تفسير ابن عطية
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز وَمَا قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ
الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ
تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا
وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ
قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، ولا تجوز
عليه القراءة بإشباع الياء، وقوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
الآية، المعنى قل يا محمد لهؤلاء الكفرة المعاندين لا أسألكم
على دعائي إياكم بالقرآن إلى عبادة الله وتوحيده أستكثر بها
وأختص بدنياها، إن القرآن إلا موعظة، وذكرى ودعاء لجميع
العالمين.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 91]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ
اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ
الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ
تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً
وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ
قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
الضمير في قَدَرُوا وقالُوا قيل يراد به العرب قاله مجاهد
وغيره، وقيل يراد به بنو إسرائيل، قاله ابن عباس، وقيل رجل
مخصوص منهم يقال له مالك بن الصيف قاله سعيد بن جبير، وقيل في
فنحاص قاله السدي، قَدَرُوا هو من توفية القدر والمنزلة فهي
عامة يدخل تحتها من لم يعرف ومن لم يعظم وغير ذلك، غير أن
تعليله بقولهم ما أَنْزَلَ اللَّهُ يقضي بأنهم جهلوا ولم
يعرفوا الله حق معرفته إذ أحالوا عليه بعثه الرسل وحَقَّ نصب
على المصدر، ومن قال إن المراد كفار العرب فيجيء الاحتجاج
عليهم بقوله:
مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى احتجاجا بأمر
مشهور منقول بكافة قوم لم تكن العرب مكذبة لهم، ومن قال إن
المراد بني إسرائيل فيجيء الاحتجاج عليهم مستقيما لأنهم
يلتزمون صحة نزول الكتاب على موسى عليه السلام، وروي أن مالك
بن الصيف كان سمينا فجاء يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم بزعمه
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنشدك الله ألست تقرأ
فيما أنزل على موسى أن الله يبغض الحبر السمين» فغضب وقال
والله ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ والآية على
قول من قال نزلت في قول بني إسرائيل تلزم أن تكون مدنية، وكذلك
حكى النقاش أنها مدنية، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي وغيرهما «وما
قدّروا» بتشديد الدال «الله حق قدره» بفتح الدال، وقرأ الجمهور
في الأول بالتخفيف وفي الثاني بإسكانه.
وقوله تعالى:
قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الآية، أمره الله تعالى أن
يستفهم على جهة التقرير على موضع الحجة، والمراد ب الْكِتابَ
التوراة، ونُوراً وَهُدىً اسمان في موضع الحال بمعنى نيرا
وهاديا، فإن جعلناه حالا من الْكِتابَ فالعامل فيه أَنْزَلَ،
وإن جعلناه حالا من الضمير في بِهِ فالعامل فيه جاءَ، وقرأ
جمهور الناس «تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون» بالتاء من فوق في
الأفعال الثلاثة، فمن رأى أن الاحتجاج على بني إسرائيل استقامت
له هذه القراءة وتناسقت مع قوله: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ
تَعْلَمُوا ومن رأى أن الاحتجاج إنما هو على كفار العرب فيضطر
في هذه القراءة إذ لا يمكن دفعها إلى أن يقول إنه خرج من
مخاطبة قريش في استفهامهم وتقريرهم إلى مخاطبة بني إسرائيل
بتوبيخهم وتوبيخ أفعالهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مع بعده أسهل من دفع القراءة، فكأنه
على هذا التأويل قال لقريش من
(2/320)
وَهَذَا كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى
صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
أنزل الكتاب على موسى، ثم اعترض على بني
إسرائيل فقال لهم خلال الكلام تجعلونه أنتم يا بني إسرائيل
قراطيس، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يجعلونه قراطيس يبدونها
ويخفون كثيرا» بالياء في الأفعال الثلاثة، فمن رأى الاحتجاج
على قريش رآه إخبارا من الله عز وجل بما فعلته اليهود في
الكتاب، ويحتمل أن يكون الإخبار بذلك لقريش أو للنبي صلى الله
عليه وسلم وحده، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في
القرآن فأمته متلقية ذلك، وقَراطِيسَ جمع قرطاس أي بطائق
وأوراقا والمعنى يجعلونه ذا قراطيس من حيث يكتب فيها، وتوبيخهم
بالإبداء والإخفاء هو على إخفائهم آيات محمد عليه السلام
والإخبار بنبوته وجميع ما عليهم فيه حجة وقوله: وَعُلِّمْتُمْ
ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قال مجاهد وغيره
هي مخاطبة للعرب، فالمعنى على هذا قصد ذكر منة الله عليهم بذلك
أي علمتم يا معشر العرب من الهدايات والتحيد والإرشاد إلى الحق
ما لم تكونوا عالمين به ولا آباؤكم.
قال القاضي أبو محمد: وقوله: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا
يصلح على هذا المعنى لمخاطبة من انتفع بالتعليم ومن لم ينتفع
به، ويصح الامتنان بتعليم الصنفين، وليس من شرط من علم أن يعلم
ولا بد، اما أن التعليم الكامل هو الذي يقع معه التعلم، وقالت
فرقة بل هي مخاطبة لبني إسرائيل، والمعنى على هذا يترتب على
وجهين، أحدهما أن يقصد به الامتنان عليهم وعلى آبائهم بأن
علموا من دين الله وهداياته ما لم يكونوا عالمين به، لأن آباء
المخاطبين من بني إسرائيل كانوا علموا أيضا وعلم بعضهم، وليس
ذلك في آباء العرب، والوجه الآخر أن يكون المقصود منهم أي
وعلمتم أنتم وآباؤكم ما لم تعلموه بعد التعليم ولا انتفعتم به
لإعراضكم وضلالكم ثم أمره تعالى بالمبادرة إلى موضع الحجة أي
قل: الله هو الذي أنزل الكتاب على موسى ويحتمل أن يكون المعنى
فإن جهلوا أو تحيروا أو سألوا أو نحو هذا فقل الله ثم أمره
بترك من كفر وأعرض، وهذه آية منسوخة بآية القتال إن تأولت
موادعة، وقد يحتمل أن لا يدخلها نسخ إذا جعلت تتضمن تهديدا
ووعيدا مجردا من موادعة، و «الخوض» الذهاب فيما لا تسبر
حقائقه، وأصله في الماء ثم يستعمل في المعاني المشكلة
الملتبسة، ويَلْعَبُونَ في موضع الحال.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 92]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ
عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)
قوله هذا إشارة إلى القرآن، ومُبارَكٌ صفة له، ومُصَدِّقُ
كذلك، وحذف التنوين من مُصَدِّقُ للإضافة وهي إضافة غير محضة
لم يتعرف بها مصدق ولذلك ساغ أن يكون وصفا لنكرة، والَّذِي في
موضع المفعول، والعامل فيه مصدر، ولا يصلح أن يكون مُصَدِّقُ
مع حذف التنوين منه يتسلط على الَّذِي، ويقدر حذف التنوين
للالتقاء وإنما جاء ذلك شاذا في الشعر في قوله: [المتقارب]
فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلّا قليلا
(2/321)
وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ
إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ
مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ
فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو
أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ
عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ
غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
(93)
ولا يقاس عليه، وبَيْنَ يَدَيْهِ هي حال
التوراة والإنجيل لأن ما تقدم فهو بين يدي ما تأخر، وقالت فرقة
الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ القيامة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا غير صحيح لأن القرآن
هو بين يدي القيامة، وقرأ الجمهور «ولتنذر أم القرى» أي أنت يا
محمد، وقرأ أبو بكر عن عاصم «ولينذر» أي القرآن بمواعظه
وأوامره، واللام في لِتُنْذِرَ متعلقة بفعل متأخر تقديره
ولتنذر أم القرى أو من حولها أنزلناه، وأُمَّ الْقُرى مكة سميت
بذلك لوجوه أربعة، منها أنها منشأ الدين والشرع ومنها ما روي
أن الأرض منها دحية ومنها أنها وسط الأرض وكالنقطة للقرى،
ومنها ما لحق عن الشرع من أنها قبلة كل قرية فهي لهذا كله أم
وسائر القرى بنات، وتقدير الآية لتنذر أهل أم القرى، وَمَنْ
حَوْلَها يريد أهل سائر الأرض، وحَوْلَها ظرف العامل فيه فعل
مضمر تقديره ومن استقر حولها، ثم ابتدأ تبارك وتعالى بمدح
وصفهم وأخبر عنهم أنهم يؤمنون بالآخرة والبعث والنشور،
ويُؤْمِنُونَ بالقرآن ويصدقون بحقيقته، ثم قوى عز وجل مدحهم
بأنهم «يحافظون على صلاتهم» التي هي قاعدة العبادات وأم
الطاعات، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو بكر عن عاصم «صلواتهم»
بالجمع، ومن قرأ بالإفراد فإنه مفرد يدل على الجميع وإذا
انضافت الصلاة إلى ضمير لم تكتب إلا بالألف ولا تكتب في المصحف
بواو إلا إذا لم تنضف إلى ضمير.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 93]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ
قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ
قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ
الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ
باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ
تَسْتَكْبِرُونَ (93)
هذه ألفاظ عامة فكل من واقع شيئا مما يدخل تحت هذه الألفاظ فهو
داخل في الظلم الذي قد عظمه الله تعالى بقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ
أي لا أحد أظلم وقال قتادة وغيره: المراد بهذه الآيات مسيلمة
والأسود العنسي، وذكروا رؤية النبي عليه السلام للسوارين وقال
السدي: المراد بها عبد الله بن سعد بن أبي سرح الغامدي وكان
يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي وكان أخا عثمان بن عفان
من الرضاعة فلما نزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ
سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ
مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا
الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً
فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً
آخَرَ [المؤمنون: 14] فقال عبد الله بن سعد من تلقاء نفسه
فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 23] فقال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبها فهكذا أنزلت، فتوهم
عبد الله ولحق بمكة مرتدا وقال أنا أنزل مثل ما أنزل الله،
وروي عنه أيضا أن النبي عليه السلام ربما أملى عليه «والله
غفور رحيم» فبدلها هو «والله سميع عليم» فقال النبي عليه
السلام: ذلك سواء ونحو هذا، وقال عكرمة: أولها في مسيلمة
والآخر في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وذكر الزهراوي والمهدوي
أن الآية نزلت في النضر بن الحارث لأنه عارض القرآن بقوله
والزارعات زرعا والخابزات خبزا إلى غير ذلك من السخافات.
(2/322)
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: فخصص
المتأولون في هذه الآيات ذكر قوم قد يمكن أن كانوا أسباب
نزولها ثم هي إلى يوم القيامة تتناول من تعرض شيئا من معانيها
كطليحة الأسدي والمختار بن أبي عبيد وسواهما وقرأ الجمهور
«سأنزل مثل ما أنزل» بتخفيف وقرأ أبو حيوة «سأنزّل» بفتح النون
وتشديد الزاي.
قوله عز وجل: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ الآية، جواب لَوْ
محذوف تقديره لرأيت عجبا أو هولا ونحو هذا وحذف هذا الجواب
أبلغ من نصه لأن السامع إذا لم ينص له الجواب يترك مع غاية
تخيله والظَّالِمُونَ لفظ عام لمن واقع ما تقدم ذكره وغير ذلك
من أنواع الظلم الذي هو كفر و «الغمرات» جمع غمرة وهي المصيبة
المبهمة المذهلة، وهي مشبهة بغمرة الماء، ومنه قول الشاعر [بشر
بن أبي خازم] :
[الوافر]
ولا ينجي من الغمرات إلّا ... براكاء القتال أو الفرار
وَالْمَلائِكَةُ ملائكة قبض الروح، وباسِطُوا أَيْدِيهِمْ
كناية عن مدها بالمكروه كما قال تعالى حكاية عن ابني آدم:
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي [المائدة: 28] .
وهذا المكروه هو لا محالة أوائل عذاب وأماراته، قال ابن عباس:
يضربون وجوههم وأدبارهم، وأما البسط لمجرد قبض النفس فإنه
يشترك فيه الصالحون والكفرة، وقيل إن المراد بسط الأيدي في
جهنم، والغمرات كذلك لكنهم لا يقضى عليهم فيموتوا، وقوله:
أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ حكاية لما تقوله الملائكة، والتقدير
يقولون أخرجوا أنفسكم، ويحتمل قول الملائكة ذلك أن يريدوا
فأخرجوا أنفسكم من هذه المصائب والمحن وخلصوها إن كان ما
زعمتموه حقا في الدنيا، وفي ذلك توبيخ وتوقيف على سالف فعلهم
القبيح، قال الحسن: هذا التوبيخ على هذا الوجه هو في جهنم،
ويحتمل أن يكون ذلك على معنى الزجر والإهانة كما يقول الرجل
لمن يقهره بنفسه على أمر ما أفعل كذا، لذلك الأمر الذي هو
يتناوله بنفسه منه على جهة الإهانة وإدخال الرعب عليه.
وقوله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ الآية، هذه
حكاية عن قول الملائكة للكفرة عند قبض أرواحهم، والْهُونِ
الهوان ومنه قول ذي الأصبع: [البسيط]
إليك عني فما ألمى براعية ... ترعى المخاض ولا أفضى على الهون
وقرأ عبد الله بن مسعود وعكرمة «عذاب الهوان» بالألف.
وقوله تعالى: تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ لفظ
جامع لكل نوع من الكفر ولكنه يظهر منه ومن قوله وَكُنْتُمْ
عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ الإنحاء على من قرب ذكره من
هؤلاء الذين ادعوا الوحي وأن ينزلوا مثل ما أنزل الله، فإنها
أفعال بين فيها «قول غير الحق على الله» وبين فيها الاستكبار.
قوله عز وجل:
(2/323)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا
فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ
مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ
شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ
شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
[سورة الأنعام (6) : آية 94]
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ
وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ
أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ
وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
هذه حكاية عما يقال لهم بعد قبض أرواحهم، فإما عند خروجها من
الأجساد وإما يوم القيامة كل ذلك محتمل، وفُرادى معناه فردا
فردا، والألف في آخره ألف تأنيث ومنه قول الشاعر [ابن مقبل] :
ترى النعرات الزرق تحت لبانه ... فرادى ومثنى أصعقتها صواهله
وقرأ أبو حيوة «فرادى» منونا على وزن فعال وهي لغة تميم،
وفُرادى قيل هو جمع فرد بفتح الراء، وقيل جمع فرد بإسكان الراء
والمقصد في الآية توقيف الكفار على انفرادهم وقلة النصير
واحتياجهم إلى الله عز وجل بفقد الخول والشفعاء، فيكون قوله:
كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ تشبيها بالانفراد الأول في
وقت الخلقة، ويتوجه معنى آخر وهو أن يتضمن قوله: كَما
خَلَقْناكُمْ زيادة معان على الانفراد كأنه قال ولقد جئتمونا
فرادى وبأحوال كذا، والإشارة على هذا بقوله كما هي إلى ما قاله
النبي عليه السلام في صفة من يحشر أنهم يحشرون حفاة عراة غرلا،
وخَوَّلْناكُمْ معناه أعطيناكم، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد
بيت زهير:
[الطويل] :
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن
ييسروا يغلوا
وَراءَ ظُهُورِكُمْ إشارة إلى الدنيا لأنهم يتركون ذلك موجودا.
وقوله تعالى: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الآية، توقيف
على الخطأ في عبادة الأصنام وتعظيمها، قال الطبري: وروي أن هذه
الآية نزلت في النضر بن الحارث لأنه قال سوف تشفع له اللات
والعزى.
قال القاضي أبو محمد: ومن كان من العرب يعتقد أنها تشفع وتقرب
إلى الله زلفى ويرى شركتها بهذا الوجه فمخاطبته بالآية متمكن
وهكذا كان الأكثر، ومن كان منهم لا يقر بإله غيرها فليس هو في
هذه الآية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر، وحمزة
«بينكم» بالرفع، وقرأ نافع والكساء «بينكم» بالنصب أما الرفع
فعلى وجوه، أولاها أنه الظرف استعمل اسما وأسند إليه الفعل كما
قد استعملوه، اسما في قوله تعالى: مِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ
حِجابٌ [فصّلت: 5] وكقولهم فيما حكى سيبويه أحمر بن بين
العينين، ورجح هذا القول أبو علي الفارسي، والوجه الآخر أن بعض
المفسرين منهم الزهراوي والمهدوي وأبو الفتح وسواهم حكوا أن
«البين» في اللغة يقال على الافتراق وعلى الوصل فكأنه قال لقد
تقطع وصلكم.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا عندي اعتراض لأن ذلك لم يرو
مسموعا عن العرب وإنما انتزع من الآية، والآية محتملة، قال
الخليل في العين «والبين» الوصل.
لقوله عز وجل: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ فعلل سوق اللفظة
بالآية، والآية معرضة لغير ذلك، أما إن أبا الفتح قوى أن
«البين» الوصل وقال: «وقد أتقن ذلك بعض المحدثين بقوله: قد
أنصف البين من البين» .
والوجه الثالث من وجوه الرفع أن يكون «البين» على أصله في
الفرقة من بان يبين إذا بعد، ويكون في قوله:
تَقَطَّعَ تجوز على نحو ما يقال في الأمر البعيد في المسافة
تقطعت الفجاج بين كذا وكذا عبارة عن بعد
(2/324)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ
الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ
اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
ذلك، ويكون المقصد لقد تقطعت المسافة بينكم
لطولها فعبر عن ذلك «بالبين» الذي هو الفرقة، وأما وجه قراءة
النصب فأن يكون ظرفا ويكون الفعل مستندا إلى شيء محذوف وتقديره
لقد تقطع الاتصال أو الارتباط بينكم أو نحو هذا.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا وجه واضح وعليه فسره
الناس: مجاهد والسدي وغيرهما، وجه آخر يراه أبو الحسن الأخفش
وهو أن يكون الفعل مسندا إلى الظرف ويبقى الظرف على حال نصبه
وهو في النية مرفوع، ومثل هذا عنده قوله: وَأَنَّا مِنَّا
الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ [الجن: 11] وقرأ ابن مسعود
ومجاهد والأعمش «تقطع ما بينكم» بزيادة ما وضَلَّ معناه تلف
وذهب، وما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ يريد دعواهم أنها تشفع وتشارك
الله في الألوهية.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 96]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ
اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً
ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
هذا ابتداء تنبيه على العبرة والنظر، ويتصل المعنى بما قبله
لأن القصد أن الله لا هذه الأصنام، وقال مجاهد وأبو مالك هذه
إشارة إلى الشق الذي في حبة البر ونواة التمر.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: والعبرة على هذا القول
مخصوصة في بعض الحب وبعض النوى، وليس لذلك وجه، وقال الضحاك
وقتادة والسدي وغيرهما هذه إشارة إلى فعل الله في أن يشق جميع
الحب عن جميع النبات الذي يكون منه ويشق النوى عن جميع الأشجار
الكائنة عنه.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا هو الظاهر الذي يعطي
العبرة التامة، فسبحان الخلاق العليم، وقال الضحاك: فالِقُ
بمعنى خالق، وقال السدي وأبو مالك: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ إشارة إلى إخراج النبات الأخضر والشجر الأخضر من
الحب اليابس والنوى اليابس، فكأنه جعل الخضرة والنضارة حياة
واليبس موتا ومُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ إشارة إلى
إخراج اليابس من النبات والشجر، وقال ابن عباس وغيره، بل ذلك
كله إشارة إلى إخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة وإخراج
النطفة الميتة من الإنسان الحي، وكذلك سائر الحيوان والطير من
البيض والحوت وجميع الحيوان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول أرجح وإنما تعلق قائلو القول
الأول بتناسب تأويلهم مع قوله:
فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى وهما على هذا التأويل الراجح معنيان
متباينان فيهما معتبر، وقال الحسن: المعنى يخرج المؤمن من
الكافر والكافر من المؤمن، وقوله: ذلِكُمُ اللَّهُ ابتداء وخبر
متضمن التنبيه، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي تصرفون وتصدون وفالِقُ
الْإِصْباحِ أي شاقه ومظهره، والفلق الصبح، وقرأ الجمهور «فالق
الإصباح» بكسر الهمزة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وعيسى بن عمر
وأبو رجاء «فالق الأصباح» بفتح الهمزة جمع صبح، وقرأت فرقة
«فالق الإصباح» بحذف التنوين «فالق» لالتقاء الساكنين، ونصب
(2/325)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
«الإصباح» ب «فالق» كأنه أراد «فالق
الإصباح» بتنوين القاف، وهذه قراءة شاذة، وإنما جوز سيبويه مثل
هذا في الشعر وأنشد عليها: [المتقارب]
فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلّا قليلا
وحكى النحاس عن المبرد جواز ذلك في الكلام، وقرأ أبو حيوة
وإبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «فلق الإصباح» بفعل ماض، وقرأ
ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «وجاعل الليل» وقرأ عاصم
وحمزة والكسائي «وجعل الليل» ، وهذا لما كان «فالق» بمعنى
الماضي فكأن اللفظ «فلق الإصباح» وجعل، ويؤيد ذلك نصب
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وقرأ الجمهور «سكنا» وروي عن يعقوب
«ساكنا» قال أبو عمرو الداني ولا يصح ذلك عنه، ونصبه بفعل مضمر
إذا قرأنا «وجاعل» لأنه بمعنى المضي، وتقدير الفعل المضمر
وجاعل الليل يجعله سكنا، وهذا مثل قولك هذا معطي زيد أمس
درهما، والذي حكاه أبو علي في هذا أن ينتصب بما في الكلام من
معنى معطي. وقرأ أبو حيوة «والشمس والقمر» بالخفض عطفا على لفظ
«الليل» وحُسْباناً جمع حساب كشهبان في جمع شهاب، أي تجري
بحساب، هذا قول ابن عباس والسدي وقتادة ومجاهد، وقال مجاهد في
صحيح البخاري المراد حسبان كحسبان إلى حي وهو الدولاب والعود
الذي عليه دورانه.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 97 الى 98]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها
فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
هذه المخاطبة تعم المؤمنين والكافرين، فالحجة بها على الكافرين
قائمة والعبرة بها للمؤمنين ممكنة متعرضة، وجَعَلَ هنا بمعنى
خلق لدخولها على مفعول واحد، وقد يمكن أن تكون بمعنى صير ويقدر
المفعول الثاني في لِتَهْتَدُوا لأنه يقدر وهو الذي جعل لكم
النجوم هداية، وفِي ظُلُماتِ هي هاهنا على حقيقتها في ظلمة
الليل بقرينة النجوم التي لا تكون إلا بالليل، ويصح أن تكون
«الظلمات» هاهنا الشدائد في المواضع التي يتفق أن يهتدى فيها
الشمس، وذكر الله تعالى النجوم في ثلاث منافع وهي قوله:
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الملك:
5] وقوله: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: 5]
وقوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا
بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فالواجب أن يعتقد أن
ما عدا هذه الوجوه من قول أهل التأثير باطل واختلاق على الله
وكفر به، وفَصَّلْنَا معناه بينا وقسمنا والْآياتِ الدلائل
ولِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ تخصيص لهم بالذكر وتنبيه منهم لتحصلهم
الآية المفصلة المنصوبة، وغيرهم تمر عليهم الآيات وهم معرضون
عنها، وقوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ الآية، الإنشاء فعل
الشيء، ومِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يريد آدم عليه السلام، وقرأ نافع
وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «فمستقر» بفتح القاف على أنه
موضع استقرار، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فمستقر» بكسر القاف
على أنه اسم فاعل، وأجمعوا على فتح الدال من «مستودع» بأن يقدر
موضع
(2/326)
وَهُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ
كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ
حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا
قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا
إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
استيداع، وأن يقدر أيضا مفعولا ولا يصح ذلك
في مستقر لأن استقر لا يتعدى فيبنى منه مفعول أما أنه روى
هارون الأعور عن أبي عمرو «ومستودع» بكسر الدال، فمن قرأ
«فمستقر ومستودع» على أنها موضع استقرار وموضع استيداع علقها
بمجرور تقديره فلكم مستقر ومستودع، ومن قرأ «فمستقر ومستودع»
على اسم الفاعل في «مستقر» واسم المفعول في «مستودع» علقها
بمجرور تقديره فمنكم مستقر ومستودع واضطرب المتأولون في معنى
هذا الاستقرار والاستيداع، فقال الجمهور مستقر في الرحم
ومستودع في ظهور الآباء حتى يقضي الله بخروجهم، وقال ابن عون:
مشيت إلى منزل إبراهيم النخعي وهو مريض فقالوا قد توفي فأخبرني
بعضهم أن عبد الرحمن بن الأسود سأله عن «مستقر ومستودع» فقال:
مستقر في الرحم ومستودع في الصلب، وقال الحسن بن أبي الحسن:
مستقر في القبور ومستودع في الدنيا، وقال ابن عباس: المستقر
الأرض والمستودع عند الرحم، وقال ابن جبير: المستودع في الصلب
والمستقر في الآخرة والذي يقتضيه النظر أن ابن آدم هو مستودع
في ظهر أبيه وليس بمستقر فيه استقرارا مطلقا لأنه ينتقل لا
محالة ثم ينتقل إلى الرحم ثم ينتقل إلى القبر ثم ينتقل إلى
المحشر ثم ينتقل إلى الجنة أو النار فيستقر في أحدهما استقرارا
مطلقا، وليس فيها مستودع لأنه لا نقلة له بعد وهو في كل رتبة
متوسطة بين هذين الظرفين «مستقر» بالإضافة إلى التي قبلها و
«مستودع» بالإضافة إلى التي بعدها لأن لفظ الوديعة يقتضي فيها
نقلة ولا بد، ويَفْقَهُونَ معناه يفهمون وقد تقدم تفسير مثل
هذا آنفا.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 99]
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا
بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً
نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ
طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ
انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي
ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
السَّماءِ في هذا الموضع السحاب، وكل ما أظلك فهو سماء، وماءً
أصله موه تحركت الواو وانفتح ما قبلها فجاء ماه فبدلت الهاء
بالهمزة لأن الألف والهاء ضعيفان مهموسان، وقوله: نَباتَ كُلِّ
شَيْءٍ قال بعض المفسرين أي مما ينبت، وحسن إطلاق العموم في
كُلِّ شَيْءٍ لأن ذكر النبات قبله قد قيد المقصد وقال الطبري
والمراد ب كُلِّ شَيْءٍ ما ينمو من جميع الحيوانات والنبات
والمعادن وغير ذلك، لأن ذلك كله يتغذى وينمو بنزول الماء من
السماء، والضمير في مِنْهُ يعود على النبات، وفي الثاني يعود
على الخضر، وخَضِراً بمعنى أخضر، ومنه قوله عليه السلام:
«الدنيا خضرة حلوة» بمعنى خضراء.
