تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)

[سورة المائدة (5) : الآيات 53 الى 54]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)
اختلف القراء في هذه الآية فقرأ ابن كثير وابن عامر ونافع «يقول» بغير واو عطف وبرفع اللام.
وكذلك ثبت في مصاحف المدينة ومكة. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «ويقول» بإثبات الواو. وكذلك ثبت في مصاحف الكوفيين. وقال الطبري كذلك هي في مصاحف أهل الشرق. وقرأ أبو عمرو وحده «ويقول» بإثبات الواو وبنصب اللام. قال أبو علي وروى علي بن نصر عن أبي عمرو النصب والرفع في اللام. فأما قراءة ابن كثير ونافع فمتعاضدة مع قراءة حمزة والكسائي. لأن الواو ليست عاطفة مفرد على مفرد مشركة في العامل وإنما هي عاطفة جملة على جملة وواصلة بينهما والجملتان متصلتان بغير واو. إذ في الجملة الثانية ذكر من الجملة المعطوف عليها. إذ الذين يسارعون وقالوا نخشى ويصبحون نادمين هم الذين قيل فيهم.
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فلما كانت الجملتان هكذا حسن العطف بالواو وبغير الواو. كما أن قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] لما كان في كل واحدة من الجملتين ذكر مما تقدم اكتفى بذلك عن الواو، وعلى هذا قوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: 39 الأعراف: 36 يونس: 27] ولو دخلت الواو فقيل «وهم فيها خالدون» كان حسنا.
قال القاضي أبو محمد: ولكن براعة الفصاحة في الإيجاز، ويدل على حسن دخول الواو قوله تعالى: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] فحذف الواو من قوله وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا كحذفها من هذه الآية، وإلحاقها في قوله ثامِنُهُمْ.
قال القاضي أبو محمد: وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا القول من المؤمنين إنما هو إذا جاء الفتح حصلت ندامة المنافقين وفضحهم الله تعالى، فحينئذ يقول المؤمنون أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا [المائدة:
53] الآية. وتحتمل الآية أن تكون حكاية لقول المؤمنين في وقت قول الذين في قلوبهم مرض نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ [المائدة: 52] وعند أفعالهم ما فعلوا في حكاية بني قينقاع. فظهر فيها سرهم وفهم منهم أن تمسكهم بهم إنما هو إرصاد لله ولرسوله. فمقتهم النبي والمؤمنون، وترك النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع لعبد الله بن أبيّ رغبة في المصلحة والألفة، وبحكم إظهار عبد الله أن ذلك هو الرأي من نفسه وأن الدوائر التي يخاف إنما هي ما يخرب المدينة وعلم المؤمنون وكل فطن أن عبد الله في ذلك بخلاف ما أبدى. فصار ذلك موطنا يحسن أن يقول فيه المؤمنون أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا الآية، وأما قراءة أبي عمرو ويقول بنصب اللام فلا يتجه معها أن يكون قول المؤمنين إلا عند الفتح وظهور ندامة المنافقين وفضيحتهم، لأن الواو عاطفة فعل على فعل مشركة في العامل، وتوجه عطف وَيَقُولُ مطرد على ثلاثة أوجه، أحدها على المعنى، وذلك أن قوله فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة: 52] إنما المعنى فيه فعسى الله أن يأتي بالفتح فعطف قوله تعالى: وَيَقُولُ على يَأْتِيَ اعتمادا على المعنى، وإلا فلا

(2/206)


يجوز أن يقال عسى الله أن يقول المؤمنون. وهكذا قوله تعالى: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقون: 10] لما كان المعنى «أخرني إلى أجل قريب» أصدق وحمل أَكُنْ على الجزم الذي يقتضيه المعنى في قوله فَأَصَّدَّقَ، والوجه الثاني أن يكون قوله أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة: 52] بدلا من اسم الله عز وجل كما أبدل من الضمير في قوله تعالى: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف: 63] ثم يعطف وَيَقُولُ على أن يأتي لأنه حينئذ كأنك قلت عسى أن يأتي، والوجه الثالث أن يعطف قوله وَيَقُولُ على فَيُصْبِحُوا [المائدة: 52] إذ هو فعل منصوب بالفاء في جواب التمني، إذ قوله عسى الله تمن وترج في حق البشر، وفي هذا الوجه نظر وكذلك عندي في منعهم جواز عسى الله أن يقول المؤمنون نظر، إذ الله تعالى يصيرهم يقولون بنصره وإظهار دينه، فينبغي أن يجوز ذلك اعتمادا على المعنى وقوله تعالى: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ نصب جهد على المصدر المؤكد والمعنى أهؤلاء هم المقسمون باجتهاد منهم في الأيمان إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ثم قد ظهر الآن منهم من موالاة اليهود وخذل الشريعة ما يكذب إيمانهم، ويحتمل قوله تعالى: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أن يكون إخبارا من الله تعالى، ويحتمل أن يكون من قول المؤمنين على جهة الإخبار بما حصل في اعتقادهم إذ رأوا المنافقين في هذه الأحوال، ويحتمل أن يكون قوله حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ على جهة الدعاء إما من الله تعالى عليهم وإما من المؤمنين، وحبط العمل إذا بطل بعد أن كان حاصلا، وقد يقال حبط في عمل الكفار وإن كان لم يتحصل على جهة التشبيه، وقرأ جمهور الناس «حبطت بكسر الباء وقرأ أبو واقد والجراح «حبطت» بفتح الباء وهي لغة.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الآية قال فيها الحسن بن أبي الحسن ومحمد بن كعب القرظي والضحاك وقتادة نزلت الآية خطابا للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة، والإشارة بالقوم الذين يأتي الله بهم إلى أبي بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة، وقال هذا القول ابن جريج وغيره.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى الآية عندي أن الله وعد هذه الأمة من ارتد منها فإنه يجيء بقوم ينصرون الدين ويغنون عن المرتدين فكان أبو بكر وأصحابه ممن صدق فيهم الخبر في ذلك العصر، وكذلك هو عندي أمر عليّ مع الخوارج، وروى أبو موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية قرأها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هم قوم هذا يعني أبا موسى الأشعري وقال هذا القول عياض، وقال شريح بن عبيد: لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنا وقومي هم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ولكنهم قوم هذا، وأشار إلى أبي موسى، وقال مجاهد ومحمد بن كعب أيضا: الإشارة إلى أهل اليمن، وقاله شهر بن حوشب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله عندي قول واحد، لأن أهل اليمن هم قوم أبي موسى، ومعنى الآية على هذا القول مخاطبة جميع من حضر عصر النبي صلى الله عليه وسلم على معنى التنبيه لهم والعتاب والتوعد، وقال السدي الإشارة بالقوم إلى الأنصار.

(2/207)


إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)

قال القاضي أبو محمد: وهذا على أن يكون قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطابا للمؤمنين الحاضرين يعم مؤمنهم ومنافقهم. لأن المنافقين كانوا يظهرون الإيمان، والإشارة بالارتداد إلى المنافقين، والمعنى أن من نافق وارتد فإن المحققين من الأنصار يحمون الشريعة ويسد الله بهم كل ثلم، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي وعاصم «يرتد» بإدغام الدال في الدال، وقرأ نافع وابن عامر «يرتدد» بترك الإدغام، وهذه لغة الحجاز، مكة وما جاورها، والإدغام لغة تميم، وقوله تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ معناه متذللين من قبل أنفسهم غير متكبرين، وهذا كقوله تعالى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] . وكقوله عليه السلام «المؤمن هين لين» ، وفي قراءة ابن مسعود «أذلة على المؤمنين غلظاء على الكافرين» ، وقوله تعالى: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ إشارة إلى الرد على المنافقين في أنهم كانوا يعتذرون بملامة الأخلاق والمعارف من الكفار ويراعون أمرهم، وقوله تعالى: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ الإشارة بذلك إلى كون القوم يحبون الله ويحبهم، وقد تقدم القول غير مرة في معنى محبة الله للعبد وأنها إظهار النعم المنبئة عن رضاه عنه وإلباسه إياها. وواسِعٌ معناه ذو سعة فيما يملك ويعطي وينعم.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 55 الى 57]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
الخطاب بقوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ الآية للقوم الذين قيل لهم لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة:
51] ، وإِنَّما في هذه الآية حاصرة يعطي ذلك المعنى، وولي اسم جنس، وقرأ ابن مسعود «إنما موليكم الله» وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أي ومن آمن من الناس حقيقة لا نفاقا وهم الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ المفروضة بجميع شروطها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وهي هنا لفظ عام للزكاة المفروضة وللتطوع بالصدقة ولكل أفعال البر، إذ هي تنمية للحسنات مطهرة للمرء من دنس الذنوب، فالمؤمنون يؤتون من ذلك كل بقدر استطاعته، وقرأ ابن مسعود «آمنوا والذين يقيمون» بواو، وقوله تعالى: وَهُمْ راكِعُونَ جملة معطوفة على جملة، ومعناه وصفهم بتكثير الصلاة وخص الركوع بالذكر لكونه من أعظم أركان الصلاة، وهو هيئة تواضع فعبر به عن جميع الصلاة، كما قال وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة: 125] وهي عبارة عن المصلين، وهذا قول جمهور المفسرين، ولكن اتفق أن عليا بن أبي طالب أعطى صدقة وهو راكع، قال السدي: هذه الآية في جمع المؤمنين ولكن عليا بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه، وروي في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من بيته وقد نزلت عليه الآية فوجد مسكينا فقال له هل أعطاك أحد شيئا فقال نعم، أعطاني ذلك الرجل الذي يصلي خاتما من فضة، وأعطانيه وهو راكع، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا الرجل الذي أشار إليه علي بن أبي طالب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، الله أكبر وتلا الآية على الناس.

(2/208)


وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقال مجاهد: نزلت الآية في علي بن أبي طالب تصدق وهو راكع، وفي هذا القول نظر، والصحيح ما قدمناه من تأويل الجمهور، وقد قيل لأبي جعفر نزلت هذه الآية في علي، فقال علي من المؤمنين، والواو على هذا القول في قوله وَهُمْ واوا الحال، وقال قوم نزلت الآية من أولها بسبب عبادة بن الصامت وتبريه من بني قينقاع، وقال ابن الكلبي نزلت بسبب قوم أسلموا من أهل الكتاب فجاؤوا فقالوا يا رسول الله بيوتنا بعيدة ولا متحدث لنا إلا مسجدك وقد أقسم قومنا أن لا يخالطونا ولا يوالونا، فنزلت الآية مؤنسة لهم.
ثم أخبر تعالى أن من يتول الله ورسوله والمؤمنين فإنه غالب كل من ناوأه، وجاءت العبارة عامة فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ اختصارا لأن المتولي هو من حزب الله، وحزب الله غالب، فهذا الذي تولى الله ورسوله والمؤمنين غالب، ومَنْ يراد بها الجنس لا مفرد بعينه، و «الحزب» الصاغية والمنتمون إلى صاحب الحزب والمعاونون فيما يحزب، ومنه قول عائشة في حمنة: وكانت تحارب في أمر الإفك فهلكت فيمن هلك، ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، فوسمهم بوسم يحمل النفوس على تجنبهم، وذلك اتخاذهم دين المؤمنين هُزُواً وَلَعِباً والهزء السخرية والازدراء ويقرأ «هزؤا» بضم الزاي والهمز، و «هزؤا» بسكون الزاي والهمز ويوقف عليه هزا بتشديد الزاي المفتوحة، و «هزوا» بضم الزاي وتنوين الواو، و «هزا» بزاي مفتوحة منونة، ثم بين تعالى جنس هؤلاء أنهم من أهل الكتاب اليهود والنصارى، واختلف القراء في إعراب الْكُفَّارَ فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة: «والكفار» نصبا، وقرأ أبو عمرو والكسائي «والكفار» خفضا، وروى حسين الجعفي عن أبي عمرو النصب، قال أبو علي: حجة من قرأ بالخفض حمل الكلام على أقرب العاملين وهي لغة التنزيل.
قال القاضي أبو محمد: ويدخل «الكفار» على قراءة الخفض فيمن اتخذ دين المؤمنين هزؤا، وقد ثبت استهزاء الكفار في قوله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] وثبت استهزاء أهل الكتاب في لفظ هذه الآية، وثبت استهزاء المنافقين في قولهم لشياطينهم إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14] ، ومن قرأ «الكفار» بالنصب حمل على الفعل الذي هو لا تَتَّخِذُوا، ويخرج الكفار من أن يتضمن لفظ هذه الآية استهزاءهم، وقرأ أبيّ بن كعب «ومن الكفار» بزيادة «من» فهذه تؤيد قراءة الخفض، وكذلك في قراءة ابن مسعود «من قبلكم من الذي أشركوا» ، وفرقت الآية بين الكفار وبين الذين أوتوا الكتاب من حيث الغلب في اسم الكفار أن يقع على المشركين بالله إشراك عبادة أوثان، لأنهم أبعد شأوا في الكفر، وقد قال تعالى:
جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة: 73] ففرق بينهم إرادة البيان والجمع كفار وكان هذا لأن عباد الأوثان هم كفار من كل جهة، وهذه الفرق تلحق بهم في حكم الكفر وتخالفهم في رتب، فأهل الكتاب يؤمنون بالله وببعض الأنبياء، والمنافقون بألسنتهم، ثم أمر تعالى بتقواه ونبه النفوس بقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي حق مؤمنين.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 58 الى 60]
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)

(2/209)


قوله تعالى: وَإِذا نادَيْتُمْ الآية إنحاء على اليهود وتبيين لسوء فعلهم فإنهم كانوا إذا سمعوا قيام المؤمنين إلى الصلاة قال بعضهم لبعض، قد قاموا لا قاموا، إلى غير هذا من الألفاظ التي يستخفون بها في وقت الأذان وغيره، وكل ما ذكر من ذلك فهو مثال، وقد ذكر السدي أنه كان رجل من النصارى بالمدينة فكان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول الله، قال حرق الله الكاذب، فما زال كذلك حتى سقط مصباح في بيته ليلة فأحرقه واحترق النصراني لعنه الله، ثم ذكر تعالى أن فعلهم هذا إنما هو لعدم عقولهم، وإنما عدموها إذ لم تتصرف كما ينبغي بها، فكأنها لم توجد.
ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل الكتاب هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا ومعناه هل تعدون علينا ذنبا أو نقيصة، يقال «نقم» بفتح القاف ينقم بكسرها، وعلى هذه اللغة قراءة الجمهور، ويقال «نقم» بكسر القاف ينقم بفتحها وعلى هذه اللغة قرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو البرهسم والنخعي، وهذه الآية من المحاورة البليغة الوجيزة، ومثلها قوله تعالى: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ، إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ [البروج: 8] ونظير هذا الغرض في الاستثناء قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وقرأ الجمهور «أنزل» بضم الهمزة، وكذلك في الثاني، وقرأ أبو نهيك «أنزل» بفتح الهمزة والزاي فيهما، وقوله تعالى: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ هو عند أكثر المتأولين معطوف على قوله: أَنْ آمَنَّا فيدخل كونهم فاسقين فيما نقموه، وهذا لا يتجه معناه، وروي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال في ذلك بفسقهم نقموا علينا الإيمان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الكلام صحيح في نفسه لكنه غير مغن في تقويم معنى الألفاظ، وإنما يتجه على أن يكون معنى المحاورة هل تنقمون منا إلا عموم هذه الحال من إنا مؤمنون وأنتم فاسقون، ويكون وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ مما قرره المخاطب لهم، وهذا كما تقول لمن تخاصمه هل تنقم مني إلا أن صدقت أنا وكذبت أنت، وهو لا يقر بأنه كاذب ولا ينقم ذلك، لكن معنى كلامك: هل تنقم إلا مجموع هذه الحال، وقال بعض المتأولين قوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ معطوف على ما، كأنه قال إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وبكتبه وبأن أكثركم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مستقيم المعنى، لأن إيمان المؤمنين بأن أهل الكتاب المستمرين على الكفر بمحمد فسقة هو مما ينقمونه، وذكر تعالى الأكثر منهم من حيث فيهم من آمن واهتدى.
وقوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ قرأ الجمهور بفتح النون وشد الباء، وقرأ ابن وثاب والنخعي «أنبئكم» بسكون النون وتخفيف الباء من أنبأ وقرأ أكثر الناس: «مثوبة» بضم الثاء وسكون الواو، وقرأ ابن

(2/210)


بريدة والأعرج ونبيح وابن عمران «مثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو، وقال أبو الفتح هذا مما خرج عن أصله شاذا عن نظائره، ومثله قول العرب: الفاكهة مقودة إلى الأذى، بسكون القاف وفتح الواو، والقياس مثابة ومقادة، وأما مثوبة بضم الثاء فأصلها مثوبة وزنها مفعلة بضم العين نقلت حركة الواو إلى الثاء وكانت قبل مثوبة مثل مقولة، والمعنى في القراءتين مرجعا عند الله أي في الحشر يوم القيامة، تقول العرب: ثاب يثوب إذا رجع، منه قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة: 125] ومشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أمر أن يقول لهم هَلْ أُنَبِّئُكُمْ هم اليهود والكفار المتخذون ديننا هزؤا ولعبا، قال ذلك الطبري وتوبع عليه ولم يسند في ذلك إلى متقدم شيئا، والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين، أي قل يا محمد للمؤمنين هل أنبئكم بشرّ من حال هؤلاء الفاسقين في وقت الرجوع إلى الله، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم، فتكون الإشارة بذلك إلى حالهم من كون أكثرهم فاسقين، وتحتمل الآية أن يكون القول للحاضرين من بني إسرائيل وتكون الإشارة بذلك إلى حال الحاضرين من كون أكثرهم فاسقين ويكون قوله شَرٌّ وأَضَلُّ صفتي تفضيل بين شيئين لهما اشتراك في الشر والضلال، وتحتمل الآية أن يكون القول للحاضرين من بني إسرائيل والإشارة بذلك إلى إيمان المؤمنين وجميع حالهم ويوجه التفضيل ب شَرٌّ وأَضَلُّ على أن الاشتراك في الشر والضلال هو في معتقد اليهود فأما في الحقيقة فلا شر ولا ضلال عند المؤمنين، ولا شركة لهم في ذلك مع اليهود والكفار، ويكون على هذا الاحتمال قوله: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ الآية يراد به جميع بني إسرائيل الأسلاف والأخلاف، لأن الخلف يذم ويعير بمذمات السلف إذا كان الخلف غير مراجع ولا ذام لما كان عليه سلفه، فهو في حكمه، وفي قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود «من غضب الله عليهم وجعلهم قردة وخنازير» ، واللعنة الإبعاد عن الخير، وقوله تعالى: وَجَعَلَ هي بمعنى صير، وقال أبو علي في كتاب الحجة هي بمعنى خلق.
قال القاضي أبو محمد: وهذه منه رحمه الله نزعة اعتزالية، لأن قوله: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ تقديره ومن عبد الطاغوت، والمعتزلة لا ترى أن الله يصير أحدا عابد الطاغوت، وقد تقدم قصص مسخهم قردة في سورة البقرة، وأما مسخهم خنازير، فروي أن ذلك بسبب امرأة كانت مؤمنة من بني إسرائيل وكفر ملك منهم في مدينة من مدنهم وكفر معه أهل مملكته، فدعت المرأة قوما إلى نصرة الدين فأجابوها فخرجت بهم فهزموا ثم فعلت ذلك ثانية وثالثة في كل مرة يهزم جمعها، فيئست وباتت مهمومة، فلما أصبح رأت أهل تلك المدينة ينفقون في نواحيها خنازير فقالت: الآن أعلم أن الله أعز دينه وآثر دينه، قال عمرو بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ما كان مسخ بني إسرائيل إلا على يدي تلك المرأة، وقوله تعالى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ تقديره ومن عبد الطاغوت، وذلك عطف على قوله: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ أو معمول ل جَعَلَ وفي هذا يقول أبو علي: إن جَعَلَ بمعنى خلق، واختلفت القراءة في هذا الحرف فقرأ حمزة وحده «وعبد الطاغوت» بفتح العين وضم الباء وكسر التاء من الطاغوت وذلك أن «عبد» لفظ مبالغة كيقظ وندس فهو لفظ مفرد يراد به الجنس وبني بناء الصفات، لأن «عبدا» في الأصل صفة وإن كان استعمل استعمال الأسماء، وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة فلذلك لم يمتنع أن يبنى منه بناء الصفات، وقرأ بهذه القراءة الأعمش ويحيى بن وثاب، ومنه قول الشاعر: [أوس بن حجر] .

(2/211)


أبني لبينى إن أمكم ... أمة وإن أباكم عبد
ذكره الطبري وغيره بضم الباء وقرأ الباقون «وعبد الطاغوت» بفتح العين والباء على الفعل الماضي وإعماله في الطاغوت وقد تقدم ذكره، وقرأ أبي بن كعب «عبدوا الطاغوت» ، على إسناد الفعل الماضي إلى ضمير جمع، وقرأ ابن مسعود فيما روى عبد الغفار عن علقمة عنه «وعبد الطاغوت» بفتح العين وضم الباء ورفع التاء من الطاغوت، وذلك على أن يصير له أن «عبد» كالخلق والأمر المعتاد المعروف، فهي في معنى فقه وشرف وظرف، وقرأ ابن عباس وإبراهيم بن أبي عبلة «وعبد الطاغوت» بفتح العين والباء وكسر التاء من الطاغوت، وذلك على أن المراد عبدة الطاغوت وحذفت الهاء تخفيفا ومثله قول الراجز:
قام ولاها فسقوها صرخدا أراد ولاتها فحذف تخفيفا، وقرأ الحسن بن أبي الحسن في رواية عباد عنه «وعبد الطاغوت» بفتح العين وسكون الباء وكسر التاء من الطاغوت وهذا على أنه اسم جنس مفرد يراد به جميع، وروي عن الحسن من غير طريق عباد أنه قرأ بفتح العين والدال وسكون الباء ونصب التاء من الطاغوت، وهذه تتجه على وجهين أحدهما أنه أراد و «عبدا الطاغوت» فحذف التنوين كما حذف في قول الشاعر:
ولا ذاكر الله إلا قليلا والوجه الآخر أن يريد «عبد» الذي هو فعل ماض وسكن الباء على نحو ما هي عين الفعل مسكنة في قول الشاعر:
وما كل مغبون ولو سلف صفقة فإن اللام من سلف مسكنة ونحو هذا قول أبي السمال «ولعنوا بما قالوا» بسكون العين، فهذه قراءات العين فيها مفتوحة، وقرأ أبو واقد الأعرابي في رواية العباس بن الفضل عنه «وعبّاد الطاغوت» بضم العين وشد الباء المفتوحة وألف بعدها وفتح الدال وكسر التاء من الطاغوت وذلك جمع عابد، وقرأ عون العقيلي فيما روى عنه العباس بن الفضل أيضا «وعابد الطاغوت» على وزن فاعل، والدال مرفوعة، قال أبو عمرو تقديره وهم عابد الطاغوت.
قال القاضي أبو محمد: فهو اسم جنس، وروى عكرمة عن ابن عباس «وعابدو الطاغوت» بضمير جمع، وقد قال بعض الرواة في هذه الأخيرة إنها تجويز لا قراءة، وقرأ ابن بريدة «وعابد الطاغوت» بفتح العين والدال وكسر الباء والتاء، وقرأ بعض البصريين و «عباد الطاغوت» بكسر العين وفتح الباء والدال وألف بينهما وكسر التاء، قال أبو الفتح فيحتمل أن يكون ذلك جمع عابد كقائم وقيام وصائم وصيام، وقد يجوز أن يكون جمع عبد، وقل ما يأتي عباد مضافا إلى غير الله، وأنشد سيبويه:
أتوعدني بقومك يا ابن حجل ... أشابات يخالون العبادا
قال أبو الفتح يريد عباد آدم عليه السلام، ولو أراد عباد الله فليس ذلك شيء يسب به أحد، وجميع الخلق عباد الله.

