثم يكفر، ثم يوافي على الكفر وتأمل
قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ فإنها
عبارة تقتضي أن هؤلاء محتوم عليهم من أول أمرهم، ولذلك ترددوا
وليست هذه العبارة مثل أن يقول:
لا يغفر الله لهم، بل هي أشد، وهي مشيرة إلى استدراج من هذه
حاله وإهلاكه، وهي عبارة تقتضي لسامعها أن ينتبه ويراجع قبل
نفوذ الحتم عليه، وأن يكون من هؤلاء، وكل من كفر كفرا واحدا
ووافى عليه فقد قال الله تعالى: إنه لا يغفر له، ولم يقل «لم
يكن الله ليغفر له» فتأمل الفرق بين العبارتين فإنه من دقيق
غرائب الفصاحة التي في كتاب الله تعالى، كأن قوله لَمْ يَكُنِ
اللَّهُ حكم قد تقرر عليهم في الدنيا وهم أحياء.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 138 الى 140]
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ
الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ
فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ
بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ
إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي
جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)
في هذه الآية دليل ما على أن التي قبلها إنما هي في المنافقين،
كما ترجح آنفا، وجاءت البشارة هنا مصرحا بقيدها، فلذلك حسن
استعمالها في المكروه، ومتى جاءت مطلقة فإنما عرفها في
المحبوب.
ثم نص تعالى في صفة المنافقين على أشدها ضررا على المؤمنين،
وهي موالاتهم الكفار واطراحهم المؤمنين، ونبه على فساد ذلك
ليدعه من عسى أن يقع في نوع منه من المؤمنين غفلة أو جهالة أو
مسامحة، ثم وقف تعالى على جهة التوبيخ على مقصدهم في ذلك، أهو
طلب العزة والاستكثار بهم أي ليس الأمر كذلك بل العزة كلها لله
يؤتيها من يشاء، وقد وعد بها المؤمنين، وجعل العاقبة للمتقين،
والْعِزَّةَ أصلها:
الشدة والقوة، ومنه الأرض العزاز أي: الصلبة، ومنه عَزَّنِي
[ص: 23] أي: غلبني بشدته، واستعز المرض إذا قوي، إلى غير هذا
من تصاريف اللفظة.
وقوله تعالى وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ مخاطبة لجميع من أظهر
الإيمان من محقق ومنافق، لأنه إذا أظهر الإيمان فقد لزمه أن
يمتثل أوامر كتاب الله تعالى، والإشارة بهذه الآية إلى قوله
تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
[الإنعام: 68] ، إلى نحو هذا من الآيات، وقرأ جمهور الناس
«نزّل عليكم» بضم النون وكسر الزاي المشددة قال الطبري: وقرأ
بعض الكوفيين «نزّل» بفتح النون والزاي المشددة على معنى نزل
الله، وقرأ أبو حيوة وحميد «نزل» بفتح النون والزاي خفيفة،
وقرأ إبراهيم النخعي «أنزل» بألف على بناء الفعل للمفعول،
والْكِتابِ في هذا الموضع القرآن، وفي هذه الآية دليل قوي على
وجوب تجنب أهل البدع وأهل المعاصي، وأن لا يجالسوا، وقد روي عن
عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوما يشربون الخمر فقيل له عن أحد
الحاضرين: إنه صائم فحمل
(2/125)
الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ
اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ
لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ
خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا
كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى
هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
عليه الأدب، وقرأ هذه الآية إِنَّكُمْ
إِذاً مِثْلُهُمْ وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه
إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة، وهذا المعنى كقول الشاعر:
[الطويل]
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكلّ قرين بالمقارن يقتدي
ثم توعد تعالى المنافقين والكافرين بجمعهم في جهنم، فتأكد بذلك
النهي والحذر من مجالسهم وخلطتهم.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 141 الى 143]
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ
مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ
لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ
وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) إِنَّ
الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا
قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ
بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)
الَّذِينَ صفة للمنافقين، ويَتَرَبَّصُونَ معناه: ينتظرون دور
الدوائر عليكم، فإن كان فتح للمؤمنين ادعوا فيه النصيب بحكم ما
يظهرونه من الإيمان، وإن كان للكافرين نيل من المؤمنين ادعوا
فيه النصيب بحكم ما يبطنونه من موالاة الكفار، وهذا حال
المنافقين، ونَسْتَحْوِذْ معناه: نغلب على أمركم، ونحطكم ونحسم
أمركم، ومنه قول العجاج في صفة ثور وبقر: [الرجز] يحوذهن وله
حوذي أي يغلبهن على أمرهن، ويغلب الثيران عليهن، ويروى يحوزهن
بالزاي، ومن اللفظة قول لبيد في صفة عير وأتن:
إذا اجتمعت وأحوذ جانبيها ... وأوردها على عوج طوال
أحوذ جانبيها قهرها وغلب عليها. وقوله تعالى: اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ [المجادلة: 19] معناه:
غلب عليهم، وشذ هذا الفعل في أن لم تعل واوه، بل استعملت على
الأصل، وقرأ أبيّ بن كعب «ومنعناكم من المؤمنين» وقرأ ابن أبي
عبلة «ونمنعكم» بفتح العين على الصرف، ثم سلى وأنس المؤمنين
بما وعدهم به في قوله فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ أي وبينهم وينصفكم من جميعهم، وبقوله وَلَنْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا
وقال يسيع الحضرمي: كنت عند علي بن أبي طالب فقال له رجل: يا
أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا كيف ذلك وهم
يقاتلوننا ويظهرون علينا أحيانا؟ فقال علي رضي الله عنه: معنى
ذلك: يوم القيامة يكون الحكم، وبهذا قال جميع أهل التأويل.
(2/126)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا
لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ
وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا
وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ
لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ
اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ
اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
و «السبيل» : الحجة والغلبة، ومخادعة
المنافقين هي لأولياء الله تعالى، إذ يظنونهم غير أولياء، ففي
الكلام حذف مضاف، وإلزام ذنب اقتضته أفعالهم، وإن كانت نياتهم
لم تقتضه، لأنه لا يقصد أحد من البشر مخادعة الله تعالى وقوله
وَهُوَ خادِعُهُمْ
أي منزل الخداع بهم، وهذه عبارة عن عقوبة سماها باسم الذنب،
فعقوبتهم في الدنيا ذلهم وخوفهم وغم قلوبهم، وفي الآخرة عذاب
جهنم، وقال السدي وابن جريج والحسن وغيرهم من المفسرين: إن هذا
الخدع هو أن الله تعالى يعطي لهذه الأمة يوم القيامة نورا لكل
إنسان مؤمن أو منافق، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا،
فإذا جاؤوا إلى الصراط طفىء نور كل منافق، ونهض المؤمنون بذاك،
فذلك قول المنافقين «انظرونا نقتبس من نوركم» وذلك هو الخدع
الذي يجري على المنافقين، وقرأ مسلمة بن عبد الله النحوي «وهو
خادعهم» بإسكان العين وذلك على التخفيف ثم ذكر تعالى كسلهم في
القيام إلى الصلاة، وتلك حال كل من يعمل العمل كارها غير معتقد
فيه الصواب تقية أو مصانعة، وقرأ ابن هرمز الأعرج «كسالى» بفتح
الكاف، وقرأ جمهور الناس «يرءّون» بهمزة مضمومة مشددة بين
الراء والواو دون ألف، وهي تعدية رأى بالتضعيف وهي أقوى في
المعنى من يُراؤُنَ
لأن معناها يحملون الناس على أن يروهم، ويتظاهرون لهم بالصلاة
وهم يبطنون النفاق، وتقليله ذكرهم يحتمل وجهين، قال الحسن: قل
لأنه كان لغير الله، فهذا وجه، والآخر أنه قليل بالنسبة إلى
خوضهم في الباطل وقولهم الزور والكفر، ومُذَبْذَبِينَ معناه:
مضطربين لا يثبتون على حال، والتذبذب: الاضطراب بخجل أو خوف أو
إسراع في مشي ونحوه، ومنه قول النابغة:
ترى كل ملك دونها يتذبذب
ومنه قول الآخر: [البعيث بن حريث] :
خيال لأمّ السّلسبيل ودونها ... مسيرة شهر للبريد المذبذب
بكسر الذال الثانية، قال أبو الفتح: أي المهتز القلق الذي لا
يثبت، ولا يتمهل فهؤلاء المنافقون مترددون بين الكفار
والمؤمنين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين»
، فالإشارة بذلك إلى حالي الكفر والإيمان، وأشار إليه وإن لم
يتقدم ذكره، لظهور تضمن الكلام له، كما جاء حَتَّى تَوارَتْ
بِالْحِجابِ [ص: 32] وكُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26]
وقرأ جمهور الناس «مذبذبين» بفتح الذال الأولى والثانية، وقرأ
ابن عباس وعمرو بن فائد، «مذبذبين» بكسر الذال الثانية، وقرأ
أبي بن كعب «متذبذبين» بالتاء وكسر الذال الثانية، وقرأ الحسن
بن أبي الحسن «مذبذبين» بفتح الميم والذالين وهي قراءة مردودة.
