تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)

بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما

سورة الأعراف
وهي مكية كلها قاله الضحاك وغيره، وقال مقاتل هي مكية إلا قوله وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ [الأعراف: 163] إلى قوله: مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف: 172] فإن هذه الآيات مدنية.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)
تقدم القول في تفسير الحروف المقطعة التي في أوائل السور وذكر اختلاف المتأولين فيها، ويختص هذا الموضع زائدا على تلك الأقوال بما قاله السدي: إن المص هجاء اسم الله هو المصور، وبقول زيد بن علي إن معناه أنا الله الفاصل.
وقوله تعالى: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ الآية، قال الفراء وغيره كِتابٌ رفع على الخبر للحروف، كأنه قال هذه الحروف كتاب أنزل إليك، ورد الزجّاج على هذا القول بما لا طائل فيه، وقال غيره: كِتابٌ رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذا كتاب وأُنْزِلَ إِلَيْكَ في موضع الصفة ل كِتابٌ، ثم نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبرم أو يستصحب من هذا الكتاب أو بسبب من أسبابه حرجا، ولفظ النهي هو للحرج ومعناه للنبي عليه السلام، وأصل الحرج الضيق، ومنه الحرجة الشجر الملتف الذي قد تضايق، و «الحرج» هاهنا يعم الشك والخوف والهم وكل ما يضيق الصدر، وبحسب سبب الحرج يفسر الحرج هاهنا، وتفسيره بالشك قلق، والضمير في مِنْهُ عائد على الكتاب أي بسبب من أسبابه، و «من» هاهنا لابتداء الغاية، وقيل يعود على التبليغ الذي يتضمنه معنى الآية، وقيل على الابتداء.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التخصيص كله لا وجه له إذ اللفظ يعم الجهات التي هي من سبب الكتاب ولأجله وذلك يستغرق التبليغ والإنذار وتعرض المشركين وتكذيب المكذبين وغير ذلك.
وقوله تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ اعتراض في أثناء الكلام، ولذلك قال بعض الناس إن فيه تقديما وتأخيرا، وقوله لِتُنْذِرَ اللام متعلقة ب أُنْزِلَ. وقوله وَذِكْرى معناه تذكرة وإرشاد، وذِكْرى في موضع رفع عطفا على قوله كِتابٌ. فالتقدير هذه الحروف كتاب وذكرى، وقيل رفعه على جهة العطف على صفة الكتاب فالتقدير هذه الحروف كتاب منزل إليك وذكرى، فهي عطف على منزل

(2/372)


وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)

داخلة في صفة الكتاب، وقيل ذِكْرى في موضع نصب بفعل مضمر تقديره لتنذر به وتذكر ذكرى للمؤمنين، وقيل نصبها على المصدر وقيل ذِكْرى في موضع خفض عطفا على قوله لِتُنْذِرَ أي لإنذارك وذكرى.
وقوله تعالى: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ الآية، قال الطبري وحكاه: التقدير قل اتبعوا، فحذف القول لدلالة الإنذار المتقدم الذكر عليه، وقالت فرقة قوله اتبعوا أمر يعم النبي صلى الله عليه وسلم وأمته.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن يكون أمرا لجميع الناس أي اتبعوا ملة الإسلام والقرآن، وقرأ الجحدري «ابتغوا ما أنزل» ، من الابتغاء، وقرأ مجاهد «ولا تبتغوا» من الابتغاء أيضا، وقوله أَوْلِياءَ، يريد كل ما عبد واتبع من دون الله كالأصنام والأحبار والكهان والنار والكواكب وغير ذلك، والضمير في قوله مِنْ دُونِهِ راجع على رَبِّكُمْ، هذا أظهر وجوهه وأبينها، وقيل يعود على قوله اتَّبِعُوا ما، وقيل يعود على الكتاب المتقدم الذكر، وقَلِيلًا نعت لمصدر نصب بفعل مضمر، وقال مكي هو منصوب بالفعل الذي بعده، قال الفارسي وما في قوله ما تَذَكَّرُونَ موصولة بالفعل وهي مصدرية، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «تذكّرون» بتشديد الذال والكاف، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «تذكّرون» بتخفيف الذال وتشديد الكاف، وقرأ ابن عامر «يتذكرون» بالياء كناية عن غيب، وروي عنه أنه قرأ «تتذكرون» بتاءين على مخاطبة حاضرين.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 4 الى 7]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7)
كَمْ في موضع رفع بالابتداء والخبر أَهْلَكْناها، ويصح أن يكون الخبر في قوله فَجاءَها وأَهْلَكْناها صفة، ويصح أن تكون في موضع نصب بفعل مقدر بعدها تقديره وكم أهلكنا من قرية أهلكناها، وقدر الفعل بعدها- وهي خبرية- تشبيها لها بالاستفهامية في أن لها في كل حال صدر الكلام، وقالت فرقة المراد وكم من أهل قرية وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقام المضاف، وقالت فرقة إنما عبر بالقرية لأنها أعظم في العقوبة إذا هلك البشر وقريتهم، وقد بين في آخر الآية بقوله أَوْ هُمْ أن البشر داخلون في الهلاك، فالآية على هذا التأويل تتضمن هلاك القرية وأهلها جميعا، وعلى التأويل الأول تتضمن هلاك الأهل ولا معنى لذكر القرية، والمراد بالآية التكثير، وقرأ ابن أبي عبلة: «وكم من قرية أهلكناهم فجاءهم بأسنا» . وقوله فَجاءَها يقتضي ظاهره أن المجيء بعد الإهلاك، وذلك مستحيل فلم يبق إلا أن يعدل على ظاهر هذا التعقيب فقيل الفاء قد تجيء بمنزلة الواو ولا تعطى رتبة.

(2/373)


قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وقيل عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك، قال مكي في المشكل:
مثل قوله فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ [النحل: 98] .
قال القاضي أبو محمد: وهذا يحتج به في تأويل من قال الفاء في هذه الآية لتعقيب القول، وقيل المعنى «أهلكناها» بالخذلان وقلة التوفيق فجاءها بأسنا بعد ذلك، وقال الفراء وحكاه الطبري أن الإهلاك هو مجيء البأس ومجيء البأس هو الإهلاك فلما تلازما لم يبال أيهما قدم في الرتبة، وقيل إن الفاء لترتيب القول فقط فكأنه أخبر عن قرى كثيرة أنه أهلكها ثم قال فكان من أمرها مجيء البأس.
وبَياتاً نصب على المصدر في موضع الحال، وقائِلُونَ من القائلة، وإنما خص وقتي الدعة والسكون لأن مجيء العذاب فيهما أفظع وأهول لما فيه من البغت والفجأة، وأَوْ في هذا الموضع كما تقول: الناس في فلان صنفان حامد أو ذام، فكأنه قال جاءهم بأسنا فرقتين بائتين أو قائلين، وهذا هو الذي يسمى اللف، وهو إجمال في اللفظ يفرقه ذهن المخاطب دون كلفة، والبأس: العذاب، وقيل: المراد أو وهم قائلون فكره اجتماع حرفي العطف فحذفت الواو وهذا تكلف لأن معنى اللف باق.
وقوله تعالى: فَما كانَ دَعْواهُمْ الآية، تبين في هذه الآية غاية البيان أن المراد في الآية قبلها أهل القرى، والدعوى في كلام العرب لمعنيين، أحدهما الدعاء قال الخليل: تقول اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين ومنه قول عز وجل: فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ [الأنبياء: 15] .
ومنه قول الشاعر [الطويل]
وإن مذلت رجلي دعوتك أشتفي ... بدعواك من مذل بها فيهون
والثاني الادعاء، فقال الطبري: هي في هذا الموضع يعني الدعاء.
قال القاضي أبو محمد: ويتوجه أن يكون أيضا بمعنى الادعاء، لأن من ناله مكروه أو حزبه حادث فمن شأنه أن يدعو كما ذهب إليه المفسرون في فعل هؤلاء المذكورين في هذه الآية، ومن شأنه أيضا أن يدعي معاذير وأشياء تحسن حاله وتقيم حجته في زعمه، فيتجه أن يكون هؤلاء بحال من يدعي معاذير ونحوها، فأخبر الله عنهم أنهم لم تكن لهم دعوى ثم استثنى من غير الأول، كأنه قال لم يكن دعاء أو ادعاء إلا الإقرار والاعتراف، أي هذا كان بدل الدعاء أو الادعاء، وتحتمل الآية أن يكون المعنى فما آلت دعواهم التي كانت في حال كفرهم إلا إلى اعتراف، ونحو من الآية قول الشاعر: [الفرزدق]
وقد شهدت قيس فما كان نصرها ... قتيبة إلا عضها بالأباهم
واعترافهم وقولهم إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ هو في المدة بين ظهور العذاب إلى إتيانه على أنفسهم، وفي ذلك مهلة بحسب نوع العذاب تتسع لهذه المقالة وغيرها، وروى ابن مسعود عن النبي عليه السلام أنه قال «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم» . وفسر عبد الملك بن ميسرة هذا الحديث بهذه الآية. ودَعْواهُمْ خبر كان، واسمها إِلَّا أَنْ قالُوا وقيل بالعكس.
وقوله تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ الآية وعيد من الله عز وجل لجميع العالم، أخبر أنه

(2/374)


وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)

يسأل الأمم أجمع عما بلغ إليهم عنه وعن جميع أعمالهم ويسأل النبيين عما بلغوا.
قال القاضي أبو محمد: وقد نفي السؤال في آيات وذلك هو سؤال الاستفهام الحقيقي وقد أثبت في آيات كهذه الآية وهذا هو سؤال التقرير، فإن الله قد أحاط علما بكل ذلك قبل السؤال فأما الأنبياء والمؤمنون فيعقبهم جوابهم رحمة وكرامة، وأما الكفار ومن نفذ عليه الوعيد من العصاة فيعقبهم جوابهم عذابا وتوبيخا، فمن أنكر منهم قص عليه بعلم، وقرأ ابن مسعود وابن عباس «فلنسألن الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا ولنسألن المرسلين» .
وقوله تعالى: فَلَنَقُصَّنَّ أي فلنسردن عليهم أعمالهم قصة قصة، بِعِلْمٍ أي بحقيقة ويقين، قال ابن عباس: يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون.
قال القاضي أبو محمد: يشبه أن يكون الكلام هنا استعارة إذ كل شيء فيه مقيد، وَما كُنَّا غائِبِينَ أي ما كنا من لا يعلم جميع تصرفاتهم كالغائب عن الشيء الذي لا يعرف له حالا.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 8 الى 9]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)
الْوَزْنُ مصدر وزن يزن، ورفعه بالابتداء والْحَقُّ خبره، ويَوْمَئِذٍ ظرف منتصب ب الْوَزْنُ ويصح أن يكون يَوْمَئِذٍ خبر الابتداء، والْحَقُّ نعت ل الْوَزْنُ والتقدير الوزن الحق ثابت أو ظاهر يومئذ، ويَوْمَئِذٍ إشارة إلى يوم القيامة والفصل بين الخلائق، واختلف الناس في معنى الوزن والموازين فقالت فرقة: إن الله عز وجل أراد أن يعلم عباده أن الحساب والنظر يوم القيامة هو في غاية التحرير ونهاية العدل فمثل لهم في ذلك بالوزن والميزان إذ لا يعرف البشر أمرا أكثر تحريرا منه، فاستعير للعدل وتحرير النظر لفظة الوزن والميزان كما استعار ذلك أبو طالب في قوله:
بميزان قسط لا يخس شعيرة ... له حاكم من نفسه غير عائل
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول أصح من الأول من جهات، أولها أن ظواهر كتاب الله عز وجل تقتضيه وحديث الرسول عليه السلام ينطق به، من ذلك: قوله لبعض الصحابة وقد قال له يا رسول الله أين أجدك في القيامة؟ فقال «اطلبني عند الحوض فإن لم تجدني فعند الميزان» ، ولو لم يكن الميزان مرئيا محسوسا لما أحاله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطلب عنده، وجهة أخرى أن النظر في الميزان والوزن والثقل والخفة المقترنات بالحساب لا يفسد شيء منه ولا تختل صحته، وإذا كان الأمر كذلك فلم نخرج من حقيقة اللفظ إلى مجازه دون علة؟ وجهة ثالثة وهي أن القول في الميزان هو من عقائد الشرع الذي لم يعرف إلا سمعا، وإن فتحنا فيه باب المجاز غمرتنا أقوال الملحدة والزنادقة في أن الميزان والصراط والجنة والنار والحشر ونحو ذلك إنما هي ألفاظ يراد بها غير الظاهر.