(2/212)


وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)

قال القاضي أبو محمد: وهذا التعليق بآدم صلى الله عليه وسلم شاذ بعيد والاعتراض فيه باق، وليس هذا مما يتخيل أن الشاعر قصده، وإنما أراد العبيد فساقته القافية إلى العباد، إذ يقال ذلك لمن تملك ملكة ما وقد ذكر أن عرب الحيرة من العراق إنما سمّوا العباد لأنهم دخلوا في طاعة كسرى فدانتهم مملكة، وذكر الطبري عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرأ «وعابد الشيطان» بفتح العين والدال وكسر الباء وألف قبلها وذكر الشيطان بدل الطاغوت فهذه قراءات فيها ألف، وقرأ ابن عباس فيما روى عن عكرمة وقرأها مجاهد ويحيى ابن وثاب «وعبد الطاغوت» بضم العين والباء وفتح الدال وكسر التاء، وذلك جمع عبد كرهن ورهن وسقف وسقف، وقال أحمد بن يحيى ثعلب هو جمع عابد كشارف وشرف، ومنه قول القينة:
ألا يا حمز للشرف النواء ... وهن معلقات بالفناء
وقال أبو الحسن الأخفش: هو جمع عبيد وأنشد:
أنسب العبد إلى آبائه ... أسود الجلدة من قوم عبد
وقرأ الأعمش وغيره «وعبّد الطاغوت» بضم العين وشد الباء المفتوحة وفتح الدال وكسر التاء وذلك على جمع عابد كضارب وضرب. وقرأ إبراهيم النخعي وأبو جعفر بن القعقاع والأعمش في رواية هارون «وعبد الطاغوت» بضم العين وكسر الباء وفتح الدال وضم التاء كما تقول ضرب زيد، وضعّف الطبري هذه القراءة وهي متجهة، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ «وعبدت الطاغوت» كما تقول ضربت المرأة، وروى علقمة عن عبد الله بن مسعود «وعبد الطاغوت» بضم العين وفتح الباء والدال وكسر التاء، وهذا أيضا بناء مبالغة اسم مفرد يراد به هنا الجمع بني كحطم ولبد، وروى عكرمة عن ابن عباس: «وعبّد الطاغوت» على وزن فعل بضم الفاء وشد العين المفتوحة وفتح اللام ونصب التاء وهذه تتخرج على أنه أراد وعبدا منونا ثم حذف التنوين كما قال، ولا ذاكر الله، وقد تقدم نظيره والطَّاغُوتَ كل ما عبد من دون الله من وثن أو آدمي يرضى ذلك أو شيطان، وقد استوعبت تفسيره في سورة البقرة، و «مكان» يحتمل أن يريد في الآخرة، فالمكان على وجهه أي المحل إذ محلهم جهنم، وأن يريد في الدنيا فهي استعارة للمكانة والحالة، وسَواءِ السَّبِيلِ وسطه ومنه قول العرب قمت حتى انقطع سوائي، ومنه قوله تعالى: فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: 55] وخط الاستقامة في السبل إنما هو متمكن غاية التمكن في الأوساط فلذلك خص السواء بالذكر، ومن لفظ السواء قيل خط الاستواء.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 61 الى 64]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)

(2/213)


الضمير في جاؤُكُمْ لليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم وخاصة للمنافقين. نص على ذلك ابن عباس وقتادة والسدي، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم دخلوا وهم كفار وخرجوا كذلك لم تنفعهم الموعظة ولا نفع فيهم التذكير، وقوله: وَهُمْ تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر ثم يؤمنوا ويخرج قوم وهم كفرة فكان ينطبق على الجميع وقد دخلوا بالكفر وقد خرجوا به، فأزال الاحتمال قوله تعالى: وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أي هم بأعيانهم ثم فضحهم تعالى بقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أي من الكفر.
وقوله تعالى لنبيه: وَتَرى يحتمل أن يكون من رؤية البصر ويحتمل من رؤية القلب ويكون المفعول الثاني يُسارِعُونَ، وعلى الاحتمال الأول يُسارِعُونَ حال، وفِي الْإِثْمِ معناه في موجبات الإثم إذ الإثم إنما هو الحكم المعلق بصاحب المعصية والنسبة التي يصير إليها إذا وقع الذنب وهو من هؤلاء كفرهم وَالْعُدْوانِ مصدر من عدا الرجل إذا ظلم وتجاوز الحد، والسُّحْتَ هو الرشا وسائر مكسبهم الخبيث، واللام في لَبِئْسَ لام قسم، وقرأ أبو حيوة «والعدوان» بكسر العين.
وقوله تعالى: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ تخصيص في ضمنه توبيخ لهم إذ تركوا اللازم، قال الطبري: كل العلماء يقولون ما في القرآن آية هي أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها، وقال الضحاك بن مزاحم: ما في القرآن آية أخوف عندي منها إنا لا ننهى، وقال نحو هذا ابن عباس، وقرأ الجراح وأبو واقد «الربانيون» بكسر الراء واحدهم ربي إما منسوب إلى علم الرب وإما من تربية الناس بصغار العلم قبل كباره، وزيدت النون في نسبته مبالغة كشعراني ومنظراني ومخبراني، وقال الحسن: الرباني عالم الإنجيل والحبر عالم التوراة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقوله في الرباني شاذ بعيد. والْأَحْبارُ واحدهم حبر بكسر الحاء وفتحها وهم العلماء الذين لا يعنون لإصلاح الناس ولا يكلفون ذلك، والرباني هو العالم المدبر المصلح، وقوله تعالى: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ظاهر أن الْإِثْمَ هنا يراد به الكفر، ويحتمل أن يراد به سائر أقوالهم المنكرة في النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقرأ عباس «بئس ما كانوا يصنعون» بغير لام قسم.
وقوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ إلى قوله لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ هذه الآية تعديد كبيرة من أقوالهم وكفرهم أي فمن يقول هذه العظيمة فلا يستنكر عليه أن ينافق عليك يا محمد ويسعى في رد أمر الله الذي أوحاه إليك، وقال ابن عباس وجماعة من المتأولين معنى قولهم التبخيل، وذلك أنهم لحقتهم سنة وجهد فقالوا هذه العبارة يعنون بها أن الله بخل عليهم بالرزق والتوسعة، وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الإسراء: 29] فإنما المراد لا تبخل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:

(2/214)


مثل البخيل والمتصدق، الحديث وذكر الطبري والنقاش أن هذه الآية نزلت في فنحاص اليهودي وأنه قالها، وقال الحسن بن أبي الحسن قولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ إنما يريدون عن عذابهم فهي على هذا في معنى قولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] وقال السدي أرادوا بذلك أن يده مغلولة حتى يرد علينا ملكنا.
قال القاضي أبو محمد: فكأنهم عنوا أن قوته تعالى نقصت حتى غلبوا ملكهم، وظاهر مذهب اليهود لعنهم الله في هذه المقالة التجسيم، وكذلك يعطي كثير من أقوالهم، وقوله تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم، ويحتمل أن يكون خبرا، ويصح على كلا الاحتمالين أن يكون ذلك في الدنيا وأن يراد به الآخرة، وإذا كان خبرا عن الدنيا فالمعنى غلت أيديهم عن الخير والإنفاق في سبيل الله ونحوه وإذا كان خبرا عن الآخرة فالمعنى غلت في نار جهنم أي حتم هذا عليهم ونفذ به القضاء كما حتمت عليهم اللعنة بقولهم هذا وبما جرى مجراه، وقرأ أبو السمال «ولعنوا» بسكون العين، وذلك قصد للتخفيف لا سيما هنا الهبوط من ضمة إلى كسرة، وقوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ العقيدة في هذه المعنى نفي التشبيه عن الله تعالى وأنه ليس بجسم ولا له جارحة ولا يشبه ولا يكيف ولا يتحيز في جهة كالجواهر ولا تحله الحوادث تعالى عما يقول المبطلون.
ثم اختلف العلماء فيما ينبغي أن يعتقد في قوله تعالى: بَلْ يَداهُ وفي قوله: بِيَدَيَّ [ص: 75] وعَمِلَتْ أَيْدِينا [يس: 71] ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: 39] وتَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر: 14] واصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: 48] وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] ونحو هذا، فقال فريق من العلماء منهم الشعبي وابن المسيب وسفيان يؤمن بهذه الأشياء وتقرأ كما نصها الله ولا يعن لتفسيرها ولا يشقق النظر فيها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول يضطرب لأن القائلين به يجمعون على أنها ليست على ظاهرها في كلام العرب فإذا فعلوا هذا فقد نظروا وصار السكوت عن الأمر بعد هذا مما يوهم العوام ويتيه الجهلة.
وقال جمهور الأمة: بل تفسر هذه الأمور على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين كلام العرب. فقالوا في العين والأعين إنها عبارة عن العلم والإدراك، كما يقال فلان من فلان بمرأى ومسمع، إذا كان يعنى بأموره وإن كان غائبا عنه، وقالوا في الوجه إنه عبارة عن الذات وصفاتها، وقالوا في اليد واليدين والأيدي إنها تأتي مرة بمعنى القدرة كما تقول العرب لا يد لي بكذا، ومرة بمعنى النعمة كما يقال لفلان عند فلان يد، وتكون بمعنى الملك كما يقال يد فلان على أرضه، وهذه المعاني إذا وردت عن الله تبارك وتعالى عبر عنها باليد أو الأيدي أو اليدين استعمالا لفصاحة العرب ولما في ذلك من الإيجاز، وهذا مذهب أبي المعالي والحداق، وقال قوم من العلماء منهم القاضي ابن الطيب: هذه كلها صفات زائدة على الذات ثابتة لله دون أن يكون في ذلك تشبيه ولا تحديد، وذكر هذا الطبري وغيره، وقال ابن عباس في هذه الآية، يَداهُ نعمتاه، ثم اختلفت عبارة الناس في تعيين النعمتين فقيل نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، وقيل النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة، وقيل نعمة المطر ونعمة النبات.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عبارة عن إنعامه على الجملة

(2/215)


وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)

وعبر عنه بيدين جريا على طريقة العرب في قولهم فلان ينفق بكلتا يديه ومنه قول الشاعر وهو الأعشى:
يداك يدا مجد فكفّ مفيدة ... وكفّ إذا ما ضنّ بالمال تنفق
ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق، قال أبو عمرو الداني: وقرأ أبو عبد الله «بل يداه بسطتان» ، يقال يد بسطة أي مطلقة، وروي عنه «بسطان» ، وقوله تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً إعلام لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء اليهود من العتو والبعد عن الحق بحيث إذا سمعوا هذه الأسرار التي لهم والأقوال التي لا يعلمها غيرهم تنزل عليك، طغوا وكفروا، وكان عليهم أن يؤمنوا إذ يعلمون أنك لا تعرفها إلا من قبل الله، لكنهم من العتو بحيث يزيدهم ذلك طغيانا، وخص تعالى ذكر الكثير إذ فيهم من آمن بالله ومن لا يطغى كل الطغيان.
وقوله تعالى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ معطوف على قوله وَقالَتِ الْيَهُودُ فهي قصص يعطف بعضها على بعض، والْعَداوَةَ أخص من الْبَغْضاءَ لأن كل عدو فهو يبغض وقد يبغض من ليس بعدو، وكأن العداوة شيء مشتهر يكون عنه عمل وحرب، والبغضاء قد لا تجاوز النفوس، وقد ألقى الله الأمرين على بني إسرائيل، وقوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ استعارة بليغة تنبىء عن فض جموعهم وتشتيت آرائهم وتفريق كلمتهم، والآية تحتمل أن تكون إخبارا عن حال أسلافهم أي منذ عصوا وعتوا وهد الله ملكهم رماهم بهذه الأمور، فهم لا ترتفع لهم راية إلى يوم القيامة ولا يقاتلون جميعا إلا في قرى محصنة، هذا قول الربيع والسدي وغيرهما. وقال مجاهد: معنى الآية كلما أوقدوا نارا لحرب محمد أطفأها الله، فالآية على هذا تبشير لمحمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإشارة إلى حاضريه من اليهود، وقوله تعالى: وَيَسْعَوْنَ معنى السعي في هذه الآية العمل والفعل، وقد يجيء السعي بمعنى الانتقال على القدم، وذلك كقوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] وإن كان مالك رحمه الله قد قال في الموطأ: إن السعي في قوله: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ إنه العمل والفعل، ولكن غيره من أهل العلم جعله على الأقدام وهو الظاهر بقرينة ضيق الوقت وبالتعدية ب «إلى» ، ويؤيده قراءة عمر بن الخطاب «فامضوا إلى ذكر الله» وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أي لا يظهر عليهم من أفعاله في الدنيا والآخرة ما يقتضي المحبة.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 65 الى 68]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)

(2/216)


هذه الآية تحتمل أن يراد بها معاصر ومحمد صلى الله عليه وسلم، والأظهر أنه يراد بها الأسلاف والمعاصرون داخلون في هذه الأحوال بالمعنى، والغرض الإخبار عن أولئك الذين أطفأ الله نيرانهم وأذلهم بمعاصيهم لو آمنوا بالله وكتابه واتقوا في امتثال أوامره ونواهيه لكفرت سيئاتهم أي سترت وأذهبت ولأدخلوا الجنة.
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ أي أظهروا أحكامها فهي كإقامة السوق وإقامة الصلاة، وذلك كله تشبيه بالقائم من الناس، إذ هي أظهر هيئات المرء، وقوله تعالى: وَالْإِنْجِيلَ يقتضي دخول النصارى في لفظ أَهْلَ الْكِتابِ في هذه الآية، وقوله تعالى: وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ معناه من وحي وسنن على ألسنة الأنبياء، واختلف المفسرون في معنى مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي: المعنى لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها بفضل الله تعالى. وحكى الطبري والزجّاج وغيرهما أن الكلام استعارة ومبالغة في التوسعة كما يقال فلان قد عمه الخير من قرنه إلى قدمه، وذكر النقاش أن المعنى: لأكلوا من فوقهم أي من رزق الجنة ومن تحت أرجلهم من رزق الدنيا، إذ هو من نبات الأرض. قوله تعالى مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ معناه: معتدلة، والقصد والاقتصاد: الاعتدال والرفق والتوسط الحسن في الأقوال والأفعال، قال الطبري: معنى الآية أن من بني إسرائيل من هو مقتصد في عيسى عليه السلام يقولون هو عبد الله ورسول وروح منه، والأكثر منهم غلا فيه فقال بعضهم هو إله وعلى هذا مشى الروم ومن دخل بأخرة في ملة عيسى عليه السلام، وقال بعضهم وهم الأكثر من بني إسرائيل: هو آدمي لغير رشدة، فكفر الطرفان، وقال مجاهد: المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديما وحديثا.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا يتخرج قول الطبري: ولا يقول في عيسى إنه عبد رسول إلا مسلم، وقال ابن زيد: هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب، وهذا هو المترجح، وقد ذكر الزجّاج أنه يعني بالمقتصدة الطوائف التي لم تناصب الأنبياء مناصبة المتهتكين المجاهرين.
قال القاضي أبو محمد: وإنما يتوجه أن توصف بالاقتصاد بالإضافة إلى المتمردة كما يقال في أبي البختري بن هشام إنه مقتصد بالإضافة إلى أبي جهل بن هشام لعنه الله، ثم وصف تعالى الكثير منهم بسوء العمل عموما، وذهب الطبري إلى أن ذلك في تكذيبهم الأنبياء، وكفر اليهود بعيسى والجميع من أهل الكتابين بمحمد صلى الله عليه وسلم وساءَ في هذه الآية هي المتصرفة كما تقول ساء الأمر يسوء، وقد تستعمل ساءَ استعمال نعم وبئس، كقوله عز وجل: ساءَ مَثَلًا [الأعراف: 177] فتلك غير هذه، يحتاج في هذه التي في قوله ساءَ مَثَلًا من الإضمار والتقدير إلى ما يحتاج في نعم وبئس، وفي هذا نظر.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إلى قوله الْقَوْمَ الْكافِرِينَ هذه الآية أمر من الله ورسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال. لأنه قد كان بلغ، فإنما أمر في هذه الآية بأن لا يتوقف عن شيء مخافة أحد، وذلك أن رسالته صلى الله عليه وسلم تضمنت الطعن على أنواع الكفرة وبيان فساد

(2/217)


حالهم فكان يلقى منهم عنتا وربما خافهم أحيانا قبل نزول هذه الآية، فقال الله له بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي كاملا متمما، ثم توعده تعالى بقوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ
، أي إنك إن تركت شيئا فكأنما قد تركت الكل، وصار ما بلغت غير معتدّ به، فقوله تعالى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ معناه وإن لم تستوف، ونحو هذا قول الشاعر:
سئلت فلم تمنع ولم تعط نائلا ... فسيان لا ذم عليك ولا حمد
أي ولم تعط ما يعد نائلا وإلا فيتكاذب البيت، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «فما بلغت رسالته» على الإفراد. وقرؤوا في الأنعام حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] على الجمع، وكذلك في الأعراف بِرِسالاتِي [الأعراف: 144] ، وقرأ ابن كثير في المواضع الثلاثة بإفراد الرسالة، وقرأ نافع «رسالاته» بالجمع، وكذلك في الأنعام، وأفرد في الأعراف، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بجمع الرسالة في المواضع الثلاثة، وروى حفص عن عاصم الإفراد في العقود والأنعام، والجمع في الأعراف، فمن أفرد الرسالة فلأن الشرع كله شيء واحد وجملة بعضها من بعض، ومن جمع فمن حيث الشرع معان كثيرة وورد دفعا في أزمان مختلفة، وقالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: من زعم أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد أعظم الفرية، والله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ الآية، وقال عبد الله بن شقيق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعقبه أصحابه يحرسونه، فلما نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ خرج فقال: يا أيها الناس الحقوا بملاحقكم فإن الله قد عصمني، وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله به.
قال القاضي أبو محمد: هو غورث بن الحارث، والقصة في غزوة ذات الرقاع، وقال ابن جريج كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهاب قريشا فلما نزلت هذه الآية إلى قوله وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ استلقى وقال: من شاء فليخذلني، مرتين أو ثلاثا، ويَعْصِمُكَ معناه يحفظك ويجعل عليك وقاية، ومنه قوله تعالى: يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ [هود: 43] ومنه قول الشاعر:
فقلت عليكم مالكا إن مالكا ... سيعصمكم إن كان في الناس عاصم
وهذه العصمة التي في الآية هي من المخاوف التي يمكن أن توقف عن شيء من التبليغ كالقتل والأسر والأذى في الجسم ونحوه، وأما أقوال الكفار ونحوها فليست في الآية، وقوله تعالى: لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إما على الخصوص فيمن سبق في علم أنه لا يؤمن، وإما على العموم على أن لا هداية في الكفر، ولا يهدي الله الكافر في سبل كفره.
ثم أمر تعالى نبيه محمدا عليه السلام أن يقول لأهل الكتاب الحاضرين معه لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي على شيء مستقيم حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وفي إقامة هذين الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعني به القرآن، قاله ابن عباس وغيره ثم أخبر تعالى نبيه أنه سيطغى كثير منهم بسبب نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويزيده نزول القرآن والشرع كفرا وحسدا، ثم سلاه عنهم وحقرهم بقوله فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي لا تحزن إذ لم يؤمنوا ولا تبال عنهم،

(2/218)


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)

والأسى الحزن يقال أسي الرجل يأسى أسى إذا حزن، ومنه قول الراجز:
وانحلبت عيناه من فرط الأسى.
وأسند الطبري إلى ابن عباس قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن جارية وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم وأنك تؤمن بالتوراة وبنبوة موسى وأن جميع ذلك حق؟ قال: بلى، ولكنكم أحدثتم وغيرتم وكتمتم، فقالوا: إنّا نأخذ بما في أيدينا فإنه الحق ولا نصدقك ولا نتبعك، فنزلت الآية بسبب ذلك قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ الآية.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 69 الى 70]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)
الَّذِينَ لفظ عام لكل مؤمن من ملة محمد ومن غيرها من الملل، فكأن ألفاظ الآية حصر بها الناس كلهم وبينت الطوائف على اختلافها، وهذا تأويل جمهور المفسرين، وقال الزجاج المراد بقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا المنافقون، فالمعنى ان الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.
قال القاضي أبو محمد: فكأن ألفاظ الآية عدت الطوائف التي يمكن أن تنتقل إلى الإيمان، ثم نفى عنهم الخوف والحزن بشرط انتقالهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وعلى التأويل الأول يكون قوله مَنْ آمَنَ في حيز المؤمنين بمعنى ثبت واستمر، وقد تقدم تفسير هادُوا وتفسير «الصابئين» وتفسير النَّصارى في سورة البقرة، واختلف القراء في إعراب الصابئين في هذه الآية فقرأ الجمهور و «الصابئون» بالرفع وعليه مصاحف الأمصار والقراء السبعة، وقرأ عثمان بن عفان وعائشة وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والجحدري «والصابين» وهذه قراءة بينة الإعراب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والزهري «والصابيون» بكسر الباء وضم الياء دون همز، وقد تقدم في سورة البقرة، وأما قراءة الجمهور «والصابئون» فمذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة أنه من المقدم الذي معناه التأخير وهو المراد به، كأنه قال «إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون والنصارى» كذلك، وأنشد الزجاج نظيرا في ذلك:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق
فقوله وأنتم مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى أي وأنتم كذلك، وحكى الزجّاج عن الكسائي والفراء أنهما قالا: والصَّابِئُونَ عطف على الَّذِينَ، إذ الأصل في الَّذِينَ الرفع وإذ نصب إِنَّ ضعيف وخطأ الزجّاج هذا القول وقال: إِنَّ أقوى النواصب، وحكي أيضا عن الكسائي أنه قال والصَّابِئُونَ عطف على الضمير في هادُوا والتقدير هادوا هم والصابئون، وهذا قول يرده المعنى لأنه يقتضي أن الصابئين هادوا، وقيل إن معنى نعم، وما بعدها مرفوع بالابتداء، وروي عن بعضهم أنه قرأ «والصابئون» بالهمز، واتصال هذه

(2/219)


وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)

الآية بالتي قبلها هو أن قيل لهم ليس الحق في نفسه على ما تزعمون من أنكم أبناء الله وأحباؤه، بل لستم على شيء مستقيم حتى تؤمنوا وتقيموا الكتب المنزلة، ثم استأنف الإخبار عن الحق في نفسه بأنه من آمن في كل العالم فهو الفائز الذي لا خوف عليه.
قوله عز وجل: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ الآية، استئناف خبر بفعل أوائلهم وما نقضوا من العهود واجترحوا من الجرائم، أي إن العصا من العصية، وهؤلاء يا محمد من أولئك فليس قبيح فعلهم ببدع، وكُلَّما ظرف والعالم فيه كذبوا ويقتلون.. وقوله تعالى: بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ يقتضي أن هواهم كان غير الحق وهو ظاهر هوى النفس متى أطلق، فمتى قيد بالخير ساغ ذلك، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسارى بدر: فهوى رسول الله ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت أنا، وقوله تعالى:
فَرِيقاً كَذَّبُوا معناه كذبوه فقط، يريد الفريق من الرسل ولم يقتلوه، وفريقا من الرسل كذبوه وقتلوه، فاكتفى بذكر القتل إذ هو يستغرق التكذيب.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 71 الى 72]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72)
المعنى في هذه الآية وظن هؤلاء الكفرة والعصاة من بني إسرائيل أن لا يكون من الله ابتلاء لهم وأخذ في الدنيا وتمحيص فلجوا في شهواتهم وعموا فيها إذ لم يبصروا الحق شبهوا بالصم، ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حبك الشيء يعمي ويصم» وقوله تعالى: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قالت جماعة من المفسرين: هذه التوبة هي ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول ورد ملكهم وحالهم، ثم عموا وصموا بعد ذلك حتى أخرجوا الخرجة الثانية ولم ينجبروا أبدا وقالت جماعة ثم تاب الله عليهم ببعث عيسى عليه السلام إليهم، وقالت جماعة: توبته تعالى عليهم بعث محمد عليه السلام وخص بهذا المعنى كثيرا منهم لأن منهم قليلا آمن، ثم توعدهم بقوله تعالى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «ألا تكون» بنصب النون، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أن لا تكون» برفع النون، ولم يختلفوا في رفع فِتْنَةٌ لأن «كان» هنا هي التامة، فوجه قراءة النصب أن تكون «أن» هي الخفيفة الناصبة، ووجه قراءة الرفع أن تكون المخففة من الثقيلة، وحسن دخولها لأن «لا» قد وطأت أن يليها الفعل وقامت مقام الضمير المحذوف عوضا منه، ولا بد في مثل هذا من عوض، مثل قولك علمت أن قد يقوم زيد، وقوله عز وجل عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى [المزمل: 20] وقولك علمت أن سوف يقوم زيد وأن لا تكون فتنة، وقوله تعالى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم: 39] حسن فيه أن لا يكون عوض لأن ليس بفعل حقيقي والأفعال ثلاثة ضروب ضرب يجري مجرى تيقنت نحو علمت ودريت فهذا الضرب تليه «أن» الثقيلة