وقوله تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا معناه سبيل هدى
وإرشاد.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 144 الى 147]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ
الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ
وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا
وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ
لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ
اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ
اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)
(2/127)
خطابه تعالى للمؤمنين، يدخل فيه بحكم
الظاهر المنافقون المظهرون للإيمان، ففي اللفظ رفق بهم، وهم
المراد بقوله تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ
عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً لأن التوقيف إنما هو لمن ألم
بشيء من الفعل المؤدي إلى هذه الحال، والمؤمنون المخلصون ما
ألموا قط بشيء من ذلك، ويقوي هذا المنزع قوله تعالى: مِنْ
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي والمؤمنون العارفون المخلصون غيب عن
هذه الموالاة، وهذا لا يقال للمؤمنين المخلصين، بل المعنى: يا
أيها الذين أظهروا الإيمان والتزموا لوازمه، و «السلطان» :
الحجة، وهي لفظة تؤنث وتذكر، والتذكير أشهر، وهي لغة القرآن
حيث وقع، والسلطان إذا سمي به صاحب الأمر فهو على حذف مضاف،
والتقدير: ذو السلطان أي ذو الحجة على الناس، إذ هو مدبرهم،
والناظر في منافعهم، ثم أخبر تعالى عن المنافقين أنهم فِي
الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ من نار جهنم، وهي ادراك بعضها فوق بعض
سبعة طبقة على طبقة، أعلاها هي جهنم وقد يسمى جميعها باسم
الطبقة العليا، فالمنافقون الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر
هم في أسفل طبقة من النار، لأنهم أسوأ غوائل من الكفار وأشد
تمكنا من أذى المسلمين، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «في
الدرك» مفتوحة الراء، وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن
وثاب «في الدرك» بسكون الراء، واختلف عن عاصم فروي عنه الفتح
والسكون، وهما لغتان، قال أبو علي: كالشمع والشمع ونحوه، وروي
عن أبي هريرة وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم قالوا:
المنافقون في الدرك الأسفل من النار في توابيت من النار تقفل
عليهم، و «النصير» : بناء مبالغة من النصر، ثم استثنى عز وجل
التائبين من المنافقين، ومن شروط التائب أن يصلح في قوله
وفعله، ويعتصم بالله، أي يجعله منعته وملجأه، ويخلص دينه لله
تعالى، وإلا فليس بتائب، وقال حذيفة بن اليمان بحضرة عبد الله
بن مسعود: والله ليدخلن الجنة قوم كانوا منافقين، فقال له عبد
الله بن مسعود: وما علمك بذلك؟ فغضب حذيفة وتنحى، فلما تفرقوا
مر به علقمة فدعاه وقال: أما إن صاحبكم يعلم الذي قلت، ثم تلا
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا الآية،
وأخبر تعالى أنهم مع المؤمنين في رحمة الله وفي منازل الجنة،
ثم وعد المؤمنين «الأجر العظيم» ، وحذفت الياء من يُؤْتِ في
المصحف تخفيفا قال الزجّاج: لسكونها وسكون اللام في اللَّهُ
كما حذفت من قوله يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ [ق: 41] وكذلك
سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18] وأمثال هذا كثير، و «الأجر
العظيم» : التخليد في الجنة، ثم قال تعالى للمنافقين، ما
يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ الآية، أي: أي
منفعة له في ذلك أو حاجة؟ والشكر على الحقيقة لا يكون إلا
مقترنا بالإيمان، لكنه ذكر الإيمان تأكيدا وتنبيها على جلالة
موقعه، ثم وعد الله تعالى بقوله: وَكانَ اللَّهُ شاكِراً
عَلِيماً، أي يتقبل أقل شيء من العمل وينميه، فذلك شكر منه
لعباده، والشكور من البهائم الذي يأكل قليلا ويظهر به بدنه،
والعرب
(2/128)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا
خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ
بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا
بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ
حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
تقول في مثل أشكر من بروقة، لأنها يقال:
تخضر وتنضر بظل السحاب دون مطر، وفي قوله عَلِيماً تحذير وندب
إلى الإخلاص.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 151]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ
إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148)
إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ
سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) إِنَّ
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ
بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا
بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ
حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151)
المحبة في الشاهد إرادة يقترن بها استحسان وميل اعتقاد، فتكون
الأفعال الظاهرة من المحب بحسب ذلك، والْجَهْرَ بِالسُّوءِ
مِنَ الْقَوْلِ لا يكون من الله تعالى فيه شيء من ذلك، أما أنه
يريد وقوع الواقع منه ولا يحبه هو في نفسه. والْجَهْرَ: كشف
الشيء، ومنه الجهرة في قول الله تعالى أَرِنَا اللَّهَ
جَهْرَةً [النساء: 53] ومنه قولهم: جهرت البير، إذا حفرت حتى
أخرجت ماءها، واختلف القراء في قوله تعالى إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
وقراءة جمهور الناس بضم الظاء وكسر اللام، وقرأ ابن أبي إسحاق
وزيد بن أسلم والضحاك بن مزاحم وابن عباس وابن جبير وعطاء بن
السائب وعبد الأعلى بن عبد الله بن مسلم بن يسار ومسلم بن يسار
وغيرهم «إلا من ظلم» بفتح الظاء واللام، واختلف المتأولون على
القراءة بضم الظاء، فقالت فرقة: المعنى لا يحب الله أن يجهر
أحد بالسوء من القول «إلا من ظلم» فلا يكره له الجهر به، ثم
اختلفت هذه الفرقة في كيفية الجهر بالسوء وما هو المباح من
ذلك، فقال الحسن: هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه، ولكن
ليقل: اللهم أعنّي عليه، اللهم استخرج لي حقي، اللهم حل بيني
وبين ما يريد من ظلمي، وقال ابن عباس وغيره: المباح لمن ظلم أن
يدعو على من ظلمه، وإن صبر فهو أحسن له، وقال مجاهد وغيره: هو
في الضيف المحول رحله، فإنه يجهر الذي لم يكرمه بالسوء من
القول، فقد رخص له أن يقول فيه: وفي هذا نزلت الآية، ومقتضاها
ذكر الظلم وتبيين الظلامة في ضيافة وغيرها، وقال ابن عباس
والسدي: لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه، ويجهر له
بالسوء من القول.
قال القاضي رحمه الله: فهذه الأقوال على أربع مراتب:
قول الحسن دعاء في المدافعة، وتلك أقل منازل السوء من القول.
وقول ابن عباس الدعاء على الظالم بإطلاق في نوع الدعاء.
وقول مجاهد، ذكر الظلامة والظلم.
