تفسير ابن عطية
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ
الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ
قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ
تَمْتَرُونَ (2)
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا
سورة الأنعام
قيل هي كلها مكية، وقال ابن عباس: نزلت بمكة ليلا جملة إلا ست
آيات، وهي قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ
عَلَيْكُمْ [الأنعام 151] وقوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ [الأنعام: 91] وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ
[الأنعام: 93] وقوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي
غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ
[الأنعام: 93] وقوله: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ [الأنعام: 114]
وقوله: والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ
[الأنعام: 20] .
وقال الكلبي: الأنعام كلها مكية إلا آيتين نزلتا بالمدينة في
فنحاص اليهودي، وهي قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ
بِهِ مُوسى [الأنعام 91] مع ما يرتبط بهذه الآية، وذلك أن
فنحاصا قال ما أنزل الله على بشر من شيء، وقال ابن عباس: نزلت
سورة الأنعام وحولها سبعون ألف ملك لهم زجل يجارون بالتسبيح
وقال كعب فاتحة التوراة فاتحة الأنعام الْحَمْدُ لِلَّهِ إلى
يَعْدِلُونَ، وخاتمة التوراة خاتمة هود، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود: 123] وقيل خاتمتها وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
إلى تَكْبِيراً [الإسراء: 111] وقال عمر بن الخطاب رضي الله
عنه: الأنعام من نجائب القرآن، وقال علي بن أبي طالب: من قرأ
سورة الأنعام فقد انتهى في رضى ربه.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ
أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
هذا تصريح بأن الله تعالى هو الذي يستحق الحمد بأجمعه. لأن
الألف واللام في الْحَمْدُ لاستغراق الجنس، فهو تعالى له
الأوصاف السنية والعلم والقدرة والإحاطة والأنعام، فهو أهل
للمحامد على ضروبها وله الحمد الذي يستغرق الشكر المختص بأنه
على النعم، ولما ورد هذا الإخبار تبعه ذكر بعض أوصافه الموجبة
للحمد، وهي الخلق «للسماوات والأرض» قوام الناس وأرزاقهم،
وَالْأَرْضَ هاهنا للجنس فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها،
والبادي من هذا الترتيب أن السماء خلقت من قبل الأرض، وقد حكاه
الطبري عن قتادة، وليس كذلك لأن الواو لا ترتب المعاني، والذي
ينبني من مجموع آي القرآن أن الله تعالى خلق الأرض ولم يدحها
ثم استوى إلى السماء فخلقها ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجَعَلَ
هاهنا بمعنى خلق لا
(2/265)
يجوز غير ذلك، وتأمل لم خصت السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ ب خَلَقَ والظُّلُماتِ وَالنُّورَ ب جَعَلَ؟ وقال
الطبري جَعَلَ هذه هي التي تتصرف في طرق الكلام كما تقول جعلت
كذا فكأنه قال وجعل إظلامها وإنارتها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير جيد، لأن جَعَلَ إذا كانت على
هذا النحو فلا بد أن يرتبط معها فعل آخر كما يرتبط في أفعال
المقاربة كقولك كاد زيد يموت، «جعل» زيد يجيء ويذهب، وأما إذا
لم تربط معها فعل فلا يصح أن تكون تلك التي ذكر الطبري، وقال
السدي وقتادة والجمهور من المفسرين:
الظُّلُماتِ الليل والنُّورَ النهار، وقالت فرقة: الظُّلُماتِ
الكفر والنُّورَ الإيمان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير جيد لأنه إخراج لفظ بين في
اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن لغير ضرورة، وهذا هو طريق
اللغز الذي برىء القرآن منه، والنُّورَ أيضا هنا للجنس فإفراده
بمثابة جمعه.
وقوله تعالى: ثُمَّ دالة على قبح فعل الَّذِينَ كَفَرُوا لأن
المعنى أن خلقه «السموات والأرض» وغيرهما قد تقرر، وآياته قد
سطعت، وأنعامه بذلك قد تبين ثم بعد هذا كله عدلوا بربهم، فهذا
كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني، أي
بعد مهلة من وقوع هذا كله، ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو
لم يلزم التوبيخ كلزومه ب ثُمَّ، الَّذِينَ كَفَرُوا في هذا
الموضع هم كل من عبد شيئا سوى الله قال قتادة: هم أهل الشرك
صراحية، ومن خصص من المفسرين في ذلك بعضا دون بعض فلم يصب إلا
أن السابق من حال النبي صلى الله عليه وسلم أن الإشارة إلى
عبدة الأوثان من العرب لمجاورتهم له، ولفظ الآية أيضا يشير إلى
المانوية ويقال الماننية العابدين للنور القائلين إن الخير من
فعل النور والشر من فعل الظلام، وقول ابن أبزى إن المراد أهل
الكتاب بعيد، ويَعْدِلُونَ معناه يسوون ويمثلون، وعدل الشيء
قرينه ومثيله، والمنوية مجوس، وورد في مصنف أبي داود حديث وهو
القدرية مجوس هذه الأمة ومعناه الإغلاظ عليهم والذم لهم في
تشبيههم بالمجوس وموضع الشبه هو أن المجوس تقول الأفعال خيرها
خلق النور وشرها خلق الظلمة فجعلوا خالقا غير الله، والقدرية
تقول الإنسان يخلق أفعاله فجعلوا خالقا غير الله تعالى عن
قولهم، وذهب أبو المعالي إلى التشبيه بالمجوس إنما هو قول
القدرية: إن الخير من الله وإن الشر منه ولا يريده. وإنما قلنا
في الحديث إنه تغليظ لأنه قد صرح أنهم من الأمة ولو جعلهم
مجوسا حقيقة لم يضفهم إلى الأمة، وهذا كله ان لو صح الحديث
والله الموفق.
وقوله تعالى:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ الآية قال مجاهد وقتادة
والضحاك وغيرهم.. المعنى خلق آدم من طين والبشر من آدم فلذلك
قال: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وحكى المهدوي عن فرقة أنها قالت بل
المعنى أن النطفة التي يخلق منها الإنسان أصلها من طين ثم
يقلبها الله نطفة، وذكره مكي والزهراوي، والقول الأول أليق
بالشريعة لأن القول الثاني إنما يترتب على قول من يقول بأن
الطين يرجع بعد التولد والاستحالات الكثيرة نطفة، وذلك مردود
عند الأصوليين، واختلف المفسرون في هذين الأجلين، فقال الحسن
بن أبي الحسن وقتادة والضحاك، أَجَلًا أجل الإنسان من لدن
ولادته إلى موته، والأجل المسمى عنده من وقت موته
(2/266)
وَهُوَ اللَّهُ فِي
السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ
وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا
تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا
عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (5)
إلى حشره، ووصفه بمسمى عنده لأنه استأثر
بعلم وقت القيامة، وقال ابن عباس: أَجَلًا، الدنيا، أَجَلٌ
مُسَمًّى الآخرة، وقال مجاهد: أَجَلًا، الآخرة، وَأَجَلٌ
مُسَمًّى، الدنيا بعكس الذي قبله، وقال ابن عباس أيضا:
أَجَلًا، وفاة الإنسان بالنوم، وَأَجَلٌ مُسَمًّى وفاته بالموت
وقال ابن زيد، الأجل الأول هو في وقت أخذ الميثاق على بني آدم
حين استخرجهم من ظهر آدم، وبقي «أجل» واحد مسمى في هذه الحياة
الدنيا، وحكى المهدوي عن فرقة أَجَلًا، ما عرف الناس من آجال
الأهلة والسنين والكوائن، وَأَجَلٌ مُسَمًّى قيام الساعة، وحكي
أيضا عن فرقة أَجَلًا ما عرفناه من أنه لا نبي بعد محمد صلى
الله عليه وسلم، وَأَجَلٌ مُسَمًّى الآخرة.
قال القاضي أبو محمد: رضي الله عنه. وينبغي أن تتأمل لفظة قَضى
في هذه الآية فإنها تحتمل معنيين، فإن جعلت بمعنى قدر وكتب
ورجعت إلى سابق علمه وقدره فيقول إن ذلك ولا بد قبل خلقه آدم
من طين، وتخرج ثم من معهودها في ترتيب زمني وقوع القصتين ويبقى
لها ترتيب زمني الإخبار عنه، كأنه قال:
أخبركم أنه خلقكم من طين ثم أخبركم أنه قضى أجلا، وإن جعلت
قَضى بمعنى أوجد وأظهر ويرجع ذلك إلى صفة فعل فيصح أن يكون خلق
آدم من طين قبل إظهار هذا الأجل وإبدائه وتكون ثم على بابها في
ترتيب زمني وقوع القضيتين، وتَمْتَرُونَ معناه تشكون، والمرية
الشك، وقوله: ثُمَّ أَنْتُمْ على نحو قوله:
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ في التوبيخ
على سوء الفعل بعد مهلة من وضوح الحجج.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 3 الى 5]
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ
سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) وَما
تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا
عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ (5)
قاعدة الكلام في هذه الآية أن حلول الله تعالى في الأماكن
مستحيل وكذلك مماسته للأجرام أو محاداته لها أو تحيز لا في جهة
لامتناع جواز التقرب عليه تبارك وتعالى، فإذا تقرر هذا فبين أن
قوله تعالى:
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ليس على حد
قولنا زيد في الدار بل هو على وجه من التأويل آخر، قالت فرقة
ذلك على تقدير صفة محذوفة من اللفظ ثابتة في المعنى، كأنه قال
وهو الله المعبود في السماوات وفي الأرض، وعبر بعضهم بأن قدر
هو الله المدبر للأمر في «السماوات وفي الأرض» ، وقال الزجاج
فِي متعلقة بما تضمنه اسم الله تعالى من المعاني كما يقال:
أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازا
لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى، وإيضاحه أنه أراد أن يدل على خلقه
وإيثار قدرته وإحاطته واستيلائه ونحو هذه الصفات فجمع هذه كلها
في قوله:
وَهُوَ اللَّهُ أي الذي له هذه كلها «في السماوات وفي الأرض»
كأنه وهو الخالق الرازق المحيي المحيط «في السماوات وفي الأرض»
كما تقول زيد السلطان في الشام والعراق، فلو قصدت ذات زيد لقلت
(2/267)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي
الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ
عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا
مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
محالا، وإذا كان مقصد قوله زيد الآمر
الناهي المبرم الذي يعزل ويولي في الشام والعراق فأقمت السلطان
مقام هذه كان فصيحا صحيحا، فكذلك في الآية أقام لفظة اللَّهُ
مقام تلك الصفات المذكورة، وقالت فرقة وَهُوَ اللَّهُ ابتداء
وخبرتم الكلام عنده، ثم استأنف، وتعلق قوله فِي السَّماواتِ
بمفعول يَعْلَمُ، كأنه قال «وهو الله يعلم سركم وجهركم في
السماوات وفي الأرض» فلا يجوز مع هذا التعليق أن يكون هُوَ
ضمير أمر وشأن لأنه يرفع اللَّهُ بالابتداء، ويَعْلَمُ في موضع
الخبر، وقد فرق فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ بين الابتداء
والخبر وهو ظرف غريب من الجملة، ويلزم قائلي هذه المقالة أن
تكون المخاطبة في الكاف في قوله:
سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ لجميع المخلوقين الإنس والملائكة، لأن
الإنس لا سر ولا جهر لهم في السماء، فترتيب الكلام على هذا
القول وهو الله يعلم يا جميع المخلوقين «سركم وجهركم في
السماوات وفي الأرض» ، وقالت فرقة وَهُوَ ضمير الأمر والشأن و
«الله في السماوات» ابتداء وخبرتم الكلام عنده، ثم ابتدأ كأنه
قال «ويعلم في الأرض سركم وجهركم» ، وهذا القول إذ قد تخلص من
لزوم المخاطبة الملائكة فهو مخلص من شبهة الكون في السماء
بتقدير حذف المعبود أو المدبر على ما تقدم، وقوله تعالى:
يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ
خبر في ضمنه تحذير وزجر، وتَكْسِبُونَ لفظ عام لجميع
الاعتقادات والأفعال والأقوال.
وقوله تعالى:
وَما تَأْتِيهِمْ الآية، ما نافية ومِنْ الأولى هي الزائدة
التي تدخل على الأجناس بعد النفي، فكأنها تستغرق الجنس، ومِنْ
الثانية للتبعيض، والآية العلامة والدلالة والحجة، وقد تقدم
القول في وزنها في صدر الكتاب، وتضمنت هذه الآية مذمة هؤلاء
الذين يعدلون بالله سواه بأنهم يعرضون عن كل آية ترد عليهم، ثم
اقتضت الفاء في قوله فَقَدْ أن إعراضهم عن الآيات قد أعقب أن
كذبوا بالحق وهو محمد عليه السلام وما جاء به، ثم توعدهم بأن
يأتيهم عقاب استهزائهم، وما بمعنى الذي، ويصح أن تكون مصدرية،
وفي الكلام حذف مضاف تقديره يأتيهم مضمن أنباء القرآن الذي
كانوا به يستهزئون، وإن جعلت ما مصدرية فالتقدير يأتيهم نبأ
كونهم مستهزئين، أي عقاب يخبرون أنه على ذلك الاستهزاء، وهذه
العقوبات التي توعدوا بها تعم عقوبات الدنيا كبدر وغيرها
وعقوبات الآخرة.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 6]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ
وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا
الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ
بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
(6)
هذا حض على العبرة، والرؤية هنا رؤية القلب، وكَمْ في موضع نصب
ب أَهْلَكْنا، والقرن والأمة المقترنة في مدة من الزمان، ومنه
قوله عليه السلام: خير الناس قرني الحديث، واختلف الناس في مدة
القرن كم هي؟ فالأكثر على أنها مائة سنة، ويرجح ذلك الحديث
الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة منها لا يبقى ممن هو
اليوم على ظهر الأرض أحد» قال ابن عمر:
(2/268)
وَلَوْ نَزَّلْنَا
عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ
لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
(7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ
أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ
(8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا
وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
يريد أنها تحرم ذلك القرن، وروي أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بشير: تعيش قرنا
فعاش مائة سنة، وقيل: القرن ثمانون سنة، وقيل سبعون وقيل ستون،
وتمسك هؤلاء بالمعترك وحكى النقاش أربعين وذكر الزهراوي في ذلك
أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحكى النقاش أيضا ثلاثين،
وحكى عشرين، وحكى ثمانية عشر وهذا كله ضعيف، وهذه طبقات وليست
بقرون إنما القرن أن يكون وفاة الأشياخ ثم ولادة الأطفال،
ويظهر ذلك من قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ
قَرْناً آخَرِينَ وإلى مراعاة الطبقات وانقراض الناس بها أشار
ابن الماجشون في الواضحة في تجويز شهادة السماع في تقادم خمسة
عشر عاما فصاعدا، وقيل القرن الزمن نفسه، وهو على حذف مضاف
تقديره من أهل قرن، والضمير في مَكَّنَّاهُمْ عائد على القرن،
والمخاطبة في لَكُمْ هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم من سائر
الناس، فكأنه قال: ما لم نمكن يا أهل العصر لكم، فهذا أبين ما
فيه، ويحتمل أن يقدر في الآية معنى القول لهؤلاء الكفرة، كأنه
قال يا محمد قل لهم: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ، ما لَمْ
نُمَكِّنْ لَكُمْ وإذا أخبرت أنك قلت لغائب أو قيل له أو أمرت
أن يقال فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة
بعينها فتجيء بلفظ المخاطبة، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ
بذكر غائب دون مخاطبة السَّماءَ المطر ومنه قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
ومِدْراراً بناء تكثير كمذكار ومئناث، ومعناه يدر عليهم بحسب
المنفعة، لأن الآية إنما سياقها تعديد النعم وإلا فظاهرها
يحتمل النعمة ويحتمل الإهلاك وتحتمل الآية أن تراد السماء
المعروفة على تقدير وأرسلنا مطر السماء لأن مدرارا لا يوصف به
إلا المطر، وقوله تعالى: فَأَهْلَكْناهُمْ معناه فعصوا وكفروا
فَأَهْلَكْناهُمْ، وَأَنْشَأْنا اخترعنا وخلقنا، وجمع آخَرِينَ
حملا على معنى القرن.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 9]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ
بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ
سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ
وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا
يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ
رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)
لما أخبر عنهم عز وجل بأنهم كذبوا بكل ما جاءهم من آية تبع ذلك
إخبار فيه مبالغة مضمنه أنه لو جاءهم أشنع مما جاء لكذبوا
أيضا، والمعنى لَوْ نَزَّلْنا بمرأى منهم عليك كِتاباً أي
كلاما مكتوبا فِي قِرْطاسٍ أي في صحيفة، ويقال «قرطاس» بضم
القاف فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ يريد أنهم بالغوا في ميزه
وتقليبه ليرتفع كل ارتياب لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم وقالوا
هذا سحر مبين، ويشبه أن سبب هذه الآية اقتراح عبد الله بن أبي
أمية وتعنته إذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم، لا أؤمن لك حتى
تصعد إلى السماء ثم تنزل بكتاب فيه من رب العزة إلى عبد الله
بن أبي أمية، يأمرني بتصديقك، وما أراني مع هذا كنت أصدقك، ثم
أسلم بعد ذلك عبد الله وقتل شهيدا في الطائف، وقوله تعالى:
وَقالُوا لَوْلا
(2/269)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ
بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ
مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ (11)
أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ
الآية حكاية عمن تشطط من العرب بأن طلب أن ينزل ملك يصدق محمدا
في نبوءته ويعلم عن الله عز وجل أنه حق، فرد الله تعالى عليهم
بقوله: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ وقال
مجاهد:
معناه لقامت القيامة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا ضعيف، وقال قتادة
والسدي وابن عباس رضي الله عنه:
في الكلام حذف تقديره ولو «أنزلنا ملكا فكذبوا به لقضي الأمر»
بعذابهم ولم ينظروا حسبما سلف في كل أمة اقترحت بآية وكذبت بعد
أن ظهرت إليها، وهذا قول حسن، وقالت فرقة لَقُضِيَ الْأَمْرُ
أي لماتوا من هول رؤية الملك في صورته، ويؤيد هذا التأويل ما
بعده من قوله: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا
فإن أهل التأويل مجمعون أن ذلك لأنهم لم يكونوا يطيقون رؤية
الملك في صورته، فالأولى في قوله لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لماتوا
من هول رؤيته، يُنْظَرُونَ معناه يؤخرون، والنظرة التأخير،
وقوله عز وجل: وَلَوْ جَعَلْناهُ الآية المعنى أنّا لو جعلناه
ملكا لجعلناه ولا بد في خلق رجل لأنهم لا طاقة لهم على رؤية
الملك في صورته، وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد.
قال القاضي أبو محمد: ومما يؤيد هذا المعنى الحديث الوارد عن
الرجلين اللذين صعدا على الجبل يوم بدر ليريا ما يكون في حرب
النبي عليه السلام للمشركين، فسمعا حس الملائكة وقائلا يقول في
السماء، أقدم حيزوم فمات أحدهما لهول ذلك، فكيف برؤية ملك في
خلقته، ولا يعارض هذا برؤية النبي عليه السلام لجبريل وغيره في
صورهم، لأن النبي عليه السلام أعطي قوة غير هذه كلها صلى الله
عليه وسلم، وَلَلَبَسْنا أي لخلطنا عليهم ما يخلطون به على
أنفسهم وعلى ضعفتهم، أي لفعلنا لهم في ذلك فعلا ملبسا يطرق لهم
إلى أن يلبسوا به، وذلك لا يحسن، ويحتمل الكلام مقصدا آخر، أي
«للبسنا» نحن عليهم كما «يلبسون» هم على ضعفتهم فكنا ننهاهم عن
التلبيس ونفعله بهم، ويقال: لبس الرجل الأمر يلبسه لبسا إذا
خلطه، وقرأ ابن محيصن: «ولبّسنا» بفتح اللام وشد الباء، وذكر
بعض الناس في هذه الآية: أنها نزلت في أهل الكتاب، وسياق
الكلام ومعانيه يقتضي أنها في كفار العرب.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ
بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ
(10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
قرىء «ولقد» بضم الدال مراعاة للضمة بعد الساكن الذي بعد
الدال، وقرىء بكسر الدال على عرف الالتقاء، وهذه تسلية للنبي
صلى الله عليه وسلم بالأسوة في الرسل وتقوية لنفسه على محاجّة
المشركين وإخبار يتضمن وعيد مكذبيه والمستهزئين، و «حاق» معناه
نزل وأحاط، وهي مخصوصة في الشر، يقال حاق يحيق حيقا ومنه قول
الشاعر:
فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم ... وحاق بهم من بأس ضبة حائق
وقال قوم: أصل حاق حق فبدلت القاف الواحدة كما بدلت النون في
تظننت.
(2/270)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا
رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وما في
قوله: ما كانُوا يصح أن تكون مع الفعل بتأويل المصدر، كأنه
قال: استهزاؤهم، وهذه كناية عن العقوبة كما تهدد إنسانا فتقول
سيلحقك عملك، المعنى عاقبته، وسخروا معناه استهزؤوا.
وقوله تعالى:
قُلْ سِيرُوا الآية، حض على الاعتبار بآثار من مضى ممن فعل
فعلهم، وقال كانَ ولم يقل كانت لأن تأنيث العاقبة ليس بحقيقي،
وهي بمعنى الآخر والمآل، ومعنى الآية سِيرُوا وتلقوا ممن سار
لأن العبرة بآثار من مضى إنما يستند إلى حس العين.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 13]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ
كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى
يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
قال بعض أهل التأويل: في الكلام حذف تقديره: قُلْ لِمَنْ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ فإذا تحيروا ولم يجيبوا، قل لله،
وقالت فرقة: المعنى أنه أمر بهذا السؤال فكأنهم لما لم يجيبوا
ولا تيقنوا سألوا فقيل له: قل لله، والصحيح أن الله عز وجل أمر
محمدا عليه السلام بقطعهم بهذه الحجة الساطعة والبرهان القطعي
الذي لا مدافعة فيه عندهم ولا عند أحد، ليعتقد هذا المعتقد
الذي بينه وبينهم ثم يتركب احتجاجه عليه، وجاء ذلك بلفظ
استفهام وتقرير في قوله: لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ والوجه في المحاجّة إذا سأل الإنسان خصمه، بأمر لا
يدافعه الخصم فيه، أن يسبقه بعد التقرير إليه مبادرة إلى
الحجة، كما تقول لمن تريد غلبته بآية تحتج بها عليه، كيف قال
الله في كذا؟ ثم تسبقه أنت إلى الآية فتنصها عليه، فكأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لهم: يا أيها الكافرون العادلون بربهم
لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ ثم سبقهم فقال:
لِلَّهِ، أي لا مدافعة في هذا عندكم ولا عند أحد، ثم ابتدأ
يخبر عنه تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ معناه قضاها
وأنفذها. وفي هذا المعنى أحاديث عن النبي عليه السلام تتضمن
كتب الرحمة، ومعلوم من غير ما موضع من الشريعة أن ذلك للمؤمنين
في الآخرة ولجميع الناس في الدنيا، منها أن الله تعالى خلق
مائة رحمة فوضع منها واحدة في الأرض فيها تتعاطف البهائم وترفع
الفرس رجلها لئلا تطأ ولدها. وبها تتعاطف الطير والحيتان،
وعنده تسع وتسعون رحمة، فإذا كان يوم القيامة صير تلك الرحمة
مع التسعة والتسعين وبثها في عباده.
قال القاضي أبو محمد: فما أشقى من لم تسعه هذه الرحمات تغمدنا
الله بفضل منه، ومنها حديث آخر أن الله عز وجل كتب عنده كتابا
فهو عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي، ويروى: نالت غضبي،
ومعناه سبقت، وأنشد عليه ثابت بن قاسم:
(2/271)
أبني كليب إنّ عمّيّ اللّذا ... نالا
الملوك وفككا الأغلالا
ويتضمن هذا الإخبار عن الله تعالى بأنه كتب الرحمة تأنيس
الكفار ونفي يأسهم من رحمة الله إذا تابوا، وأن باب توبتهم
مفتوح، قال الزجاج: الرَّحْمَةَ هنا إمهال الكفار وتعميرهم
ليتوبوا، وحكى المهدوي: أن جماعة من النحويين قالت: إن
لَيَجْمَعَنَّكُمْ هو تفسير الرَّحْمَةَ تقديره: أن يجمعكم
فيكون لَيَجْمَعَنَّكُمْ في موضع نصب على البدل من
الرَّحْمَةَ، وهو مثل قوله: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما
رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [يوسف: 35]
المعنى: أن يسجنوه.
قال القاضي أبو محمد: يلزم على هذا القول أن تدخل النون
الثقيلة في الإيجاب، وهو مردود، وإنما تدخل في الأمر والنهي
وباختصاص الواجب في القسم، وقالت فرقة وهو الأظهر: إن اللام
لام قسم والكلام مستأنف، ويتخرج ذلك في لَيَسْجُنُنَّهُ، وقالت
فرقة إِلى بمعنى في وقيل على بابها غاية وهو الأرجح، ولا
رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه، أي هو في نفسه وذاته لا ريب فيه،
وقوله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ الآية قيل إن
الَّذِينَ منادى.