(2/375)


وروي هذا القول عن مجاهد والضحاك وغيره، وكذلك استعير على قولهم الثقل والخفة لكثرة الحسنات وقلتها، وقال جمهور الأمة: إن الله عز وجل أراد أن يعرض لعباده يوم القيامة تحرير النظر وغاية العدل بأمر قد عرفوه في الدنيا وعهدته أفهامهم، فميزان القيامة له عمود وكفتان على هيئة موازين الدنيا، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام، وقالوا: هذا الذي اقتضاه لفظ القرآن ولم يرده نظر.
قال القاضي أبو محمد: فينبغي أن يجري في هذه الألفاظ إلى حملها على حقائقها، وأما «الثقل» و «الخفة» فإن الآثار تظاهرت بأن صحائف الحسنات والسيئات توضع في كفتي الميزان فيحدث الله في الجهة التي يريد ثقلا وخفة على نحو إحداثه ذلك في جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت نزول الوحي عليه، ففي الصحيح من حديث زيد بن ثابت أنه قال: كنت أكتب حتى نزلت غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النساء:
95] وفخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي حتى كادت أن ترض فخذي، وفي الحديث أنه كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته بركت به عجزا عن حمله لثقل الحادث فيه، ولا بد لنا أن نعلم أن الثقل الحادث مع الحسنات إنما يتعلق بجسم، إذ العرض لا يقوم بالعرض، فجائز أن يحدث الثقل في الصحائف وهو أقربها إلى الظن، وجائز أن يحدث في ذلك من الأجسام المجاورة لتلك الحال، وإلى حدوثه في الصحائف ذهب أبو المعالي، ورويت في خبر الميزان آثار عن صحابة وتابعين في هيئته وطوله وأحواله لم تصح بالإسناد، فلم نر للإطالة بها وجها، وقال الحسن فيما روي عنه: بلغني أن لكل أحد يوم القيامة ميزانا على حدة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول مردود الناس على خلافه، وإنما لكل أحد وزن يختص به والميزان واحد، وروي عن مجاهد في قوله ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أن «الموازين» الحسنات نفسها.
قال القاضي أبو محمد: وجمع لفظ «الموازين» إذ في الميزان موزونات كثيرة فكأنه أراد التنبيه عليها بجمعه لفظ الميزان. والْمُفْلِحُونَ في اللغة المدركون لبغيتهم الناجحون في طلبهم ومنه قول عبيد:
[الرجز]
أفلح بما شئت فقد يبلغ بالض ... ضعف وقد يخدع الأريب
فأما قول الشاعر: [المنسرح]
والمسي والصبح لا فلاح معه
فقد قيل إنه بمعنى البقاء.
قال القاضي أبو محمد: والبقاء بلوغ بغية فالمعنيان متقاربان، ووزن الله تعالى أعمال العباد مع علمه بدقائق الأشياء وجلائلها نظير كتبه أعمالهم في صحائفهم واستنساخه ذلك ونظير استنطاقه جوارحهم بالشهادة عليهم إقامة للحجة وإيضاحا، فقد تقرر في الشرع أن كلمة التوحيد ترجح ميزان من وزنت في أعماله ولا بد، فإن قال قائل كيف تثقل موازين العصاة من المؤمنين بالتوحيد ويصح لهم حكم الفلاح ثم

(2/376)


وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)

تدخل طائفة منهم النار وذلك شقاء لا محالة؟ فقالت طائفة إنه توزن أعمالهم دون التوحيد فتخف الحسنات فيدخلون النار ثم عند إخراجهم يوزن التوحيد فتثقل الحسنات فيدخلون الجنة، وأيضا فمعرفة العاصي أنه غير مخلد فلاح وإن تقدمه شقاء على جهة التأديب.
وقوله تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ الآية، المعنى من خفت كفة حسناته فشالت، وخَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي بالهلاك والخلود في النار وتلك غاية الخسارة، وقوله: بِما كانُوا أي جزاء بذلك كما تقول أكرمتك بما أكرمتني، و «ما» في هذا الموضع مصدرية، و «الآيات» هنا البراهين والأوامر والنواهي ويَظْلِمُونَ أي يضعونها في غير مواضعها بالكفر والتكذيب.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
الخطاب لجميع الناس، والمراد أن النوع بجملته ممكن في الأرض، و «المعايش» جمع معيشة وهي لفظة تعم المأكول الذي يعاش به والتحرف الذي يؤدي إليه، وقرأ الجمهور «معايش» بكسر الياء دون همز، وقرأ الأعرج وغيره «معائش» بالهمز كمدائن وسفائن، ورواه خارجة عن نافع، وروي عن ورش «معايش» بإسكان الياء، فمن قرأ «معايش» بتصحيح الياء فهو الأصوب لأنها جمع معيشة وزنها مفعلة، ويحتمل أن تكون مفعلة بضم العين قالهما سيبويه، وقال الفراء مفعلة بفتح العين فالياء في معيشة أصلية وأعلت معيشة لموافقتها الفعل الذي هو يعيش في الياء أي في المتحرك والساكن، وصححت «معايش» في جمع التكسير لزوال الموافقة المذكورة في اللفظ ولأن التكسير معنى لا يكون في الفعل إنما تختص به الأسماء، ومن قرأ «معايش» فعلى التخفيف من «معايش» ، ومن قرأ «معائش» فأعلها فذلك غلط، وأما توجيهه فعلى تشبيه الأصل بالزائد لأن معيشة تشبه في اللفظ صحيفة فكما يقال صحائف قيل «معائش» ، وإنما همزت ياء صحائف ونظائرها مما الياء فيه زائدة لأنها لا أصل لها في الحركة وإنما وزنها فعلية ساكنة، فلما اضطر إلى تحريكها في الجمع بدلت بأجلد منها.
وقَلِيلًا نصب ب تَشْكُرُونَ، ويحتمل أن تكون ما زائدة، ويحتمل أن تكون مع الفعل بتأويل المصدر، قَلِيلًا نعت لمصدر محذوف تقديره شكرا قليلا شكركم، أو شكرا قليلا تشكرون.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ الآية، هذه الآية معناها التنبيه على موضع العبرة والتعجيب من غريب الصنعة وإسداء النعمة، فبدأ بالخلق الذي هو الإيجاد بعد العدم ثم بالتصوير في هذه البنية المخصوصة للبشر، وإلا فلم يعر المخلوق قط من صورة، واضطراب الناس في ترتيب هذه الآية لأن ظاهرها يقتضي أن الخلق والتصوير لبني آدم قبل القول للملائكة أن يسجدوا، وقد صححت الشريعة أن الأمر لم يكن كذلك، فقالت فرقة: المراد بقوله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ آدم بنفسه وإن كان الخطاب لبنيه، وذلك لما كان سبب وجود بنيه بما فعل فيه صح مع تجوز أن يقال إنه فعل في بنيه، وقال

(2/377)


قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)

مجاهد: المعنى وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ في صلب آدم وفي وقت استخراج ذرية آدم من ظهره أمثال الذر في صورة البشر.
قال القاضي أبو محمد: ويترتب في هذين القولين أن تكون ثُمَّ على بابها في الترتيب والمهلة، وقال عكرمة والأعمش: المراد خلقناكم في ظهور الآباء وصورناكم في بطون الأمهات. وقال ابن عباس والربيع بن أنس: أما خَلَقْناكُمْ فآدم وأما صَوَّرْناكُمْ فذريته في بطون الأمهات، وقاله قتادة والضحاك.
وقال معمر بن راشد من بعض أهل العلم: بل ذلك كله في بطون الأمهات، من خلق وتصوير.
قال القاضي أبو محمد: وقالت هذه الفرقة إن ثُمَّ لترتيب الأخبار بهذه الجمل لا لترتيب الجمل في أنفسها. وقال الأخفش ثُمَّ في هذه الآية بمعنى الواو، ورد عليه نحويو البصرة.
و «ملائكة» وزنه إما مفاعلة وإما معافلة بحسب الاشتقاق الذي قد مضى ذكره في سورة البقرة، وهنالك ذكرنا هيئة السجود والمراد به ومعنى إبليس وكيف كان قبل المعصية، وأما قوله في هذه الآية إِلَّا إِبْلِيسَ فقال الزجّاج هو استثناء ليس من الأول ولكن إبليس أمر بالسجود بدليل قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف: 12] وقال غير الزجّاج: الاستثناء من الأول لأنّا لو جعلناه منقطعا على قول من قال إن إبليس لم يكن من الملائكة لوجب أن إبليس لم يؤمر بالسجود، إلا أن يقول قائل هذه المقالة إن أمر إبليس كان بوجه آخر غير قوله: اسْجُدُوا وذلك بيّن الضعف. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «للملائكة اسجدوا» بضم الهاء وهي قراءة ضعيفة. ووجهها أنه حذف همزة اسْجُدُوا وألقى حركتها عن الهاء، وذلك لا يتجه لأنها همزة محذوفة مع جر الهاء بحركة، أي شيء يلغى والإلغاء إنما يكون في الوصل.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 12 الى 16]
قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
ما استفهام والمقصود به التوبيخ والتقريع، ولا في قوله «أن لا» قيل هي زائدة، والمعنى ما منعك أن تسجد وهي ك «لا» في قول الشاعر: [الطويل]
أبى جوده لا البخل واستعجلت به ... نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله
وهذا على أحد الأقوال في هذا البيت فقيل «لا» فيه زائدة. وقال الزجّاج: مفعولة والبخل بدل منها، وحكى الطبري عن يونس عن أبي عمرو بن العلاء: أن الرواية فيه لا البخل بخفض اللام لأن «لا» قد تتضمن جودا إذا قالها من أمر بمنع الحقوق والبخل عن الواجبات. ومن الأبيات التي جاءت لا فيها زائدة قول الشاعر: [الكامل]
افعنك لا برق كأنّ وميضه ... غاب تسنمه ضرام مثقب

(2/378)