وقول السدي الانتصار بما يوازي الظلامة.
وقال ابن المستنير: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ معناه إلا من أكره على
أن يجهر بسوء من القول كفرا أو نحوه،
(2/129)
وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ
أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ
سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا
اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ
ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى
سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
فذلك مباح، والآية في الإكراه، واختلف
المتأولون على القراءة بفتح الضاد واللام، فقال ابن زيد:
المعنى «إلا من ظلم» في قول أو في فعل، فاجهروا له بالسوء من
القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ والرد عليه، قال: وذلك
أنه لما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من
النار، كان ذلك جهرا بالسوء من القول. ثم قال لهم بعد ذلك ما
يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ [النساء: 147] الآية، على معنى
التأنيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان، ثم قال للمؤمنين: «ولا
يحب الله أن يجهر بالسوء من القول إلا لمن ظلم» في إقامته على
النفاق، فإنه يقال له: ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة
الدرك الأسفل؟
ونحو هذا من الأقوال، وقال قوم معنى الكلام: «ولا يحب الله أن
يجهر أحد بالسوء من القول» ، ثم استثنى استثناء منقطعا،
تقديره: لكن من ظلم فهو يجهر بالسوء وهو ظالم في ذلك وإعراب
مِنَ يحتمل في بعض هذه التأويلات النصب، ويحتمل الرفع على
البدل من أحد المقدر، و «سميع عليم» : صفتان لائقتان بالجهر
بالسوء وبالظلم أيضا، فإنه يعلمه ويجازي عليه، ولما ذكر تعالى
عذر المظلوم في أن يجهر بالسوء لظالمه، أتبع ذلك عرض إبداء
الخير وإخفائه، والعفو عن السوء، ثم وعد عليه بقوله فَإِنَّ
اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً وعدا خفيا تقتضيه البلاغة ورغب
في العفو إذ ذكر أنها صفته مع القدرة على الانتقام، ففي هذه
الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأملها، وقوله تعالى: إِنَّ
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ إلى آخر الآية.
نزل في اليهود والنصارى، لأنهم في كفرهم بمحمد عليه السلام
كأنهم قد كفروا بجميع الرسل. وكفرهم بالرسل كفر بالله، وفرقوا
بين الله ورسله في أنهم قالوا: نحن نؤمن بالله ولا نؤمن بفلان
وفلان من الأنبياء، وقولهم نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ
بِبَعْضٍ قيل: معناه من الأنبياء، وقيل: هو تصديق بعضهم لمحمد
في أنه نبي، لكن ليس إلى بني إسرائيل، ونحو هذا من تفريقاتهم
التي كانت تعنتا وروغانا. وقوله بَيْنَ ذلِكَ أي بين الإيمان
والإسلام والكفر الصريح المجلح، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم
الكافرون حقا، لئلا يظن أحد أن ذلك القدر الذي عندهم من
الإيمان ينفعهم، وباقي الآية وعيد.
[سورة النساء (4) : الآيات 152 الى 153]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ
أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ
كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ
ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ
بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ
وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153)
لما ذكر الله تعالى أن المفرقين بين الرسل هم الكافرون حقا،
عقب ذلك بذكر المؤمنين بالله ورسله جميعا. وهم المؤمنون بمحمد
عليه السلام ليصرح بوعد هؤلاء كما صرح بوعيد أولئك، فبين الفرق
بين المنزلتين، وقرأ بعض السبعة «سوف يؤتيهم» بالياء أي يؤتيهم
الله، وقرأ الأكثر «سوف نؤتيهم» بالنون، منهم ابن كثير ونافع
وأبو عمرو، واختلف المتأولون في كيفية سؤال أهل الكتاب لمحمد
عليه السلام أن ينزل عليهم كتابا من السماء، فقال السدي: قالت
اليهود: يا محمد إن كنت صادقا فجىء بكتاب من
(2/130)
وَرَفَعْنَا
فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ
ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا
فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ
اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا
بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا
عَظِيمًا (156)
السماء كما جاء موسى بكتاب، وقال محمد بن
كعب القرظي: قد جاء موسى بألواح فيها التوراة فجيء أنت بألواح
فيها كتابك، وقال قتادة: بل سألوه أن يأتي بكتاب خاص لليهود،
يأمرهم فيه بالإيمان بمحمد، وقال ابن جريج: قالت اليهود: يا
محمد لن نتابعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند
الله إلى فلان وإلى فلان أنك رسول الله.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: فقول ابن جريج يقتضي أن
سؤالهم كان على نحو سؤال عبد الله بن أبي أمية المخزومي
القرشي، ثم قال تعالى فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ
ذلِكَ على جهة التسلية لمحمد عليه السلام، وعرض الأسوة، وفي
الكلام متروك يدل عليه المذكور، تقديره: فلا تبال يا محمد عن
سؤالهم وتشططهم فإنها عادتهم، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ
مِنْ ذلِكَ، وقرأ جمهور الناس «أكبر» بالباء المنقوطة بواحدة،
وقرأ الحسن بن أبي الحسن «أكثر» بالثاء المثلثة، وجمهور الناس
«أكبر» بالباء المنقوطة بواحدة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن
«أكثر» بالثاء المثلثة، وجمهور المتأولين على أن جَهْرَةً
معمول ل أَرِنَا، أي: حتى نراه جهارا أي عيانا رؤية منكشفة
بينة، وروي عن ابن عباس أنه كان يرى أن جَهْرَةً معمول لقالوا،
أي قالوا جهرة منهم وتصريحا أَرِنَا اللَّهَ.
قال القاضي أبو محمد: وأهل السنة معتقدون أن هؤلاء لم يسألوا
محالا عقلا، لكنه محال من جهة الشرع، إذ قد أخبر تعالى على
ألسنة أنبيائه أنه لا يرى في هذه الحياة الدنيا، والرؤية في
الآخرة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر المتواتر،
وهي جائزة عقلا دون تحديد ولا تكييف ولا تحيز، كما هو تعالى
معلوم لا كالمعلومات كذاك هو مرئي لا كالمرئيات، هذه حجة أهل
السنة وقولهم، ولقد حدثني أبي رضي الله عنه عن أبي عبد الله
النحوي أنه كان يقول عند تدريس هذه المسألة: مثال العلم بالله
حلق لحا المعتزلة في إنكارهم الرؤية، والجملة التي قالت
أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً هي التي مضت مع موسى لحضور المناجاة،
وقد تقدم قصصها في سورة البقرة، وقرأ جمهور الناس «فأخذتهم
الصاعقة» وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي «الصعقة»
والمعنى يتقارب، إذ ذلك كله عبارة عن الوقع الشديد من الصوت
يصيب الإنسان بشدته وهو له خمود وركود حواس، وبِظُلْمِهِمْ هو
تعنتهم وسؤالهم ما ليس لهم أن يسألوه. وقوله تعالى: قد كان من
أمرهم أن اتخذوا العجل، وذلك أن اتخاذ العجل كان عند أمر المضي
للمناجاة، فلم يكن الذين صعقوا ممن اتخذوا العجل، لكن الذين
اتخذوه كانوا قد جاءتهم البينات في أمر إجازة البحر وأمر العصا
وغرق فرعون وغير ذلك، وقوله تعالى: فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ يعني
بما امتحنهم به من القتل لأنفسهم، ثم وقع العفو عن الباقين
منهم، و «السلطان» الحجة.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 154 الى 156]
وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ
ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي
السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما
نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ
وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ
قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ
فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ
وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156)
الطُّورَ الجبل اسم جنس، هذا قول، وقيل الطُّورَ: كل جبل غير
منبت، وبالشام جبل قد
(2/131)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا
قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا
لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا
قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ
وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
عرف بالطور ولزمه الاسم وهو طور سيناء،
وليس بالمرفوع على بني إسرائيل، لأن رفع الجبل كان فيما يلي
فحص التيه من جهة ديار مصر، وهم ناهضون مع موسى عليه السلام،
وقد تقدم في سورة البقرة قصص رفع الطور، وقوله بِمِيثاقِهِمْ
أي بسبب ميثاقهم أن يعطوه في أخذ الكتاب بقوة والعمل بما فيه،
وقوله تعالى: وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً هو
باب بيت المقدس المعروف بباب حطة، أمروا أن يتواضعوا شكرا لله
تعالى على الفتح الذي منحهم في تلك البلاد، وأن يدخلوا باب
المدينة سجّدا. وهذا نوع من سجدة الشكر التي قد فعلها كثير من
العلماء، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان مالك بن
أنس رحمه الله لا يراها. وقوله تعالى وَقُلْنا لَهُمْ لا
تَعْدُوا فِي السَّبْتِ أي على الحيتان وفي سائر الأعمال،
وهؤلاء كانوا بأيلة من ساحل البحر فأمروا بالسكون عن كل شغل في
يوم السبت فلم يفعلوا، بل اصطادوا وتصرفوا، وقد تقدم قصص ذلك،
وأخذ الله تعالى منهم «الميثاق الغليظ» هو على لسان موسى
وهارون وغيرهما من الأنبياء، أي بأنهم يأخذون التوراة بقوة،
ويعملون بجميع ما فيها، ويوصلونه إلى أبنائهم ويؤدون الأمانة
فيه.