قال القاضي أبو محمد: وهو فاسد لأن حرف النداء لا يسقط مع
المبهمات، وقيل: هو نعت المكذبين الذين تقدم ذكرهم، وقيل: هو
بدل من الضمير في لَيَجْمَعَنَّكُمْ، قال المبرد: ذلك لا يجوز
كما لا يجوز مررت بك زيد.
قال القاضي أبو محمد: وقوله في الآية لَيَجْمَعَنَّكُمْ مخالف
لهذا المثال لأن الفائدة في البدل مترقبة من الثاني وإذا قلت
مررت بك زيد فلا فائدة في الثاني، وقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ
يصلح لمخاطبة الناس كافة فيفيدنا إبدال الَّذِينَ من الضمير
أنهم هم المختصون بالخطاب هنا، وخصوا على جهة الوعيد، ويتضح
فيها الوعيد إذا جعلنا اللام للقسم وهو القول الصحيح، ويجيء
هذا بدل البعض من الكل، وقال الزجاج الَّذِينَ رفع بالابتداء
وخبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، وهذا قول حسن، والفاء في قوله:
فَهُمْ جواب على القول بأن الَّذِينَ رفع بالابتداء لأن معنى
الشرط حاصل تقديره، من خسر نفسه فهو لا يؤمن، وعلى القول بأن
الَّذِينَ بدل من الضمير هي عاطفة جملة على جملة، وخَسِرُوا
معناه غبنوا أنفسهم بأن وجب عليها عذاب الله وسخطه، ومنه قول
الشاعر [الأعشى] : [السريع]
لا يأخذ الرّشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
وقوله تعالى: وَلَهُ ما سَكَنَ الآية وَلَهُ عطف على قوله
لِلَّهِ واللام للملك، وما بمعنى الذي، وسَكَنَ هي من السكنى
ونحوه أي ما ثبت وتقرر، قاله السدي وغيره وقالت فرقة: هو من
السكون، وقال بعضهم: لأن الساكن من الأشياء أكثر من المتحرك
إلى غير هذا من القول الذي هو تخليط، والمقصد في الآية عموم كل
شيء وذلك لا يترتب إلا أن يكون سَكَنَ بمعنى استقر وثبت وإلا
فالمتحرك من الأشياء المخلوقات أكثر من السواكن، ألا ترى إلى
الفلك والشمس والقمر والنجوم السابحة والملائكة وأنواع الحيوان
والليل والنهار حاصران للزمان وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
هاتان صفتان تليقان بنمط الآية من قبل أن ما ذكر قبل من
الأقوال الردية عن الكفرة العادلين هو سميع لهم عليم بمواقعها
مجاز عليها، ففي الضمير وعيد.
(2/272)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ
أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ
يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ
أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ
وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 14 الى 16]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي
أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ
رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ
يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
قال الطبري وغيره: أمر أن يقول هذه المقالة للكفرة الذين دعوه
إلى عبادة أوثانهم، فتجيء الآية على هذا جوابا لكلامهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل يحتاج إلى سند في أن هذا
نزل جوابا وإلا فظاهر الآية لا يتضمنه، والفصيح هو أنه لما قرر
معهم أن الله تعالى له ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
[الأنعام: 12] وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ
[الأنعام: 13] وأنه سميع عليم أمر أن يقول لهم على جهة التوبيخ
والتوقيف أَغَيْرَ هذا الذي هذه صفاته أَتَّخِذُ وَلِيًّا
بمعنى أن هذا خطأ لو فعلته بين. وتعطي قوة الكلام أن من فعله
من سائر الناس بين الخطأ، وأَتَّخِذُ عامل في قوله أَغَيْرَ
وفي قوله: وَلِيًّا تقدم أحد المفعولين، والولي لفظ عام لمعبود
وغير ذلك من الأسباب الواصلة بين العبد وربه، ثم أخذ في صفات
الله تعالى فقال: فاطِرِ بخفض الراء نعت لله تعالى، وفطر معناه
ابتدع وخلق وأنشأ وفطر أيضا في اللغة: شق، ومنه هَلْ تَرى مِنْ
فُطُورٍ [الملك: 3] أي من شقوق، ومن هذا انفطار السماء، وفي
هذه الجهة يتمكن قولهم فطر ناب البعير إذا خرج لأنه يشق اللثة،
وقال ابن عباس ما كنت أعرف معنى فاطِرِ السَّماواتِ حتى اختصم
إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي اخترعتها
وأنشأتها.
قال القاضي أبو محمد: فحمله ابن عباس على هذه الجهة، ويصح
حمله، على الجهة الأخرى أنه شق الأرض والبئر حين احتفرها، وقرأ
ابن أبي عبلة: «فاطر» برفع الراء على خبر ابتداء مضمر أو على
الابتداء يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ المقصود به يرزق ولا يرزق،
وخص الإطعام من أنواع الرزق لمسّ الحاجة إليه وشهرته واختصاصه
بالإنسان، وقرأ يمان العماني وابن أبي عبلة «يطعم» بضم الياء
وكسر العين في الثاني مثل الأول يعني الوثن أنه لا يطعم وقرأ
مجاهد وسعيد بن جبير والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو
عمرو بن العلاء في رواية عنه في الثاني «ولا يطعم» بفتح الياء
على مستقبل طعم فهي صفة تتضمن التبرية أي لا يأكل ولا يشبه
المخلوقين، وقوله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ إلى عَظِيمٍ قال
المفسرون: المعنى أول من أسلم من هذه الأمة وبهذه الشريعة، ولا
يتضمن الكلام إلا ذلك، قال طائفة: في الكلام حذف تقديره: وقيل
لي ولا تكونن من الممترين.
قال القاضي أبو محمد: وتلخيص هذا أنه عليه السلام أمر فقيل له
كن أول من أسلم ولا تكونن من المشركين فلما أمر في الآية أن
يقول ما أمر به جاء بعض ذلك على المعنى وبعضه باللفظ بعينه
ولفظة عَصَيْتُ عامة في أنواع المعاصي، ولكنها هاهنا إنما تشير
إلى الشرك الذي نهي عنه، واليوم العظيم هو يوم القيامة وقرأ
ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «من يصرف عنه» بضم
الياء وفتح الراء، والمفعول
(2/273)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ
اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ
يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ (18)
الذي أسند إليه الفعل هو الضمير العائد على
العذاب فهو مقدر، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم أيضا: «من يصرف
عنه» فيسند الفعل إلى الضمير العائد إلى رَبِّي ويعمل في ضمير
العذاب المذكور آنفا لكنه مفعول محذوف وحكي أنه ظهر في قراءة
عبد الله وهي «من يصرفه عنه يومئذ» ، وفي قراءة أبيّ بن كعب
«من يصرفه الله عنه» وقيل: إنها من يصرف الله عنه، قال أبو علي
وحذف هذا الضمير لا يحسن كما يحسن حذف الضمير من الصلة كقوله
عز وجل: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: 41]
وكقوله: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: 59]
معناه بعثه واصطفاهم فحسن هذا للطول كما علله سيبويه، ولا يحسن
هذا لعدم الصلة، قال بعض الناس القراءة بفتح الياء «من يصرف»
أحسن لأنه يناسب فَقَدْ رَحِمَهُ وكان الأولى على القراءة
الأخرى «فقد رحم» ليتناسب الفعلان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا توجيه لفظي تعلقه خفيف، وأما
بالمعنى فالقراءتان واحد، ورجح قوم قراءة ضم الياء لأنها أقل
إضمارا، وأشار أبو علي إلى تحسين القراءة بفتح الياء بما
ذكرناه، وأما مكي بن أبي طالب رحمه الله فتخبط في كتاب الهداية
في ترجيح القراءة بفتح الياء، ومثل في احتجاجه بأمثلة فاسدة
والله ولي التوفيق، ورحم عامل في الضمير المتصل وهو ضمير من
ومستند إلى الضمير العائد إلى ربي، وقوله: وَذلِكَ إشارة إلى
صرف العذاب وإلى الرحمة، والفوز والنجاة.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 17 الى 18]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ
هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ
الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
يَمْسَسْكَ معناه يصبك وينلك، وحقيقة المس هي بتلافي جسمين
فكأن الإنسان والضر يتماسان، و «الضّر» بضم الضاد سوء الحال في
الجسم وغيره، «والضّر» بفتح الضاد ضد النفع، وناب الضر في هذه
الآية مناب الشر وإن كان الشر أعم منه فقابل الخير، وهذا من
الفصاحة عدول عن قانون التكلف والصنعة فإن باب التكلف وترصيع
الكلام أن يكون الشيء مقترنا بالذي يختص به بنوع من أنواع
الاختصاص موافقة أو مضادة، فمن ذلك قوله تعالى: إِنَّ لَكَ
أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا
فِيها وَلا تَضْحى [طه: 118، 119] فجعل الجوع مع العري وبابه
أن يكون مع الظمأ ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
كأنّي لم أركب جوادا للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبإ الزّقّ الرّويّ ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّة بعد
إجفال
وهذا كثير، قال السدي «الضر» هاهنا المرض والخير العافية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مثال ومعنى الآية الإخبار عن أن
الأشياء كلها بيد الله إن ضر فلا كاشف لضره غيره وإن أصاب بخير
فكذلك أيضا لا راد له ولا مانع منه، هذا تقرير الكلام، ولكن
وضع بدل هذا المقدر لفظا أعم منه يستوعبه وغيره، وهو قوله:
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ودل ظاهر الكلام على المقدر فيه،
(2/274)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ
وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ
آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ
وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
وقوله: عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عموم أي
على كل شيء جائز أن يوصف الله تعالى بالقدرة عليه، وقوله
تعالى: وَهُوَ الْقاهِرُ الآية، أي وهو عز وجل المستولي
المقتدر، وفَوْقَ نصب على الظرف لا في المكان بل في المعنى
الذي تضمنه لفظ القاهر، كما تقول زيد فوق عمرو في المنزلة،
وحقيقة فوق في الأماكن، وهي في المعاني مستعارة شبه بها من هو
رافع رتبة في معنى ما، لما كانت في الأماكن تنبىء حقيقة عن
الأرفع وحكى المهدوي: أنها بتقدير الحال، كأنه قال: وهو القاهر
غالبا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يسلم من الاعتراض أيضا والأول
عندي أصوب: و «العباد» بمعنى العبيد وهما جمعان للعبد أما أنا
نجد ورود لفظة العباد في القرآن وغيره في مواضع تفخيم أو ترفيع
أو كرامة، وورود لفظة العبيد في تحقير أو استضعاف أو قصد ذم،
ألا ترى قول امرئ القيس: [السريع]
قولا لدودان عبيد العصا
ولا يستقيم أن يقال هنا عباد العصا وكذلك الذين سموا العباد لا
يستقيم أن يقال لهم العبيد لأنهم أفخم من ذلك، وكذلك قول حمزة
رضي الله عنه وهل أنتم إلا عبيد لأبي، لا يستقيم فيه عباد،
والْحَكِيمُ بمعنى المحكم، والْخَبِيرُ دالة على مبالغة العلم،
وهما وصفان مناسبان لنمط الآية.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 19]
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ
لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ
أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ
إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ (19)
أَيُّ استفهام، وهي معربة مع إبهامها، وإنما كان ذلك لأنها
تلتزم الإضافة ولأنها تتضمن علم جزء من المستفهم عنه غير معين،
لأنك إذا قلت أي الرجلين جاءنا فقد كنت تعلم أن أحدهما جاء غير
معين فأخرجها هذان الوجهان عن غمرة الإبهام فأعربت، وتتضمن هذه
الآية أن الله عز وجل يقال عليه شَيْءٍ كما يقال عليه موجود،
ولكن ليس كمثله تبارك وتعالى شيء، وشَهادَةً نصب على التمييز
ويصح على المفعول بأن يحمل أَكْبَرُ على التشبيه بالصفة
المشبهة باسم الفاعل وهذه الآية مثل قوله تعالى قُلْ لِمَنْ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الأنعام: 12] في أن
استفهم على جهة التوقيف والتقدير ثم بادر إلى الجواب إذ لا
تتصور فيه مدافعة، وهذا كما تقول لمن تخاصمه وتتظلم منه من
أقدر من في البلد ثم تبادر وتقول السلطان فهو يحول بيننا، ونحو
هذا من الأمثلة، فتقدير الآية أنه قال لهم أي شيء أكبر شهادة
الله أكبر شهادة، فهو شهيد بيني وبينكم، ف اللَّهُ رفع
بالابتداء وخبره مضمر يدل عليه ظاهر الكلام كما قدرناه،
وشَهِيدٌ خبر ابتداء مضمر.
وقال مجاهد المعنى أن الله تعالى قال لنبيه عليه السلام: قل
لهم: أي شيء أكبر شهادة؟ وقل لهم:
الله شهيد بيني وبينكم لما عيوا عن الجواب، ف شَهِيدٌ على هذا
التأويل خبر لله وليس في هذا التأويل مبادرة من السائل إلى
الجواب المراد بقوله: شَهِيدٌ، بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي في
تبليغي، وقرأت فرقة: «وأوحى إليّ
(2/275)
الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ
أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى
اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ (21)
هذا القرآن» على الفعل الماضي ونصب القرآن
وفي «أوحى» ضمير عائد على الله تعالى من قوله قُلِ اللَّهُ،
وقرأت فرقة «وأوحي» على بناء الفعل للمفعول «القرآن» رفعا،
لِأُنْذِرَكُمْ معناه لأخوفكم به العقاب والآخرة، وَمَنْ عطف
على الكاف والميم في قوله: لِأُنْذِرَكُمْ وبَلَغَ معناه على
قول الجمهور بلاغ القرآن، أي لأنذركم وأنذر من بلغه، ففي بلغ
ضمير محذوف لأنه في صلة من، فحذف لطول الكلام، وقالت فرقة ومن
بلغ الحكم، ففي بَلَغَ على هذا التأويل ضمير مقدر راجع إلى
مَنْ، وروي في معنى التأويل الأول أحاديث، منها أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس بلغوا عني ولو آية، فإنه
من بلغ آية من كتاب الله تعالى فقد بلغه أمر الله تعالى أخذه
أو تركه» ، ونحو هذا من الأحاديث كقوله «من بلغه هذا القرآن
فأنا نذيره» ، وقرأت فرقة «أأينكم» بزيادة ألف بين الهمزة
الأولى والثانية المسهلة عاملة بعد التسهيل العاملة قبل
التسهيل وقرأت فرقة «أينكم» بهمزتين الثانية مسهلة دون ألف
بينهما، وقرأت فرقة «أإنكم» استثقلت اجتماع الهمزتين فزادت
ألفا بين الهمزتين، وقرأت فرقة «أنكم» بالإيجاب دون تقدير وهذه
الآية مقصدها التوبيخ وتسفيه الرأي. وأُخْرى صفة لآلهة وصفة
جمع ما لا يعقل تجري في الإفراد مجرى الواحدة المؤنثة كقوله:
مَآرِبُ أُخْرى [طه: 18] وكذلك مخاطبته جمع ما لا يعقل كقوله:
يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ ونحو هذا، ولما كانت هذه الآلهة
حجارة وعيدانا أجريت هذا المجرى ثم أمره الله تعالى أن يعلن
بالتبري من شهادتهم. والإعلان بالتوحيد لله عز وجل والتبري من
إشراكهم، وَإِنَّنِي إيجاب ألحقت فيه النون التي تلحق الفعل
لتبقى حركته عند اتصال الضمير به في قولك ضربني ونحوه، وظاهر
الآية أنها في عبدة الأصنام وذكر الطبري أنه قد ورد من وجه لم
يثبت صحته أنها نزلت في قوم من اليهود، وأسند إلى ابن عباس
قال: جاء النحام بن زيد وفردم بن كعب وبحري بن عمرو، فقالوا:
يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره؟ فقال لهم: لا إله إلا الله
بذلك أمرت، فنزلت الآية فيهم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 20 الى 21]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما
يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى
عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
الَّذِينَ رفع بالابتداء وخبره يَعْرِفُونَهُ والْكِتابَ معناه
التوراة والإنجيل وهو لفظ مفرد يدل على الجنس، والضمير في
يَعْرِفُونَهُ عائد في بعض الأقوال على التوحيد لقرب قوله:
قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [الأنعام: 19] وهذا استشهاد في
ذلك على كفرة قريش والعرب بأهل الكتاب، والَّذِينَ خَسِرُوا
على هذا التأويل منقطع مرفوع بالابتداء وليس من صفة الَّذِينَ
الأولى، لأنه لا يصح أن يستشهد بأهل الكتاب ويذمون في آية
واحدة.
قال القاضي أبو محمد: وقد يصح ذلك لاختلاف ما استشهد فيه بهم
وما ذموا فيه، وأن الذم والاستشهاد ليس من جهة واحدة، وقال
قتادة والسدي وابن جريج: الضمير عائد في يَعْرِفُونَهُ على
محمد
(2/276)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ
جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ
شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ
تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا
مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
عليه السلام ورسالته، وذلك على ما في قوله:
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ [الأنعام:
19] فكأنه قال وأهل الكتاب يعرفون ذلك من إنذاري والوحي إليّ،
وتأول هذا التأويل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يدل على ذلك
قوله لعبد الله بن سلام إن الله أنزل على نبيه بمكة أنكم
تعرفونه كما تعرفون أبناءكم فكيف هذه المعرفة فقال عبد الله بن
سلام نعم أعرفه الصفة التي وصفه الله في التوراة فلا أشك فيه،
وأما ابني فلا أدري ما أحدثت أمه.
قال القاضي أبو محمد: وتأول ابن سلام رضي الله عنه المعرفة
بالابن تحقق صحة نسبه، وغرض الآية إنما هو الوقوف على صورته
فلا يخطىء الأب فيها، وقالت فرقة: الضمير من يَعْرِفُونَهُ
عائد على القرآن المذكور قبل.
قال القاضي أبو محمد: ويصح أن تعيد الضمير على هذه كلها دون
اختصاص، كأنه وصف أشياء كثيرة، ثم قال: أهل الكتاب
يَعْرِفُونَهُ أي ما قلنا وما قصصنا وقوله تعالى: الَّذِينَ
خَسِرُوا الآية، يصح أن يكون الَّذِينَ نعتا تابعا ل الَّذِينَ
قبله، والفاء من قوله فَهُمْ عاطفة جملة على جملة، وهذا يحسن
على تأويل من رأى في الآية قبلها أن أهل الكتاب متوعدون
مذمومون لا مستشهد بهم، ويصح أن يكون الَّذِينَ رفعا بالابتداء
على استئناف الكلام، وخبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والفاء على
هذا جواب، وخَسِرُوا معناه غبنوها، وقد تقدم، وروي أن كل عبد
له منزل في الجنة ومنزل في النار، فالمؤمنون ينزلون منازل أهل
الكفر في الجنة والكافرون ينزلون منازل أهل الجنة في النار
فهاهنا هي الخسارة بينة والربح الآخرين، وقوله تعالى: وَمَنْ
أَظْلَمُ الآية مَنْ استفهام مضمنه التوقيف والتقرير، أي لا
أحد أظلم ممن افترى، وافْتَرى معناه اختلق، والمكذب بالآيات
مفتري كذب، ولكنهما منحيان من الكفر، فلذلك نصا مفسرين، و
«الآيات» العلامات والمعجزات ونحو ذلك، ثم أوجب إِنَّهُ لا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ والفلاح بلوغ الأمل والإرادة والنجاح،
ومنه قول عبيد: [الرجز]
أفلح بما شئت فقد تبلغ بالض ... ضعف وقد يخدع الأريب
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 22 الى 24]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ
أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ
قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ
كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا
يَفْتَرُونَ (24)
قالت فرقة: لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: 21] كلام تام
معناه لا يفلحون جملة، ثم استأنف فقال: واذكر يوم نحشرهم، وقال
الطبري المعنى لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ عطفا على الظرف المقدر والكلام متصل، وقرأت طائفة
«نحشرهم» و «نقول» بالنون، وقرأ حميد ويعقوب فيهما بالياء،
وقرأ عاصم هنا وفي يونس قبل الثلاثين «نحشرهم ونقول» بالنون،
وقرأ في باقي القرآن بالياء، وقرأ أبو هريرة «نحشرهم» بكسر
الشين فيجيء الفعل على هذا حشر يحشر ويحشر، وأضاف الشركاء
إليهم لأنه
(2/277)
لا شركة لهم في الحقيقة بين الأصنام وبين
شيء وإنما وقع عليها اسم الشريك بمجرد تسمية الكفرة فأضيفت
إليهم لهذه النسبة وتَزْعُمُونَ معناه تدعون أنهم لله، والزعم
القول الأميل إلى الباطل والكذب في أكثر كلامهم، وقد يقال زعم
بمعنى ذكر دون ميل إلى الكذب، وعلى هذا الحد يقول سيبويه زعم
الخليل ولكن ذلك إنما يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته
على قائله، وقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ
إِلَّا أَنْ قالُوا الآية قرأ ابن كثير في رواية شبل عنه وعاصم
في رواية حفص وابن عامر «تكن فتنتهم» برفع الفتنة وإِلَّا أَنْ
قالُوا في موضع نصب على الخبر التقدير إلا قولهم، وهذا مستقيم
لأنه أنث العلامة في الفعل حين أسنده إلى مؤنث وهي الفتنة،
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وابن كثير أيضا
«تكن فتنتهم» بنصب الفتنة، واسم كان أَنْ قالُوا، وفي هذه
القراءة تأنيث أَنْ قالُوا وساغ ذلك من حيث كان الفتنة في
المعنى، قال أبو علي وهذا كقوله تعالى: فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثالِها [الأنعام: 160] فأنث الأمثال لما كانت الحسنات
بالمعنى وقرأ حمزة والكسائي «يكن» بالياء «فتنتهم» بالنصب واسم
كان إِلَّا أَنْ قالُوا وهذا مستقيم لأنه ذكر علامة الفعل حين
أسنده إلى مذكر، قال الزهراوي وقرأت فرقة «يكن فتنتهم» برفع
الفتنة، وفي هذه القراءة إسناد فعل مذكر العلامة إلى مؤنث،
وجاء ذلك بالمعنى لأن الفتنة بمعنى الاختبار أو المودة في
الشيء والإعجاب وقرأ أبي بن وكيع وابن مسعود والأعمش «وما كان
فتنتهم» ، وقرأ طلحة بن مصرف، «ثم كان فتنتهم» والفتنة في كلام
العرب لفظة مشتركة تقال بمعنى حب الشيء والإعجاب به كما تقول
فتنت بكذا، وتحتمل الآية هنا هذا المعنى أي لم يكن حبهم
للأصنام وإعجابهم بها واتباعهم لها لما سئلوا عنها ووقفوا على
عجزها إلا التبري منها والإنكار لها، وهذا توبيخ لهم كما تقول
لرجل كان يدعي مودة آخر ثم انحرف عنه وعاداه يا فلان لم تكن
مودتك لفلان إلا أن شتمته وعاديته، ويقال الفتنة في كلام العرب
بمعنى الاختبار، كما قال عز وجل لموسى عليه السلام:
وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طه: 40] ، وكقوله تعالى: وَلَقَدْ
فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا [ص: 34] وتحتمل الآية هاهنا
هذا المعنى لأن سؤالهم عن الشركاء وتوقيفهم اختبار، فالمعنى ثم
لم يكن اختبارنا لهم إذ لم يفد ولا أثمر، إلا إنكارهم الإشراك،
وتجيء الفتنة في اللغة على معان غير هذين لا مدخل لها في الآية
ومن قال إن أصل الفتنة الاختبار من فتنت الذهب في النار ثم
يستعار بعد ذلك في غيره فقد أخطأ لأن الاسم لا يحكم عليه بمعنى
الاستعارة حتى يقطع باستحالة حقيقته في الموضع الذي استعير له
كقول ذي الرمة: [الطويل] ولفّ الثّريّا في ملاءته الفجر ونحوه،
والفتنة لا يستحيل أن تكون حقيقة في كل موضع قيلت عليه، وقرأ
نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر والله «ربّنا» خفض
على النعت لاسم الله، وقرأ حمزة والكسائي «ربّنا» نصب على
النداء. ويجوز فيه تقدير المدح، وقرأ عكرمة وسلام بن مسكين
«والله ربّنا» برفع الاسمين وهذا على تقدير تقديم وتأخير كأنهم
قالوا ما كنا مشركين والله ربنا، وما كُنَّا مُشْرِكِينَ معناه
جحود إشراكهم في الدنيا، فروي أنهم إذا رأوا إخراج من في النار
من أهل الإيمان ضجوا فيوقفون ويقال لهم أين شركاؤكم فينكرون
طماعية منهم أن يفعل بهم ما فعل بأهل الإيمان. وأتى رجل ابن
عباس فقال: سمعت الله يقول: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا
مُشْرِكِينَ وفي أخرى وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً
[النساء: 42]
(2/278)
وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً
أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا
كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ
يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا
أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
فقال ابن عباس لما رأوا أنه لا يدخل الجنة
إلا
مؤمن قالوا تعالوا فلنجحد، وقالوا ما كنا مشركين فختم الله على
أفواههم وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثا.