(2/220)


لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

التي تناسبه في الثبوت وحصول الوقوع، وضرب في الضد من ذلك نحو طمعت ورجوت وخفت هو مصرح بأن لم يقع، فهذا الضرب تليه «أن» الخفيفة إذ هي تناسبه، كقوله تعالى، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي [الشعراء: 82] وتَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ [الأنفال: 26] فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [البقرة: 229] وفَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً [الكهف: 80] أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا [المجادلة: 13] ونحو هذا، وضرب ثالث ينجذب إلى الأول مرة وإلى الثاني أحيانا نحو ظننت وحسبت وزعمت فيجري مجرى أرجو وأطمع، من حيث الظن والزعم والمحسبة أمور غير ثابتة ولا مستقرة، وقد تنزل منزلة العلم من حيث تستعمل استعماله، كقوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة: 46] وقوله إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة: 20] وقرأ جمهور الناس «عموا وصموا» بفتح العين والصاد، وقرأ ابن وثاب والنخعي «عموا وصموا» بضم العين والميم مخففة وبضم الصاد وهذا هو على أن تجرى مجرى زكم الرجل وأزكمه الله وحم الرجل وأحمه الله، ولا يقال زكمه الله ولا حمه الله، فكذلك يجيء هذا عمى الرجل وأعماه غيره، وصم وأصمه غيره، ولا يقال عميته ولا صممته، وقوله تعالى: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي رجع بهم إلى الطاعة والحق، ومن فصاحة اللفظ استناد هذا الفعل الشريف إلى الله تعالى، واستناد العمى والصمم اللذين هما عبارة عن الضلال إليهم، وقوله تعالى كَثِيرٌ يرتفع من إحدى ثلاث جهات، إما على البدل من الواو في قوله: عَمُوا وَصَمُّوا وإما على جمع الفعل وإن تقدم على لغة من قال: أكلوني البراغيث، وإما على أن يكون كَثِيرٌ خبر ابتداء مضمر.
ثم أخبر تعالى إخبارا مؤكدا بلام القسم عن كفر القائلين: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذا قول اليعقوبية من النصارى، ثم أخبر تعالى عن قول المسيح لهم وتبليغه كيف كان؟ فقال: وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ الآية، وهذه المعاني قول المسيح بألفاظ لغته، وهي بعينها موجودة في تبليغ محمد صلى الله عليه وسلم في قوله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48- 116] إلى غير ذلك من الآيات، وأخبرهم عيسى عليه السلام أن الله تعالى هو ربه وربهم فضلوا هم وكفروا بسبب ما رأوا على يديه من الآيات، و «المأوى» هو المحل الذي يسكنه المرء ويرجع إليه، وقوله تعالى وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يحتمل أن يكون من قول عيسى عليه السلام لبني إسرائيل، ويحتمل أن يكون إخبارا مستأنفا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم القول في تفسير لفظة المسيح في سورة آل عمران.
قوله تعالى:

[سورة المائدة (5) : الآيات 73 الى 75]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
هذه الآية إخبار مؤكد كالذي قبله، وهو عن هذه الفرقة الناطقة بالتثليث وهي فيما يقال الملكية وهم

(2/221)


قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)

فرق منهم النسطورية وغيرهم، ولا معنى لذكر أقوالهم في كتاب تفسير، إنما الحق أنهم على اختلاف أحوالهم كفار من حيث جعلوا في الألوهية عددا ومن حيث جعلوا لعيسى عليه السلام حكما إلهيا، وقوله تعالى: ثالِثُ ثَلاثَةٍ لا يجوز فيه إلا الإضافة وخفض ثَلاثَةٍ لأن المعنى أحد ثلاثة فإن قلت زيد ثالث اثنين أو رابع ثلاثة جاز لك أن تضيف كما تقدم وجاز أن لا تضيف وتنصب ثلاثة على معنى زيد يربع ثلاثة، وقوله تعالى وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ خبر صادع بالحق، وهو الخالق المبتدع المتصف بالصفات العلى تعالى عما يقول المبطلون، ثم توعد تبارك وتعالى هؤلاء القائلين هذه العظيمة بمس العذاب، وذلك وعيد بعذاب الدنيا من القتل والسبي وبعذاب الآخرة بعد لا يفلت منه أحد منهم.
ثم رفق جل وعلا بهم بتحضيضه إياهم على التوبة وطلب المغفرة، ثم وصف نفسه بالغفران والرحمة استجلابا للتائبين وتأنيسا لهم ليكونوا على ثقة من الانتفاع بتوبتهم.
ثم أخبر تعالى عن حقيقة أمر المسيح وأنه رسول بشر كالرسل المتقدمة قبله، وخَلَتْ معناه مضت وتقدمت في الخلاء من الأرض، وقرأ حطان بن عبد الله الرقاشي «قد خلت من قبله رسل» بتنكير الرسل، وكذلك قرأ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] ، وقد مضى القول على وجه هذه القراءة هناك، وقوله تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ صفة ببناء مبالغة من الصدق، ويحتمل أن يكون من التصديق وبه سمي أبو بكر رضي الله عنه لتصديقه، وهذه الصفة لمريم تدفع قول من قال هي نبية، وقد يوجد في صحيح الحديث قصص قوم كلمتهم ملائكة في غير ما فن كقصة الثلاثة الأقرع والأعمى والأبرص وغيرهم، ولا تكون هنالك نبوة، فكذلك أمر مريم، وقوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ تنبيه على نقص البشرية وعلى حال من الاحتياج إلى الغذاء تنتفي معها الألوهية، وذكر مكي والمهدي وغيرهما أنها عبارة عن الاحتياج إلى الغائط وهذا قول بشع ولا ضرورة تدفع إليه حتى يقصد هذا المعنى بالذكر، وإنما هي عبارة عن الاحتياج إلى التغذي ولا محالة أن الناظر إذا تأمل بذهنه لواحق التغذي وجد ذلك وغيره، ثم أمر تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم وفي الضمن أمته بالنظر في ضلال هؤلاء القوم وبعدهم عن سنن الحق، وأن الآيات تبين لهم وتبرز في غاية الوضوح، ثم هم بعد ذلك يصرفون أي تصرفهم دواعيهم ويزيلهم تكسلهم عن الحق، وكَيْفَ في هذه الآية ليست سؤالا عن حال لكنها عبارة عن حال شأنها أن يسأل عنها بكيف، وهذا كقولك: كن كيف شئت فأنت صديق، وأَنَّى معناها من أي جهة، قال سيبويه معناها كيف ومن أين، ويُؤْفَكُونَ معناه: يصرفون، ومنه قوله عز وجل: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: 9] والأرض المأفوكة التي صرفت عن أن ينالها المطر، والمطر في الحقيقة هو المصروف، ولكن قيل أرض مأفوكة لما كانت مأفوكة عنها.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 78]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78)

(2/222)


أمر الله تعالى نبيه أن يوقفهم على عبادتهم شخصا من البشر لا يملك أن يضرهم ولا أن ينفعهم، ومِنْ دُونِ ودون فلان وما جاء من هذه اللفظة فإنما تضاف إلى من ليس في النازلة التي فيها القول، وتفسيرها بغير أمر غير مطرد، و «الضّر» بفتح الضاد المصدر، و «الضّر» بضمها الاسم وهو عدم الخير، والسَّمِيعُ هنا إشارة إلى تحصيل أقوالهم والعليم بنياتهم، وقال بعض المفسرين: هاتان الصفتان منبهتان على قصور البشر، أي والله تعالى هو السميع العليم بالإطلاق لا عيسى ولا غيره، وهم مقرون أن عيسى قد كان مدة لا يسمع ولا يعلم، وقال نحوه مكي.
ثم أمر تعالى نبيه محمدا أن ينهاهم عن الغلو في دينهم، والغلو تجاوز الحد، غلا السهم إذا تجاوز الغرض المقصود واستوفى سومه من الاطراد، وتلك المسافة هي غلوته، وكما كان قوله لا تَغْلُوا بمعنى لا تقولوا ولا تلتزموا نصب غَيْرَ وليس معنى هذه الآية جنبوا من دينكم الذي أنتم عليه الغلو، وإنما معناه في دينكم الذي ينبغي أن يكون دينكم، لأن كل إنسان فهو مطلوب بالدين الحق وحري أن يتبعه ويلتزمه، وهذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى، والقوم الذين نهي النصارى عن اتباع أهوائهم بنو إسرائيل، ومعنى الآية لا تتبعوا أنتم أهواءكم كما اتبع أولئك أهواءهم، فالمعنى لا تتبعوا طرائقهم، والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل هم بالضد في الأقوال وإنما اجتمعوا في اتباع نوع الهوى، فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج، هذه طريقة فلان، تمثله بآخر قد اعوج نوعا آخر من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله، ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديما وأضلوا كثيرا من أتباعهم، ثم أكد الأمر بتكرار قوله تعالى: وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ وذهب بعض المتأولين إلى أن المعنى يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبل، أي ضل أسلافهم وهم قبل مجيء محمد، وأضلوا كثيرا من المنافقين وضلوا عن سواء السبيل الآن بعد وضوح الحق.
وقوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الآية. قد تقرر في غير موضع من القرآن ما جرى في مدة موسى من كفر بعضهم وعتوهم، وكذلك أمرهم مع محمد عليه السلام كان مشاهدا في وقت نزول القرآن، فخصت هذه الآية داود وعيسى إعلاما بأنهم لعنوا في الكتب الأربعة وأنهم قد لعنوا على لسان غير موسى ومحمد عليهما السلام، وقال ابن عباس رحمه الله: لعنوا بكل لسان لعنوا على عهد موسى في التوراة وعلى عهد داود في الزبور وعلى عهد عيسى في الإنجيل وعلى عهد محمد في القرآن، وروى ابن جريج أنه اقترن بلعنتهم على لسان داود أن مسخوا خنازير، وذلك أن داود عليه السلام مر على نفر وهم في بيت فقال من في البيت؟ قالوا: خنازير على معنى الانحجاب، قال: اللهم اجعلهم خنازير، فكانوا خنازير، ثم دعا عيسى على من افترى عليه على أن يكونوا قردة فكانوا قردة، وقال مجاهد وقتادة: بل مسخوا في زمن داود قردة وفي زمن عيسى خنازير، وحكى الزجّاج نحوه.

(2/223)


كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)

قال القاضي أبو محمد: وذكر المسخ ليس مما تعطيه ألفاظ الآية، وإنما تعطي ألفاظ الآية أنهم لعنهم الله وأبعدهم من رحمته وأعلم بذلك العباد المؤمنون على لسان داود النبي في زمنه وعلى لسان عيسى في زمنه، وروي عن ابن عباس أنه قال: لعن على لسان داود أصحاب السبت، وعلى لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة، وقوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى لعنتهم وباقي الآية بيّن.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 79 الى 81]
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)
ذم الله تعالى هذه الفرقة الملعونة بأنهم كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أي إنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي وإن نهى منهم ناه فعن غير جد، بل كانوا لا يمتنع الممسك منهم عن مواصلة العاصي ومؤاكلته وخلطته، وروى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على ذنب نهاه عنه تعزيرا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون خليطه وأكيله، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى، قال ابن مسعود:
وكان رسول الله متكئا فجلس، وقال: لا والله حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا.
قال القاضي أبو محمد: والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه ونهى بمعروف وأمن الضرر عليه وعلى المسلمين، فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه ففرض عليه الإنكار بقلبه وأن لا يخالط ذا المنكر، وقال حذاق أهل العلم: ليس من شروط الناهي أن يكون سليما من المعصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضا، وقال بعض الأصوليين فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضا. واستدل قائل هذه المقالة بهذه الآية، لأن قوله يَتَناهَوْنَ وفَعَلُوهُ يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي. وقوله تعالى: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ اللام لام قسم، وجعل الزجاج ما مصدرية وقال: التقدير لبئس شيئا فعلهم.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وقال غيره ما نكرة موصوفة، التقدير: لبئس الشيء الذي كانوا يفعلون فعلا.
وقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: تَرى كَثِيراً يحتمل أن يكون رؤية قلب وعلى هذا فيحتمل أن يريد من الأسلاف المذكورين، أي ترى الآن إذا خبرناك، ويحتمل أن يريد من معاصري محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان يرى ذلك من أمورهم ودلائل حالهم، ويحتمل أن تكون الرؤية رؤية عين فلا يريد إلا معاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي قدمته

(2/224)


لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)

للآخرة واجترحته، ثم فسر ذلك قوله تعالى: أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ف أَنْ سَخِطَ في موضع رفع بدل من ما، ويحتمل أن يكون التقدير هو أن سخط الله عليهم، وقال الزجاج: «أن» في موضع نصب ب أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وقوله تعالى: والنَّبِيِّ إن كان المراد الأسلاف فالنبي داود وعيسى، وإن كان المراد معاصري محمد فالنبي محمد عليه السلام، والذين كفروا هم عبدة الأوثان، وخص الكثير منهم بالفسق إذ فيهم قليل قد آمن.
وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ كلام منقطع من ذكر بني إسرائيل وأنه يعني به المنافقين، وقال مجاهد رحمه الله: وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ آية يعني بها المنافقين.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 83]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
اللام في قوله لَتَجِدَنَّ لام الابتداء، وقال الزجّاج هي لام قسم، ودخلت هذه النون الثقيلة لتفصل بين الحال والاستقبال.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله وهكذا هو الأمر حتى الآن، وذلك أن اليهود مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم ودربوا العتو والمعاصي ومردوا على استشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة، فهم قد لجت عداواتهم وكثر حسدهم، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين وكذلك المشركون عبدة الأوثان من العرب والنيران من المجوس لأن الإيمان إياهم كفر وعروشهم ثل، وبين أنهم ليسوا على شيء من أول أمرهم فلم يبق لهم بقية فعداوتهم شديدة، والنصارى أهل الكتاب يقضي لهم شرعنا بأن أول أمرهم صحيح لولا أنهم ضلوا، فهم يعتقدون أنهم لم يضلوا وأن هذه الآية لم تنسخ شرعهم، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة دين، ويستهينون من فهموا منه الفسق، فهم إذا حاربوا فإنما حربهم أنفة وكسب لا أن شرعهم يأخذهم بذلك، وإذا سالموا فسلمهم صاف، ويعين على هذا أنهم أمة شريفة الخلق، لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكر عمرو بن العاصي في صحيح مسلم وتأمل أن النبي صلى الله عليه وسلم سر حين غلبت الروم فارس، وذلك لكونهم أهل كتاب، ولم يرد عليه السلام أن يستمر ظهور الروم وإنما سر بغلبة أهل كتاب لأهل عبادة النار، وانضاف إلى ذلك أن غلب العدو الأصغر وانكسرت شوكة العدو الأكبر المخوف على الإسلام، واليهود لعنهم الله ليسوا على شيء من هذه الخلق بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يبغيك هو

(2/225)


الغوائل إلا الشاذ القليل منهم ممن عسى أن تخصص بأدب وأمور غير ما علم أولا. ولم يصف الله تعالى النصارى بأنهم أهل ود وإنما وصفهم بأنهم أقرب من اليهود والمشركين، فهو قرب مودة بالنسبة إلى متباعدين، وفي قوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى إشارة إلى أن المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم من النصارى ليسوا على حقيقة النصرانية بل كونهم نصارى قول منهم وزعم، وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً معناه ذلك بأن منهم أهل خشية وانقطاع إلى الله وعبادة وإن لم يكونوا على هذي، فهم يميلون إلى أهل العبادة والخشية وليس عند اليهود ولا كان قط أهل ديارات وصوامع وانقطاع عن الدنيا، بل هم معظمون لها متطاولون في البنيان وأمور الدنيا حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة، فلذلك لا يرى فيهم زاهد، ويقال «قس» بفتح القاف وبكسرها وقسيس وهو اسم أعجمي عرّب، والقس في كلام العرب النميمة وليس من هذا، وأما الرهبان فجمع راهب. وهذه تسمية عربية والرهب الخوف، ومن الشواهد على أن الرهبان جمع قول الشاعر جرير:
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا ... والعصم من شغف العقول الفادر
وقد قيل الرهبان اسم مفرد والدليل عليه قول الشاعر:
لو عاينت رهبان دير في القلل ... تحدّر الرهبان يمشي ونزل
قال القاضي أبو محمد: ويروى و «يزل» بالياء من الزلل، وهذا الرواية أبلغ في معنى غلبة هذه المرأة على ذهن هذا الراهب، ووصف الله تعالى النصارى بأنهم لا يستكبرون وهذا بين موجود فيهم حتى الآن، واليهودي متى وجد غرورا طغى وتكبر وإنما أذلهم الله وأضرعتهم الحمى وداسهم كلكل الشريعة ودين الإسلام أعلاه الله، وذكر سعيد بن جبير ومجاهد وابن عباس أن هذه الآية نزلت بسبب وفد بعثهم النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليروه ويعرفوا حاله، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي فآمن، ولم يزل مؤمنا حتى مات فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وروي أن نعش النجاشي كشف للنبي صلى الله عليه وسلم فكان يراه من موضعه بالمدينة وجاء الخبر بعد مدة أن النجاشي دفن في اليوم الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وذكر السدي: أنهم كانوا اثني عشر سبعة قسيسين وخمسة رهبان. وقال أبو صالح: كانوا سبعة وستين رجلا، وقال سعيد بن جبير: كانوا سبعين عليهم ثياب الصوف وكلهم صاحب صومعة اختارهم النجاشي الخير بالخير، وذكر السدي: أن النجاشي خرج مهاجرا فمات في الطريق.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لم يذكره أحد من العلماء بالسيرة، وقال قتادة: نزلت هذه الآيات في قوم كانوا مؤمنين ثم آمنوا بمحمد عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد: وفرق الطبري بين هذين القولين وهما واحد، وروى سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا.
وقوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ الآية الضمير في سَمِعُوا ظاهره العموم

(2/226)


وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)

ومعناه الخصوص فيمن آمن من هؤلاء القادمين من أرض الحبشة، إذ هم عرفوا الحق وقالوا آمنا، وليس كل النصارى يفعل ذلك، وصدر الآية في قرب المودة عام فيها ولا يتوجه أن يكون صدر الآية خاصا فيمن آمن لأن من آمن فهو من الذين آمنوا وليس يقال فيه قالوا إنا نصارى ولا يقال في مؤمنين: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ولا يقال إنهم أقرب مودة، بل من آمن فهو أهل مودة محضة، فإنما وقع التخصيص من قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا وجاء الضمير عاما إذ قد تحمد الجماعة بفعل واحد منها، وفي هذا استدعاء للنصارى ولطف من الله تعالى بهم، ولقد يوجد فيض الدموع غالبا فيهم وإن لم يؤمنوا، وروي أن وفدا من نجران قدم على أبي بكر الصديق في شيء من أمورهم فأمر من يقرأ القرآن بحضرتهم فبكوا بكاء شديدا فقال أبو بكر: هكذا كنا ولكن قست القلوب، وروي أن راهبا من رهبان ديارات الشام نظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورأى عبادتهم وجدهم في قتال عدوهم فعجب من حالهم، وبكى، وقال: ما كان الذين نشروا بالمناشير على دين عيسى بأصبر من هؤلاء ولا أجدّ في دينهم.
قال القاضي أبو محمد: فالقوم الذين وصفوا بأنهم عرفوا الحق هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعوا ما عنده، فلما رأوه قرأ عليهم القرآن وهو المراد بقوله تعالى: ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ فاضت أعينهم بالدمع من خشية الله ورقت القلوب. والرؤية رؤية العين، وتَفِيضُ حال من الأعين، ويَقُولُونَ حال أيضا وآمَنَّا معناه صدقنا أن هذا رسولك والمسموع كتابك والشاهدون محمد وأمته، قاله ابن عباس وابن جريج وغيرهما، وقال الطبري: لو قال قائل معنى ذلك مع الشاهدين بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر لكان ذلك صوابا.
قال القاضي أبو محمد: هذا معنى قول الطبري وهو كلام صحيح، وكان ابن عباس رضي الله عنه خصص أمة محمد عليه السلام لقول الله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] .
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 84 الى 87]
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
قولهم وَما لَنا توقيف لأنفسهم أو محاجة لمن عارضهم من الكفار بأن قال لهم آمنتم وعجلتم.
فقالوا وأي شيء يصدنا عن الإيمان وقد لاح الصواب وجاء الحق المنير وَما لَنا ابتداء وخبر، ولا نُؤْمِنُ في موضع الحال، ولكنها حال هي المقصد وفيها الفائدة: كما تقول جاء زيد راكبا وأنت قد سئلت هل جاء ماشيا أو راكبا. وفي مصحف ابن مسعود «وما لنا لا نؤمن بالله وما أنزل إلينا ربنا» . وَنَطْمَعُ تقديره ونحن نطمع. فالواو عاطفة جملة على الجملة لا عاطفة فعل على فعل و «القوم الصالحون» محمد وأصحابه، قاله ابن زيد وغيره من المفسرين.