وقوله تعالى فَبِما نَقْضِهِمْ الآية، إخبار عن أشياء واقعوها
هي في الضد مما أمروا به وذلك أن الميثاق الذي رفع الطور من
أجله نقضوه، والإيمان الذي تضمنه ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً
إذ ذلك التواضع إنما هو ثمرة الإيمان والإخبات جعلوا بدله
كفرهم بآيات الله، وقولهم: حبة في شعرة وحنطة في شعيرة، ونحو
ذلك مما هو استخفاف بأمر الله وكفر به، وكذلك أمروا أن لا
يعتدوا في السبت، وفي ضمن ذلك الطاعة وسماع الأمر، فجعلوا بدل
ذلك الانتهاء إلى انتهاك أعظم حرمة، وهي قتل الأنبياء، وكذلك
أخذ «الميثاق الغليظ» منهم تضمن فهمهم بقدر ما التزموه، فجعلوا
بدل ذلك تجاهلهم. وقولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ أي هي في حجب وغلف،
فهي لا تفهم، وأخبر الله تعالى أن ذلك كله عن طبع منه على
قلوبهم، وأنهم كذبة فيما يدعونه من قلة الفهم، وقرأ نافع
«تعدّوا» بسكون العين وشد الدال المضمومة، وروى عنه ورش
«تعدّوا» بفتح العين وشد الدال المضمومة، وقرأ الباقون «لا
تعدوا» ساكنة العين خفيفة الدال مضمومة، وقرأ الأعمش والحسن
«لا تعتدوا» وقوله تعالى: فَبِما ما زائدة مؤكدة، التقدير
فبنقضهم، وحذف جواب هذا الكلام بليغ منهم، متروك مع ذهن
السامع، تقديره لعناهم وأذللناهم، وحتمنا على الموافين منهم
الخلود في جهنم.
ثم قال تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ أي في أمر عيسى عليه السلام،
وقولهم على مريم بهتانا، يعني رميهم إياها بالزنا مع رؤيتهم
الآية في كلام عيسى في المهد، وإلا فلولا الآية لكانوا في
قولهم جارين على حكم البشر في إنكار حمل من غير ذكر و
«البهتان» : مصدر من قولك بهته إذا قابله بأمر مبهت يحار معه
الذهن وهو رمي بباطل.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 157 الى 159]
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ
وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ
لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ
اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ
رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
(158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ
قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ
شَهِيداً (159)
(2/132)
هذه الآية والتي قبلها عدد الله تعالى فيها
أقوال بني إسرائيل وأفعالهم على اختلاف الأزمان وتعاقب القرون،
فاجتمع من ذلك توبيخ خلفهم المعاصرين لمحمد صلى الله عليه
وسلم، وبيان الحجة في أن وجبت لهم اللعنة وضربت عليهم الذلة
والمسكنة، فهذه الطائفة التي قالت إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ
غير الذين نقضوا الميثاق في الطور، وغير الذين اتخذوا العجل،
وقول بني إسرائيل إنما هو إلى قوله: عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
وقوله عز وجل: رَسُولَ اللَّهِ إنما هو إخبار من الله تعالى
بصفة لعيسى وهي الرسالة، على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين
بالقتل، ولزمهم الذنب وهم لم يقتلوا عيسى لأنهم صلبوا ذلك
الشخص على أنه عيسى، وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول، ولكن لزمهم
الذنب من حيث اعتقدوا أن قتلهم وقع في عيسى فكأنهم قتلوه، وإذا
كانوا قتلوه فليس يرفع الذنب عنهم اعتقادهم أنه غير رسول، كما
أن قريشا في تكذيبها رسول الله لا ينفعهم فيه اعتقادهم أنه
كذاب، بل جازاهم الله على حقيقة الأمر في نفسه، ثم أخبر تعالى
أن بني إسرائيل ما قتلوا عيسى ولا صلبوه ولكن شبه لهم، واختلفت
الرواة في هذه القصة وكيفيتها اختلافا شديدا أنا أختصر عيونه،
إذ ليس في جميعه شيء يقطع بصحته، لأنه لم يثبت عن النبي عليه
السلام فيه شيء، وليس لنا متعلق في ترجيح شيء منه إلا ألفاظ
كتاب الله، فالذي لا نشك فيه أن عيسى عليه السلام كان يسيح في
الأرض ويدعو إلى الله، وكانت بنو إسرائيل تطلبه، وملكهم في ذلك
الزمان يجعل عليه الجعائل، وكان عيسى قد انضوى إليه الحواريون
يسيرون معه حيث سار، فلما كان في بعض الأوقات شعر بأمر عيسى،
فروي أن أحد الحواريين رشي عليه فقبل الرشوة ودل على مكانه
فأحيط به، ثم ندم ذلك الحواري وخنق نفسه، وروي أن رجلا من
اليهود جعل له جعل فما زال ينقر عليه حتى دل على مكانه، فلما
أحس عيسى وأصحابه بتلاحق الطالبين بهم دخلوا بيتا بمرأى من بني
إسرائيل فروي: أنهم عدوهم ثلاثة عشر، وروي ثمانية عشر وحصروا
ليلا فروي أن عيسى فرق الحواريين عن نفسه تلك الليلة، ووجههم
إلى الآفاق، وبقي هو ورجل معه فرفع عيسى وألقي شبهه على الرجل
فصلب ذلك الرجل، وروي أن الشبه ألقي على اليهودي الذي دل عليه
فصلب، وروي أن عيسى عليه السلام لما أحيط بهم قال لأصحابه:
أيكم يلقى شبهي عليه فيقتل ويخلص هؤلاء وهو رفيقي في الجنة؟
فقال سرجس: أنا، وألقي عليه شبه عيسى، ويروى أن شبه عيسى عليه
السلام ألقي على الجماعة كلها، فلما أخرجهم بنو إسرائيل نقص
واحد من العدة، فأخذوا واحدا ممن ألقي عليه الشبه حسب هذه
الروايات التي ذكرتها، فصلب ذلك الشخص، وروي: أن الملك
والمتناولين لم يخف عليهم أمر رفع عيسى لما رأوه من نقصان
العدة واختلاط الأمر، فصلب ذلك الشخص وأبعد الناس عن خشبته
أياما حتى تغير ولم تثبت له صفة، وحينئذ دنا الناس منه ومضى
الحواريون يحدثون بالآفاق أن عيسى صلب، فهذا أيضا يدل على أنه
فرقهم وهو في البيت، أو على أن الشبه ألقي على الكل، وروي أن
هذه القصة كلها لم يكن فيها إلقاء شبه شخص عيسى على أحد وإنما
المعنى وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أي شبه عليهم الملك الممخرق،
ليستديم ملكه، وذلك أنه لما نقص واحد من
(2/133)
الجماعة وفقد عيسى عمد إلى أحدهم وبطش
بصلبه وفرق الناس عنه. وقال: هذا عيسى قد صلب وانحل أمره،
وقوله تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني اختلاف
المحلولين لأخذه، لأنهم حين فقدوا واحدا من العدد وتحدث برفع
عيسى اضطربوا واختلفوا، وعلى رواية من روى أنه ألقي شبه يوشك
أنه بقي في ذلك الشبه مواضع للاختلاف، لكن أجمعوا على صلب واحد
على غير ثقة ولا يقين أيهم هو.