قال القاضي أبو محمد: وعبد بعض المفسرين عن الفتنة هنا بأن
قالوا معذرتهم، قاله قتادة، وقال آخرون كلامهم قاله الضحاك،
وقيل غير هذا مما هو كله في ضمن ما ذكرناه، وقوله تعالى
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا الآية، الخطاب لمحمد عليه السلام
والنظر نظر القلب، وقال كذبوا في أمر لم يقع إذ هي حكاية يوم
القيامة فلا إشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل،
ويفيدنا استعمال الماضي تحقيقا ما في الفعل وإثباتا له، وهذا
مهيع في اللغة، ومنه قول الربيع بن ضبع الفزاري: [المنسرح]
أصبحت لا أحمل السّلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
يريد أن ينفر وَضَلَّ عَنْهُمْ معناه ذهب افتراؤهم في الدنيا
وكذبهم بادعائهم لله تبارك وتعالى الشركاء.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 25]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ
وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى
إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
الضمير في قوله وَمِنْهُمْ عائد على الكفار الذين تضمنهم قبل
قوله يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً [الأنعام: 22] وأفرد
يَسْتَمِعُ وهو فعل جماعة حملا على لفظ مَنْ وأَكِنَّةً جمع
كنان وهو الغطاء الجامع، ومنه كنانة السهام والكنّ، ومنه قوله
تعالى: بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات: 49] ومنه قول الشاعر:
[الطويل]
إذا ما انتضوها في الوغى من أكنّة ... حسبت بروق الغيث هاجت
غيومها
وفعال وأفعلة مهيع في كلامهم وأَنْ يَفْقَهُوهُ نصب على
المفعول من أجله أي كراهية أن يفهموه، وقيل المعنى أن لا
يفقهوه، ويلزم هذا القول إضمار حرف النفي، ويَفْقَهُوهُ معناه
يفهموه، ويقال فقه الرجل بكسر القاف إذا فهم الشيء وفقه بضمها:
إذا صار فقيها له ملكة، وفقه إذا غلب في الفقه غيره، والوقر:
الثقل في السمع، يقال وقرت أذنه ووقرت بكسر القاف وفتحها، ومنه
قول الشاعر: [الرمل]
وكلام سيّء قد وقرت ... أذني وما بي من صمم
وقد سمع أذن موقورة فالفعل على هذا وقرت، وقرأ طلحة بن مصرف:
«وقرا» بكسر الواو كأنه ذهب إلى أن آذانهم وقرت بالصمم كما
توقر الدابة من الحمل وهي قراءة شاذة، وهذا عبارة عما جعل الله
في نفوس هؤلاء القوم من الغلط والبعد عن قبول الخير لا أنهم لم
يكونوا سامعين لأقواله، وقوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ
آيَةٍ الآية، الرؤية هنا الرؤية العين يريد كانشقاق القمر
وشبهه.
قال القاضي أبو محمد: ومقصد هذه الآية أنهم في أعجز درجة
وحاولوا رد الحق بالدعوى المجردة
(2/279)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ
عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا
أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ
وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ
وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (27)
والواو في قوله وَجَعَلْنا واو الحال
والباب أن يصرح معها بقد، وقد تجيء أحيانا مقدرة، وإيضاح ذلك
أنه تعالى قال ومن هؤلاء الكفرة من يستمعك وهو من الغباوة في
حد قلبه في كنان وأذنه صماء وهو يرى الآيات فلا يؤمن بها لكنه
مع بلوغه الغاية من هذه القصور إذا جاء للمجادلة قابل بدعوى
مجردة. والمجادلة المقابلة في الاحتجاج مأخوذ من الجدل، وهذا
في قولهم إشارة إلى القرآن، والأساطير جمع أسطار كأقوال
وأقاويل ونحوه، وأسطار جمع سطر وسطر، وقيل الأساطير جمع أسطارة
وهي النزهات، وقيل جمع أسطورة كأعجوبة وأضحوكة، وقيل هو اسم
جمع لا واحد من لفظه كعبابيد وشماميط والمعنى أخبار الأولين
وقصصهم وأحاديثهم التي تسطر وتحكى ولا تحقق كالتواريخ وإنما
شبهها الكفار بأحاديث النضر بن الحارث وأبي عبد الله بن أبي
أمية عن رستم والسندباد، ومجادلة الكفار كانت مرادّتهم نور
الله بأفواههم المبطلة، وقد ذكر الطبري عن ابن عباس أنه مثل من
ذلك قولهم: إنكم أيها المتبعون محمدا تأكلون ما قتلتم بذبحكم
ولا تأكلون ما قتل الله، ونحو هذا من التخليط الذي لا تتركب
منه حجة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا جدال في حكم، والذي في الآية إنما
هو جدال في مدافعة القرآن، فلا تتفسر الآية عندي بأمر الذبح.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 26 الى 27]
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ
يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ
تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا
نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (27)
الضمير في قوله: وَهُمْ عائد على المذكورين قبل، والضمير في
عَنْهُ قال قتادة ومجاهد يعود على القرآن المتقدم ذكره في قوله
أن يفهموه وقال ابن عباس وابن الحنفية والضحاك هو عائد على
محمد عليه السلام والمعنى أنهم ينهون غيرهم ويبعدون هم بأنفسهم
و «النأي» البعد، وَإِنْ يُهْلِكُونَ معناه ما يهلكون إلا
أنفسهم بالكفر الذي يدخلهم جهنم، وقال ابن عباس أيضا والقاسم
وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار المراد بقوله وَهُمْ
يَنْهَوْنَ عَنْهُ أبو طالب ومن كان معه على حماية رسول الله
صلى الله عليه وسلم وعلى الدوام في الكفر، والمعنى وهم ينهون
عنه من يريد إذايته وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ بإيمانهم واتباعهم فهم
يفعلون الشيء وخلافه، ويقلق على هذا القول رد قوله وَهُمْ على
جماعة الكفار المتقدم ذكرها، لأن جميعهم لم يكن ينهى عن إذاية
النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: ويتخرج ذلك ويحسن على أن تقدر القصد ذكر
ما ينعى على فريق فريق من الجماعة التي هي كلها مجمعة على
الكفر، فخرجت العبارة عن فريق من الجماعة بلفظ يعم الجماعة،
لأن التوبيخ على هذه الصورة أغلظ عليهم، كما تقول إذا شنعت على
جماعة فيها زناة وسرقة وشربة خمر هؤلاء يزنون ويسرقون ويشربون
الخمر وحقيقة كلامك أن بعضهم يفعل هذا وبعضهم يفعل هذا، فكأنه
قال: من هؤلاء الكفرة من يستمع وهم ينهون عن إذايته ولا يؤمنون
به، أي: منهم من يفعل ذلك، وَما يَشْعُرُونَ معناه: ما يعلمون
علم حسّ، وهو مأخوذ من الشعار الذي يلي بدن الإنسان، والشعار
مأخوذ من الشعر،
(2/280)
ونفي الشعور مذمة بالغة إذ البهائم تشعر
وتحس، فإذا قلت لا يشعر فقد نفيت عنه العلم النفي العام الذي
يقتضي أنه لا يعلم ولا المحسوسات.
قال القاضي أبو محمد: وقرأ الحسن «وينون عنه» ألقيت حركة
الهمزة على النون على التسهيل القياسي، وقوله تعالى: وَلَوْ
تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ الآية المخاطبة فيه لمحمد
صلى الله عليه وسلم، وجواب لَوْ محذوف، تقديره في آخر هذه
الآية لرأيت هولا أو مشقات أو نحو هذا، وحذف جوابها في مثل هذا
أبلغ لأن المخاطب يترك مع غاية تخيله، ووقعت إِذْ في موضع إذا
التي هي لما يستقبل وجاز ذلك لأن الأمر المتيقن وقوعه يعبر عنه
كما يعبر عن الماضي الوقوع، ووُقِفُوا معناه: حبسوا، ولفظ هذا
الفعل متعديا وغير متعد سواء، تقول: وقفت أنا ووقفت غيري، وقال
الزهراوي: وقد فرق بينهما بالمصدر ففي المتعدي وقفته وقفا وفي
غير المتعدي وقفت وقوفا، قال أبو عمرو بن العلاء: لم أسمع في
شيء من كلام العرب أوقفت فلانا إلا أني لو لقيت رجلا واقفا
فقلت له ما أوقفك هاهنا لكان عندي حسنا، ويحتمل قوله:
وُقِفُوا عَلَى النَّارِ أن يكون دخلوها، فكان وقوفهم عليها أي
فيها، قاله الطبري، ويحتمل أن يكون أشرفوا عليها وعاينوها،
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وعاصم في رواية أبي
بكر: «ولا نكذب» و «نكون» بالرفع في كلها، وذلك على نية
الاستئناف والقطع في قوله «ولا نكذب ونكون» أي يا ليتنا نرد
ونحن على كل حال لا نكذب ونكون، فأخبروا أنفسهم بهذا ولهذا
الإخبار صح تكذيبهم بعد هذا، ورجح هذا سيبويه ومثله بقولك دعني
ولا أعود أي وأنا لا أعود على كل حال، ويخرج ذلك على قول آخر
وهو أن يكون «ولا نكذب ونكون» داخلا في التمني على حد ما دخلت
فيه نرد، كأنهم قالوا: يا ليتنا نرد وليتنا لا نكذب وليتنا
نكون، ويعترض هذا التأويل بأن من تمنى شيئا لا يقال إنه كاذب
وإنما يكذب من أخبر.
قال القاضي أبو محمد: وينفصل عن هذا الاعتراض بأن يكون قوله
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام: 28] حكاية عن حالهم في
الدنيا كلاما مقطوعا مما قبله وبوجه آخر وهو أن المتمني إذا
كانت سجيته وطريقته مخالفة لما تمنى بعيدة منه يصح أن يقال له
كذبت على تجوز، وذلك أن من تمنى شيئا فتمنيه يتضمن إخبارا أن
تلك الأمنية تصلح له ويصلح لها فيقع التكذيب في ذلك الإخبار
الذي يتضمنه التمني، ومثال ذلك أن يقول رجل شرير ليتني أحج
وأجاهد وأقوم الليل فجائز أن يقال لهذا على تجوز كذبت أي أنت
لا تصلح لهذا ولا يصلح لك، وروي عن أبي عمرو: أنه أدغم باء
«نكذب في الباء التي بعدها، وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم في
رواية حفص «ولا نكذب ونكون» بنصب الفعلين، وذلك كما تنصب الفاء
في جواب التمني، فالواو في ذلك والفاء بمنزلة، وهذا تقدير ذكر
مصدر الفعل الأول كأنهم قالوا يا ليتنا كان لنا رد وعدم تكذيب
وكون من المؤمنين، وقرأ ابن عامر في رواية هشام بن عمار عن
أصحابه عن ابن عامر «ولا نكذب» بالرفع «ونكون» بالنصب، ويتوجه
ذلك على ما تقدم في مصحف عبد الله بن مسعود «يا ليتنا نرد فلا
نكذب بآيات ربنا ونكون» بالفاء، وفي قراءة أبي بن كعب «يا
ليتنا نرد فلا نكذب بآيات ربنا أبدا ونكون» ، وحكى أبو عمرو أن
في قراءة أبي «بآيات ربنا ونحن نكون» ، وقوله نُرَدُّ في هذه
الأقوال كلها معناه: إلى الدنيا، وحكى الطبري تأويلا آخر وهو
يا ليتنا نرد إلى الآخرة أي نبعث ونوقف على النار التي وقفنا
عليها مكذبين ليت ذلك ونحن في حالة لا نكذب ونكون، فالمعنى يا
ليتنا
(2/281)
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا
كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا
نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ
هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ
بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى
رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى
وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ (30)
نوقف هذا الوقوف غير مكذبين بآيات ربنا
كائنين من المؤمنين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل يضعف من غير وجه ويبطله
قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ
[الأنعام: 28] ولا يصح أيضا التكذيب في هذا التمني لأنه تمني
ما قد مضى. وإنما يصح التكذيب الذي ذكرناه قبل هذا على تجوز في
تمني المستقبلات.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 28 الى 30]
بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ
رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ
(28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما
نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى
رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا
قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
الضمير في لَهُمْ عائد على من ذكر في قوله: وُقِفُوا وفَقالُوا
[الأنعام: 27] وهذا الكلام يتضمن أنهم كانُوا يُخْفُونَ شيئا
ما في الدنيا فظهر لهم يوم القيامة أو ظهر لهم وباله وعاقبته،
فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وحكى الزهراوي عن فرقة
أنها قالت: الآية في المنافقين لأنهم كانوا «يخفون» الكفر فبدا
لهم وباله يوم القيامة.
قال القاضي أبو محمد: وتقلق العبارة على هذا التأويل لأنه قال
وُقِفُوا يريد جماعة كفار ثم قال بَدا لَهُمْ يريد المنافقين
من أولئك الكفار، والكلام لا يعطي هذا إلا على تحامل، قال
الزهراوي: وقيل إن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي صلى الله عليه
وسلم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعر به أتباعهم فظهر لهم
ذلك يوم القيامة.
قال القاضي أبو محمد: ويصح أن يكون مقصد الآية الإخبار عن هول
ما لقوه والتعظيم لما شقوا به، فعبر عن ذلك بأنهم ظهرت لهم
مستوراتهم في الدنيا من معاص وغير ذلك، فكيف الظن على هذا بما
كانوا يعلنون من كفر ونحوه، وينظر إلى هذا التأويل قوله تعالى
في تعظيم شأن يوم القيامة يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق:
9] ويصح أن يقدر الشيء الذي كانوا يخفونه في الدنيا نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم وأقواله، وذلك أنهم كانوا «يخفون» ذلك في
الدنيا بأن يحقروه عند من يرد عليهم ويصفوه بغير صفته ويتلقوا
الناس على الطرق فيقولون لهم هو ساحر هو يفرق بين الأقارب،
يريدون بذلك إخفاء أمره وإبطاله، فمعنى هذه الآية على هذا، بل
بدا لهم يوم القيامة أمرك وصدقك وتحذيرك وإخبارك بعقاب من كفر
الذي كانوا يخفونه في الدنيا، ويكون الإخفاء على ما وصفناه،
وقال الزجاج المعنى ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة
«يخفون» من البعث.
قال القاضي أبو محمد: فالضميران على هذا ليسا لشيء واحد، وحكى
المهدوي عن الحسن نحو هذا، وقرأ يحيى بن وثاب والنخعي والأعمش
«ولو ردوا» بكسر الراء على نقل حركة الدال من رددوا إليها،
وقوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا إخبار عن أمر لا يكون كيف كان
يوجد، وهذا النوع مما استأثر الله بعلمه، فإن
(2/282)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ
السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا
فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى
ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
أعلم بشيء منه علم وإلا لم يتكلم فيه،
وقوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ إما أن يكون متصلا
بالكلام ويكون التكذيب في إخبارهم على معنى أن الأمر في نفسه
بخلاف ما قصدوا لأنهم قصدوا الكذب، أو يكون التكذيب في التمني
على التجوز الذي ذكرناه، وإما أن يكون منقطعا إخبارا مستأنفا
عما هم عليه في وقت مخاطبة النبي عليه السلام، والأول أصوب
وقوله تعالى: وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الآية، هذا
على تأويل الجمهور ابتداء كلام وإخبار عنهم بهذه المقالة،
ويحسن مع هذا أن يكون قوله قبل وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ
مستأنفا مقطوعا خبرا عن حالهم في الدنيا التي من قولهم فيها
إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وغير ذلك، وإِنْ نافية،
ومعنى الآية التكذيب بالحشر والعودة إلى الله، وقال ابن زيد
قوله وَقالُوا معطوف على قوله لَعادُوا أي لَعادُوا لما نهوا
عنه من الكفر وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا.
قال القاضي أبو محمد: وتوقيف الله لهم في الآية بعدها على
البعث والإشارة إليه في قوله: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ يرد على
هذا التأويل وقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا الآية،
بمعنى ولو ترى إذ وقفوا كما تقدم آنفا من حذف جواب لَوْ وقوله:
عَلى رَبِّهِمْ معناه على حكمه وأمره، ففي الكلام ولا بد حذف
مضاف، وقوله: هذا إشارة إلى البعث الذي كذبوا به في الدنيا،
وبَلى هي التي تقتضي الإقرار بما استفهم عنه منفيا ولا تقتضي
نفيه وجحده ونعم تصلح للإقرار به، كما ورد ذلك في قول الأنصار
للنبي عليه السلام حين عاتبهم في الحظيرة عقب غزوة حنين وتصلح
أيضا نعم لجحده، فلذلك لا تستعمل وأما قول الزجاج وغيره: إنها
إنما تقتضي جحده وأنهم لو قالوا نعم عند قوله: أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ لكفروا فقول خطأ والله المستعان، وقولهم: بلى وربك
إيمان، ولكنه حين لا ينفع، وقوله: فَذُوقُوا استعارة بليغة،
والمعنى باشروه مباشرة الذائق إذ هي من أشد المباشرات.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 31]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا
جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما
فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى
ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31)
هذا استئناف إخبار عن خسارة المكذبين يتضمن تعظيم المصاب الذي
حل بهم، وتستعمل الخسارة في مثل هذا لأنه من أخذ الكفر واتبعه
فكأنه قد أعطى الإيمان واطرحه، فأشبهت صفقة أخذ وإعطاء
والإشارة بهذه الآية إلى الذين قالوا إنما هي حياتنا الدنيا،
وقوله: بِلِقاءِ اللَّهِ معناه: بالرجوع إليه وإلى أحكامه
وقدرته، كما تقول لقي فلان أعماله أي لقي عواقبها ومآلها،
والسَّاعَةُ يوم القيامة، وأدخل عليها تعريف العهد دون تقدم
ذكرها لشهرتها واستقرارها في النفوس وذيعان ذكرها، وأيضا فقد
تضمنها قوله تعالى: بِلِقاءِ اللَّهِ وبغتة معناه فجأة، تقول
بغتني الأمر أي فجأني ومنه قول الشاعر:
ولكنهم بانوا ولم أخش بغتة ... وأفظع شيء حين يفجأك البغت
ونصبها على المصدر في موضع الحال كما تقول: قتلته صبرا، ولا
يجيز سيبويه القياس عليه ولا تقول جاء فلان سرعة ونحوه، ونداء
الحسرة على تعظيم الأمر وتشنيعه، قال سيبويه وكأن الذي ينادي
الحسرة أو
(2/283)
وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ
خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ
نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ
لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ
يَجْحَدُونَ (33)
العجب أو السرور أو الويل يقول: اقربي أو
احضري فهذا وقتك وزمنك، وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم
وعلى سامعه إن كان ثم سامع، وهذا التعظيم على النفس والسامع هو
المقصود أيضا بنداء الجمادات كقولك يا دار ويا ربع، وفي نداء
ما لا يعقل كقولهم يا جمل، ونحو هذا، وفَرَّطْنا معناه قصرنا
مع القدرة على ترك التقصير، وهذه حقيقة التفريط، والضمير في
قوله فِيها عائد على السَّاعَةُ أي في التقدمة لها، وهذا قول
الحسن، وقال الطبري يعود على الصفقة التي يتضمنها ذكر الخسارة
في أول الآية، ويحتمل أن يعود الضمير على الدنيا إذ المعنى
يقتضيها، وتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار، وعوده على
السَّاعَةُ إنما معناه في أمورها والاستعداد لها، بمنزلة زيد
في العلم مشتغل.
وقوله تعالى:
وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ الآية، الواو واو الحال،
والأوزار جمع وزر بكسر الواو وهو الثقل من الذنوب، تقول منه
وزر يزر إذا حمل، قال الله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرى [الأنعام: 164] وتقول وزر الرجل فهو موزور، قال أبو
عبيد والعامة مازور، وأما إذا اقترن ذلك بما جوز فإن العرب
تقول مأزور، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنساء لقيهن
مقبلات من المقابر: ارجعن مأزورات غير مأجورات قال أبو علي
وغيره فهذا للإتباع اللفظي، والوزر هنا تجوز وتشبيه بثقل
الأحمال، وقوى التشبيه بأن جعله على الظهور إذ هو في العادة
موضع حمل الأثقال، ومن قال إنه من الوزر وهو الجبل الذي يلجأ
إليه ومنه الوزير وهو المعين فهي مقالة غير بينة، وقال الطبري
وغيره هذا على جهة الحقيقة ورووا في ذلك خبرا أن المؤمن يلقاه
عمله في أحسن صورة وأفوحها فيسلم عليه ويقول له طال ما ركبتك
في الدنيا وأجهدتك فاركبني اليوم، قال فيحمله تمثال العمل، وأن
الكافر يلقاه عمله في أقبح صورة وأنتنها فيشتمه ويقول أنا عملك
الخبيث طال ما ركبتني في الدنيا بشهواتك فأنا أركبك اليوم، قال
فيحمل تمثال عمله وأوزاره على ظهره، وقوله تعالى: أَلا ساءَ ما
يَزِرُونَ إخبار عن سوء ما يأثمون مضمن التعظيم لذلك والإشادة
به، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم ألا فليبلغ الشاهد
الغائب، وقوله ألا هل بلغت، فإنما أراد الإشادة والتشهير وهذا
كله يتضمنه أَلا، وأما ساءَ ما يَزِرُونَ فهو خبر مجرد كقول
الشاعر: [البسيط]
رضيت خطّة خسف غير طائلة ... فساء هذا رضى يا قيس غيلانا
وساءَ فعل ماض وما فاعلة به كما تقول ساءني أمر كذا، ويحتمل أن
تجري ساءَ هنا مجرى بئس، ويقدر لها ما يقدر ل «بئس» إذ قد جاء
في كتاب الله ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ [الأعراف: 177] .
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 32 الى 33]
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ
الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ
(32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ
اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
هذا ابتداء خبر عن حال الدنيا، والمعنى: أنها إذا كانت فانية
منقضية لا طائل لها أشبهت اللعب واللهو الذي لا طائل له إذا
تقضى، وقرأ السنة من القراء «وللدار» بلامين والْآخِرَةُ نعت
للدار، وقرأ ابن
(2/284)
عامر وحده «ولدار» بلام واحدة، وكذلك وقع
في مصاحف الشام بإضافة الدار إلى الآخرة، وهذا نحو مسجد الجامع
أي مسجد اليوم الجامع، فكذلك هذا ولدار الحياة الآخرة، وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «يعقلون»
على إرادة الغائب، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: «تعقلون»
على إرادة المخاطبين، وكذلك في الأعراف وفي آخر يوسف، ووافقهم
أبو بكر في آخر يوسف فأما أَفَلا يَعْقِلُونَ في يس [الآية:
68] فقرأه نافع وابن ذكوان: بتاء والباقون بياء، وهذه الآية
تتضمن الرد على قولهم: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا
[الأنعام: 29] وهو المقصود بها، ويصح أن يكون قوله: أَفَلا
تَعْقِلُونَ على معنى فقل لهم يا محمد إذ الحال على هذه الصفة
أَفَلا تَعْقِلُونَ.