(2/227)


وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

ثم ذكر الله تعالى ما أثابهم به من النعيم على إيمانهم وإحسانهم.
ثم ذكر حال الكافرين المكذبين وأنهم قرناء الجحيم، والمعنى قد علم من غير ما آية من كتاب الله أنه اقتران لازم دائم أبدي.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الآية قال أبو مالك وعكرمة وإبراهيم النخعي وأبو قلابة وقتادة والسدي وعبد الله بن عباس رضي الله عنه وغيرهم: إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بلغت منهم المواعظ وخوف الله إلى أن حرم بعضهم النساء وبعضهم النوم بالليل والطيب وهمّ بعضهم بالاختصاء وكان منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون، قال عكرمة: ومنهم ابن مسعود والمقداد وسالم مولى أبي حذيفة، وقال قتادة رفضوا النساء واللحم وأرادوا أن يتخذوا الصوامع، وقال ابن عباس أخذوا الشفار ليقطعوا مذاكرهم، وطول السدي في قصة الحولاء امرأة عثمان بن مظعون مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وإخبارها بأنه لم يلم بها، فلما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحالهم قال: «أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء وأنال الطيب، فمن رغب عن سنتي فليس مني» قال الطبري: وكان فيما يتلى من رغب عن سنتك فليس من أمتك، وقد ضل سواء السبيل، وقال ابن زيد: سبب هذه الآية أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف فانقلب ابن رواحة وضيفه لم يعشّ فقال لزوجه ما عشيته؟ قالت: كان الطعام قليلا فانتظرتك، فقال: حبست ضيفي من أجلي، طعامك علي حرام إن ذقته، فقالت هي: وهو علي حرام إن ذقته وإن لم تذقه، وقال الضيف وهو عليّ حرام إن ذقته إن لم تذوقوه، فلما رأى ذلك ابن رواحة قال: قربي طعامك كلوا باسم الله فأكلوا جميعا. ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له رسول الله أحسنت ونزلت هذه الآية وأسند الطبري إلى ابن عباس أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم فأنزل الله هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: و «الطيبات» في هذه الآية المستلذات بدليل إضافتها إلى ما أحل وبقرينة ما ذكر من سبب الآية، واختلف المتأولون في معنى قوله وَلا تَعْتَدُوا فقال السدي وعكرمة وغيرهما. وهو نهي عن هذه الأمور المذكورة من تحريم ما أحل الله وشرع ما لم يأذن به، فقوله وَلا تَعْتَدُوا تأكيد لقوله لا تُحَرِّمُوا وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى ولا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله، فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين كأنه لا تشددوا فتحرموا حلالا ولا تترخصوا فتحلوا حراما وقد تقدم القول في معنى لا يحب المعتدين غير مرة.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 88 الى 89]
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

(2/228)


كُلُوا في هذه الآية عبارة عن تمتعوا بالأكل والشرب واللباس والركوب. ونحو ذلك، وخص الأكل بالذكر لأنه عظم المقصود وأخص الانتفاعات بالإنسان، والرزق عند أهل السنة ما صح الانتفاع به، وقالت المعتزلة: الرزق كل ما صح تملكه والحرام ليس برزق لأنه لا يصح تملكه. ويرد عليهم بأنه يلزمهم أن آكل الحرام ليس بمرزوق من الله تعالى وقد خرج بعض النبلاء أن الحرام رزق من قوله تعالى كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ: 15] قال فذكر المغفرة مشيرا إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام ورد أبو المعالي في الإرشاد على المعتزلة مشيرا إلى أن الرزق ما تملك يلزمهم أن ما ملك فهو الرزق، وملك الله تعالى الأشياء لا يصح أن يقال فيه إنه رزق له.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الذي ألزم غير لازم، فتأمله، وباقي الآية بين.
وقد تقدم القول في سورة البقرة في نظير قوله تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وقوله تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ معناه شددتم، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «عقّدتم» مشددة القاف، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «عقدتم» خفيفة القاف، وقرأ ابن عامر «عاقدتم» بألف على وزن فاعلتم، قال أبو علي من شدد القاف احتمل أمرين أحدهما أن يكون لتكثير الفعل لأنه خاطب جماعة والآخر يكون عقد مثل ضعف لا يراد به التكثير كما أن ضاعف لا يراد به فعل من اثنين. ومن قرأ «عقدتم» فخفف القاف جاز أن يراد به الكثير من الفعل والقليل، وعقد اليمين كعقد الحبل والعهد، وقال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
ومن قرأ «عاقدتم» فيحتمل ضربين أحدهما أن يكون كطارقت النعل وعاقبت اللص، والآخر أن يراد به فاعلت الذي يقتضي فاعلين كأن المعنى يؤاخذكم بما عاقدتم عليه الإيمان، ويعدى عاقد ب «على» لما هو في معنى عاهد، قال الله تعالى: وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ [الفتح: 10] وهذا كما عديت نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 58] ب «إلى» وبابها أن تقول ناديت زيدا ونادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم: 52] لكن لما كانت بمعنى دعوت إلى كذا كقوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ [فصلت: 33] عديت نادى ب «إلى» ، ثم يتسع في قوله تعالى «عاقدتم» عليه الإيمان فيحذف الجار، ويصل الفعل إلى المفعول، ثم يحذف من الصلة الضمير الذي يعود على الموصول، وتقديره يؤاخذكم بما عقدتموه الأيمان. كما حذف من قوله تعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94] والْأَيْمانَ جمع يمين وهي الألية سميت يمينا لما كان عرفهم أن يصفقوا بأيمان بعضهم على بعض عند الألية. وقوله تعالى:
فَكَفَّارَتُهُ معناه فالشيء الساتر على إثم الحنث في اليمين إطعام، والضمير على الصناعة النحوية عائد على ما، ويحتمل ما في هذا الموضع أن تكون بمعنى الذي، وتحتمل أن تكون مصدرية وهو عائد مع المعنى الذي ذكرناه على إثم الحنث، ولم يجر له ذكر صحيح لكن المعنى يقتضيه وإِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ معناه إشباعهم مرة، قال الحسن بن أبي الحسن إن جمعهم أشبعهم إشباعة واحدة، وإن أعطاهم أعطاهم مكوكا مكوكا، وحكم هؤلاء أن لا يتكرر واحد منهم في كفارة يمين واحدة، وسواء أطعموا أفرادا أو جماعة

(2/229)


في حين واحد ولا يجزىء في شيء من ذلك ذمي وإن أطعم صبي فيعطى حظ كبير، ولا يجوز أن يطعم عبد ولا ذو رحم تلزم نفقته، فإن كان ممن لا تلزم المكفر نفقته فقد قال مالك لا يعجبني أن يطعمه، ولكن إن فعل وكان فقيرا أجزأه، ولا يجوز أن يطعم منها غني، وإن أطعم جهلا بغناه ففي المدونة وغير كتاب أنه لا يجزىء وفي الأسدية أنه يجزىء واختلف الناس في معنى قوله مِنْ أَوْسَطِ فرأى مالك رحمه الله وجماعة معه هذا التوسط في القدر، ورأى ذلك جماعة في الصنف، والوجه أن يعم بلفظ الوسط القدر والصنف.
فرأى مالك أن يطعم المسكين بالمدينة مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك رطل وثلث من دقيق، وهذا لضيق المعيشة بالمدينة، ورأى في غيرها أن يتوسع ولذلك استحسن الغداء والعشاء. وأفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف وأشهب بمد وثلث، قال ابن المواز: ومد وثلث وسط من عيش أهل الأمصار في الغداء والعشاء، قال ابن حبيب: ولا يجزىء الخبز قفارا ولكن بأدام زيت أو لبن أو لحم أو نحوه، وفي شرح ابن مزين أن الخبز القفار يجزىء، ورأى من يقول إن التوسط إنما هو في الصنف أن يكون الرجل المكفر يتجنب أدنى ما يأكل الناس في البلد وينحط عن الأعلى ويكفر بالوسط من ذلك، ومذهب المدونة أن يراعي المكفر عيش البلد، وفي كتاب ابن المواز أن المراعى عيشه في أهله الخاص به، وكأن الآية على التأويل الأول معناها من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم في الجملة من مدينة أو صقع، وعلى التأويل الثاني معناها من أوسط ما يطعم شخص أهله. وقرأ الجمهور «أهليكم» وهو جمع أهل على السلامة وقرأ جعفر بن محمد «من أوسط ما تطعمون أهاليكم» ، وهذا جمع مكسر قال أبو الفتح «أهال» بمنزلة ليال، كأن واحدها أهلاة وليلاة، والعرب تقول أهل وأهلة ومنه قول الشاعر:
وأهلة ود قد تبريت ودهم
ويقال ليلة وليلاة وأنشد ابن الأعرابي:
في كل ما يوم وكل ليلاه ... حتى يقول من رآه إذ رآه
يا ويحه من جمل ما أشقاه
وقرأ الجمهور «أو كسوتهم» بكسر الكاف يراد به كسوة الثياب وقرأ سعيد بن المسيب وأبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «أو كسوتهم» بضم الكاف، وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميفع اليماني «أو كأسوتهم» من الأسوة قال أبو الفتح كأنه قال أو بما يكفي مثلهم فهو على حذف المضاف بتقدير أو ككفاية أسوتهم، قال وإن شئت جعلت الأسوة هي الكفاية فلم تحتج إلى حذف مضاف.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، والقراءة مخالفة لخط المصحف، ومعناها على خلاف ما تأول أهل العلم من أن الحانث في اليمين بالله مخير في الإطعام أو الكسوة أو العتق، والعلماء على أن العتق أفضل ذلك ثم الكسوة ثم الإطعام وبدأ الله تعالى عباده بالأيسر فالأيسر، ورب مدة ومسغبة يكون فيها الإطعام أفضل من العتق لكن ذلك شاذ وغير معهود والحكم للأغلب، واختلف العلماء في حد الكسوة فراعى على قوم نفس اللفظ فإذا كان الحانث المكفر كاسيا والمسكين مكسوا حصل الإجزاء، وهذه رتبة

(2/230)


تتحصل بثوب واحد أي ثوب كان بعد إجماع الناس أن القلنسوة بانفرادها لا تجزىء في كفارة اليمين، قال مجاهد:
يجزىء في كفارة اليمين ثوب واحد فما زاد، وقال الحسن: الكسوة ثوب لكل مسكين وقاله طاوس، وقال منصور: الكسوة ثوب قميص أو رداء أو إزار قاله أبو جعفر وعطاء وابن عباس، وقال قد تجزىء العباءة في الكفارة وكذلك الشملة، وقال الحسن بن أبي الحسن: تجزىء العمامة في كفارة اليمين، وقال مجاهد:
يجزىء كل شيء إلا التبان، وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: نعم الثوب التبان، أسنده الطبري وقال الحكم بن عتيبة: تجزىء عمامة يلف بها رأسه وراعى قوم معهود الزي والكسوة المتعارفة، فقال بعضهم لا يجزىء الثوب الواحد إلا إذا كان جامعا مما قد يتزيى به كالكساء والملحفة، قال إبراهيم النخعي: يجزىء الثوب الجامع وليس القميص والدرع والخمار ثوبا جامعا.
قال القاضي أبو محمد: قد يكون القميص الكامل جامعا وزيا، وقال بعضهم: الكسوة في الكفارة إزار وقميص ورداء قاله ابن عمر رضي الله عنه، وروي عن الحسن وابن سيرين وأبي موسى الأشعري أن الكسوة في الكفارة ثوبان لكل مسكين، وعلق مالك رحمه الله الحكم بما يجزىء في الصلاة، وهذا أحسن نظر، فقال: يجزىء في الرجل ثوب واحد، وقال ابن حبيب يكسى قميصا أو إزارا يبلغ أن يلتف به مشتملا، وكلام ابن حبيب تفسير، قال مالك: تكسى المرأة درعا وخمارا، وقال ابن القاسم في العتبية: وإن كسا صغير الإناث فدرع وخمار كالكبيرة، والكفارة واحدة لا ينقص منها لصغير، قال عنه ابن المواز ولا تعجبني كسوة المراضع بحال، فأما من أمر بالصلاة فيكسوه قميصا ويجزئه، قال ابن المواز من رأيه: بل كسوة رجل كبير وإلا لم يجزىء، قال أشهب، تعطى الأنثى إذا لم تبلغ الصلاة ثوب رجل ويجزىء وقاله ابن الماجشون، وقوله أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ التحرير الإخراج من الرق، ويستعمل في الأسر والمشقات وتعب الدنيا ونحوها، فمنه قوله تعالى عن أم مريم: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً [آل عمران: 35] أي من شغوب الدنيا، ومن ذلك قول الفرزدق:
ابني غدانة إنني حررتكم ... فوهبتكم لعطية بن جعال
أي حررتكم من الهجاء، وخص الرقبة من الإنسان إذ هو العضو الذي فيه يكون الغل والتوثق غالبا من الحيوان، فهو موضع الملك فأضيف التحرير إليها، واختلف الناس في صفة المعتق في الكفارة كيف ينبغي أن يكون، فقالت جماعة من العلماء: هذه رقبة مطلقة لم تقيد بأيمان فيجوز في كفارة اليمين عتق الكافر، وهذا مذهب الطبري وجماعة من العلماء، وقالت فرقة كل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيد في عتق الرقبة في القتل الخطأ فلا يجزىء في شيء من الكفارات كافر، وهذا قول مالك رحمه الله وجماعة معه، وقال مالك رحمه الله: لا يجزي أعمى ولا أبرص ولا مجنون، وقال ابن شهاب وجماعة، وفي الأعور قولان في المذهب، وكذلك في الأصم وفي الخصي، وفي العلماء من رأى أن جميع هذا يجزىء وفرق النخعي فجوز عتق من يعمل أشغاله وخدمته ومنع عتق من لا يعمل كالأعمى والمقعد والأشل اليدين، قال مالك رحمه الله: والأعجمي عندي يجزىء من قصر النفقة وغيره أحب إليّ، قال سحنون يريد بعد أن يجيب إلى الإسلام، فإن كان الأعجمي لم يجب إلا أنه ممن يجبر على الإسلام كالكبير من المجوس والصغير من الحربيين الكتابيين فقال ابن القاسم يجزىء عتقه وإن لم يسلم وقال أشهب لا

(2/231)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)

يجزىء حتى يسلم، ولا يجزىء عند مالك من فيه شعبة حرية كالمدبر وأم الولد ونحوه.
وقوله تعالى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ معناه لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة من الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة واختلف العلماء في حد هذا العادم الوجد حتى يصح له الصيام، فقال الشافعي رحمه الله وجماعة من العلماء إذا كان المكفر لا يملك إلا قوته وقوت عياله يومه وليلته فله أن يصوم، فإن كان عنده زائدا على ذلك ما يطعم عشرة مساكين لزمه الإطعام، وهذا أيضا هو مذهب مالك وأصحابه قال مالك في المدونة: لا يجزئه سيام وهو يقدر على أحد الوجوه الثلاثة، وروي عن ابن القاسم أن من تفضل له نفقة يوم فإنه لا يصوم، وقال ابن المواز: ولا يصوم الحانث حتى لا يجد إلا قوته أو يكون في البلد لا يعطف عليه فيه، وقال ابن القاسم في كتاب ابن مزين: إن كان لحانث فضل عن قوت يومه أطعم إلا أن يخاف الجوع أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه، وقال سعيد بن جبير: إن لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم وقال قتادة: إذا لم يكن له إلا قدر ما يكفر به صام، وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا كان له درهمان أطعم، قال الطبري: وقال آخرون: جائز لمن لم تكن عنده مائتا درهم أن يصوم وهو ممن لا يجد، وقال آخرون:
جائز لمن لم يكن عنده فضل على رأس ماله الذي يتصرف به في معاشه أن يصوم، وقرأ أبي بن كعب فصيام ثلاثة أيام متتابعات، وكذلك عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي، وقال بذلك جماعة من العلماء منهم مجاهد وغيره، وقال مالك رحمه الله وغيره: إن تابع فحسن وإن فرق أجزأ، وقوله تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إشارة إلى ما ذكر من الأشياء الثلاثة وقوله إِذا حَلَفْتُمْ معناه ثم أردتم الحنث أو وقعتم فيه وباقي الآية وصاة وتوقيف على النعمة والإيمان.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 92]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)
الخطاب للمؤمنين جميعا، لأن هذه الأشياء شهوات وعادات قد تلبس بها في الجاهلية وغلبت على النفوس فكان بقي منها في نفوس كثير من المؤمنين، فأما الْخَمْرُ فكانت لم تحرم بعد، وأما الْمَيْسِرُ ففيه قمار ولذة للفارغ من النفوس ونفع أيضا بوجه ما، وأما الْأَنْصابُ وهي حجارة يذكون عندها لفضل يعتقدونه فيها، وقيل هي الأصنام المعبودة كانوا يذبحون لها وعندها في الجاهلية. فإن كانت المرادة في هذه الآية الحجارة التي يذبح عندها فقط فذلك لأنه كان في نفس ضعفة المؤمنين شيء من تعظيم تلك الحجارة، وهذا كما قالت امرأة الطفيل بن عمرو الدوسي لزوجها: أتخاف على الصبية من ذي الشرى شيئا؟
وذو الشرى صنم لدوس، وإن كانت المرادة في هذه الآية الأصنام فإنما قرنت بهذه الأمور ليبين النقص في هذه إذ تقرن بالأصنام، ولا يتأول أنه بقي في نفس مؤمن شيء من تعظيم الأصنام والتلبس بها حتى يقال له

(2/232)


اجتنبه، وأما الْأَزْلامُ فهي الثلاثة التي كان أكثر الناس يتخذونها. في أحدها «لا» وفي الآخر «نعم» ، والآخر «غفل» ، وهي التي حبسها سراقة بن جعشم حين اتبع النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الهجرة، فكانوا يعظمونها، وبقي منها في بعض النفوس شيء ومن هذا القبيل هو الزجر بالطير وأخذ الفأل منها في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم، وقد يقال لسهام الميسر أزلام، والزلم السهم وكان من الأزلام أيضا ما يكون عند الكهان وكان منها سهام عند الأصنام وهي التي ضرب بها على عبد الله بن عبد المطلب أبي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عند قريش في الكعبة أزلام فيها أحكام ذكرها ابن إسحاق وغيره، فأخبر الله تعالى أن هذه الأشياء رِجْسٌ، قال ابن زيد: الرجس الشر.
قال القاضي أبو محمد: كل مكروه ذميم، وقد يقال للعذاب، وقال ابن عباس في هذه الآية رِجْسٌ سخط، وقد يقال للنتن وللعذرة والأقذار رجس، والرجز العذاب لا غير، والركس العذرة لا غير، والرجس يقال للأمرين، وأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور واقترنت بصيغة الأمر في قوله فَاجْتَنِبُوهُ نصوص الأحاديث وإجماع الأمة، فحصل الاجتناب في رتبة التحريم، فبهذا حرمت الخمر بظاهر القرآن ونص الحديث وإجماع الأمة، وقد تقدم تفسير لفظة الْخَمْرُ ومعناها. وتفسير الْمَيْسِرُ في سورة البقرة، وتقدم تفسير الْأَنْصابُ والاستقسام بالأزلام في صدر هذه السورة، واختلف الناس في سبب نزول هذه الآيات، فقال أبو ميسرة: نزلت بسبب عمر بن الخطاب فإنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر وما ينزل بالناس من أجلها ودعا إلى الله في تحريمها، وقال: اللهم بين لنا فيها بيانا شافيا، فنزلت هذه الآيات، فقال عمر انتهينا، انتهينا وقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد قال: صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فشربنا الخمر حتى انتشينا فتفاخرت الأنصار وقريش فقال كل فريق: نحن خير منكم، فأخذ رجل من الأنصار لحي جمل فضرب به أنف سعد ففزره، فكان سعد أفزر الأنف، قال سعد ففيّ نزلت الآية إلى آخرها، وقال ابن عباس: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا حتى إذا ثملوا عربدوا فلما صحوا جعل كل واحد منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته وجسده، فيقول هذا فعل فلان بي، فحدث بينهم في ذلك ضغائن، فنزلت هذه الآيات في ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وأمر الخمر إنما كان بتدريج ونوازل كثيرة، منها قصة حمزة حين جبّ الأسنمة، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: وهل أنتم إلا عبيد لأبي، ومنها قراءة علي بن أبي طالب في صلاة المغرب «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون» فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: 43] الآية، ثم لم تزل النوازل تحزب الناس بسببها حتى نزلت هذه الآية، فحرمت بالمدينة وخمر العنب فيها قليل، إنما كانت خمرهم من خمسة أشياء من العسل ومن التمر ومن الزبيب ومن الحنطة ومن الشعير، والأمة مجمعة على تحريم القليل والكثير من خمر العنب التي لم تمسها نار ولا خالطها شيء، وأكثر الأمة على أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، ولأبي حنيفة وبعض فقهاء الكوفة إباحة ما لا يسكر مما يسكر كثيره من غير خمر العنب، وهو مذهب مردود، وقد خرج قوم تحريم الخمر من وصفها برجس، وقد وصف تعالى في آية أخرى الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير بأنها رجس، فيجيء من ذلك أن كل رجس حرام.

(2/233)


لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)

قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، والاجتناب أن يجعل الشيء جانبا أو ناحية.
ثم أعلم تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن تقع العداوة بسبب الخمر، وما كان يغري عليها بين المؤمنين وبسبب الميسر إذ كانوا يتقامرون على الأموال والأهل، حتى ربما بقي المقمور حزينا فقيرا فتحدث من ذلك ضغائن وعداوة، فإن لم يصل الأمر إلى حد العداوة كانت بغضاء، ولا تحسن عاقبة قوم متباغضين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» ، وباجتماع النفوس والكلمة يحمى الدين ويجاهد العدو، والْبَغْضاءَ تنقض عرى الدين وتهدم عماد الحماية، وكذلك أيضا يريد الشيطان أن يصد المؤمنين عن ذكر الله وعن الصلاة ويشغلهم عنها بشهوات، فالخمر والميسر والقمار كله من أعظم آلاته في ذلك، وفي قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وعيد في ضمن التوقيف زائد على معنى انتهوا.
ولما كان في الكلام معنى انتهوا حسن أن يعطف عليه وَأَطِيعُوا وكرر أَطِيعُوا في ذكر الرسول تأكيدا، ثم حذر تعالى من مخالفة الأمر وتوعد من تولى بعذاب الآخرة أي إنما على الرسول أن يبلغ وعلى المرسل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يعصى أو يطاع.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 93 الى 94]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)
سبب هذه الآية فيما قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك: أنه لما نزل تحريم الخمر، قال قوم من الصحابة: يا رسول الله، كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر ونحو هذا من القول؟ فنزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نظير سؤالهم عمن مات على القبلة الأولى، ونزلت وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] ولما كان أمر القبلة خطيرا ومعلما من معالم الدين تخيل قوم نقص من فاته، وكذلك لما حصلت الخمر والميسر في هذا الحد العظيم من الذم، أشفق قوم وتخيلوا نقص من مات على هذه المذمات، فأعلم تعالى عباده أن الذم والجناح إنما يلحق من جهة المعاصي، وأولئك الذين ماتوا قبل التحريم لم يعصوا في ارتكاب محرم بعد بل كانت هذه الأشياء مكروهة لم ينص عليها بتحريم، والشرع هو الذي قبحها وحسن تجنبها، و «الجناح» الإثم والحرج، وهو كله الحكم الذي يتصف به فاعل المعصية والنسبة التي تترتب للعاصي وطَعِمُوا معناه ذاقوا فصاعدا في رتب الأكل والشرب، وقد يستعار للنوم وغيره وحقيقته في حاسة الذوق، والتكرار في قوله اتَّقَوْا يقتضي في كل واحدة زيادة على التي قبلها وفي ذلك مبالغة في هذه الصفات لهم، وذهب بعض المفسرين إلى أن يعين المراد بهذا التكرار فقال

(2/234)


قوم: الرتبة الأولى هي اتقاء الشرك والكبائر والإيمان على كماله وعمل الصالحات، والرتبة الثانية هي الثبوت والدوام على الحالة المذكورة، والرتبة الثالثة هي الانتهاء في التقوى إلى امتثال ما ليس بفرض من النوافل في الصلاة والصدقة وغير ذلك، وهو الإحسان، وقال قوم الرتبة الأولى لماضي الزمن، والثانية للحال، والثالثة للاستقبال، وقال قوم: الاتقاء الأول هو في الشرك والتزام الشرع، والثاني في الكبائر، والثالث في الصغائر.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وليست هذه الآية وقفا على من عمل الصالحات كلها، واتقى كل التقوى. بل هو لكل مؤمن وإن كان عاصيا أحيانا إذا كان قد عمل من هذه الخصال الممدوحة ما استحق به أن يوصف بأنه مؤمن عامل للصالحات متق في غالب أمره محسن، فليس على هذا الصنف جناح فيما طعم مما لم يحرم عليه، وقد تأول هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصحابة رضي الله عنه، وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبد الله، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وعمرّ، وكان ختن عمر بن الخطاب خال عبد الله وحفصة، ولاه عمر بن الخطاب على البحرين ثم عزله لأن الجارود سيد عبد القيس قدم على عمر بن الخطاب فشهد عليه بشرب الخمر، فقال له عمر: ومن يشهد معك؟ فقال:
أبو هريرة، فجاء أبو هريرة فقال له عمر بم تشهد؟ قال لم أره يشرب ولكن رأيته سكران يقيء، فقال له عمر: لقد تنطعت في الشهادة، ثم كتب عمر إلى قدامة أن يقدم عليه، فقدم، فقال الجارود لعمر: أقم على هذا كتاب الله، فقال له عمر: أخصم أنت أم شهيد، قال: بل شهيد: قال: قد أديت شهادتك، فصمت الجارود ثم غدا على عمر، فقال أقم على قدامة كتاب الله، فقال له عمر: ما أراك إلا خصما وما شهد معك إلا رجل واحد، قال الجارود: إني أنشدك الله، قال عمر: لتمسكن لسانك أو لأسوأنك، فقال الجارود: ما هذا والله يا عمر بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوءني، فقال أبو هريرة: إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فسلها، وهي امرأة قدامة، فبعث عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها الله، فأقامت الشهادة على زوجها، فقال عمر لقدامة إني حادك، فقال: لو شربت كما يقولون لم يكن لك أن تحدني، قال عمر لم؟ قال: لأن الله تعالى يقول لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ الآية، فقال له عمر: أخطأت التأويل، إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك، ثم حده عمر وكان مريضا فقال له قوم من الصحابة لا نرى أن تجلده ما دام مريضا، فأصبح يوما وقد عزم على جلده، فقال لأصحابه: ما ترون في جلد قدامة؟ قالوا: لا نرى ذلك ما دام وجعا، فقال له عمر لأن يلقى الله وهو تحت السياط أحب إليّ من أن ألقاه وهو في عنقي، وأمر بقدامة فجلد، فغاضب قدامة عمر وهجره إلى أن حج عمر وحج معه قدامة مغاضبا له، فلما كان عمر بالسقيا نام ثم استيقظ فقال: عجلوا عليّ بقدامة، فقد أتاني آت في النوم فقال:
سالم قدامة فإنه أخوك، فبعث في قدامة فأبى أن يأتي فقال عمر جروه إن أبى فلما جاء كلمه عمر واستغفر له فاصطلحا، قال أيوب بن أبي تميمة لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره.
وقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ أي ليختبركم ليرى طاعتكم من معصيتكم وصبركم من عجزكم عن الصيد، وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة، وشائعا عند الجميع منهم مستعما جدا، فابتلاهم الله فيه مع الإحرام أو الحرم كما ابتلى بني إسرائيل في أن لا يعتدوا في