قال القاضي- رحمه الله: الذي صح فيه نقل الكافة عن حواسها هو
أن شخصا صلب، وأما هل هو عيسى أم لا؟ فليس من علم الحواس،
فلذلك لم ينفع في ذلك نقل كافة اليهود والنصارى، ونفى الله
عنهم أن يكون لهم في أمره علم على ما هو به، ثم استثنى اتباع
الظن وهو استثناء متصل، إذ الظن والعلم يضمهما جنس واحد أنهما
من معتقدات النفس، وقد يقول الظان على طريق التجوز: علمي في
هذا الأمر أنه كذا، وهو يعني ظنه. وقوله تعالى: وَما قَتَلُوهُ
يَقِيناً اختلف المتأولون في عود الضمير من قَتَلُوهُ فقالت
فرقة: هو عائد على الظن كما تقول: قتلت هذا الأمر علما،
فالمعنى وما صح ظنهم عندهم ولا تحققوه يقينا، هذا قول ابن عباس
والسدي وجماعة، وقال قوم: الضمير عائد على عيسى، أخبر أنهم لم
يقتلوه يقينا، فيصح لهم الإصفاق ويثبت نقل كافتهم، ومضمن
الكلام أنهم ما قتلوه في الحقيقة جملة واحدة لا يقينا ولا شكا،
لكن لما حصلت في ذلك الدعوى صار قتله عندهم مشكوكا فيه، وقال
قوم من أهل اللسان: الكلام تام في قوله وَما قَتَلُوهُ
ويَقِيناً مصدر مؤكد للنفي في قوله وَما قَتَلُوهُ المعنى
يخبركم يقينا، أو يقص عليكم يقينا، أو أيقنوا بذلك يقينا،
وقوله تعالى بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ يعني إلى سمائه
وكرامته، وعيسى عليه السلام حي في السماء الثانية على ما تضمن
حديث الإسراء في ذكر ابني الخالة عيسى ويحيى ذكره البخاري في
حديث المعراج، وذكره غيره، وهو هناك مقيم حتى ينزله الله لقتل
الدجال، وليملأ الأرض عدلا، ويحيا فيها أربعين سنة ثم يموت كما
يموت البشر.
وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ اختلف المتأولون في معنى
الآية فقال ابن عباس وأبو مالك والحسن بن أبي الحسن وغيرهم:
الضمير في مَوْتِهِ راجع إلى عيسى، والمعنى أنه لا يبقى من أهل
الكتاب أحد إذا نزل عيسى إلى الأرض إلا يؤمن بعيسى كما يؤمن
سائر البشر، وترجع الأديان كلها واحدا، وقال مجاهد وابن عباس
أيضا وغيرهما: الضمير في بِهِ لعيسى وفي مَوْتِهِ للكتابي الذي
تضمنه قوله وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ التقدير: وإن من أهل
الكتاب أحد، قالوا: وليس يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى روح الله،
ويعلم أنه نبي ولكن عند المعاينة للموت، فهو إيمان لا ينفعه،
كما لم ينفع فرعون إيمانه عند المعاينة، وقال هذا القول عكرمة
والضحاك والحسن بن أبي الحسن أيضا، وقال عكرمة أيضا: الضمير في
بِهِ لمحمد عليه السلام، وقَبْلَ مَوْتِهِ للكتابي، قال: وليس
يخرج يهودي ولا نصراني من الدنيا حتى يؤمن بمحمد، ولو غرق أو
سقط عليه جدار فإنه يؤمن في ذلك الوقت، وفي مصحف أبي بن كعب
«قبل موتهم» ففي هذه القراءة تقوية لعود الضمير على الكتابي،
وقرأ الفياض بن غزوان «وإنّ من أهل الكتاب» بتشديد «إن» .
والضمير المستتر في يكون هو لعيسى عليه السلام في جل الأقوال،
ولمحمد عليه السلام في قول عكرمة.
(2/134)
فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ
لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ
أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ
سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 162]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ
طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا
عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ
يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ
وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ
سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ عطف على قوله فَبِما نَقْضِهِمْ
[النساء: 155] كأنه قال فبنقضهم لعناهم وأوجبنا عذابهم، فبظلم
منهم حرمنا عليهم المطاعم، وجعل الله تعالى هذه العقوبة
الدنيوية إزاء ظلم بني إسرائيل في تعنتهم وسائر أخلاقهم
الدميمة، و «الطيبات» هنا: هي الشحوم وبعض الذبائح والطير
والحوت وغير ذلك، وقرأ ابن عباس «طيبات كانت أحلت لهم» وقوله
تعالى وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً يحتمل أن
يريد صدهم في ذاتهم، ويحتمل أن يريد صدهم غيرهم، وإلى هذا ذهب
الطبري، وقال: هو جحدهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم
صدوا بذلك جمعا عظيما من الناس عن سبيل الله وَأَخْذِهِمُ
الرِّبَوا: هو الدرهم بالدرهمين إلى أجل ونحو ذلك مما هو
مفسدة، وقد نهوا عنه فشرعوه لأنفسهم واستمروا عليه من ذلك، ومن
كراء العين ونحوه، وأكل أموال الناس بالباطل: هو الرشى، ثم
استثنى الله تعالى من بني إسرائيل «الراسخين» في علم التوراة
الذين قد تحققوا أمر محمد عليه السلام وعلاماته، وهم: عبد الله
بن سلام، ومخيريق، ومن جرى مجراهما، وَالْمُؤْمِنُونَ: عطف على
الراسخين، و «ما أنزل» إلى محمد هو القرآن، والذي أنزل من
قبله: هو التوراة والإنجيل، واختلف الناس في معنى قوله
وَالْمُقِيمِينَ وكيف خالف إعرابها إعراب ما تقدم وتأخر، فقال
أبان بن عثمان بن عفان وعائشة رضي الله عنها: ذلك من خطأ كاتب
المصحف، وروي أنها في مصحف أبيّ بن كعب «والمقيمون» وقد روي
أنها فيه وَالْمُقِيمِينَ كما هي في مصحف عثمان. قال الفراء:
وفي مصحف ابن مسعود «والمقيمون» وكذلك روى عصمة عن الأعمش،
وكذلك قرأ سعيد بن جبير، وكذا قرأ عمرو بن عبيد والجحدري وعيسى
بن عمر ومالك بن دينار، وكذلك روى يونس وهارون عن أبي عمرو،
وقال آخرون: ليس ذلك من خطأ الكاتب ولا خطأ في المصحف، وإنما
هذا من قطع النعوت إذا كثرت على النصب بأعني، والرفع بعد ذلك
بهم، وذهب إلى هذا المعنى بعض نحويي الكوفة والبصرة، وحكي عن
سيبويه: أنه قطع على المدح، وخبر لكِنِ يُؤْمِنُونَ لأن المدح
لا يكون إلا بعد تمام الجملة الأولى، وهذا كقول خرنق بنت هفان:
[الكامل]
لا يبعدن قومي الّذين هم ... سمّ العداة وآفة الجزر
النّازلين بكلّ معترك ... والطّيّبون معاقد الأزر
قال القاضي أبو محمد: وقد فرق بين الآية والبيت بحرف العطف
الذي في الآية، فإنه يمنع عند بعضهم تقدير الفعل، وفي هذا نظر،
وقال قوم: قوله تعالى وَالْمُقِيمِينَ ليس بعطف على قوله
(2/135)
إِنَّا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ
وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ
زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ
قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ
اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
وَالْمُؤْمِنُونَ ولكن على ما في قوله وَما
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ والمعنى ويؤمنون بالمقيمين الصلاة وهم
الملائكة، وقال بعضهم: بل من تقدم من الأنبياء، قالوا: ثم رجع
بقوله وَالْمُؤْتُونَ فعطف على قوله وَالْمُؤْمِنُونَ وقال قوم
وَالْمُقِيمِينَ عطف على ما أُنْزِلَ، والمراد بهم المؤمنون
بمحمد، أي يؤمن الراسخون بهم وبما هم عليه، ويكون قوله
الْمُؤْتُونَ أي وهم المؤتون، وقال قوم وَالْمُقِيمِينَ عطف
على الضمير في منهم، وقال آخرون: بل على الكاف في قوله مِنْ
قَبْلِكَ ويعني الأنبياء، وقرأت فرقة «سنؤتيهم» بالنون، وقرأت
فرقة «سيؤتيهم» بالياء.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 164]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ
وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى
وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ
زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ
قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ
اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164)
روي عن عبد الله بن عباس: أن سبب هذه الآية أن سكينا الحبر
وعدي بن زيد قالا: يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر شيئا
بعد موسى، ولا أوحى إليه، فنزلت هذه الآية تكذيبا لقولهما.