وقوله تعالى:
قَدْ نَعْلَمُ الآية، قَدْ الملازم للفعل حرف يجيء مع التوقع
إما عند المتكلم وإما عند السامع أو مقدرا عنده فإذا كان الفعل
خالصا للاستقبال كان التوقع من المتكلم، كقولك قد يقوم زيد وقد
ينزل المطر في شهر كذا إذا كان الفعل ماضيا أو فعل حال بمعنى
المضي مثل آيتنا هذه، فإن التوقع ليس من المتكلم بل المتكلم
موجب ما أخبر به، وإنما كان التوقع عند السامع فيخبره المتكلم
بأحد المتوقعين، ونَعْلَمُ تتضمن إذا كانت من الله تعالى
استمرار العلم وقدمه، فهي تعم المضي والحال والاستقبال، ودخلت
«إن» للمبالغة في التأكيد، وقرأ نافع وحده «ليحزنك» من أحزن،
وقرأ الباقون «ليحزنك» من حزن الرجل، وقرأ أبو رجاء «ليحزنك»
بكسر اللام والزاي وجزم النون، وقرأ الأعمش أنه بفتح الهمزة
«يحزنك» بغير لام، قال أبو علي الفارسي تقول العرب حزن الرجل
بكسر الزاي يحزن حزنا وحزنا وحزنته أنا، وحكي عن الخليل أن
قولهم حزنته ليس هو تغيير حزن على نحو دخل وأدخلته، ولكنه
بمعنى جعلت فيه حزنا كما تقول كحلته ودهنته، قال الخليل ولو
أردت تغيير حزن لقلت أحزنته، وحكى أبو زيد الأنصاري في كتاب
خباة العرب أحزنت الرجل، قال أبو علي وحزنت الرجل أكثر
استعمالا عندهم من أحزنته، فمن قرأ «ليحزنك» بضم الياء فهو على
القياس في التغيير، ومن قرأ «ليحزنك» بفتح الياء وضم الزاي فهو
على كثرة الاستعمال، والَّذِي يَقُولُونَ لفظ يعم جميع أقوالهم
التي تتضمن الرد على النبي صلى الله عليه وسلم والدفع في صدر
نبوته، كقول بعضهم إنه كذاب، مفتر، ساحر، وقول بعضهم إنه مجنون
مسحور، وقول بعضهم به رئي من الجن ونحو هذا وقرأ ابن كثير وابن
عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة لا يُكَذِّبُونَكَ بتشديد الدال
وفتح الكاف، وقرأها ابن عباس وردها على قارئ عليه «يكذبونك»
بضم الياء، وقال: إنهم كانوا يسمونه الأمين، وقرأ نافع
والكسائي بسكون الكاف وتخفيف الذال، وقرأها علي بن أبي طالب
رضي الله عنه وهما قراءتان مشهورتان صحيحتان، واختلف المتأولون
في معناهما فقالت فرقة: هما بمعنى واحد كما تقول:
سقيت وأسقيت وقللت وأقللت وكثرت وأكثرت، وحكى الكسائي أن العرب
تقول كذبت الرجل إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب
إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه، وتقول العرب أيضا أكذبت
الرجل إذا وجدته كذابا كما تقول أحمدته إذا وجدته محمودا،
فالمعنى على قراءة من قرأ «يكذّبونك» بتشديد الذال أي لا تحزن
«فإنهم لا يكذبونك» تكذيبا يضرك إذ لست بكاذب في حقيقتك،
فتكذيبهم كلا تكذيب، ويحتمل أن يريد: «فإنهم لا يكذبونك» على
جهة الإخبار عنهم أنهم لا يكذبون وأنهم يعلمون
(2/285)
صدقه ونبوته ولكنهم يجحدون عنادا منهم
وظلما، والآية على هذا لا تتناول جميع الكفار بل تخص الطائفة
التي حكى عنها أنها كانت تقول: إنا لنعلم أن محمدا صادق ولكن
إذا آمنا به فضلتنا بنو هاشم بالنبوة فنحن لا نؤمن به أبدا،
رويت هذه المقالة عن أبي جهل ومن جرى مجراه، وحكى النقاش أن
الآية نزلت في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف، فإنه كان
يكذب في العلانية ويصدق في السر ويقول نخاف أن تتخطفنا العرب
ونحن أكلة رأس والمعنى على قراءة من قرأ «يكذبونك» بتخفيف
الذال يحتمل ما ذكرناه أولا في «يكذبونك» أي لا يجدونك كاذبا
في حقيقتك ويحتمل هذين الوجهين اللذين ذكرت في «يكذّبونك» بشد
الذال، وآيات الله علاماته وشواهد نبيه محمد صلى الله عليه
وسلم، ويَجْحَدُونَ حقيقته في كلام العرب الإنكار بعد معرفة
وهو ضد الإقرار، ومعناه على تأويل من رأى الآية في المعاندين
مترتب على حقيقته وهو قول قتادة والسدي وغيرهما، وعلى قول من
رأى أن الآية في الكفار قاطبة دون تخصيص أهل العناد يكون في
اللفظة تجوز وذلك أنهم لما أنكروا نبوته وراموا تكذيبه بالدعوى
التي لا تعضدها حجة عبر عن إنكارهم بأقبح وجوه الإنكار وهو
الجحد تغليظا عليهم وتقبيحا لفعلهم، إذ معجزاته وآياته نيرة
يلزم كل مفطور أن يعلمها ويقربها.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وجميع ما في هذه التأويلات
من نفي التكذيب إنما هو عن اعتقادهم، وأما أقوال جميعهم
فمكذبة، إما له وإما للذي جاء به.
قال القاضي أبو محمد: وكفر العناد جائز الوقوع بمقتضى النظر
وظواهر القرآن تعطيه، كقوله:
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: 14]
وغيرها، وذهب بعض المتكلمين إلى المنع من جوازه، وذهبوا إلى أن
المعرفة تقتضي الإيمان والجحد يقتضي الكفر، ولا سبيل إلى
اجتماعهما، وتأولوا ظواهر القرآن فقالوا في قوله تعالى:
وَجَحَدُوا بِها [النمل: 14] إنها في أحكام التوراة التي
بدلوها كآية الرجم وغيرها.
قال القاضي أبو محمد: ودفع ما يتصور العقل ويعقل من جواز كفر
العناد على هذه الطريقة صعب أما أن كفر العناد من العارف بالله
وبالنبوة بعيد لأنه لا داعية إلى كفر العناد إلا الحسد ومن عرف
الله والنبوة وأن محمدا يجيئه ملك من السماء فلا سبيل إلى بقاء
الحسد مع ذلك، أما أنه جائز فقد رأى أبو جهل على رأس النبي صلى
الله عليه وسلم فحلا عظيما من الإبل قد همّ بأبي جهل ولكنه كفر
مع ذلك، وأسند الطبري أن جبريل عليه السلام وجد النبي عليه
السلام حزينا فسأله، فقال: كذبني هؤلاء، فقال: «إنهم لا
يكذبونك» بل يعلمون أنك صادق وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ
اللَّهِ يَجْحَدُونَ، والذي عندي في كفر حيي بن أخطب ومن جرى
مجراه أنهم كانوا يرون صفات النبي صلى الله عليه وسلم
ويعرفونها أو أكثرها ثم يرون من آياته زائدا على ما عندهم
فيتعلقون في مغالطة أنفسهم بكل شبهة بأضعف سبب، وتتخالج ظنونهم
فيقولون مرة هو ذلك ومرة عساه ليسه، ثم ينضاف إلى هذا حسدهم
وفقدهم الرياسة، فيتزايد ويتمكن إعراضهم وكفرهم وهم على هذا،
وإن عرفوا أشياء وعاندوا فيها فقد قطعوا في ذلك بأنفسهم عن
الوصول إلى غاية المعرفة وبقوا في ظلمة الجهل فهم جاهلون
بأشياء معاندون في أشياء غيرها وأنا أستبعد العناد مع المعرفة
التامة.
(2/286)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا
وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ
الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ
إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي
الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ
بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى
فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 34 الى 35]
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما
كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ
لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ
الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ
فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ
أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ
شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْجاهِلِينَ (35)
هذه الآية تضمنت عرض الأسوة التي ينبغي الاقتداء بها على محمد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجيته أن يأتيه مثل ما أتاهم
من النصر إذا امتثل ما امتثلوه من الصبر، قال الضحاك وابن
جريج:
عزى الله بهذه الآية نبيه، وروي عن ابن عامر أنه قرأ «وأذوا»
بغير واو بعد الهمزة، ثم قوى ذلك الرجاء بقوله: وَلا مُبَدِّلَ
لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا راد لأمره وكلماته السابقات بما يكون
ولا مكذب لما أخبر به، فكأن المعنى فاصبر كما صبروا وانتظر ما
يأتي وثق بهذا الإخبار فإنه لا مبدل له، فالقصد هنا هذا الخبر
وجاء اللفظ عاما جميع كلمات الله السابقات، وأما كلام الله عز
وجل في التوراة والإنجيل فمذهب ابن عباس أنه لا مبدل لها وإنما
حرفها اليهود بالتأويل لا ببدل حروف وألفاظ، وجوز كثير من
العلماء أن يكونوا بدلوا الألفاظ لأنهم استحفظوها وهو الأظهر،
وأما القرآن فإن الله تعالى تضمن حفظه فلا يجوز فيه التبديل،
قال الله تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] وقال في
أولئك بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ [المائدة: 44]
وقوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي
فيما أنزلناه وقصصناه عليك ما يقضي هذا الذي أخبرناك به، وفاعل
جاءَكَ مضمر على ما ذهب إليه الطبري والرماني، تقديره ولقد
جاءك نبأ أو أنباء.
قال القاضي أبو محمد: والثواب عندي في المعنى أن يقدر جلاء أو
بيان، وقال أبو علي الفارسي:
قوله مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ، في موضع رفع ب «جاء» ، ودخل
حرف الجر على الفاعل، وهذا على مذهب الأخفش في تجويزه دخول من
في الواجب، ووجه قول الرماني أن من لا تزاد في الواجب، وقوله
تعالى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ الآية، آية
فيها إلزام الحجة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقسيم الأحوال
عليه حتى يبين أن لا وجه إلا الصبر والمضي لأمر الله تعالى،
والمعنى إن كنت تعظم تكذيبهم وكفرهم على نفسك وتلتزم الحزن
عليه فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض أو على ارتقاء
سلم في السماء فدونك وشأنك به، أي إنك لا تقدر على شيء من هذا،
ولا بد لك من التزام الصبر واحتمال المشقة ومعارضتهم بالآيات
التي نصبها الله تعالى للناظرين المتأملين، إذ هو لا إله إلا
هو لم يرد أن يجمعهم على الهدى، وإنما أراد أن ينصب من الآيات
ما يهتدي بالنظر فيه قوم ويضل آخرون، إذ خلقهم على الفطرة وهدى
السبيل وسبقت رحمته غضبه، وله ذلك كله بحق ملكه فَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ في أن تأسف وتحزن على أمر أراده
الله وأمضاه وعلم المصلحة فيه.
(2/287)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ
ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى
أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
(37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ
بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي
الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ
(38)
قال القاضي أبو محمد: وهذا أسلوب معنى
الآية، واسم كان يصح أن يكون الأمر والشأن وكَبُرَ عَلَيْكَ
إِعْراضُهُمْ خبرها، ويصح أن يكون إِعْراضُهُمْ هو اسم كان
ويقدر في كَبُرَ ضمير وتكون كَبُرَ في موضع الخبر، والأول من
الوجهين أقيس، والنفق السرب في الأرض ومنه نافقاء اليربوع،
والسلم الشيء الذي يصعد عليه ويرتقى، ويمكن أن يشتق اسمه من
السلامة لأنه سببها وجمعه سلاليم، ومنه قول الشاعر [ابن مقبل]
: [البسيط]
لا يحزن المرء أحجاء البلاد ولا ... تبنى له في السماوات
السّلاليم
وفَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أي بعلامة، ويريد إما في فعلك ذلك أي
تكون الآية نفس دخولك في الأرض أو ارتقائك في السماء، وإما أن
«تأتيهم بالآية» من إحدى الجهتين، وحذف جواب الشرط قبل في قوله
فَإِنِ اسْتَطَعْتَ إيجاز لفهم السامع به، تقديره فافعل أو
فدونك كما تقدم، ولَجَمَعَهُمْ يحتمل إما بأن يخلقهم مؤمنين،
وإما بأن يكسبهم الإيمان بعد كفرهم بأن يشرح صدورهم، والهدى
الإرشاد، وهذه الآية ترد على القدرية المفوضة الذين يقولون إن
القدرة لا تقتضي أن يؤمن الكافر وإن ما يأتيه الإنسان من جميع
أفعاله لا خلق لله فيه تعالى عن قولهم، ومِنَ الْجاهِلِينَ
يحتمل في أن لا يعلم أن الله لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ
ويحتمل في أن تهتم بوجود كفرهم الذي قدره وأراده، وتذهب به
لنفسك إلى ما لم يقدر الله به، يظهر تباين ما بين قوله تعالى
لمحمد صلى الله عليه وسلم فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ
وبين قوله لنوح عليه السلام إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ
الْجاهِلِينَ [هود: 46] وقد تقرر أن محمدا صلى الله عليه وسلم
أفضل الأنبياء، قال مكي والمهدي: والخطاب بقوله فَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ للنبي عليه السلام والمراد به
أمته، وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ، وقال قوم: وقر نوح لسنه
وشيبته، وقال قوم: جاء الحمل أشد على محمد صلى الله عليه وسلم
لقربه من الله تعالى ومكانته عنده كما يحمل العاقب على قريبه
أكثر من حمله على الأجانب.
قال القاضي أبو محمد: والوجه القوي عندي في الآية هو أن ذلك لم
يجىء بحسب النبيين وإنما جاء بحسب الأمرين اللذين وقع النهي
عنهما والعتاب فيهما وبين أن الأمر الذي نهى عنه محمد صلى الله
عليه وسلم أكبر قدرا وأخطر مواقعة من الأمر الذي واقعه نوح صلى
الله عليه وسلم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 36 الى 38]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ
إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي
الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ
أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ
إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
هذا من النمط المتقدم في التسلية أي لا تحفل بمن أعرض فإنما
يستجيب لداعي الإيمان الذين يقيمون الآيات ويتلقون البراهين
بالقبول، فعبر عن ذلك كله ب يَسْمَعُونَ إذ هو طريق العلم
بالنبوة والآيات
(2/288)
المعجزة، وهذه لفظة تستعملها الصوفية إذا
بلغت الموعظة من أحد مبلغا شافيا قالوا سمع، ثم قال تعالى:
وَالْمَوْتى يريد الكفار، فعبر، عنهم بضد ما عبر عن المؤمنين
وبالصفة التي تشبه حالهم في العمى عن نور الله تعالى والصمم عن
وعي كلماته، قاله مجاهد وقتادة والحسن، ويَبْعَثُهُمُ اللَّهُ
يحتمل معنيين قال الحسن معناه «يبعثهم الله» بأن يؤمنوا حين
يوقفهم.
قال القاضي أبو محمد: فتجيء الاستعارة في هذا التأويل، في
الوجهين في تسميتهم موتى وفي تسمية إيمانهم وهدايتهم بعثا،
والواو على هذا مشركة في العامل عطفت الْمَوْتى على الَّذِينَ،
ويَبْعَثُهُمُ اللَّهُ في موضع الحال، وكأن معنى الآية إنما
يستجيب الذين يرشدون حين يسمعون فيؤمنون والكفار حين يرشدهم
الله بمشيئته، فلا تتأسف أنت ولا تستعجل ما لم يقدر، وقرأ
الحسن «ثم إليه يرجعون» فتناسبت الآية، وقال مجاهد وقتادة:
وَالْمَوْتى يريد الكفار، أي هم بمثابة الموتى حين لا يرون هدى
ولا يسمعون فيعون، ويَبْعَثُهُمُ اللَّهُ أي: يحشرهم يوم
القيامة ثُمَّ إِلَيْهِ أي إلى سطوته وعقابه يُرْجَعُونَ،
وقرأت هذه الطائفة يرجعون بياء والواو على هذا عاطفة جملة كلام
على جملة، وَالْمَوْتى مبتدأ ويَبْعَثُهُمُ اللَّهُ خبره، فكأن
معنى الآية إنما يستجيب الذين يسمعون فيعون والكفار سيبعثهم
الله ويردهم إلى عقابه، فالآية على هذا متضمنة الوعيد للكفار،
والعائد على الَّذِينَ هو الضمير في يَسْمَعُونَ، والضمير في
قالُوا عائد على الكفار، ولَوْلا تحضيض بمعنى هلا، قال الشاعر
[جرير] : [الطويل]
تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى لولا الكميّ
المقنّعا
ومعنى الآية هلا أنزل على محمد بيان واضح لا يقع معه توقف من
أحد كملك يشهد له أو أكثر أو غير ذلك من تشططهم المحفوظ في
هذا، فأمر عليه السلام بالرد عليهم بأن الله عز وجل له القدرة
على إنزال تلك الآية، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
أنها لو نزلت ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعذاب، ويحتمل وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن الله تعالى إنما جعل المصلحة
في آيات معرضة للنظر والتأمل ليهتدي قوم ويضل آخرون، وقوله
تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ الآية، المعنى في هذه الآية التنبيه
على آيات الله الموجودة في أنواع مخلوقاته، أي قل لهم إن الله
قادر على أن ينزل آية إلا أنكم لا تعلمون وجه الحكمة في أن لا
ينزل آية مجهزة وإنما يحيل على الآيات المنصوبة لمن فكر واعتبر
كالدواب والطير التي قد حصرت جميع الحيوان، وهي أمم أي جماعات
مماثلة للناس في الخلق والرزق والحياة والموت والحشر، ويحتمل
أن يريد بالمماثلة أنها في كونها أمما لا غير كما تريد بقولك
مررت برجل مثلك أي في رجل، ويصح في غير ذلك من الأوصاف إلا أن
الفائدة في هذه الآية، إنما تقع بأن تكون المماثلة في أوصاف
غير كونها أمما، قال الطبري وغيره:
والمماثلة في أنها يهتبل بأعمالها وتحاسب ويقتص لبعضها من بعض
على ما روي في الأحاديث، أي: فإذا كان يفعل هذا بالبهائم فأنتم
أحرى إذ أنتم مكلفون عقلاء وروى أبو ذر أنه انتطحت عنزان بحضرة
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتعلمون فيم انتطحتا؟ قلنا لا:
قال: فإن الله يعلم وسيقضي بينهما، وقد قال مكي في المماثلة في
أنها تعرف الله تعالى وتعبده، وهذا قول خلف ودَابَّةٍ وزنها
فاعلة وهي صفة وضعت موضع الاسم كما قالوا الأعرج والأبرق،
وأزيل منه معنى الصفة وليست بالصفة الغالبة في قولنا العباس
(2/289)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ
اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ
اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ
تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ
تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ
وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
والحارث لأن معنى الصفة باق في الصفة
الغالبة، وقرأت طائفة «ولا طائر» عطفا على اللفظ وقرأ إبراهيم
بن أبي عبلة «ولا طائر» بالرفع عطفا على المعنى، وقرأت فرقة
«ولا طير» وهو جمع «طائر» وقوله: بِجَناحَيْهِ تأكيد وبيان
وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة فقد يقال «طائر»
السعد والنحس.
وقوله تعالى:
أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أي عمله، ويقال: «طار
لفلان طائر» كذا أي سهمه في المقتسمات، فقوله تعالى
بِجَناحَيْهِ إخراج للطائر عن هذا كله، وقرأ علقمة وابن هرمز
«فرطنا في الكتاب» بتخفيف الراء والمعنى واحد، وقال النقاش
معنى «فرطنا» مخففة أخرنا كما قالوا فرط الله عنك المرض أي
أزاله، والأول أصوب، والتفريط التقصير في الشيء مع القدرة على
ترك التقصير والكتاب القرآن وهو الذي يقتضيه نظام المعنى في
هذه الآيات، وقيل اللوح المحفوظ، ومن شيء على هذا القول عام في
جميع الأشياء، وعلى القول بأنه قرآن خاص في الأشياء التي فيها
منافع للمخاطبين وطرائق هدايتهم، ويُحْشَرُونَ قالت فرقة حشر
البهائم موتها، وقالت فرقة حشرها بعثها، واحتجوا بالأحاديث
المضمنة أن الله تعالى يقتص للجماء من القرناء، إنما هي كناية
عن العدل وليست بحقيقة فهو قول مردود ينحو إلى القول بالرموز
ونحوها.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 39 الى 41]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي
الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ
يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ
أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ
إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ
شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)
كأنه قال وما من دابة ولا طائر ولا شيء إلا فيه آية منصوبة على
وحدانية الله تعالى، ولكن الذين كذبوا صم وبكم لا يتلقون ذلك
ولا يقبلونه، وظاهر الآية أنها تعم كل مكذب، وقال النقاش نزلت
في بني عبد الدار.
قال القاضي أبو محمد: ثم انسحبت على سواهم، ثم بيّن أن ذلك حكم
من الله عز وجل بمشيئته في خلقه فقال مبتدئا الكلام مَنْ
يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ شرط وجوابه، وقوله: فِي الظُّلُماتِ
ينوب عن «عمي» ، وفي الظلمات أهول عبارة وأفصح وأوقع في النفس،
والصراط الطريق الواضح.
وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ الآية، ابتداء احتجاج على
الكفار الجاعلين لله شركاء، والمعنى أرأيتم إذا خفتم عذاب الله
أو خفتم هلاكا أو خفتم الساعة أتدعون أصنامكم وتلجئون إليها في
كشف ذلك إن كنتم صادقين في قولكم: إنها آلهة؟ بل تدعون الله
الخالق الرزاق فيكشف ما خفتموه إن شاء وتنسون أصنامكم أي
تتركونهم، فعبر عن الترك بأعظم وجوهه الذي هو مع الترك ذهول
وإغفال، فكيف يجعل إلها من هذه حاله في الشدائد والأزمات؟ وقرأ
ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة «أرأيتكم» بألف
مهموزة على الأصل، لأن الهمزة عين الفعل، وقرأ نافع بتخفيف
الهمزة بين على عرف التخفيف وقياسه، وروي عنه أنه
(2/290)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ
جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا
أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
قرأها بألف ساكنة وحذف الهمزة، وهذا تخفيف
على غير قياس، والكاف في أرأيتك زيدا و «أرأيتكم» ليست باسم
وإنما هي مجردة للخطاب كما هي في ذلك، وأبصرك زيدا ونحوه، ويدل
على ذلك أن رأيت بمعنى العلم، إنما تدخل على الابتداء والخبر،
فالأول من مفعوليها هو الثاني بعينه، والكاف في أرأيتك زيدا
ليست المفعول الثاني كقوله تعالى: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي
كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء: 62] فإذا لم تكن اسما صح أنها
مجردة للخطاب وإذا تجردت للخطاب صح أن التاء ليست للخطاب كما
هي في أنت لأن علامتي خطاب لا تجتمعان على كلمة كما لا تجتمع
علامتا تأنيث ولا علامتا استفهام فلما تجردت التاء من الخطاب
وبقيت علامة الفاعل فقط استغني عن إظهار تغيير الجمع فيها
والتأنيث لظهور ذلك في الكاف وبقيت التاء على حد واحد في
الإفراد والتثنية والجمع والتأنيث وروي عن بعض بني كلاب أنه
قال: أتعلمك كان أحد أشعر من ذي الرمة، فهذه الكاف صلة في
الخطاب وأَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ معناه أتاكم خوفه وأماراته
وأوائله مثل الجدب والبأساء والأمراض ونحوها التي يخاف منها
الهلاك، ويدعو إلى هذا التأويل أنا لو قدرنا إتيان العذاب
وحلوله لم يترتب أن يقول بعد ذلك فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ لأن
ما قد صح حلوله ومضى على البشر لا يصح كشفه، ويحتمل أن يراد ب
السَّاعَةُ في هذه الآية موت الإنسان، وقوله تعالى: بَلْ
إِيَّاهُ تَدْعُونَ الآية، المعنى بل لا ملجأ لكم إلا الله،
وأصنامكم مطرحة منسية، وما بمعنى الذي تدعون إليه من أجله،
ويصح أن تكون ما ظرفية، ويصح أن تكون مصدرية على حذف في
الكلام، قال الزجّاج هو مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82]
والضمير في إِلَيْهِ يحتمل أن يعود إلى الله تعالى بتقدير
فيكشف ما تدعون إليه، وإِنْ شاءَ استثناء لأن المحنة إذا أظلت
عليهم فدعوا إليه في كشفها وصرفها فهو لا إله إلا هو كاشف إن
شاء ومصيب إن شاء لا يجب عليه شيء، وتقدم معنى تَنْسَوْنَ
وإِيَّاهُ اسم مضمر أجري مجرى المظهرات في أنه يضاف أبدا، وقيل
هو مبهم وليس بالقوي لأن الأسماء المبهمة مضمنة الإشارة إلى
حاضر نحو ذاك وتلك وهؤلاء، و «ايا» ليس فيه معنى الإشارة.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 42 الى 45]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ
بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ
قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا
عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما
أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)
في الكلام حذف يدل عليه الظاهر تقديره فكذبوا فأخذناهم، ومعناه
لازمناهم وتابعناهم الشيء بعد الشيء، «البأساء» المصائب في
الأموال، وَالضَّرَّاءِ في الأبدان، هذا قول الأكثر، وقيل قد
يوضع كل واحد بدل الآخر، ويؤدب الله تعالى عباده بِالْبَأْساءِ
وَالضَّرَّاءِ، ومن هنالك أدب العباد نفوسهم بالبأساء في تفريق
المال، والضراء في الحمل على البدن في جوع وعري، والترجي في
«لعل» في هذا الموضع إنما هو على معتقد البشر أي لو رأى أحد
ذلك لرجا تضرعهم بسببه، والتضرع التذلل والاستكانة، وفي المثل
(2/291)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ
عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ
بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ
يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ
اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا
الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ
إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ
بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
أن الحمى أضرعتني لك، ومعنى الآية توعد
الكفار وضرب المثل لهم، و «لولا» تحضيض، وهي التي تلي الفعل
بمعنى هلا، وهذا على جهة المعاتبة لمذنب غائب وإظهار سوء فعله
مع تحسر ما عليه، والمعنى إذ جاءهم أوائل البأس وعلاماته وهو
تردد البأساء والضراء، وقَسَتْ معناه صلبت وهي عبارة عن الكفر
ونسب التزيين إلى الشيطان وقد قال تعالى في آية أخرى كَذلِكَ
زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام: 108] لأن تسبب
الشيطان ووسوسته تجلب حسن الفكر في قلوبهم، وذلك المجلوب الله
يخلقه، فإن نسب إلى الله تعالى فبأنه خالقه وإلى الشيطان فبأنه
مسببه.