(2/235)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

السبت، ومِنَ تحتمل أن تكون للتبعيض، فالمعنى من صيد البر دون البحر، ذهب إليه الطبري وغيره، ويحتمل أن يكون التبعيض في حالة الحرمة إذ قد يزول الإحرام ويفارق الحرم، فصيد بعض هذه الأحوال بعض الصيد على العموم، ويجوز أن تكون لبيان الجنس، قال الزجّاج وهذا كما تقول لأمتحننك بشيء من الورق، وكما قال تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] وقوله بِشَيْءٍ يقتضي تبعيضا ما وقد قال كثير من الفقهاء إن الباء في قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [المائدة: 6] أعطت تبعيضا ما، وقرأ ابن وثاب والنخعي «يناله» بالياء منقوطة من تحت، وقال مجاهد الأيدي تنال الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر، والرماح تنال كبار الصيد.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن الله تعالى خص الأيدي بالذكر لأنها عظم المتصرف في الاصطياد، وهي آلة الآلات وفيها تدخل الجوارح والحبالات، وما عمل باليد من فخاخ وشباك، وخص الرماح بالذكر لأنها عظم ما يجرح به الصيد وفيها يدخل السهم ونحوه، واحتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية، لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئا، وقوله تعالى لِيَعْلَمَ معناه ليستمر علمه عليه وهو موجود إذ علم تعالى ذلك في الأزل. وقرأ الزهري «ليعلم الله» بضم الياء وكسر اللام أي ليعلم عباده، وبِالْغَيْبِ قال الطبري معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربه فهو غائب عنه، والظاهر أن المعنى بالغيب من الناس أي في الخلوة فمن خاف الله انتهى عن الصيد من ذات نفسه، وقد خفي له لو صاد، ثم توعد تعالى من اعتدى بعد هذا النهي الذي يأتي وهو الذي أراد بقوله لَيَبْلُوَنَّكُمُ وأشار إليه قوله ذلِكَ والعذاب الأليم هو عذاب الآخرة.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : آية 95]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95)
الخطاب لجميع المؤمنين، وهذا النهي هو الابتلاء الذي أعلم به قوله قبل لَيَبْلُوَنَّكُمُ [المائدة: 94] والصَّيْدَ مصدر عومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصيد، ولفظ الصيد هنا عام ومعناه الخصوص فيما عدا الحيوان الذي أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في الحرم، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خمس فواسق يقتلن في الحرم الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور» ووقف مع ظاهر هذا الحديث سفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه فلم يبيحوا للمحرم قتل شيء سوى ما ذكر، وقاس مالك رحمه الله على الكلب العقور كل ما كلب على الناس وعقرهم ورآه داخلا في اللفظ فقال للمحرم أن يقتل الأسد والنمر والفهد والذئب وكل السباع العادية مبتدئا بها، فأما الهر والثعلب والضبع فلا يقتلها المحرم وإن قتلها فدى، وقال أصحاب الرأي إن بدأ السبع المحرم فله أن يقتله، وإن ابتدأه المحرم فعليه قيمته، وقال مجاهد والنخعي لا يقتل المحرم من السباع إلا ما عدا

(2/236)


عليه، وقال ابن عمر ما حل بك من السباع فحلّ به، وأما فراخ السبع الصغار قبل أن تفرس فقال مالك في المدونة لا ينبغي للمحرم قتلها، قال أشهب في كتاب محمد: فإن فعل فعليه الجزاء، وقال أيضا أشهب وابن القاسم لا جزاء عليه، وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر المحرمين بقتل الحيات، وأجمع الناس على إباحة قتلها، وثبت عن عمر رضي الله عنه إباحة قتل الزنبور لأنه في حكم العقرب، وقال مالك: يطعم قاتله شيئا، وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوه، وقال أصحاب الرأي لا شيء على قاتل هذه كلها، وأما سباع الطير فقال مالك لا يقتلها المحرم وإن فعل فدى، وقال ابن القاسم في كتاب محمد: وأحب إليّ أن لا يقتل الغراب والحدأة حتى يؤذياه، ولكن إن فعل فلا شيء عليه.
قال القاضي أبو محمد: وذوات السموم كلها في حكم الحية كالأفعى والرتيلاء وما عدا ما ذكرناه فهو مما نهى الله عن قتله في الحرمة بالبلد أو الحال، وفرض الجزاء على من قتله وحُرُمٌ جمع حرام وهو الذي يدخل في الحرام أو في الإحرام، وحرام، يقال للذكر والأنثى والاثنين والجميع، واختلف العلماء في معنى قوله مُتَعَمِّداً فقال مجاهد وابن جريج والحسن وابن زيد: معناه متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه، فهذا هو الذي يكفر وكذلك الخطأ المحض يكفر وأما إن قتله متعمدا ذاكرا لإحرامه فهذا أجلّ وأعظم من أن يكفر. قال مجاهد: قد حل ولا رخصة له، وقاله ابن جريج، وحكى المهدوي وغيره أنه بطل حجه، وقال ابن زيد: هذا يوكل إلى نقمة الله، وقال جماعة من أهل العلم منهم ابن عباس ومالك وعطاء وسعيد ابن جبير والزهري وطاوس وغيرهم، المتعمد هو القاصد للقتل الذاكر لإحرامه، وهو يكفر وكذلك الناسي والقاتل خطأ يكفران.
قال الزهري: نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في قتله خطأ أنهما يكفران، وقال بعض الناس لا يلزم القاتل خطأ كفارة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «فجزاء مثل ما» بإضافة الجزاء إلى مثل وخفض مثل، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «فجزاء» بالرفع «مثل» بالرفع أيضا فأما القراءة الأولى ومعناها فعليه جزاء مثل ما قتل أي قضاؤه وغرمه، ودخلت لفظة «مثل» هنا كما تقول أنا أكرم مثلك وأنت تقصد بقولك أنا أكرمك، ونظير هذا قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الأنعام: 122] التقدير كمن هو في الظلمات.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل قوله تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ أن يكون المعنى فعليه أن يجزي مثل ما، ثم وقعت الإضافة إلى المثل الذي يجزي به اتساعا، وأما القراءة الثانية فمعناها فالواجب عليه أو فاللازم له جزاء مثل ما و «مثل» على هذه القراءة صفة لجزاء، أي فجزاء مماثل، وقوله تعالى: مِنَ النَّعَمِ صفة لجزاء على القراءتين كلتيهما، وقرأ عبد الله بن مسعود «فجزاؤه مثل ما» بإظهار هاء يحتمل أن تعود على الصيد أو على الصائد القاتل، وقرأ أبو عبد الرحمن «فجزاء» بالرفع والتنوين «مثل ما» بالنصب، وقال أبو الفتح «مثل» منصوبة بنفس الجزاء أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل، واختلف العلماء في هذه المماثلة كيف تكون؟! فذهب الجمهور إلى أن الحكمين ينظران إلى مثل الحيوان المقتول في الخلقة وعظم المرأى فيجعلون ذلك من النعم جزاءه، قال الضحاك بن مزاحم والسدي وجماعة من الفقهاء: في النعامة

(2/237)


وحمار الوحش ونحوه بدنة، وفي الوعل والإبل ونحوه بقرة، وفي الظبي ونحوه كبش، وفي الأرنب ونحوه ثنية من الغنم، وفي اليربوع حمل صغير، وما كان من جرادة ونحوها ففيها قبضة طعام، وما كان من طير فيقوم ثمنها طعاما فإن شاء تصدق به وإن شاء صام لكل صاع يوما، وإن أصاب بيض نعام فإنه يحمل الفحل على عدد ما أصاب من بكارة الإبل فما نتج منها أهداه إلى البيت وما فسد منها فلا شيء عليه فيه.
قال القاضي أبو محمد: حكم عمر على قبيصة بن جابر في الظبي بشاة، وحكم هو وعبد الرحمن بن عوف، قال قبيصة: فقلت يا أمير المؤمنين إن أمره أهون من أن تدعو من يحكم معك، قال: فضربني بالدرة حتى سابقته عدوا. ثم قال: أقتلت الصيد وأنت محرم ثم تغمض الفتوى؟ وهذه القصة في الموطأ بغير هذه الألفاظ. وكذلك روي أنها نزلت بصاحب لقبيصة، وقبيصة هو راويها والله أعلم. وأما الأرنب واليربوع ونحوها فالحكم فيه عند مالك أن يقوم طعاما، فإن شاء تصدق به وإن شاء صام بدل كلّ مدّ يوما، وكذلك عنده الصيام في كفارة الجزاء إنما هو كله يوم بدل مد، وعند قوم صاع، وعند قوم بدل مدين، وفي حمام الحرم عند مالك شاة في الحمامة، وفي الحمام غيره حكومة وليس كحمام الحرم، وأما بيض النعام وسائر الطير ففي البيضة عند مالك عشر ثمن أمه، قال ابن القاسم: وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ صارخا بعد الكسر فإن استهل ففيه الجزاء كاملا كجزاء كبير ذلك الطير. قال ابن المواز: بحكومة عدلين، وقال ابن وهب: إن كان في بيضة النعامة فما دونها فرخ فعشر ثمن أمه، وإن لم يكن فصيام يوم أو مد لكل مسكين، وذهبت فرقة من أهل العلم منهم النخعي وغيره إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة، يقوّم الصيد المقتول ثم يشترى بقيمته من النعم ثم يهدى، ورد الطبري وغيره على هذا القول، والنَّعَمِ لفظ يقع على الإبل والبقر والغنم إذا اجتمع هذه الأصناف، فإذا انفرد كل صنف لم يقل «نعم» إلا للإبل وحدها، وقرأ الحسن «من النعم» بسكون العين وهي لغة، والجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه بحكم لفظ الآية، وذلك في المدونة ظاهر من مسألة الذي اصطاد طائرا فنتف ريشه ثم حبسه حتى نسل ريشه فطار، قال لا جزاء عليه، وقصر القرآن هذه النازلة على حكمين عدلين عالمين بحكم النازلة وبالتقدير فيها، وحكم عمر وعبد الرحمن بن عوف وأمر أبا جرير البجلي أن يأتي رجلين من العدول ليحكما عليه في عنز من الظباء أصابها قال:
فأتيت عبد الرحمن وسعدا فحكما عليّ تيسا أعفر، ودعا ابن عمر ابن صفوان ليحكم معه في جزاء، وعلى هذا جمهور الناس وفقهاء الأمصار، وقال ابن وهب رحمه الله في العتبية: من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد كما خيره الله في أن يخرج هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما. فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي. فما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام، ثم خير في أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوما.
وكذلك قال مالك في المدونة: إذا أراد المصيب أن يطعم أو يصوم وإن كان لما أصاب نظير من النعم فإنه يقوم صيده طعاما لا دراهم، قال: وإن قوموه دراهم واشتري بها طعام لرجوت أن يكون واسعا، والأول أصوب، فإن شاء أطعمه وإلا صام مكانه لكل مد يوما، وإن زاد ذلك على شهرين أو ثلاثة، وقال يحيى بن عمر من أصحابنا إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد ثم يقال كم من الطعام يشبع هذا

(2/238)


العدد، فإن شاء أخرج ذلك الطعام، وإن شاء صام عدد أمداده.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول حسن أحتاط فيه لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة فبهذا النظر يكثر الطعام، ومن أهل العلم من يرى أن لا يتجاوز في صيام الجزاء شهران، قالوا: لأنها أعلى الكفارات بالصيام، وقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ يقتضي هذا اللفظ أن يشخص بهذا الهدي حتى يبلغ، وذكرت الْكَعْبَةِ لأنها أم الحرم ورأس الحرمة، والحرم كله منحر لهذا الهدي فما وقف به بعرفة من هذا الجزاء فينحر بمنى، وما لم يوقف به فينحر بمكة وفي سائر بقاع الحرم، بشرط أن يدخل من الحل لا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغا الكعبة، وقرأ عبد الرحمن الأعرج «هديّا بالغ الكعبة» بكسر الدال وتشديد الياء، وهَدْياً نصب على الحال من الضمير في بِهِ، وقيل على المصدر، وبالِغَ نكرة في الحقيقة لم تزل الإضافة عنه الشياع، فتقديره بالغا الكعبة حذف تنويه تخفيفا، وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي «أو كفارة» منونا «طعام مساكين» برفع طعام وإضافته إلى جمع المساكين، وقرأ نافع وابن عامر برفع الكفارة دون تنوين وخفض الطعام على الإضافة ومساكين بالجمع، قال أبو علي: إعراب طعام في قراءة من رفعه أنه عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة، ولم يضف الكفارة لأنها ليست للطعام إنما هي لقتل الصيد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الكلام كله مبني على أن الكفارة هي الطعام وفي هذا نظر، لأن الكفارة هي تغطية الذنب بإعطاء الطعام، فالكفارة غير الطعام لكنها به، فيتجه في رفع الطعام البدل المحض، ويتجه قراءة من أضاف الكفارة إلى الطعام على أنها إضافة تخصيص، إذ كفارة هذا القتل قد تكون كفارة هدي أو كفارة طعام أو كفارة صيام، وقرأ الأعرج وعيسى بن عمر «أو كفارة» بالرفع والتنوين «طعام» بالرفع دون تنوين «مسكين» على الإفراد وهو اسم الجنس، وقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء: القاتل مخير في الرتب الثلاثة وإن كان غنيا، وهذا عندهم مقتضى أَوْ، وقال ابن عباس وجماعة لا ينتقل المكفر من الهدي إلى الطعام إلا إذا لم يجد هديا، وكذلك لا يصوم إلا إذا لم يجد ما يطعم، وقاله إبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان، قالوا: والمعنى أو كفارة طعام إن لم يجد الهدي. ومالك رحمه الله وجماعة معه يرى أن المقوم إنما هو الصيد المقتول بالطعام كما تقدم، وقال العراقيون إنما يقوم الجزاء طعاما، فمن قتل ظبيا قوم الظبي عند مالك وقوم عدله من الكباش أو غير ذلك عند أبي حنيفة وغيره، وحكى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم، فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به، وإن لم يجد قوم الجزاء دراهم ثم قومت الدراهم حنطة ثم صام مكان كل نصف صاع يوما قال: وإنما أريد بذكر الطعام تبيين أمر الصوم، ومن يجد طعاما فإنما يجد جزاء، وأسنده أيضا عن السدي.
قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا القول بظاهر لفظ الآية فإنه ينافره، والهدي لا يكون إلا في الحرم كما ذكرنا قبل.
واختلف الناس في الطعام فقال جماعة من العلماء: الإطعام والصيام حيث شاء المكفر من البلاد،

(2/239)


وقال عطاء بن أبي رباح وغيره «الهدي والإطعام بمكة والصوم حيث شئت» وقوله تعالى: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً قرأ الجمهور بفتح العين ومعناه: نظير الشيء بالموازنة والمقدار المعنوي، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري: «أو عدل» بكسر العين، قال أبو عمرو الداني ورواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعض الناس «العدل» بالفتح قدر الشيء من غير جنسه، وعدله بالكسر قدره من جنسه، نسبها مكي إلى الكسائي وهو وهم والصحيح عن الكسائي: أنهما لغتان في المثل، وهذه المنسوبة عبارة معترضة وإنما مقصد قائلها أن «العدل» بالكسر قدر الشيء موازنة على الحقيقة كعدلي البعير، وعدله قدره من شيء آخر موازنة معنوية، كما يقال في ثمن فرس هذا عدله من الذهب، ولا يتجه هنا كسر العين فيما حفظت، والإشارة بذلك في قوله عَدْلُ ذلِكَ يحتمل أن تكون إلى الطعام، وعلى هذا انبنى قول من قال من الفقهاء الأيام التي تصام هي على عدد الأمداد أو الأصوع أو أنصافها حسب الخلاف الذي قد ذكرته في ذلك. ويحتم أن تكون الإشارة ب ذلِكَ إلى الصيد المقتول، وعلى هذا انبنى قول من قال من العلماء:
الصوم في قتل الصيد إنما هو على قدر المقتول، وقال ابن عباس رضي الله عنه إن قتل المحرم ظبيا فعليه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، وإن قتل أيلا فعليه بقرة، فإن لم يجد فإطعام عشرين مسكينا، فإن لم يجد صام عشرين يوما، وإن قتل نعامة أو حمار وحش فعليه بدنة، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا، فإن لم يجد صام ثلاثين يوما.
قال القاضي أبو محمد: وقد تقدم لابن عباس رضي الله عنه قول غير هذا آنفا حكاهما عنه الطبري مسندين، ولا ينكر أن يكون له في هيئة التكفير قولان، وقال سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً قال يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة.
وقوله تعالى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ الذوق هنا مستعار كما قال تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] وكما قال فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ [النحل: 112] وكما قال أبو سفيان: ذق عقق وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة السان، وهي في هذا كله مستعارة فيما بوشر بالنفس، والوبال سوء العاقبة، والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله، وعبر بأمره عن جميع حاله من قتل وتكفير وحكم عليه ومضي ماله أو تعبه بالصيام، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ فقال عطاء بن أبي رباح وجماعة معه: معناه عفا الله عما سلف في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرمة ومن عاد الآن في الإسلام فإن كان مستحيلا فينتقم الله منه في الآخرة ويكفر في ظاهر الحكم، وإن كان عاصيا فالنقمة هي في إلزام الكفارة فقط، قالوا وكلما عاد المحرم فهو مكفر.
قال القاضي أبو محمد: ويخاف المتورعون أن تبقى النقمة مع التكفير، وهذا هو قول الفقهاء مالك ونظائره وأصحابه رحمهم الله، وقال ابن عباس رضي الله عنه: المحرم إذا قتل مرارا ناسيا لإحرامه فإنه يكفر في كل مرة، فأما المتعمد العالم بإحرامه فإنه يكفر أول مرة، وعفا الله عن ذنبه مع التكفير، فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه، ويقال له: ينتقم الله منك، كما قال الله، وقال بهذا القول شريح القاضي وإبراهيم النخعي ومجاهد، وقال سعيد بن جبير: رخص في قتل الصيد مرة فمن عاد لم يدعه الله حتى ينتقم منه.

(2/240)


أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)

قال القاضي أبو محمد: وهذا القول منه رضي الله عنه وعظ بالآية، وهو مع ذلك يرى أن يحكم عليه في العودة ويكفر لكنه خشي مع ذلك بقاء النقمة، وقال ابن زيد: معنى الآية عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم، قال وأما من عاد فقتل الصيد وهو عالم بالحرمة متعمد للقتل فهذا لا يحكم عليه، وهو موكول إلى نقمة الله، ومعنى قوله مُتَعَمِّداً في صدر الآية أي متعمدا للقتل ناسيا للحرمة.
قال القاضي أبو محمد: وقد تقدم ذكر هذا الفصل، قال الطبري: وقال قوم: هذه الآية مخصوصة في شخص بعينه وأسند إلى زيد بن المعلى أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم فتجوز له عنه ثم عاد فأرسل الله عليه نارا فأحرقته، فذلك قوله تعالى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ تنبيه على صفتين تقتضي خوف من له بصيرة، ومن خاف ازدجر، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 96 الى 98]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
هذا حكم بتحليل صيد البحر وهو كل ما صيد من حيتانه، وهذا التحليل هو للمحرم وللحلال، والصيد هنا أيضا يراد به الصيد، وأضيف إلى البحر لما كان منه بسبب، والْبَحْرِ الماء الكثير ملحا كان أو عذبا، وكل نهر كبير بحر، واختلف الناس في معنى قوله وَطَعامُهُ قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وجماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم هو ما قذف به وما طفا عليه لأن ذلك طعام لا صيد، وسأل رجل ابن عمر عن حيتان طرحها البحر فنهاه عنها ثم قرأ المصحف فقال لنافع الحقه فمره بأكلها فإنها طعام البحر، وهذا التأويل ينظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وجماعة: «طعامه» كل ما ملح منه وبقي، وتلك صنائع تدخله فترده طعاما، وإنما الصيد الغريض، وقال قوم طَعامُهُ ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات ونحوه. وكره قوم خنزير الماء، وقال مالك رحمه الله: أنتم تقولون خنزير، ومذهبه إباحته، وقول أبي بكر وعمر هو أرجح الأقوال، وهو مذهب مالك، وقرأ ابن عباس وعبد الله بن الحارث و «طعمه» بضم الطاء وسكون العين دون ألف ومَتاعاً نصب على المصدر والمعنى متعكم به متاعا تنتفعون به وتأتدمون، ولَكُمْ يريد حاضري البحر ومدنه، وَلِلسَّيَّارَةِ المسافرين، وقال مجاهد أهل القرى هم المخاطبون، والسيارة أهل الأمصار.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: كأنه يريد أهل قرى البحر وأن السيارة من أهل الأمصار غير تلك القرى يجلبونه إلى الأمصار.

(2/241)


واختلف العلماء في مقتضى قوله وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً فتلقاه بعضهم على العموم من جميع جهاته، فقالوا إن المحرم لا يحل له أن يصيد ولا أن يأمر بصيد ولا أن يأكل صيدا صيد من أجله ولا من غير أجله، ولحم الصيد بأي وجه كان حرام على المحرم، وروي أن عثمان حج وحج معه علي بن أبي طالب فأتي عثمان بلحم صيد صاده حلال فأكل منه ولم يأكل علي، فقال عثمان: والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا، فقال علي: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً، وروي أن عثمان استعمل على العروض أبا سفيان بن الحارث فصاد يعاقيب فجعلها في حظيرة فمر به عثمان بن عفان فطبخهن وقدمهن إليه، وجاء علي بن أبي طالب فنهاهم عن الأكل، وذكر نحو ما تقدم قال: ثم لما كانوا بمكة أتي عثمان فقيل له هل لك في علي؟ أهدي له تصفيف حمار فهو يأكل منه، فأرسل إليه عثمان فسأله عن أكله التصفيف وقال له: أما أنت فتأكل وأما نحن فتنهانا فقال له علي: إنه صيد عام أول، وأنا حلال، فليس علي بأكله بأس، وصيد ذلك، يعني اليعاقيب وأنا محرم وذبحن وأنا حرام، وروي مثل قول علي عن ابن عباس وابن عمر وطاوس وسعيد بن جبير، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يرى بأسا للمحرم أن يأكل لحم الصيد الذي صاده الحلال لحلال مثله ولنفسه، وسئل أبو هريرة عن هذه النازلة فأفتى بالإباحة، ثم أخبر عمر بن الخطاب فقال له لو أفتيت بغير هذا لأوجعت رأسك بهذه الدرة، وسأل أبو الشعثاء ابن عمر عن هذه المسألة فقال له، كان عمر يأكله، قال: قلت فأنت؟ قال كان عمر خيرا مني، روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ما صيد أو ذبح وأنت حلال فهو لك حلال، وما صيد أو ذبح وأنت حرام فهو عليك حرام.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مثل قول علي بن أبي طالب، وروى عطاء عن كعب قال أقبلت في ناس محرمين فوجدنا لحم حمار وحشي فسألوني عن أكله فأفتيتهم بأكله، فقدمنا على عمر فأخبروه بذلك، فقال، قد أمرته عليكم حتى ترجعوا، وقال بمثل قول عمر بن الخطاب عثمان بن عفان رضي الله عنهما والزبير بن العوام وهو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الحمار الذي صاده أبو قتادة وهو حلال والنبي محرم، قال الطبري وقال آخرون:
إنما حرم على المحرم أن يصيد، فأما أن يشتري الصيد من مالك له فيذبحه فيأكله فذلك غير محرم ثم ذكر أن أبا سلمة بن عبد الرحمن، اشترى قطا وهو بالعرج فأكله فعاب ذلك عليه الناس، ومالك رحمه الله يجيز للمحرم أن يأكل ما صاده الحلال وذبحه إذا كان لم يصده من أجل المحرم، فإن صيد من أجله فلا يأكله، وكذلك قال الشافعي، ثم اختلفا إن أكل، فقال مالك: عليه الجزاء وقال الشافعي لا جزاء عليه، وقرأ ابن عباس و «حرّم» بفتح الحاء والراء مشددة «صيد» بنصب الدال «ما دمتم حرما» بفتح الحاء، المعنى وحرم الله عليكم، وحُرُماً يقع للجميع والواحد كرضى وما أشبهه، والمعنى ما دمتم محرمين، فهي بالمعنى كقراءة الجماعة بضم الحاء والراء، ولا يختلف في أن ما لا زوال له من الماء أنه صيد بحر، وفيما لا زوال له من البر أنه صيد بر، واختلف فيما يكون في أحدهما وقد يعيش ويحيا في الآخر فقال مالك رحمه الله وأبو مجلز وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم كل ما يعيش في البر وله فيه حياة فهو من صيد البر إن قتله المحرم وداه: وذكر أبو مجلز في ذلك الضفادع والسلاحف والسرطان.