قال القاضي أبو محمد: وكأن «خضرا» إنما يأتي أبدا لمعنى
النضارة وليس للون فيه مدخل، وأخضر إنما تمكنه في اللون، وهو
في النضارة تجوز، وقوله: حَبًّا مُتَراكِباً يعم جميع السنابل
وما شاكلها كالصنوبر، والرمان وغيرها من جميع النبات، وقوله
تعالى: وَمِنَ النَّخْلِ تقديره ونخرج من النخل ومِنْ طَلْعِها
قِنْوانٌ ابتداء خبره مقدم، والجملة في موضع المفعول بنخرج، و
«الطلع» أول ما يخرج من النخلة في أكمامه، وقِنْوانٌ جمع قنو
وهو العذق بكسر العين وهي الكباسة، والعرجون عوده الذي ينتظم
التمر،
(2/327)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ
وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى
يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
قرأ الأعرج «قنوان» بفتح القاف، وقال أبو
الفتح ينبغي أن يكون اسما للجمع غير مكسر لأن فعلان ليس من
أمثلة الجمع قال المهدوي وروي عن الأعرج ضم القاف، وكذلك أنه
جمع «قنو» بضم القاف، قال الفراء وهي لغة قيس وأهل الحجاز،
والكسر أشهر في العرب، وقنو يثنى قنوان منصرفة النون،
ودانِيَةٌ معناه قريبة من المتناول، قاله ابن عباس والبراء بن
عازب والضحاك وقيل قريبة بعضها من بعض، وقرأ الجمهور «وجنات»
بنصب جنات عطفا على قوله نبات، وقرأ الأعمش ومحمد بن أبي ليلى
ورويت عن أبي بكر عن عاصم «وجنات» بالرفع على تقدير ولكم جنات
أو نحو هذا، وقال الطبري وهو عطف على قنوان.
قال القاضي أبو محمد: وقوله ضعيف والزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ
بالنصب إجماعا عطفا على قوله:
حَبًّا، ومُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ قال قتادة: معناه
تتشابه في اللون وتتباين في الثمر، وقال الطبري: جائز أن
تتشابه في الثمر وتتباين في الطعم، ويحتمل أن يريد تتشابه في
الطعم وتتباين في المنظر، وهذه الأحوال موجودة بالاعتبار في
أنواع الثمرات، وقوله تعالى: انْظُرُوا وهو نظر بصر يترتب عليه
فكرة قلب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم «إلى
ثمره» بفتح الثاء والميم وهو جمع ثمرة كبقرة وبقر وشجرة وشجر،
وقرأ يحيى بن وثاب ومجاهد «ثمره» بضم الثاء والميم قالا وهي
أصناف المال.
قال القاضي أبو محمد: كأن المعنى انظروا إلى الأموال التي
تتحصل منه، وهي قراءة حمزة والكسائي، قال أبو علي والأحسن فيه
أن يكون جمع ثمره كخشبة وخشب وأكمة وأكم، ومنه قول الشاعر:
[الطويل]
ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر
نظيره في المعتل لابة ولوب وناقة ونوق وساحة وسوح.
ويجوز أن يكون جمع جمع فتقول ثمرة وثمار وثمر مثل حمار وحمر،
وقرأت فرقة «إلى ثمره» بضم الثاء وإسكان الميم كأنها ذهبت إلى
طلب الخفة في تسكين الميم، والثمر في اللغة جنى الشجر وما
يطلع، وإن سمي الشجر ثمارا فتجوز، وقرأ جمهور الناس و «ينعه»
بفتح الياء وهو مصدر ينع يينع إذا نضج، يقال ينع وأينع،
وبالنضج فسر ابن عباس هذه الآية، ومنه قول الحجاج «إني لأرى
رؤوسا قد أينعت» ، ويستعمل ينع بمعنى استقل واخضر ناضرا، ومنه
قول الشاعر: [المديد]
في قباب حول دسكرة ... حولها الزّيتون قد ينعا
وقيل في يَنْعِهِ إنه جمع يانع مثل في تاجر وتجر وراكب وركب
ذكره الطبري، وقرأ ابن محيصن وقتادة والضحاك «وينعه» بضم الياء
أي نضجه، وقرأ ابن أبي عبلة واليماني. «ويانعه» ، وقوله إِنَّ
فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ إيجاب تنبيه وتذكير وتقدم تفسير مثله.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 102]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا
لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
(2/328)
جَعَلُوا بمعنى صيروا، والْجِنَّ مفعول
وشُرَكاءَ مفعول ثان مقدم، ويصح أن يكون قوله شُرَكاءَ مفعولا
أولا ولِلَّهِ في موضع المفعول الثاني والْجِنَّ بدل من قوله
شُرَكاءَ، وهذه الآية مشيرة إلى العادلين بالله والقائلين إن
الجن تعلم الغيب العابدين للجن، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك
وتستجير بجن الأودية في أسفارها ونحو هذا، أما الذين «خرقوا
البنين» فاليهود في ذكر عزير والنصارى في ذكر المسيح، وأما
ذاكرو البنات فالعرب الذين قالوا للملائكة بنات الله، فكأن
الضمير في جَعَلُوا وخَرَقُوا لجميع الكفار إذ فعل بعضهم هذا،
وبنحو هذا فسر السدي وابن زيد، وقرأ شعيب بن أبي حمزة «شركاء
الجنّ» بخفض النون، وقرأ يزيد بن قطيب وأبو حيوة «الجن والجن»
بالخفض والرفع على تقديرهم الجن، وقرأ الجمهور «وخلقهم» بفتح
اللام على معنى وهو خلقهم، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وهو
خلقهم» يحتمل العودة على الجاعلين ويحتملها على المجعولين،
وقرأ يحيى بن يعمر «وخلقهم» بسكون اللام عطفا على الجن أي
جعلوا خلقهم الذي ينحتونه أصناما شركاء بالله، وقرأ السبعة سوى
نافع «وخرقوا» بتخفيف للراء وهو بمعنى اختلفوا وافتروا وقرأ
نافع «وخرّقوا» بتشديد الراء على المبالغة، وقرأ ابن عمر وابن
عباس رضي الله عنهما «وحرّفوا» من التحريف كذا قال أبو الفتح،
قال أبو عمرو الداني قرأ ابن عباس «حرفوا» خفيفة الراء، وابن
عمر «حرّفوا» مشددة الراء، وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ نص على قبح
تقحمهم المجهلة وافترائهم الباطل على عمى، سُبْحانَهُ أي تنزه
عن وصفهم الفاسد المستحيل عليه تبارك وتعالى وبَدِيعُ بمعنى:
مبدع ومخترع وخالق، فهو بناء اسم فاعل كما جاء: سميع بمعنى
مسمع وأَنَّى بمعنى كيف ومن أين، فهي استفهام في معنى التوقيف
والتقرير، وقرأ جمهور الناس «ولم تكن» بالتاء على تأنيث علامة
الفعل، وقرأ إبراهيم النخعي: بالياء على تذكيرها وتذكير كان
وأخواتها مع تأنيث اسمها أسهل من ذلك في سائر الأفعال، فقولك:
كان في الدار هند أسوغ من قام في الدار هند، وحسن القراءة
الفصل بالظرف الذي هو الخبر ويتجه في القراءة المذكورة أن يكون
في تَكُنْ ضمير اسم الله تعالى، وتكون الجملة التي هي لَهُ
صاحِبَةٌ خبر كان، ويتجه أن يكون في «يكن» ضمير أمر وشأن وتكون
الجملة بعد تفسيرا له وخبرا، وهذه الآية رد على الكفار بقياس
الغائب على الشاهد، وقوله وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لفظ عام لكل
ما يجوز أن يدخل تحته ولا يجوز أن يدخل تحته صفات الله تعالى
وكلامه، فليس هو عموما مخصصا على ما ذهب إليه قوم لأن العموم
المخصص هو أن يتناول العموم شيئا ثم يخرجه التخصيص، وهذا لم
يتناول قط هذه التي ذكرناها، وإنما هذا بمنزلة قول الإنسان:
قتلت كل فارس وأفحمت كل خصم فلم يدخل القائل قط في هذا العموم
الظاهر من لفظه، وأما قوله وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهذا
عموم على الإطلاق ولأن الله عز وجل يعلم كل شيء لا رب غيره ولا
معبود سواه، ولما تقررت الحجج وبانت الوحدانية جاء قوله تعالى:
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ الآية تتضمن تقريرا وحكما إخلاصا
أمرا بالعبادة وإعلاما بأنه حفيظ رقيب على كل فعل وقول وفي هذا
الإعلام تخويف وتحذير.
(2/329)
لَا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ
فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا
أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ
الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ (105)
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 103 الى 105]
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ
رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ
فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ
نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
أجمع أهل السنة على أن الله تعالى يرى يوم القيامة، يراه
المؤمنون وقاله ابن وهب عن مالك بن أنس، والوجه أن يبين جواز
ذلك عقلا ثم يستند إلى ورود السمع بوقوع ذلك الجائز، واختصار
تبيين ذلك يعتبر بعلمنا بالله عز وجل، فمن حيث جاز أن نعلمه لا
في مكان ولا متحيز ولا مقابل ولم يتعلق علمنا بأكثر من الوجود،
جاز أن نراه غير مقابل ولا محاذى ولا مكيفا ولا محدودا، وكان
الإمام أبو عبد الله النحوي يقول: مسألة العلم حلقت لحى
المعتزلة ثم ورد الشرع بذلك وهو قوله عز وجل: وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22]
وتعدية النظر يأتي إنما هو في كلام العرب لمعنى الرؤية لا
لمعنى الانتظار على ما ذهبت إليه المعتزلة، وذكر هذا المذهب
لمالك فقال: فأين هم عن قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ
رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطفّفين: 15] .
قال القاضي أبو محمد: فقال بدليل الخطاب ذكره النقاش ومنه قول
النبي صلى الله عليه وسلم، فيما صح عنه وتواتر وكثر نقله: إنكم
ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر ونحوه من
الأحاديث على اختلاف ترتيب ألفاظها، وذهبت المعتزلة إلى المنع
من جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة واستحال ذلك بآراء مجردة،
وتمسكوا بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وانفصل أهل
السنة عن تمسكهم بأن الآية مخصوصة في الدنيا، ورؤية الآخرة
ثابتة بأخبارها، وانفصال آخر، وهو أن يفرق بين معنى الإدراك
ومعنى الرؤية، ونقول إنه عز وجل تراه الأبصار ولا تدركه، وذلك
الإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء والوصول إلى أعماقه وحوزه من
جميع جهاته، وذلك كله محال في أوصاف الله عز وجل، والرؤية لا
تفتقر إلى أن يحيط الرائي بالمرئي ويبلغ غايته، وعلى هذا
التأويل يترتب العكس في قوله وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ
ويحسن معناه، ونحو هذا روي عن ابن عباس وقتادة وعطية العوفي،
فرقوا بين الرؤية والإدراك، وأما الطبري رحمه الله ففرق بين
الرؤية والإدراك واحتج بقول بني إسرائيل إنّا لمدركون فقال
إنهم رأوهم ولم يدركوهم.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا كله خطأ لأن هذا
الإدراك ليس بإدراك البصر بل هو مستعار منه أو باشتراك، وقال
بعضهم إن المؤمنين يرون الله تعالى بحاسة سادسة تخلق يوم
القيامة، وتبقى هذه الآية في منع الإدراك بالأبصار عامة سليمة،
قال: وقال بعضهم: إن هذه الآية مخصوصة في الكافرين، أي إنه لا
تدركه أبصارهم لأنهم محجوبون عنه.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذه الأقوال كلها ضعيفة
ودعا ولا تستند إلى قرآن ولا حديث، واللَّطِيفُ المتلطف في
خلقه واختراعه وإتقانه، وبخلقه وعباده والْخَبِيرُ المختبر
لباطن أمورهم
(2/330)
وظاهرها، و «البصائر» جمع بصيرة وهي ما
يتفق عن تحصيل العقل للأشياء المنظور فيها، بالاعتبار، فكأنه
قال قد جاءكم في القرآن والآيات طرائق إبصار الحق والمعينة
عليه، والبصيرة للقلب مستعارة من إبصار العين، والبصيرة أيضا
هي المعتقد المحصل في قول الشاعر [الأسعر الجعفي] : [الكامل]
راحوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتد وأي
وقال بعض الناس في هذا البيت البصيرة طريقة الدم، والشاعر إنما
يصف جماعة مشوا به في طلب دم ففتروا فجعلوا الأمر وراء ظهورهم،
وقوله تعالى: فَمَنْ أَبْصَرَ ومَنْ عَمِيَ عبارة مستعارة فيمن
اهتدى ومن ضل، وقوله وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ كان في
أول الأمر وقبل ظهور الإسلام ثم بعد ذلك كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم حفيظا على العالم آخذا لهم بالإسلام والسيف،
وقوله تعالى: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا
دَرَسْتَ الآية، الكاف في قوله وَكَذلِكَ في موضع نصب ب
نُصَرِّفُ أي ومثل ما بينا البصائر وغير ذلك نصرف الآيات أي
نرددها ونوضحها وقرأت طائفة «وليقولوا درست» بسكون اللام على
جهة الأمر ويتضمن التوبيخ والوعيد. وقرأ الجمهور «وليقولوا»
بكسر اللام على أنها لام كي وهي على هذا لام الصيرورة كقوله
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَناً [القصص: 8] إلى ذلك، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي
«درست» أي يا محمد درست في الكتب القديمة ما تجيبنا به، وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو «دارست» أي أنت يا محمد دارست غيرك في هذه
الأشياء أي قارأته وناظرته، وهذا إشارة منهم إلى سلمان وغيره
من الأعاجم واليهود، وقرأ ابن عامر وجماعة من غير السبعة
«درست» بإسناد الفعل إلى الآيات كأنهم أشاروا إلى أنها ترددت
على أسماعهم حتى بليت في نفوسهم وامحت، قال أبو علي واللام في
لِيَقُولُوا على هذه القراءة بمعنى لئلا يقولوا أي صرفت الآيات
وأحكمت لئلا يقولوا هذه الأساطير قديمة قد بليت وتكررت على
الأسماع، واللام على سائر القراءات لام الصيرورة، وقرأت فرقة
«دارست» كأنهم أرادوا دراستك يا محمد أي الجماعة المشار إليها
قبل من سلمان واليهود وغيرهم، وقرأت فرقة «درست» بضم الراء
وكأنها في معنى درست أي بليت، وقرأ قتادة «درست» بضم الدال
وكسر الراء وهي قراءة ابن عباس بخلاف عنه ورويت عن الحسن، قال
أبو الفتح في «درست» ضمير الآيات، ويحتمل أن يراد عفيت
وتنوسيت، وقرأ أبي بن كعب «درس» وهي في مصحف عبد الله، قال
المهدوي وفي بعض مصاحف عبد الله أيضا «درس» ، ورويت عن الحسن،
وقرأت فرقة «درّس» بتشديد الراء على المبالغة في درس، وهذه
الثلاثة الأخيرة مخالفة لخط المصحف، واللام في قوله
ولِيَقُولُوا وفي قوله وَلِنُبَيِّنَهُ متعلقان بفعل متأخر
تقديره صرفناها، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود «ولتبينه» بالتاء
على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأه فرقة «وليبينه»
بياء أي الله تعالى، وذهب بعض الكوفيين إلى أن لا مضمرة بعد أن
المقدرة في قوله وَلِيَقُولُوا فتقدير الكلام عندهم وأن لا
يقولوا كما أضمروها في قوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ
تَضِلُّوا [النساء: 176] .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا قلق ولا يجيز البصريون
إضمار لا في موضع من المواضع.
(2/331)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا
وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا
بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ
عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ
فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ
لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ
وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ
(109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ
يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 106 الى 108]
اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ
هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ
اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً
وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلا تَسُبُّوا
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ
عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ
عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ
بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)
هذان أمران للنبي صلى الله عليه وسلم مضمنهما الاقتصار على
اتباع الوحي وموادعة الكفار. وذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ
الإعراض عنهم بالقتال والسوق إلى الدين طوعا أو كرها، وقوله
تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا في ظاهرها رد على
المعتزلة القائلين إنه ليس عند الله لطف يؤمن به الكافر وإن
الكافر والإنسان في الجملة يخلق أفعاله، وهي متضمنة أن إشراكهم
وغيره وقف على مشيئة الله عز وجل، وقوله تعالى: وَما
جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً كان في أول الإسلام، وكذلك
وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ وقوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية، مخاطبة
للمؤمنين والنبي عليه السلام، وقال ابن عباس وسببها أن كفار
قريش قالوا لأبي طالب إما أن ينتهي محمد وأصحابه عن سب آلهتنا
والغض منها وإما نسب إلهه ونهجوه فنزلت الآية، وحكمها على كل
حال باق في الأمة، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب
الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم والله عز وجل فلا يحل
للمسلم أن يسب دينهم ولا صلبانهم ولا يتعرض ما يؤدي إلى ذلك أو
نحوه، وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل ب الَّذِينَ وذلك على معتقد
الكفرة فيها، وفي هذه الآية ضرب من الموادعة.