وقيل في الآية ليست لا زائدة، وإنما المعنى ما منعك فأحوجك أن تسجد، وقيل: لما كان ما مَنَعَكَ بمعنى من أمرك ومن قال لك حسن أن يقول بعدها أَلَّا تَسْجُدَ.
قال القاضي أبو محمد: وجملة هذا الغرض أن يقدر في الكلام فعل يحسن حمل النفي عليه، كأنه قال ما أحوجك أو حملك أو اضطرك، وجواب إبليس اللعين ليس عما سئل عنه ولكنه جاء بكلام يتضمن الجواب والحجة عليه، فكأنه قال: منعني فضلي إذ أنا خير منه حين خلقتني من نار وخلقته من طين. وروي عن ابن عباس أنه قال: لا أسجد وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا، يقول إن النار أقوى من الطين وظن إبليس أن النار أفضل من الطين وليس كذلك بل هي في درجة واحدة من حيث هي جماد مخلوق، فلما ظن إبليس أن صعود النار وخفتها يقتضي فضلا على سكون الطين وبلادته قاس أن ما خلق منها أفضل مما خلق من الطين فأخطأ قياسه وذهب عليه أن الروح الذي نفخ في آدم ليس من طين، قال الطبري ذهب عليه ما في النار من الطيش والخفة والاضطراب، وفي الطين من الوقار والأناة والحمل والتثبت.
قال القاضي أبو محمد: وفي كلام الطبري نظر، وروي عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.
قال القاضي أبو محمد: قال الطبري يعنيان الخطأ ولا دليل من لفظهما عليه ولا يتأول عليهما إنكار القياس، وإنما خرج كلامهما نهيا عما كان في زمنهما من مقاييس الخوارج وغيرهم، فأرادا حمل الناس على الجادة.
وقوله تعالى: فَاهْبِطْ مِنْها الآية، أمر من الله عز وجل لإبليس بالهبوط في وقت عصيانه في السجود، فيظهر من هذا أنه إنما أهبط أولا وأخرج من الجنة وصار في السماء، لأن الأخبار تظاهرت أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجنة ثم أمر آخرا بالهبوط من السماء مع آدم وحواء والحية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله بحسب ألفاظ القصة والله أعلم. وقوله: فَما يَكُونُ لَكَ معناه فما يصح لك ولا يتم، وليس يقتضي هذا اللفظ أن التكبر له في غيرها على ما ذهب إليه بعض المعترضين، تضمنت الآية أن الله أخبر إبليس أن الكبرياء لا يتم له ولا يصح في الجنة مع نهيه له ولغيره عن الكبرياء في كل موضع وأما لو أخذنا فَما يَكُونُ على معنى فما يحسن وما يجمل كما تقول للرجل ما كان لك أن لا تصل قرابتك لغير معنى الإغلاظ على إبليس. وقوله: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ حكم عليه بضد المعصية التي عصى بها وهي الكبرياء فعوقب بالحمل عليه بخلاف شهوته وأمله، والصغار الذل قاله السدي.
ثم سأل إبليس ربه أن يؤخره إلى يوم البعث طمع أن لا يموت، إذ علم أن الموت ينقطع بعد البعث ومعنى أَنْظِرْنِي أخرني فأعطاه الله النظرة إلى يوم الوقت المعلوم، فقال أكثر الناس الوقت المعلوم هو النفخة الأولى في الصور التي يصعق لها من في السماوات ومن في الأرض من المخلوقين، وقالت فرقة بل أحاله على وقت معلوم عنده عز وجل يريد به يوم موت إبليس وحضور أجله دون أن يعين له ذلك، وإنما تركه في عماء الجهل به ليغمه ذلك ما عاش.

(2/379)


ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)

قال القاضي أبو محمد: وقال بعض أهل هذه المقالة: إن إبليس قتلته الملائكة يوم بدر ورووا في ذلك أثرا ضعيفا.
قال القاضي أبو محمد: والأول من هذه الأقوال أصح وأشهر في الشرع، ومعنى مِنَ الْمُنْظَرِينَ من الطائفة التي تأخرت أعمارها كثيرا حتى جاءت آجالها على اختلاف أوقاتها، فقد عم تلك الفرقة إنظار وإن لم يكونوا أحياء مدة الدهر.
وقوله: فَبِما يحتمل أن يريد به القسم كما تقول فبالله لأفعلن، ويحتمل أن يريد به معنى المجازاة كما تقول فبإكرامك يا زيد لأكرمنك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أليق المعاني بالقصة، ويحتمل أن يريد فمع إغوائك لي ومع ما أنا عليه من سوء الحال لأتجلدن ولأقعدن، ولا يعرض لمعنى المجازاة ويحتمل أن يريد بقوله فَبِما الاستفهام عن السبب في إغوائه، ثم قطع ذلك وابتدأ الإخبار عن قعوده لهم، وبهذا فسر الطبري أثناء لفظه وأَغْوَيْتَنِي قال الجمهور معناه أضللتني من الغي. وعلى هذا المعنى قال محمد بن كعب القرظي فيما حكى الطبري: قاتل الله القدرية لإبليس أعلم بالله منهم، يريد في أنه علم أن الله يهدي ويضل، وقال الحسن أَغْوَيْتَنِي لعنتني. وقيل معناه خيبتني.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله تفسير بأشياء لزمت إغواءه، وقالت فرقة أَغْوَيْتَنِي معناه أهلكتني، حكى ذلك الطبري، وقال: هو من قولك غوى الفصيل يغوي غوى إذا انقطع عنه اللبن فمات. وأنشد:
[الطويل]
معطّفة الأثناء ليس فصيلها ... برازئها درا ولا ميت غوى
قال: وقد حكي عن بعض طيىء: أصبح فلان غاويا أي مريضا، وقوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ يريد على صراطك وفي صراطك وحذف كما يفعل في الظروف، ونحوه قول الشاعر: [ساعدة بن جؤية] .
لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
وقال مجاهد: صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ يريد به الحق. وقال عون بن عبد الله: يريد طريق مكة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تخصيص ضعيف وإنما المعنى لأتعرضن لهم في طريق شرعك وعبادتك ومنهج النجاة فلأصدنهم عنه. ومنه قوله عليه السلام: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، نهاه عن الإسلام وقال تترك دين آبائك فعصاه فأسلم فنهاه عن الهجرة وقال تدع أهلك وبلدك فعصاه فهاجر، فنهاه عن الجهاد وقال تقتل وتترك ولدك فعصاه فجاهد فله الجنة» الحديث.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 17 الى 18]
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
هذا توكيد من إبليس في أنه يجد في إغواء بني آدم، وهذا لم يكن حتى علم إبليس أن الله يجعل في

(2/380)


الأرض خليفة وعلم أنه آدم وإلا فلا طريق له إلى علم أنسال آدم من ألفاظ هذه الآيات.
قال القاضي أبو محمد: ومقصد هذه الآية أن إبليس أخبر عن نفسه أنه يأتي إضلال بني آدم من كل جهة وعلى كل طريق يفسد عليه ما أمكنه من معتقده وينسيه صالح أعمال الآخرة ويغريه بقبيح أعمال الدنيا، فعبر ذلك بألفاظ تقتضي الإحاطة بهم، وفي اللفظ تجوز، وهذا قول جماعة من المفسرين. وقال ابن عباس فيما روي عنه: أراد بقوله مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الآخرة وَمِنْ خَلْفِهِمْ الدنيا وَعَنْ أَيْمانِهِمْ الحق، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ الباطل. وقال ابن عباس أيضا فيما روي عنه: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ هي الدنيا وَمِنْ خَلْفِهِمْ هي الآخرة وَعَنْ أَيْمانِهِمْ الحسنات وَعَنْ شَمائِلِهِمْ السيئات. وقال مجاهد: من «بين أيديهم وعن أيمانهم» : معناه حيث يبصرون «ومن خلفهم وعن شمائلهم» حيث لا يبصرون.
وقوله: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ خبر أن سعايته تفعل ذلك ظنا منه وتوهما في خلقة آدم حين رأى خلقته من أشياء مختلفة فعلم أنه ستكون لهم شيم تقتضي طاعته كالغل والحسد والشهوات ونحو ذلك، قال ابن عباس وقتادة: إلا أن إبليس لم يقبل أنه يأتي بني آدم من فوقهم ولا جعل الله له سبيلا إلى أن يحول بينهم وبين رحمة الله وعفوه ومنّه، وما ظنه إبليس صدقه الله عز وجل. ومنه قوله: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ: 20] فجعل أكثر العالم كفرة، ويبينه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: «يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم أخرج بعث النار، فيقول: يا رب وما بعث النار؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين وواحد إلى الجنة» . ونحوه مما يخص أمة محمد عليه السلام: «ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود» .
قال القاضي أبو محمد: وقوله كالشعرة يحتمل أن يريد شعرة واحدة وهو بعيد لأن تناسب الحديث الأول يرده، ويحتمل أن يريد الشعرة التي هي للجنس، والقصد أن يشبههم بثور أسود قد أنبتت في خلال سواده شعرة بيضاء، ويحتمل أن يريد اللمعة من الشعر الأبيض، وهذا فيه بعد، وشاكِرِينَ معناه مؤمنين لأن ابن آدم لا يشكر نعمة الله إلا بأن يؤمن، قاله ابن عباس وغيره.
وقوله تعالى: قالَ اخْرُجْ مِنْها الضمير في مِنْها عائد على الجنة ومَذْؤُماً معناه معيبا يقال ذأمه إذا عابه ومنه الذأم وهو العيب. وفي المثل: «لن تعدم لحسناء ذاما» ، أي عيبا، وسهلت فيه الهمزة، ومنه قول قيل حمير: أردت أن تذيمه فمدهته يريد فمدحته، وحكى الطبري أنه يروى هذا البيت: [الطويل]
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة ... فلمّا انجلت قطعت نفسي أذيمها
قال القاضي أبو محمد: والرواية المشهورة ألومها. ومن الشاهد في اللفظ قول الكميت: [الخفيف]
وهم الأقربون من كلّ خير ... وهم الأبعدون من كل ذام
ومن الشاهد في مدحور قول الشاعر: [الوافر]
ودحرت بني الحصيب إلى قديد ... وقد كانوا ذوي أشر وفخر
وقرأ الزهري وأبو جعفر والأعمش في هذه الآية «مذوما» على التسهيل، ومَدْحُوراً معناه مقصيا

(2/381)


وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)

مبعدا. وقرأت فرقة «لمن تبعك» بفتح اللام وهي على هذه لام القسم المخرجة الكلام من الشك إلى القسم، وقرأ عاصم الجحدري والأعمش «لمن تبعك» بكسر اللام، والمعنى لأجل من تبعك لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ فأدخله في الوعيد معهم بحكم هذه الكاف في مِنْكُمْ.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : آية 19]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
إذا أمر الإنسان بشيء هو متلبس به فإنما المقصد بذلك أن يستمر على حاله ويتمادى في هيئته.
وقوله تعالى لآدم اسْكُنْ هو من هذا الباب، وأكد الضمير الذي في قوله اسْكُنْ بقوله أَنْتَ وحينئذ جاز العطف عليه وهو ضمير لا يجوز إظهاره ولا يترتب، والعطف على الضمير الملفوظ به لا يجوز إلا بعد تأكيده كقولك قمت أنت وزيد لأن الضمير بمنزلة حرف من الفعل، وهذا الضمير الذي في اسْكُنْ أضعف من الملفوظ به فأحرى أن لا يصح العطف عليه إلا بعد التأكيد.
وقوله: فَكُلا هو من أكل فأصله أكلا فحذفت فاء الفعل لاجتماع المثلين واستغني عن الأخرى لما تحرك ما بعدها، وحسن أيضا حذف فاء الفعل لأنهم استثقلوا الحركة على حرف علة، وهذا باب كل فعل أوله همزة ووزنه فعل كأخذ وأمر ونحوه وكان القياس أن لا يحذف فاء الفعل ولكن ورد استعمالهم هكذا، ويقال قرب يقرب، وهذِهِ الشَّجَرَةَ الظاهر أنه أشار إلى شخص شجرة واحدة من نوع وأرادها.
ويحتمل أن يشير إلى شجرة معينة وهو يريد النوع بجملته، وعبر باسم الواحدة كما تقول أصاب الناس الدينار والدرهم وأنت تريد النوع.
قال القاضي أبو محمد: وعلى الاحتمالين فآدم عليه السلام إنما قصد في وقت معصية فعل ما نهي عنه قاله جمهور المتأولين، وبذلك أغواه إبليس لعنه الله بقوله إنك لم تنه إلا لئلا تخلد أو تكون ملكا، فيبطل بهذا قول من قال إن آدم إنما أخطأ متأولا بأن ظن النهي متعلقا بشخص شجرة فأكل من النوع فلم يعذر بالخطأ.
قال القاضي أبو محمد: وذلك أن هذا القائل إنما يفرض آدم معتقدا أن النهي إنما تعلق بشجرة معينة فكيف يقال له مع هذا الاعتقاد إنك لم تنه إلا لئلا تخلد ثم يقصد هو طلب الخلود في ارتكاب غير ما نهي عنه؟ ولا فرق بين أكله ما يعتقد أنه لم ينه عنه وبين أكله سائر المباحات له.
قال القاضي أبو محمد: والهاء الأخيرة في هذِهِ بدل من الياء في هذي أبدلت في الوقف ثم ثبتت في الوصل هاء حملا على الوقف، وليس في الكلام هاء تأنيث قبلها كسرة إلا «هذه» وقرأ ابن محيصن «هذي الشجرة» على الأصل، وقوله: فَتَكُونا نصب في جواب النهي.
قال القاضي أبو محمد: وتعلق الناس بهذه الآية في مسألة الحظر والإباحة، وذلك أن مسألة الحظر والإباحة تكلم الناس فيها على ضربين فأما الفقهاء فدعاهم إلى الكلام فيها أنه تنزل نوازل لا توجد منصوصة في كتاب الله عز وجل ولا في سنة نبيه ولا في إجماع. ويعتم وجه استقرائها من أحد هذه الثلاثة