وقوله تعالى:
فَلَمَّا نَسُوا الآية، عبر عن الترك بالنسيان إذا بلغ وجوه
الترك الذي يكون معه نسيان وزوال المتروك عن الذهن، وقرأ ابن
عامر فيما روي عنه «فتّحنا» بتشديد التاء، وكُلِّ شَيْءٍ معناه
مما كان سد عليهم بالبأساء والضراء من النعم الدنياوية، فهو
عموم معناه خصوص، وفَرِحُوا معناه بطروا وأشروا وأعجبوا وظنوا
أن ذلك لا يبيد وأنه دال على رضى الله عنهم، وهو استدراج من
الله تعالى، وقد روي عن بعض العلماء أنه قال: رحم الله عبدا
تدبر هذه الآية حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا
أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وقال محمد بن النضر الحارثي: أمهل القوم
عشرين سنة، وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: إذا رأيتم الله يعطي العباد ما يشاؤون على معاصيهم فذلك
استدراج ثم تلا فَلَمَّا نَسُوا الآية كلها، وفَأَخَذْناهُمْ
في هذا الموضع معناه استأصلناهم وسطونا بهم، وبَغْتَةً معناه
فجأة، والعامل فيه أَخَذْناهُمْ، وهو مصدر في موضع الحال لا
يقاس عليه عند سيبويه، و «المبلس» الحزين الباهت اليائس من
الخير الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال، وقوله
تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الآية، «الدابر» آخر الأمر
الذي يدبره أي يأتي من خلفه، ومنه قول الشاعر [أمية بن أبي
الصلت] [البسيط]
فأهلكوا بعذاب حصّ دابرهم ... فما استطاعوا له دفعا ولا
انتصروا
وقول الآخر: [الطويل]
وقد زعمت عليا بغيض ولفّها ... بأني وحيد قد تقطّع دابري
وهذه كناية عن استئصال «شأفتهم» ومحو آثارهم كأنهم وردوا
العذاب حتى ورد آخرهم الذي دبرهم وقرأ عكرمة «فقطع» بفتح القاف
والطاء «دابر» بالنصب، وحسن الحمد عقب هذه الآية لجمال الأفعال
المتقدمة في أن أرسل الرسل وتلطف في الأخذ بالبأساء والضراء
ليتضرع إليه فيرحم وينعم، وقطع في آخر الأمر دابر الظلمة، وذلك
حسن في نفسه ونعمة على المؤمنين فحسن الحمد يعقب هذه الأفعال،
وبحمد الله ينبغي أن يختم كل فعل وكل مقالة لا رب غيره.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 49]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ
وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ
اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ
ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ
أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ
إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ
الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ
آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ
الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
(2/292)
قُلْ لَا أَقُولُ
لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا
يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ
أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ
يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ
مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
(51)
هذا ابتداء احتجاج على الكفار، وأَخَذَ
اللَّهُ معناه أذهبه وانتزعه بقدرته، ووحد السمع لأنه مصدر
مفرد يدل على جمع، والضمير في بِهِ عائد على المأخوذ، وقيل على
السمع، وقيل على الهدى الذي يتضمنه المعنى، وقرأ الأعرج وغيره
«به انظر» بضم الهاء، ورواها المسيبي وأبو وجزة عن نافع،
ويَصْدِفُونَ معناه يعرضون وينفرون، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه ... وهنّ عن كلّ سوء يتّقى صدقا
قال النقاش: في الآية دليل على تفضيل السمع على البصر لتقدمته
هنا، ثم احتج لذلك بقوله:
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام: 36]
وبغير ذلك، والاستفهام في قوله: مَنْ إِلهٌ معناه التوقيف، أي
ليس ثمة إله سواه فما بال تعلقكم بالأصنام وتمسككم بها وهي لا
تدفع ضررا ولا تأتي بخير، وتصريف الآيات هو نصب العبر ومجيء
آيات القرآن بالإنذار والاعذار والبشارة ونحوه وقوله تعالى:
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ الآية، وعيد وتهديد، وبَغْتَةً معناه لا
يتقدم عندكم منها علم وجَهْرَةً معناه: تبدو لكم مخايله
ومباديه ثم تتوالى حتى تنزل، قال الحسن بن أبي الحسن: بَغْتَةً
ليلا وجَهْرَةً نهارا، قال مجاهد: بَغْتَةً فجأة آمنين
وجَهْرَةً وهم ينظرون، وقرأ ابن محيصن «هل يهلك» على بناء
الفعل للفاعل، والمعنى هل تهلكون ألا أنتم لأن الظلم قد تبين
في حيزكم، وهَلْ ظاهرها الاستفهام ومعناها التسوية المضمنة
للنفي ولا تكون التسوية بها إلا في النفي، وتكون بالألف في نفي
وفي إيجاب، وقوله تعالى: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ الآية،
المعنى إنما نرسل الأنبياء المخصوصين بالرسالة ليبشروا
بإنعامنا ورحمتنا لمن آمن وينذروا بعذابنا وعقابنا من كذب
وكفر، ولسنا نرسلهم ليقترح عليهم الآيات ويتابعوا شذوذ كل
متعسف متعمق، ثم وعد من سلك طريق البشارة فآمن وأصلح في امتثال
الطاعات، وأوعد الذين سلكوا طريق النذارة فكذب بآيات الله،
وفسق أي خرج عن الحد في كفرانه وعصيانه، وقال ابن زيد: كل فسق
في القرآن فمعناه الكذب، ذكره عنه الطبري مسندا ويَمَسُّهُمُ
أي يباشرهم ويلصق بهم، وقرأ الحسن والأعمش الْعَذابُ بِما
بإدغام الباء في الباء، ورويت عن أبي عمرو، وقرأ يحيى بن وثاب
والأعمش «يفسقون» بكسر السين وهي لغة.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 50 الى 51]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا
أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ
أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ
بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ
لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ (51)
هذا من الرد على القائلين لولا أنزل عليه آية والطالبين أن
ينزل ملك أو تكون له جنة أو أكثر أو نحو
(2/293)
وَلَا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ
فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ
فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ
بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
هذا، والمعنى: لست بهذه الصفات فيلزمني أن
أجيبكم باقتراحاتكم، وقوله لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ
اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ يحتمل معنيين أظهرهما أن يريد
أنه بشر لا شيء عنده من خزائن الله ولا من قدرته ولا يعلم شيئا
مما غيب عنه، والآخر أنه ليس بإله فكأنه قال لا أقول لكم إني
أتصف بأوصاف إله في أن عندي خزائنه وأني أعلم الغيب، وهذا هو
قول الطبري وتعطي قوة اللفظ في هذه الآية الملك أفضل من البشر،
وليس ذلك بلازم من هذا الموضع، وإنما الذي يلزم منه أن الملك
أعظم موقعا في نفوسهم وأقرب إلى الله، والتفضيل يعطيه المعنى
عطاء خفيا وهو ظاهر من آيات أخر، وهي مسألة خلاف، وما يُوحى
يريد القرآن وسائر ما يأتي به الملك، أي وفي ذلك عبر وآية لمن
تأمل ونظر، وقوله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الآية، أي قل لهم
إنه لا يستوي الناظر المفكر في الآيات أو المعرض الكافر المهمل
للنظر، فالأعمى والبصير مثالان للمؤمن والكافر، أي ففكروا أنتم
وانظروا وجاء الأمر بالفكرة في عبارة العرض والتحضيض وأَنْذِرْ
عطف على قُلْ، والنبي عليه السلام مأمور بإنذار جميع الخلائق،
وإنما وقع التحضيض هنا بحسب المعنى الذي قصد، وذلك أن فيما
تقدم من الآيات نوعا من اليائس في الأغلب عن هؤلاء الكفرة
الذين قد قال فيهم أيضا أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 6، يس: 10] فكأنه قيل له
هنا: قل لهؤلاء الكفرة المعرضين كذا ودعهم ورأيهم لأنفسهم
وأنذر بالقرآن هؤلاء الآخرين الذين هم مظنة الإيمان وأهل
للانتفاع، ولم يرد أنه لا ينذر سواهم، بل الإنذار العام ثابت
مستقر، والضمير في بِهِ عائد على ما يُوحى «ويخافون» على بابها
في الخوف أي الذين يخافون ما تحققوه من أن يحشروا ويستعدون
لذلك، ورب متحقق لشيء مخوف وهو لقلة النظر والحزم لا يخافه ولا
يستعد له.
قال القاضي أبو محمد: وقال الطبري: وقيل يَخافُونَ هنا بمعنى
يعلمون، وهذا غير لازم وقوله الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ
يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ يعم بنفس اللفظ كل مؤمن بالبعث من
مسلم ويهودي ونصراني، وقوله لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ
وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ يحتمل معنيين فإن جعلناه داخلا في الخوف
في موضع نصب على الحال أي يخافون أن يحشروا في حال من لا ولي
له ولا شفيع، فهي مختصة بالمؤمنين المسلمين ولأن اليهود
والنصارى يزعمون أن لهم شفعاء وأنهم أبناء الله ونحو هذا من
الأباطيل، وإن جعلنا قوله:
لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ إخبارا من
الله تعالى عن صفة الحال يومئذ فهي عامة للمسلمين وأهل الكتاب
ولَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ترجّ على حسب ما يرى البشر ويعطيه
نظرهم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 52 الى 53]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ
وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ
فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ
فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ (53)
المراد ب الَّذِينَ ضعفة المؤمنين في ذلك الوقت في أمور الدنيا
بلال وعمار وابن أم عبد ومرثد الغنوي وخباب وصهيب وصبيح وذو
الشمالين والمقداد ونحوهم وسبب الآية أن الكفار قال بعضهم
للنبي
(2/294)
صلى الله عليه وسلم: نحن لشرفنا وأقدارنا
لا يمكننا أن نختلط بهؤلاء، فلو طردتهم لاتبعناك وجالسناك، ورد
في ذلك حديث عن ابن مسعود، وقيل: إنما قال هذه المقالة أبو
طالب على جهة النصح للنبي صلى الله عليه وسلم قال له: لو أزلت
هؤلاء لاتبعك أشراف قومك وروي أن ملأ قريش اجتمعوا إلى أبي
طالب في ذلك، وظاهر الأمر أنهم أرادوا بذلك الخديعة، فصوب هذا
الرأي من أبي طالب عمر بن الخطاب وغيره من المؤمنين فنزلت
الآية، وقال ابن عباس: إن بعض الكفار إنما طلب أن يؤخر هؤلاء
عن الصف الأول في الصلاة، ويكونون هم موضعهم، ويؤمنون إذا طرد
هؤلاء من الصف الأول فنزلت الآية، أسند الطبري إلى خباب بن
الأرت أن الأقرع بن حابس ومن شابهه من أشراف العرب قالوا للنبي
صلى الله عليه وسلم اجعل لنا منك مجلسا، لا يخالطنا فيه العبيد
والحلفاء، واكتب لنا كتابا، فهمّ النبي صلى الله عليه وسلم
بذلك فنزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل بعيد في نزول الآية، لأن
الآية مكية وهؤلاء الأشراف لم يفدوا إلا في المدينة، وقد يمكن
أن يقع هذا القول منهم ولكنه إن كان وقع فبعد نزول الآية بمدة
اللهم إلا تكون الآية مدنية، قال خباب رضي الله عنه: ثم نزلت
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ
عَلَيْكُمْ [الأنعام: 54] الآية فكنا نأتي فيقول لنا: سلام
عليكم ونقعد معه، فإذا أراد يقوم قام وتركنا، فأنزل الله
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
[الكهف: 28] الآية فكان يقعد معنا، فإذا بلغ الوقت الذي يقوم
فيه قمنا وتركناه حتى يقوم ويَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ
وَالْعَشِيِّ قال الحسن بن أبي الحسن المراد به صلاة مكة التي
كانت مرتين في اليوم بكرة وعشيا وقيل: بل قوله: بِالْغَداةِ
وَالْعَشِيِّ عبارة عن استمرار الفعل وأن الزمن معمور به، كما
تقول: الحمد لله بكرة وأصيلا، فإنما تريد الحمد لله في كل وقت
والمراد على هذا التأويل قيل، هو الصلوات الخمس، قاله ابن عباس
وإبراهيم، وقيل الدعاء وذكر الله واللفظة على وجهها وقال بعض
القصاص: إنه الاجتماع إليهم غدوة وعشيا فأنكر ذلك ابن المسيب
وعبد الرحمن بن أبي عمرة وغيرهما وقالوا: إنما الآية في
الصلوات في الجماعة، وقيل: قراءة القرآن وتعلمه قاله أبو جعفر
ذكره الطبري، وقيل العبادة قاله الضحاك: وقرأ أبو عبد الرحمن
ومالك بن دينار والحسن ونصر بن عاصم وابن عامر «بالغدوة
والعشي» ، وروي عن أبي عبد الرحمن «بالغدو» بغير هاء، وقرأ ابن
أبي عبلة «بالغدوات والعشيات» بألف فيهما على الجمع، وغدوة:
معرفة لأنها جعلت علما لوقت من ذلك اليوم بعينه وجاز إدخال
الألف واللام عليها كما حكى أبو زيد لقيته فينة غير مصروف
والفينة بعد الفينة فألحقوا لام المعرفة ما استعمل معرفة،
وحملا على ما حكاه الخليل أنه يقال: لقيته اليوم غدوة منونا،
ولأن فيها مع تعيين اليوم، إمكان تقدير معنى الشياع، ذكره أبو
علي الفارسي ووَجْهَهُ في هذا الموضع معناه جهة التزلق إليه
كما تقول خرج فلان في وجه كذا أي في مقصد وجهة وما عَلَيْكَ
مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ معناه لم تكلف شيئا غير دعائهم
فتقدم أنت وتؤخر ويظهر يكون الضمير في حِسابِهِمْ وعَلَيْهِمْ
للكفار الذين أرادوا طرد المؤمنين، أي ما عليك منهم آمنوا ولا
كفروا فتطرد هؤلاء رعيا لذلك، والضمير في «تطردهم» عائد على
الضعفة من المؤمنين، ويؤيد هذا التأويل أن ما بعد الفاء أبدا
سبب ما قبلها، وذلك لا يبين إذا كانت الضمائر كلها للمؤمنين،
وحكى الطبري أن الحساب هنا إنما هو في رزق الدنيا، أي لا
ترزقهم ولا يرزقونك.
(2/295)
وَإِذَا جَاءَكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ
عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ
(55)
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا تجيء
الضمائر كلها للمؤمنين، وذكره المهدوي، وذكر عن الحسن أنه من
حساب عملهم كما قال الجمهور، ومِنْ الأولى للتبعيض والثانية
زائدة مؤكدة، وقوله:
فَتَطْرُدَهُمْ جواب النفي في قوله: ما عَلَيْكَ وقوله:
فَتَكُونَ جواب النهي في قوله: ما عَلَيْكَ وقوله: فَتَكُونَ
جواب النهي في قوله: وَلا تَطْرُدِ ومِنَ الظَّالِمِينَ، معناه
يضعون الشيء غير مواضعه وقوله تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ الآية فَتَنَّا معناه في هذه الآية:
ابتلينا، فابتلاء المؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من
الأذى، وابتلاء المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من
المشركين قوما لا شرف لهم قد عظمهم هذا الدين وجعل لهم عند
نبيه قدرا ومنزلة، والإشارة بذلك إلى ما ذكر من طلبهم أن يطرد
الضعفة ولِيَقُولُوا معناه ليصير بحكم القدر أمرهم إلى أن
يقولوا، فهي لام الصيرورة كما قال تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] أي
ليصير مثاله أن يكون لهم عدوا وقول المشركين على هذا التأويل
أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا هو على جهة
الاستخفاف والهزء ويحتمل الكلام معنى آخر وهو أن تكون اللام في
لِيَقُولُوا على بابها في لام كي وتكون المقالة منهم استفهاما
لأنفسهم ومباحثة لها وتكون سبب إيمان من سبق إيمانه منهم،
فمعنى الآية على هذا التأويل وكذلك ابتلينا أشراف الكفار
بضعفاء المؤمنين ليتعجبوا في نفوسهم من ذلك ويكون سبب نظر لمن
هدي.
قال القاضي أبو محمد: والتأويل الأول أسبق والثاني يتخرج، ومنّ
على كلا التأويلين إنما هي على معتقد المؤمنين، أي هؤلاء منّ
الله عليهم بزعمهم أن دينهم منة، وقوله أَلَيْسَ اللَّهُ
بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أي يا أيها المستخفون أو المتعجبون
على التأويل الآخر ليس الأمر أمر استخفاف ولا تعجب، فالله أعلم
بمن يشكر نعمته والمواضع التي ينبغي أن يوضع فيها فجاء إعلامهم
بذلك في لفظ التقدير إذ ذلك بين لا تمكنهم فيه معاندة.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 54 الى 55]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ
عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ
مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ
الْمُجْرِمِينَ (55)
قال جمهور المفسرين: الَّذِينَ يراد بهم القوم الذين كان عرض
طردهم فنهى الله عز وجل عن طردهم، وشفع ذلك بأن أمر بأن يسلم
النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ويؤنسهم، وقال عكرمة وعبد
الرحمن بن زيد الَّذِينَ يراد بهم القوم من المؤمنين الذين
صوبوا رأي أبي طالب في طرد الضعفة فأمر الله نبيه أن يسلم
عليهم ويعلمهم أن الله يغفر لهم مع توبتهم من ذلك السوء وغيره،
وأسند الطبري عن ماهان أنه قال نزلت الآية في قوم من المؤمنين
استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذنوب سلفت منهم فنزلت
الآية بسببهم.
قال القاضي أبو محمد: وهي على هذا تعم جميع المؤمنين دون أن
تشير إلى فرقة، وقال الفضيل بن
(2/296)
عياض: قال قوم للنبي صلى الله عليه وسلم
إنّا قد أصبنا ذنوبا فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت الآية،
وقوله بِآياتِنا يعم آيات القرآن وأيضا علامات النبوة كلها،
وسَلامٌ عَلَيْكُمْ ابتداء والتقدير: سلام ثابت أو أوجب عليكم،
والمعنى: أمنة لكم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، وقيل
المعنى أن الله يسلم عليكم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا معنى لا يقتضيه لفظ الآية حكاه
المهدوي، ولفظه لفظ الخبر وهو في معنى الدعاء، وهذا من المواضع
التي جاز فيها الابتداء بالنكرة إذ قد تخصصت، وكَتَبَ بمعنى
أوجب، والله تعالى لا يجب عليه شيء عقلا إلا إذا أعلمنا أنه قد
حتم بشيء ما فذلك الشيء واجب، وفي: أين هذا الكتاب اختلاف؟ قيل
في اللوح المحفوظ، وقيل في كتاب غيره لقوله عليه السلام في
صحيح البخاري:
إن الله تعالى كتب كتابا فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت
غضبي، وقرأ عاصم وابن عامر: «أنه» بفتح الهمزة في الأولى
والثانية، ف «أنه» الأولى بدل من الرحمة و «أنه» الثانية خبر
ابتداء مضمر تقديره:
فأمره أنه غفور رحيم، هذا مذهب سيبويه وقال أبو حاتم «فإنه»
ابتداء ولا يجوز هذا عند سيبويه، وقال النحاس: هي عطف على
الأولى وتكرير لها لطول الكلام، قال أبو علي. ذلك لا يجوز لأن
مَنْ لا يخلو أن تكون موصولة بمعنى الذي فتحتاج إلى خبر أو
تكون شرطية فتحتاج إلى جواب، وإذا جعلنا «فأنه» تكريرا للأولى
عطفا عليها بقي المبتدأ بلا خبر أو الشرط بلا جواب، قرأ ابن
كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «إنه» بكسر الهمزة في الأولى
والثانية، وهذا على جهة التفسير للرحمة في الأولى والقطع فيها،
وفي الثانية إما في موضع الخبر أو موضع جواب الشرط وحكم ما بعد
الفاء إنما هو الابتداء، وقرأ نافع بفتح الأولى وكسر الثانية،
وهذا على أن أبدل من الرحمة واستأنف بعد الفاء، وقرأت فرقة
بكسر الأولى وفتح الثانية حكاه الزهراوي عن الأعرج وأظنه وهما،
لأن سيبويه حكاه عن الأعرج مثل قراءة نافع، وقال أبو عمرو
الداني: قراءة الأعرج ضد قراءة نافع، و «الجهالة» في هذا
الموضع تعم التي تضاد العلم والتي تشبه بها، وذلك أن المتعمد
لفعل الشيء الذي قد نهي عنه تشمل معصيته تلك جهالة، إذ قد فعل
ما يفعله الذي لم يتقدم له علم، قال مجاهد: من الجهالة أن لا
يعلم حلالا من حرام ومن جهالته أن يركب الأمر، ومن هذا الذي لا
يضاد العلم قول النبي عليه السلام في استعاذته «أو أجهل أو
يجهل عليّ» ، ومنه قول الشاعر [عمرو بن كلثوم] : [الوافر]
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
والجهالة المشبهة ليست بعذر في الشرع جملة والجهالة الحقيقية
يعذر بها في بعض ما يخف من الذنوب ولا يعذر بها في كبيرة، و
«التوبة» الرجوع، وصحتها مشروطة باستدامة الإصلاح بعدها في
الشيء الذي تيب منه، والإشارة بقوله وَكَذلِكَ إلى ما تقدم من
النهي عن طرد المؤمنين وبيان فساد منزع العارضين لذلك، وتفصيل
الآيات تبيينها وشرحها وإظهارها، واللام في قوله
وَلِتَسْتَبِينَ متعلقة بفعل مضمر تقديره ولتستبين سبيل
المجرمين فصلناها، وقرأ نافع: «ولتستبين» بالتاء أي النبي صلى
الله عليه وسلم، «سبيل» بالنصب حكاه مكي في المشكل له، وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: «ولتستبين سبيل
المجرمين» برفع السبيل وتأنيثها، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر
وحمزة والكسائي
(2/297)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ
أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ
لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا
مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ
بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ
خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
«وليستبين سبيل» برفع السبيل وتذكيرها،
وعرب الحجاز تؤنث السبيل، وتميم وأهل نجد يذكرونها، وخص سبيل
المجرمين لأنهم الذين أثاروا ما تقدم من الأقوال وهم أهم في
هذا الموضع لأنها آيات رد عليهم، وأيضا فتبيين سبيلهم يتضمن
بيان سبيل المؤمنين، وتأول ابن زيد أن قوله الْمُجْرِمِينَ
يعني به الآمرون بطرد الضعفة.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 56 الى 58]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ
إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ
الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ
عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
أمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يجاهرهم بالتبري مما هم
فيه وأَنْ أَعْبُدَ هو بتأويل المصدر التقدير عن عبادة، ثم حذف
الجار فتسلط الفعل ثم وضع أَنْ أَعْبُدَ موضع المصدر، وعبر عن
الأصنام ب الَّذِينَ على زعم الكفار حين أنزلوها منزلة من
يعقل، وتَدْعُونَ معناه تعبدون، ويحتمل أن يريد تدعون في
أموركم وذلك من معنى العبادة واعتقادها آلهة وقرأ جمهور الناس
«قد ضللت» بفتح اللام، قرأ يحيى بن وثاب وأبو عبد الرحمن
السلمي وطلحة بن مصرف: «ضللت» بكسرها، وهما لغتان وإِذاً في
هذا الموضع متوسطة وما بعدها معتمد على ما قبلها فهي غير عاملة
إلا أنها تتضمن معنى الشرط فهي بتقدير إن فعلت ذلك ف
أَهْواءَكُمْ جمع هوى وهو الإرادة المحبة في المرديات من
الأمور هذا غالب استعمال الهوى وقد تقدم، وقوله تعالى: قُلْ
إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي الآية، هذه الآية تماد في
إيضاح مباينته لهم، والمعنى قل إني على أمر بين فحذف الموصوف
ثم دخلت هاء المبالغة كقوله عز وجل: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى
نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
[القيامة: 14] ويصح أن تكون الهاء في بَيِّنَةٍ مجردة للتأنيث،
ويكون بمعنى البيان، كما قال وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ
بَيِّنَةٍ [الأنفال: 42] والمراد بالآية أني أيها المكذبون في
اعتقادي ويقيني وما حصل في نفسي من العلم على بينة من ربي
وَكَذَّبْتُمْ بِهِ الضمير في بِهِ عائد على بين في تقدير هاء
المبالغة أو على البيان التي هي بَيِّنَةٍ بمعناه في التأويل
الآخر، أو على الرب، وقيل على القرآن وهو وإن لم يتقدم له ذكر
جلي فإنه بعض البيان الذي منه حصل الاعتقاد واليقين للنبي عليه
السلام، فيصح عود الضمير عليه.