(2/242)


قال القاضي أبو محمد: ومن هذه أنواع لا زوال لها من الماء فهي لا محالة من صيد البحر، وعلى هذا خرج جواب مالك في الضفادع في المدونة، فإنه قال الضفادع من صيد البحر، وروي عن عطاء بن أبي رباح خلاف ما ذكرناه، وهو أنه راعى أكثر عيش الحيوان، سئل عن ابن الماء أصيد بر أم صيد بحر؟
فقال: حيث يكون أكثر فهو منه، وحيث يفرخ فهو منه.
قال القاضي أبو محمد: والصواب في ابن ماء أنه صيد بر طائر يرعى ويأكل الحب، وقوله تعالى:
وَاتَّقُوا اللَّهَ تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم.
ثم ذكر تعالى بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير، ولما بان في هذه الآيات تعظيم الحرم والحرمة بالإحرام من أجل الكعبة وأنها بيت الله وعنصر هذه الفضائل، ذكر تعالى في قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الآية ما سنه في الناس وهداهم إليه وحمل عليه الجاهلية الجهلاء من التزامهم أن الكعبة قوام و «الهدي» قوام و «القلائد» قوام أي أمر يقوم للناس بالتأمين وحل الحرب كما يفعل الملوك الذين هم قوام العالم، فلما كانت تلك الأمة لا ملك لها جعل الله هذه الأشياء كالملك لها، وأعلم تعالى أن التزام الناس لذلك هو مما شرعه وارتضاه، ويدل على مقدار هذه الأمور في نفوسهم أن النبي عليه السلام لما بعثت إليه قريش زمن الحديبية الحليس، فرآه النبي، قال: هذا رجل يعظم الحرمة فالقوه بالبدن مشعرة، فلما رآها الحليس عظم ذلك عليه، وقال: ما ينبغي أن يصد هؤلاء ورجع عن رسالتهم، وجعل في هذه الآية بمعنى صير، والكعبة بيت مكة، وسمي كعبة لتربيعه، قال أهل اللغة كل بيت مربع فهو مكعب وكعبة، ومنه قول الأسود بن يعفر:
أهل الخورنق والسدير وبارق ... والبيت ذي الكعبات من سنداد
قالوا كانت فيه بيوت مربعة وفي كتاب سير ابن إسحاق أنه كان في خثعم بيت يسمونه كعبة اليمانية، وقال قوم: سميت كعبة لنتوئها ونشوزها على الأرض، ومنه كعب ثدي الجارية، ومنه كعب القدم ومنه كعوب القناة، وقِياماً معناه أمر يقوم للناس بالأمنة والمنافع كما الملك قوام الرعية وقيامهم، يقال ذلك بالياء كالصيام ونحوه وذلك لخفة الياء فتستعمل أشياء من ذوات الواو بها، وقد يستعمل القوام على الأصل، قال الراجز:
قوام دنيا وقوام دين
وذهب بعض المتأولين إلى أن معنى قوله تعالى قِياماً لِلنَّاسِ أي موضع وجوب قيام بالمناسك والتعبدات وضبط النفوس في الشهر الحرام، ومع الهدي والقلائد، وقرأ ابن عامر وحده «قيما» دون ألف، وهذا إما على أنه مصدر كالشبع ونحوه، وأعلّ فلم يجر مجرى عوض وحول من حيث أعلّ فعله، وقد تعل الجموع لاعتلال الآحاد، فأحرى أن تعلّ المصادر لاعتلال أفعالها، ويحتمل «قيما» أن تحذف الألف وهي مرادة، وحكم هذا أن يجيء في شعر وغير سعة، وقرأ الجحدري «قيّما» بفتح القاف وشد الياء المكسورة وَالشَّهْرَ هنا اسم جنس والمراد الأشهر الثلاثة بإجماع من العرب، وشهر مضر وهو رجب الأصم، سمي بذلك لأنه كان لا يسمع فيه صوت الحديد، وسموه منصل الأسنة لأنهم كانوا ينزعون فيه أسنة الرماح، وهو شهر قريش، وله يقول عوف بن الأحوص:

(2/243)


مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)

وشهر بني أمية والهدايا ... إذا سيقت مدرجها الدماء
وسماه النبي عليه السلام شهر الله، أي شهر آل الله، وكان يقال لأهل الحرم آل الله، ويحتمل أن يسمى شهر الله لأن الله سنه وشدده إذ كان كثير من العرب لا يراه، وأما الْهَدْيَ فكان أمانا لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب وأما الْقَلائِدَ فكذلك كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد من لحاء السمر أو غيره شيئا فكان ذلك أمانا له، وكان الأمر في نفوسهم عظيما مكنه الله حتى كانوا لا يقدم من ليس بمحرم أن يتقلد شيئا خوفا من الله، وكذلك إذا انصرفوا تقلدوا من شجر الحرم، وقوله تعالى: لِلنَّاسِ لفظ عام، وقال بعض المفسرين أراد العرب.
قال القاضي أبو محمد: ولا وجه لهذا التخصيص، وقال سعيد بن جبير جعل الله هذه الأمور للناس وهم لا يرجون جنة ولا يخافون نارا، ثم شدد ذلك بالإسلام، وقوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى أن جعل هذه الأمور قياما، والمعنى فعل ذلك لتعلموا أن الله تعالى يعلم تفاصيل أمور السماوات والأرض ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم، وقوله تعالى: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ عام عموما تاما في الجزئيات ودقائق الموجودات، كما قال عز وجل وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها [الأنعام: 59] ، والقول بغير هذا إلحاد في الدين وكفر، ثم خوف تعالى عباده ورجاهم بقوله اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ الآية، وهكذا هو الأمر في نفسه حري أن يكون العبد خائفا عاملا بحسب الخوف متقيا متأنسا بحسب الرجاء.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 99 الى 102]
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)
قوله تعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ إخبار للمؤمنين فلا يتصور أن يقال هي آية موادعة منسوخة بآيات القتال، بل هذه حال من آمن وشهد شهادة الحق. فإنه إذ قد عصم من الرسول ماله ودمه، فليس على الرسول في جهته أكثر من التبليغ والله تعالى بعد ذلك يعلم ما ينطوي عليه صدره، وهو المجازي بحسب ذلك ثوابا أو عقابا، والْبَلاغُ مصدر من بلغ يبلغ، والآية معناها الوعيد للمؤمنين إن انحرفوا ولم يمتثلوا ما بلغ إليهم وقوله قُلْ لا يَسْتَوِي الآية لفظ عام في جميع الأمور يتصور في المكاسب وعدد الناس والمعارف من العلوم ونحوها، ف الْخَبِيثُ من هذا كله لا يفلح ولا ينجب ولا تحسن له عاقبة، وَالطَّيِّبُ ولو قل نافع جميل العاقبة وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: 58] والخبث هو الفساد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح والطيب وهي بخلاف ذلك، وهكذا هو الخبث في الإنسان، وقد يراد بلفظة خبيث في الإنسان

(2/244)


فساد نسبه، فهذا لفظ يلزم قائله على هذا القصد الحد، وقوله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ تنبيه على لزوم الطيب في المعتقد والعمل، وخص أُولِي الْأَلْبابِ بالذكر لأنهم المتقدمون في ميز هذه الأمور والذي لا ينبغي لهم إهمالها مع البهائم وإدراكهم وكأن الإشارة بهذه الْأَلْبابِ إلى لب التجربة الذي يزيد على لب التكليف بالحنكة والفطنة المستنبطة والنظر البعيد.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ الآية، اختلف الرواة في سببها فقالت فرقة منهم أنس بن مالك وغيره: نزلت بسبب سؤال عبد الله بن حذافة السهمي، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر مغضبا، فقال: لا تسألوني اليوم عن شيء إلا أخبرتكم به، فقام رجل فقال أين أنا؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في النار فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه، فقال من أبي؟ فقال: أبوك حذافة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وفي الحديث مما لم يذكر الطبري فقام آخر فقال من أبي؟
فقال أبوك سالم مولى أبي شيبة، فقام عمر بن الخطاب فجثا على ركبتيه وقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا ومحمد نبيا نعوذ بالله من الفتن، وبكى الناس من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت هذه الآية بسبب هذه الأسئلة.
قال القاضي أبو محمد: وصعود رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر مغضبا إنما كان بسبب سؤالات الاعراب والجهال والمنافقين، فكان منهم من يقول أين ناقتي؟ وآخر يقول ما الذي ألقى في سفري هذا؟ ونحو هذا مما هو جهالة أو استخفاف وتعنيت، وقال علي بن أبي طالب وأبو هريرة وأبو أمامة الباهلي وابن عباس، في لفظهم اختلاف، والمعنى واحد. خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: أيها الناس كتب عليكم الحج وقرأ عليهم وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] قال علي:
فقالوا يا رسول الله: أفي كل عام؟ فسكت، فأعادوا، قال: لا ولو قلت نعم، لوجبت، وقال أبو هريرة: فقال عكاشة بن محصن وقال مرة فقال محصن الأسدي، وقال غيره فقام رجل من بني أسد، وقال بعضهم فقام أعرابي فقال يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من السائل؟
فقيل فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لم تطيقوه، ولو تركتموه، لهلكتم» فنزلت هذه الآية بسبب ذلك، ويقوي هذا حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي عليه السلام قال:
«إن أعظم المسلمين على المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت الآية بسبب قوم سألوا عن البحيرة والسائبة والوصيلة ونحو هذا من أحكام الجاهلية، وقاله سعيد بن جبير.
قال القاضي أبو محمد: وروي أنه لما بين الله تعالى في هذه الآيات أمر الكعبة والهدي والقلائد، وأعلم أن حرمتها هو الذي جعلها إذ هي أمور نافعة قديمة من لدن عهد إبراهيم عليه السلام، ذهب ناس من العرب إلى السؤال عن سائر أحكام الجاهلية ليروا هل تلحق بتلك أم لا، إذ كانوا قد اعتقدوا الجميع سنة لا يفرقون بين ما هو من عند الله وما هو من تلقاء الشيطان والمغيرين لدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام

(2/245)


كعمرو بن لحي وغيره، وفي عمرو بن لحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر من الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحت عليه الأعراب والجهال بأنواع من السؤالات حسبما ذكرناه، فزجر الله تعالى عن ذلك بهذه الآية وأَشْياءَ اسم جمع لشيء أصله عند الخليل وسيبويه شيئا مثل فعال قلبت إلى لفعاء لثقل اجتماع الهمزتين، وقال أبو حاتم أَشْياءَ وزنها أفعال وهو جمع شيء وترك الصرف فيه سماع، وقال الكسائي: لم ينصرف أَشْياءَ لشبه آخرها بآخر حمراء، ولكثرة استعمالها، والعرب تقول أشياوات كما تقول حمراوات، ويلزم على هذا أن لا ينصرف أسماء لأنهم يقولون أسماوات، وقال الأخفش: أَشْياءَ أصلها أشياء على وزن أفعلاء، استثقلت اجتماع الهمزتين فأبدلت الأولى ياء لانكسار ما قبلها ثم حذفت الياء استخفافا، ويلزم على هذا أن يكون واحد الأشياء شيئا مثل هين وأهوناء، وقرأ جمهور الناس «إن تبد» بضم التاء وفتح الدال وبناء الفعل للمفعول، وقرأ مجاهد «إن تبد» بفتح التاء وضم الدال على بناء الفعل للفاعل، وقرأ الشعبي «إن يبد لكم» بالياء من أسفل مفتوحة والدال مضمومة «يسؤكم» بالياء من أسفل، أي يبده الله لكم.
وقوله تعالى وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ قال ابن عباس: معناه لا تسألوا عن أشياء في ضمن الإخبار عنها مساءة لكم إما لتكليف شرعي يلزمكم وإما لخبر يسوء. كما قيل للذي قال أين أنا؟ ولكن إذا نزل القرآن بشيء وابتدأكم ربكم بأمر فحينئذ إن سألتم عن تفصيله وبيانه بين لكم وأبدى؟.
قال القاضي أبو محمد: فالضمير في قوله عَنْها عائد على نوعها لا على الأولى التي نهى عن السؤال عنها، وقال أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا من غير نسيان عن أشياء فلا تبحثوا عنها، وكان عبيد بن عمير يقول:
إن الله أحل وحرم فما أحل فاستحلوا وما حرم فاجتنبوا وترك بين ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها، فذلك عفو من الله عفاه، ثم يتلو هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل قوله تعالى: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ أن يكون في معنى الوعيد كأنه قال لا تسألوا وإن سألتم لقيتم عبء ذلك وصعوبته لأنكم تكلفون وتستعجلون علم ما يسوءكم كالذي قيل له إنه في النار، وقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْها تركها ولم يعرف بها، وهذه اللفظة التي هي عَفَا، تؤيد أن الأشياء التي هي في تكليفات الشرع، وينظر إلى ذلك قول النبي عليه السلام إن الله قد عفا لكم عن صدقة الخيل، وغَفُورٌ حَلِيمٌ صفتان تناسب العفو وترك المباحثة والسماحة في الأمور.
وقرأ عامة الناس «قد سألها» بفتح السين. وقرأ إبراهيم النخعي «قد سألها» بكسر السين، والمراد بهذه القراءة الإمالة، وذلك على لغة من قال سلت تسأل، وحكي عن العرب هما يتساولان، فهذا يعطي هذه اللغة هي من الواو لا من الهمزة فالإمالة إنما أريدت وساغ ذلك لانكسار ما قبل اللام في سلت كما جاءت الإمالة في خاف لمجيء الكسرة في خاء خفت، ومعنى الآية أن هذه السؤالات التي هي تعنيتات

(2/246)


مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

وطلب شطط واقتراحات ومباحثات قد سألتها قبلكم الأمم ثم كفروا بها قال الطبري كقوم صالح في سؤالهم الناقة وكبني إسرائيل في سؤالهم المائدة. قال السدي: كسؤال قريش أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا.
قال القاضي أبو محمد: وإنما يتجه في قريش مثالا سؤالهم آية، فلما شق لهم القمر كفروا، وهذا المعنى إنما يقال لمن سأل النبي عليه السلام أين ناقتي؟ وكما قال له الأعرابي ما في بطن ناقتي هذه؟ فأما من سأله عن الحج أفي كل عام هو؟ فلا يفسر قوله قد سألها قوم الآية بهذه الأمثلة بل بأن الأمم قديما طلبت التعمق في الدين من أنبيائها ثم لم تف بما كلفت.
قوله تعالى:

[سورة المائدة (5) : الآيات 103 الى 105]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
لما سأل قوم عن هذه الأحكام التي كانت في الجاهلية هل تلحق بحكم الله في تعظيم الكعبة والحرم. أخبر تعالى في هذه الآية أنه لم يجعل شيئا منها ولا سنه لعباده. المعنى ولكن الكفار فعلوا ذلك إذ أكابرهم ورؤساؤهم كعمرو بن لحي وغيره يفترون على الله الكذب ويقولون هذه قربة إلى الله وأمر يرضيه، وَأَكْثَرُهُمْ يعني الأتباع لا يَعْقِلُونَ بل يتبعون هذه الأمور تقليدا وضلالا بغير حجة وجَعَلَ في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله. لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها. ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني، وإنما هي بمعنى ما سنّ ولا شرع فتعدت تعدي هذه التي بمعناه إلى مفعول واحد و «البحيرة» فعيلة بمعنى مفعولة. وبحر شق، كانوا إذا أنتجت الناقة عشرة بطون شقوا أذنها بنصفين طولا فهي مبحورة وتركت ترعى وترد الماء ولا ينتفع منها بشيء ويحرم لحمها إذا ماتت على النساء ويحل للرجال، وقال ابن عباس كانوا يفعلون ذلك بها إذا أنتجت خمسة بطون، وقال مسروق إذا ولدت خمسا أو سبعا شقوا أذنها.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر مما يروى في هذا أن العرب كانت تختلف في المبلغ الذي تبحر عنده آذان النوق، فلكل سنة، وهي كلها ضلال، قال ابن سيده ويقال «البحيرة» هي التي خليت بلا راع، ويقال للناقة الغزيرة بحيرة.
قال القاضي أبو محمد: أرى أن البحيرة تصلح وتسمن ويغزر لبنها فتشبه الغزيرات بالبحر، وعلى هذا يجيء قول ابن مقبل:
فيه من الأخرج المرتاع قرقرة ... هدر الزيامي وسط الهجمة البحر

(2/247)


فإنما يريد النوق العظام وإن لم تكن مشققة الآذان. وروى الشعبي عن أبي الأحوص عن أبيه قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي أرأيت إبلك ألست تنتجها مسلمة آذانها، فتأخذ الموسى فتقطع آذانها، فتقول هذه بحر، وتقطع جلودها فتقول هذه صرم فتحرمها عليك وعلى أهلك؟ قال نعم قال: فإن ما آتاك الله لك حل. وساعد الله أشد، وموسى الله أحد، والسائبة هي الناقة التي تسيب للآلهة، والناقة أيضا إذا تابعت اثنتي عشرة إناثا ليس فيهن ذكر سيبت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثم بن الجون الخزاعي: يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت أشبه به منك، قال أكثم: أيضرني شبهه يا رسول الله؟ قال: لا إنك مؤمن وإنه كافر، هو أول من غير دين إسماعيل عليه السلام ونصب الأوثان وسيب السوائب، وكانت السوائب أيضا في العرب كالقربة عند المريض يبرأ منه، والقدوم من السفر، وإذا نزل بأحدهم أمر يشكر الله عليه تقرب بأن يسيب ناقة فلا ينتفع منها بلبن ولا ظهر ولا غيره، يرون ذلك كعتق بني آدم، ذكره السدي وغيره، وكانت العرب تعتقد أن من عرض لهذه النوق فأخذها أو انتفع منها بشيء فإنه تلحقه عقوبة من الله، و «الوصيلة» قال أكثر الناس:
إن «الوصيلة» في الغنم قالوا إذا ولدت الشاة ثلاثة بطون أو خمسة فإن كان آخرها جذيا ذبحوه لبيت الآلهة وإن كانت عناقا استحيوها وإن كان جذي وعناق استحيوهما وقالوا هذه العناق وصلت أخاها فمنعته من أن يذبح، وعلى أن الوصيلة في الغنم جاءت الروايات عن أكثر الناس، وروي عن سعيد بن المسيب أن الوصيلة من الإبل كانت الناقة إذا ابتكرت بأنثى ثم ثنت بأخرى قالوا وصلت أنثيين، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم أو يذبحونها. شك الطبري في إحدى اللفظتين. وأما «الحامي» فإنه الفحل من الإبل إذا ضرب في الإبل عشرين وقيل إذا ولد من صلبه عشر، وقيل إذا ولد ولده قالوا حمي ظهره فسيبوه لم يركب ولا سخر في شيء، وقال علقمة لمن سأله في هذه الأشياء ما تريد إلى شيء كان من عمل أهل الجاهلية وقد ذهب؟
وقال نحوه ابن زيد.
قال القاضي أبو محمد: وجملة ما يظهر من هذه الأمور أن الله تعالى قد جعل هذه الأنعام رفقا لعباده ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة، فكان أهل الجاهلية يقطعون طريق الانتفاع ويذهبون نعمة الله فيها ويزيلون المصلحة التي للعباد في تلك الإبل، وبهذا فارقت هذه الأمور الأحباس والأوقاف، فإن المالك الذي له أن يهب ويتصدق له أن يصرف المنفعة في أي طريق من البر، ولم يسد الطريق إليها جملة كما فعل بالبحيرة والسائبة، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تجوز الأحباس والأوقاف، وقاسوا على البحيرة والسائبة، والفرق بين، ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال هذه تكون حبسا لا يجتنى ثمرها ولا يزرع أرضها ولا ينتفع منها بنفع لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة، وأما الحبس البين طريقه واستمرار الانتفاع به فليس من هذا، وحسبك بأن النبي عليه السلام قال لعمر بن الخطاب في مال له: اجعله حبسا لا يباع أصله، وحبس أصحاب النبي عليه السلام وقوله تعالى وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية، وقد تقدم أن المفترين هم المبتدعون، وأن الذين لا يَعْقِلُونَ هم الأتباع، وكذلك نص الشعبي وغيره وهو الذي تعطيه الآية، وقال محمد بن أبي موسى: الذين كفروا وافتروا هم أهل الكتاب، والذين لا يَعْقِلُونَ هم أهل الأوثان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تفسير من انتزع ألفاظ آخر الآية عما تقدمها وارتبط بها من المعنى

(2/248)


وعما تأخر أيضا من قوله وَإِذا قِيلَ لَهُمْ والأول من التأويلين أرجح.
والضمير في قوله قِيلَ لَهُمْ عائد على الكفار المستنين بهذه الأشياء وتَعالَوْا نداء بين، هذا أصله، ثم استعمل حيث البر وحيث ضده، وإِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني القرآن الذي فيه التحريم الصحيح، وحَسْبُنا معناه كفانا وقوله أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ ألف التوقيف دخلت على واو العطف كأنهم عطفوا بهذه الجملة على الأولى والتزموا شنيع القول فإنما التوقيف توبيخ لهم، كأنهم يقولون بعده نعم ولو كانوا كذلك.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ اختلف الناس في تأويل هذه الآية، فقال أبو أمية الشعباني سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية، فقال لقد سألت عنها خبيرا. سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال، ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك، وذر عوامهم فإن وراءكم أياما أجر العامل فيها كأجر خمسين منك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل الذي لا نظر لأحد معه لأنه مستوف للصلاح صادر عن النبي عليه السلام، ويظهر من كلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض الناس تأول الآية أنها لا يلزم معها أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، فصعد المنبر فقال أيها الناس لا تغتروا بقول الله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فيقول أحدكم عليّ نفسي، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فليسومنّكم سوء العذاب، وروي عن ابن مسعود أنه قال: ليس هذا بزمان هذه الآية، قولوا الحق ما قبل منكم، فإذا رد عليكم فعليكم أنفسكم، وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن: لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: ليبلغ الشاهد الغائب، ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم، وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل.
قال القاضي أبو محمد: وجملة ما عليه أهل العلم في هذا أن الأمر بالمعروف متعين متى رجي القبول أو رجي رد المظالم ولو بعنف ما لم يخف المرء ضررا يلحقه في خاصيته أو فتنة يدخلها على المسلمين إما بشق عصا وإما بضرر يلحق طائفة من الناس فإذا خيف هذا فعليكم أنفسكم محكم واجب أن يوقف عنده، وقال سعيد بن جبير معنى هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فالتزموا شرعكم بما فيه من جهاد وأمر بمعروف وغيره، ولا يضركم ضلال أهل الكتاب إذا اهتديتم، وقال ابن زيد: معنى الآية:
يا أيها الذين آمنوا من أبناء أولئك الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب عليكم أنفسكم في الاستقامة على الدين ولا يضركم ضلال الأسلاف إذا اهتديتم، قال: وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار سفهت آباءك وضللتهم وفعلت وفعلت فنزلت الآية بسبب ذلك.
قال القاضي أبو محمد: ولم يقل أحد فيما علمت أنها آية موادعة للكفار وكذلك ينبغي أن لا يعارض لها شيء مما أمر الله به في غير ما آية من القيام بالقسط والأمر بالمعروف، قال المهدوي: وقد قيل هي منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف ولا يعلم قائله، وقال بعض الناس نزلت بسبب ارتداد بعض

(2/249)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)