(2/382)


وقياسها على ما فيها، فيرجع الناظر بعد ذلك ينظر على أي جهة يحملها من الإجازة والمنع، فقال بعضهم إذا نزل مثل هذا فنحمله على الحظر ونأخذ فيه بالشدة ونستبرىء لأنفسنا، إذ الله عز وجل قد بين لنا في كتابه جميع ما يجب بيانه، وأحل ما أراد تحليله، ولم يترك ذكر هذه النازلة إلا عن قصد فاجترامنا نحن عليها لا تقتضيه الشريعة، وقال بعضهم بل نحملها على الإباحة لأن الله عز وجل قد أكمل لنا ديننا وحرم علينا ما شاء تحريمه، ولم يهمل النص على نازلة إلا وقد تركها في جملة المباح، وبعيد أن يريد في شيء التحريم ولا يذكره لنا ويدعنا في عمى الجهالة به، فإنما نحملها على الإباحة حتى يطرأ الحظر، وقال بعضهم بل نحمل ذلك على الوقف أبدا ولا نحكم فيه بحظر ولا إباحة بل نطلب فيه النظر والقياس أبدا، وذلك أنّا نجد الله عز وجل يقول في كتابه حَرَّمَ عَلَيْكُمُ في مواضع، ويقول أُحِلَّ لَكُمْ في مواضع.
فدل ذلك على أن كل نازلة تحتاج إلى شرع وأمر، إما مخصوصا بها وإما مشتملا عليها وعلى غيرها، ولو كانت الأشياء على الحظر لما قال في شيء حرم عليكم ولو كانت على الإباحة لما قال في شيء أحل لكم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أبين الأقوال ولم يتعرض الفقهاء في هذه المسألة إلى النظر في تحسين العقل وتقبيحه، وإنما تمسكوا في أقوالهم هذه بأسباب الشريعة وذهبوا إلى انتزاع مذاهبهم منها، وأما الضرب الثاني من كلام الناس في الحظر والإباحة فإن المعتزلة ومن قال بقولهم إن العقل يحسن ويقبح نظروا في المسألة من هذه الجهة فقالوا نفرض زمنا لا شرع فيه أو رجلا نشأ في برية ولم يحس قط بشرع ولا بأمر ولا بنهي أو نقدر آدم عليه السلام وقت إهباطه إلى الأرض قد ترك وعقله قبل أن يؤمر وينهى كيف كانت الأشياء عليه أو كيف يقتضي العقل في الزمن والرجل المفروضين، فقال بعضهم الذي يحسن في العقل أن تكون محظورة كلها حتى يرد الإذن باستباحتها، وذلك أن استباحتها تعد على ملك الغير وإذا قبح ذلك في الشاهد فهو في حق الله أعظم حرمة، وذهب بعض هذه الفرقة إلى استثناء التنفس والحركة من هذا الحظر وقالوا إن هذه لا يمكن غيرها.
قال القاضي أبو محمد: ويمكن أن يقدر الاضطرار إليها إباحة لها، وقال بعضهم: بل يحسن في العقل أن تكون مباحة إذ التحكم في ملك الغير بوجه لا ضرر عليه فيه كالاستظلال بالجدران ونحوه مباح، فإذا كان هذا في الشاهد جائزا فهو في عظم قدر الله تعالى ووجوده أجوز، إذ لا ضرر في تصرفنا نحن في ملكه، ويتعلق بحقه شيء من ذلك، وقال أهل الحق والسنة في هذا النحو من النظر، بل الأمر في نفسه على الوقف ولا يوجب العقل تحسينا ولا تقبيحا بمجرده يدان به، ولا يتجه حكم الحسن والقبيح إلا بالشرع، وقال بعضهم: والعقل لم يخل قط من شرع، فلا معنى للخوض في هذه المسألة ولا لفرض ما لا يقع، وذهبوا إلى الاحتجاج بأن آدم عليه السلام قد توجهت عليه الأوامر والنواهي في الجنة، بقوله تعالى له حين جرى الروح في جسده فعطس: قل الحمد لله يا آدم، وبقوله: اسكن وكل ولا تقرب ونحو هذا، وقال القاضي ابن الباقلاني في التقريب والإرشاد: إن الفقهاء الذين قالوا بالحظر والإباحة لم يقصدوا الكون مع المعتزلة في غوايتهم، ولكنهم رأوا لهم كلاما ملفقا مموها فاستحسنوه دون أن يشعروا بما يؤول إليه من الفساد في القول بتحسين العقل وتقبيحه.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا الكلام حمل على فقهاء الشرع واستقصار لهم، والصواب أن لا

(2/383)


فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)

يظن بهم هذا الخلل وإنما التمسوا على نوازلهم تعليق حكم الحظر والإباحة من الشرع وهم مع ذلك لا يحمل عليهم أنهم يدفعون الحق في أن العقل لا يحسن ولا يقبح دون الشرع، وقد تقدم في سورة البقرة ذكر الاختلاف في الشجرة وتعيينها.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 20 الى 21]
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
«الوسوسة» الحديث في اختفاء همسا وسرارا من الصوت، والوسواس صوت الحلي فشبه الهمس به، وسمي إلقاء الشيطان في نفس ابن آدم وسوسة إذ هي أبلغ السرار وأخفاه، هذا حال الشيطان معنا الآن، وأما مع آدم فممكن أن تكون وسوسة بمجاورة خفية أو بإلقاء في نفس، ومن ذلك قول رؤية:
[الرجز]
وسوس يدعو جاهرا رب الفلق
فهذه عبارة عن كلام خفي، والشَّيْطانُ يراد به إبليس نفسه، واختلف نقلة القصص في صورة وسوسته فروي أنه كان يدخل إلى الجنة في فم الحية مستخفيا بزعمه فيتمكن من الوسوسة، وروي أن آدم وحواء كانا يخرجان خارج الجنة فيتمكن إبليس منهما، وروي أن الله أقدره على الإلقاء في أنفسهما فأغواهما وهو في الأرض.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف يرده لفظ القرآن، واللام في قوله لِيُبْدِيَ هي على قول كثير من المؤلفين لام الصيرورة والعاقبة، وهذا بحسب آدم وحواء وبحسب إبليس في هذه العقوبة المخصوصة لأنه لم يكن له علم بها فيقصدها.
قال القاضي أبو محمد: ويمكن أن تكون لام كي على بابها بحسب قصد إبليس إلى حط مرتبتهما وإلقائهما في العقوبة غير مخصصة، وما وُورِيَ معناه ما ستر، من قولك وارى يواري إذ ستر، وظاهر هذا اللفظ أنها مفاعلة من واحد، ويمكن أن تقدر من اثنين لأن الشيء الذي يوارى هو أيضا من جهة، وقرأ ابن وثاب «ما وري» بواو واحدة، وقال قوم: إن هذه اللفظة في هذه الآية مأخوذة من وراء.
قال القاضي أبو محمد: وهو قول يوهنه التصريف، و «السوأة» : الفرج والدبر، ويشبه أن يسمى بذلك لأن منظره يسوء، وقرأ الحسن ومجاهد من «سوّتهما» بالإفراد وتسهيل الهمزة وشد الواو، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والحسن والزهري: «من سوّاتهما» بتسهيل الهمزة وتشديد الواو وحكاها سيبويه لغة، قال أبو الفتح: ووجهها حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الواو، فيقولون سوة ومنهم من يشدد الواو، وقالت طائفة إن هذه العبارة إنما قصد بها أنهما كشفت لهما معانيهما وما يسوءهما ولم يقصد بها العورة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول كان اللفظ يحتمله إلا أن ذكر خصف الورق يرده إلا أن يقدر

(2/384)


فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)

الضمير في عَلَيْهِما [الآية: 22] عائدا على بدنيهما إذ تمزقت عنهما ثياب الجنة، فيصح القول المذكور.
وقوله تعالى: وَقالَ ما نَهاكُما الآية هذا القول الذي حكي عن إبليس يدخله من هذا التأويل ما دخل الوسوسة، فممكن أن يقول هذا مخاطبة وحوارا، وممكن أن يقولها إلقاء في النفس ووحيا وإِلَّا أَنْ تقديره عند سيبويه والبصريين إلا كراهية أن، وتقديره عند الكوفيين «إلا أن لا» على إضمار لا.
قال القاضي أبو محمد: ويرجح قول البصريين أن إضمار الأسماء أحسن من إضمار الحروف، وقرأ جمهور الناس «ملكين» بفتح اللام وقرأ ابن عباس ويحيى بن أبي كثير والضحاك «ملكين» بكسر اللام، ويؤيد هذه القراءة قوله في آية أخرى وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه: 120] .
قال القاضي أبو محمد: وقال بعض الناس: يخرج من هذه الألفاظ أن الملائكة أفضل من البشر وهي مسألة اختلف الناس فيها وتمسك كل فريق بظواهر من الشريعة والفضل بيد الله، وقال ابن فورك: لا حجة في هذه الآية لأنه يحتمل أن يريد ملكين في أن لا تكون لهما شهوة في طعام، وَقاسَمَهُما أي حلف لهما بالله وهي مفاعلة إذ قبول المحلوف له وإقباله على معنى اليمين كالقسم وتقريره وإن كان بادي الرأي يعطي أنها من واحد، ومثله قول الهذلي:
وقاسمها بالله جهدا لأنتم ... ألذ من السلوى إذا ما نشورها
وروي في القصص أن آدم قال في جملة اعتذاره: ما ظننت يا رب أن أحدا يحلف حانثا، فقال بعض العلماء خدع الشيطان آدم بالله عز وجل فانخدع، ونحن من خدعنا بالله عز وجل انخدعنا له، وروي نحوه عن قتادة، واللام في قوله لَكُما متعلقة بالناصحين، فقال بعض الناس مكي وغيره: ذلك على أن تكون الألف واللام لتعريف الجنس لا بمعنى الذي، لأنها إذا كانت بمعنى الذي كان قوله لَكُما داخلا في الصلة فلا يجوز تقديمه، وأظن أن أبا علي الفارسي خرج جواز تقديمه وهي بمعنى الذي، والظاهر أنه إن جعلت بمعنى الذي كانت اللام في قوله لَكُما متعلقة بمحذوف تقديره إني ناصح لكما من الناصحين، وقال أبو العالية في بعض القراءة «وقاسمهما بالله» .
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 22 الى 23]
فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ يريد فغرهما بقوله وخدعهما بمكره.
قال القاضي أبو محمد: ويشبه عندي أن يكون هذا استعارة من الرجل يدلي آخر من هوة بحبل قد أرم أو بسبب ضعيف يغتر به فإذا تدلى به وتورك عليه انقطع به فهلك، فيشبه الذي يغر بالكلام حتى يصدقه

(2/385)