وقرأ جمهور الناس «عدوا» بفتح العين وسكون الدال نصب على
المصدر، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة ويعقوب
وسلام وعبد الله بن زيد «عدوّا» بضم العين والدال وتشديد
الواو، وهذا أيضا نصب على المصدر وهو من الاعتداء، وقرأ بعض
الكوفيين «عدوا» بفتح العين وضم الدال نصب على الحال أي في حال
عداوة لله، وهو لفظ مفرد يدل على الجمع، وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ
بيان لمعنى الاعتداء المتقدم، وقوله تعالى: كَذلِكَ زَيَّنَّا
لِكُلِّ أُمَّةٍ إشارة إلى ما زين الله لهؤلاء عبدة الأصنام من
التمسك بأصنامهم والذنب عنها وتزيين الله عمل الأمم هو ما
يخلقه ويخترعه في النفوس من المحبة للخير والشر والاتباع
لطرقه، وتزيين الشيطان هو بما يقذفه في النفوس من الوسوسة
وخطرات السوء، وقوله ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ
فَيُنَبِّئُهُمْ يتضمن وعدا جميلا للمحسنين ووعيدا ثقيلا
للمسيئين.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 109 الى 110]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ
آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ
اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ
(109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ
يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
(2/332)
الضمير في قوله وَأَقْسَمُوا عائد على
المشركين المتقدم ذكرهم، وجَهْدَ نصب على المصدر والعامل فيه
أَقْسَمُوا على مذهب سيبويه لأنه في معناه، وعلى مذهب أبي
العباس المبرد فعل من لفظة، واللام في قوله لَئِنْ لام موطئة
للقسم مؤذنة به، وأما اللام المتلقية للقسم فهي قوله
لَيُؤْمِنُنَّ وآيَةٌ يريد علامة، وحكي أن الكفار لما نزلت
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً
فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء: 4] أقسموا
حينئذ أنها إن نزلت آمنوا فنزلت هذه الآية.
وحكي أنهم اقترحوا أن يعود الصفا ذهبا وأقسموا فقام رسول الله
صلى الله عليه وسلم يدعو في ذلك فجاءه جبريل فقال له إن شئت
أصبح ذهبا فإن لم يؤمنوا هلكوا عن آخرهم معاجلة كما فعل بالأمم
إذا لم تؤمن بالآيات المقترحة، وإن شئت أخروا حتى يتوب تائبهم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل حتى يتوب تائبهم ونزلت
هذه الآية، وقرأ ابن مصرف «ليؤمنن» بفتح الميم والنون وبالنون
الخفيفة، ثم قال تعالى قل لهم يا محمد على جهة الرد والتخطية
إنما الآيات بيد الله وعنده، ليست عندي فتقترح عليّ، ثم قال
وَما يُشْعِرُكُمْ فاختلف المتأولون فمن المخاطب بقوله وَما
يُشْعِرُكُمْ ومن المستفهم ب «ما» التي يعود عليها الضمير
الفاعل في «يشعركم» ، فقال مجاهد وابن زيد: المخاطب بذلك
الكفار، وقال الفراء وغيره، المخاطب بها المؤمنون، وَما
يُشْعِرُكُمْ معناه وما يعلمكم وما يدريكم، وقرأ قوم «يشعركم»
بسكون الراء، وهي على التخفيف، ويحسنها أن الخروج من كسرة إلى
ضمة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية دواد الايادي
«إنها» بكسر الألف على القطع واستئناف الإخبار، فمن قرأ
«تؤمنون» بالتاء وهي قراءة ابن عامر وحمزة استقامت له المخاطبة
أولا وآخرا للكفار، ومن قرأ «يؤمنون» بالياء وهي قراءة ابن
كثير ونافع وأبي عمرو والكسائي فيحتمل أن يخاطب أولا وآخرا
المؤمنين، ويحتمل أن يخاطب بقوله وَما يُشْعِرُكُمْ الكفار ثم
يستأنف الإخبار عنهم للمؤمنين، ومفعول يُشْعِرُكُمْ الثاني
محذوف ويختلف تقديره بحسب كل تأويل، وقرأ نافع وعاصم في رواية
حفص وحمزة والكسائي وابن عامر «أنها» بفتح الألف، فمنهم من
جعلها «أن» التي تدخل على الجمل وتأتي بعد الأفعال كعلمت وظننت
وأعمل فيها يُشْعِرُكُمْ، والتزم بعضهم «أن لا» زائدة في قوله
لا يُؤْمِنُونَ وأنّ معنى الكلام وما يشعركم أنها إذا جاءت
يؤمنون أو تؤمنون فزيدت لا كما زيدت في قوله وَحَرامٌ عَلى
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:
95] لأن المعنى وحرام على قرية مهلكة رجوعهم، وكما جاءت في قول
الشاعر: [الطويل]
أبى جوده لا البخل واستعجلت به ... نعم من فتى لا يمنع الجود
قاتله
قال الزجاج أراد «أبى جوده البخل» ، كما جاءت زائدة في قول
الشاعر:
أفمنك لا برق كان وميضه ... غاب تسنمه ضرام مثقب
ودعا إلى التزام هذا حفظ المعنى لأنها لو لم تكن زائدة لعاد
الكلام عذرا للكفار وفسد المراد بالآية، وضعّف الزجّاج وغيره
زيادة لا وقال هذا غلط، ومنهم من جعل «أنها» بمعنى لعلها
وحكاها سيبويه عن الخليل وهو تأويل لا يحتاج معه إلى تقدير
زيادة لا، وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب: وما
أدراكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون، ومن هذا المعنى قول الشاعر
[أبو النجم] : [الرجز]
(2/333)
وَلَوْ أَنَّنَا
نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ
الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا
كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ
نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ
شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
(112)
قلت لشيبان ادن من لقائه ... أنّى تغذّى
القوم من شوائه
فهذه كلها بمعنى لعل وضعّف أبو علي هذا بأن التوقع الذي فيه لا
يناسب الآية بعد التي حكمت بأنهم لا يؤمنون، وترجح عنده في
الآية أن تكون «أن» على بابها وأن يكون المعنى قل إنما الآيات
عند الله لأنها إذا جاءت «لا يؤمنون» ، فهو لا يأتي بها
لإصرارهم على كفرهم، وتكون الآية نظير قوله تعالى: وَما
مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا
الْأَوَّلُونَ [الإسراء: 59] أي بالآيات المقترحة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: ويترتب على هذا التأويل أن
تكون «ما» نافية، ذكر ذلك أبو علي فتأمل وترجح عنده أيضا أن
تكون لا زائدة، وبسط شواهده في ذلك، وحكى بعض المفسرين أن في
آخر الآية حذفا يستغنى به عن زيادة لا، وعن تأويلها بمعنى لعل
وتقديره عندهم أنها إذا جاءت «لا يؤمنون» أو يؤمنون.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا قول ضعيف لا يعضده لفظ
الآية ولا يقتضيه وتحتمل الآية أن يكون المعنى يتضمن الإخبار
أنهم لا يؤمنون، وقيل لهم وما يشعركم بهذه الحقيقة أي لا سبيل
إلى شعوركم بها وهي حق في نفسها وهم لا يؤمنون أن لو جاءت، وما
استفهام على هذا التأويل، وفي مصحف ابن مسعود «وما يشعركم إذا
جاءتهم يؤمنون» بسقوط أنها، وقوله تعالى: وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا المعنى
على ما قالت فرقة ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في النار وفي لهيبها
في الآخرة لما لم يؤمنوا في الدنيا ثم استأنف على هذا ونذرهم
في الدنيا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
وقالت فرقة إنما المراد بالتقليب التحويل عن الحق والهدى،
والترك في الضلالة والكفر، ومعنى الآية أن هؤلاء الذين أقسموا
أنهم يؤمنون إن جاءت آية نحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم أن لو جاءت
فلا يؤمنون بها كما لو يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من عبادة
الله، فأخبر الله تعالى على هذا التأويل بصورة فعله بهم، وقرأ
أبو رجاء «يذرهم» بالياء ورويت عن عاصم، وقرأ إبراهيم النخعي
«ويقلب ويذرهم» بالياء فيهما كناية عن الله تبارك وتعالى وقرأ
أيضا فيما روى عنه مغيرة «وتقلب» بفتح التاء واللام بمعنى
وتنقلب أفئدتهم وأبصارهم بالرفع فيهما، «ويذرهم» بالياء وجزم
الراء، وقالت فرقة قوله كَما في هذه الآية إنما هي بمعنى
المجازاة أي لما لم يؤمنوا أول مرة نجازيهم بأن نقلب أفئدتهم
عن الهدى ونطبع على قلوبهم، فكأنه قال ونحن نقلب أفئدتهم
وأبصارهم جزاء لما لم يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من الشرع،
والضمير في «به» يحتمل أن يعود على الله عز وجل أو على القرآن
أو على النبي عليه السلام، ونَذَرُهُمْ معناه نتركهم، وقرأ
الأعمش والهمداني «ويذرهم» بالياء وجزم الراء على وجه التخفيف،
والطغيان: التخبط في الشر والإفراط فيما يتناوله المرء، والعمى
التردد والحيرة.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 112]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ
وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ
قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ
(112)
(2/334)
أخبر الله عز وجل في هذه الآية أنه لو أتى
بجميع ما اقترحوه من إنزال الملائكة وإحياء سلفهم حسبما كان من
اقتراح بعضهم أن يحشر قصي وغيره، فيخبر بصدق محمد أو يجمع
عليهم كل شيء يعقل أن يحشر عليهم، ما آمنوا إلا بالمشيئة
واللطف الذي يخلقه ويخترعه في نفس من شاء لا رب غيره، وهذا
يتضمن الرد على المعتزلة في قولهم بالآيات التي تضطر الكفار
إلى الإيمان، وقال ابن جريج: نزلت هذه الآية في المستهزئين.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: لا يثبت إلا بسند، وقرأ
نافع وابن عامر وغيرهما «قبلا» بكسر القاف وفتح الباء، ومعناه
مواجهة ومعاينة قاله ابن عباس، وغيره ونصبه على الحال، وقال
المبرد: المعنى ناحية كما تقول له قبل فلان دين.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: فنصبه على هذا هو على
الظرف، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وغيرهم «قبلا» بضم القاف
والباء، وكذلك قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا وقرأ الْعَذابُ
قُبُلًا [الكهف: 55] مكسورة القاف واختلف في معناه فقال عبد
الله بن زيد ومجاهد وابن زيد: «قبل» جمع قبيل أي صنفا صنفا
ونوعا نوعا كما يجمع قضيب على قضب وغيره، وقال الفراء والزجّاج
هو جمع قبيل وهو الكفيل «وحشرنا عليهم كل شيء كفلاء» بصدق محمد
وذكره الفارسي وضعفه، وقال بعضهم قبل الضم بمعنى قبل بكسر
القاف أي مواجهة كما تقول قبل ودبر، ومنه قوله تعالى: قُدَّ
مِنْ قُبُلٍ [يوسف: 26] ومنه قراءة ابن عمر لقبل عدتهن
[الطلاق: 1] أي لاستقبالها ومواجهتها في الزمن وقرأ الحسن وأبو
رجاء وأبو حيوة «قبلا» بضم القاف وسكون الباء، وذلك على جهة
التخفيف.
وقرأ طلحة بن مصرف «قبلا» بفتح القاف وإسكان الباء، وقرأ أبيّ
والأعمش «قبيلا» بفتح القاف وكسر الباء وزيادة ياء، والنصب في
هذا كله على الحال، وقوله عز وجل: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
يَجْهَلُونَ الضمير عائد إلى الكفار المتقدم ذكرهم، والمعنى
يجهلون أن الآية تقتضي إيمانهم ولا بد، فيقتضي اللفظ أن الأقل
لا يجهل فكان فيهم من يعتقد أن الآية لو جاءت «لم يؤمن إلا أن
يشاء الله» له ذلك، وقوله تعالى:
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ الآية، تتضمن تسلية النبي
عليه السلام وعرض القدوة عليه، أي إن هذا الذي امتحنت به يا
محمد من الأعداء قد امتحن به غيرك من الأنبياء ليبتلي الله
أولي العزم منهم، وعَدُوًّا مفرد في معنى الجمع، ونصبه على
المفعول الأول ل جَعَلْنا والمفعول الثاني في قوله لِكُلِّ
نَبِيٍّ، وشَياطِينَ بدل من قوله عَدُوًّا، ويصح أن يكون
المفعول الأول شَياطِينَ والثاني عَدُوًّا، وقوله شَياطِينَ
الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يريد به المتمردين من النوعين الذين هم
من شيم السوء كالشياطين، وهذا قول جماعة من المفسرين ويؤيده
حديث أبي ذر أنه صلى يوما فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «تعوذ يا أبا ذر من شياطين الجن والإنس» ، قال وإن من
الإنس لشياطين؟ قال: نعم. قال السدي وعكرمة: المراد بالشياطين
الموكلون بالإنس والشياطين الموكلون بمؤمني الجن، وزعما أن
للجن شياطين موكلين بغوايتهم
(2/335)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ
أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ
بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
وأنهم يوحون إلى شياطين الإنس بالشر
والوسوسة يتعلمها بعضهم من بعض، قالا: ولا شياطين من الإنس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول لا يستند إلى خبر ولا إلى نظر،
ويُوحِي معناه يلقيه في اختفاء فهو كالمناجاة والسرار،
وزُخْرُفَ الْقَوْلِ معناه محسنه ومزينه بالأباطيل، قاله عكرمة
ومجاهد، و «الزخرفة» أكثر ذلك إنما يستعمل في الشر والباطل،
وغُرُوراً نصب على المصدر ومعناه أنهم يغرون به المضللين
ويوهمون لهم أنهم على شيء والأمر بخلاف، والضمير في قوله
فَعَلُوهُ عائد على اعتقادهم العداوة، ويحتمل على الوحي الذي
تضمنته يُوحِي. وقوله فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ لفظ يتضمن
الأمر بالموادعة منسوخ بآيات القتال، قال قتادة كل ذر في كتاب
الله فهو منسوخ بالقتال ويَفْتَرُونَ معناه يختلفون ويشتقون،
وهو من الفرقة تشبيها بفري الأديم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 113 الى 114]
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ
مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ
مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ (114)
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ معناه لتميل يقال صغى يصغى وأصلها يصغي
بكسر الغين لكن رده حرف الحلق إلى الفتح ويقال صغى يصغو وأصغى
يصغي وصغى يصغى وأَفْئِدَةُ جمع فؤاد و «يقترفون» معناه
يواقعون ويجترحون، وهي مستعملة أكثر ذلك في الشر والذنوب
ونحوه، والقراء على كسر اللام في الثلاثة الأفعال على أنها لام
كي، فإما أن تكون معطوفة على غُرُوراً [الأنعام: 112] ، وإما
أن تكون متعلقة بفعل مؤخر تقديره فعلوا ذلك أو جعلنا ذلك، فهي
لام صيرورة قاله الزجّاج، ولا يحتمل أن تكون هذه اللامات على
هذه القراءة لام الأمر وضمنها الوعيد، وتبقى في «لتصغى» على
نحو ما جاء من ذلك في قول الشاعر:
ألم يأتيك إلخ....
إلى غير ذلك مما قد قرىء به. قال أبو الفتح قرأها الحسن
بالتسكين في الثلاثة وهي لام كي وهي معطوفة على قوله غُرُوراً
[الأنعام: 112] التقدير لأجل الغرور «ولتصغى» وإسكان هذه اللام
شاذ في الاستعمال قوي في القياس.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر أن تحمل قراءة الحسن بسكون اللامات
الثلاثة على أنها لام الأمر المضمن الوعيد والتهديد، والخط على
هذه القراءة «ولتصغ» ذكر أبو عمرو الداني أن تسكينه في اللامات
الثلاثة وكذلك قال أبو الفتح وذكر أن الحسن إنما يسكن اللامين
الثانية والثالثة.
قال القاضي أبو محمد: وذلك يخالفه خط المصحف في «ولتصغى» .
قال القاضي أبو محمد: ويتحصل أن يسكن اللام في وَلِتَصْغى على
ما ذكرناه في قراءة الجماعة،
(2/336)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ
رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
قال أبو عمرو: وقراءة الحسن إنما هي
«لتصغي» بكسر الغين، وقراءة إبراهيم النخعي «لتصغي» بضم التاء
وكسر الغين من أصغى يصغي، وكذلك قرأ الجراح بن عبد الله، وقوله
تعالى: أَفَغَيْرَ نصب ب أَبْتَغِي، وحَكَماً نصب على البيان،
والتمييز، ومُفَصَّلًا معناه مزال الإشكال قد فصلت آياته، وإن
كان معناها يعم في أن الله لا يبتغى سواه حكما في كل شيء وفي
كل قضية فإنّا نحتاج في وصف الكلام واتساق المعاني أن ننظر إلى
قضية فيما تقدم تكون سببا إلى قوله أَفَغَيْرَ اللَّهِ
أَبْتَغِي حَكَماً فهي والله أعلم حكمه عليهم بأنهم لا يؤمنون
ولو بعث إليهم كل الآيات. وحكمه بأن جعل الأنبياء أعداء من
الجن والإنس، وحَكَماً أبلغ من حاكم إذ هي صيغة للعدل من
الحكام والحاكم جار على الفعل فقد يقال للجائر، وحَكَماً نصب
على البيان أو الحال، وبهذه الآية خاصمت الخوارج عليا رضي الله
عنه في تكفيره بالتحكيم، ولا حجة لها لأن الله تعالى حكم في
الصيد وبين الزوجين فتحكيم المؤمنين من حكمه تعالى.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ
أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ.
يتضمن الإشهاد بمؤمنيهم والطعن والتنبيه على مشركيهم وحسدتهم،
وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم «منزّل» بالتشديد، والباقون
بالتخفيف، «والكتاب» أولا هو القرآن، وثانيا اسم جنس التوراة
والإنجيل والزبور والصحف، ووصفه أهل الكتاب بالعلم عموم بمعنى
الخصوص وإنما يريد علماءهم وأحبارهم، وقوله فَلا تَكُونَنَّ
مِنَ الْمُمْتَرِينَ تثبيت ومبالغة وطعن على الممترين.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 115 الى 117]
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ
لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ
تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ
يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ
عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
تَمَّتْ في هذا الموضع بمعنى استمرت وصحت في الأزل صدقا وعدلا،
وليس بتمام من نقص، ومثله ما وقع في كتاب السيرة من قولهم وتم
حمزة على إسلامه في الحديث مع أبي جهل، و «الكلمات» ما نزل على
عباده، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «كلمة» بالإفراد هنا وفي يونس
في الموضعين وفي حم المؤمن. وقرأ نافع وابن عامر جميع ذلك
«كلمات» بالجمع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا فقط «كلمات»
بالجمع، وذهب الطبري إلى أنه القرآن كما يقال كلمة فلان في
قصيدة الشعر والخطبة البليغة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي بعيد معترض، وإنما القصد
العبارة عن نفوذ قوله تعالى:
صِدْقاً فيما تضمنه من خبر وَعَدْلًا فيما تضمنه من حكم، وهما
مصدران في موضع الحال، قال الطبري نصبا على التمييز وهذا غير
صواب، ولا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ معناه في معانيها بأن يبين
أحد أن خبره بخلاف ما أخبر به أو يبين أن أمره لا ينفذ،
والمثال من هذا أن الله تعالى قال لنبيه عليه السلام فَإِنْ
رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ
لِلْخُرُوجِ [التوبة 83] إلى الخالفين، فقال المنافقون بعد ذلك
للنبي عليه
(2/337)
فَكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ
مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا
حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ
كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
السلام وللمؤمنين ذرونا نتبعكم فقال الله
لنبيه: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ
تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الفتح: 15]
أو في قوله فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التوبة:
83] لأن مضمنه الخبر بأن لا يباح لهم خروج، وأما الألفاظ فقد
بدلتها بنو إسرائيل وغيرتها، هذا مذهب جماعة من العلماء، وروي
عن ابن عباس أنهم إنما بدلوا بالتأويل والأول أرجح، وفي حرف
أبي بن كعب، «لا مبدل لكلمات الله» ، وقوله تعالى: وَإِنْ
تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ الآية، المعنى فامض يا
محمد لما أمرت به وانفذ لرسالتك فإنك إن تطع أكثر من في الأرض
يضلوك وذكر أَكْثَرَ لأن أهل الأرض حينئذ كان أكثرهم كافرين
ولم يكن المؤمنون إلا قلة، وقال ابن عباس: الْأَرْضِ هنا
الدنيا، وحكي أن سبب هذه الآية أن المشركين جادلوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم، في أمر الذبائح وقالوا: تأكل ما تقتل
وتترك ما قتل الله؟، فنزلت الآية، ووصفهم عز وجل بأنهم يقتدون
بظنونهم ويتبعون تخرصهم، والخرص الحزر والظن وقرأ جمهور الناس
«يضل» بفتح الياء.
وقرأ الحسن بن أبي الحسن «يضل» بضم الياء، ورواه أحمد بن أبي
شريح عن الكسائي، ومَنْ في قوله مَنْ يَضِلُّ في موضع نصب بفعل
مضمر تقديره يعلم من، وقيل في موضع رفع كأنه قال أي يضل عن
سبيله ذكره أبو الفتح وضعفه أبو علي وقيل في موضع خفض بإضمار
باء الجر كأنه قال: بمن يضل عن سبيله، وهذا ضعيف، قال أبو
الفتح هذا هو المراد فحذفت باء الجر ووصل أَعْلَمُ بنفسه، قال
ولا يجوز أن يكون أَعْلَمُ مضافا إلى مَنْ لأن أفعل التفضيل
بعض ما يضاف إليه، وهذه الآية خبر في ضمنه وعيد للضالين ووعد
للمهتدين.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 118 الى 119]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ
بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا
مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ
ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ
وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
القصد بهذه الآية النهي عما ذبح للنصب وغيرها وعن الميتة
وأنواعها، فجاءت العبارة أمرا بما يضاد ما قصد النهي عنه، ولا
قصد في الآية إلى ما نسي فيه المؤمن التسمية أو تعمدها بالترك،
وقال عطاء: هذه الآية أمر بذكر اسم الله على الشراب والطعام
والذبح وكل مطعوم وقوله إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ
أي إن كنتم بأحكامه وأوامره آخذين، فإن الإيمان بها يتضمن
ويقتضي الأخذ بها والانقياد لها، وقوله تعالى: وَما لَكُمْ
أَلَّا تَأْكُلُوا الآية، ما استفهام يتضمن التقرير، وتقدير
هذا الكلام أي شيء لكم في أن لا تأكلوا، ف «أن» في موضع خفض
بتقدير حرف الجر، ويصح أن تكون في موضع نصب على أن لا يقدر حرف
جر ويكون الناصب معنى الفعل الذي في قوله ما لَكُمْ
تقديره ما يجعلكم وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ أي قد بين
لكم الحرام من الحلال وأزيل عنكم اللبس والشك.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «وقد فصّل لكم ما حرّم
عليكم» على بناء الفعل للمفعول في
(2/338)
وَذَرُوا ظَاهِرَ
الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ
سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
الفعلين وقرأ نافع وحفص عن عاصم «وقد فصّل
لكم ما حرّم عليكم» على بناء الفعل للفاعل في الفعلين، وقرأ
أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي «وقد فصّل» على بناء الفعل إلى
المفعول، وقرأ عطية العوفي «وقد فصل» على بناء الفعل للفاعل
وفتح الصاد وتخفيفها، «ما حرّم» على بناء الفعل للمفعول،
والمعنى قد فصل الحرام من الحلال وانتزعه بالنبيين، وما في
قوله إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ يريد بها من جميع ما حرم
كالميتة وغيرها، وهي في موضع نصب بالاستثناء والاستثناء منقطع،
وقوله تعالى وَإِنَّ كَثِيراً يريد الكفرة المحادين المجادلين
في المطاعم بما ذكرناه من قولهم: تأكلون ما تذبحون ولا تأكلون
ما ذبح الله، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ليضلون» بفتح الياء على
معنى إسناد الضلال إليهم في هذه السورة وفي يونس رَبَّنا
لِيُضِلُّوا [الآية: 88] وفي سورة إبراهيم أَنْداداً
لِيُضِلُّوا [الآية: 30] وفي الحج ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ
[الآية: 9] وفي لقمان لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ
عِلْمٍ [الآية: 6] وفي الزمر أَنْداداً لِيُضِلَّ [الزمر: 8] .