وقال محمد بن كعب القرظي: لما أنزل الله يَسْئَلُكَ أَهْلُ
الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ
[النساء:
153] إلى آخر الآيات، فتليت عليهم وسمعوا الخبر بأعمالهم
الخبيثة قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء ولا على موسى ولا
على عيسى وجحدوا جميع ذلك فأنزل الله وَما قَدَرُوا اللَّهَ
حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ
مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91] والوحي: إلقاء المعنى في خفاء،
وعرفه في الأنبياء بواسطة جبريل عليه السلام، وذلك هو المراد
بقوله كَما أَوْحَيْنا أي بملك ينزل من عند الله، ونُوحٍ أول
الرسل في الأرض إلى أمة كافرة، وصرف نوح مع العجمة والتعريف
لخفته، وإِبْراهِيمَ عليه السلام هو الخليل، وَإِسْماعِيلَ
ابنه الأكبر وهو الذبيح في قول المحققين، وهو أبو العرب،
وَإِسْحاقَ ابنه الأصغر وَيَعْقُوبَ هو ولد إسحاق وهو إسرائيل،
وَالْأَسْباطِ: بنو يعقوب، يوسف وإخوته، وَعِيسى هو المسيح،
وَأَيُّوبَ هو المبتلى الصابر، وَيُونُسَ هو ابن متى، وروى ابن
جماز عن نافع: يونس بكسر النون، وقرأ ابن وثاب والنخعي-
بفتحها، وهي كلها لغات، وَهارُونَ هو ابن عمران، وَسُلَيْمانَ
هو النبي الملك، وداوُدَ: أبوه، وقرأ جمهور الناس «زبورا» بفتح
الزاي، وهو اسم كتاب داود تخصيصا، وكل كتاب في اللغة فهو زبور
من حيث تقول زبرت الكتاب إذا كتبته، وقرأ حمزة وحده «زبورا»
بضم الزاي، قال أبو علي: يحتمل أن يكون جمع زبر، أوقع على
المزبور اسم الزبر، كما قالوا ضرب الأمير. ونسج اليمن. وكأن
سمي المكتوب كتابا، ويحتمل أن يكون جمع زبور على حذف الزيادة،
كما قالوا: ظريف وظروف وكروان وكروان وورشان وورشان، ونحو ذلك
مما جمع بحذف الزيادة، ويقوي هذا الوجه أن التكسير مثل
التصغير. وقد اطرد هذا المعنى في
(2/136)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
(165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى
بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ
لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا
طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
تصغير الترخيم نحو أزهر وزهير، وحارث
وحريث، وثابت وثبيت، فالجمع مثله في القياس إن كان أقل منه في
الاستعمال.
وقوله تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ الآية، نصب
رُسُلًا على المعنى، لأن المعنى إنا أرسلناك كما أرسلنا نوحا،
ويحتمل أن ينصب رُسُلًا بفعل مضمر تقديره أرسلنا رسلا، لأن
الرد على اليهود إنما هو في إنكارهم إرسال الرسل واطراد الوحي،
وفي حرف أبي بن كعب «ورسل» في الموضعين بالرفع على تقديرهم
رسل، وقَصَصْناهُمْ معناه ذكرنا أسماءهم وأخبارهم، وقوله
تعالى: وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ يقتضي كثرة
الأنبياء دون تحديد بعدد، وقد قال تعالى وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] وقال تعالى: وَقُرُوناً
بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الفرقان: 38] وما يذكر من عدد الأنبياء
فغير صحيح، الله أعلم بعدتهم، صلى الله عليهم، وقوله تعالى:
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً إخبار بخاصة موسى، وأن
الله تعالى شرفه بكلامه ثم أكد تعالى الفعل بالمصدر، وذلك
منبىء في الأغلب عن تحقيق الفعل ووقوعه، وأنه خارج عن وجوه
المجاز والاستعارة، لا يجوز أن تقول العرب: امتلأ الحوض وقال:
قطني قولا، فإنما تؤكد بالمصادر الحقائق. ومما شذ قول هند بنت
النعمان بن بشير:
وعجت عجيجا من جذام المطارف.
وكلام الله للنبي موسى عليه السلام دون تكييف ولا تحديد ولا
تجويز حدوث ولا حروف ولا أصوات، والذي عليه الراسخون في العلم:
أن الكلام هو المعنى القائم في النفس، ويخلق الله لموسى أو
جبريل إدراكا من جهة السمع يتحصل به الكلام، وكما أن الله
تعالى موجود لا كالموجودات، معلوم لا كالمعلومات فكذلك كلامه
لا كالكلام، وما روي عن كعب الأحبار وعن محمد بن كعب القرظي
ونحوهما:
من أن الذي سمع موسى كان كأشد ما يسمع من الصواعق، وفي رواية
أخرى كالرعد الساكن فذلك كله غير مرضي عند الأصوليين، وقرأ
جمهور الأمة «وكلم الله موسى» بالرفع في اسم الله، وقرأ يحيى
بن وثاب وإبراهيم النخعي «وكلم الله» بالنصب على أن موسى هو
المكلم، وهي قراءة ضعيفة من جهة الاشتهار، لكنها مخرجة من عدة
تأويلات.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 165 الى 169]
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ
اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما
أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ
يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً
بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ
يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ
طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها
أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)
رُسُلًا بدل من الأول قبل. ومُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ حالان
أي يبشرون بالجنة من آمن وأطاع،
(2/137)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ
فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا
حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ
إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ
انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ
سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا
(171)
وينذرون بالنار من كفر وعصى، وأراد الله
تعالى أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول: لو بعث إليّ الرسول
لآمنت، والله تعالى عزيز لا يغالبه شيء ولا حجة لأحد عليه، وهو
مع ذلك حكيم تصدر أفعاله عن حكمة، فكذلك قطع الحجة بالرسل حكمة
منه تعالى.