المؤمنين وافتتانهم كابن أبي سرح وغيره، فقيل للمؤمنين لا يضركم ضلالهم، وقرأ جمهور الناس «لا يضرّكم» بضم الضاد وشد الراء المضمومة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «لا يضركم» بضم الضاد وسكون الراء، وقرأ إبراهيم «لا يضرك» بكسر الضاد وهي كلها لغات بمعنى ضر يضر وضار يضور ويضير، وقوله تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً الآية، تذكير بالحشر وما بعده، وذلك مسل عن أمور الدنيا ومكروهها ومحبوبها، وروي عن بعض الصالحين أنه قال: ما من يوم إلا يجيء الشيطان فيقول: ما تأكل وما تلبس وأين تسكن؟ فأقول له آكل الموت وألبس الكفن وأسكن القبر.
قال القاضي أبو محمد: فمن فكر في مرجعه إلى الله تعالى فهذه حاله.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 107]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
قال مكي بن أبي طالب رضي الله عنه: هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها، وذلك بين من كتابه رحمه الله وبه نستعين، لا نعلم خلافا أن سبب هذه الآية أن تميما الداري وعدي بن بداء، كانا نصرانيين سافرا إلى المدينة يريدان الشام لتجارتهما، قال الواقدي: وهما أخوان وقدم المدينة أيضا ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص يريد الشام تاجرا فخرجوا رفاقة فمرض ابن أبي مارية في الطريق، قال الواقدي فكتب وصية بيده ودسها في متاعه وأوصى إلى تميم وعدي أن يؤديا رحله، فأتيا بعد مدة المدينة برحله فدفعاه، ووجد أولياؤه من بني سهم وصيته مكتوبة، ففقدوا أشياء قد كتبها فسألوهما عنها فقالا ما ندري، هذا الذي قبضناه له، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية الأولى فاستحلفهما رسول الله بعد العصر، فبقي الأمر مدة ثم عثر بمكة من متاعه على إناء عظيم من فضة مخوص بالذهب، فقيل لمن وجد عنده من أين صار لكم هذا الإناء؟ فقالوا: ابتعناه من تميم الداري وعدي بن بداء، فارتفع في الأمر إلى النبي عليه السلام فنزلت الآية الأخرى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أولياء الميت أن يحلفا، قال الواقدي: فحلف عبد الله بن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة، واستحقا، وروى ابن عباس عن تميم الداري أنه قال: برىء الناس من هذه الآيات غيري وغير عدي بن بداء، وذكر القصة، إلا أنه قال وكان معه جام فضة يريد به الملك، فأخذته أنا وعدي فبعناه بألف وقسمنا ثمنه، فلما أسلمت بعد قدوم

(2/250)


رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة، فوثبوا إلى عدي فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلف عمرو بن العاص ورجل آخر معه، ونزعت من عدي خمسمائة.
قال القاضي أبو محمد: تختلف ألفاظ هذه القصة في الدواوين وما ذكرته هو عمود الأمر، ولم يصح لعدي صحبة فيما علمت ولا ثبت إسلامه، وقد صنفه في الصحابة بعض المتأخرين، وضعف أمره، ولا وجه عندي لذكره في الصحابة.
وأما معنى الآية من أولها الى آخرها، فهو أن الله تعالى أخبر المؤمنين أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضره الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض ولم يكن معه من المؤمنين أحد فليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا وأن ما شهدا به حق ما كتما فيه شهادة الله، وحكم بشهادتهما، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا ونحو هذا مما هو إثم، حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما، هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وابن عباس وغيرهم، يقولون معنى قوله، مِنْكُمْ من المؤمنين، ومعنى، مِنْ غَيْرِكُمْ من الكفار، قال بعضهم وذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة وكانوا يسافرون في التجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة، واختلفت هذه الجماعة المذكورة، فمذهب أبي موسى الأشعري وشريح وغيرهما أن الآية محكمة، وأسند الطبري إلى الشعبي أن رجلا حضرته المنية بدقوقا ولم يجد أحدا من المؤمنين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه وقدما بتركته، فقال أبو موسى الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في مدة النبي عليه السلام ثم أحلفهما بعد صلاة العصر وأمضى شهادتهما، وأسند الطبري عن شريح أنه كان لا يجيز شهادة النصراني واليهودي على مسلم إلا في الوصية، ولا تجوز أيضا في الوصية إلا إذا كانوا في سفر، ومذهب جماعة ممن ذكر، أنها منسوخة بقوله تعالى وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 2] وبما استند إليه إجماع جمهور الناس على أن شهادة الكافر لا تجوز.
وتأول الآية جماعة من أهل العلم على غير هذا كله، قال الحسن بن أبي الحسن وقوله تعالى:
مِنْكُمْ يريد من عشيرتكم وقرابتكم، وقوله أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ يريد من غير القرابة والعشيرة، وقال بهذا عكرمة مولى ابن عباس وابن شهاب، قالوا أمر الله بإشهاد عدلين من القرابة إذ هم ألحن بحال الوصية وأدرى بصورة العدل فيها، فإن كان الأمر في سفر ولم تحضر قرابة أشهد أجنبيان، فإذا شهدا فإن لم يقر ارتياب مضت الشهادة، وإن ارتيب أنهما مالا بالوصية إلى أحد أو زادا أو نقصا حلفا بعد صلاة العصر ومضت شهادتهما، فإن عثر بعد ذلك على تبديل منهما واستحقاق إثم حلف وليان من القرابة وبطلت شهادة الأولين.
وقال بعض الناس الآية منسوخة، ولا يحلف شاهد، ويذكر هذا عن مالك بن أنس والشافعي وكافة

(2/251)


الفقهاء، وذكر الطبري رحمه الله أن هذا التحالف الذي في الآية إنما هو بحسب التداعي، وذلك أن الشاهدين الأولين إنما يحلفان إن ارتيب وإذا ارتيب فقد ترتبت عليهما دعوى فلتزمهما اليمين، لكن هذا الارتياب إنما يكون في خيانة منهما، فإن عثر بعد ذلك على أنهما استحقا إثما نظر، فإن كان الأمر بينا غرما دون يمين وليين، وإن كان بشاهد واحد أو بدلا بل تقتضي خيانتهما أو ما أشبه ذلك مما هو كالشاهد حمل على الظالم وحلف المدعيان مع ما قام لهما من شاهد أو دليل.
قال القاضي أبو محمد: فهذا هو الاختلاف في معنى الآية وصورة حكمهما، ولنرجع الآن إلى الإعراب والكلام على لفظة لفظة من الآية، ولنقصد القول المفيد لأن الناس خلطوا في تفسير هذه الآية تخليطا شديدا، وذكر ذلك والرد عليه يطول، وفي تبيين الحق الذي تتلقاه الأذهان بالقبول مقنع، والله المستعان، قوله شَهادَةُ بَيْنِكُمْ قال قوم الشهادة هنا بمعنى الحضور، وقال الطبري: الشهادة بمعنى اليمين وليست بالتي تؤدى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف، والصواب أنها الشهادة التي تحفظ لتؤدى، ورفعهما بالابتداء والخبر في قوله اثْنانِ قال أبو علي: التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقدره غيره أولا كأنه قال مقيم شهادة بينكم اثنان، وأضيفت الشهادة إلى «بين» اتساعا في الظرف بأن يعامل معاملة الأسماء، كما قال تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: 94] وقرأ الأعرج والشعبي والحسن «شهادة» بالتنوين «بينكم» بالنصب، وإعراب هذه القراءة على نحو إعراب قراة السبعة وروي عن الأعرج وأبي حيوة «شهادة» بالنصب والتنوين «بينكم» نصب، قال أبو الفتح: التقدير ليقم شهادة بينكم اثنان، وقوله تعالى: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ معناه إذا قرب الحضور، وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت، وهذا كقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: 98] وكقوله إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ [الطلاق: 1] وهذا كثير، والعامل في إِذا المصدر الذي هو شَهادَةُ، وهذا على أن تجعل إِذا بمنزلة حين لا تحتاج إلى جواب، ولك أن تجعل إِذا في هذه الآية المحتاجة إلى الجواب، لكن استغني عن جوابها بما تقدم في قوله شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذ المعنى إذا حضر أحدكم الموت فينبغي أن يشهد، وقوله حِينَ الْوَصِيَّةِ ظرف زمان، والعامل فيه حَضَرَ، وإن شئت جعلته بدلا من إِذا، قال أبو علي:
ولك أن تعلقه ب الْمَوْتُ لا يجوز أن تعمل فيه شَهادَةُ لأنها إذا عملت في ظرف من الزمان لم تعمل في ظرف آخر منه، وقوله ذَوا عَدْلٍ صفة لقوله اثنان، ومِنْكُمْ صفة أيضا بعد صفة، وقوله تعالى:
مِنْ غَيْرِكُمْ صفة لآخران، وضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ معناه سافرتم للتجارة، تقول ضربت في الأرض أي سافرت للتجارة، وضربت الأرض ذهبت فيها لقضاء حاجة الإنسان، وهذا السفر كان الذي يمكن أن يعدم المؤمن مؤمنين، فلذلك خص بالذكر لأن سفر الجهاد لا يكاد يعدم فيه مؤمنين، قال أبو علي: قوله تَحْبِسُونَهُما صفة ل آخَرانِ واعترض بين الموصوف والصفة بقوله: إن أنتم إلى الموت، وأفاد الاعتراض أن العدول إلى آخَرانِ من غير الملة والقرابة حسب اختلاف العلماء في ذلك إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه، واستغني عن جواب إِنْ لما تقدم من قوله أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ وقال

(2/252)


جمهور العلماء الصَّلاةِ هنا صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس، وقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيمن حلف على سلعته وأمر باللعان فيه، وقال ابن عباس: إنما هي بعد صلاة الذميين، وأما العصر فلا حرمة لها عندهما، والفاء في قوله فَيُقْسِمانِ عاطفة جملة على جملة لأن المعنى تم في قوله مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ قال أبو علي: وإن شئت لم تقدر الفاء عاطفة جملة على جملة، ولكن تجعله جزاء كقول ذي الرمة:
وإنسان عيني يحسر الماء تارة ... فيبدو وتارات يجم فيغرق
تقديره عندهم إذا حسر بدا، فكذلك إذا حبستموهما أقسما وقوله إِنِ ارْتَبْتُمْ شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به، ومتى لم يقع ارتياب ولا اختلاف فلا يمين، أما أنه يظهر من حكم أبي موسى تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفذ الوصية لأهلها وإن لم يرتب، وهذه الريبة عند من لا يرى الآية منسوخة ترتب في الخيانة وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهما دون بعض وتقع مع ذلك اليمين عنده، وأما من يرى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلا بأن يكون الارتياب في خيانة أو تعد بوجه من وجوه التعدي فيكون التحليف عنده بحسب الدعوى على منكر لا على أنه تكميل للشهادة، والضمير في قول الحالفين لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً عائد على القسم، ويحتمل أن يعود على اسم الله تعالى، قال أبو علي:
يعود على تحريف الشهادة، وقوله لا نَشْتَرِي جواب ما يقتضيه قوله: فيقسمان بالله، لأن القسم ونحوه يتلقى بما تتلقى به الأيمان، وتقديره به ثمنا، أي ذا ثمن لأن الثمن لا يشترى.
وكذلك قوله تعالى: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا [التوبة: 9] معناه ذا ثمن، ولا يجوز أن يكون نَشْتَرِي في هذه الآية بمعنى نبيع لأن المعنى يبطله وإن كان ذلك موجودا في اللغة في غير هذا الموضع، وخص «ذو القربى» بالذكر لأن العرف ميل النفس إلى قرابتهم واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يستسهل، وقوله تعالى: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أضاف شَهادَةُ إليه تعالى من حيث هو الآمر بإقامتها الناهي عن كتمانها، وقرأ الحسن والشعبي «ولا نكتم» بجزم الميم، وقرأ علي بن أبي طالب ونعيم بن مسيسرة والشعبي بخلاف عنه «شهادة» بالتنوين «الله» نصب ب نَكْتُمُ، كأن الكلام ولا نكتم الله شهادة قال الزهري ويحتمل أن يكون المعنى «ولا نكتم شهادة والله» ثم حذفت الواو ونصب الفعل إيجازا، وروى يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش «شهادة» بالتنوين الله بقطع الألف دون مد وخفض الهاء، ورويت أيضا عن الشعبي وغيره أنه كان يقف على الهاء من الشهادة بالسكون، ثم يقطع الألف المكتوبة من غير مد كما تقدم، وروي عنه أنه كان يقرأ «الله» بمد ألف الاستفهام في الوجهين أعني بسكون الهاء من الشهادة وتحريكها منّوتنة منصوبة، ورويت هذه التي هي تنوين الشهادة ومد ألف الاستفهام بعد عن علي بن أبي طالب، قال أبو الفتح: أما تسكين هاء شهادة والوقف عليها واستئناف القسم فوجه حسن لأن استئناف القسم في أول الكلام أوقر له وأشد هيبة أن يدرج في عرض القول، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن حبيب والحسن البصري فيما ذكر أبو عمرو الداني «شهادة» بالنصب والتنوين «آلله» بالمد في همزة الاستفهام التي هي عوض من حرف القسم «آنا» بمد ألف الاستفهام أيضا دخلت لتوقيف وتقرير لنفوس المقسمين أو لمن خاطبوه وقرأ ابن محيصن «لملآثمين» بالإدغام.

(2/253)


وقوله تعالى: فَإِنْ عُثِرَ استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه اتفاقا وبعد «إن» لم يرج ولم يقصد، وهذا كما يقال على الخبير سقطت، ووقعت على كذا، قال أبو علي: والإثم هنا اسم الشيء المأخوذ لأن آخذه يأخذه إثم، فسمي آثما كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة، قال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك، وكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر.
قال القاضي أبو محمد: والذي يظهر هنا أن الإثم على بابه وهو الحكم اللاحق لهما والنسبة التي يتحصلان فيها بعد مواقعتهما لتحريف الشهادة أو لأخذ ما ليس لهما أو نحو ذلك، واسْتَحَقَّا معناه استوجباه من الله وكانا أهلا له فهذا استحقاق على بابه، إنه استيجاب حقيقة، ولو كان الإثم الشيء المأخوذ لم يقل فيه «استحقا» لأنهما ظلما وخانا فيه، فإنما استحقا منزلة السوء وحكم العصيان، وذلك هو الإثم، وقوله تعالى: فَآخَرانِ أي فإذا عثر على فسادهما فالأوليان باليمين وإقامة القضية آخران من القوم الذين هم ولاة الميت واستحق عليهم حظهم أو ظهورهم أو مالهم أو ما شئت من هذه التقديرات، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي «استحق» مضمومة التاء. والْأَوْلَيانِ على التثنية لأولى وروى قرة عن ابن كثير «استحق» بفتح التاء «الأوليان» على التثنية وكذلك روى حفص عن عاصم، وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر «استحق» بضم التاء «الأولين» على جمع أول، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «استحق» بفتح التاء «الأولان» على تثنية أول، وقرأ ابن سيرين «الأولين» على تثنية أول، ونصبهما على تقدير الأولين، فالأولين في الرتبة والقربى، قال أبو علي في قراءة ابن كثير ومن معه لا يخلو ارتفاع الأوليان من أن يكون على الابتداء وقد أخر فكأنه في التقدير و «الأوليان» بأمر الميت آخران يقومان، فيجيء الكلام كقولهم تميمي أنا، أو يكون خبر ابتداء محذوف كأنه فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان، أو يكون بدلا من الضمير الذي في يقومان، أو يكون مسندا إليه استحق، وأجاز أبو الحسن فيه شيئا آخر، وهو أن يكون «الأوليان» صفة ل «آخران» ، لأنه لما وصف خصص فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له.
قال القاضي أبو محمد: ثم قال أبو علي بعد كلامه هذا: فأما ما يسند إليه «استحق» فلا يخلو من أن يكون الأنصباء أو الوصية، أو الإثم. وسمي المأخوذ إثما كما يقال لما يؤخذ من المظلوم مظلمة. ولذلك جاز أن يستند إليه اسْتَحَقَّ. ثم قال بعد كلام: فإن قلت هل يجوز أن يسند اسْتَحَقَّ إلى الْأَوْلَيانِ. فالقول إن ذلك لا يجوز لأن المستحق إنما يكون الوصية أو شيئا منها. وأما الأوليان بالميت فلا يجوز أن يستحقا فيسند استحق إليهما.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا الكلام نظر. ويجوز عندي أن يسند اسْتَحَقَّ إلى الْأَوْلَيانِ.
وذلك أن أبا علي حمل لفظة الاستحقاق على أنه حقيقي فلم يجوزه إلا حيث يصح الاستحقاق الحقيقي في النازلة، وإنما يستحق حقيقة النصيب ونحوه. ولفظة الاستحقاق في الآية إنما هي استعارة وليست بمعنى استحقا إثما فإن الاستحقاق هنا حقيقة وفي قوله استحق مستعار، لأنه لا وجه لهذا الاستحقاق إلا الغلبة على الحال بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته أو لأهل دينه. فاستحق هنا كما تقول لظالم يظلمك هذا قد استحق علي مالي أو منزلي بظلمه فتشبهه بالمستحق حقيقة. إذ قد تسور تسوره وتملك تملكه.
وكذلك يقال فلان قد استحق ومنه شغل كذا إذا كان ذلك الأمر قد غلبه على أوقاته، وهكذا هي استحق في

(2/254)


الآية على كل حال وإن أسندت إلى الأنصباء ونحوه لأن قوله اسْتَحَقَّ صلة ل الَّذِينَ والَّذِينَ واقع على الصنف المناقض للشاهدين الجائرين فالشاهدان ما استحقا قط في هذه النازلة شيئا حقيقة استحقاق، وإنما تسورا تسور المستحق فلنا أن نقدر الأوليان ابتداء وقد أخر. فيسند اسْتَحَقَّ على هذا إلى المال أو النصيب ونحوه على جهة الاستعارة. وكذلك إذا كان الْأَوْلَيانِ خبر ابتداء وكذلك على البدل من الضمير في يَقُومانِ وعلى الصفة على مذهب أبي الحسن. ولنا أن نقدر الكلام بمعنى من الجماعة التي غابت وكان حقهما والمبتغى أن يحضر وليها، فلما غابت وانفرد هذا الموصي استحقت هذه الحال وهذان الشاهدان من غير أهل الدين الولاية وأمر الأوليين على هذه الجماعة، ثم بني الفعل للمفعول على هذا المعنى إيجازا ويقوي هذا الغرض أن تعدي الفعل ب «على» لما كان باقتدار وحمل هيئته على الحال. ولا يقال استحق منه أو فيه إلا في الاستحقاق الحقيقي على وجهه، وأما استحق عليه فيقال في الحمل والغلبة والاستحقاق المستعار والضمير في عَلَيْهِمُ عائد على كل حال في هذه القراءة على الجماعة التي تناقض شاهدي الزور الآثمين، ويحتمل أن يعود على الصنف الذين منهم شاهد الزور على ما نبينه الآن إن شاء الله في غير هذه القراءة.
وأما رواية قرة عن ابن كثير «استحق» بفتح التاء فيحتمل أن يكون الأوليان ابتداء أو خبر ابتداء، ويكون المعنى في الجمع أو القبيل الذي استحق القضية على هذا الصنف الشاهد بالزور، الضمير في عليهم عائد على صنف شاهدي الزور.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وفي هذا التأويل تحويل وتحليق وصنعة في الَّذِينَ، وعليه ينبني كلام أبي علي في كتاب الحجة، ويحتمل أن يكون المعنى من الذين استحق عليهم القيام، والصواب من التأويلين أن الضمير في عَلَيْهِمُ عائد على الَّذِينَ، والْأَوْلَيانِ رفع ب اسْتَحَقَّ وذلك متخرج على ثلاثة معان. أحدها أن يكون المراد من الذين استحق عليهم ما لهم وتركتهم شاهدا الزور. فسمى شاهدي الزور أوليين من حيث جعلتهما الحال الأولى كذلك، أي صيرهم عدم الناس أولى بهذا الميت وتركته فجارا فيها، والمعنى الثاني أن يكون المراد من الجماعة الذين حق عليهم أن يكون منهم الأوليان، فاستحق بمعنى حق ووجب، كما تقول هذا بناء قد استحق بمعنى حق كعجب واستعجب ونحوه، والمعنى الثالث أن يجعل استحق بمعنى سعى واستوجب، فكأن الكلام فآخران من القوم الذين حضر أوليان منهم فاستحقا عليهم حقهم، أي استحقا لهم وسعيا فيه واستوجباه بأيمانهما وقرباهما، ونحو هذا المعنى الذي يعطيه التعدي ب «على» قول الشاعر:
اسعى على حيّ بني ملك ... كل امرئ في شأنه ساع
وكذلك في الحديث: «كنت أرعى عليهم الغنم» في بعض طرق حديث الثلاثة الذين ذكر أحدهم بره بأبويه حين انحطت عليهم الصخرة، وأما قراءة حمزة فمعناها من القوم الذين استحق عليهم أمرهم أي غلبوا عليه، ثم وصفهم بأنهم أولون أي في الذكر في هذه الآية، وذلك في قوله اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ثم بعد ذلك قال أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ وقوله تعالى: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ يعني الآخرين اللذين يقومان مقام شاهدي التحريف، وقولهما لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أي لما أخبرنا نحن به وذكرناه من نص القضية أحق مما ذكراه أولا، وحرفا فيه، وما اعتدينا نحن في قولنا هذا ولا زدنا على الحد، وقولهما إِنَّا إِذاً لَمِنَ

(2/255)


ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)

الظَّالِمِينَ
في صيغة الاستعظام والاستقباح للظلم، والظلم وضع الشيء في غير موضعه.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 108 الى 109]
ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109)
الإشارة ب ذلِكَ هي إلى جميع ما حد الله قبل من حبس الشاهدين من بعد الصلاة لليمين، ثم إن عثر على جورهما ردت اليمين وغرما. فذلك كله يقرب اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل، لأنهم يخافون التحليف المغلظ بعقب الصلاة ثم يخافون الفضيحة ورد اليمين، هذا قول ابن عباس رحمه الله، ويظهر من كلام السدي أن الإشارة ب ذلِكَ إنما هي إلى الحبس من بعد الصلاة فقط، ثم يجيء قوله تعالى: أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بإزاء فَإِنْ عُثِرَ [المائدة: 107] الآية، وجمع الضمير في يَأْتُوا ويَخافُوا إذ المراد صنف ونوع من الناس، وأَوْ في هذه الآية على تأويل السدي بمنزلة قولك تجيئني يا زيد أو تسخطني كأنك تريد وإلا أسخطتني فكذلك معنى الآية. ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها وإلا خافوا رد الأيمان. وأما على مذهب ابن عباس فالمعنى ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا وأقرب إلى أن يخافوا، وقوله تعالى: عَلى وَجْهِها معناه على جهتها القويمة التي لم تبدل ولا حرفت، ثم أمر تعالى بالتقوى التي هي الاعتصام بالله وبالسمع لهذه الأمور المنجية، وأخبر أنه لا يهدي القوم الفاسقين، من حيث هم فاسقون، وإلا فهو تعالى يهديهم إذا تابوا، ويحتمل أن يكون لفظ الْفاسِقِينَ عاما والمراد الخصوص فيمن لا يتوب.
وقوله تعالى: ويَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ذهب قوم من المفسرين إلى أن العامل في يَوْمَ ما تقدم من قوله لا يَهْدِي، وذلك ضعيف، ورصف الآية وبراعتها، إنما هو أن يكون هذا الكلام مستأنفا، والعامل مقدر إما اذكروا وإما تذكروا وإما احذروا ونحو هذا مما حسن اختصاره لعلم السامع، والإشارة بهذا اليوم إلى يوم القيامة، وخص الرسل بالذكر لأنهم قادة الخلق، وفي ضمن جمعهم جمع الخلائق وهم المكلمون أولا وماذا أُجِبْتُمْ معناه ماذا أجابت به الأمم من إيمان أو كفر وطاعة أو عصيان، وهذا السؤال للأنبياء الرسل إنما هو لتقوم الحجة على الأمم ويبتدأ حسابهم على الواضح المستبين لكل مفطور، واختلف الناس في معنى قولهم عليهم السلام لا عِلْمَ لَنا فقال الطبري ذهلوا عن الجواب لهول المطلع، وذكر عن الحسن أنه قال: لا علم لنا من هول ذلك اليوم. وعن السدي أنه قال: نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول فقالوا لا علم لنا. ثم نزلوا منزلا آخر شهدوا على قومهم، وعن مجاهد أنه قال: يفزعون فيقولون لا علم لنا.
قال القاضي أبو محمد: وضعّف بعض الناس هذا المنزع بقوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] والأنبياء في أشد أهوال يوم القيامة وحالة جواز الصراط يقولون سلم سلم وحالهم أعظم وفضل الله عليهم أكثر من أن تذهل عقولهم حتى يقولوا ما ليس بحق في نفسه، وقال ابن عباس رضي الله

(2/256)


إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)