وقرأ نافع وابن عامر كذلك في هذه وفي يونس وفي الأربعة التي
بعد هذه يضمان الياء على معنى إسناد إضلال غيرهم إليهم، وهذه
أبلغ في ذمهم لأن كل مضل ضال وليس كل ضال مضلا، وقرأ عاصم
وحمزة والكسائي في المواضع الستة «ليضلون» بضم الياء على معنى
إسناد إضلال غيرهم إليهم، ثم بين عز وجل في ضلالهم أنه على
أقبح الوجوه وأنه بالهوى لا بالنظر والتأمل، وبِغَيْرِ عِلْمٍ
معناه في غير نظر فإن لمن يضل بنظر ما بعض عذر لا ينفع في أنه
اجتهد، ثم توعدهم تعالى بقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُعْتَدِينَ.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 120]
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ
يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ
(120)
هذا نهي عام من طرفيه لأن الْإِثْمِ يعم الأحكام والنسب
اللاحقة للعصاة عن جميع المعاصي، والظاهر والباطن يستوفيان
جميع المعاصي، وقد ذهب المتأونون إلى أن الآية من ذلك في مخصص،
فقال السدي: ظاهره الزنا الشهير الذي كانت العرب تفعله، وباطنه
اتخاذ الأخدان، وقال سعيد بن جبير: الظاهر ما نص الله على
تحريمه من النساء بقوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ
[النساء: 23] ، وقوله وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ
[النساء: 22] ، والباطن الزنا، وقال ابن زيد: الظاهر التعري
والباطن الزنا.
قال القاضي أبو محمد: يريد التعري الذي كانت العرب تفعله في
طوافها، قال قوم: الظاهر الأعمال والباطن المعتقد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن لأنه عاد ثم توعد تعالى كسبة
الإثم بالمجازاة على ما اكتسبوه من ذلك وتحملوا ثقله، و
«الاقتراف» الاكتساب.
قوله عز وجل:
(2/339)
وَلَا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ
لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى
أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ
إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ
مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ
أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ
إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
[سورة الأنعام (6) : آية 121]
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى
أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ
إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
المقصد بهذه الآية النهي عن الميتة إذ هي جواب لقول المشركين
تتركون ما قتل الله، والنهي أيضا عما ذبح للأنصاب، ومع ذلك
فلفظها يعم ما تركت التسمية عليه من ذبح الإسلام، وبهذا العموم
تعلق محمد بن سيرين وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وعبد الله
بن عمر ونافع وعبد الله بن يزيد الخطمي والشعبي وغيرهم فيما
تركت التسمية عليه نسيانا أو عمدا لم يؤكل، وقالت طائفة عظيمة
من أهل العلم:
يؤكل ما ذبح ولم يسم عليه نسيانا، ولا يؤكل ما لم يسم عليه
عمدا، وهذا قول الجمهور، وحكى الزهراوي عن مالك بن أنس أنه
قال: تؤكل الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمدا أو نسيانا،
وعن ربيعة أيضا قال عبد الوهاب: التسمية سنة فإذا تركها الذابح
ناسيا أكلت الذبيحة في قول مالك وأصحابه، وإذا تركها عمدا فقال
مالك لا تؤكل، فحمل بعض أصحابه قوله لا تؤكل على التحريم،
وحمله بعضهم على الكراهة، وقال أشهب: تؤكل ذبيحة تارك التسمية
عمدا إلا أن يكون مستخفا، وقال نحوه الطبري، وذبائح أهل الكتاب
عند جمهور العلماء في حكم ما ذكر اسم الله عليه من حيث لهم دين
وتشرع، وقال قوم نسخ من هذه الآية ذبائح أهل الكتاب، قاله
عكرمة والحسن بن أبي الحسن، والضمير في إِنَّهُ من قوله:
وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ عائد على الأكل الذي تضمنه الفعل في قوله
وَلا تَأْكُلُوا ويحتمل أن يعود على ترك الذكر الذي يتضمنه
قوله لَمْ يُذْكَرِ، والفسق الخروج عن الطاعة، هذا عرفه في
الشرع، وقوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ الآية، قال عكرمة
عنى بالشياطين في هذه الآية مردة الإنس من مجوس فارس، وذلك
أنهم كانوا يوالون قريشا على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم
فخاطبوهم منبهين على الحجة التي ذكرناها في أمر الذبح من قولهم
تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله، فذلك من مخاطبتهم هو
الوحي الذي عنى، و «الأولياء» قريش، و «المجادلة» هي تلك
الحجة، وقال ابن عباس وعبد الله بن كثير: بل الشَّياطِينَ الجن
واللفظة على وجهها وكفرة الجن أولياء الكفرة قريش، ووحيهم
إليهم كان بالوسوسة حتى ألهموهم لتلك الحجة أو على ألسنة
الكهان، وقال أبو زميل: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال إن
إسحاق يعني المختار زعم أنه أوحي إليه الليلة. فقال ابن عباس
صدق، فنفرت فقال ابن عباس: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ
إِلى أَوْلِيائِهِمْ ثم نهى الله عز وجل عن طاعتهم بلفظ يتضمن
الوعيد وعرض أصعب مثال في أن يشبه المؤمن بمشرك، وحكى الطبري
عن ابن عباس قولا: إن الذين جادلوا بتلك الحجة هم قوم من
اليهود.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأن اليهود لا تأكل الميتة،
أما أن ذلك يتجه منهم على جهة المغالطة كأنهم يحتجون عن العرب.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 122 الى 123]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً
يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ
لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ
قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما
يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123)
(2/340)
تقدم في هذه الآية السالفة ذكر قوم مؤمنين
أمروا بترك الإثم وباطنه وغير ذلك، وذكر قوم كافرين يضلون
بأهوائهم وغير ذلك، فمثل الله عز وجل في الطائفتين بأن شبه
الذين آمنوا بعد كفرهم بأموات أحيوا، هذا معنى قول ابن عباس
ومجاهد وغيرهما، وشبه الكافرين وحيرة جهلهم بقوم في ظلمات
يترددون فيها ولا يمكنهم الخروج منها ليبين عز وجل الفرق بين
الطائفتين والبون بين المنزلتين.
وقرأ جمهور الناس «أو من» بفتح الواو فهي ألف استفهام دخلت على
واو عطف جملة على جملة، ومَنْ بمعنى الذي، وقرأ طلحة بن مصرف:
«أفمن» بالفاء، والمعنى قريب من معنى الواو، والفاء في قوله
فَأَحْيَيْناهُ عاطفة، ونُوراً أمكن ما يعنى به الإيمان
ويَمْشِي بِهِ يراد به جميع التصرف في الأفعال والأقوال، قال
أبو علي: ويحتمل أن يراد النور الذي يؤتاه المؤمنون يوم
القيامة، وفِي النَّاسِ متعلق ب يَمْشِي، ويصح أن يتعلق ب كانَ
مَيْتاً وقوله تعالى: كَمَنْ مَثَلُهُ بمنزلة كمن هو، والكاف
في قوله كَذلِكَ زُيِّنَ متعلقة بمحذوف يدل ظاهر الكلام عليه،
تقديره وكما أحيينا المؤمنين وجعلنا لهم نورا كذلك زين
للكافرين، ويحتمل أن يتعلق بقوله كَمَنْ مَثَلُهُ أي كهذه
الحال هو التزيين، وقرأ نافع وحده «ميّتا» بكسر الياء وشدها،
وقرأ الباقون «ميتا» بسكون الياء، قال أبو علي: التخفيف
كالتشديد، والياء المحذوفة هي الثانية المنقلبة عن واو أعلت
بالحذف كما أعلت بالقلب، وقالت طائفة إن هذه الألفاظ التي مثل
بها وإن كانت تعم كل مؤمن وكل كافر فإنما نزلت في مخصوصين،
فقال الضحاك: المؤمن الذي كان ميتا فأحيي عمر بن الخطاب، وحكى
المهدوي عن بعضهم أنه حمزة بن عبد المطلب، وقال عكرمة:
عمار بن ياسر، وقال الزجاج: جاء في التفسير أنه يعني به النبي
عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد: واتفقوا على أن الذي في الظلمات أبو جهل
بن هشام، إلى حاله وحال أمثاله هي الإشارة والتشبيه بقوله
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ وهذه الآية تتضمن
إنذارا بفساد حال الكفرة المتقدم ذكرهم، لأنه مقتضى حال من
تقدمهم من نظرائهم، وقال عكرمة: نزلت هذه الآية في المستهزئين.
قال القاضي أبو محمد: يعني أن التمثيل لهم، وجَعَلْنا في هذه
الآية بمعنى صيرنا، فهي تتعدى إلى مفعولين الأول مُجْرِمِيها
والثاني أَكابِرَ وفي الكلام على هذا تقديم وتأخير تقديره
وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، وقدم الأهم إذ لعلة
كبرهم أجرموا، ويصح أن يكون المفعول الأول أَكابِرَ
ومُجْرِمِيها مضاف والمفعول الثاني قوله فِي كُلِّ قَرْيَةٍ
ولِيَمْكُرُوا نصب بلام الصيرورة، والأكابر جمع أكبر كما
الأفاضل جمع أفضل، ويقال أكابرة كما يقال أحمر وأحامرة، ومنه
قول الشاعر [الأعشى] : [الكامل]
إنّ الأحامرة الثّلاثة أتلفت ... مالي وكنت بهنّ قدما مولعا
يريد الخمر واللحم والزعفران، و «المكر» التخيل بالباطل
والخديعة ونحوهما، وقوله وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا
بِأَنْفُسِهِمْ يريد لرجوع وبال ذلك عليهم، وَما يَشْعُرُونَ
أي ما يعلمون، وهي لفظة مأخوذة من الشعار وهو الشيء الذي يلي
البدن، فكأن الذي لا يشعر نفي عنه أن يعلم علم حس، وفي ذلك
مبالغة في
(2/341)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ
آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا
أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ
اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ
ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ
كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ (125)
صفة جهله، إذ البهائم تعلم علوم الحس وأما
هذه الآية فإنما نفي فيها الشعور في نازلة مخصوصة.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 124 الى 125]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى
مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ
عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ
(124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ
كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ (125)
هذه الآية آية ذم للكفار وتوعد لهم، يقول وإذا جاءتهم علامة
ودليل على صحة الشرع تشططوا وتسحبوا وقالوا إنما يقلق لنا
البحر إنما يحيي لنا الموتى ونحو ذلك، فرد الله عز وجل عليهم
بقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أي فيمن
اصطفاه وانتخبه لا فيمن كفر وجعل يتشطط على الله، قال الزجاج:
قال بعضهم: الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل المبعث
مطاعين في قومهم، وأَعْلَمُ معلق العمل، والعامل في حَيْثُ فعل
تقديره: يعلم حيث، ثم توعد تعالى بأن هؤلاء المجرمين الأكابر
في الدنيا سيصيبهم عند الله صغار وذلة، وعِنْدَ اللَّهِ متعلقة
ب سَيُصِيبُ، ويصح أن تتعلق ب صَغارٌ لأنه مصدر، قال الزجّاج:
التقدير صغار ثابت عند الله، قال أبو علي: وهو متعلق ب صَغارٌ
دون تقدير ثابت ولا شيء غيره، وقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ
اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ،
الآية، «من» أداة شرط، ويَشْرَحْ جواب الشرط، والآية نص في أن
الله عز وجل يريد هدى المؤمن وضلال الكافر، وهذا عند جميع أهل
السنة بالإرادة القديمة التي هي صفة ذاته تبارك وتعالى، و
«الهدى» في هذه الآية هو خلق الإيمان في القلب واختراعه، و
«شرح الصدر» هو تسهيل الإيمان وتحبيبه وإعداد القلب لقبوله
وتحصيله، والهدى لفظة مشتركة تأتي بمعنى الدعاء كقوله عز وجل:
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52]
وتأتي بمعنى إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق والأعمال
المفضية إليها، كقوله تعالى: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ [محمد: 5] وغير ذلك، إلا
أنها في هذه الآية وفي قوله مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ
الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ
[الأعراف: 178] ، وفي قوله إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
[القصص: 56] ونحوها لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان
واختراعه، إذ الوجوه من الهدى تدفعها قرائن الكلام مما قبل
وبعد، وقوله يَشْرَحْ صَدْرَهُ ألفاظ مستعارة هاهنا إذ الشرح
التوسعة والبسط في الأجسام وإذا كان الجرم مشروحا موسعا كان
معدا ليحل فيه، فشبه توطئة القلب وتنويره وإعداده للقبول
بالشرح والتوسيع، وشبه قبوله وتحصيله للإيمان بالحلول في الجرم
المشروح، و «الصدر» عبارة عن القلب وهو المقصود، إذ الإيمان من
خصاله، وكذلك الإسلام عبارة عن الإيمان إذ الإسلام أعم منه،
وإنما المقصود هنا الإيمان فقط بدليل قرينة الشرح والهدى،
ولكنه عبر بالإسلام إذ هو أعم وأدنى الهدى حب الأعمال وامتثال
العبادات، وفي يَشْرَحْ ضمير عائد على الهدى، قال: وعوده على
الله عز وجل أبين.
(2/342)
قال القاضي أبو محمد: والقول بأن الضمير
عائد على المهدي قول يتركب عليه مذهب القدرية في خلق الأفعال
وينبغي أن يعتقد ضعفه وأن الضمير إنما هو عائد على اسم الله عز
وجل فإن هذا يعضده اللفظ والمعنى، وروي عن النبي عليه السلام
أنه لما نزلت هذه الآية، «قالوا يا رسول الله، كيف يشرح الصدر؟
قال: إذا نزل النور في القلب انشرح له الصدر وانفسح، قالوا وهل
لذلك علامة يا رسول الله؟ قال: نعم:
الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد
للموت قبل الفوت» . والقول في قوله وَمَنْ يُرِدْ أَنْ
يُضِلَّهُ كالقول في قوله فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
يَهْدِيَهُ، وقوله يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ألفاظ
مستعارة تضاد شرح الصدر للإسلام ويجعل في هذا الموضع تكون
بمعنى يحكم له بهذا الحكم، كما تقول هذا يجعل البصرة مصرا أي
يحكم لها بحكمها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا المعنى يقرب من صير، وحكاه أبو علي
الفارسي، وقال أيضا يصح أن يكون «جعل» بمعنى سمى، كما قال
تعالى وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ
الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] أي سموهم، قال وهذه الآية
تحتمل هذا المعنى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الوجه يضعف في هذه الآية، وقرأ
جمهور الناس والسبعة سوى ابن كثير «ضيّقا» بكسر الياء
وتشديدها، وقرأ ابن كثير «ضيقا» بسكون الياء وكذلك قرأ في
الفرقان، قال أبو علي وهما بمنزلة الميّت والميت، قال الطبري
وبمنزلة الهيّن والليّن والهين واللين، قال ويصح أن يكون الضيق
مصدرا من قولك ضاق والأمر يضيق ضيقا وضيقا، وحكي عن الكسائي
أنه قال الضّيق بشد الضاد وكسرها في الأجرام والمعاش، والضّيق
بفتح الضاد: في الأمور والمعاني، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن
عامر وحمزة والكسائي «حرجا» بفتح الراء وقرأ نافع وعاصم في
رواية أبي بكر «حرجا» بكسرها، قال أبو علي فمن فتح الراء كان
وصفا بالمصدر كما تقول رجل قمن بكذا وحرى بكذا ودنف، ومن كسر
الراء فهو كدنف وقمن وفرق، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قرأها يوما بفتح الراء فقرأها له بعض الصحابة بكسر الراء،
فقال: ابغوني رجلا من كنانة وليكن راعيا من بني مدلج، فلما
جاءه قال له: يا فتى ما الحرجة عندكم، قال: الشجرة تكون بين
الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية.
قال عمر: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير، وقوله
تعالى: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ أي كأن هذا الضيق
الصدر يحاول الصعود في السماء حتى حاول الإيمان أو فكر فيه
ويجد صعوبته عليه كصعوبة الصعود في السماء، قال بهذا التأويل
ابن جريج وعطاء الخراساني والسدي، وقال ابن جبير: المعنى لا
يجد مسلكا إلا صعدا من شدة التضايق، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن
عامر وحمزة والكسائي «يصعد» بإدغام التاء من يتصعد في الصاد،
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «يصّاعد» بإدغام التاء من يتصاعد
في السماء، وقرأ ابن كثير وحده «يصعد» ، وقرأ ابن مسعود
والأعمش وابن مصرف «يتصعد» بزيادة تاء، وفِي السَّماءِ يريد من
سفل إلى علو في الهواء، قال أبو علي: ولم يرد السماء المظلة
بعينها، وإنما هو كما قال سيبويه والقيدود: الطويل في غير
سماء، يريد في غير ارتفاع صعدا قال ومن هذا قوله عز وجل: قَدْ
نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: 144] أي في
وجهة الجو.
(2/343)
وَهَذَا صِرَاطُ
رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
قال القاضي أبو محمد: وهذا على غير من تأول
تقلب الوجه أنه الدعاء إلى الله عز وجل في الهداية إلى قبلة
فإن مع الدعاء يستقيم أن يقلب وجهه في السماء المظلة حسب عادة
الداعين إذ قد ألفوا مجيء النعم والآلاء من تلك الجهة، وتحتمل
الآية أن يكون التشبيه بالصاعد في عقبة كؤود كأنه يصعد بها
الهواء، ويَصَّعَّدُ معناه يعلو، ويَصَّعَّدُ معناه يتكلف من
ذلك ما يشق عليه. ومنه قول عمر بن الخطاب:
«ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح» ، إلى غير ذلك من
الشواهد، «ويصاعد» في المعنى مثل «يصعد» ، وقوله تعالى:
كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ أي وكما كان هذا كله من
الهدى والضلال بإرادة الله عز وجل ومشيئته كذلك يجعل الله
الرجس، قال أهل اللغة الرِّجْسَ يأتي بمعنى العذاب ويأتي بمعنى
النجس، وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال: الرِّجْسَ كل ما لا خير
فيه وقال بعض الكوفيين: الرجس والنجس لغتان بمعنى، «ويجعل» في
هذا الموضع يحسن أن تكون بمعنى يلقي كما تقول جعلت متاعك بعضه
على بعض، وكما قال عز وجل وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى
بَعْضٍ [الأنفال: 37] .
قال القاضي أبو محمد: وهذا المعنى في جعل حكاه أبو علي
الفارسي، ويحسن أن تكون يَجْعَلْ في هذه الآية بمعنى يصير
ويكون المفعول الثاني في ضمن عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ،
كأنه قال قرين الذين أو لزيم الذين ونحو ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 126 الى 127]
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ
لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)
هذا إشارة إلى القرآن والشرع الذي جاء به محمد عليه السلام،
قاله ابن عباس، و «الصراط» الطريق، وإضافة الصراط إلى الرب على
جهة أنه من عنده وبأمره ومُسْتَقِيماً حال مؤكدة وليست كالحال
في قولك جاء زيد راكبا بل هذه المؤكدة تتضمن المعنى المقصود
وفَصَّلْنَا معناه بينا وأوضحنا، وقوله لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
أي للمؤمنين الذين يعدون أنفسهم للنظر ويسلكون طريق الاهتداء،
والضمير في قوله لَهُمْ عائد على القوم المتذكرين والسَّلامِ
يتجه فيه معنيان، أحدهما أن السلام اسم من أسماء الله عز وجل
فأضاف «الدار» إليه هي ملكه وخلقه، والثاني أنه المصدر بمعنى
السلامة، كما تقول السلام عليك، وكقوله عز وجل تَحِيَّتُهُمْ
فِيها سَلامٌ [يونس: 10] يريد في الآخرة بعد الحشر،
ووَلِيُّهُمْ أي ولي الانعام عليهم، وبِما كانُوا يَعْمَلُونَ
أي مسبب ما كانوا يقدمون من الخير ويفعلون من الطاعة والبر.
قوله عز وجل:
(2/344)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ
جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ
الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا
اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي
أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 128 الى 129]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ
اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ
الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا
أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ
خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ
عَلِيمٌ (128) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ
بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)
يَوْمَ نصب بفعل مضمر تقديره واذكر يوم، ويحتمل أن يكون العامل
وَلِيُّهُمْ [الأنعام: 127] والعطف على موضع قوله بِما كانُوا
[الأنعام: 127] ، والضمير في يَحْشُرُهُمْ عائد على الطائفتين
الذين يجعل الله الرجس عليهم وهم جميع الكفار جنا وإنسا،
والذين لهم دار السلام جنا، وإنسا، ويدل على ذلك التأكيد العام
بقوله جَمِيعاً.
وقرأ حفص عن عاصم «يحشرهم» بالياء، وقرأ الباقون بالنون وكلّ
متجه، ثم ذكر عز وجل ما يقال للجن الكفرة، وفي الكلام فعل مضمر
يدل عليه ظاهر الكلام تقديره نقول يا معشر الجن، وقوله قَدِ
اسْتَكْثَرْتُمْ معناه فرطتم، ومِنَ الْإِنْسِ يريد في إضلالهم
وإغوائهم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقال الكفار من الإنس
وهم أولياء الجن الموبخين على جهة الاعتذار عن الجن رَبَّنَا
اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أي انتفع.