فيقع في مصيبة بالذي يدلى في هوة بسبب ضعيف، وعلق حكم العقوبة بالذوق إذ هو أول الأكل وبه يرتكب النهي، وفي آية أخرى فَأَكَلا مِنْها [طه: 121] .
وقوله تعالى:
بَدَتْ قيل تخرقت عنهما ثياب الجنة وملابسها وتطايرت تبريا منهما، وقال وهب بن منبه كان عليهما نور يستر عورة كل واحد منهما فانقشع بالمعصية ذلك النور، وقال ابن عباس وقتادة: كان عليهما ظفر كاس فلما عصيا تقلص عنهما فبدت سوءاتهما وبقي منه على الأصابع قدر ما يتذكران به المعصية فيجددان الندم، وَطَفِقا معناه أخذا وجعلا وهو فعل لا يختص بوقت كبات وظل.
ويَخْصِفانِ معناه يلصقانها ويضمان بعضها إلى بعض، والمخصف الإشفى، وضم الورق بعضه إلى بعض أشبه بالخرز منه بالخياطة، وقرأ جمهور الناس «يخصفان» من خصف، وقرأ عبد الله بن بريدة «يخصّفان» من خصف بشد الصاد وقرأ الزهري «يخصفان» من أخصف، وقرأ الحسن فيما روى عنه محبوب: «يخصّفان» بفتح الياء والخاء وكسر الصاد وشدها، ورويت عن ابن بريدة وعن يعقوب، وأصلها يختصفان كما تقول سمعت الحديث واستمعته فأدغمت التاء في الصاد ونقلت حركتها إلى الخاء، وكذلك الأصل في القراءة بكسر الخاء بعد هذه، لكن لما سكنت التاء وأدغمت في الصاد اجتمع ساكنان فكسرت الخاء على عرف التقاء ساكنين، وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد «يخصّفان» بفتح الياء وكسر الخاء وكسر الصاد وشدها وقد تقدم تعليلها، قال ابن عباس: إن الورق الذي خصف منه ورق التين، وروى أبيّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن آدم عليه السلام كان يمشي في الجنة كأنه نخلة سحوق، فلما واقع المعصية وبدت له حاله فرّ على وجهه فأخذت شجرة بشعر رأسه يقال إنها الزيتونة فقال لها: أرسليني فقالت ما أنا بمرسلتك، فناداه ربه أمني تفر يا آدم؟ قال لا يا رب، ولكن أستحييك، قال أما كان لك فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك؟ قال بلى يا رب، ولكن وعزتك ما ظننت أن أحدا يحلف بك كاذبا، قال فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدّا.
وقوله تعالى:
وَناداهُما الآية، قال الجمهور إن هذا النداء نداء وحي بواسطة، ويؤيد ذلك أنّا نتلقى من الشرع ان موسى عليه السلام هو الذي خصص بين العالم بالكلام، وأيضا ففي حديث الشفاعة أن بني آدم المؤمنين، يقولون لموسى يوم القيامة أنت خصك الله بكلامه واصطفاك برسالته اذهب فاشفع للناس، وهذا ظاهره أنه مخصص، وقالت فرقة بل هو نداء تكليم.
قال القاضي أبو محمد: وحجة هذا المذهب أنه وقع في أول ورقة من تاريخ ابن أبي خيثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن آدم فقال نبي مكلم، وأيضا فإن موسى خصص بين البشر الساكنين في الأرض وأما آدم إذ كان في الجنة فكان في غير رتبة سكان الأرض، فليس في تكليمه ما يفسد تخصيص موسى عليه السلام، ويؤيد أنه نداء وحي اشتراك حواء فيه، ولم يرو قط أن الله عز وجل كلم حواء، ويتأول قوله عليه السلام «نبي مكلّم» أنه بمعنى موصل إليه كلام الله تعالى، وقوله عز وجل أَلَمْ أَنْهَكُما سؤال

(2/386)


قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)

تقرير يتضمن التوبيخ، وقوله تِلْكُمَا يؤيد بحسب ظاهر اللفظ أنه إنما أشار إلى شخص شجرة، وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ إشارة إلى الآية التي في سورة طه في قوله فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [طه: 117] .
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو العهد الذي نسيه آدم على مذهب من يجعل النسيان على بابه، وقرأ أبيّ بن كعب «ألم تنهيا عن تلكما الشجرة وقيل لكما» ، وقولهما رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا اعتراف من آدم وحواء عليهما السلام وطلب للتوبة والستر والتغمد بالرحمة، فطلب آدم هذا وطلب إبليس النظرة ولم يطلب التوبة فوكل إلى رأيه، قال الضحاك هذه الآية هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 24 الى 26]
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
المخاطبة بقوله: اهْبِطُوا قال أبو صالح والسدي والطبري وغيرهم: هي لآدم وحواء وإبليس والحية، وقالت فرقة: هي مخاطبة لآدم وذريته وإبليس وذريته.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لعدمهم في ذلك الوقت، فإن قيل خاطبهم وأمرهم بشرط الوجود فذلك يبعد في هذه النازلة لأن الأمر بشرط الوجود إنما يصح إذا ترتب على المأمور بعد وجوده وصح معناه عليه كالصلاة والصوم ونحو ذلك، وأما هنا فإن معنى الهبوط لا يتصور في بني آدم بعد وجودهم ولا يتعلق بهم من الأمر به شيء، وأما قوله في آية أخرى اهْبِطا [طه: 123] فهي مخاطبة لآدم وإبليس بدليل بيانه العداوة بينهما، وعدو فرد بمعنى الجمع، تقول قوم عدو وقوم صديق. ومنه قول الشاعر:
لعمري لئن كنتم على النأي والغنى ... بكم مثل ما بي إنكم لصديق
وعداوة الحياة معروفة، وروى قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما سالمناهن منذ حاربناهن» ، وقال عبد الله بن عمر: «من تركهن فليس منا» ، وقالت عائشة «من ترك حية خشية من ثأرها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» .
قال القاضي أبو محمد: وإنما يعرض في أمرهن حديث الفتى في غزوة الخندق، وقول النبي عليه السلام: إن جنا بالمدينة قد أسلموا فمن رأى من هذه الحيات شيئا في بيته فليحرج عليه ثلاثا فإن رآه بعد ذلك فليقتله فإنما هو كافر.
وقوله تعالى، مُسْتَقَرٌّ لفظ عام لزمن الحياة ولزمن الإقامة في القبور، وبزمن الحياة فسر أبو العالية وقال: هي كقوله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: 22] وبالإقامة في القبور فسر ابن عباس واللفظ يعمهما فهي كقوله: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً [المرسلات: 25] وأما «المتاع» فهو بحسب

(2/387)


شخص شخص، في زمن الحياة اللهم إلا أن يقدر سكنى القبر متاعا بوجه ما، و «المتاع» التمتع والنيل من الفوائد، وإِلى حِينٍ هو بحسب الجملة قيام الساعة، وبحسب مفرد بلوغ الأجل والموت، والحين في كلام العرب الوقت غير معين.
وروي أن آدم عليه السلام أهبط بالهند وحواء بجدة، وتمناها بمنى، وعرف حقيقة أمرها بعرفة، ولقيها بجمع وأهبط إبليس بميسان وقيل بالبصرة وقيل بمصر فباض فيها وفرخ، قال ابن عمر وبسط إبليس فيها عبقريه، وذكر صالح مولى التؤمة قال في بعض الكتب لما أهبط إبليس قال رب أين مسكني؟ قال مسكنك الحمام ومجلسك الأسواق ولهوك المزامير وطعامك ما لم يذكر عليه اسمي وشرابك المسكر، ورسلك الشهوات وحبائلك النساء. وأهبطت الحية بأصبهان.
وروي أنها كانت ذات قوائم كالبعير فعوقبت بأن ردت تنساب على بطنها، وروي أن آدم لما أهبط إلى شقاء الدنيا علم صنعة الحديد ثم علم الحرث فحرث وسقى وحصد وذرا وطحن وعجن وخبز وطبخ وأكل فلم يبلغ إلى ذلك حتى بلغ من الجهد ما شاء الله، وروي أن حواء قيل لها يا حواء كما دميت الشجرة فأنت تدمين في كل شهر وأنت لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها، قال فرنت عند ذلك فقيل لها الرنة عليك وعلى ولدك.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذه القصة من الأنباء كثير اختصرتها إذ لا يقتضيها اللفظ.
وقوله تعالى: فِيها تَحْيَوْنَ الآية، حكم من الله عز وجل أمضاه وجعله حتما في رقاب العباد يحيون في الأرض ويموتون فيها ويبعثون منها إلى الحشر أحياء كما أنشأ أول خلق يعيده، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو «تخرجون» بضم التاء وفتح الراء هنا، وفي الروم وكَذلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آياتِهِ [الآية: 19] وكذلك حيث تكرر إلا في الروم إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الآية: 25] وفي سأل سائل يَوْمَ يَخْرُجُونَ [الآية: 43] فإن هذين بفتح التاء والياء وضم الراء، ولم يختلف الناس فيهما، وقرأ حمزة والكسائي في الأعراف وَمِنْها تُخْرَجُونَ [الآية: 25] بفتح التاء وضم الراء وفتح ابن عامر التاء في الأعراف وضمها في الباقي.
وقوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ الآية، هذا خطاب لجميع الأمم وقت النبي عليه السلام والسبب والمراد قريش ومن كان من العرب يتعرى في طوافه بالبيت، ذكر النقاش ثقيفا وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج وعامرا والحارث ابني عبد مناف فإنها كانت عادتهم رجالا ونساء، وذلك غاية العار والعصيان، قال مجاهد ففيهم نزلت هذه الأربع الآيات، وقوله: أَنْزَلْنا يحتمل أن يريد التدريج أي لما أنزلنا المطر فكان عنه جميع ما يلبس، قال عن اللباس أنزلنا، وهذا نحو قول الشاعر يصف مطرا.
أقبل في المستن من سحابه ... اسنمة الآبال في ربابه
أي بالمال ويحتمل أن يريد خلقنا فجاءت العبارة ب أَنْزَلْنا كقوله وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ [الحديد: 25] وقوله: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: 6] وأيضا فخلق الله عز وجل وأفعاله إنما هي من علو في القدر والمنزلة، ولِباساً عام في جميع ما يلبس، ويُوارِي يستر، وفي حرف

(2/388)


أبيّ «سوءاتكم وزينة ولبس التقوى» ، وفي مصحف ابن مسعود «ولباس التقوى خير ذلكم» ، ويروى عنه ذلك، وسقطت «ذلك» الأولى، وقرأ سكن النحوي «ولبوس التقوى» بالواو مرفوعة السين، وقرأ الجمهور من الناس «وريشا» وقرأ الحسن وزر بن حبيش وعاصم فيما روى عنه أبو عمرو أيضا، وابن عباس وأبو عبد الرحمن ومجاهد وأبو رجاء وزيد بن علي وعلي بن الحسين وقتادة «ورياشا» ، قال أبو الفتح: وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو حاتم: رواها عنه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهما عبارتان عن سعة الرزق ورفاهية العيش ووجود الملبس والتمتع، وفسره قوم بالأثاث، وفسره ابن عباس بالمال، وكذلك قال السدي والضحاك، وقال ابن زيد «الريش» الجمال، وقيل «الرياش» جمع ريش كبير وبئار وذيب وذياب ولصب ولصاب وشعب وشعاب وقيل الرياش مصدر من أراشه الله يريشه إذا أنعم عليه، والريش مصدر أيضا من ذلك وفي الحديث «رجل راشه الله مالا» .
قال القاضي أبو محمد: ويشبه ان هذا كله من معنى ريش الطائر وريش السهم إذ هو لباسه وسترته وعونه على النفوذ، وراش الله مأخوذ من ذلك، ألا ترى أنها تقرن ببرى ومن ذلك قول الشاعر: [لعمير بن حباب]
فرشني بخير طال ما قد بريتني ... وخير الموالي من يريش ولا يبري
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي «ولباس» بالنصب عطفا على ما تقدم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة «ولباس» بالرفع فقيل هو خبر ابتداء مضمر تقديره وهو لباس، وقيل هو مبتدأ وذلِكَ مبتدأ آخر وخَيْرٌ خبر ذلِكَ، والجملة خبر الأول، وقيل هو مبتدأ وخَيْرٌ خبره وذلِكَ بدل أو عطف بيان أو صفة، وهذا أنبل الأقوال ذكره أبو علي في الحجة.
وقوله: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ إشارة إلى جميع ما أنزل من اللباس والريش، وحكى النقاش أن الإشارة إلى لباس التقوى أي هو في العبد آية علامة وأمارة من الله أنه قد رضي عنه ورحمه، ولَعَلَّهُمْ ترج بحسبهم ومبلغهم من المعرفة وقال ابن جريج لِباسُ التَّقْوى الإيمان، وقال معبد الجهني: هو الحياء، وقال ابن عباس هو العمل الصالح، وقال أيضا، هو السمت الحسن في الوجه، وقاله عثمان بن عفان على المنبر، وقال عروة بن الزبير هو خشية الله، وقال ابن زيد هو ستر العورة، وقيل لِباسُ التَّقْوى الصوف وكل ما فيه تواضع لله عز وجل، وقال الحسن: هو الورع والسمت والحسن في الدنيا، وقال ابن عباس لِباسُ التَّقْوى العفة، وقال زيد بن علي لِباسُ التَّقْوى السلاح وآلة الجهاد.
قال القاضي أبو محمد: وهذه كلها مثل وهي من لِباسُ التَّقْوى.
قال القاضي أبو محمد: وتتصور الصفة التي حكاها أبو علي في قوله: ذلِكَ لأن الأسماء توصف بمعنى الإشارة كما تقول جاءني زيد هذا كأنك قلت جاءني زيد المشار إليه فعلى هذا الحد توصف الأسماء بالمبهمات، وأما قوله فيه عطف بيان وبدل فهما واحد في اللفظ إنما الفرق بينهما في المعنى والمقصد، وذلك أنك تريد في البدل كأنك أزلت الأول وأعملت العامل في الثاني على نية تكرار العامل، وتريد في عطف البيان كأنك أبقيت الأول ثم ثنيته بعينه في ذكر الثاني وإنما يبين الفرق بين البدل وعطف البيان في