قال القاضي أبو محمد: وللنبي عليه السلام أمور أخر غير القرآن
وقع له العلم أيضا من جهتها كتكليم الحجارة له ورؤيته للملك
قبل الوحي وغير ذلك، وقال بعض المفسرين الضمير في بِهِ عائد
على ما والمراد بها الآيات المقترحة على ما قال بعض المفسرين،
وقيل المراد بها العذاب، وهذا يترجح بوجهين: أحدهما من جهة
المعنى وذلك أن قوله وَكَذَّبْتُمْ بِهِ يتضمن أنكم واقعتم ما
تستوجبون به العذاب إلا أنه ليس عندي، والآخر من جهة اللفظ وهو
الاستعجال الذي لم يأت في القرآن استعجالهم إلا
(2/298)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ
الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا
يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا
رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ
الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ
بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ
مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ
بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
العذاب لأن اقتراحهم بالآيات لم يكن
باستعجال، وقوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي القضاء
والإنفاذ يَقُصُّ الْحَقَّ أي يخبر به، والمعنى يقص القصص
الحق، وهذه قراءة ابن كثير وعاصم ونافع وابن عباس، وقرأ أبو
عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر «يقضي الحق» أي ينفذه، وترجع
هذه القراءة بقوله الْفاصِلِينَ لأن الفصل مناسب للقضاء، وقد
جاء أيضا الفصل والتفصيل مع القصص، وفي مصحف عبد الله بن مسعود
«وهو أسرع الفاصلين» ، قال أبو عمرو الداني: وقرأ عبد الله
وأبيّ ويحيى ابن وثاب وإبراهيم النخعي وطلحة والأعمش «يقضي
بالحق» بزيادة باء الجر، وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير «يقضي الحق
وهو خير الفاصلين» ، وقوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي
الآية، المعنى لو كان عندي الآيات المقترحة أو العذاب على
التأويل الآخر لقضي الأمر أي لوقع الانفصال، وتم التنازع لظهور
الآية المقترحة أو لنزل العذاب بحسب التأويلين، وحكى الزهراوي:
أن المعنى لقامت القيامة، ورواه النقاش عن عكرمة، وقال بعض
الناس: معنى لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لذبح الموت.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا قول ضعيف جدا لأن
قائله سمع هذا المعنى في قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ
الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ [مريم: 39] وذبح الموت هنا
لائق فنقله إلى هذا الموضع دون شبه، وأسند الطبري هذا القول
إلى ابن جريج غير مقيد بهذه السورة، والظن بابن جريج أنه إنما
فسر الذي في يوم الحسرة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ
يتضمن الوعيد والتهديد.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 60]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ
وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ
وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ
الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ
(59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما
جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى
أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ
يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
مَفاتِحُ جمع مفتح وهذه استعارة عبارة عن التوصل إلى الغيوب
كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان، ولو كان
جمع مفتاح لقال مفاتيح، ويظهر أيضا أن مَفاتِحُ جمع مفتح بفتح
الميم أي مواضع تفتح عن المغيبات، ويؤيد هذا قول السدي وغيره
مَفاتِحُ الْغَيْبِ خزائن الغيب، فأما مفتح بالكسر فهو بمعنى
مفتاح، وقال الزهراوي: ومفتح أفصح، وقال ابن عباس وغيره،
الإشارة ب مَفاتِحُ الْغَيْبِ هي إلى الخمسة التي في آخر
لقمان، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34]
الآية، لأنها تعم جميع الأشياء التي لم توجد بعد، ثم قوي
البيان بقوله وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تنبيها
على أعظم المخلوقات المجاورة للبشر وقوله مِنْ وَرَقَةٍ على
حقيقته في ورق النباتات، ومِنْ زائدة وإِلَّا يَعْلَمُها يريد
على الإطلاق وقبل السقوط ومعه وبعده، وَلا حَبَّةٍ فِي
ظُلُماتِ الْأَرْضِ يريد في أشد حال التغيب، وهذا كله وإن كان
داخلا في قوله وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ عند من رآها في
الخمس وغيرها ففيه البيان
(2/299)
وَهُوَ الْقَاهِرُ
فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا
جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا
يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ
الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ
(62)
والإيضاح والتنبيه على مواضع العبر، أي إذا
كانت هذه المحقورات معلومة فغيرها من الجلائل أحرى، وَلا
رَطْبٍ وَلا يابِسٍ عطف على اللفظ وقرأ الحسن وعبد الله بن أبي
إسحاق «ولا رطب ولا يابس» بالرفع عطفا على الموضع في وَرَقَةٍ،
لأن التقدير وما تسقط ورقة وإِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ قيل
يعني كتابا على الحقيقة، ووجه الفائدة فيه امتحان ما يكتبه
الحفظة، وذلك أنه روي أن الحفظة يرفعون ما كتبوه ويعارضونه
بهذا الكتاب المشار إليه ليتحققوا صحة ما كتبوه، وقيل: المراد
بقوله: إِلَّا فِي كِتابٍ علم الله عز وجل المحيط بكل شيء،
وحكى النقاش عن جعفر بن محمد قولا: أن «الورقة» يراد بها السقط
من أولاد بني آدم، و «الحبة» يراد بها الذي ليس يسقط، و
«الرطب» يراد به الحي، و «اليابس» يراد به الميت، وهذا قول جار
على طريقة الرموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد رضي الله عنه، ولا
ينبغي أن يلتفت إليه، وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ الآية، فيها إيضاح
الآيات المنصوبة للنظر، وفيها ضرب مثل للبعث من القبور، أن هذا
أيضا إماتة وبعث على نحو ما، والتوفي هو استيفاء عدد، قال
الشاعر [منظور الوبري] : [الرجز]
إنّ بني الأدرم ليسوا من أحد ... ولا توفّاهم قريش في العدد
وصارت اللفظة عرفا في الموت، وهي في النوم على بعض التجوز،
وجَرَحْتُمْ معناه كسبتم، ومنه جوارح الصيد أي كواسبه، ومنه
جوارح البدن لأنها كواسب النفس، ويحتمل أن يكون جَرَحْتُمْ هنا
من الجرح كأن الذنب جرح في الدين، والعرب تقول جرح اللسان كجرح
اليد، وروي عن ابن مسعود أو سلمان شك ابن دينار، أنه قال: إن
هذه الذنوب جراحات فمنها شوى ومنها مقتلة، ألا وإن الشرك بالله
مقتلة، ويَبْعَثُكُمْ يريد الإيقاظ، ففي فِيهِ عائد على النهار
قاله مجاهد، وقتادة والسدي، وذكر النوم مع الليل واليقظة مع
النهار بحسب الأغلب وإن كان النوم يقع بالنهار واليقظة بالليل
فنادر، ويحتمل أن يعود الضمير على التوفي أي يوقظكم في التوفي
أي في خلاله وتضاعيفه قاله عبد الله بن كثير، وقيل يعود على
الليل وهذا قلق في اللفظ وهو في المعنى نحو من الذي قبله، وقرأ
طلحة بن مصرف وأبو رجاء «ليقضي أجلا مسمى» ، والمراد بالأجل
آجال بني آدم، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ يريد بالبعث
والنشور ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ أي يعلمكم إعلام توقيف ومحاسبة.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 61 الى 62]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ
حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ
رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى
اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ
أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)
الْقاهِرُ إن أخذ صفة فعل أي مظهر القهر بالصواعق والرياح
والعذاب فيصح أن يجعل فَوْقَ ظرفية للجهة لأن هذه الأشياء إنما
تعاهدها العباد من فوقهم، وإن أخذ الْقاهِرُ صفة ذات بمعنى
القدرة والاستيلاء ف فَوْقَ لا يجوز أن تكون للجهة، وإنما هي
لعلو القدر والشأن على حد ما تقول:
الياقوت فوق الحديد، وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ معناه يبثهم فيكم،
وحَفَظَةً جمع حافظ مثل كاتب وكتبة،
(2/300)
قُلْ مَنْ
يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ
تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ
يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ
تُشْرِكُونَ (64)
والمراد بذلك الملائكة الموكلون بكتب
الأعمال، وروي أنهم الملائكة الذين قال فيهم النبي عليه السلام
«تتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» وقاله السدي
وقتادة، وقال بعض المفسرين حَفَظَةً يحفظون الإنسان من كل شيء
حتى يأتي أجله، والأول أظهر، وكلهم غير حمزة قرأ «توفيه رسلنا»
على تأنيث لفظ الجمع. كقوله عز وجل: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ
مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام: 34] وقرأ حمزة «توفاه رسلنا» ، وحجته
أن التأنيث غير حقيقي، وظاهر الفعل أنه ماض كقوله تعالى:
وَقالَ نِسْوَةٌ [يوسف: 30] ويحتمل أن يكون بمعنى تتوفاه فتكون
العلامة مؤنثة، وأمال حمزة من حيث خط المصحف بغير ألف فكأنها
إنما كتبت على الإمالة، وقرأ الأعمش «يتوفيه رسلنا» بزيادة ياء
في أوله والتذكير، وقوله تعالى: رُسُلُنا يريد به على ما ذكر
ابن عباس وجميع أهل التأويل ملائكة مقترنين بملك الموت
يعاونونه ويأتمرون له، وقرأ جمهور الناس «لا يفرّطون»
بالتشديد، وقرأ الأعرج «يفرطون» بالتخفيف، ومعناه يجاوزون الحد
مما أمروا به، قال أبو الفتح: فكما أن المعنى في قراءة العامة
لا يقصرون فكذلك هو في هذه لا يزيدون على أمروا به، ورجح اللفظ
في قوله رُدُّوا من الخطاب إلى الغيبة، والضمير في رُدُّوا
عائد على المتقدم ذكرهم، ويظهر أن يعود على العباد فهو إعلام
برد الكل، وجاءت المخاطبة بالكاف في قوله عَلَيْكُمْ تقريبا
للموعظة من نفوس السامعين، ومَوْلاهُمُ لفظ عام لأنواع الولاية
التي تكون بين الله وبين عبيده من الرّزق والنصرة والمحاسبة
والملك وغير ذلك، وقوله الْحَقِّ نعت ل مَوْلاهُمُ، ومعناه
الذي ليس بباطل ولا مجاز، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والأعمش
«الحقّ» بالنصب، وهو على المدح، ويصح على المصدر، أَلا لَهُ
الْحُكْمُ ابتداء كلام مضمنه التنبيه وهز نفس السامع، «الحكم»
تعريفه للجنس أي جميع أنواع التصرفات في العباد وأَسْرَعُ
الْحاسِبِينَ متوجه على أن الله عز وجل حسابه لعبيده صادر عن
علمه بهم فلا يحتاج في ذلك إلى إعداد ولا تكلف سبحانه لا رب
غيره، وقيل لعلي بن أبي طالب كيف يحاسب الله العباد في حال
واحدة؟ قال: كما يرزقهم في حال واحدة في الدنيا.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 64]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ
يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ
تُشْرِكُونَ (64)
هذا تماد في توبيخ العادلين بالله الأوثان، وتوقيفهم على سوء
الفعل في عبادتهم الأصنام وتركهم الذي ينجي من المهلكات ويلجأ
إليه في الشدائد، ومَنْ استفهام رفع بالابتداء، وقرأ عاصم
وحمزة والكسائي «من ينجّيكم قل الله ينجّيكم» بتشديد الجيم
وفتح النون، وقرأ أبو عمرو في رواية علي بن نصر عنه وحميد بن
قيس ويعقوب «ينجيكم» فيها بتخفيف الجيم وسكون النون، وقرأ ابن
كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالتشديد في الأولى والتخفيف
في الثانية فجمعوا بين التعدية بالألف والتعدية بالتضعيف كما
جاء ذلك في قوله تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ
رُوَيْداً [الطارق: 17] وظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يراد
به شدائدهما، فهو لفظ عام يستغرق ما كان من الشدائد بظلمة
حقيقية وما كان بغير ظلمة، والعرب تقول عام
(2/301)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ
عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ
مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ
بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ
الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ
نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
أسود ويوم مظلم ويوم ذو كواكب ونحو هذا
يريدون به الشدة، قال قتادة: المعنى من كرب البر والبحر، وقاله
الزجّاج وتَدْعُونَهُ في موضع الحال وتَضَرُّعاً نصب على
المصدر والعامل فيه تَدْعُونَهُ، والتضرع صفة بادية على
الإنسان، وَخُفْيَةً معناه الاختفاء والسر، فكأن نسق القول:
تدعونه جهرا وسرا هذه العبارة بمعان زائدة، وقرأ الجميع غير
عاصم: «وخفية» بضم الخاء، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «وخفية»
بكسر الخاء، وقرأ الأعمش: «وخيفة» من الخوف وقرأ الحجازيون
وأهل الشام: «أنجيتنا» ، وقرأ الكوفيون «أنجانا» على ذكر
الغائب، وأمال حمزة والكسائي الجيم، ومِنَ الشَّاكِرِينَ أي
على الحقيقة، والشكر على الحقيقة يتضمن الإيمان، وحكى الطبري
في قوله ظُلُماتِ أنه ضلال الطرق في الظلمات ونحوه المهدوي أنه
ظلام الليل والغيم والبحر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التخصيص كله لا وجه له وإنما هو لفظ
عام لأنواع الشدائد في المعنى، وخص لفظ «الظلمات» بالذكر لما
تقرر في النفوس من هول الظلمة، وقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ
يُنَجِّيكُمْ الآية: سبق في المجادلة إلى الجواب، إذ لا محيد
عنه، وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ لفظ عام أيضا ليتضح العموم الذي في
الظلمات، ويصح أن يتأول من قوله وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ تخصيص
الظلمات قبل، ونص عليها لهولها، وعطف في هذا الموضع ب ثُمَّ
للمهلة التي تبين قبح فعلهم، أي ثم بعد معرفتكم بهذا كله
وتحققكم به أنتم تشركون.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 65 الى 67]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً
مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ
انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ
(65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ
عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ
وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
هذا إخبار يتضمن الوعيد، والأظهر من نسق الآيات أن هذا الخطاب
للكفار الذين تقدم ذكرهم وهو مذهب الطبري، وقال أبيّ بن كعب
وأبو العالية وجماعة معهما: هي للمؤمنين وهم المراد، قال أبي
بن كعب: هي أربع خلال وكلهن عذاب وكلهن واقع قبل يوم القيامة
فمضت اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين
سنة، ثم لبسوا شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض، واثنتان واقعتان لا
محالة الخسف والرجم، وقال الحسن بن أبي الحسن: بعضها للكفار
وبعضها للمؤمنين بعث العذاب من فوق وتحت للكفار وسائرها
للمؤمنين، وهذا الاختلاف إنما هو بحسب ما يظهر من أن الآية
تتناول معانيها المشركين والمؤمنين، وروي من حديث جابر وخالد
الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت أَنْ
يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ قال أعوذ بوجهك
فلما نزلت أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال: أعوذ بوجهك فلما
نزلت أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ
بَعْضٍ قال هذه أهون أو هذه أيسر، فاحتج بهذا من قال إنها نزلت
في المؤمنين، وقال الطبري: وغير ممتنع أن يكون النبي صلى الله
عليه وسلم تعوذ لأمته من هذه الأشياء التي توعد بها الكفار،
وهون الثالثة لأنها بالمعنى هي التي دعا بها فمنع حسب حديث
(2/302)
وَإِذَا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ
الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ
حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ (69)
الموطأ وغيره، وقد قال ابن مسعود: إنها
أسوأ الثلاث، وهذا عندي على جهة الإغلاظ في الموعظة، والحق
أنها أيسرها كما قال عليه السلام، ومِنْ فَوْقِكُمْ ومِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ لفظ عام للمنطبقين على الإنسان وقال السدي
عن أبي مالك مِنْ فَوْقِكُمْ الرجم أَوْ مِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ الخسف وقاله سعيد بن جبير ومجاهد، وقال ابن عباس
رضي الله عنه: مِنْ فَوْقِكُمْ ولاة الجور أَوْ مِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ سفلة السوء وخدمة السوء.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذه كلها أمثلة لا أنها هي
المقصود، إذ هذه وغيرها من القحوط والغرق وغير ذلك داخل في
عموم اللفظ ويَلْبِسَكُمْ على قراءة الستة معناه يخلطكم شيعا
فرقا يتشيع بعضها لبعض، واللبس الخلط، وقال المفسرون هو افتراق
الأهواء والقتال بين الأمة، وقرأ أبو عبد الله المدني «يلبسكم»
بضم الياء من ألبس فهو على هذه استعارة من اللباس، فالمعنى أو
يلبسكم الفتنة شيعا وشِيَعاً منصوب على الحال وقد قال الشاعر
[النابغة الجعدي] : [المتقارب]
لبست أناسا فأفنيتهم
فهذه عبارة عن الخلطة والمقاساة، والبأس القتل وما أشبهه من
المكاره، وَيُذِيقَ استعارة إذ هي من أجل حواس الاختبار، وهي
استعارة مستعملة في كثير من كلام العرب وفي القرآن، وقرأ
الأعمش «ونذيق» بنون الجماعة، وهي نون العظمة في جهة الله عز
وجل، وتقول أذقت فلانا العلقم تريد كراهية شيء صنعته به ونحو
هذا، وفي قوله تعالى انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآية، استرجاع
لهم وإن كان لفظها لفظ تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم فمضمنها
أن هذه الآيات والدلائل إنما هي لاستصرافهم عن طريق غيهم، و
«الفقه» الفهم، والضمير في بِهِ عائد على القرآن الذي فيه جاء
تصريف الآيات، قاله السدي وهذا هو الظاهر، وقيل يعود على النبي
عليه السلام وهذا بعيد لقرب مخاطبته بعد ذلك بالكاف في قوله:
قَوْمُكَ ويحتمل أن يعود الضمير على الوعيد الذي تضمنته الآية
ونحا إليه الطبري، وقرأ ابن أبي عبلة «وكذبت قومك» بزيادة تاء،
وبِوَكِيلٍ معناه بمدفوع إلى أخذكم بالإيمان والهدى، والوكيل
بمعنى الحفيظ، وهذا كان قبل نزول الجهاد والأمر بالقتال ثم
نسخ، وقيل لا نسخ في هذا إذ هو خبر.
قال القاضي أبو محمد: والنسخ فيه متوجه لأن اللازم من اللفظ
لست الآن، وليس فيه أنه لا يكون في المسأنف وقوله: لِكُلِّ
نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي غاية يعرف عندها صدقه من كذبه، وَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ تهديد محض ووعيد.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 68 الى 69]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا
يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى
مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ
يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
لفظ هذا الخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، واختلف في
معناه فقيل إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه.
(2/303)
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصحيح، لأن
علة النهي وهي سماع الخوض في آيات الله تسلهم وإياه وقيل: بل
بالمعنى أيضا إنما أريد به النبي صلى الله عليه وسلم وحده، لأن
قيامه عن المشركين كان يشق عليهم وفراقه لهم على معارضته وإن
لم يكن المؤمنون عندهم كذلك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن
ينابذهم بالقيام عنهم إذا استهزؤوا وخاضوا ليتأدبوا بذلك
ويدعوا الخوض والاستهزاء، وهذا التأويل يتركب على كلام ابن
جرير يرحمه الله، والخوض أصله في الماء ثم يستعمل بعد في غمرات
الأشياء التي هي مجاهل تشبيها بغمرات الماء، وَإِمَّا شرط
وتلزمها النون الثقيلة في الأغلب، وقد لا تلزم كما قال:
إمّا يصبك عدوّ في مناوأة
إلى غير ذلك من الأمثلة، وقرأ ابن عامر وحده «ينسّنك» بتشديد
السين وفتح النون والمعنى واحد، إلا أن التشديد أكثر مبالغة،
والذِّكْرى والذكر واحد في المعنى وإنما هو تأنيث لفظي، ووصفهم
هنا ب الظَّالِمِينَ متمكن لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه،
وفَأَعْرِضْ في هذه الآية بمعنى المفارقة على حقيقة الإعراض
وأكمل وجوهه، ويدل على ذلك فَلا تَقْعُدْ.
وقوله تعالى:
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ الآية،
المراد ب الَّذِينَ هم المؤمنون. والضمير في حِسابِهِمْ عائد
على الَّذِينَ يَخُوضُونَ ومن قال إن المؤمنين داخلون في قوله:
فَأَعْرِضْ قال إن النبي عليه السلام داخل في هذا القصد ب
الَّذِينَ يَتَّقُونَ، والمعنى عندهم على ما روي أن المؤمنين
قالوا لما نزلت فلا تقعد معهم قالوا: إذا كنا لا نضرب المشركين
ولا نسمع أقوالهم فما يمكننا طواف ولا قضاء عبادة في الحرم
فنزلت لذلك وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ.
قال القاضي أبو محمد: فالإباحة في هذا هي في القدر الذي يحتاج
إليه من التصرف بين المشركين في عبادة ونحوها، وقال بعض من
يقول إن النبي عليه السلام داخل في الَّذِينَ يَتَّقُونَ وإن
المؤمنين داخلون في الخطاب الأول أن هذه الآية الأخيرة ليست
إباحة بوجه، وإنما معناها لا تقعدوا معهم ولا تقربوهم حتى
تسمعوا استهزاءهم وخوضهم، وليس نهيكم عن القعود لأن عليكم شيئا
من حسابهم وإنما هو ذكرى لكم، ويحتمل المعنى أن يكون لهم لعلهم
إذا جانبتموهم يتقون بالإمساك عن الاستهزاء، وأما من قال إن
الخطاب الأول هو مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم لثقل مفارقته
مغضبا على الكفار فإنه قال في هذه الآية الثانية إنها مختصة
بالمؤمنين، ومعناها الإباحة، فكأنه قال فلا تقعد معهم يا محمد
وأما المؤمنون فلا شيء عليهم من حسابهم فإن قعدوا فليذكروهم
لعلهم يتقون الله في ترك ما هم فيه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول أشار إليه النقاش ولم يوضحه،
وفيه عندي نظر، وقال قائل هذه المقالة: إن هذه الإباحة
للمؤمنين نسخت بآية النساء قوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ
يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء: 140] وكذلك
أيضا من قال أولا إلا أن الإباحة كانت بحسب العبادات يقول إن
هذه الآية التي في النساء ناسخة لذلك إذ هي مدنية، والإشارة
بقوله: وَقَدْ نَزَّلَ [النساء: 140] إليها بنفسها فتأمله،
وإلا فيجب أن يكون الناسخ
(2/304)
وَذَرِ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ
بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا
شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا
أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ
مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ
(70)
غيرها، وذِكْرى على هذا القول يحتمل أن
يكون ذكروهم ذكرى، ويحتمل ولكن أعرضوا متى أعرضتم في غير وقت
العبادة ذكرى، وذِكْرى على كل قول يحتمل أن تكون في موضع نصب
بإضمار فعل أو رفع بإضمار مبتدأ، وينبغي للمؤمن أن يمتثل حكم
هذه الآية مع الملحدين وأهل الجدال والخوض فيه، وحكى الطبري عن
أبي جعفر أنه قال لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون
في آيات الله.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 70]
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً
وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ
تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا
يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا
لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا
يَكْفُرُونَ (70)
هذا أمر بالمشاركة وكان ذلك بحسب قلة أتباع الإسلام حينئذ، قال
قتادة: ثم نسخ ذلك وما جرى مجراه بالقتال، وقال مجاهد: الآية
إنما هي للتهديد والوعيد فهي كقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: 11] وليس فيها نسخ لأنها متضمنة
خبرا وهو التهديد، وقوله: لَعِباً وَلَهْواً يريد إذ يعتقدون
أن لا بعث فهم يتصرفون بشهواتهم تصرف اللاعب اللاهي،
وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي خدعتهم من الغرور وهو
الإطماع بما لا يتحصل فاغتروا بنعم الله ورزقه وإمهاله وطمعهم
ذلك فيما لا يتحصل من رحمته.
قال القاضي أبو محمد: ويتخرج في غَرَّتْهُمُ هنا وجه آخر من
الغرور بفتح الغين أي ملأت أفواههم وأشبعتهم، ومنه قول الشاعر:
[الطويل]
ولما التقينا بالحنيّة غرّني ... بمعروفه حتّى خرجت أفوّق
ومنه غر الطائر فرخه، ولا يتجه هذا المعنى في تفسير «غر» في كل
موضع وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللعب واللهو
دينا، ويحتمل أن يكون المعنى اتخذوا دينهم الذي كان ينبغي لهم
لعبا ولهوا، والضمير في بِهِ عائد على الدين، وقيل: على
القرآن، وأَنْ تُبْسَلَ في موضع المفعول أي لئلا تبسل أو
كراهية أن تبسل، ومعناه تسلم، قال الحسن وعكرمة، وقال قتادة:
تحبس وترتهن، وقال ابن عباس: تفضي وقال الكلبي وابن زيد: تجزى،
وهذه كلها متقاربة بالمعنى، ومنه قول الشنفري: [الطويل]
هنالك لا أرجو حياة تسرّني ... سمير اللّيالي مبسلا بالجرائر
وقال بعض الناس هو مأخوذ من البسل أي من الحرام كما قال الشاعر
[ضمرة النهشاني] : [الكامل]
بكرت تلومك بعد وهن في النّدى ... بسل عليك ملامتي وعتابي
قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد، ونَفْسٌ تدل على الجنس، ومعنى
الآية وذكر بالقرآن والدين وادع إليه لئلا تبسل نفس التارك
للإيمان بما كسبت من الكفر وآثرته من رفض الإسلام، وقوله
تعالى: لَيْسَ
(2/305)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ
دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ
عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ
أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ
هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ (71)
لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ
في موضع الحال، ومِنْ لابتداء الغاية ويجوز أن تكون زائدة
ودُونِ ظرف مكان وهي لفظة تقال باشتراك، وهي في هذه الآية
الدالة على زوال من أضيفت إليه من نازلة القول كما في المثل:
وأمر دون عبيدة الودم والولي والشفيع هما طريقا الحماية والغوث
في جميع الأمور وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ أي وإن تعط كل
فدية، وإن عظمت فتجعلها عدلا لها لا يقبل منها، وحكى الطبري عن
قائل ان المعنى وإن تعدل من العدل المضاد للجور، ورد عليه
وضعّفه بالإجماع على أن توبة الكافر مقبولة.