قال القاضي أبو محمد: وذلك في وجوه كثيرة، حكى الطبري وغيره أن
الإنس كانت تستعيذ بالجن في الأودية ومواضع الخوف وكانت الجن
تتعظم على الإنس وتسودها كما يفعل الربي بالكاهن والمجير
بالمستجير إذ كان العربي إذا نزل واديا ينادي يا رب الوادي إني
أستجير بك هذه الليلة ثم يرى أن سلامته إنما هي بحفظ جني ذلك
الوادي فهذا استمتاع بعضهم ببعض.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مثال في الاستمتاع ولو تتبع لبينت
له وجوه أخر كلها دنياوية، وبلوغ الأجل المؤجل قال السدي هو
الموت الذي انتهى الكل منهم إليه، وقيل هو الحشر، وقيل هو
الغاية التي انتهى جميعهم إليها من الاستمتاع، كأنهم أشاروا
إلى أن ذلك بقدرك وقضائك إذ لكل كتاب أجل، وقرأ الحسن «وبلّغنا
أجلنا» بكسر اللام مشددة، وقوله تعالى: قالَ النَّارُ
مَثْواكُمْ الآية، إخبار من الله عز وجل عما يقول لهم يوم
القيامة إثر كلامهم المتقدم، وجاء الفعل بلفظ الماضي وهو في
الحقيقة مستقبل لصحة وقوعه، وهذا كثير في القرآن وفصيح الكلام
ومَثْواكُمْ أي موضع ثوابكم كمقامكم الذي هو موضع الإقامة، هذا
قول الزجّاج وغيره، قال أبو علي في الإغفال: المثوى عندي مصدر
لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي خالِدِينَ والموضع ليس
فيه معنى فعل فيكون عاملا، والتقدير النار ذات ثوابكم،
والاستثناء في قوله إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ قالت فرقة ما بمعنى
من، فالمراد إلا من شاء ممن آمن في الدنيا بعد أن آمن من هؤلاء
الكفرة.
قال القاضي أبو محمد: ولما كان هؤلاء صنفا ساغت في العبارة
عنهم ما، وقال الفراء إِلَّا بمعنى سوى، والمراد سوى ما يشاء
من زيادة في العذاب، ونحا إليه الزجّاج، وقال الطبري: إن
المستثنى هي المدة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار.
قال القاضي أبو محمد: وساغ هذا من حيث العبارة بقوله النَّارُ
مَثْواكُمْ لا تخص بصيغتها مستقبل الزمان دون غيره، وقال
الطبري عن ابن عباس انه كان يتناول في هذا الاستثناء أنه مبلغ
حال هؤلاء في علم
(2/345)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ
عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ
هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ
رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ
(131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ
بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
الله ثم أسند إليه أنه قال: إن هذه الآية
لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا
نارا.
قال القاضي أبو محمد: والإجماع على التخليد الأبدي في الكفار
ولا يصح هذا عن ابن عباس رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد: ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون
مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، وليس مما يقال يوم
القيامة، والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم
الله كأنه لما أخبرهم أنه قال للكفار: النَّارُ مَثْواكُمْ
استثنى لهم من يمكن أن يؤمن ممن يرونه يومئذ كافرا، وتقع ما
على صفة من يعقل، ويؤيد هذا التأويل اتصال قوله إِنَّ رَبَّكَ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ أي بمن يمكن أن يؤمن منهم، وحَكِيمٌ عَلِيمٌ
صفتان مناسبتان لهذه الآية، لأن تخلد هؤلاء الكفرة في النار
فعل صادر عن حكم وعلم بمواقع الأشياء، وقوله تعالى: وَكَذلِكَ
نُوَلِّي قال قتادة نُوَلِّي معناه نجعل بعضهم ولي بعض في
الكفر والظلم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل ما تقدم من ذكر الجن والإنس
«واستمتاع بعضهم ببعض» ، وقال قتادة أيضا: معنى نُوَلِّي نتبع
بعضهم بعضا في دخول النار، أي نجعل بعضهم يلي بعضا، وقال ابن
زيد معناه نسلط بعض الظالمين على بعض ونجعلهم أولياء النقمة
منهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل لا تؤيده ألفاظ الآية
المتقدمة، أما أنه حفظ في استعمال الصحابة والتابعين من ذلك ما
روي أن عبد الله بن الزبير لما بلغه أن عبد الملك بن مروان قتل
عمرو بن سعيد الأشدق صعد المنبر فقال إن فم الذبان قتل لطيم
الشيطان وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما
كانُوا يَكْسِبُونَ.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 130 الى 132]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ
لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ
لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها
غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما
رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
قوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
داخل في القول يوم الحشر، والضمير في نْكُمْ
قال ابن جريج وغيره عمم بظاهرة الطائفتين والمراد الواحدة
تجوزا، وهذا موجود في كلام العرب، ومنه قوله تعالى: يَخْرُجُ
مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: 22] وذلك إنما
يخرج من الأجاج، وقال الضحاك الضمير عائد على الطائفتين وفي
الجن رسل منهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقال ابن عباس الضمير عائد
على الطائفتين ولكن رسل
(2/346)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ
ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ
بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ
قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا
أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى
مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ
تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ (135)
الجن هم رسل الإنس، فهم رسل الله بواسطة إذ
هم رسل رسله، وهم النذر، وقُصُّونَ
من القصص، وقرأ عبد الرحمن الأعرج «ألم تكن تأتيكم» بالتاء على
تأنيث لفظ «الرسل» ، وقولهم: هِدْنا
إقرار منهم بالكفر واعتراف أي شهدنا على أنفسنا بالتقصير،
وقوله غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
التفاتة فصيحة تضمنت أن كفرهم كان بأذم الوجوه لهم وهو
الاغترار الذي لا يواقعه عاقل، ويحتمل رَّتْهُمُ
أن يكون بمعنى أشبعتهم وأطعمتهم بحلوائها كما يقال غر الطائر
فرخه وقوله شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا
كافِرِينَ
تظهر بينه وبين ما في القرآن من الآيات التي تقتضي إنكار
المشركين الإشراك مناقضة، والجمع بينهما هو إما بأنها طوائف،
وإما طائفة واحدة في مواطن شتى، وإما أن يريد بقوله هاهنا:
شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
، شهادة الأيدي والأرجل والجلود بعد إنكارهم بالألسنة.
قال القاضي أبو محمد: واللفظ هاهنا يبعد من هذا، وقوله تعالى:
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ الآية، ذلِكَ يصح أن يكون في موضع رفع
على الابتداء والخبر محذوف تقديره ذلك الأمر، ويصح أن يكون في
موضع نصب بتقدير فعلنا وأَنْ مفعول من أجله والْقُرى المدن،
والمراد أهل القرى، وبِظُلْمٍ يتوجه فيه معنيان، أحدهما أن
الله عز وجل لم يكن ليهلك المدن دون نذارة، فيكون ظلما لهم إذا
لم ينذرهم، والله ليس بظلام للعبيد، والآخر أن الله عز وجل لم
يهلك أهل القرى بظلم إذ ظلموا دون أن ينذرهم، وهذا هو البين
القويّ. وذكر الطبري رحمه الله التأويلين، وقوله تعالى:
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ الآية إخبار من الله عز وجل أن المؤمنين في
الآخرة على درجات من التفاضل بحسب أعمالهم وتفضل الله عليهم،
والمشركين أيضا على درجات من العذاب.
قال القاضي أبو محمد: ولكن كل مؤمن قد رضي بما أعطي غاية
الرضى، وقرأت الجماعة سوى ابن عامر «يعملون» على لفظ كل، وقرأ
ابن عامر وحده «تعملون» على المخاطبة بالتاء.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 135]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما
أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما
تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا
قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
الْغَنِيُّ صفة ذات لله عز وجل لأنه تبارك وتعالى لا يفتقر إلى
شيء من جهة من الجهات، ثم تليت هذه الصفة بقوله ذُو
الرَّحْمَةِ فأردف الاستغناء بالتفضل وهذا أجمل تناسق، ثم عقب
بهذه الألفاظ المضمنة الوعيد المحذرة من بطش الله عز وجل في
التعجيل بذلك وأما مع المهلة ومرور الجديدين، فكذلك عادة الله
في الخلق، وأما «الاستخلاف» فكما أوجد الله تعالى هذا العالم
الآدمي بالنشأة من ذرية قوم متقدمين أصلهم آدم عليه السلام،
وقرأت الجماعة «ذرّية» بضم الذال وشد الراء المكسورة، وقرأ
(2/347)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ
مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا
فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا
فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا
كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا
يَحْكُمُونَ (136)
زيد بن ثابت بكسر الذال وكذلك في سورة آل
عمران وحكى أبو حاتم عن أبان بن عثمان أنه قرأ «ذرية» بفتح
الذال وتخفيف الراء المكسورة، وحكى عنه أبو الزناد أنه قرأ على
المنبر «ذرية» بفتح الذال وسكون الراء على وزن فعلة، قال
فسألته فقال أقرأنيها زيد بن ثابت، ومِنْ في قوله مِنْ
ذُرِّيَّةِ للتبعيض وذهب الطبري إلى أنها بمعنى قولك أخذت من
ثوبي دينارا بمعنى عنه وعوضه وتُوعَدُونَ مأخوذ من الوعيد
بقرينة وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ والإشارة إلى هذا الوعيد
المتقدم خصوصا. وأما أن يكون العموم مطلقا فذلك يتضمن إنفاذ
الوعيد، والعقائد ترد ذلك، وبِمُعْجِزِينَ معناه بناجين هربا
أي يعجزون طالبهم.
ثم أمر الله عز وجل نبيه عليه السلام أن يتوعدهم بقوله
اعْمَلُوا أي فسترون عاقبة عملكم الفاسد، وصيغة افعل هاهنا
بمعنى الوعيد والتهديد، وعَلى مَكانَتِكُمْ معناه على حالكم
وطريقتكم، وقرأ أبو بكر عن عاصم «على مكاناتكم» بجمع المكانة
في كل القرآن، وقرأ الجميع بالإفراد في كل القرآن، ومَنْ يتوجه
أن يكون بمعنى الذي، فتكون في موضع نصب ب تَعْلَمُونَ، ويتوجه
أن يكون استفهاما في موضع رفع بالابتداء والخبر في قوله
تَكُونُ لَهُ، وعاقِبَةُ الدَّارِ أي مآل الآخرة، ويحتمل أن
يراد مآل الدنيا بالنصر والظهور ففي الآية إعلام بغيب، ثم جزم
الحكم ب إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي ينجح سعيهم،
وقرأ حمزة والكسائي من «يكون له عاقبة» بالياء هاهنا وفي القصص
على تذكير معنى العاقبة.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 136]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ
وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ
وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ
إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى
شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)
الضمير في جَعَلُوا عائد على كفار العرب العادلين بربهم
الأوثان الذين تقدم الرد عليهم من أول السورة، وذَرَأَ معناه
خلق وأنشأ وبث في الأرض، يقال ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا
وذروءا أي خلقهم، وقوله وجعلوا من كذا وكذا نصيبا يتضمن بقاء
نصيب آخر ليس بداخل في حكم الأول، فبينه بقوله:
فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا، ثم
اعترضهم أثناء القول بأن ذلك زعم وتقول، والزعم في كثير كلام
العرب أقرب إلى غير اليقين والحق، يقال «زعم» بفتح الزاي وبه
قرأت الجماعة، «وزعم» بضمها، وقرأ الكسائي وحده في هذه الآية
«زعم» بكسر الزاي، ولا أحفظ أحدا قرأ به والْحَرْثِ في هذه
الآية يريد به الزرع والأشجار وما يكون من الأرض، وقوله
لِشُرَكائِنا يريد به الأصنام والأوثان، وسموهم شركاء على
معتقدهم فيهم أنهم بساهمونهم في الخير والشر ويكسبونهم ذلك،
وسبب نزول هذه الآية أن العرب كانت تجعل من غلّاتها وزرعها
وثمارها ومن أنعامها جزءا تسميه لله وجزءا تسميه لأصنامها،
وكانت عادتها التحفي والاهتبال بنصيب الأصنام أكثر منها بنصيب
الله إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فقر وليس ذلك بالله
فكانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الريح فحملت من الذي لله إلى الذي
لشركائهم أقروه، وإذا حملت من الذي لشركائهم إلى الله ردوه،
وإذا تفجر من سقي ما جعلوا لله في نصيب شركائهم تركوه، وإن
بالعكس سدوه،
(2/348)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ
لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ
شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ
دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ
وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
وإذا لم يصيبوا في نصيب شركائهم شيئا قالوا
لا بد للآلهة من نفقة فيجعلون نصيب الله تعالى في ذلك.
قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم أنهم كانوا
يفعلون هذا ونحوه من الفعل وكذلك في الأنعام وكانوا إذا
أصابتهم السنة أكلوا نصيب الله وتحاموا نصيب شركائهم، وقوله
تعالى: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ الآية قال جمهور المتأولين إن
المراد بقوله فَلا يَصِلُ وقوله يَصِلُ ما قدمنا ذكره من
حمايتهم نصيب آلهتهم في هبوب الريح وغير ذلك، وقال ابن زيد
إنما ذلك في أنهم كانوا إذا ذبحوا لله ذكروا آلهتهم على ذلك
الذبح وإذا ذبحوا لآلهتهم لم يذكروا الله، فكأنه قال «فلا يصل»
إلى ذكر الله وقال فهو «يصل» إلى ذكر شركائهم، وما في موضع رفع
كأنه قال ساء الذي يحكمون، ولا يتجه عندي أن يجري هنا ساءَ
مجرى نعم وبئس لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق من
النحاة، وإنما اتجه أن تجري مجرى بئس في قوله ساءَ مَثَلًا
الْقَوْمُ [الأعراف: 177] . لأن المفسر ظاهر في الكلام.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 137]
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ
أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا
عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ
فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137)
«الكثير» في هذه الآية يراد به من كان يئد من مشركي العرب، و
«الشركاء» هاهنا الشياطين الآمرون بذلك المزينون له والحاملون
عليه أيضا من بني آدم الناقلين له عصرا بعد عصر إذ كلهم
مشتركون في قبح هذا الفعل وتباعته في الآخرة، ومقصد هذه الآية
الذم للوأد والإنحاء على فعلته، واختلفت القراءة فقرأت الجماعة
سوى ابن عامر «وكذلك زين» بفتح الزاي «قتل» بالنصب «أولادهم»
بكسر الدال «شركاؤهم» ، وهذه أبين قراءة، وحكى سيبويه أنه قرأت
فرقة «وكذلك زين» بضم الزاي «قتل أولادهم» بكسر الدال
«شركاؤهم» بالرفع.
قال القاضي أبو محمد: وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي والحسن
وأبي عبد الملك قاضي الجند صاحب ابن عامر، كأنه قال: زينه
شركاؤهم قال سيبويه: وهذا كما قال الشاعر: [الطويل]
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما يطيح الطوائح
كأنه قال يبكيه ضارع لخصومة، وأجاز قطرب أن يكون الشركاء في
هذه القراءة ارتفعوا بالقتل كأن المصدر أضيف إلى المفعول، ثم
ذكر بعده الفاعل كأنه قال إن قتل أولادهم شركاؤهم كما تقول حبب
إليّ ركوب الفرس زيد أي أن ركب الفرس زيد.
قال القاضي أبو محمد: والفصيح إذا أضيف مصدر إلى مفعول أن لا
يذكر الفاعل، وأيضا فالجمهور في هذه الآية على أن الشركاء
مزينون لا قاتلون، والتوجيه الذي ذكر سيبويه هو الصحيح، ومنه
قوله عز وجل على قراءة من قرأ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها
بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ [النور: 36] بفتح الباء
المشددة أي «يسبّح رجال» ، وقرأ ابن عامر «وكذلك زين» بضم
الزاي «قتل» بالرفع «أولادهم» بنصب الدال «شركائهم» بخفض
(2/349)
وَقَالُوا هَذِهِ
أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ
نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا
وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا
افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
(138)
الشركاء، وهذه قراءة ضعيفة في استعمال
العرب، وذلك أنه أضاف القتل إلى الفاعل وهو الشركاء، ثم فصل
بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ورؤساء العربية لا يجيزون
الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في الشعر كقوله [أبو حية
النميري] : [الوافر]
كما خطّ بكفّ يوما ... يهوديّ يقارب أو يزيل
فكيف بالمفعول في أفصح الكلام؟ ولكن وجهها على ضعفها أنها وردت
شاذة في بيت أنشده أبو الحسن الأخفش وهو: [مجزوء الكامل]
فزججته بمزجّة ... زجّ القلوص أبي مزادة
وفي بيت الطرماح وهو قوله: [الطويل]
يطفن بحوزيّ المرابع لم يرع ... بواديه من قرع القسيّ الكنائن
والشركاء على هذه القراءة هم الذين يتأولون وأد بنات الغير فهم
القاتلون، والصحيح من المعنى أنهم المزينون لا القاتلون، وذلك
مضمن قراءة الجماعة.
وقرأ بعض أهل الشام ورويت عن ابن عامر «زين» بكسر الزاي وسكون
الياء على الرتبة المتقدمة من الفصل بالمفعول، وحكى الزهراوي
أنه قرأت فرقة من أهل الشام «وكذلك زين» بضم الزاي «قتل»
بالرفع «أولادهم» بكسر الدال «شركائهم» بالخفض والشركاء على
هذه القراءة هم الأولاد الموءودون لأنهم شركاء في النسب
والمواريث، وكأن وصفهم بأنهم شركاء يتضمن حرمة لهم وفيها بيان
لفساد الفعل إذ هو قتل من له حرمة. ولِيُرْدُوهُمْ معناه
ليهلكوهم من الردى، وَلِيَلْبِسُوا معناه ليخلطوا، والجماعة
على كسر الباء، وقرأ إبراهيم النخعي «وليلبسوا» بفتح الباء،
قال أبو الفتح: هي استعارة من اللباس عبارة عن شدة المخالطة،
وهذان الفعلان يؤيدان أول قراءة في ترتيبنا في قوله وَكَذلِكَ
زَيَّنَ. وقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ يقتضي
أن لا شيء إلا بمشيئة الله عز وجل، وفيها رد على من قال بأن
المرء يخلق أفعاله، وقوله تعالى: فَذَرْهُمْ وعيد محض،
ويَفْتَرُونَ معناه يختلقون من الكذب في تشرعهم بذلك واعتقادهم
أنها مباحات لهم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 138]
وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ
مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها
وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً
عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)
هذه الآية تتضمن تعديد ما شرعوه لأنفسهم والتزموه على جهة
القربة كذبا منهم على الله وافتراء عليه، فوصف تعالى أنهم
عمدوا إلى بعض أنعامهم وهي الإبل والبقر والغنم أو الإبل
بانفرادها، وما غيرها إذا انفرد فلا يقال له أنعام، وإلى بعض
زروعهم وثمارهم، وسمي ذلك «حرثا» إذ عن الحرث يكون، وقالوا هذه
حجر أي حرام، وقرأ جمهور الناس «حجر» بكسر الحاء وسكون الجيم،
وقرأ قتادة والحسن والأعرج
(2/350)
وَقَالُوا مَا فِي
بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا
وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ
فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ
عَلِيمٌ (139)
«حجر» بضم الحاء وسكون الجيم، وقرأ ابن
عباس وأبيّ وابن مسعود وابن الزبير والأعمش وعكرمة وعمرو بن
دينار «حرج» بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم وسكونها،
فالأولى والثانية بمعنى التحجير وهو المنع والتحريم، والأخيرة
من الحرج وهو التضييق والتحريم، وكانت هذه الأنعام على ما قال
ابن زيد محللة للرجال محرمة على النساء، وقيل كانت وقفا لمطعم
سدنة بيوت الأصنام وخدمتها، حكاه المهدوي، فذلك المراد بقوله
مَنْ نَشاءُ وقوله بِزَعْمِهِمْ أي بتقولهم الذي هو أقرب إلى
الباطل منه إلى الحق، و «زعمهم» هنا هو في قولهم «حجر»
وتحريمهم بذلك ما لم يحرم الله تعالى، وقرأ ابن أبي عبلة
«بزعمهم» بفتح الزاي والعين، وكذلك في الذي تقدم، وَأَنْعامٌ
حُرِّمَتْ ظُهُورُها كانت للعرب سنن، إذا فعلت الناقة كذا من
جودة النسل والمواصلة بين الإناث ونحوه حرم ظهورها فلم تركب
وإذا فعل الفحل كذا وكذا حرم فعدد الله ذلك على جهة الرد عليهم
إذ شرعوا ذلك برأيهم وكذبهم، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ
اللَّهِ عَلَيْهَا قيل كانت لهم سنة في أنعام ما أن لا يحج
عليها فكانت تركب في كل وجه إلا في الحج، فذلك قوله وَأَنْعامٌ
لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا هذا قول جماعة من
المفسرين.
ويروى ذلك عن أبي وائل، وقالت فرقة: بل ذلك في الذبائح يريد
أنهم جعلوا لآلهتهم منها نصيبا لا يذكرون الله على ذبحها،
وقوله افْتِراءً مصدر نصب على المفعول من أجله أو على إضمار
فعل تقديره يفترون ذلك، وسَيَجْزِيهِمْ وعيد بمجازاة الآخرة،
والضمير في عَلَيْهِ عائد على اسم الله، ويَفْتَرُونَ أي
يكذبون ويختلفون.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 139]
وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ
لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ
مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ
إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
هذه الآية تتضمن تعديد مذاهبهم الفاسدة، وكانت سنتهم في بعض
الأنعام أن يحرموا ما ولدت على نسائهم ويخصصونه لذكورهم،
والهاء في خالِصَةٌ قيل هي للمبالغة كما هي في رواية وغيرها،
وهذا كما تقول فلان خالصتي وإن كان باب هاء المبالغة أن يلحق
بناء مبالغة كعلامة ونسابة وبصيرة ونحوه، وقيل هي لتأنيث
الأنعام إذ ما في بطونها أنعام أيضا، وقيل هي على تأنيث لفظ ما
لأن ما واقعة في هذا الموضع موقع قولك جماعة وجملة، وقرأ جمهور
القراء والناس «خالصة» بالرفع، وقرأ عبد الله بن مسعود وابن
جبير وابن أبي عبلة والأعمش «خالص» دون هاء ورفع هاتين
القراءتين على خبر الابتداء.