وقوله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ الآية، سببها قول اليهود
ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:
91] وقال بعضهم لمحمد عليه السلام: ما نعلم يا محمد أن الله
أرسل إليك ولا أنزل عليك شيئا، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي
والجراح الحكمي «لكنّ الله يشهد» بشد النون ونصب المكتوبة على
اسم «لكن» وقوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ هذه الآية من
أقوى متعلقات أهل السنة في إثبات علم الله تعالى خلافا
للمعتزلة في أنهم يقولون: عالم بلا علم، والمعنى عند أهل
السنة: أنزله وهو يعلم إنزاله ونزوله، ومذهب المعتزلة في هذه
الآية أنه أنزله مقترنا بعلمه، أي فيه علمه من غيوب وأوامر
ونحو ذلك، فالعلم عبارة عن المعلومات التي في القرآن، كما هو
في قول الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا ما نقص هذا
العصفور من هذا البحر، معناه: من علم الله الذي بث في عباده،
وقرأ الجمهور «أنزل» على بناء الفعل للفاعل، وقرأ الحسن «أنزل»
بضم الهمزة على بنائه للمفعول، وقوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ
يَشْهَدُونَ تقوية لأمر محمد عليه السلام ورد على اليهود، قال
قتادة: شهود والله غير متهمة، وقوله تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ
شَهِيداً تقديره: وكفى الله شهيدا، لكن دخلت الباء لتدل على أن
المراد بالله.
ثم أخبر تعالى عن الكافرين الذين يصدون الناس عن سبيل الله
أنهم قد بعدوا عن الحق وضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً لا يقرب
رجوعهم عنه ولا تخلصهم معه، وقرأ عكرمة وابن هرمز «وصدوا» بضم
الصاد.
ثم أخبر تعالى عن الكافرين الظالمين في أن وضعوا الشيء في غير
موضعه، وهو الكفر بالله، والله تعالى يستوجب منهم غير ذلك
لنعمه الظاهرة والباطنة أنهم بحيث لم يكن ليغفر لهم، وهذه
العبارة أقوى من الإخبار المجرد أنه لا يغفر، ومثال ذلك أنك
إذا قلت: أنا لا أبيع هذا الشيء فهم منك الاغتباط به، فإذا
قلت: أنا ما كنت لأبيع هذا الشيء، فالاغتباط منك أكثر، هذا هو
المفهوم من هذه العبارة، وقوله تعالى:
وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ هذه
هداية الطرق وليست بالإرشاد على الإطلاق. وباقي الآية بيّن
يتضمن تحقير أمر الكفار، وأنهم لا يباليهم الله بالة كما ورد
في الحديث، يذهب الصالحون الأول فالأول، حتى تبقى حثالة كحثالة
التمر لا يباليهم الله بالة، المعنى: إذ هم كفار في آخر الزمان
وعليهم تقوم الساعة.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 170 الى 171]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ
مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا
فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ
اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا
تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ
الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ
اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ
انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ
سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)
المخاطبة بقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ مخاطبة لجميع الناس،
والسورة مدنية، فهذا مما خوطب به جميع
(2/138)
الناس بعد الهجرة، لأن الآية دعاء إلى
الشرع، ولو كانت في أمر من أوامر الأحكام ونحوها لكانت «يا
أيها الذين آمنوا» والرَّسُولُ في هذه الآية محمد صلى الله
عليه وسلم، وبِالْحَقِّ في شرعه، وقوله تعالى:
خَيْراً لَكُمْ منصوب بفعل مضمر تقديره، إيتوا خيرا لكم، أو
حوزوا خيرا لكم، وقوله فَآمِنُوا وقوله انْتَهُوا بعد ذلك، أمر
بترك الشيء والدخول في غيره، فلذلك حسنت صفة التفضيل التي هي
خير، هذا مذهب سيبويه في نصب خير، ونظيره من الشعر قول عمر بن
أبي ربيعة:
فواعديه سرحتي مالك ... أو الربى بينهما أسهلا
أي يأت أسهل، وقال أبو عبيدة التقدير يكن الإيمان خيرا
والانتهاء خيرا، فنصبه على خبر كان، وقال الفراء: التقدير
فآمنوا إيمانا خيرا لكم، فنصبه على النعت لمصدر محذوف ثم قال
تعالى وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وهذا خبر بالاستغناء، وأن ضرر الكفر إنما هو نازل
بهم، ولله تعالى العلم والحكمة.
ثم خاطب تعالى أهل الكتاب من النصارى بأن يدعوا «الغلو» ، وهو
تجاوز الحد، ومنه غلاء السعر، ومنه غلوة السهم، وقوله تعالى:
فِي دِينِكُمْ إنما معناه، في الدين الذي أنتم مطلوبون به،
فكأنه اسم جنس، وأضافه إليهم بيانا أنهم مأخوذون به، وليست
الإشارة إلى دينهم المضلل، ولا أمروا بالثبوت عليه دون غلو،
وإنما أمروا بترك الغلو في دين الله على الإطلاق، وأن يوحدوا
ولا «يقولوا على الله إلا الحق» ، وإذا سلكوا ما أمروا به،
فذلك سائقهم إلى الإسلام، ثم بين تعالى أمر المسيح وأنه
رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، أي مكون عن كلمته التي هي «كن»
وقوله أَلْقاها عبارة عن إيجاد هذا الحادث في مريم، وقال
الطبري وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها يريد جملة مخلوقاته، ف «من»
لابتداء الغاية إذا حقق النظر فيها، وقال البشارة التي بعث
الملك بها إليها، وقوله تعالى: وَرُوحٌ مِنْهُ أي من الله وقال
الطبري وَرُوحٌ مِنْهُ أي نفخة منه، إذ هي من جبريل بأمره،
وأنشد قول ذي الرمة:
فقلت له اضممها إليك وأحيها ... بروحك واقتته لها قيتة قدرا
يصف سقط النار، وقال أبيّ بن كعب: روح عيسى من أرواح الله التي
خلقها واستنطقها بقوله أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى
[الأعراف: 172] فبعثه الله إلى مريم فدخل فيها، ثم أمرهم
بالإيمان بالله ورسله، أي الذين من جملتهم عيسى ومحمد عليهما
السلام، وقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ المعنى:
الله ثالث ثلاثة، فحذف الابتداء والمضاف، كذا قدر أبو علي،
ويحتمل أن يكون المقدر: المعبود ثلاثة، أو الإله ثلاثة، أو
الآلهة ثلاثة، أو الأقانيم ثلاثة، وكيف ما تشعب اختلاف عبارات
النصارى فإنه يختلف بحسب ذلك التقدير، وقد تقدم القول في معنى
انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ.
(2/139)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا
فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
إِنَّمَا في هذه الآية حاصرة، اقتضى ذلك
العقل في المعنى المتكلم فيه، وليست صيغة إِنَّما تقتضي الحصر،
ولكنها تصلح للحصر وللمبالغة في الصفة وإن لم يكن حصر، نحو:
إنما الشجاع عنترة وغير ذلك. وسُبْحانَهُ: معناه تنزيها له
وتعظيما عن أن يكون له ولد كما تزعمون أنتم أيها النصارى في
أمر عيسى، إذ نقلتم أبوة الحنان والرأفة إلى أبوة النسل، وقرأ
الحسن بن أبي الحسن «إن يكون له ولد» بكسر الألف من «أن» وهي
نافية بمعنى ما يكون له ولد، وقوله تعالى: لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الآية: إخبار يستغرق عبودية
عيسى وغير ذلك من الأمور.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 172 الى 173]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ
عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
(172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا
فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)
ثم برأ تعالى جهة المسيح عليه السلام من أقوالهم، وخلصه للذي
يليق به فقال نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ
الآية، والاستنكاف: إباية بأنفة، وقوله تعالى: لَا
الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
زيادة في الحجة وتقريب من الأذهان، أي ولا هؤلاء الذين هم في
أعلى درجات المخلوقين، لا يستنكفون عن ذلك فكيف سواهم، وفي هذه
الآية الدليل الواضح على تفضيل الملائكة على الأنبياء، ثم أخبر
تعالى عمن يستنكف أي يأنف عن عبادة الله ويستكبر، بأنه سيناله
الحشر يوم القيامة والرد إلى الله، وقوله سَيَحْشُرُهُمْ
عبارة وعيد، وقرأ جمهور الناس «فسيحشرهم» بالياء، وقرأ الحسن
بن أبي الحسن «فسنحشرهم» بنون الجماعة، «فنوفيهم» ، «ونزيدهم»
، «فنعذبهم» ، كلها بالنون، قال أبو الفتح: وقرأ مسلمة
«فسيحشرهم» «فيعذبهم» بسكون الراء والباء على التخفيف.