قال القاضي أبو محمد: ولا يلزم هذا الرد لأن الأمر إنما هو يوم
القيامة ولا تقبل فيه توبة ولا عمل، والقول نص لأبي عبيدة، و
«العدل» في اللغة مماثل الشيء من غير جنسه، وقبل: العدل بالكسر
المثل والعدل بالفتح القيمة، وأُولئِكَ إشارة إلى الجنس
المدلول عليه بقوله تُبْسَلَ نَفْسٌ، وأُبْسِلُوا معناه أسلموا
بما اجترحوه من الكفر، و «الحميم» الماء الحار، ومنه الحمام
والحمة ومنه قول أبي ذؤيب: [الكامل]
إلا الحميم فإنّه يتبصّع
«وأليم» فعيل بمعنى مفعل أي مؤلم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 71]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا
يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا
اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ
حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ
لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71)
المعنى: قل في احتجاجك: أنطيع رأيكم في أن ندعو من دون الله،
والدعاء يعم العبادة وغيرها لأن من جعل شيئا موضع دعائه فإياه
يعبد وعليه يتكل ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا يعني
الأصنام، إذ هي جمادات حجارة وخشب ونحوه، وضرر الأصنام في
الدين لا يفهمه الكفار فلذلك قال: وَلا يَضُرُّنا إنما الضرر
الذي يفهمونه من نزول المكاره الدنياوية، وَنُرَدُّ عَلى
أَعْقابِنا تشبيه، وذلك أن المردود على العقب هو أن يكون
الإنسان يمشي قدما وهي المشية الجيدة فيرد يمشي القهقرى، وهي
المشية الدنية فاستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر ووقعت
في هذه الآية في تمثيل الراجع من الهدى إلى عبادة الأصنام،
وهَدانَا بمعنى أرشدنا، قال الطبري وغيره الرد على العقب
يستعمل فيمن أمل أمرا فخاب أمله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول قلق وقوله تعالى: كَالَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ الآية الكاف في موضع نصب نعت لمصدر
محذوف تقديره ردا كرد الذي واسْتَهْوَتْهُ استفعلته بمعنى
استدعت هواه وأمالته، قال أبو عبيدة: ويحتمل هويه وهو جده
وركوب رأسه في النزوع إليهم، والهوى من هوى يهوي يستعمل في
السقوط من علو إلى أسفل، ومنه قول الشاعر:
هوى أبني من دار أشرف ... فزلّت رجله ويده
(2/306)
وهذا المعنى لا مدخل له في هذه الآية إلا
أن تتأول اللفظة بمعنى ألقته الشياطين في هوة، وقد ذهب إليه
أبو علي وقال: هو بمعنى أهوى كما أن استزل بمعنى أزل.
قال القاضي أبو محمد: والتحرير: أن العرب تقول: هوى وأهواه
غيره واستهواه بمعنى طلب منه أن يهوي هو أو طلب منه أن يهوي
شيئا، وبيستعمل الهوى أيضا في ركوب الرأس في النزوع إلى الشيء
ومنه قوله تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي
إِلَيْهِمْ [إبراهيم: 37] ، ومنه قول شاعر الجن: [السريع]
تهوي إلى مكّة تبغي الهدى ... ما مؤمن الجنّ كأنجاسها
وهذا المعنى هو الذي يليق بالآية، وقرأ الجمهور من الناس
«استهوته الشياطين» وقرأ الحسن «استهوته الشياطون» . وقال بعض
الناس: هو لحن، وليس كذلك بل هو شاذ قبيح وإنما هو محمول على
قولهم، سنون وأرضون إلا أن هذه في جمع مسلم وشياطون في جمع
مكسر فهذا موضع الشذوذ، وقرأ حمزة «استهواه الشياطين» وأمال
استهواه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعمش وطلحة «استهويه
الشيطان» بالياء وإفراد الشيطان، وذكر الكسائي أنها كذلك في
مصحف ابن مسعود، وقوله: فِي الْأَرْضِ يحكم بأن اسْتَهْوَتْهُ
إنما هو بمعنى استدعت هويه الذي هو الجد في النزوع وحَيْرانَ
في موضع الحال، ومؤنثه حيرى فهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة،
ومعناه ضالا متحيرا وهو حال من الضمير في اسْتَهْوَتْهُ
والعامل فيه اسْتَهْوَتْهُ، ويجوز أن يكون من الذي والعامل فيه
المقدر بعد الكاف، وقوله اسْتَهْوَتْهُ يقتضي أنه كان على طريق
فاستدعته.
قال القاضي أبو محمد: فسياق هذا المثل كأنه قال أيصلح أن يكون
بعد الهدى نعبد الأصنام فيكون ذلك منا ارتدادا على العقب فيكون
كرجل على طريق واضح فاستهوته عنه الشياطين فخرج عنه إلى دعوتهم
فبقي حائرا وقوله: لَهُ أَصْحابٌ يحتمل أن يريد له أصحاب على
الطريق الذي خرج منه فيشبه بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين
يدعون من ارتد إلى الرجوع إلى الهدى، وهذا تأويل مجاهد وابن
عباس ويحتمل أن يريد له أصحاب أي من الشياطين الدعاة أولا
يدعونه إلى الهدى بزعمهم وإنما يوهمونه فيشبه بالأصحاب على هذا
الكفرة الذين يثبتون من ارتد عن الإسلام على ارتداده، وروي هذا
التأويل عن ابن عباس أيضا، وائْتِنا من الإتيان بمعنى المجيء،
وفي مصحف عبد الله «إلى الهدى بينا» وهذه تؤيد تأويل من تأول
الهدى حقيقة إخبار من الله، وحكى مكي وغيره أن المراد ب «الذي»
في هذه الآية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وب «الأصحاب» أبوه
وأمه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأن في الصحيح أن عائشة رضي
الله عنها لما سمعت قول قائل: إن قوله تعالى: وَالَّذِي قالَ
لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما [الأحقاف: 17] نزلت في عبد الرحمن
بن أبي بكر قالت: كذبوا والله ما نزل فينا من القرآن شيء إلا
براءتي.
قال القاضي أبو محمد: حدثني أبي رضي الله عنه قال: سمعت الفقيه
الإمام أبا عبد الله المعروف بالنحوي المجاور بمكة يقول: من
نازع أحدا من الملحدة فإنما ينبغي أن يرد عليه وينازعه بالقرآن
والحديث فيكون كمن يدعو إلى الهدى بقوله: ائْتِنا، ومن ينازعهم
بالجدل ويحلق عليهم به فكأنه بعد
(2/307)
وَأَنْ أَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
(72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ
وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
عن الطريق الواضح أكثر ليرد هذا الزائغ فهو
يخاف عليه أن يضل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا انتزاع حسن جدا، وقوله تعالى: قُلْ
إِنَّ هُدَى اللَّهِ الآية، من قال إن «الأصحاب» هم من
الشياطين المستهزئين وتأول إلى الهدى بزعمهم قال: إن قوله:
قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى رد عليهم في زعمهم فليس
ما زعموه صحيحا وليس بهدى بل هو نفسه كفر وضلال، وإنما الهدى
هدى الله وهو الإيمان، ومن قال: إن «الأصحاب» هم على الطريق
المدعو إليها وإن المؤمنين الداعين للمرتدين شبهوا بهم وإن
الهدى هو هدى على حقيقته يجيء على قوله: قُلْ إِنَّ هُدَى
اللَّهِ بمعنى أن دعاء الأصحاب وإن كان إلى هدى فليس بنفس
دعائهم تقع الهداية وإنما يهتدي بذلك الدعاء من هداه الله
تعالى بهداه، وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ اللام لام كي ومعها أن
مقدرة ويقدر مفعول ل أُمِرْنا مضمر تقديره وأمرنا بالإخلاص أو
بالإيمان ونحو هذا، فتقدير الجملة كلها وأمرنا بالإخلاص لأن
نسلم، ومذهب سيبويه في هذه أن لِنُسْلِمَ هو موضع المفعول وأن
قولك: أمرت لأقوم وأمرت أن أقوم يجريان سواء ومثله قول الشاعر:
[الطويل]
أردت لأنسى ذكرها
إلى غير ذلك من الأمثلة، «ونسلم» يعم الدين والاستسلام.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 72 الى 73]
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ
قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ (73)
وَأَنْ أَقِيمُوا يتجه أن يكون بتأويل وإقامة فهو عطف على
المفعول المقدر في أُمِرْنا [الأنعام: 71] ، وقيل بل هو معطوف
على قوله لِنُسْلِمَ [الأنعام: 71] تقديره لأن نسلم وَأَنْ
أَقِيمُوا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول الزجاج واللفظ يمانعه وذلك أن
قوله «لأن نسلم» معرب، وقوله أَنْ أَقِيمُوا مبني وعطف المبني
على المعرب لا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك في العامل اللهم
إلا أن تجعل العطف في «أن» وحدها وذلك قلق وإنما يتخرج على أن
يقدر قوله وَأَنْ أَقِيمُوا بمعنى لنقيم ثم خرجت بلفظ الأمر
لما في ذلك من جزالة اللفظ فجاز العطف على أن يلغى حكم اللفظ
ويعول على المعنى، ويشبه هذا من جهة «ما» ما حكاه يونس عن
العرب: أدخلوا الأول فالأول بالنصب، وقال الزجّاج أيضا: يحتمل
أن يكون وَأَنْ أَقِيمُوا معطوفا على ائْتِنا [الأنعام: 71] .
قال القاضي أبو محمد: وفيه بعد، والضمير في قوله وَاتَّقُوهُ
عائد على رب العالمين وَهُوَ ابتداء وما بعده وهو لفظ خبر
يتضمن التنبيه والتخويف، وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ
الآية، خَلَقَ ابتدع وأخرج من العدم إلى الوجود، وبِالْحَقِّ،
أي لم يخلقها باطلا بغير معنى بل لمعان مفيدة ولحقائق بينة
منها ما يحسه البشر من الاستدلال بها على الصانع ونزول الأرزاق
وغير ذلك، وقيل المعنى بأن حق له
(2/308)
أن يفعل ذلك، وقيل بِالْحَقِّ معناه بكلامه
في قوله للمخلوقات كُنْ وفي قوله: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ
كَرْهاً [فصّلت: 11] .
قال القاضي أبو محمد: وتحرير القول أن المخلوقات إنما إيجادها
بالقدرة لا بالكلام، واقتران «كن» بحالة إيجاد المخلوق فائدته
إظهار العزة والعظمة ونفوذ الأوامر وإعلان القصد، ومثال ذلك في
الشاهد أن يضرب إنسان شيئا فيكسره ويقول في حال الكسر بلسانه:
انكسر فإن ذلك إنفاذ عزم وإظهار قصد، ولله المثل الأعلى، لا
تشبيه ولا حرف ولا صوت ولا تغير، أمره واحدة كلمح البصر فكأن
معنى الآية على هذا القول وهو الذي خلق السماوات والأرض بقوله
كُنْ المقترنة بالقدرة التي بها يقع إيجاد المخلوق بعد عدمه،
فعبر عن ذلك بِالْحَقِّ، وَيَوْمَ يَقُولُ نصب على الظرف وهو
معلق بمعمول فعل مضمر، تقديره: واذكر الخلق والإعادة يوم،
وتحتمل الآية مع هذا أن يكون معناها: واذكر الإعادة يوم يقول
الله للأجساد كن معادة، ثم يحتمل أن يتم الكلام هنا ثم يبدأ
بإخبار أن يكون قوله الحق الذي كان في الدنيا إخبارا بالإعادة،
ويحتمل أن يكون تمام الكلام في قوله فَيَكُونُ ويكون قَوْلُهُ
الْحَقُّ ابتداء وخبر أو على الاحتمال الذي قبل ف قَوْلُهُ
فاعل، قال الزجّاج قوله وَيَوْمَ معطوف على الضمير من قوله
وَاتَّقُوهُ فالتقدير هنا على هذا القول واتقوا العقاب أو
الأهوال والشدائد يوم، وقيل: إن الكلام معطوف على قوله خَلَقَ
السَّماواتِ والتقدير على هذا: وهو الذي خلق السماوات والأرض
والمعادات إلى الحشر يوم، ولا يجوز أن تعمل هذه الأفعال لا
تقديرك اذكر ولا اتقوا ولا خلق في يوم لأن أسماء الزمان إذا
بنيت مع الأفعال فلا يجوز أن تنصب إلا على الظرف، ولا يجوز أن
يتعلق يَوْمَ بقوله: قَوْلُهُ الْحَقُّ لأن المصدر لا يعمل
فيما تقدمه، وقد أطلق قوم أن العامل اذكر أو خلق، ويحتمل أن
يريد ب «يقول» معنى المضي كأنه قال: وهو الذي خلق السماوات
والأرض بالحق يوم يقول بمعنى قال لها «كن» ، ف يَوْمَ ظرف
معطوف على موضع قَوْلُهُ الْحَقُّ إذ هو في موضع نصب، ويجيء
تمام الكلام في قوله فَيَكُونُ، ويجيء قَوْلُهُ الْحَقُّ
ابتداء وخبرا ويحتمل أن يتم الكلام في كُنْ، ويبتدأ فَيَكُونُ
قَوْلُهُ الْحَقُّ وتكون «يكون» تامة بمعنى يظهر، والْحَقُّ
صفة للقول، وقَوْلُهُ فاعل، وقرأ الحسن: «قوله» بضم القاف،
وَلَهُ الْمُلْكُ ابتداء وخبر يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
«يوم» بدل من الأولى على أن «يقول» مستقبل لا على تقدير مضيه،
وقيل: بل متعلق بما تضمن الملك من معنى الفعل أو بتقدير ثابت
أو مستقر يوم، وفِي الصُّورِ قال أبو عبيدة هو جمع صورة
فالمعنى يوم تعاد العوالم، وقال الجمهور هو الصور القرن الذي
قال النبي صلى الله عليه وسلم إنه ينفخ فيه للصعق ثم للبعث،
ورجحه الطبري بقول النبي عليه السلام: إن إسرافيل قد التقم
الصور وحنى جبهته ينظر متى يؤمر فينفخ، وقرأ الحسن «في الصور»
بفتح الواو وهذه تؤيد التأويل الأول وحكاها عمرو بن عبيد عن
عياض عالِمُ رفع بإضمار مبتدأ وقيل نعت ل الَّذِي وقرأ الحسن
والأعمش «عالم» بالخفض على النعت للضمير الذي في لَهُ، أو على
البدل منه من قوله لَهُ الْمُلْكُ، وقد رويت عن عاصم، وقيل
ارتفع «عالم» بفعل مضمر من لفظ الفعل المبني للمفعول تقديره
ينفخ فيه عالم على ما أنشد سيبويه: [الطويل]
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... وآخر ممّن طوّحته الطّوائح
التقدير يبكيه ضارع، وحكى الطبري هذا التأويل الذي يشبه ليبك
يزيد عن ابن عباس ونظيرها من
(2/309)
وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً
إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
القرآن قراءة من قرأ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ
[الأنعام 137] بضم الزاي ورفع الشركاء وروي عن عبد الوارث عن
أبي عمرو «يوم ننفخ في الصور» بنون العظمة، والْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ معناه ما غاب عنا وما حضر، وهذا يعم جميع
الموجودات.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 75]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ
أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
العامل في إِذْ فعل مضمر تقديره: واذكر أو قص، قال الطبري: نبه
الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم على الاقتداء بإبراهيم في
محاجته قومه إذ كانوا أهل أصنام وكان قوم محمد أهل أصنام.
قال القاضي أبو محمد: وليس يلزم هذا من لفظ الآية، أما أن جميع
ما يجيء من مثل هذا عرضة للاقتداء، وقرأ السبعة وجمهور الناس:
«آزر» بفتح الهمزة التي قبل الألف وفتح الزاي والراء. قال
السدي وابن إسحاق وسعيد بن عبد العزيز: هو اسم أبي إبراهيم.
قال القاضي أبو محمد: وقد ثبت أن اسمه تارح فله على هذا القول
اسمان كيعقوب وإسرائيل، وهو في الإعراب على هذا بدل من الأب
المضاف في موضع خفض وهو اسم علم، وقال مجاهد بل هو اسم صنم وهو
في موضع نصب بفعل مضمر تقديره: أتتخذ أصناما.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا ضعف، وقال بعضهم بل هو صفة
ومعناه هو المعوج المخطئ.
قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا بأن «آزر» إذا كان صفة فهو
نكرة ولا يجوز أن تنعت المعرفة بالنكرة ويوجه ذلك على تحامل
بأن يقال أريدت فيه الألف واللام وإن لم يلفظها، وإلى هذا أشار
الزجّاج لأنه قدر ذلك فقال لأبيه المخطئ، وبأن يقال إن ذلك
مقطوع منصوب بفعل تقديره اذن المعوج أو المخطئ، والا تبقى فيه
الصفة بهذه الحال.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقيل نصبه على الحال كأنه
قال: وإذ قال إبراهيم لأبيه وهو في حال عوج وخطأ، وقرأ أبي بن
كعب وابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم بضم الراء على النداء،
ويصح مع هذا أن يكون آزَرَ اسم أبي إبراهيم، ويصح أن يكون
بمعنى المعوج والمخطئ، وقال الضحاك: آزَرَ بمعنى شيء، ولا يصح
مع هذه القراءة أن يكون آزَرَ صفة، وفي مصحف أبيّ «يا آزر»
بثبوت حرف النداء «اتخذت أصناما» بالفعل الماضي، وقرأ ابن عباس
فيما روي عنه أيضا: «أزرا تتخذ» بألف الاستفهام وفتح الهمزة من
آزر وسكون الزاي ونصب الراء وتنوينها وإسقاط ألف الاستفهام من
«اتخذ» ، ومعنى هذه القراءة عضدا وقوة ومظاهرة على الله تعالى
تتخذ، وهو من نحو قوله تعالى: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طه: 31]
وقرأ أبو إسماعيل رجل من أهل الشام بكسر الهمزة من هذا الترتيب
ذكرها أبو الفتح، ومعناها: أنها مبدلة من واو كوسادة وإسادة
فكأنه قال: أوزرا ومأثما تتخذ أصناما، ونصبه على هذا بفعل
(2/310)
مضمر، ورويت أيضا عن ابن عباس، وقرأ
الأعمش: «إزرا تتخذ» بكسر الهمزة وسكون الزاي دون ألف توقيف،
وأَصْناماً آلِهَةً مفعولان، وذكر: أن «آزر» أبا إبراهيم كان
نجارا محسنا ومهندسا وكان نمرود يتعلق بالهندسة والنجوم فحظي
عنده آزر لذلك، وكان على خطة عمل الأصنام تعمل بأمره وتدبيره
ويطبع هو في الصنم بختم معلوم عنده، وحينئذ يعبد ذلك الصنم،
فلما نشأ إبراهيم ابنه على الصفة التي تأتي بعد كان أبوه يكلفه
بيعها، فكان إبراهيم ينادي عليها: من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟
ويستخف بها ويجعلها في الماء منكوسة، ويقول اشربي، فلما شهر
أمره بذلك وأخذ في الدعاء إلى الله تعالى قال لأبيه هذه
المقالة، وأَراكَ في هذا الموضع يشترك فيها البصر والقلب لأنها
رؤية قلب ومعرفته وهي متركبة على رؤية بصر، ومُبِينٍ بمعنى
واضح ظاهر، وهو من أبان الشيء، إذا ظهر ليس بالفعل المتعدي
المنقول من بان يبين.
قال القاضي أبو محمد: ويصح أن يكون المنقول، ويكون المفعول
مقدرا تقديره: في ضلال مبين كفركم، وقيل كان آزر رجلا من أهل
كوثا من سواد الكوفة، قال النقاش وبها ولد إبراهيم عليه
السلام، وقيل كان من أهل حران، وقوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي
إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية المتقدمة
تقضي بهداية إبراهيم عليه السلام والإشارة هنا بذلك هي إلى تلك
الهداية أي وكما هديناه إلى الدعاء إلى الله وإنكار الكفر
أريناه ملكوت، ونُرِي لفظها الاستقبال ومعناها المضي، وحكى
المهدوي: أن المعنى وكما هديناك يا محمد فكذلك نري إبراهيم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد إذ اللفظ لا يعطيه، ونُرِي هنا
متعدية إلى مفعولين لا غير فهي إما من رؤية البصر وإما من أرى
التي هي بمعنى عرف ولو كانت من أرى بمعنى أعلم وجعلنا أعلم
منقولة من علم التي تتعدى إلى مفعولين لوجب أن تتعدى أرى إلى
ثلاثة مفاعيل، وليس كذلك ولا يصح أن يقال:
إن الثالث محذوف لأنه لا يجوز حذفه إذ هو الخبر في الجملة التي
يدخل عليها علمت في هذا الموضع، وإنما هي من علم بمعنى عرف، ثم
نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين ثم جعلت «أرى» بمنزلتها في هذه
الحال، وهذه الرؤية قيل رؤية البصر، وروي في ذلك أن الله عز
وجل فرج لإبراهيم السماوات والأرضين حتى رأى ببصره الملكوت
الأعلى والملكوت الأسفل فإن صح هذا المنقول ففيه تخصيص
لإبراهيم عليه السلام بما لم يدركه غيره، قبله ولا بعده، وهذا
هو قول مجاهد قال: تفرجت له السماوات والأرضون فرأى مكانه في
الجنة وبه قال سعيد بن جبير وسلمان الفارسي، وقيل: هي رؤية بصر
في ظاهر الملكوت وقع له معها من الاعتبار ورؤية القلب ما لم
يقع لأحد من أهل زمنه الذين بعث إليهم، قاله ابن عباس وغيره،
ففي هذا تخصيص ما على جهة التقييد بأهل زمنه، وقيل هي رؤية قلب
رأى بها ملكوت السماوات والأرض بفكرته ونظره، وذلك ولا بد
متركب على ما تقدم من رؤيته ببصره وإدراكه في الجملة بحواسه.
قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان الأخيران يناسبان الآية،
لأن الغاية التي نصبت له إنما هي أن يؤمن ويكون من جملة موقنين
كثرة، والإشارة لا محالة إلى من قبله من الأنبياء والمؤمنين
وبعده، واليقين يقع له ولغيره بالرؤية في ظاهر الملكوت
والاستدلال به على الصانع والخالق لا إله إلا هو، ومَلَكُوتَ
بناء مبالغة كجبروت ورهبوت ورحموت، وقال عكرمة هو ملكوتي
باليونانية أو بالنبطية، وقرأ «ملكوث» بالثاء مثلثة وقرأ أبو
السمال «ملكوت» بإسكان اللام وهي لغة، ومَلَكُوتَ بمعنى الملك،
والعرب تقول لفلان ملكوت
(2/311)
فَلَمَّا جَنَّ
عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا
رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ
قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ
الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
اليمن أي ملكه، واللام في لِيَكُونَ متعلقة
بفعل مؤخر تقديره وليكون من الموقنين أريناه، والموقن:
العالم بالشيء علما لا يمكن أن يطرأ له فيك شك، وقال الضحاك
ومجاهد أيضا إن الإشارة هاهنا «بملكوت السماوات» هي إلى
الكواكب والقمر والشمس، وهذا راجع وداخل فيما قدمناه من أنها
رؤية بصر في ظاهر الملكوت، وروي عن ابن عباس في تفسير
وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ قال جلى له الأمور سرها
وعلانيتها فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق، فلما جعل يلعن
أصحاب الذنوب قال الله تعالى إنك لا تستطيع هذا، فرده لا يرى
أعمالهم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 76 الى 77]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا
رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا
أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ
الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
هذه الفاء في قوله فَلَمَّا رابطة جملة ما بعدها وهي ترجح أن
المراد بالملكوت هو هذا التفصيل الذي في هذه الآية، و «جن
الليل» : ستر وغطى بظلامه، ويقال الجن، والأول أكثر، ويشبه أن
يكون الجن والمجن والجنة والجنن وهو القبر مشتقة من جن إذا
ستر، ولفظ هذه القصة يحتمل أن تكون وقعت له في حال صباه وقبل
بلوغه كما ذهب إليه ابن عباس. فإنه قال: رأى كوكبا فعبده،
وقاله ناس كثير إن النازلة قبل البلوغ والتكليف، ويحتمل أن
تكون وقعت له بعد بلوغه وكونه مكلفا، وحكى الطبري هذا عن فرقة
وقالت إنه استفهم على جهة التوقيف بغير ألف، قال وهذا كقول
الشاعر: [الطويل]
رقوني وقالوا يا خويلد لم ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
يريد أهم هم وكما قال الآخر: [الطويل]
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
يريد أشعيث.
قال القاضي أبو محمد: والبيت الأول لا حجة فيه عندي وقد حكي أن
نمرود جبار ذلك الزمن رأى منجموه أن مولودا يولد في سنة كذا في
عمله، يكون خراب الملك على يديه فجعل يتبع الحبالى ويوكل بهن
حراسا فمن وضعت أنثى تركت ومن وضعت ذكرا حمل إلى الملك فذبحه،
وأن أم إبراهيم حملت وكانت شابة قوية فسترت حملها فلما قربت
ولادتها بعثت تارخ أبا إبراهيم إلى سفر وتحيلت لمضيه إليه ثم
خرجت هي إلى غار فولدت فيه إبراهيم وتركته في الغار وقد هيأت
عليه، وكانت تفتقده فتجده يغتذي بأن يمص أصابعه فيخرج له منها
عسل وسمن ونحوها، وحكي بل كان يغذيه ملك وحكي بل كانت تأتيه
بألبان النساء اللاتي ذبح أبناؤهن، فشب إبراهيم أضعاف ما يشب
غيره، والملك في خلال ذلك يحس بولادته ويشدد في طلبه فمكث في
الغار عشرة أعوام وقيل خمس عشرة سنة، وأنه نظر أول ما عقل من
الغار فرأى الكوكب وجرت قصة الآية.