(2/389)


يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)

مسألة النداء إذا قلت يا عبد الله زيد فالبدل في هذه المسألة هو على هذا الحد برفع زيد لأنك تقدر إزالة عبد الله وإضافة «يا» إلى زيد ولو عطفت عطف البيان لقلت يا عبد الله زيد لأنك أردت بيانه ولم تقدر إزالة الأول وينشد هذا البيت: [الرجز]
اني وأسطار سطرن سطرا ... لقائل يا نصر نصرا نصرا
ويا نصر الأول على عطف البيان والثاني على البدل.
وقوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 27 الى 28]
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28)
هذه المخاطبة لجميع العالم والمقصود بها في ذلك الوقت من كان يطوف من العرب بالبيت عراة، فقيل كان ذلك من عادة قريش، وقال قتادة والضحاك: كان ذلك من عادة قبيلة من اليمن، وقيل كانت العرب تطوف عراة إلا الحمس وهم قريش ومن والاها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصحيح لأن قريشا لما سنوا بعد عام الفيل سننا عظموا بها حرمتهم كانت هذه من ذلك، فكان العربي إما أن يعيره أحد من الحمس ثوبا فيطوف فيه، وإما أن يطوف في ثيابه ثم يلقيها، وتمادى الأمر حتى صار عند العرب قربة فكانت العرب تقول نطوف عراة كما خرجنا من بطون أمهاتنا ولا نطوف في ثياب قد تدنسنا فيها بالذنوب، ومن طاف في ثيابه فكانت سنتهم كما ذكرنا أن يرمي تلك الثياب ولا يتتفع بها وتسمى تلك الثياب اللقى، ومنه قول الشاعر:
كفى حزنا كرّي عليه كأنه ... لقى بين أيدي الطائفين حريم
وكانت المرأة تطوف عريانة حتى كانت إحداهن تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أحله
فنهى الله عز وجل عن جميع ذلك ونودي بمكة في سنة تسع لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، و «الفتنة» في هذه الآية الاستهواء والغلبة على النفس، وظاهر قوله: لا يَفْتِنَنَّكُمُ نهي الشيطان، والمعنى نهيهم أنفسهم عن الاستماع له والطاعة لأمره كما قالوا لا أرينك هاهنا، فظاهر اللفظ نهي المتكلم نفسه، ومعناه نهي الآخر عن الإقامة بحيث يراه، وأضاف الإخراج في هذه الآية الى إبليس وذلك تجوز بسبب أنه كان ساعيا في ذلك ومسببا له، ويقال أب وللأم أبة، وعلى هذا قيل أبوان، ويَنْزِعُ في موضع الحال من الضمير في أَخْرَجَ، وتقدم الخلاف في «اللباس» من قول من قال الأظفار ومن قال النور

(2/390)


قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)

ومن قال ثياب الجنة، وقال مجاهد هي استعارة وإنما أراد لبسة التقى المنزلة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقوله: إِنَّهُ يَراكُمْ الآية، زيادة في التحذير وإعلام أن الله عز وجل قد مكن الشيطان من ابن آدم في هذا القدر وبحسب ذلك يجب أن يكون التحذر بطاعة الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد: والشيطان موجود قد قررته الشريعة وهو جسم، وَقَبِيلُهُ يريد نوعه وصنفه وذريته.
وحَيْثُ مبنية على الضم، ومن العرب من يبنيها على الفتح، وذلك لأنها تدل على موضع بعينه، قال الزجاج: ما بعدها صلة لها وليست بمضافة إليه، قال أبو علي: هذا غير مستقيم وليست حَيْثُ بموصولة إذ ليس ثم عائد كما في الموصولات، وهي مضافة إلى ما بعدها.
ثم أخبر عز وجل أنه صير «الشياطين أولياء» أي صحابة ومداخلين إلى الكفرة الذين لا إيمان لهم، وذكر الزهراوي أن جعل هنا بمعنى وصف.
قال القاضي أبو محمد: وهي نزعة اعتزالية.
وقوله وَإِذا فَعَلُوا وما بعده داخل في صفة الذين لا يؤمنون ليقع التوبيخ بصفة قوم جعلوا مثالا للموبخين إذا شبه فعلهم فعل الممثل بهم، ويصح أن تكون هذه الآية مقطوعة من التي قبلها ابتداء إخبار عن كفار العرب، و «الفاحشة» في هذه الآية وإن كان اللفظ عاما هي كشف العورة عند الطواف فقد روي عن الزهري أنه قال: إن في ذلك نزلت هذه الآية، وقاله ابن عباس ومجاهد، وكان قول بعض الكفار إن الله أمر بهذه السنن التي لنا وشرعها، فرد الله عليهم بقوله قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ثم وبخهم على كذبهم ووقفهم على قولهم ما لا علم لهم به ولا رواية لهم فيه بل هو دعوى واختلاق.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 29 الى 30]
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
تضمن قوله قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أقسطوا ولذلك عطف عليه قوله وَأَقِيمُوا حملا على المعنى، و «القسط» العدل والحق، واختلف المتأولون في قوله وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فقيل أراد إلى الكعبة قاله مجاهد والسدي والمقصد على هذا شرع القبلة والأمر بالتزامها، وقيل أراد الأمر بإحضار النية لله في كل صلاة والقصد نحوه كما تقول وجهت وجهي لله قاله الربيع.
قال القاضي أبو محمد: فلا يؤخذ الوجه على أنه الجارحة بل هو المقصد والمنزع، وقيل: المراد بهذا اللفظ إباحة الصلاة في كل موضع من الأرض، أي حيث ما كنتم فهو مسجد لكم تلزمكم عند الصلاة

(2/391)


يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)

إقامة وجهوكم فيه لله عز وجل، قال قوم: سببها أن قوما كانوا لا يصلون إلا في مساجدهم في قبلتهم، فإذا حضرت الصلاة في غير ذلك من المساجد لم يصلّوا فيها، وقوله مُخْلِصِينَ حال من الضمير في وَادْعُوهُ، والدِّينَ مفعول ب مُخْلِصِينَ.
قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وابن عباس ومجاهد: المراد بقوله: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ الإعلام بالبعث أي كما أوجدكم واخترعكم كذلك يعيدكم بعد الموت فالوقف على هذا التأويل تَعُودُونَ، وفَرِيقاً نصب ب هَدى، والثاني منصوب بفعل تقديره: وعذب فريقا أو أضل «فريقا حق عليهم» ، وقال ابن عباس أيضا وأبو العالية ومحمد بن كعب ومجاهد أيضا وسعيد بن جبير والسدي وجابر بن عبد الله وروي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم: المراد بقوله كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ الإعلام بأن أهل الشقاء والكفر في الدنيا الذين كتب عليهم هم أهل الشقاء في الآخرة وأهل السعادة والإيمان الذين كتب لهم في الدنيا هم أهلها في الآخرة لا يتبدل من الأمور التي أحكمها ودبرها وأنفذها شيء، فالوقف في هذا التأويل في قوله تَعُودُونَ غير حسن، وفَرِيقاً على هذا التأويل نصب على الحال والثاني عطف على الأول، وفي قراءة أبي بن كعب «تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة» ، والضمير في إِنَّهُمُ عائد على الفريق الذين حق عليهم الضلالة، وأَوْلِياءَ معناه: أنصارا وأصحابا وإخوانا، وَيَحْسَبُونَ معناه يظنون يقال: حسبت أحسب حسبانا وحسبا ومحسبة، قال الطبري:
وهذه الآية دليل على خطأ قول من زعم أن الله تعالى لا يعذب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها على علم منه بموضع الصواب، وقرأ العباس بن الفضل وسهل بن شعيب وعيسى بن عمر «أنهم اتخذوا» بفتح الألف.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 31 الى 32]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
هذا خطاب عام لجميع العالم وأمروا بهذه الأشياء بسبب عصيان حاضري ذلك الوقت من مشركي العرب فيها، والزينة هاهنا الثياب الساترة قاله مجاهد والسدي، وقال طاوس: الشملة من الزينة.
قال القاضي أبو محمد: ويدخل فيها ما كان من الطيب للجمعة والسواك وبدل الثياب وكل ما وجد استحسانه في الشريعة ولم يقصد به مستعمله الخيلاء، وعِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ عند كل موضع سجود فهي إشارة إلى الصلوات وستر العورة فيها هذا هو مهم الأمر، ويدخل مع الصلاة مواطن الخير كلها، ومع ستر العورة ما ذكرناه من الطيب للجمعة وغير ذلك، وذكر مكي حديثا أن معنى خُذُوا زِينَتَكُمْ صلوا في النعال، وما أحسبه يصح.
وقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا نهي عما كانوا التزموه من تحريم اللحم والودك في أيام الموسم،

(2/392)


قاله السدي وابن زيد، وتدخل مع ذلك أيضا البحيرة والسائبة ونحو ذلك، وقد نص على ذلك قتادة وقال إن البحيرة وما جانسها هي المراد بقوله تعالى: وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ، وقوله تعالى: وَلا تُسْرِفُوا معناه ولا تفرطوا، قال أهل التأويل: يريد ولا تسرفوا بأن تحرموا على أنفسكم ما لم يحرم الله عز وجل، قال ابن عباس: ليس في الحلال سرف إنما السرف في ارتكاب المعاصي.
قال القاضي أبو محمد: يريد في الحلال القصد، واللفظ يقتضي النهي عن السرف مطلقا فمن تلبس بفعل حرام فتأول تلبسه به حصل من المسرفين وتوجه النهي عليه، ومن تلبس بفعل مباح فإن مشى فيه على القصد وأوساط الأمور فحسن، وإن أفرط حتى دخل الضرر حصل أيضا من المسرفين وتوجه النهي عليه، مثل ذلك أن يفرط الإنسان في شراء ثياب ونحوها ويستنفد في ذلك جل ماله أو يعطي ماله أجمع ويكابد بعياله الفقر بعد ذلك ونحوه، فالله عز وجل لا يحب شيئا من هذا، وقد نهت الشريعة عنه، ولذلك وقف النبي عليه السلام بالموصي عند الثلث، وقال بعض العلماء: لو حط الناس إلى الربع لقول النبي عليه السلام «والثلث كثير» ، وقد قال ابن عباس في هذه الآية، أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة.
وأمر الله عز وجل نبيه عليه السلام أن يسألهم عمن حرم ما أحل الله على جهة التوبيخ والتقرير وليس يقتضي هذا السؤال جوابا، وإنما المراد منه التوقيف على سوء الفعل، وذكر بعض الناس أن السؤال والجواب جاء في هذه الآية من جهة واحدة وتخيل قوله: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا جوابا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نظر فاسد ليس ذلك بجواب السؤال ولا يقتضي هذا النوع من الأسئلة جوابا، وزِينَةَ اللَّهِ هي ما حسنته الشريعة وقررته. وزينة الدنيا هي كل ما اقتضته الشهوة وطلب العلو في الأرض كالمال والبنين وهي الزينة التي فضل الشرع عليها. وقوله: وَالطَّيِّباتِ قال الجمهور يريد المحللات. وقال الشافعي وغيره يريد المستلذات.
قال القاضي أبو محمد: إلا أن ذلك ولا بد يشترط فيه أن يكون من الحلال، وإنما قاد الشافعي إلى هذا تحريمه المستقذرات كالوزغ وغيرها فإنه يقول هي من الخبائث محرمة.
وقوله تعالى: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ.
قرأ نافع وحده «خالصة» بالرفع والباقون «خالصة» بالنصب، والآية تتأول على معنيين أحدهما أن يخبر أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصة يوم القيامة للمؤمنين في الدنيا، وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون، فقوله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلق ب آمَنُوا. وإلى هذا يشير تفسير سعيد بن جبير. فإنه قال قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ينتفعون بها في الدنيا ولا يتبعهم إثمها، وقوله «خالصة» بالرفع خبر هي، ولِلَّذِينَ تبيين للخلوص، ويصح أن يكون خالصة خبرا بعد خبر، ويَوْمَ الْقِيامَةِ يريد به وقت الحساب، وقرأ قتادة والكسائي «قل هي لمن آمن في الحياة الدنيا» ، والمعنى الثاني هو أن يخبر أن هذه الطيبات الموجودات هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا وإن كانت أيضا لغيرهم معهم وهي يوم القيامة خالصة لهم أي لا يشركهم أحد في استعمالها في الآخرة، وهذا قول ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد، فقوله: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا على هذا