وقرأ ابن عباس بخلاف والأعرج وقتادة وسفيان بن حسين «خالصة»
بالنصب، وقرأ سعيد بن جبير فيما ذكر أبو الفتح «خالصا» ، ونصب
هاتين القراءتين على أن الحال من الضمير الذي في قوله فِي
بُطُونِ، وذلك أن تقدير الكلام: وقالوا ما استقر هو في بطون
هذه الأنعام فحذف الفعل وحمل المجرور الضمير، والحال من الضمير
والعامل فيها معنى الاستقرار، قال أبو الفتح ويصح أن يكون حالا
من ما على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل
فيها، وقرأ ابن عباس أيضا وأبو حيوة والزهري «خالصه»
(2/351)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ
قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا
مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا
وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ
جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ
وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ
ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ
وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
بإضافة «خالص» إلى ضمير يعود على ما،
ومعناه ما خلص وخرج حيا، والخبر على قراءة من نصب «خالصة» في
قوله لِذُكُورِنا والمعنى المراد بما في قوله ما فِي بُطُونِ
قال السدي: هي الأجنة، وقال ابن عباس وقتادة والشعبي: هو
اللبن، قال الطبري واللفظ يعمهما، وقوله وَمُحَرَّمٌ يدل على
أن الهاء في خالِصَةٌ للمبالغة، ولو كانت لتأنيث لقال ومحرمة،
وأَزْواجِنا يريد به جماعة النساء التي هي معدة أن تكون
أزواجا، قال مجاهد، وحكى الطبري عن ابن زيد أن المراد ب
أَزْواجِنا البنات.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يبعد تحليقه على المعنى، وقوله
وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً كان من سنتهم أن ما خرج من الأجنة ميتا
من تلك الأنعام الموقوفة فهو حلال للرجال والنساء جميعا وكذلك
ما مات من الأنعام الموقوفة نفسها، وقرأ ابن كثير «وإن يكن»
بالياء «ميتة» بالرفع فلم يلحق الفعل علامة التأنيث لما كان
تأنيث الفاعل المسند إليه غير حقيقي، والمعنى وإن وقع ميتة أو
حدث ميتة، وقرأ ابن عامر «وإن تكن» بالتاء «ميتة» بالرفع فألحق
الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل في اللفظ مؤنثا، وأسند
الفعل إلى الميتة كما فعل ابن كثير، وقرأ عاصم في رواية أبي
بكر عنه «تكن» بالتاء «ميتة» بالنصب فأنث وإن كان المتقدم
مذكرا لأنه حمله على المعنى.
قال القاضي أبو محمد: فالتقدير وإن تكن النسمة أو نحوها ميتة،
وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «يكن»
بالياء «ميتة» بالنصب، فذكروا الفعل لأنهم أسندوه إلى ضمير ما
تقدم من قوله ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ وهو مذكر،
وانتصبت الميتة على الخبر، قال أبو عمرو بن العلاء ويقوي هذه
القراءة قوله فَهُمْ فِيهِ ولم يقل فيها، وقرأ يزيد بن القعقاع
«وإن تكن ميّتة» بالتشديد، وقرأ عبد الله بن مسعود «فهم فيه
سواء» ، ثم أعقب تعالى بوعيدهم على ما وصفوا أنه من القربات
إلى الله تعالى وشرعوه من الباطل والإفك إِنَّهُ حَكِيمٌ أي في
عذابهم على ذلك عَلِيمٌ بقليل ما تقوّلوه من ذلك وكثيره.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 140 الى 141]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ
عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى
اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ
الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ
وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ
وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ
ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا
تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
هذا لفظ يتضمن التشنيع بقبح فعلهم والتعجب من سوء حالهم في
وأدهم البنات وحجرهم الأنعام والحرث، قال عكرمة: وكان الوأد في
ربيعة ومضر.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وكان جمهور العرب لا يفعله،
ثم إن فاعليه كان منهم من يفعله خوف العيلة والإقتار وكان منهم
من يفعله غيرة مخافة السباء وقرأ ابن عامر وابن كثير: «قتّلوا»
بتشديد
(2/352)
التاء على المبالغة وقرأ الباقون: «قتلوا»
بتخفيفها وما رَزَقَهُمُ اللَّهُ: هي تلك الأنعام والغلات التي
توقف بغير شرع ولا مثوبة في معاد بل بالافتراء على الله والكذب
وقَدْ ضَلُّوا إخبارا عنهم بالحيرة وهو من التعجيب بمنزلة قوله
قَدْ خَسِرَ، وَما كانُوا يريد في هذه الفعلة ويحتمل أن يريد:
وما كانوا قبل ضلالهم بهذه الفعلة مهتدين ولكنهم زادوا بهذه
الفعلة ضلالا وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ
مَعْرُوشاتٍ الآية هذا تنبيه على مواضع الاعتبار وأَنْشَأَ
معناه خلق واخترع و «الجنة» : مأخوذة من جن إذا ستر،
ومَعْرُوشاتٍ قال ابن عباس: ذلك في ثمر العنب، ومنها ما عرش
وسمك ومنها ما لم يعرش وقال السدي «المعروشات» ما عرش كهيئة
الكرم، وغيره البساتين وقيل: المعروش هو ما يعترشه بنو آدم من
أنواع الشجر وغير المعروش ما يحدث في الجبال والصحراء ونحو ذلك
وقيل: المعروش ما خلق بحائط وغير المعروش ما لم يخلق،
ومُخْتَلِفاً: نصب على الحال على تقدير حصول الاختلاف في ثمرها
لأنها حين الإنشاء لا ثمرة فيها فهي حال مقدرة تجيء بعد
الإنشاء، ومُتَشابِهاً يريد في المنظر، وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ في
المطعم قاله ابن جريج وغيره وقوله كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ نفس
الإباحة وهو مضمن الإشارة إلى النعمة بذلك، ويقرأ «من ثمره»
بضم الثاء وقد تقدم، وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فقالت
طائفة من أهل العلم: هي في الزكاة المفروضة منهم ابن عباس وأنس
بن مالك والحسن بن أبي الحسن وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن
المسيب وقتادة ومحمد بن الحنفية والضحاك وزيد بن أسلم وابنه،
وقاله مالك بن أنس.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا قول معترض بأن السورة
مكية وهذه الآية على قول الجمهور غير مستثناة، وحكى الزجّاج أن
هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة، ومعترض أيضا بأنه لا
زكاة فيما ذكر من الرمان وجميع ما هو في معناه، وقال ابن
الحنفية أيضا وعطاء ومجاهد وغيرهم من أهل العلم:
بل قوله وَآتُوا حَقَّهُ ندب إلى إعطاء حقوق من المال غير
الزكاة، والسنة أن يعطي الرجل من زرعه عند الحصاد وعند الذرو
وعند تكديسه في البيدر، فإذا صفا وكال أخرج من ذلك الزكاة،
وقال الربيع بن أنس حقه إباحة لقط السنبل، وقالت طائفة كان هذا
حكم صدقات المسلمين حتى نزلت الزكاة المفروضة فنسختها.
وروي هذا عن ابن عباس وابن الحنفية وإبراهيم والحسن، وقال
السدي في هذه السورة مكية نسختها الزكاة فقال له سفيان عمن قال
عن العلماء.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: والنسخ غير مترتب في هذه
الآية، لأن هذه الآية وآية الزكاة لا تتعارض بل تنبني هذه على
الندب وتلك على الفرض، وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي
«حصاده» ، وقرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر «حصاده» بفتح الحاء
وهما لغتان في المصدر، وقوله تعالى: وَلا تُسْرِفُوا الآية، من
قال إن الآية في الزكاة المفروضة جعل هذا النهي عن الإسراف إما
للناس عن التمنع عن أدائها لأن ذلك إسراف من الفعل وقاله سعيد
بن المسيب، وإما للولاة عن التشطط على الناس والإذاية لهم فذلك
إسراف من الفعل، وقاله ابن زيد، ومن جعل الآية على جهة الندب
إلى حقوق غير الزكاة ترتب له النهي عن الإسراف في تلك الحقوق
لما في ذلك من الإجحاف بالمال وإضاعته.
(2/353)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ
حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ
وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ
الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ
الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (143)
وروي أن الآية نزلت بسبب لأن ثابت بن قيس
بن شماس حصد غلة له فقال والله لا جاءني اليوم أحد إلا أطعمته
فأمسى وليس عنده ثمرة، فنزلت هذه الآية، وقال أبو العالية
كانوا يعطون شيئا عند الحصاد ثم تباروا وأسرفوا فنزلت الآية،
ومن قال إنها منسوخة ترتب له النهي في وقت حكم الآية.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 142 الى 143]
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ
مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ
آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا
اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي
بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143)
حَمُولَةً عطف على جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ [الأنعام: 141]
التقدير وأنشأنا من الأنعام حمولة، والحمولة ما تحمل الأثقال
من الإبل والبقر عند من عادته أن يحمل عليها والهاء في
حَمُولَةً للمبالغة، وقال الطبري هو اسم جمع لا واحد من لفظه،
و «الفرش» ما لا يحمل ثقلا كالغنم وصغار البقر والإبل، هذا هو
المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وغيرهم، يقال له الفرش
والفريش، وذهب بعض الناس إلى أن تسميته فَرْشاً إنما هي
لوطاءته وأنه مما يمتهن ويتوطأ ويتمكن من التصرف فيه إذ قرب
جسمه من الأرض.
وروي عن ابن عباس أنه قال: «الحمولة» الإبل والخيل والبغال
والحمير، ذكره الطبري.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا منه تفسير لنفس اللفظة
لا من حيث هي في هذه الآية، ولا تدخل في الآية لغير الأنعام
وإنما خصت بالذكر من جهة ما شرعت فيها العرب، وقوله مِمَّا
رَزَقَكُمُ نص إباحة وإزالة ما سنه الكفار من البحيرة والسائبة
وغير ذلك، ثم تابع النهي عن تلك السنن الآفكة بقوله وَلا
تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وهي جمع خطوة أي لا تمشوا في
طرقه المضلّة، وقد تقدم في سورة البقرة اختلاف القراء في
«خطوات» ، ومن شاذها قراءة علي رضي الله عنه والأعرج وعمرو بن
عبيد «خطؤات» بضم الخاء والطاء وبالهمزة، قال أبو الفتح وذلك
جمع خطأة من الخطأ ومن الشاذ قراءة أبي السمال «خطوات» بالواو
دون همزة وهو جمع خطوة وهي ذرع ما بين قدمي الماشي، ثم علل
النهي عن ذلك بتقرير عداوة الشيطان لابن آدم، وقوله تعالى
ثَمانِيَةَ اختلف في نصبها فقال الأخفش علي بن سليمان بفعل
مضمر تقديره كلوا لحم ثمانية أزواج فحذف الفعل والمضاف وأقيم
المضاف إليه مقامه، وقيل نصب على البدل من ما في قوله كُلُوا
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، وقيل نصبت على الحال، وقيل نصبت
على البدل من قوله حَمُولَةً وَفَرْشاً، وهذا أصوب الأقوال
وأجراها مع معنى الآية، وقال الكسائي نصبها أَنْشَأَ [الأنعام:
141] والزوج الذكر والزوج الأنثى كل واحد منهما زوج صاحبه، وهي
أربعة أنواع فتجيء ثمانية أزواج، والضَّأْنِ جمع ضائنة وضائن،
وقرأ طلحة بن مصرف وعيسى بن عمر والحسن من «الضأن» بفتح
الهمزة، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي «ومن المعز» بسكون
العين وهو جمع ماعز وماعزة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر
«ومن المعز» بفتح العين فضأن ومعز كراكب وركب وتاجر وتجر وضان
ومعز كخادم
(2/354)
وَمِنَ الْإِبِلِ
اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ
حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ
أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ
وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ
لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ
يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا
مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
وخدم ونحوه، وقرأ أبان بن عثمان «من الضأن
اثنان» على الابتداء والخبر المقدم، ويقال في جمع ماعز معز
ومعز ومعيز وأمعوز وقوله تعالى: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ هذا تقسيم
على الكفار حتى يتبين كذبهم على الله، أي لا بد أن يكون حرم
الذكرين فيلزمكم تحريم جميع الذكور أو الأنثيين فيلزمكم تحريم
جميع الإناث، أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فيلزمكم تحريم
الجميع وأنتم لم تلتزموا شيئا مما يوجبه هذا التقسيم، وفي هذه
السؤالات تقرير وتوبيخ ثم اتبع تقريرهم وتوبيخهم بقوله
نَبِّئُونِي أخبروني بِعِلْمٍ أي من جهة نبوءة أو كتاب من كتب
الله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وإِنْ شرط وجوابه في
نَبِّئُونِي، وجاز تقديم جواب هذا الشرط لما كانت إِنْ لا يظهر
لها عمل في الماضي، ولو كانت ظاهرة العمل لما جاز تقدم الجواب.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 144]
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ
آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا
اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ
شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ
بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (144)
القول في هذه الآية في المعنى وترتيب التقسيم كالقول المتقدم
في قوله مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ
[الأنعام: 143] وكأنه قال أنتم الذين تدعون أن الله حرم خصائص
من هذه الأنعام لا يخلو تحريمه من أن يكون في آلذَّكَرَيْنِ أو
فيما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ لكنه لم
يحرم لا هذا ولا هذا فلم يبق إلا أنه لم يقع تحريم.
وقوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ
بِهذا الآية استفهام على جهة التوبيخ، إذ لم يبق لهم الادعاء
المحال والتقوّل أنهم شاهدوا وصية الله لهم بهذا، وشُهَداءَ
جمع شهيد، ثم تضمن قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ ذكر حال مفتري
الكذب على الله وتقرير إفراط ظلمه، وقال السدي: كان الذين
سيبوا وبحروا يقولون: الله أمرنا بهذا ثم بيّن تعالى سوء
مقصدهم بالافتراء لأنه لو افترى أحد فرية على الله لغير معنى
لكان ظلما عظيما فكيف إذا قصد بهما إضلال أمة. وقد يحتمل أن
تكون اللام في لِيُضِلَّ لام صيرورة، ثم جزم الحكم لا رب غيره
بأنه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، أي لا يرشدهم، وهذا
عموم في الظاهر وقد تبين تخصيصه مما يقتضيه الشرع أن الله يهدي
ظلمة كثيرة بالتوبة.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 145]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ
يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً
مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ
فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
هذا أمر من الله عز وجل بأن يشرع للناس جميعا ويبين عن الله ما
أوحي إليه، وهذه الآية نزلت بمكة
(2/355)
ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت شيء محرم
غير هذه الأشياء، ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة وزيد في
المحرمات كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، فإن هذه وإن
كانت في حكم الميتة فكان في النظر احتمال أن تلحق بالمذكيات
لأنها بأسباب وليست حتف الأنف، فلما بين النص إلحاقها بالميتة
كانت زيادة في المحرمات، ثم نزل النص على رسول الله صلى الله
عليه وسلم في تحريم الخمر بوحي غير منجز، وبتحريم كل ذي ناب من
السباع، فهذه كلها زيادات في التحريم ولفظة التحريم إذا وردت
على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها صالحة أن تنتهي
بالشيء المذكور إلى غاية المنع والحظر، وصالحة بحسب اللغة أن
تقف دون الغاية في حيز الكراهية ونحوها، فما اقترنت به قرينة
التسليم من الصحابة المتأولين وأجمع عليه الكل منهم ولم يضطرب
فيه ألفاظ الأحاديث وأمضاه الناس على إذلاله وجب بالشرع أن
يكون تحريمه قد وصل الغاية من الحظر والمنع ولحق بالخنزير
والميتة، وهذه صفة تحريم الخمر وما اقترنت به قرينة ألفاظ
الحديث واختلفت الأمة فيه مع علمهم بالأحاديث كقوله عليه
السلام «كل ذي ناب من السباع حرام» .
وقد روي عنه نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي
ناب من السباع ثم اختلف الصحابة ومن بعدهم في تحريم ذلك فجاز
لهذه الوجوه لمن ينظر أن يجمل لفظ التحريم على المنع الذي هو
الكراهية ونحوها، وما اقترنت به قرينة التأويل كتحريمه عليه
السلام لحوم الحمر الإنسية فتأول بعض الصحابة الحاضرين ذلك
لأنها لم تخمس، وتأول بعضهم أن ذلك لئلا تفنى حمولة الناس،
وتأول بعضهم التحريم المحض وثبت في الأمة الاختلاف في تحريم
لحمها فجائز لمن ينظر من العلماء أن يحمل لفظ التحريم بحسب
اجتهاده وقياسه على كراهية أو نحوها.
وروي عن ابن عامر أنه قرأ «فيما أوحى إلي» بفتح الهمزة والحاء
وقرأ جمهور الناس يطعمه وقرأ أبو جعفر محمد بن علي «يطّعمه»
بتشديد الطاء وكسر العين، وقرأ محمد بن الحنفية وعائشة وأصحاب
عبد الله «طعمه» بفعل ماض، وقرأ نافع والكسائي وأبو عمر وعاصم
«إلا أن يكون» بالياء على تقدير إلا أن يكون المطعوم، وقرأ ابن
كثير وحمزة وأبو عمرو أيضا «إلا أن تكون» بالتاء من فوق «ميتة»
على تقدير إلا أن تكون المطعومة، وقرأ ابن عامر وحده وذكرها
مكي عن أبي جعفر «إلا أن تكون» بالتاء «ميتة» بالرفع على أن
تجعل «تكون» بمعنى تقع، ويحتاج على هذه القراءة أن يعطف أَوْ
دَماً على موضع «أن تكون» ، لأنها في موضع نصب بالاستثناء،
والمسفوح الجاري الذي يسيل وجعل الله هذا فرقا بين القليل
والكثير، والمنسفح، السائل من الدم ونحوه، ومنه قول الشاعر وهو
طرفة:
إذا ما عاده منّا نساء ... سفحن الدّمع من بعد الرّنين
وقول امرئ القيس: وإن شفائي عبرة إن سفحتها.
فالدم المختلط باللحم والدم الخارج من مرق اللحم وما شاكل هذا
حلال والدم غير المسفوح هو هذا وهو معفوّ عنه، وقيل لأبي مجلز
في القدر تعلوها الحمرة من الدم قال: إنما حرم الله المسفوح،
وقالت نحوه عائشة وغيرها وعليه إجماع العلماء.
(2/356)
وَعَلَى الَّذِينَ
هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا
حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ
بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا
لَصَادِقُونَ (146)
وقيل: الدم حرام لأنه إذا زايل فقد انسفخ،
و «الرجس» النتن والحرام، يوصف بذلك الأجرام والمعاني كما قال
عليه السلام: دعوها فإنها منتنة الحديث، فكذلك قيل في الأزلام
والخمر رجس، والرجس أيضا العذاب لغة بمعنى الرجز، وقوله أَوْ
فِسْقاً يريد ذبائحهم التي يختصون بها أصنامهم، وقوله تعالى:
فَمَنِ اضْطُرَّ الآية، أباح الله فيها مع الضرورة ركوب
المحظور دون بغي.
واختلف الناس فيم ذا فقالت فرقة دون أن يبغي الإنسان في أكله
فيأكل فوق ما يقيم رمقه وينتهي إلى حد الشبع وفوقه، وقالت
فرقة: بل دون أن يبغي في أن يكون سفره في قطع طريق أو قتل نفس
أو يكون تصرفه في معصية فإن ذلك لا رخصة له، وأما من لم يكن
بهذه الأحوال فاضطر فله أن يشبع ويتزود، وهذا مشهور قول مالك
بن أنس رحمه الله، وقال بالأول الذي هو الاقتصار على سد الرمق
عبد المالك بن حبيب رحمه الله، وقوله فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ إباحة تعطيها قوة للفظ.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 146]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ
الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما
إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا
اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا
لَصادِقُونَ (146)
لما ذكر الله عز وجل ما حرم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم
أعقب ذلك بذكر ما حرم على اليهود لما في ذلك من تكذيبهم في
قولهم إن الله لم يحرم علينا شيئا وإنما حرمنا على أنفسنا ما
حرمه إسرائيل على نفسه، وقد تقدم القول في سورة البقرة في
هادُوا ومعنى تسميتهم يهودا، وكُلَّ ذِي ظُفُرٍ يراد به الإبل
والنعام والإوز ونحوه من الحيوان الذي هو غير منفرج الأصابع
وله ظفر، وقال أبو زيد:
المراد الإبل خاصة وهذا ضعيف التخصيص، وذكر النقاش عن ثعلب أن
كل ما لا يصيد فهو ذو ظفر وما يصيد فهو ذو مخلب.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا غير مطرد لأن الأسد ذو
ظفر، وقرأ جمهور الناس «ظفر» بضم الظاء والفاء، وقرأ الحسن
والأعرج «ظفر» بسكون الفاء، وقرأ أبو السمال قعنب «ظفر» بكسر
الظاء وسكون الفاء.
وأخبرنا الله عز وجل في هذه الآية بتحريم الشحوم على بني
إسرائيل وهي الثروب وشحم الكلى وما كان شحما خالصا خارجا عن
الاستثناء الذي في الآية.
واختلف العلماء في تحريم ذلك على المسلمين من ذبائح اليهود
فحكى ابن المنذر في الأشراف عن مالك وغيره منع أكل الشحم من
ذبائح اليهود وهو ظاهر المدونة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا على القول في قوله عز
وجل: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ
[المائدة: 5] بأنه المطعوم من ذبائحهم وأما ما لا يحل لهم فلا
تقع عليه ذكاة بل هو
(2/357)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ
بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا
وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا
قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ
تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
تَخْرُصُونَ (148)
كالدم في ذبائح المسلمين، وعلى هذا القول
يجيء قول مالك رحمه الله في المدونة فيما ذبحه اليهودي مما لا
يحل لهم كالجمل والأرنب أنه لا يؤكل.