(2/312)
قال القاضي أبو محمد: وجلبت هذه القصص
بغاية الاختصار في اللفظ وقصدت استيفاء المعاني التي تخص الآية
ويضعف عندي أن تكون هذه القصة في الغار لقوله في آخرها إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 78] وهي ألفاظ تقتضي
محاجة وردا على قوم، وحاله في الغار بعيدة عن مثل هذا اللهم
إلا أن يتأول في ذلك أنه قالها بينه وبين نفسه، أي قال في نفسه
معنى العبارة عنه: يا قوم إني بريء مما تشركون، وهذا كما قال
الشاعر: [الرجز]
ثم انثنى وقال في التّفكير ... إنّ الحياة اليوم في الكرور
قال القاضي أبو محمد: ومع هذا فالمخاطبة تبعده، ولو قال يا قوم
إني بريء من الإشراك لصح هذا التأويل وقوي، فإن قلنا بأنه وقعت
له القصة في الغار في حال الصبوة وعدم التكليف على ما ذهب إليه
بعض المفسرين ويحتمله اللفظ فذلك ينقسم على وجهين: إما أن يجعل
قوله هذا رَبِّي تصميما واعتقادا وهذا باطل لأن التصميم لم يقع
من الأنبياء صلوات الله عليهم وإما أن يجعله تعريضا للنظر
والاستدلال كأنه قال هذا المنير البهي ربي إن عضدت ذلك الدلائل
ويجيء إبراهيم عليه السلام كما قال الله تعالى لمحمد عليه
السلام: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضحى: 6] أي مهمل
المعتقد، وإن قلنا بأن القصة وقعت له في حال كفره وهو مكلف فلا
يجوز أن يقول هذا رَبِّي مصمما ولا معرضا للنظر، لأنها رتبة
جهل أو شك وهو عليه السلام منزه معصوم من ذلك كله، فلم يبق إلا
أن يقولها على جهة التقرير لقومه والتوبيخ لهم وإقامة الحجة
عليهم في عبادة الأصنام، كأنه قال لهم: أهذا المنير ربي؟ أو
هذا ربي وهو يريد على زعمكم؟ كما قال الله تعالى: أَيْنَ
شُرَكائِيَ [النحل: 27، القصص: 62- 74، فصلت: 47] فإنما المعنى
على زعمكم، ثم عرض إبراهيم عليهم من حركته وأفوله أمارة
الحدوث، وأنه لا يصلح أن يكون ربّا ثم في آخر أعظم منه وأحرى
كذلك ثم في الشمس كذلك، فكأنه يقول: فإذا بان في هذه المنيرات
الرفيعة أنها لا تصلح للربوبية فأصنامكم التي هي خشب وحجارة
أحرى أن يبين ذلك فيها، ويعضد عندي هذا التأويل قوله: إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام: 78] ومثل لهم بهذه
الأمور لأنهم كانوا أصحاب علم نجوم ونظر في الأفلاك، وهذا
الأمر كله إنما وقع في ليلة واحدة والكوكب وهو الزهرة، في قول
قتادة وقال السدي وهو المشتري جانحا للغروب، فلما أفل بزغ
القمر وهو أول طلوعه فسرى الليل أجمع فلما بزغت الشمس زال ضوء
القمر قبلها لانتشار الصباح وخفي نوره ودنا أيضا من مغربه فسمي
ذلك أفولا لقربه من الأفول التام على تجوز في التسمية، ثم بزغت
الشمس على ذلك، وهذا الترتيب يستقيم في الليلة الخامسة عشرة من
الشهر إلى ليلة عشرين، وليس يترتب في ليلة واحدة كما أجمع أهل
التفسير إلا في هذه الليالي، وبذلك التجوز في أفول القمر،
وأَفَلَ في كلام العرب معناه غاب، يقال: أين أفلت عنّا يا
فلان، وقيل معناه ذهب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خلاف في عبارة فقط، وقال ذو الرمة:
[الطويل]
مصابيح ليست باللّواتي تقودها ... نجوم ولا بالآفلات الدّوالك
وقال الْآفِلِينَ فجمع بالياء والنون لما قصد الأرباب ونحو ذلك
وعلى هذا يخرج قوله في الشمس
(2/313)
فَلَمَّا رَأَى
الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ
فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ
أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا
تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ
رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
هذا رَبِّي فذكر الإشارة إليها لما قصد ربه
وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص: «رأى» بفتح الراء والهمزة،
وقرأ نافع بين الفتح والكسر، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن
عامر وحمزة والكسائي بكسرهما، وقرأ أبو عمرو بن العلاء، بفتح
الراء وكسر الهمزة، وقوله تعالى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ
بازِغاً الآية، البزوغ في هذه الأنوار: أول الطلوع، وقد تقدم
القول فيما تدعو إليه ألفاظ الآية وكون هذا الترتيب في ليلة
واحدة من التجوز في أفول القمر لأن أفوله لو قدرناه مغيبه في
المغرب لكان ذلك بعد بزوغ الشمس وجميع ما قلناه يعطيه الاعتبار
ويَهْدِنِي يرشدني وهذا اللفظ يؤيد قول من قال: النازلة في حال
الصغر، و «القوم الضالون» عبدة المخلوقات، كالأصنام وغيرها وإن
كان الضلال أعمّ من هذا فهذا هو المقصود في هذا الموضع.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 78 الى 80]
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا
أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ
مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي
فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (79) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي
فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ
إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ
عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80)
لما قصد قصد ربه قال هذا فذكر أي هذا المرئيّ أو المنير ونحو
هذا، فلما أفلت الشمس لم يبق شيء يمثل لهم به، فظهرت حجته وقوي
بذلك على منابذتهم والتبري من إشراكهم، وقوله: إِنِّي بَرِيءٌ
مِمَّا تُشْرِكُونَ يؤيد قول من قال: النازلة في حال الكبر
والتكليف: ووَجَّهْتُ وَجْهِيَ أي أقبلت بقصدي وعبادتي وتوحيدي
وإيماني وغير ذلك مما يعمه المعنى المعبر عنه ب وَجْهِيَ،
وفَطَرَ معناه: ابتدع في أجرام، وحَنِيفاً معناه مستقيما،
والحنف الميل في كلام العرب، وأصله في الأشخاص وهو في المعاني
مستعار، فالمعوج في الأجرام أحنف على الحقيقة أي مائل
والمستقيم فيها أحنف على تجوز كأنه مال عن كل جهة إلى القوام
وحاجَّهُ فاعله من الحجة، قال أتراجعوني في الحجة في توحيد
الله، وقرأت فرقة «أتحاجونني» بإظهار النونين وهو الأصل، وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «أتحاجوني» بإدغام
النون الأولى في الثانية، وقرأ نافع وابن عامر «أتحاجوني» بحذف
النون الواحدة فقيل:
هي الثانية وقيل هي الأولى، ويدل على ذلك أنها بقيت مكسورة،
قال أبو علي الفارسي: لا يجوز أن تحذف الأولى لأنها للإعراب
وإنما حذفت الثانية التي هي توطئة لياء المتكلم كما حذفت في
«ليتي» وفي قول الشاعر: [الوافر] يسوء الفاليات إذا فليني
وكسرت بعد ذلك الأولى الباقية لمجاورتها للياء و «قد هداني» أي
أرشدني إلى معرفته وتوحيده، وأمال الكسائي «هدان» ، والإمالة
في ذلك حسنة وإذا جازت الإمالة في غزا ودعا وهما من ذوات الواو
فهي
(2/314)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا
أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا
فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ
مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا
إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
في «هدان» التي هي من ذوات الياء أجوز
وأحسن، وحكي أن الكفار قالوا لإبراهيم عليه السلام خف أن تصيبك
آلهتنا ببرص أو داء لإذايتك لها وتنقصك، فقال لهم لست أخاف
الذي تشركون به، لأنه لا قدرة له ولا غناء عنده وما في هذا
الموضع بمعنى الذي، والضمير في بِهِ يحتمل أن يعود على الله عز
وجل فيكون على هذا في قوله تُشْرِكُونَ ضمير عائد على ما تقدير
الكلام ولا أخاف الأصنام التي تشركونها بالله في الربوبية،
ويحتمل أن يعود الضمير على ما فلا يحتاج إلى غيره، كأن التقدير
ما تشركون بسببه، وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي
شَيْئاً استثناء ليس من الأول وشَيْئاً منصوب ب يَشاءَ، ولما
كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضرا استثنى مشيئة ربه تعالى في أن
يريده بضر، وعِلْماً نصب على التمييز وهو مصدر بمعنى الفاعل،
كما تقول العرب: تصبب زيد عرقا، المعنى تصبب عرق زيد فكذلك
المعنى هنا وسع علم ربي كل شيء أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ توقيف
وتنبيه وإظهار لموضع التقصير منهم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 81 الى 83]
وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ
أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ
سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ
وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها
إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
هذه الآية إلى تَعْلَمُونَ هي كلها من قول إبراهيم عليه السلام
لقومه، وهي حجته القاطعة لهم، المعنى: وكيف أخاف الأصنام التي
لا خطب لها وهي حجارة وخشب إذا أنا نبذتها ولم أعظمها، ولا
تخافون أنتم الله عز وجل وقد أشركتم به في الربوبية أشياء لم
ينزل بها عليكم حجة، و «السلطان» :
الحجة، ثم استفهم على جهة التقرير فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ
أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أي من لم يشرك بالقادر العالم أحق أن يأمن
وقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا الآية، الَّذِينَ رفع
بالابتداء، ويَلْبِسُوا معناه يخلطوا، و «الظلم» في هذه الآية
الشرك تظاهرت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن
جماعة من الصحابة أنه لما نزلت هذه الآية أشفق أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقالوا: أيّنا لم يظلم نفسه فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم إنما ذلك كما قال لقمان: إن الشرك لظلم
عظيم وروي أن عمر بن الخطاب قرأ في المصحف فلما أتى عليها عظمت
عليه، فلبس رداءه ومر إلى أبي بن كعب، فقال: يا أبا المنذر
وسأله عنها، فقال له إنه الشرك يا أمير المؤمنين فسري عن عمر،
وجرى لزيد بن صوحان مع سلمان نحو مما جرى لعمر مع أبي بن كعب
رضي الله عنهم، وقرأ مجاهد، «ولم يلبسوا إيمانهم بشرك» وقرأ
عكرمة «يلبسوا» بضم الياء، والْأَمْنُ رفع بالابتداء وخبره في
المجرور والجملة خبر أُولئِكَ، وَهُمْ مُهْتَدُونَ أي راشدون،
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: المراد بهذه الآية إبراهيم
خاصة، وقال عكرمة: نزلت في مهاجري أصحاب محمد عليه السلام
خاصة، وقالت فرقة: هي من قول إبراهيم لقومه فهي من الحجة التي
أوتيها، وقال ابن جريج هي من قول قوم إبراهيم ويجيء هذا من
الحجة أيضا أن أقروا بالحق وهم قد ظلموا في
(2/315)
وَوَهَبْنَا لَهُ
إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ
وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى
وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ
وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى
الْعَالَمِينَ (86)
الإشراك، وقال ابن إسحاق وابن زيد وغيرهما:
بل ذلك قول من الله عز وجل ابتداء حكم فصل عام لوقت محاجة
إبراهيم وغيره ولكل مؤمن تقدم أو تأخر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو البين الفصيح الذي يرتبط به معنى
الآية ويحسن رصفها، وهو خبر من الله تعالى وَتِلْكَ إشارة إلى
هذه الحجة المتقدمة وهي رفع بالابتداء وحُجَّتُنا خبره
وآتَيْناها في موضع الحال، ويجوز أن تكون حُجَّتُنا بدلا من
تلك وآتيناها خبر «تلك» «وإبراهيم» مفعول ب «آتيناها» ،
والضمير مفعول أيضا ب آتَيْناها مقدم وعَلى متعلقة بقوله
حُجَّتُنا وفي ذلك فصل كثير، ويجوز أن تتعلق على ب «آتيناها»
على المعنى إذ أظهرناها لإبراهيم على قومه ونحو هذا، وقرأ نافع
وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «نرفع درجات من نشاء» بإضافة
الدرجات إلى مَنْ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «نرفع درجات من
نشاء» .
قال القاضي أبو محمد: وهما مأخذان من الكلام، والمعنى المقصود
بهما واحد، ودَرَجاتٍ على قراءة من نون نصب على الظرف،
وحَكِيمٌ عَلِيمٌ صفتان تليق بهذا الموضع إذ هو موضع مشيئة
واختيار فيحتاج ذلك إلى العلم والإحكام، والدرجات أصلها في
الأجسام ثم تستعمل في المراتب والمنازل المعنوية.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 86]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا
وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ
وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى
وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)
وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ
فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86)
وَوَهَبْنا عطف على آتَيْناها [الأنعام: 83] وإِسْحاقَ ابنه من
سارة، وَيَعْقُوبَ هو ابن إسحاق، وكُلًّا ونُوحاً منصوبان على
المفعول مقدمان على الفعل، وقوله: مِنْ قَبْلُ لقومه صلى الله
عليه وسلم، وقوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ المعنى وهدينا من
ذريته، والضمير في ذُرِّيَّتِهِ قال الزجّاج جائز أن يعود على
إبراهيم، ويعترض هذا بذكر «لوط» عليه السلام وهو ليس من ذرية
إبراهيم بل هو ابن أخيه وقيل ابن أخته ويتخرج عند من يرى الخال
أبا وقيل: يعود الضمير على نوح وهذا هو الجيد، وداوُدَ يقال هو
ابن إيشى وَسُلَيْمانَ ابنه، وَأَيُّوبَ هو فيما يقال أيوب بن
رازح بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، وَيُوسُفَ هو ابن يعقوب بن
إسحاق، وَمُوسى وَهارُونَ هما ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن
لاوي بن يعقوب، ونصب داوُدَ يحتمل أن يكون ب وَهَبْنا ويحتمل
أن يكون ب هَدَيْنا وهذه الأسماء كلها فيها العجمة والتعريف،
فهي غير مصروفة، وَمُوسى عند سيبويه وزنه مفعل فعلى هذا يتصرف
في النكرة، وقيل وزنه فعلى، فعلى هذا لا يتصرف في معرفة ولا
نكرة، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وعد من الله عز وجل
لمن أحسن في
(2/316)
وَمِنْ آبَائِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ
وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى
اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ
أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)
أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ
وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ
قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
عمله وترغيب في الإحسان، وَزَكَرِيَّا فيما
يقال هو ابن آذر بن بركنا، وَعِيسى ابن مريم بنت عمران بن
ياشهم بن أمون بن حزينا، وَإِلْياسَ هو ابن نسي بن فنحاص بن
العيزان بن هارون بن عمران، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال
إدريس هو الياس ورد ذلك الطبري وغيره بأن إدريس هو جد نوح
تظاهرت بذلك الروايات، «وزكرياء» قرأته طائفة بالمد وقرأته
طائفة بالقصر «زكريا» ، وقرأ ابن عامر باختلاف عنه، والحسن
وقتادة بتسهيل الهمزة من الياس، وفي هذه الآية أن عيسى عليه
السلام من ذرية نوح أو إبراهيم بحسب الاختلاف في عود الضمير من
ذريته، وهو ابن ابنته، وبهذا يستدل في الأحباس على أن ولد
البنت من الذرية، وإسماعيل هو أكبر ولدي إبراهيم عليه السلام
وهو من هاجر واليسع قال زيد بن أسلم وهو يوشع بن نون، وقال
غيره: هو أليسع بن أخطوب بن العجوز، وقرأ جمهور الناس «وأليسع»
وقرأ حمزة والكسائي «والليسع» كأن الألف واللام دخلت على فيعل،
قال أبو علي الفارسي: فالألف واللام في «اليسع» زائدة لا تؤثر
معنى تعريف لأنها ليست للعهد كالرجل والغلام ولا للجنس
كالإنسان والبهائم ولا صفة غالبة كالعباس والحارث لأن ذلك يلزم
عليه أن يكون «اليسع» فعلا، وحينئذ يجري صفة. وإذا كان فعلا
وجب أن يلزمه الفاعل ووجب أن يحكى إذ هي جملة ولو كان كذلك لم
يجز لحاق اللام له إذ اللام لا تدخل على الفعل فلم يبق إلا أن
تكون الألف واللام زائدة كما هي زائدة في قولهم الخمسة العشر
درهما، وفي قول الشاعر: [الرجز]
يا ليت أمّ العمر كانت صاحبي
بالعين غير منقوطة، وفي قوله: [الطويل]
وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله
قال وأما الليسع فالألف واللام فيه بمنزلتها في الحارث والعباس
لأنه من أبنية الصفات لكنها بمنزلة «اليسع» في أنه خارج عما
عليه الأسماء الأعجمية إذ لم يجىء فيها شيء هو على هذا الوزن
كما لم يجىء منها شيء فيه لام تعريف فهما من الأسماء الأعجمية
إلا أنهما مخالفان للأسماء فيما ذكر.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وأما اليزيد فإنه لما سمي
به أزيل منه معنى الفعل وأفردت فيه الاسمية فحصل علما وزيدت
فيه الألف واللام لا لتعريف، وقال الطبري دخلت الألف واللام
اتباعا للفظ الوليد، وَيُونُسَ هو ابن متّى ويقال يونس ويونس
ويونس وكذلك يوسف ويوسف ويوسف وبكسر النون من يونس والسين من
يوسف قرأ الحسن وابن مصرف وابن وثاب وعيسى بن عمر والأعمش في
جميع القرآن والْعالَمِينَ معناه عالمي زمانهم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 87 الى 90]
وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ
وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
(87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ
عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ
فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89)
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ
لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى
لِلْعالَمِينَ (90)
(2/317)
والمعنى وهدينا من آبائهم وذرياتهم
وإخوانهم جماعات، ف مِنْ للتبعيض والمراد من آمن منهم نبيا كان
أو غير نبي، ويدخل عيسى عليه السلام في ضمير قوله: وَمِنْ
آبائِهِمْ، ولهذا قال محمد بن كعب الخال أب والخالة أم،
وَاجْتَبَيْناهُمْ معناه تخيرناهم وأرشدناهم وضممناهم إلى
خاصتنا وأرشدناهم إلى الإيمان والفوز برضى الله تعالى. قال
مجاهد معناه أخلصناهم، و «الذرية» الأبناء وينطلق على جميع
البشر ذرية لأنهم أبناء، وقال قوم: إن الذرية تقع على الآباء
لقوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ
فِي الْفُلْكِ [يس: 41] يراد به نوع البشر وقوله تعالى: ذلِكَ
هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ الآية، ذلِكَ إشارة إلى النعمة في
قوله: وَاجْتَبَيْناهُمْ وإضافة الهدى إلى الله إضافة ملك،
ولَحَبِطَ معناه تلف وذهب لسوء غلب عليه، وأُولئِكَ إشارة إلى
من تقدم ذكره والْكِتابَ يراد به المصحف والتوراة والإنجيل
والزبور، والْحُكْمَ يراد به اللب والفطنة والفقه في دين الله،
وهؤُلاءِ إشارة إلى كفار قريش المعادين لرسول الله صلى الله
عليه وسلم وإلى كل كفار في ذلك العصر، قاله قتادة وابن عباس
والسدي وغيرهم، وقَوْماً يراد به مؤمنو أهل المدينة، قاله ابن
عباس وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم، فالآية على هذا التأويل
وإن كان القصد في نزولها هذين الصنفين فهي تعم الكفرة
والمؤمنين إلى يوم القيامة، وقال قتادة أيضا والحسن بن أبي
الحسن المراد ب «القوم» من تقدم ذكره من الأنبياء والمؤمنين،
وقال أبو رجاء: المراد الملائكة، والباء في به متعلقة بقوله:
بِكافِرِينَ والباء في قوله بِكافِرِينَ زائدة للتأكيد وقوله
تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ الآية، الظاهر في الإشارة، ب
أُولئِكَ أنها إلى المذكورين قبل من الأنبياء ومن معهم من
المؤمنين المهديين ومعنى الاقتداء اتباع الأثر في القول والفعل
والسيرة، وإنما يصح اقتداؤه بجميعهم في العقود والإيمان
والتوحيد الذي ليس بينهم فيه اختلاف وأما أعمال الشرائع
فمختلفة، وقد قال عز وجل:
لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48]
ويحتمل أن تكون الإشارة ب أُولئِكَ إلى قوله قَوْماً.
قال القاضي أبو محمد: وذلك يترتب على بعض التأويلات في المراد
بالقوم ويقلق بعضها، قال القاضي ابن الباقلاني: واختلف الناس
هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه متعبدا بشرع من
كان قبله، فقالت طائفة كان متعبدا، واختلف بشرع من؟ فقالت فرقة
بشرع إبراهيم، وفرقة بشرع موسى، وفرقة بشرع عيسى، وقالت طائفة
بالوقف في ذلك، وقالت طائفة لم يكن متعبدا بشرع من كان قبله
وهو الذي يترجح.
قال القاضي أبو محمد: ولا يحمل كلام القاضي على أنه لم يكن
متعبدا بشرع من كان قبله في توحيد ولا معتقد لأنّا نجد شرعنا
ينبىء أن الكفار الذين كانوا قبل النبي عليه السلام كأبويه
وغيرهما في النار ولا يدخل الله تعالى أحدا النار إلا بترك ما
كلف، وذلك في قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ
(2/318)
رَسُولًا
[الإسراء: 15] وغير ذلك وقاعدة المتكلمين أن العقل لا يوجب ولا
يكلف وإنما يوجب الشرع، فالوجه في هذا أن يقال إن آدم عليه
السلام فمن بعده دعا إلى توحيد الله دعاء عاما واستمر ذلك على
العالم، فواجب على الآدمي البالغ أن يبحث على الشرع الآمر
بتوحيد الله تعالى وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك بحسب
إيجاب الشرع النظر فيها، ويؤمن ولا يعبد غير الله، فمن فرضناه
لم يجد سبيلا إلى العلم بشرع آمر بتوحيد الله وهو مع ذلك لم
يكفر ولا عبد صنما بل تخلى فأولئك أهل الفترات الذين أطلق
عليهم أهل العلم أنهم في الجنة وهم بمنزلة الأطفال والمجانين،
ومن قصر في النظر والبحث فعبد صنما وكفر فهذا تارك للواجب عليه
مستوجب العقاب بالنار، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل المبعث
ومن كان معه من الناس وقبله مخاطبون على ألسنة الأنبياء قبل
بتوحيد الله عز وجل، وغير مخاطبين بفروع شرائعهم إذ هي مختلفة
وإذ لم يدعهم إليها نبي، وأما بعد مبعث النبي صلى الله عليه
وسلم فهل هو وأمته مخاطبون بشرع من تقدم فقالت فرقة لسنا
مخاطبين بشيء من ذلك وقالت فرقة نحن مخاطبون بشرع من قبلنا.
قال القاضي أبو محمد: ومن قال من هذه الطائفة إن محمدا عليه
السلام وأمته مخاطبون بكل شرائع من تقدم على الإطلاق فقد أحال
لأن أحكام الشرائع تأتي مختلفة، وإنما يتحدق قول من قال منها
إنّا متعبدون بما صح نقله من شرائع من قبلنا ولم تختلف فيه
الشرائع وبالآخر مما اختلفت فيه لأنه الناسخ المتقدم ويرتبط في
صحة نقل ذلك إلى ما وقع في القرآن في حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم من حكاية أحكام سالفة كقوله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ [ص: 44] وكقوله: أَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي [طه: 14] وكحكاية تزويج شعيب ابنته بموسى عليهما
السلام، وكحديث النبي عليه السلام في قضية سليمان بين المرأتين
في الولد ونحو ذلك، ولا يقتضي قولهم أكثر من جواز أن يتعبد
بذلك وأما وجوب أن تعبد فغير لازم، ولا يتعلق عندي أشبه في ذلك
من أن يقال النبي عليه السلام شرع لأمته أن يصلي الناس صلاته
إذا ذكرها، ثم مثل في ذلك لا على طريق التعليل بقوله عز وجل
لموسى وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] فننقل نحن هذا
إلى غير ذلك من النوازل ونقول إنه كما شرع عندنا المثال في
نسيان الصلاة كذلك نشرع هذه الأمثلة كلها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قياس ضعيف، ولو ذكر النبي عليه
السلام قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] على
جهة التعليل لكانت الحجة به قوية، ولا يصح أن يقال يصح عندنا
نقل ما في الشرائع من جهة من أسلم منهم كعبد الله بن سلام
وغيره صحة ننقلها، وكذلك ما شرعه الحواريون لا سبيل إلى صحة
شرع عيسى عليه السلام له، وقرأ ابن كثير وأهل مكة ونافع وأبو
عمرو وأهل المدينة وعاصم «اقتده» بهاء السكت ثابتة في الوقف
والوصل، وقرأ حمزة والكسائي «اقتد» قال بحذف الهاء في الوصل
وإثباتها في الوقف، وهذا هو القياس، وهي تشبه ألف الوصل في
أنها تقطع في الابتداء وتوصل غير مبتدأ بها، فكذلك هذه تثبت في
الوقف وتحذف في الوصل، وقرأ ابن عامر «اقتده» بكسر الهاء دون
بلوغ الياء، قال ابن مجاهد وهذا غلط لأنها هاء وقف لا تعرب على
حال، قال أبو علي ووجه ذلك أن تكون ضمير المصدر كأنه قال اقتد
الاقتداء، وقرأ ابن ذكوان على هذه «اقتده» بإشباع الياء بعد
الهاء، وقالت فرقة إن كسر الهاء إنما هو في هاء السكت كما قد
تسكن هاء الضمير أحيانا.
(2/319)
|