(2/393)


قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)

التأويل متعلق بالمحذوف المقدر في قوله لِلَّذِينَ آمَنُوا كأنه قال هي خالصة أو ثابتة في الحياة الدنيا للذين آمنوا، و «خالصة» بالرفع خبر بعد خبر، أو خبر ابتداء مقدر تقديره: وهي خالصة يوم القيامة، ويَوْمَ الْقِيامَةِ يراد به استمرار الكون في الجنة، وأما من نصب «خالصة» فعلى الحال من الذكر الذي في قوله لِلَّذِينَ آمَنُوا، التقدير هي ثابتة أو مستقرة للذين آمنوا في حال خلوص لهم، والعامل فيها ما في اللام من معنى الفعل في قوله لِلَّذِينَ. وقال أبو علي في الحجة: ويصح أن يتعلق قوله: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بقوله حَرَّمَ ولا يصح أن يتعلق ب زِينَةَ لأنها مصدر قد وصف، ويصح أن يتعلق بقوله أَخْرَجَ لِعِبادِهِ ويجوز ذلك وإن فصل بين الصلة والموصول بقوله: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا لأن ذلك كلام يشد القصة وليس بأجنبي منها جدا كما جاء في قوله: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [يونس: 27] فقوله وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ معطوف على كَسَبُوا داخل في الصلة، والتعلق ب أَخْرَجَ هو قول الأخفش ويصح أن يتعلق بقوله: وَالطَّيِّباتِ. ويصح أن يتعلق بقوله: مِنَ الرِّزْقِ ويصح أن يتعلق بقوله آمَنُوا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الأخير هو أصح الأقوال على هذا التأويل الأول فيما رتبناه هنا. وأما على التأويل الآخر فيضعف معنى الآية هذه المتعلقات التي ذكر أبو علي وإنما يظهر أن يتعلق بالمحذوف المقدر في قوله لِلَّذِينَ آمَنُوا. وقوله تعالى: كَذلِكَ تقدير الكلام أي كما فصلنا هذه الأشياء المتقدمة الذكر فكذلك وعلى تلك الصورة نفصل الآيات أي نبين الأمارات والعلامات والهدايات لقوم لهم علم ينتفعون به، ونُفَصِّلُ معناه نقسم ونبين لأن بيان الأمور المشبهات إنما هو في تقسيمها بالفصول.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 33 الى 36]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)
لما تقدم إنكار ما حرمه الكفار بآرائهم، أتبعه ذكر ما حرم الله عز وجل وتقديره، والْفَواحِشَ ما فحش وشنع وأصله من القبح في المنظر، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل
ثم استعمل فيما ساء من الخلق وألفاظ الحرج والرفث، ومنه الحديث ليس بفاحش في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه قوله لسلمة بن سلامة بن وقش «أفحشت على الرجل» في حديث السير، ومنه قول الحزين في كثير عزة: [الطويل]
قصير القميص فاحش عند بيته

(2/394)


وكذلك استعمل فيما شنع وقبح في النفوس. والقبح والحسن في المعاني إنما يتلقى من جهة الشرع، والفاحش كذلك، فقوله هنا الْفَواحِشَ إنما هي إشارة إلى ما نص الشرع على تحريمه في مواضع أخر، فكل ما حرمه الشرع فهو فاحش وإن كان العقل لا ينكره كلباس الحرير والذهب للرجال ونحوه، وقوله: ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ يجمع النوع كله لأنه تقسيم لا يخرج عنه شيء، وهو لفظ عام في جميع الفواحش وذهب مجاهد إلى تخصيص ذلك بأن قال ما ظَهَرَ الطواف عريانا، والبواطن الزنى، وقيل غير هذا مما يأتي على طريق المثال، وما بدل من الفواحش وهو بدل بعض من كل، ومجموع القسمين يأتي بدل الشيء من الشيء وهو هو، وَالْإِثْمَ أيضا: لفظه عام لجميع الأفعال والأقوال التي يتعلق بمرتكبها إثم، هذا قول الجمهور، وقال بعض الناس: هي الخمر واحتج على ذلك بقول الشاعر: [الوافر]
شربت الإثم حتى طار عقلي
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول مردود لأن هذه السورة مكية ولم تعن الشريعة لتحريم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد لأن جماعة من الصحابة اصطحبوها يوم أحد وماتوا شهداء، وهي في أجوافهم، وأيضا فبيت الشعر يقال إنه مصنوع مختلق، وإن صح فهو على حذف مضاف، وكأن ظاهر القرآن على هذا القول أن تحريم الخمر من قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة: 219] وهو في هذه الآية قد حرم، فيأتي من هذا أن الخمر إثم والإثم محرم فالخمر محرمة.
قال القاضي أبو محمد: ولكن لا يصح هذا لأن قوله فِيهِما إِثْمٌ لفظ محتمل أن يراد به أنه يلحق الخمر من فساد العقل والافتراء وقتل النفس وغير ذلك آثام فكأنه قال في الخمر هذه الآثام أي هي بسببها ومعها وهذه الأشياء محرمة لا محالة، وخرجت الخمر من التحريم على هذا ولم يترتب القياس الذي ذهب إليه قائل ما ذكرناه، ويعضد هذا أنّا وجدنا الصحابة يشربون الخمر بعد نزول قوله قُلْ فِيهِما إِثْمٌ وفي بعض الأحاديث فتركها قوم للإثم الذي فيها وشربها قوم للمنافع، وإنما حرمت الخمر بظواهر القرآن ونصوص الأحاديث وإجماع الأمة.
وَالْبَغْيَ: التعدي وتجاوز الحد، كان الإنسان مبتديا بذلك أو منتصرا فإذا جاوز الحد في الانتصار فهو باغ، وقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ زيادة بيان وليس يتصور بغي بحق لأن ما كان بحق فلا يسمى بغيا، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً المراد بها الأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله. و «السلطان» البرهان والحجة، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من أنه حرم البحيرة والسائبة ونحوه.
وقوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ الآية، يتضمن الوعيد والتهديد. والمعنى ولكل أمة أي فرقة وجماعة، وهي لفظة تستعمل في الكثير من الناس، أجل مؤقت لمجيء العذاب إذا كفروا وخالفوا أمر ربهم، فأنتم أيتها الأمة كذلك قاله الطبري وغيره، وقرأ الحسن «فإذا جاء آجالهم» بالجمع. وهي قراءة ابن سيرين، قال أبو الفتح هذا هو الأظهر لأن لكل إنسان أجلا فأما الإفراد فلأنه جنس وإضافته إلى الجماعة حسنت الإفراد، ومثله قول الشاعر: [الرجز]
في حلقكم عظم وقد شجينا

(2/395)


وقوله: ساعَةً لفظ عين به الجزء القليل من الزمن، والمراد جميع أجزائه أي لا يستأخرون ساعة ولا أقل منها ولا أكثر، وهذا نحو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: 40] فإنما هي عبارة يقام الجزء فيها مقام الكل.
قال القاضي أبو محمد: وكأنه يظهر بين هذه الآية وبين قوله تعالى: وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [إبراهيم: 10، نوح: 4] تعارض لأن تلك تقتضي الوعد بتأخير إن آمنوا والوعيد بمعاجلة إن كفروا.
قال القاضي أبو محمد: والحق مذهب أهل السنة أن كل أحد إنما هو بأجل واحد لا يتأخر عنه ولا يتقدم. وقوم نوح كان منهم من سبق في علم الله تعالى أنه يكفر فيعاجل، وذلك هو أجله المحتوم، ومنه من يؤمن فيتأخر إلى أجله المحتوم وغيب عن نوح تعيين الطائفتين فندب الكل إلى طريق النجاة وهو يعلم أن الطائفة إنما تعاجل أو تؤخر بأجلها، فكأنه يقول: فإن آمنتم علمنا أنكم ممن قضى الله له بالإيمان والأجل المؤخر، وإن كفرتم علمنا أنكم ممن قضي له بالأجل المعجل والكفر.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا الحد هو دعاء محمد عليه السلام العالم إلى طريق الجنة، وقد علم أن منهم من يكفر فيدخل النار، وكذلك هو أمر الأسير يقال له إما أن تؤمن فتترك وإلا قتلت.
وقوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ الآية، الخطاب في هذه الآية لجميع العالم. و «إن» الشرطية دخلت عليها «ما» مؤكدة. ولذلك جاز دخول النون الثقيلة على الفعل، وإذا لم تكن «ما» لم يجز دخول النون الثقيلة. وقرأ أبي بن كعب والأعرج «تأتينكم» على لفظ الرسل. «وجاء يقصون» على المعنى. وكأنه هذا الخطاب لجميع الأمم قديمها وحديثها هو متمكن لهم ومتحصل منه لحاضري محمد عليه السلام أن هذا حكم الله في العالم منذ أنشأه. ويَأْتِيَنَّكُمْ مستقبل وضع موضع ماض ليفهم أن الإتيان باق وقت الخطاب لتقوى الإشارة بصحة النبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا على مراعاة وقت نزول الآية، وأسند الطبري إلى أبي سيار السلمي قال إن الله تعالى جعل آدم وذريته في كفه فقال يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ الآية، قال ثم نظر إلى الرسل فقال يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 52] ثم بثهم.
قال القاضي أبو محمد: ولا محالة أن هذه المخاطبة في الأزل وقيل المراد بالرسل محمد عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد: من حيث لا نبي بعده، فكأن المخاطبين هم المراد ببني آدم لا غير، إذ غيرهم لم ينله الخطاب، ذكره النقاش. ويَقُصُّونَ معناه يسردون ويوردون. و «الآيات» لفظ جامع لآيات الكتب المنزلة وللعلامات التي تقترن بالأنبياء، وقوله: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ يصح أن تكون «من» شرطية وجوابه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وهذه الجملة هي في جواب الشرط الأول الذي هو إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ. ويصح أن تكون «من» في قوله فَمَنِ اتَّقى موصولة، وكأنه قصد بالكلام تقسيم الناس فجعل القسم الأول فَمَنِ اتَّقى. والقسم الثاني وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا. وجاء هذا التقسيم بجملته جوابا للشرط في قوله إِمَّا

(2/396)


فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)