عنه: معنى الآية لا علم لنا إلا علما أنت أعلم به منا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن، كأن المعنى لا علم لنا يكفي وينتهي إلى الغاية، وقال ابن جريج: معنى ماذا أجبتم؟ ماذا عملوا بعدكم وما أحدثوا؟ فلذلك قالوا لا علم لنا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا معنى حسن في نفسه، ويؤيده قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ لكن لفظة أُجِبْتُمْ لا تساعد قول ابن جريج إلا على كره، وقول ابن عباس أصوب هذه المناحي لأنه يتخرج على التسليم لله تعالى ورد الأمر إليه، إذ قوله ماذا أُجِبْتُمْ لا علم عندهم في جوابه إلا بما شوفهوا به مدة حياتهم، وينقصهم ما في قلوب المشافهين من نفاق ونحوه، وما ينقصهم ما كان بعدهم من أمتهم والله تعالى يعلم جميع ذلك على التفصيل والكمال. فرأوا التسليم له والخضوع لعلمه المحيط وقرأ أبو حيوة «ماذا أجبتم» بفتح الهمزة.
قوله عزّ وجلّ:

[سورة المائدة (5) : آية 110]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
يحتمل أن يكون العامل في إِذْ فعلا مضمرا تقديره اذكر يا محمد إذ جئتهم بالبينات وقالَ هنا بمعنى يقول، لأن ظاهر هذا القول أنه في القيامة تقدمة لقوله أنت قلت للناس، وذلك كله أحكام لتوبيخ الذين يتحصلون كافرين بالله في ادعائهم ألوهية عيسى، ويحتمل أن تكون إِذْ بدلا من قوله يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ [المائدة: 109] ونعمة الله على عيسى هي بالنبوءة وسائر ما ذكر وما علم مما لا يحصى، وعددت عليه النعمة على أن أمه إذ هي نعمة صائرة إليه وبسببه كانت، وقرأ جمهور الناس «أيّدتك» بتشديد الياء، وقرأ مجاهد وابن محيصن «آيدتك» على وزن فاعلتك ويظهر أن الأصل في القراءتين «أيدتك» على وزن أفعلتك، ثم اختلف الإعلال، والمعنى فيهما قويتك من الأيد، وقال عبد المطلب:
الحمد لله الأعز الأكرم ... أيدنا يوم زحوف الأشرم
و «روح القدس» هو جبريل عليه السلام، وقوله فِي الْمَهْدِ حال كأنه قال صغيرا وَكَهْلًا حال أيضا معطوفة على الأول. ومثله قوله تعالى: دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً [يونس: 12] والكهولة من الأربعين إلى الخمسين. وقيل هي من ثلاثة وثلاثين، والْكِتابَ في هذه الآية: مصدر كتب يكتب أي علمتك الخط. ويحتمل أن يريد اسم جنس في صحف إبراهيم وغير ذلك. ثم خص بعد ذلك التوراة وَالْإِنْجِيلَ بالذكر تشريفا، والْحِكْمَةَ: هي الفهم والإدراك في أمور الشرع. وقد وهب الله الأنبياء منها ما

(2/257)


هم به مختصون معصومون لا ينطقون عن هوى. قوله تعالى: وَإِذْ في هذه الآية حيث ما تكررت فهي عطف على الأولى التي عملت فيها نعمتي، وتَخْلُقُ معناه: تقدر وتهيىء تقديره مستويا، ومنه قول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفري
أي يهيىء ويقدر ليعمل ويكمل ثم لا يفعل. ومنه قول الآخر:
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليله
وكان عيسى عليه السلام يصور من الطين أمثال الخفافيش ثم ينفخ فيها أمام الناس فتحيا وتطير بإذن الله. وقد تقدم هذا القصص في آل عمران. وقرأ جمهور الناس «كهيئة» بالهمز، وهو مصدر من قولهم هاء الشيء يهاء إذا ثبت واستقر على أمر حسن، قال اللحياني: ويقال «يهيء» وقرأ الزهري «كهيّة» بتشديد الياء من غير همز وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «كهيئة الطائر» . والإذن في هذه الآية كيف تكرر معناه التمكين مع العلم بما يصنع وما يقصد من دعاء الناس إلى الإيمان. وقوله تعالى: فَتَنْفُخُ فِيها هو النفخ المعروف من البشر وإن جعل الله الأمر هكذا ليظهر تلبس عيسى بالمعجزة وصدورها عنه. وهذا كطرح موسى العصا. وكإيراد محمد عليه السلام القرآن. وهذا أحد شروط المعجزات. وقوله فِيها بضمير مؤنث مع مجيء ذلك في آل عمران فَأَنْفُخُ فِيهِ [آل عمران: 49] بضمير مذكر موضع قد اضطرب المفسرون فيه.
قال مكي: هو في آل عمران عائد على الطائر وفي المائدة عائد على الهيئة، قال ويصح عكس هذا، قال غيره الضمير المذكر عائد على الطين.
قال القاضي أبو محمد: ولا يصح عود هذا الضمير لا على الطير ولا على الطين ولا على الهيئة لأن الطين والطائر الذي يجيء على الطين على هيئة لا نفخ فيه البتة، وكذلك لا نفخ في هيئته الخاصة بجسده وهي المذكورة في الآية، وكذلك الطِّينِ المذكور في الآية إنما هو الطين العام ولا نفخ في ذلك. وإنما النفخ في الصور المخصوصة منه التي رتبتها يد عيسى عليه السلام، فالوجه أن يقال في عود الضمير المؤنث إنه عائد على ما تقتضيه الآية ضرورة، وذلك أن قوله وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ يقتضي صورا أو أجساما أو أشكالا، وكذلك الضمير المذكر يعود على المخلوق الذي يقتضيه تَخْلُقُ، ولك أن تعيده على ما تدل عليه الكاف في معنى المثل لأن المعنى وإذ تخلق من الطين مثل هيئة، ولك أن تعيد الضمير على الكاف نفسه فيمن يجوّز أن يكون اسما في غير الشعر، وتكون الكاف في موضع نصب صفة للمصدر المراد تقديره وإذ تخلق خلقا من الطين كهيئة الطير وقرأ عبد الله بن عباس كهيئة الطير فتنفخها فيكون وقرأ الجمهور «فتكون» بالتاء من فوق وقرأ عيسى بن عمر فيها «فيكون» بالياء من تحت، وقرأ نافع وحده «فتكون طائرا» ، وقرأ الباقون «طيرا» بغير ألف والقراءتان مستفيضتان في الناس.
فالطير جمع طائر كتاجر وتجر وصاحب وصحب وراكب وركب. والطائر اسم مفرد والمعنى على قراءة نافع فتكون كل قطعة من تلك المخلوقات طائرا قال أبو علي: ولو قال قائل إن الطائر قد يكون جمعا كالجامل والباقر فيكون على هذا معنى القراءتين واحدا لكان قياسا، ويقوي ذلك ما حكاه أبو الحسن

(2/258)


وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)

من قولهم طائرة فيكون من باب شعيرة وشعير، وتمرة وتمر وقد تقدم القول في الأكمه والأبرص وفي قصص إحيائه الموتى في آل عمران، وتُخْرِجُ الْمَوْتى معناه من قبورهم، وكف بني إسرائيل عنه عليه السلام هو رفعه حين أحاطوا به في البيت مع الحواريين ومن أول ما منعه الله منهم هو الكف إلى تلك النازلة الآخرة فهنالك ظهر عظم الكف و «البينات» هي معجزاته وإنجيله وجميع ما جاء به، وقرأ ابن كثير وعاصم هنا وفي هود والصف «إلا سحر» بغير ألف، وقرأ حمزة والكسائي في المواضع الأربعة «ساحر» بألف فمن قرأ سحرا جعل الإشارة إلى البينات والحديث وما جاء به، ومن قرأ ساحرا جعل الإشارة إلى الشخص إذ هو ذو سحر عندهم وهذا مطرد في القرآن كله حيثما ورد هذا الخلاف.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 111 الى 113]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
قوله تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ هو من جملة تعديد النعمة على عيسى وأَوْحَيْتُ في هذا الموضع إما أن يكون وحي إلهام أو وحي أمر كما قال الشاعر:
أوحى لها القرار فاستقرت وبالجملة فهو إلقاء معنى في خفاء أوصله تعالى إلى نفوسهم كيف شاء والرسول في هذه الآية عيسى عليه السلام وقول الحواريين وَاشْهَدْ يحتمل أن يكون مخاطبة منهم لله تعالى ويحتمل أن يكون لعيسى عليه السلام، وقد تقدم تفسير لفظة الحواريين في آل عمران.
وقوله تعالى: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ.. الآية اعتراض أثناء وصف حال قول الله لعيسى يوم القيامة، مضمن الاعتراض إخبار محمد عليه السلام وأمته بنازلة الحواريين في المائدة. إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها يقتدى بمحاسنه ويزدجر عما ينقد منه من طلب الآيات ونحوه، وقرأ جمهور الناس «هل يستطيع ربّك» بالياء ورفع الباء من ربك. وهي قراءة السبعة حاشا الكسائي، وهذا ليس لأنهم شكوا في قدرة الله على هذا الأمر كامنة بمعنى هل يفعل تعالى هذا وهل تقع منه إجابة إليه؟ وهذا كما قال لعبد الله بن زيد هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فالمعنى هل يخف عليك وهل تفعله؟
أما أن في اللفظة بشاعة بسببها قال عيسى اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وبسببها مال فريق من الصحابة وغيرهم إلى غير هذه القراءة فقرأ علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير «هل تستطيع ربّك» بالتاء ونصب الباء من ربك. المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك؟ قالت عائشة رضي الله عنها: كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا هل يستطيع ربك.
قال القاضي أبو محمد: نزهتهم عائشة عن بشاعة اللفظ وإلا فليس يلزمهم منه جهل بالله تعالى على

(2/259)


ما قد تبين آنفا. وبمثل هذه القراءة قرأ الكسائي وزاد أنه أدغم اللام في التاء. قال أبو علي: وذلك حسن، وأَنْ في قوله أَنْ يُنَزِّلَ على هذه القراءة متعلقة بالمصدر المحذوف الذي هو سؤال. وأَنْ مفعول به إذ هو في حكم المذكور في اللفظ وإن كان محذوفا منه إذ لا يتم المعنى إلا به.
قال القاضي أبو محمد: وقد يمكن أن يستغنى عن تقدير سؤال على أن يكون المعنى هل يستطيع أن ينزل ربك بدعائك أو بأثرتك عنده ونحوه هذا، فيردك المعنى ولا بد إلى مقدر يدل عليه ما ذكر من اللفظ، و «المائدة» فاعلة من ماد إذا تحرك، هذا قول الزجّاج أو من ماد إذا ماد وأطعم كما قال رؤبة:
تهدى رؤوس المترفين الأنداد ... إلى أمير المؤمنين الممتاد
أي الذي يستطعم ويمتاد منه، وقول عيسى عليه السلام اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تقرير لهم كما تقول افعل كذا وكذا إن كنت رجلا، ولا خلاف احفظه في أن الحواريين كانوا مؤمنين، وهذا هو ظاهر الآية، وقال قوم قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر قبل علمهم بأنه يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى ويظهر من قوله عليه السلام اتَّقُوا اللَّهَ إنكار لقولهم ذلك، وذلك على قراءة من قرأ «يستطيع» بالياء من أسفل متوجه على أمرين: أحدهما: بشاعة اللفظ، والآخر إنكار طلب الآيات والتعرض إلى سخط الله بها والنبوات ليست مبنية على أن تتعنت وأما على القراءة الأخرى فلم ينكر عليهم إلا الاقتراح وقلة طمأنينتهم إلى ما قد ظهر من آياته.
فلما خاطبهم عليه السلام بهذه المقالة صرحوا بالمذاهب التي حملتهم على طلب المائدة، فقالوا:
نريد أن نأكل منها فنشرف في العالم.
قال القاضي أبو محمد: لأن هذا الأكل ليس الغرض منه شبع البطن. وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا معناه يسكن فكرنا في أمرك بالمعاينة لأمر نازل من السماء بأعيننا وَنَعْلَمَ علم الضرورة والمشاهدة أن قد صدقتنا فلا تعترضنا الشبه التي تعرض في علم الاستدلال.
قال القاضي أبو محمد: وبهذا يترجح قول من قال كان هذا قبل علمهم بآياته. ويدل أيضا على ذلك أن وحي الله إليهم أن آمنوا إنما كان في صدر الأمر وعند ذلك قالوا هذه المقالة ثم آمنوا ورأوا الآيات واستمروا وصبروا. وهلك من كفر وقرأ سعيد بن جبير و «يعلم» بالياء مضمومة على ما لم يسم فاعله، وقولهم وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ معناه من الشاهدين بهذه الآية الناقلين لها إلى غيرنا الداعين إلى هذا الشرع بسببها.
قال القاضي أبو محمد: وروي أن الذي نحا بهم هذا المنحى من الاقتراح هو أن عيسى عليه السلام قال لهم مرة هل لكم في صيام ثلاثين يوما لله، ثم إن سألتموه حاجة قضاها؟ فلما صاموها قالوا: يا معلم الخير إن حق من عمل عملا أن يطعم، فهل يستطيع ربك؟ فأرادوا أن تكون المائدة عند ذلك الصوم.
قوله عز وجل:

(2/260)


قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)

[سورة المائدة (5) : الآيات 114 الى 115]
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)
ذكر الله تعالى عن عيسى أنه أجابهم إلى دعاء الله في أمر المائدة. فروي أنه لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويبكي ويدعو. واللَّهُمَّ عند سيبويه أصلها يا الله فجعلت الميمان بدلا من ياء ورَبَّنا منادى آخر، ولا يكون صفة لأن اللَّهُمَّ يجري مجرى الأصوات من أجل ما لحقه من التغيير، وقرأ الجمهور «تكون لنا» على الصفة للمائدة. وقرأ ابن مسعود والأعمش «تكن لنا» على جواب أَنْزِلْ والعيد:
المجتمع واليوم المشهود، وعرفه أن يقال فيما يستدير بالسنة أو بالشهر والجمعة ونحوه. وهو من عاد يعود.
فأصله الواو ولكن لزمته الياء من أجل كسرة العين، وقرأ جمهور الناس «لأولنا وآخرنا» وقرأ زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري: «لأولنا وأخرنا» . واختلف المتأولون في معنى ذلك، فقال السدي وقتادة وابن جريج وسفيان: لأولنا معناه لأول الأمة ثم لمن بعدهم حتى لآخرها يتخذون ذلك اليوم عيدا. وروي عن ابن عباس أن المعنى يكون مجتمعا لجميعنا أولنا وآخرنا، قال: وأكل من المائدة حين وضعت أول الناس كما أكل آخرهم.
قال القاضي أبو محمد: فالعيد على هذا لا يراد به المستدير، وقوله وَآيَةً مِنْكَ أي علامة على صدقي وتشريفي. فأجاب الله دعوة عيسى وقال إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ ثم شرط عليهم شرطه المتعارف في الأمم أنه من كفر بعد آية الاقتراح عذب أشد عذاب، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم «إني منزّلها» بفتح النون وشد الزاي، وقرأ الباقون «منزلها» بسكون النون، والقراءتان متجهتان نزل وأنزل بمعنى واحد، وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف، «قال الله إني سأنزلها عليكم» ، واختلف الناس في نزول المائدة، فقال الحسن بن أبي الحسن ومجاهد: إنهم لما سمعوا الشرط في تعذيب من كفر استعفوها فلم تنزل. قال مجاهد فهو مثل ضربه الله تعالى للناس لئلا يسألوا هذه الآيات، وقال جمهور المفسرين: نزلت المائدة، ثم اختلفت الروايات في كيفية ذلك، فروى الشعبي عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: نزلت المائدة خبزا وسمكا، وقال عطية: المائدة سمكة فيها طعم كل طعام، قال ابن عباس نزل خوان عليه خبز وسمك يأكلون منه أين ما نزلوا إذا شاؤوا، وقاله وهب بن منبه، قال إسحاق بن عبد الله: نزلت المائدة عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات، قال: فسرق منها بعضهم فرفعت، وقال عمار بن ياسر: سألوا عيسى عليه السلام مائدة يكون عليها طعام لا ينفد، فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم وما لم تخبئوا أو تخونوا، فإن فعلتم عذبتم قال فما مضى يوم حتى خبؤوا وخانوا فمسخوا قردة وخنازير، وقال ابن عباس في المائدة أيضا، كان طعام ينزل عليهم حيث ما نزلوا، وقال عمار بن ياسر: نزلت المائدة عليها ثمار من ثمار الجنة، وقال ميسرة: كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليها الأيدي بكل طعام إلا اللحم.
قال القاضي أبو محمد: وكثر الناس في قصص هذه المائدة بما رأيت اختصاره لعدم سنده وقال قوم:
لا يصح أن لا تنزل المائدة لأن الله تعالى أخبر أنه منزلها.

(2/261)


وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)

قال القاضي أبو محمد: وهذ غير لازم لأن الخبر مقرون بشرط يتضمنه قوله فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ، وسائغ ما قال الحسن، أما أن الجمهور على أنها نزلت وكفرت جماعة منهم فمسخهم الله خنازير قاله قتادة وغيره. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون، ويذكر أن شمعون رأس الحواريين قال لعيسى حين رأى طعام المائدة، يا روح الله أمن طعام الدنيا هو أم من طعام الآخرة؟ قال عيسى عليه السلام: ألم ينهكم الله عن هذه السؤالات، هذا طعام ليس من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة. بل هو بالقدرة الغالبة، قال الله له كن فكان، وروي أنه كان على المائدة بقول سوى الثوم والكراث والبصل، وقيل كان عليها زيتون وتمر وحب رمان.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 116 الى 117]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
اختلف المفسرون في وقت وقوع هذا القول. فقال السدي وغيره: لما رفع الله عيسى إليه قالت النصارى ما قالت وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، فسأله تعالى حينئذ عن قولهم فقال سُبْحانَكَ الآية.
قال القاضي أبو محمد: فتجيء قالَ على هذا متمكنة في المضي، ويجيء قوله آخرا وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ [المائدة: 118] أي بالتوبة من الكفر، لأن هذا ما قاله عيسى عليه السلام وهم أحياء في الدنيا، وقال ابن عباس وقتادة وجمهور الناس: هذا القول من الله إنما هو في يوم القيامة، يقول الله له على رؤوس الخلائق، فيرى الكفار تبريه منهم، ويعلمون أن ما كانوا فيه باطل.
قال القاضي أبو محمد: وقال على هذا التأويل بمعنى يقول. ونزل الماضي موضع المستقبل دلالة على كون الأمر وثبوته، وقوله آخرا وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ [المائدة: 118] معناه إن عذبت العالم كله فبحقك وإن غفرت وسبق ذلك في علمك فلأنك أهل لذلك لا معقب لحكمك ولا منازع لك، فيقول عيسى هذا على جهة التسليم والتعزي عنهم مع علمه بأنهم كفرة قد حتم عليهم العذاب، وليس المعنى أنه لا بد من أن تفعل أحد هذين الأمرين. بل قال هذا القول مع علمه بأن الله لا يغفر أن يشرك به. وفائدة هذا التوقيف على قول من قال إنه في يوم القيامة ظهور الذنب على الكفرة في عبادة عيسى وهو توقيف له يتقرر منه بيان ضلال الضالين.
وسبحانك معناه تنزيها لك عن أن يقال هذا وينطق به، وقوله ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ... الآية. بقي يعضده دليل العقل، فهذا ممتنع عقلا أن يكون لبشر محدث أن يدعي الألوهية وقد تجيء هذه الصيغة فيما لا ينبغي ولا يحسن مع إمكانه، ومنه قول الصديق رضي الله عنه: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ فوفق الله عيسى عليه السلام لهذه الحجة

(2/262)


إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)

البالغة، وقوله تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي بإحاطة الله به، وخص النفس بالذكر لأنها مظنة الكتم والانطواء على المعلومات، والمعنى: أن الله يعلم ما في نفس عيسى ويعلم كل هذه الآية على قول من قال: إن توقيف عيسى عليه السلام كان إثر رفعه مستقيمة المعنى. لأنه قال عنهم هذه المقالة وهم أحياء في الدنيا وهو لا يدري على ما يوافون. وهي على قول من قال إن التوقيف هو يوم القيامة بمعنى أن سبقت لهم كلمة العذاب كما سبقت فهم عبادك تصنع بحق الملك ما شئت لا أمره مما عسى أن يكون في نفسه، وقوله وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ معناه ولا أعلم ما عندك من المعلومات وما أحطت به. وذكر النفس هنا مقابلة لفظية في اللسان العربي يقتضيها الإيجاز، وهذا ينظر من طرف خفي إلى قوله وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54] اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] ، فتسمية العقوبة باسم الذنب إنما قاد إليها طلب المقابلة اللفظية إذ هي من فصيح الكلام وبارع العبارة، ثم أقر عليه السلام لله تعالى بأنه عَلَّامُ الْغُيُوبِ، المعنى ولا علم لي أنا بغيب فكيف تكون لي الألوهية.
ثم أخبر عما صنع في الدنيا وقال في تبليغه وهو أنه لم يتعد أمر الله في أن أمرهم بعبادته وأقر بربوبيته، وأَنِ في قوله أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مفسرة لا موضع لها من الإعراب. ويصح أن تكون بدلا من ما.
ويصح أن تكون في موضع خفض على تقدير بأن اعبدوا الله، ويصح أن تكون بدلا من الضمير في بِهِ ثم أخبر عليه السلام أنه كان شهيدا ما دام فيهم في الدنيا، فما ظرفية. وقوله فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي قبضتني إليك بالرفع والتصيير في السماء. والرقيب: الحافظ المراعي.
قوله عز وجل:

[سورة المائدة (5) : الآيات 118 الى 120]
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
اعتراض عليك. وإن تغفر لهم أي لو غفرت بتوبة كما غفرت لغيرهم فإنك أنت العزيز في قدرتك، الحكيم في أفعالك. لا تعارض على حال. فكأنه قال إن يكن لك في الناس معذبون فهم عبادك. وإن يكن مغفور لهم فعزتك وحكمتك تقتضي هذا كله. وهذا هو عندي القول الأرجح. ويتقوى ما بعده.
وذلك أن عيسى عليه السلام لما قرر أن الله تعالى له أن يفعل في عباده ما يشاء من تعذيب ومغفرة أظهر الله لعباده ما كانت الأنبياء تخبرهم به، كأنه يقول هذا أمر قد فرغ منه. وقد خلص للرحمة من خلص، وللعذاب من خلص، فقال تبارك وتعالى هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ فدخل تحت هذه العبارة كل مؤمن بالله تعالى وكل ما كان اتقى فهو أدخل في العبارة، ثم جاءت هذه العبارة مشيرة إلى عيسى في حاله تلك وصدقه فيما قال. فحصل له بذلك في الموقف شرف عظيم وإن كان اللفظ يعمه وسواه، وذكر تعالى ما أعد لهم برحمته وطوله إلى قوله ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وقرأ نافع وحده «هذا يوم» بنصب يوم، وقرأ الباقون «يوم» بالرفع على خبر المبتدأ الذي هو هذا ويَوْمُ مضاف إلى يَنْفَعُ، والمبتدأ والخبر في

(2/263)


موضع نصب بأنه مفعول القول. إذ القول يعمل في الجمل، وأما قراءة نافع فتحتمل وجهين، أحدهما أن يكون «يوم» ظرفا للقول كأن التقدير قال الله هذا القصص أو الخبر يوم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي معنى يزيل رصف الآية وبهاء اللفظ، والمعنى الثاني أن يكون ما بعد قال حكاية عما قبلها ومن قوله لعيسى إشارة إليه، وخبر هذا محذوف إيجازا، كأن التقدير قال الله:
هذا المقتص يقع أو يحدث يوم ينفع الصادقين.
قال القاضي أبو محمد: والخطاب على هذا لمحمد عليه السلام وأمته، وهذا أشبه من الذي قبله، والبارع المتوجه قراءة الجماعة، قال أبو علي، ولا يجوز أن تكون «يوم» في موضع رفع على قراءة نافع لأن هذا الفعل الذي أضيف إليه معرب، وإنما يكتسي البناء من المضاف إليه إذا كان المضاف إليه مبنيا نحو من عذاب يومئذ، ولا يشبه قول الشاعر.
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألمّا أصح والشيب وازع
لأن الماضي الذي في البيت مبني والمضارع الذي في الآية معرب وقرأ الحسن بن العباس الشامي:
«هذا يوم» بالرفع والتنوين، وقوله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ ... الآية، يحتمل أن يكون مما يقال يوم القيامة، ويحتمل أنه مقطوع من ذلك مخاطب به محمد صلى الله عليه وسلم وأمته. وعلى الوجهين ففيه عضد ما قال عيسى، إن تعذب الناس فإنهم عبادك على ما تقدم من تأويل الجمهور.
كمل تفسير سورة المائدة والله المستعان وهو حسبي ونعم الوكيل

(2/264)