وبين الله تعالى أمر المحشورين، فأخبر عن المؤمنين العاملين
بالصالحات، أنه «يوفيهم أجورهم» حتى لا يبخس أحد قليلا ولا
كثيرا، وأنه يزيدهم من فضله، وتحتمل هذه الزيادة أن تكون
المخبر عنها في أن الحسنة بعشر إلى سبعمائة ضعف، ويحتمل أن
يكون التضعيف الذي هو غير مصرد محسوب، وهو المشار إليه في قوله
تعالى: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: 261] .
قوله تعالى:
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا....
هذا وعيد للمستنكفين الذين يدعون عبادة الله أنفة وتكبرا، وهذا
الاستنكاف إنما يكون من الكفار عن اتباع الأنبياء وما جرى
مجراه، كفعل حيي بن أخطب وأخيه أبي ياسر بمحمد عليه السلام،
وكفعل أبي
(2/140)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ
مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا
(175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا
الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا
وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
جهل وغيره، وإلا فإذا فرضت أحدا من البشر
عرف الله تعالى، فمحال أن تجده يكفر به تكبرا عليه، والعناد
المجوز إنما يسوق إليه الاستكبار عن البشر، ومع تقارب المنازل
في ظن المتكبر.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 175]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ
فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ
إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ
مِنْ رَبِّكُمْ الآية إشارة إلى محمد رسول الله، و «البرهان» :
الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين التام، والمعنى: قد
جاءكم مقترنا بمحمد برهان من الله تعالى على صحة ما يدعوكم
إليه وفساد ما أنتم عليه من النحل، وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً يعني القرآن فيه بيان لكل شيء، وهو
الواعظ الزاجر، الناهي الآمر.
ثم وعد تبارك وتعالى المؤمنين بالله، المعتصمين به، والضمير في
بِهِ يحتمل أن يعود على الله تعالى، ويحتمل أن يعود على القرآن
الذي تضمنه قوله تعالى: نُوراً مُبِيناً و «الاعتصام» به
التمسك بسببه وطلب النجاة والمنعة به، فهو يعصم كما تعصم
المعاقل، وهذا قد فسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: «القرآن
حبل الله المتين من تمسك به عصم» ، و «الرحمة» و «الفضل» :
الجنة وتنعيمها، وَيَهْدِيهِمْ، معناه: إلى الفضل، وهذه هداية
طريق الجنان، كما قال تعالى: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ
بالَهُمْ [محمد: 5] لأن هداية الإرشاد قد تقدمت وتحصلت حين
آمنوا بالله واعتصموا بكتابه، وصِراطاً نصب بإضمار فعل يدل
عليه يَهْدِيهِمْ، تقديره فيعرفهم، ويحتمل أن ينتصب كالمفعول
الثاني، إذ يَهْدِيهِمْ في معنى يعرفهم، ويحتمل أن ينتصب على
ظرفية «ما» ويحتمل أن يكون حالا من الضمير في إِلَيْهِ وقيل:
من فضل، والصراط: الطريق وقد تقدم تفسيره.
قوله تعالى:
[سورة النساء (4) : آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ
إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها
نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها
وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ
مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً
فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
تقدم القول في تفسير الْكَلالَةِ في صدر السورة، وان المترجح
أنها الوراثة التي خلت من أب وابن وابنة ولم يكن فيها عمود نسب
لا عال ولا سافل، وبقي فيها من يتكلل، أي: يحيط من الجوانب كما
يحيط الإكليل، وكان أمر الكلالة عند عمر بن الخطاب مشكلا فقال:
ما راجعت رسول الله في شيء مراجعتي إياه في الكلالة، ولوددت أن
رسول الله لم يمت حتى يبينها وقال على المنبر: ثلاث لو بينها
رسول الله كان أحب إليّ من الدنيا: الجد والكلالة، والخلافة،
وأبواب من الربا، وروي عنه رضي الله عنه أنه كتب فيها كتابا
فمكث يستخير الله فيه ويقول. اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه،
فلما طعن دعا بالكتاب فمحي، فلم يدر أحد ما كان فيه، وروى
الأعمش عن إبراهيم وسائر شيوخه قال: ذكروا أن عمر رضي الله عنه
قال: لأن أكون أعلم الكلالة أحب إليّ من جزية قصور الشام. وقال
طارق بن شهاب: أخذ عمر بن الخطاب كتفا وجمع أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم ثم قال: لأقضين في الكلالة قضاء تحدث به النساء
في خدورها فخرجت عليهم حية من البيت فتفرقوا، فقال عمر: لو
أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمه،
(2/141)
وقال معدان بن أبي طلحة: خطب عمر بالناس
يوم الجمعة فقال: إني والله ما أدع بعدي شيئا هو أهم إليّ من
أمر الكلالة، وقد سألت عنها رسول الله، فما أغلظ لي في شيء ما
أغلظ لي فيها، حتى طعن في نحري وقال: تكفيك آية الصيف التي
أنزلت في آخر سورة النساء، فإن أعش فسأقضي فيها بقضية لا يختلف
معها اثنان ممن يقرأ القرآن، وسئل عقبة بن عامر عن الكلالة
فقال: ألا تعجبون لهذا يسألني عن الكلالة؟ وما أعضل بأصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة.
قال القاضي أبو محمد: فظاهر كلام عمر رضي الله عنه أن آية
الصيف هي هذه، وروى أبو سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
سئل عن الكلالة فقال: ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [النساء: 12] إلى آخر
الآية.
قال القاضي رحمه الله: هذا هو الظاهر، لأن البراء بن عازب قال:
آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتُونَكَ
قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وقال كثير من
الصحابة: هي من آخر ما نزل، وقال جابر بن عبد الله: نزلت
بسببي، عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض فقلت يا
رسول الله:
كيف أقضي في مالي وكان لي تسع أخوات، ولم يكن لي والد ولا ولد؟
فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد: وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تكفيك منها آية الصيف، بيان فيه كفاية وجلاء، ولا أدري ما الذي
أشكل منها على الفاروق رضوان الله عليه؟ إلا أن تكون دلالة
اللفظ ولذلك قال بعضهم: الْكَلالَةِ الميت نفسه، وقال آخرون
الْكَلالَةِ المال، إلى غير ذلك من الخلاف، وإذا لم يكن في
الفريضة والد ولا ولد وترك الميت أختا، فلها النصف فرضا مسمى
بهذه الآية، فإن ترك الميت بنتا وأختا، فللبنت النصف، وللأخت
النصف بالتعصيب لا بالفرض المسمى، ولعبد الله بن الزبير وعبد
الله بن عباس في هذه المسألة خلاف للناس وذكر عن أبي بكر
الصديق رضي الله عنه أنه قال في خطبته: ألا إن آية أول سورة
النساء أنزلها الله في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها
الله في الزوج والزوجة والإخوة من الأم والآية التي ختم بها
سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والآية
التي ختم بها سورة الأنفال، أنزلها الله في أولي الأرحام، وقرأ
ابن أبي عبلة «فإن للذكر مثل حظ» . وقوله تعالى أَنْ تَضِلُّوا
معناه: كراهية أن تضلوا، وحذر أن تضلوا فالتقدير. لئلا تضلوا،
ومنه قول القطامي في صفة ناقة: [الوافر] .
رأينا ما يرى البصراء منها ... فآلينا عليها أن تباعا
وكان عمر رضي الله عنه إذا قرأ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ
تَضِلُّوا قال: اللهم من بينت له الكلالة فلم تبين لي.
(2/142)
|