وروي عن مالك رحمه الله كراهية الشحم من ذبائح أهل الكتاب دون
تحريم وأباح بعض الناس الشحم من ذبائح أهل الكتاب وذبحهم ما هو
عليهم حرام إذا أمرهم بذلك مستنيبا أو نحوه.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا على أن يجعل قوله
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة:
5] يراد به الذبائح فمتى وقع الذبح على صفته وقعت الإباحة،
وهذا قول ضعيف لأنه جرد لفظة وَطَعامُ من معنى أن تكون مطعوما
لأهل الكتاب وخلصها لمعنى الذبح وذلك حرج لا يتوجه، وأما
الطريق فحرمه قوم وكرهه قوم وأباحه قوم وخففه مالك في المدونة
ثم رجع إلى منعه، وقال ابن حبيب ما كان محرما عليهم وعلمنا ذلك
من كتابنا فلا يحل لنا من ذبائحهم، وما لم نعلم تحريمه إلا من
أقوالهم فهو غير محرم علينا من ذبائحهم، وقوله إِلَّا ما
حَمَلَتْ ظُهُورُهُما يريد ما اختلط باللحم في الظهر والأجناب
ونحوه، قال السدي وأبو صالح: الأليات مما حملت ظهورهما أَوِ
الْحَوايا قال هو جمع حوية على وزن فعلية، فوزن «حوايا» على
هذا فعائل كسفينة وسفائن، وقيل هو جمع حاوية على وزن فاعلة،
فحوايا على هذا فواعل كضاربة وضوارب وقيل جمع حاوياء، فوزنها
على هذا أيضا فواعل كقاصعاء وقواصع وأما «الحوايا» على الوزن
الأول فأصلها حوايي فقلب الياء الأخيرة ألفا فانفتحت لذلك
الهمزة ثم بدلت ياء، وأما على الوزنين الأخيرين فأصل «حوايا»
حواوي وبدلت الواو الثانية همزة، والحوية ما تحوى في البطن
واستدار وهي المصارين والحشوة ونحوهما، وقال مجاهد وقتادة وابن
عباس والسدي وابن زيد: «الحوايا» المباعر وقال بعضهم: هي
المرابط التي تكون فيها الأمعاء وهي بنات اللبن، وقوله أَوْ
مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ يريد في سائر الشخص، والْحَوايا معطوف
على ما في قوله إِلَّا ما حَمَلَتْ فهي في موضع نصب عطفا على
المنصوب بالاستثناء، وقال الكسائي الْحَوايا معطوف على الظهور،
كأنه قال «إلا ما حملت ظهورهما أو حملت الحوايا» ، وقال بعض
الناس الْحَوايا معطوف على الشحوم.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وعلى هذا تدخل الْحَوايا في
التحريم، وهذا قول لا يعضده اللفظ ولا المعنى بل يدفعانه،
وقوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ، ذلِكَ في موضع
رفع وجَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ يقتضي أن هذا التحريم إنما كان
عقوبة لهم على ذنوبهم وبغيهم واستعصائهم على الأنبياء، وقوله
وَإِنَّا لَصادِقُونَ إخبار يتضمن التعريض بكذبهم في قولهم ما
حرم الله علينا شيئا وإنما اقتدينا بإسرائيل فيما حرم على نفسه
ويتضمن إدحاض قولهم ورده عليهم.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 147 الى 148]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ
وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما
أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا
قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ
تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ
تَخْرُصُونَ (148)
(2/358)
يريد فَإِنْ كَذَّبُوكَ فيما أخبرت به أن
الله حرمه عليهم وقالوا لم يحرم الله علينا شيئا وإنما حرمنا
ما حرم إسرائيل على نفسه، قال السدي وهذه كانت مقالتهم فَقُلْ
يا محمد على جهة التعجب من حالهم والتعظيم لفريتهم في تكذيبهم
لك مع علمهم بحقيقة ما قلت، رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ،
إذ لا يعاجلكم بالعقوبة مع شدة جرمكم.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا كما تقول عند رؤية
معصية أو أمر مبغي ما أحلم الله، وأنت تريد لإمهاله على مثل
ذلك في قوله رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ قوة وصفهم بغاية
الاجترام وشدة الطغيان، ثم أعقب هذه المقالة بوعيد في قوله
وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فكأنه
قال: ولا تغتروا أيضا بسعة رحمته فإن له بأسا لا يرد عن
المجرمين إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذه الآية وما جانسها
من آيات مكة مرتفع حكمه بالقتال، وأخبر الله عز وجل نبيه عليه
السلام: أن المشركين سيحتجون لصواب ما هم عليه من شركهم
وتدينهم بتحريم تلك الأشياء بإمهال الله تعالى وتقريره حالهم
وأنه لو شاء غير ذلك لما تركهم على تلك الحال.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وبين أن المشركين لا حجة
لهم فيما ذكروه لأنّا نحن نقول: إن الله عز وجل لو شاء ما
أشركوا ولكنه عز وجل شاء إشراكهم وأقدرهم على اكتساب الإشراك
والمعاصي ومحبته والاشتغال به ثم علق العقاب والثواب على تلك
الأشياء والاكتسابات، وهو الذي يقتضيه ظواهر القرآن في قوله
جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة: 82- 95] ونحو ذلك،
ويلزمهم على احتجاجهم أن تكون كل طريقة وكل نحلة صوابا، إذ
كلها لو شاء الله لم تكن.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقال بعض المفسرين: إنما
هذه المقالة من المشركين على جهة الاستهزاء، وهذا ضعيف، وتعلقت
المعتزلة بهذه الآية فقالت: إن الله قد ذم لهم هذه المقالة
وإنما ذمها لأن كفرهم ليس بمشيئة الله تعالى بل هو خلق لهم.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وليس الأمر على ما قالوا،
وإنما ذم الله تعالى ظن المشركين أن ما شاء الله لا يقع عليه
عقاب وأما أنه ذم قولهم: لولا المشيئة لم نكفر فلا، ثم قال
كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وفي الكلام حذف يدل
عليه تناسق الكلام، كأنه قال: سيقول المشركون كذا وكذا وليس في
ذلك حجة لهم، ولا شيء يقتضي تكذيبك ولكن كَذلِكَ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بنحو هذه الشبهة من ظنهم أن ترك
الله لهم دليل على رضاه بحالهم، وفي قوله حَتَّى ذاقُوا
بَأْسَنا وعيد بيّن، وليس في الآية رد منصوص على قولهم: لو شاء
الله ما أشركنا، وإنما ترك الرد عليهم مقدرا في الكلام لوضوحه
وبيانه، وقوله وَلا آباؤُنا معطوف على الضمير المرفوع في
أَشْرَكْنا والعطف على الضمير المرفوع لا يرده قياس، بخلاف
المظنون، لكن سيبويه قد قبح العطف على الضمير المرفوع، ووجه
قبحه أنه لما بني الفعل صار
(2/359)
قُلْ فَلِلَّهِ
الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
(149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ
اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ
مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ
بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
كحرف من الفعل فقبح العطف عليه لشبهه
بالحرف، وكذلك كقولك: قمت وزيد، لأن تأكيده فيه يبين معنى
الاسمية، ويذهب عنه شبه الحرف، وحسن عند سيبويه العطف في قوله
ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا لما طال الكلام، ب لا، فكان معنى
الاسمية اتضح واقتضت- لا ما يعطف بعدها وقوله تعالى: قُلْ هَلْ
عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ الآية: المعنى قل يا محمد للكفرة: هل
عندكم من علم من قبل الله تعالى فتبينوه حتى تقوم به الحجة،
ومِنْ في قوله مِنْ عِلْمٍ زائدة مؤكدة وجاءت زيادتها لأن
الاستفهام داخل في غير الواجب، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا
الظَّنَّ أي لا شيء عندكم إلا الظن وهو أكذب الحديث.
وقرأ جمهور الناس: «تتبعون» على المخاطبة، وقرأ النخعي
وإبراهيم وابن وثاب: «إن يتبعوا» بالياء حكاية عنهم.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذه قراءة شاذة يضعفها
قوله وَإِنْ أَنْتُمْ وتَخْرُصُونَ معناه: تقدرون وتظنون
وترجمون.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 149 الى 150]
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ
أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ
يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا
تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
ثم أعقب تعالى أمره نبيه صلى الله عليه وسلم بتوقيف المشركين
على موضع عجزهم بأمره إياه بأن يقول مبينا مفصحا فَلِلَّهِ
الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ يريد البالغة غاية المقصد في الأمر
الذي يحتج فيه، ثم أعلم بأنه لو شاء لهدى العالم بأسره.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذه الآية ترد على
المعتزلة في قولهم إن الهداية والإيمان إنما هي من العبد لا من
الله، فإن قالوا معنى لَهَداكُمْ لاضطركم إلى الهدى فسد ذلك
بمعتقدهم أن الإيمان الذي يريد الله من عباده ويثيب عليه ليس
الذي يضطر إليه العبد، وإنما هو عندهم الذي يقع من العبد وحده،
وهَلُمَّ معناها هات، وهي حينئذ متعدية، وقد تكون بمعنى أقبل،
فهي حينئذ لا تتعدى، وبعض العرب يجعلها اسما للفعل كرويدك،
فيخاطب بها الواحد والجميع والمذكر والمؤنث على حد واحد، وبعض
العرب يجعلها فعلا فيركب عليها الضمائر فيقول هلم يا زيد
وهلموا أيها الناس وهلمي يا هند ونحو هذا، وذكر اللغتين أبو
علي في الإغفال، وقال أبو عبيدة اللغة الأولى لأهل العالية
واللغة الثانية لأهل نجد، وقال سيبويه والخليل: أصلها هالم،
وقال بعضهم: أصلها هالمم، وحذفت الألف لالتقاء الساكنين فجاء
هلمم فحذف من قال أصلها هالم وأدغم من قال أصلها هلمم على غير
قياس، ومعنى هذه الآية قل هاتوا شهداءكم على تحريم الله ما
زعمتم أنه حرمه، ثم قال الله تعالى لنبيه عليه السلام فَإِنْ
شَهِدُوا أي فإن افترى لهم أحدا وزور شهادة أو خبرا عن نبوة
ونحو ذلك فتجنب أنت ذلك ولا تشهد معهم.
(2/360)
قُلْ تَعَالَوْا
أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا
بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا
أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ
وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
وفي قوله فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ قوة وصف
شهادتهم بنهاية الزور، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ يريد لا تنحط
في شهوات الكفرة وتوافقهم على محابهم والَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ عطف نعت على نعت، كما تقول جاءني زيد الكريم
والعاقل، هذا مذهب عظم الناس، وقال النقاش: نزلت في الدهرية من
الزنادقة. وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أندادا يسوونهم به،
وإن كانت في الزنادقة فعدلهم غير هذا.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 151]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا
تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ
وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها
وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
هذا أمر من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوا
جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله بشرع الإسلام المبعوث
به إلى الأسود والأحمر، وتَعالَوْا معناه أقبلوا، وأصله من
العلو فكأن الدعاء لما كان أمرا من الداعي استعمل فيه ترفيع
المدعو، وتعالى هو مطاوع عالى، إذ تفاعل هو مطاوع فاعل.
وأَتْلُ معناه اسردوا نص من التلاوة التي يصح هي اتباع بعض
الحروف بعضا، وما نصب بقوله أَتْلُ وهي بمعنى الذي، وقال
الزجّاج أن يكون قوله أَتْلُ معلقا عن العمل وما نصب ب
حَرَّمَ.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا قلق وأن في قوله «أن
لا تشركوا» يصح أن تكون في موضع رفع الابتداء التقدير، الأمر
أن أو ذلك أن، ويصح أن تكون في موضع نصب على البدل من ما قاله
مكي وغيره.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: والمعنى يبطله فتأمله، ويصح
أن يكون مفعولا من أجله التقدير إرادة أن لا تشركوا به شيئا،
إلا أن هذا التأويل يخرج أن لا تشركوا من المتلو ويجعله سببا
لتلاوة المحرمات، وتُشْرِكُوا يصح أن يكون منصوبا بأن، ويتوجه
أن يكون مجزوما بالنهي وهو الصحيح في المعنى المقصود، وأن قد
توصل بما نصبته، وقد توصل بالفعل المجزوم بالأمر والنهي،
وشَيْئاً عام يراد به كل معبود من دون الله، وإِحْساناً نصب
على المصدر وناصبه فعل مضمر من لفظه تقديره وأحسنوا بالوالدين
إحسانا والمحرمات تنفك من هذه المذكورات بالمعنى وهي الإشراك
والعقوق وقرب الفواحش وقتل النفس وقال كعب الأحبار: هذه الآيات
مفتتح التوراة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ
تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى آخر
الآية، وقال ابن عباس هذه الآيات هي المحكمات التي ذكرها الله
في سورة آل عمران اجتمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ قط في
ملة، وقد قيل إنها العشر الكلمات المنزلة على موسى، وإن اعترض
من قال إن تُشْرِكُوا منصوب بأن بعطف المجزومات عليه فذلك
موجود في كلام العرب، وأنشد الطبري حجة لذلك: [الرجز] .
(2/361)
وَلَا تَقْرَبُوا
مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى
يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا
قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ
اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (152)
حج وأوصى بسليمى الأعبدا ... أن لا ترى ولا
تكلم أحدا
ولا يزل شرابها مبرّدا وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ الآية نهي عن عادة العرب في وأد البنات، والولد
يعم الذكر والأنثى من البنين، و «الإملاق» الفقر وعدم المال،
قاله ابن عباس وغيره، يقال أملق الرجل إذا افتقر.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: ويشبه أن يكون معناه أملق
أي لم يبق له إلا الملق كما قالوا أترب إذا لم يبق له إلا
التراب وأرمل إذا لم يبق له إلا الرمل، والملق الحجارة السود
واحدته ملقة، وذكر منذر بن سعيد أن الإملاق الإنفاق، ويقال
أملق ماله بمعنى أنفقه، وذكر أن عليا قال لامرأة أملقي من مالك
ما شئت وذكر النقاش عن محمد بن نعيم الترمذي أنه السرف في
الإنفاق، وحكى أيضا النقاش عن مؤرج أنه قال: الإملاق الجوع
بلغة لخم.
وقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها
وَما بَطَنَ نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي، و
«ظهر وبطن» حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء، وذهب
بعض المفسرين إلى أن القصد بهذه الآية أشياء مخصصات، فقال
السدي وابن عباس: ما ظَهَرَ هو زنا الحوانيت الشهير، وما
بَطَنَ هو متخذات الأخدان، وكانوا يستقبحون الشهير وحده فحرم
الله الجميع، وقال مجاهد ما ظَهَرَ هو نكاح حلائل الآباء ونحو
ذلك، وما بَطَنَ هو الزنا إلى غير هذا من تخصيص لا تقوم عليه
حجة، بل هو دعوى مجردة، وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا الآية
متضمنة تحريم قتل النفس المسلمة والمعاهدة، ومعنى الآية إِلَّا
بِالْحَقِّ الذي يوجب قتلها وقد بينته الشريعة وهو الكفر بالله
وقتل النفس والزنا بعد الإحصان والحرابة وما تشعب من هذه،
وذلِكُمْ إشارة إلى هذه المحرمات، و «الوصية» الأمر المؤكد
المقرر ومنه قول الشاعر: [الطويل]
أجدّك لم تسمع وصاة محمّد ... نبيّ الإله حين أوصى وأشهدا
وقوله لَعَلَّكُمْ ترج بالإضافة إلينا أي من سمع هذه الوصية
ترجى وقوع أثر العقل بعدها والميز بالمنافع والمضار في الدين.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 152]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ
وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
هذا نهي عن القرب الذي يعم وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة، ثم
استثنى ما يحسن وهو التثمير والسعي في نمائه، قال مجاهد:
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
التجارة فيه ممن كان من الناظرين له مال يعيش به، فالأحسن إذا
ثمر مال يتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرها من كان
من الناظرين لا مال له ولا يتفق له
(2/362)
وَأَنَّ هَذَا
صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
نظر إلا بأن ينفق على نفسه من ربح نظره
وإلا دعته الضرورة إلى ترك مال اليتيم دون نظر فالأحسن أن ينظر
ويأكل بالمعروف، قاله ابن زيد، و «الأشد» جمع شد وجمع شدة، وهو
هنا الحزم والنظر في الأمور وحسن التصرف فيها.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وليس هذا بالأشد المقرون
ببلوغ الأربعين، بل هذا يكون مع صغر السن في ناس كثير وتلك
الأشد هي التجارب والعقل المحنك، ولكن قد خلطهما المفسرون،
وقال ربيعة والشعبي ومالك فيما روي عنه وأبو حنيفة، «بلوغ
الأشد» البلوغ مع أن لا يثبت سفه، وقال السدي:
«الأشد» ثلاثون سنة، وقالت فرقة ثلاثة وثلاثون سنة، وحكى
الزجاج عن فرقة ثمانية عشرة سنة، وضعّفه ورجح البلوغ مع الرشد
وحكى النقاش أن «الأشد» هنا من خمسة عشر إلى ثلاثين، والفقه ما
رجح الزجّاج، وهو قول مالك رحمه الله الرشد وزوال السفه مع
البلوغ.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا أصح الأقوال وأليقها
بهذا الموضع، وقوله تعالى:
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ
الآية أمر بالاعتدال في الأخذ والإعطاء، و «القسط» العدل،
وقوله لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من
التحفظ والتحرز لا أنه مطالب بغاية العدل في نفس الشيء المتصرف
فيه، قال الطبري: لما كان الذي يعطي ناقصا يتكلف في ذلك مشقة
والذي يعطي زائدا يتكلف أيضا مثل ذلك، رفع الله عز وجل الأمر
بالمعادلة حتى يتكلف واحد منهما مشقة، وقوله وَإِذا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُوا
يتضمن الشهادات والأحكام والتوسط بين الناس وغير ذلك، أي ولو
كان ميل الحق على قراباتكم، وقوله: وَبِعَهْدِ اللَّهِ
يحتمل أن يراد جميع ما عهده الله إلى عباده، ويحتمل أن يراد به
جميع ذلك مع جميع ما انعقد بين إنسانين وأضاف ذلك العهد إلى
الله من حيث قد أمر بحفظه والوفاء به، وقوله لَعَلَّكُمْ
ترجّ بحسبنا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «تذكّرون» بتشديد الذال
والكاف جميعا وكذلك «يذّكّرون» و «يذكّر الإنسان» وما جرى من
ذلك مشددا كله، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر كل
ذلك بالتشديد إلا قوله أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ [مريم: 67]
فإنهم خففوها، وروى أبان وحفص عن عاصم «تذكرون» خفيفة الذال في
كل القرآن.
وقرأ حمزة والكسائي «تذكرون» بتخفيف الذال إذا كان الفعل
بالتاء، وإذا كان بالياء قرأه بالتشديد، وقرأ حمزة وحده في
سورة الفرقان لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ [الآية: 62] بسكون
الذال وتخفيف الكاف، وقرأ ذلك الكسائي بتشديدهما وفتحهما.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 153]
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
الإشارة هي إلى الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم
بجملته، وقال الطبري: الإشارة هي إلى هذه الوصايا التي تقدمت
من قوله قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ [الأنعام: 151] قرأ ابن كثير
ونافع وعاصم وأبو
(2/363)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا
لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ
رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
عمرو «وأنّ هذا» بفتح الهمزة وتشديد النون
«صراطي» ساكن الياء، وقرأ حمزة والكسائي «وإنّ» بكسر الألف
وتشديد النون، وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق وابن عامر من السبعة
«وأن» بفتح الهمزة وسكون النون «صراطي» مفتوح الياء، فأما من
فتح الألف فالمعنى عنده كأنه قال ولأن هذا صراطي مستقيما
فاتبعوه، أي اتبعوه لكونه كذا وتكون الواو على هذا إنما عطفت
جملة على جملة، ويصح غير هذا أن يعطف على «ان لا تشركوا» وكأن
المحرم من هذا اتباع السبل والتنكيب عن الصراط الأقوم، ومن قرأ
بتخفيف النون عطف على قوله «أن لا تشركوا» ومذهب سيبويه أنها
المخففة من الثقيلة، وأن التقدير وأنه هذا صراطي، ومن قرأ بكسر
الألف وتشديد النون فكأنه استأنف الكلام وقطعه من الأول، وفي
مصحف ابن مسعود «وهذا صراطي» بحذف أن، وقال ابن مسعود إن الله
جعل طريقا صراطا مستقيما طرفه محمد عليه السلام وشرعه ونهايته
الجنة، وتتشعب منه طرق فمن سلك الجادة نجا ومن خرج إلى تلك
الطرق أفضت به إلى النار وقال أيضا خط لنا الرسول الله صلى
الله عليه وسلم يوما خطا، فقال: هذا سبيل الله، ثم خط عن يمين
ذلك الخط وعن شماله خطوطا فقال: هذه سبل على كل سبيل منها
شيطان يدعو إليها، ثم قرأ هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذه الآية تعلم أهل
الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في
الجدل والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء
المعتقد وتقدم القول في ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ، وفي قوله
لَعَلَّكُمْ ومن حيث كانت المحرمات الأول لا يقع فيها عاقل قد
نظر بعقله جاءت العبارة لعلكم تعقلون، والمحرمات الأخر شهوات
وقد يقع فيها من العقلاء من لم يتذكر، وركوب الجادة الكاملة
يتضمن فعل الفضائل، وتلك درجة التقوى.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 154]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي
أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً
لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
ثُمَّ في هذه الآية إنما مهلتها في ترتيب القول الذي أمر به
محمد صلى الله عليه وسلم كأنه قال ثم مما قضيناه أنا آتينا
موسى الكتاب، ويدعو إلى ذلك أن موسى عليه السلام متقدم بالزمان
على محمد صلى الله عليه وسلم وتلاوته ما حرم الله، والْكِتابَ
التوراة، وتَماماً نصب على المصدر، وقوله عَلَى الَّذِي
أَحْسَنَ مختلف في معناه فقالت فرقة الَّذِي بمعنى الذين،
وأَحْسَنَ فعل ماض صلة «الذين» ، وكأن الكلام وآتينا موسى
الكتاب تفضلا على المحسنين من أهل ملته وإتماما للنعمة عندهم،
هذا تأويل مجاهد، وفي مصحف عبد الله «تماما على الذين أحسنوا»
، فهذا يؤيد ذلك التأويل، وقالت فرقة الَّذِي غير موصولة،
والمعنى تماما على ما أحسن هو من عبادة ربه والاضطلاع بأمور
نبوته، يريد موسى عليه السلام، هذا تأويل الربيع وقتادة، وقالت
فرقة: المعنى تَماماً أي تفضلا وإكمالا على الذي أحسن الله فيه
إلى عباده من النبوءات والنعم وغير ذلك، ف الَّذِي أيضا في هذا
التأويل غير موصولة، وهذا تأويل ابن زيد.
وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق «تماما على الذي أحسن» بضم
النون، فجعلها صفة تفضيل
(2/364)
وَهَذَا كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ
الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا
عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ
أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى
مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى
وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ
آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
ورفعها على خبر ابتداء مضمر تقديره «على
الذي هو أحسن» وضعف أبو الفتح هذه القراءة لقبح حذف المبتدأ
العائد، وقال بعض نحويي الكوفة يصح أن يكون أَحْسَنَ صفة ل
الَّذِي من حيث قارب المعرفة إذ لا تدخله الألف واللام كما
تقول العرب مررت بالذي خير منك ولا يجوز فالذي عالم، وخطأ
الزجاج هذا القول الكوفي، وتَفْصِيلًا يريد بيانا وتقسيما
ولَعَلَّهُمْ ترج بالإضافة إلى البشر، وبِلِقاءِ رَبِّهِمْ أي
بالبعث الذي الإيمان به نهاية تصديق الأنبياء صلوات الله
عليهم، إذ لا تلزمه العقول بذواتها وإنما ثبت بالسمع مع تجويز
العقل له.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 155 الى 157]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما
أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ
كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا
لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى
مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً
وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ
وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا
سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)
هذا إشارة إلى القرآن، ومُبارَكٌ وصف بما فيه من التوسعات
وإزالة أحكام الجاهلية وتحريماتها وجمع كلمة العرب وصلة أيدي
متبعيه وفتح الله على المؤمنين به ومعناه منمي خيره مكثر، و
«البركة» الزيادة والنمو، وفَاتَّبِعُوهُ دعاء إلى الدين،
وَاتَّقُوا الأظهر فيه أنه أمر بالتقوى العامة في جميع الأشياء
بقرينة قوله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وأَنْ من قوله أَنْ
تَقُولُوا في موضع نصب، والعامل فيه أَنْزَلْناهُ والتقدير
وهذا كتاب أنزلناه كراهية أن، وهذا أصح الأقوال وأضبطها للمعنى
المقصود، وقيل العامل في أَنْ قوله وَاتَّقُوا فكأنه قال
واتقوا أن تقولوا، وهذا تأويل يتخرج على معنى واتقوا أن تقولوا
كذا، لأنه لا حجة لكم فيه، ولكن يعرض فيه قلق لقوله أثناء ذلك
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وفي التأويل الأول يتسق نظم الآية، و
«الطائفتان» اليهود والنصارى بإجماع من المتأولين والدراسة
القراءة والتعلم بها، وأَنْ في قوله وَإِنْ كُنَّا مخففة من
الثقيلة، واللام في قوله لَغافِلِينَ لام توكيد، هذا مذهب
البصريين وحكى سيبويه عن بعض العرب أنهم يخففونها ويبقونها على
عملها، ومنه قراءة بعض أهل المدينة وإن كلا وأما المشهور فإنها
إذا خففت ترجع حرف ابتداء لا تعمل، وأما على مذهب الكوفيين ف
أَنْ في هذه الآية بمعنى ما النافية، واللام بمعنى إلا، فكأنه
قال وما كنا عن دراستهم إلا غافلين.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: معنى هذه الآية إزالة الحجة
عن أيدي قريش وسائر العرب بأنهم لم يكن لهم كتاب، فكأنه قال:
وهذا القرآن يا معشر العرب أنزل حجة عليكم لئلا تقولوا إنما
أنزلت التوراة والإنجيل بغير لساننا على غيرنا، ونحن لم نعرف
ذلك، فهذا كتاب بلسانكم ومع رجل منكم، وقوله تعالى: أَوْ
تَقُولُوا جملة معطوفة على الجملة الأولى، وهي في غرضها من
الاحتجاج على الكفار وقطع تعلقهم في الآخرة بأن الكتب إنما
أنزلت على غيرهم وأنهم غافلون عن الدراسة والنظر في الشرع
وأنهم لو نزل عليهم كتاب لكانوا أسرع إلى الهدى من الناس كلهم،
فقيل لهم: قد جاءكم بيان من الله وهدى
(2/365)
هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ
رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي
بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ
تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا
خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
ورحمة، ولما تقرر أن البينة قد جاءت والحجة
قد قامت حسن بعد ذلك أن يقع التقرير بقوله فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَّبَ بهذه الآيات البينات، وَصَدَفَ معناه حاد وراغ
وأعرض، وقرأ يحيى بن وثاب وابن أبي عبلة «كذب» بتخفيف الذال،
والجمهور «كذّب» بتشديد الذال، وسَنَجْزِي الَّذِينَ وعيد،
وقرأت فرقة «يصدفون» بكسر الدال وقرأت فرقة «يصدفون» بضم
الدال.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : آية 158]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ
يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ
يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها
لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها
خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
الضمير في يَنْظُرُونَ هو للطائفة التي قيل لها قبل فقد جاءكم
بينة من ربكم وهم العادلون بربهم من العرب الذين مضت أكثر آيات
السورة في جدالهم، ويَنْظُرُونَ معناه ينتظرون، والْمَلائِكَةُ
هنا يراد بها ملائكة الموت الذين يصحبون عزرائيل المخصوص بقبض
الأرواح، قاله مجاهد وقتادة وابن جريج.
ويحتمل أن يريد الملائكة الذين يتصرفون في قيام الساعة، وقرأ
حمزة والكسائي «إلا أن يأتيهم» بالياء، وقرأ الباقون «تأتيهم»
بالتاء من فوق، وقوله أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ قال الطبري: لموقف
الحساب يوم القيامة، وأسند ذلك إلى قتادة وجماعة من المتأولين،
ويحكي الزجاج أن المراد بقوله أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أي العذاب
الذي يسلطه الله في الدنيا على من يشاء من عباده كالصيحات
والرجفات والخسف ونحوه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الكلام على كل تأويل فإنما هو بحذف
مضاف تقديره أمر ربك أو بطش ربك أو حساب ربك وإلا فالإتيان
المفهوم من اللغة مستحيل في حق الله تعالى. ألا ترى أن الله
تعالى يقول فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا
[الحشر: 2] فهذا إتيان قد وقع وهو على المجاز وحذف المضاف،
وقوله:
أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ أما ظاهر اللفظ لو وقفنا
معه فيقتضي أنه توعدهم بالشهير الفظيع من أشراط الساعة دون أن
يخص من ذلك شرطا يريد بذلك الإبهام الذي يترك السامع مع أقوى
تخيله، لكن لما قال بعد ذلك يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ
رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها وبينت الآثار الصحاح في
البخاري ومسلم أن الآية التي معها هذا الشرط هي طلوع الشمس من
المغرب، قوى أن الإشارة بقوله أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ
رَبِّكَ إنما هي إلى طلوع الشمس من مغربها، وقال بهذا التأويل
مجاهد وقتادة والسدي وغيرهم، ويقوي أيضا أن تكون الإشارة إلى
غرغرة الإنسان عند الموت أو ما يكون في مثابتها لمن لم يغرغر.
ففي الحديث أن توبة العبد تقبل ما لم يغرغر، وهذا إجماع لأن من
غرغر وعاين فهو في عداد الموتى، وكون المرء في هذه الحالة من
آيات الله تعالى، وهذا على من يرى الملائكة المتصرفين في قيام
الساعة.
قال القاضي أبو محمد: فمقصد هذه الآية تهديد الكافرين بأحوال
لا يخلون منها كأنه قال: هل ينظرون مع إقامتهم على الكفر إلا
الموت الذي لهم بعده أشد العذاب، والأخذات المعهودة لله عز
وجل، أو الآيات التي ترفع التوبة وتعلم بقرب القيامة.
(2/366)
إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي
شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ
بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ
فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا
يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
قال القاضي أبو محمد: ويصح أن يريد بقوله:
أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ جميع ما يقطع بوقوعه من
أشراط الساعة ثم خصص بعد ذلك بقوله: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ
آياتِ رَبِّكَ الآية التي ترفع التوبة معها، وقد بينت الأحاديث
أنها طلوع الشمس من مغربها، وقرأ زهير الفرقبي «يوم يأتي»
بالرفع وهو على الابتداء والخبر في الجملة التي هي «لا ينفع»
بتاء، وأنث الإيمان لما أضيف إلى مؤنث. أو لما نزل منزلة
التوبة، وقال جمهور أهل التأويل كما تقدم الآية التي لا تنفع
التوبة من الشرك أو من المعاصي بعدها، هي طلوع الشمس من
المغرب.
وروي عن ابن مسعود أنها إحدى ثلاث، إما طلوع الشمس من مغربها،
وإما خروج الدابة، وإما خروج يأجوج ومأجوج.
قال أبو محمد: وهذا فيه نظر لأن الأحاديث ترده وتخصص الشمس.
وروي في هذا الحديث أن الشمس تجري كل يوم حتى تسجد تحت العرش
وتستأذن فيؤذن لها في طلوع المشرق، وحتى إذا أراد الله عز وجل
سد باب التوبة أمرها بالطلوع من مغربها، قال ابن مسعود وغيره
عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتطلع هي والقمر كالبعيرين
القرينين، ويقوي النظر أيضا أن الغرغرة هي الآية التي ترفع
معها التوبة، وقوله أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً يريد
جميع أعمال البر فرضها ونفلها، وهذا الفصل هو للعصاة المؤمنين
كما قوله لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ هو للكفار، والآية
المشار إليها تقطع توبة الصنفين، وقرأ أبو هريرة «أو كسبت في
إيمانها صالحا» ، وقوله تعالى: قُلِ انْتَظِرُوا الآية تتضمن
الوعيد أي فسترون من يحق كلامه ويتضح ما أخبر به.
قوله تعالى:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 159 الى 160]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ
مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ
يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ
بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ (160)
قال ابن عباس والصحاب وقتادة: المراد اليهود والنصارى أي فرقوا
دين إبراهيم الحنيفية، وأضيف الدين إليهم من حيث كان ينبغي أن
يلتزموه، إذ هو دين الله الذي ألزمه العباد، فهو دين جميع
الناس بهذا الوجه ووصفهم «بالشيع» إذ كل طائفة منهم لها فرق
واختلافات، ففي الآية حض لأمة محمد على الائتلاف وقلة
الاختلاف، وقال أبو الأحوص وأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه
وسلم: الآية في أهل البدع والأهواء والفتن ومن جرى مجراهم من
أمة محمد، أي فرقوا دين الإسلام، وقرأ علي بن أبي طالب وحمزة
والكسائي «فارقوا» . ومعناه تركوا، ثم بيّن قوله وَكانُوا
شِيَعاً أنهم فرقوه أيضا، والشيع جمع شيعة وهي الفرقة على مقصد
ما يتشايعون عليه، وقوله لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي لا
تشفع لهم ولا لهم بك تعلق، وهذا على الإطلاق في الكفار وعلى
جهة المبالغة في العصاة والمتنطعين في الشرع، ولأنهم لهم حظ من
تفريق الدين، وقوله إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ إلى آخر
الآية وعيد محض، والقرينة المتقدمة تقتضي أن أمرهم إلى الله
فيه وعيد، كما أن القرينة في قوله فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ
مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى
اللَّهِ
(2/367)
قُلْ إِنَّنِي
هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا
شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ (163)
[البقرة: 275] تعطي أن في ذلك الأمر رجاء
كأنه قال وأمره في إقبال وإلى خير، وقرأ النخعي والأعمش وأبو
صالح «فرقوا» بتخفيف الراء وقال السدي هذه آية لم يؤمر فيها
بقتال وهي منسوخة بالقتال.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كلام غير متقن فإن الآية خبر لا
يدخله نسخ ولكنها تضمنت بالمعنى أمرا بموادعة فيشبه أن يقال إن
النسخ وقع في ذلك المعنى الذي تقرر في آيات أخر. وقوله تعالى:
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ الآية. قال أبو سعيد الخدري وعبد الله
بن عمر: هذه الآية نزلت في الأعراب الذين آمنوا بعد الهجرة
فضاعف الله حسناتهم للحسنة عشر. وكان المهاجرون قد ضوعف لهم
الحسنة سبعمائة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل يحتاج إلى سند يقطع العذر،
وقالت فرقة: هذه الآية لجميع الأمة، أي إن الله يضاعف الحسنة
بعشرة ثم بعد هذا المضمون قد يزيد ما يشاء، وقد يزيد أيضا على
بعض الأعمال كنفقة الجهاد، وقال ابن مسعود ومجاهد والقاسم بن
أبي بزة وغيرهم: «الحسنة» لا إله إلا الله «والسيئة» الكفر.
قال القاضي أبو محمد: وهذه هي الغاية من الطرفين، وقالت فرقة:
ذلك لفظ عام في جميع الحسنات والسيئات، وهذا هو الظاهر. وأنث
لفظ «العشر» لأن الأمثال هاهنا بالمعنى حسنات، ويحتمل أن
الأمثال أنث لما أضيفت إلى مؤنث، وهو الضمير كما قال الشاعر:
[الطويل]
مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت ... أعاليها مرّ الرياح النواسم
فأنث وقرأ الحسن وسعيد بن جبير وعيسى بن عمر والأعمش ويعقوب
«فله عشر» بالتنوين «أمثالها» بالرفع.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأعمال ست موجبة
وموجبة ومضعفة ومضعفة ومثل ومثل. فلا إله إلا الله توجب الجنة.
والشرك يوجب النار. ونفقة الجهاد تضعف سبعمائة ضعف، والنفقة
على الأهل حسنتها بعشرة، والسيئة جزاؤها مثلها، ومن همّ بحسنة
فلم يعملها كتبت له حسنة مثلها، وقوله تعالى: لا يُظْلَمُونَ
أي لا يوضع في جزائهم شيء في غير موضعه، وتقدير الآية من جاء
بالحسنة فله ثواب عشر أمثالها، والمماثلة بين الحسنة والثواب
مترتبة إذا تدبرت، وقال الطبري قوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ
الآية، يريد من الذين فرقوا دينهم أي من جاء مؤمنا فله الجنة.
قال القاضي أبو محمد: والقصد بالآية إلى العموم في جميع العالم
أليق باللفظ.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 161 الى 163]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً
قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ
وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ
وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
هذا أمر من الله عز وجل نبيه عليه السلام بالإعلان بشريعته
والانتباه من سواها من أضاليلهم،
(2/368)
ووصف الشريعة بما هي عليه من الحسن والفضل
والاستقامة، وهَدانِي معناه أرشدني بخلق الهدى في قلبي. والرب
المالك، ولفظه مصدر من قولك ربه يربه، وإنما هو مثل عدل ورضى
في أنه مصدر وصف به وأصله ذو الرب ثم حذف المضاف وأقيم المضاف
إليه مقامه فقيل الرب. و «الصراط» الطريق.
ودِيناً منصوب ب هَدانِي المقدر الذي يدل عليه هَدانِي الأول،
وهذا الضمير إنما يصل وحده دون أن يحتاج إلى إضمار إلى. إذ هدى
يصل بنفسه إلى مفعوله الثاني وبحرف الجر، فهو فعل متردد.
وقيل نصب دِيناً فعل مضمر تقديره عرفني دينا. وقيل تقديره
فاتبعوا دينا أو فالزموا دينا، وقيل نصب على البدل من صِراطٍ
على الموضع، أن تقديره هداني ربي صراطا مستقيما، وقِيَماً نعت
للدين، ومعناه مستقيما معتدلا. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو
«قيّما» بفتح القاف وكسر الياء وشدها. وأصله قيوم عللت كتعليل
سيد وميت، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «قيما» بكسر
القاف وفتح الياء على وزن فعل، وكأن الأصل أن يجيء فيه قوما
كعوض وحول إلا أنه شذ كشذوذ قولهم جياد في جمع جواد وثيرة في
جمع ثور، ومِلَّةَ بدل من الدين، والملة الشريعة وحَنِيفاً نصب
على الحال من إِبْراهِيمَ، والحنف في كلام العرب الميل فقد
يكون الميل إلى فساد كحنف الرجل.
وكقوله فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً [البقرة: 182] على
قراءة من قرأ بالحاء غير المنقوطة ونحو ذلك. وقد يكون الحنف
إلى الصلاح كقوله عليه السلام: «الحنيفية السمحة» ، و «الدين
الحنيف» ونحوه، وقال ابن قتيبة: الحنف الاستقامة وإنما سمي
الأحنف في الرجل على جهة التفاؤل له. وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ نفي للنقيصة عنه صلى الله عليه وسلم، وقوله
قُلْ إِنَّ صَلاتِي الآية، أمر من الله عز وجل أن يعلن بأن
مقصده في صلاته وطاعته من ذبيحة وغيرها وتصرفه مدة حياته وحاله
من الإخلاص والإيمان عند مماته إنما هو لله عز وجل وإرادة وجهه
وطلب رضاه، وفي إعلان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة
ما يلزم المؤمنين التأسي به حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد
وجه الله عز وجل، ويحتمل أن يريد بهذه المقالة أن صلاته ونسكه
وحياته وموته بيد الله عز وجل، يصرفه في جميع ذلك كيف شاء،
وأنه قد هداه من ذلك إلى صراط مستقيم، ويكون قوله بِذلِكَ
أُمِرْتُ على هذا التأويل راجعا إلى قوله لا شَرِيكَ لَهُ فقط
أو راجعا إلى القول الأول وعلى التأويل الأول يرجع على جميع ما
ذكر من صلاة وغيرها، أي أمرت بأن أقصد وجه الله عز وجل في ذلك
وأن التزم العمل، وقرأ جمهور الناس: «ونسكي» بضم السين، وقرأ
أبو حيوة والحسن بإسكان السين، وقالت فرقة «النسك» في هذه
الآية الذبائح.
قال القاضي أبو محمد: ويحسن تخصيص الذبيحة بالذكر في هذه الآية
أنها نازلة قد تقدم ذكرها والجدل فيها في السورة، وقالت فرقة:
«النسك» في هذه الآية جميع أعمال الطاعات من قولك نسك فلان فهو
ناسك إذا تعبد، وقرأ السبعة سوى نافع و «محياي ومماتي» بفتح
الياء من «محياي» وسكونها من «مماتي» ، وقرأ نافع وحده و
«محياي» بسكون الياء من «محياي» ، قال أبو علي الفارسي وهي
شاذة في القياس لأنها جمعت بين ساكنين، وشاذة في الاستعمال
ووجهها أنه قد سمع من العرب التقت حلقتا البطان ولفلان ثلثا
المال، وروى أبو خليد عن نافع و «محياي» بكسر الياء، وقرأ ابن
أبي إسحاق وعيسى والجحدري و «محيي» ، وهذه لغة هذيل ومنه قول
أبي ذؤيب:
(2/369)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ
أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ
بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ
رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم ... فتصرعوا
ولكل جنب مصرع
وقرأ عيسى بن عمر «صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي» بفتح الياء فيهن
وروي ذلك عن عاصم. وقوله تعالى: وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ أي من هذه الأمة، وقال النقاش من أهل مكة.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى واحد بل الأول أعم وأحسن وقرأت
فرقة «وأنا» بإشباع الألف وجمهور القراء على القراءة «وأنا»
دون إشباع، وهذا كله في الوصل.
قال القاضي أبو محمد: وترك الإشباع أحسن لأنها ألف وقف فإذا
اتصل الكلام استغنى عنها لا سيما إذا وليتها همزة.
قوله عز وجل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 164 الى 165]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ
شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا
تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ
مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ
الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ
لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ
الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
حكى النقاش أنه روي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:
ارجع يا محمد إلى ديننا واعبد آلهتنا واترك ما أنت عليه ونحن
نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك، فنزلت هذه الآية،
وهي استفهام يقتضي التقرير والتوقيف والتوبيخ، وأَبْغِي معناه
أطلب، فكأنه قال: أفيحسن عندكم أن أطلب إلها غير الله الذي هو
رب كل شيء؟ وما ذكرتم من كفالتكم لا يتم لأن الأمر ليس كما
تظنونه، وإنما كسب كل نفس من الشر والإثم عليها وحدها وَلا
تَزِرُ أي لا تحمل وازرة أي حاملة حمل أخرى وثقلها، والوزر
أصله الثقل، ثم استعمل في الإثم لأنه ينقض الظهر تجوزا
واستعارة، يقال منه: وزر الرجل يزر فهو وازر ووزر يوزر فهو
موزور، وقوله ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ تهديد ووعيد
فَيُنَبِّئُكُمْ أي فيعلمكم أن العقاب على الاعوجاج تبيين
لموضع لحق، وقوله بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يريد على
ما حكى بعض المتأولين من أمري في قول بعضكم هو ساحر وبعضكم هو
شاعر. وبعضكم افتراه، وبعضكم اكتتبه ونحو هذا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل يحسن في هذا الموضع وإن كان
اللفظ يعم جميع أنواع الاختلافات من الأديان والملل والمذاهب
وغير ذلك، وخَلائِفَ جمع خليفة أي يخلف بعضكم بعضا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يتصور في جميع الأمم وسائر أصناف
الناس، لأن من أتى خليفة لمن مضى ولكنه يحسن في أمة محمد عليه
السلام أن يسمى أهلها بجملتهم خلائف للأمم، وليس لهم من يخلفهم
إذ هم آخر الأمم وعليهم قيام الساعة.
وروى الحسن بن أبي الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
توفون سبعين أمة أنتم خيرها
(2/370)
وأكرمها على الله، ويروى أنتم آخرها
وأكرمها على الله: وقوله وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجاتٍ لفظ عام في المال والقوة والجاه وجودة النفوس
والأذهان وغير ذلك، وكل ذلك إنما هو ليختبر الله تعالى الخلق
فيرى المحسن من المسيء، ولما أخبر عز وجل بهذا ففسح للناس
ميدان العمل وحضهم على الاستباق إلى الخير توعّد ووعد تخويفا
منه وترجية، فقال إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وسرعة عقابه
إما بأخذاته في الدنيا، وإما بعقاب الآخرة، وحسن أن يوصف عقاب
الآخرة ب سَرِيعُ لما كان متحققا مضمون الإتيان والوقوع، فكل
آت يحكم عليه بالقرب ويوصف به وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
ترجية لمن أذنب وأراد التوبة، وهذا في كتاب الله كثير اقتران
الوعيد بالوعد لطفا من الله تعالى بعباده.
(2/371)
|