يَأْتِيَنَّكُمْ
. فكأنه قال إن أتتكم رسل فالمتقون لا خوف عليهم، والمكذبون أصحاب النار، أي هذا هو الثمرة وفائدة الرسالة: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الأنعام: 144، الأعراف: 37، يونس: 17، الكهف: 15] أي ليس ثم نفع للمفتري ولا غرض دنياوي. فالآية تبرية للنبي صلى الله عليه وسلم، من الافتراء، وتوبيخ للمفترين من الكفار. ولا في قوله فَلا خَوْفٌ بمعنى ليس، وقرأ ابن محيصن «لا خوف» دون تنوين، ووجهه إما أن يحذف التنوين لكثرة الاستعمال وإما حملا على حذفه مع «لا» . وهي تبرية ناصبة تشبه حالة الرفع في البناء بحالة النصب، وقيل: إن المراد فلا الخوف، ثم حذفت الألف واللام وبقيت الفاء على حالها لتدل على المحذوف، ونفي الخوف والحزن يعم جميع أنواع مكاره النفس وأنكادها، ويشبه أن يكون الخوف لما يستقبل من الأمور والحزن لما مضى منها.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا هذه حالتان تعم جميع من يصد عن رسالة الرسول إما أن يكذب بحسب اعتقاده وإما أن يستكبر فكذب وإن كان غير مصمم في اعتقاده على التكذيب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نحو الكفر عنادا.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : آية 37]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37)
هذه آية وعيد واستفهام على جهة التقرير، أي لا أحد أظلم منه، وافْتَرى معناه اختلق، وهذه وإن كانت متصلة بما قبلها أي كيف يجعلون الرسل مفترين ولا أحد أظلم ممن افترى ولا حظ للرسل إلا أن يرحم من اهتدى ويعذب من كفر، فهي أيضا مشيرة بالمعنى إلى كل مفترق إلى من تقدم ذكره من الذين قالوا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها وقوله: أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إشارة إلى جميع الكفرة، وقوله: مِنَ الْكِتابِ قال الحسن والسدي وأبو صالح معناه من المقرر في اللوح المحفوظ، فالكتاب عبارة عن اللوح المحفوظ، وقد تقرر في الشرع أن حظهم فيه العذاب والسخط، وقال ابن عباس وابن جبير ومجاهد: قوله: مِنَ الْكِتابِ يريد من الشقاء والسعادة التي كتبت له وعليه.
قال القاضي أبو محمد: ويؤيد هذا القول الحديث المشهور الذي يتضمن أن الملك يأتي إذا خلق الجنين في الرحم فيكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد وقتادة والضحاك، الْكِتابِ يراد به الذي تكتبه الملائكة من أعمال الخليقة من خير وشر فينال هؤلاء نصيبهم من ذلك وهو الكفر والمعاصي، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك مِنَ الْكِتابِ يراد به من القرآن، وحظهم فيه أن وجوههم تسود يوم القيامة، وقال الربيع بن أنس ومحمد بن كعب وابن زيد المعنى بالنصيب ما سبق لهم في أم الكتاب من رزق وعمر وخير وشر في الدنيا، ورجح الطبري هذا واحتج له بقوله بعد ذلك حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي عند انقضاء ذلك فكان معنى الآية على هذا التأويل أولئك يتمتعون ويتصرفون من الدنيا

(2/397)


قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

بقدر ما كتب لهم حتى إذا جاءتهم رسلنا لموتهم، وهذا تأويل جماعة في مجيء الرسل للتوفي، وعلى هذا يترتب ترجيح الطبري الذي تقدم، وقالت فرقة رُسُلُنا يريد بهم ملائكة العذاب يوم القيامة، ويَتَوَفَّوْنَهُمْ معناه يستوفونهم عددا في السوق إلى جهنم.
قال القاضي أبو محمد: ويترتب هذا التأويل مع التأويلات المتقدمة في قوله: نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ لأن «النصيب» على تلك التأويلات إنما ينالهم في الآخرة، وقد قضى مجيء رسل الموت، وقوله حكاية عن الرسل أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ استفهام تقرير وتوبيخ وتوقيف على خزي وهو إشارة إلى الأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله. وتَدْعُونَ معناه تعبدون وتؤملون، وقولهم ضَلُّوا معناه هلكوا وتلفوا وفقدوا. ثم ابتدأ الخبر عن المشركين بقوله: وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ وهذه الآية وما شاكلها تعارض في الظاهر قوله تعالى حكاية عنهم وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] واجتماعهما إما أن يكون في طوائف مختلفة أو في أوقات مختلفة يقولون في حال كذا وحال كذا.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 38 الى 39]
قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
هذه حكاية ما يقول الله لهم يوم القيامة بوساطة ملائكة العذاب وعبر عن يقول. ب قالَ لتحقق وقوع ذلك وصدق القصة، وهذا كثير، وقوله: فِي أُمَمٍ متعلق ب ادْخُلُوا، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره كائنين أو ثابتين في أمم، فيكون في موضع الحال من الضمير في ادْخُلُوا وقيل فِي بمعنى مع. وقيل هي على بابها وهو أصوب، وقوله قَدْ خَلَتْ صفة ل أُمَمٍ. وقوله: فِي النَّارِ يصح تعلقه ب ادْخُلُوا ويصح أن يتعلق ب أُمَمٍ أي في أمم ثابتة أو مستقرة، ويصح تعلقه بالذكر الذي في خَلَتْ. ومعنى قَدْ خَلَتْ على هذا التعلق أي قد تقدمت ومضى عليها الزمن وعرفها فيما تطاول من الآباد، وقد تستعمل وإن لم يطل الوقت إذ أصلها فيمن مات من الناس أي صاروا إلى خلاء من الأرض، وعلى التعليقين الأولين لقوله فِي النَّارِ فإنما خَلَتْ حكاية عن حال الدنيا أي ادخلوا في النار في جملة الأمم السالفة لكم في الدنيا الكافرة، وقدم ذكر الجن لأنهم أعرق في الكفر، وإبليس أصل الضلال والإغواء، وهذه الآية نص في أن كفرة الجن في النار، والذي يقتضيه النظر أن مؤمنيهم في الجنة لأنهم عقلاء مكلفون مبعوث إليهم آمنوا وصدقوا، وقد بوب البخاري رحمه الله- باب في ذكر الجن وثوابهم وعقابهم- وذكر عبد الجليل أن مؤمني الجن يكونون ترابا كالبهائم، وذكر في ذلك حديثا مجهولا وما أراه يصح، والله أعلم.
والأخوة في هذه الآية أخوة الملة والشريعة. قال السدي: يتلاعن آخرها وأولها، وادَّارَكُوا معناه

(2/398)


تلاحقوا ووزنه تفاعلوا أصله تداركوا أدغم فجلبت ألف الوصل، وقرأ أبو عمرو «اداركوا» بقطع ألف الوصل، قال أبو الفتح: هذا مشكل ولا يسوغ أن يقطعها ارتجالا فذلك إنما يجيء شاذا في ضرورة الشعر في الاسم أيضا لكنه وقف مثل وقفة المستذكر ثم ابتدأ فقطع، وقرأ مجاهد بقطع الألف وسكون الدال «أدركوا» بفتح الراء وبحذف الألف بعد الدال بمعنى أدرك بعضهم بعضا، وقرأ حميد «أدركوا» بضم الهمزة وكسر الراء أي أدخلوا في إدراكها. وقال مكي في قراءة مجاهد إنها «ادّاركوا» بشد الدال المفتوحة وفتح الراء، قال: وأصله إذ تركوا وزنها افتعلوا، وقرأ ابن مسعود والأعمش «تداركوا» ورويت عن أبي عمرو، وقرأ الجمهور «حتى إذ اداركوا» بحذف ألف «إذا» لالتقاء الساكنين.
وقوله تعالى: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ معناه قالت الأمة الأخيرة التي وجدت ضلالات مقررة وسننا كاذبة مستعملة للأولى التي شرعت ذلك وافترت على الله وسلكت سبيل الضلال ابتداء، ربنا هؤلاء طرقوا طرق الضلال وسببوا ضلالنا فآتهم عذابا مضاعفا أي ثانيا زائدا على عذابنا إذ هم كافرون ومسببون كفرنا، وتقول ضاعفت كذا إذا جعلته مثل الأول، واللام في قوله لِأُولاهُمْ كأنها لام سبب إذ القول إنما هو للرب، ثم قال عز وجل مخبرا لهم لِكُلٍّ ضِعْفٌ أي العذاب مشدد على الأول والآخر ولكن لا تعلمون أي المقادير وصور التضعيف، وهذا رد لكلام هؤلاء، إذ ليس لهم كرامة فيظهر إسعافهم.
وأما المعنى الذي دعوا فيه فظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه حاصل وأن كل من سن كفرا أو معصية فعليه كفل من جهة كل من عمل بذلك بعده، ومنه حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما من داع دعا إلى ضلالة إلا كان عليه وزره ووزر من اتبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا، الحديث، ذكره الليث بن سعد من آخر الجزء الرابع من حديثه، وذكره مالك في الموطأ غير مسند موصل، ومنه قوله «ما تقتل نسمة ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها» ، أما أن هؤلاء عينوا في دعائهم الضعف وقد يكون الكفل أقل أو أكثر، وعن ابن مسعود أن «الضعف» هاهنا الأفاعي والحيات، وقرأ جميع السبعة غير عاصم في رواية أبي بكر «ولكن لا تعلمون» بالتاء ويحتمل ذلك أن يكون مخاطبة لهذه الأمة الأخيرة متصلة بقوله لهم لِكُلٍّ ضِعْفٌ ويحتمل أن يكون مخاطبة لمحمد.
وأمته، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر «ولكن لا يعلمون» ، وروى حفص عن عاصم مثل قراءة الجماعة، وهذه مخاطبة لأمة محمد وإخبار عن الأمة الأخيرة التي طلبت أن يشدد العذاب على أولاها، ويحتمل أن يكون خبرا عن الطائفتين حملا على لفظة «كل» ، أي لا يعلم أحد منهم قدر ما أعد لهم من عذاب الله.
وقوله عز وجل: وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ الآية، المعنى وقالت الأمة الأولى المبتدعة للأمة الأخيرة المتبعة أنتم لا فضل لكم علينا ولم تزدجروا حين جاءتكم النذر والرسل، بل دمتم في كفركم وتركتم النظر واستوت حالنا وحالكم فذوقوا العذاب باجترامكم، هذا قول السدي وأبي مجلز وغيرهما، فقوله فذوقوا على هذا من كلام الأمة المتقدمة للأمة المتأخرة، وقيل قوله فَذُوقُوا هو من كلام الله عز وجل لجميعهم، وقال مجاهد ومعنى قوله مِنْ فَضْلٍ أي «من» التخفيف.

(2/399)


إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)

قال القاضي أبو محمد: معناه أنه لما قال الله لِكُلٍّ ضِعْفٌ قال الأولون للآخرين لم تبلغوا أملا في أن يكون عذابكم أخف من عذابنا ولا فضلتم بالإسعاف والنص عليه.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 42]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42)
هذه الآية عامة في جميع الكفرة قديمهم وحديثهم، وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر «لا تفتّح» بضم التاء الأولى وتشديد الثانية، وقرأ أبو عمرو «تفتح» بضم التاء وسكون الفاء وتخفيف الثانية، وقرأ حمزة والكسائي «يفتح» بالياء من أسفل وتخفيف التاء، وقرأ أبو حيوة وأبو إبراهيم «يفتّح» بالياء وفتح الفاء وشد التاء، ومعنى الآية لا يرتفع لهم عمل ولا روح ولا دعاء، فهي عامة في نفي ما يوجب للمؤمنين بالله تعالى، قاله ابن عباس وغيره، وذكر الطبري في كيفية قبض روح المؤمن والكافر آثارا اختصرتها إذ ليست بلازمة في الآية، وللين أسانيدها أيضا، ثم نفى الله عز وجل عنهم دخول الجنة وعلق كونه بكون محال لا يكون، وهو أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة حيث يدخل الخيط، والْجَمَلُ كما عهد وال سَمِّ كما عهد، وقرأ جمهور المسلمين: «الجمل» ، واحد الجمال، وقال الحسن هو الجمل الذي يقوم بالمديد ومرة لما أكثروا عليه قال هو الأشتر وهو الجمل بالفارسية، ومرة قال هو الجمل ولد الناقة وقاله ابن مسعود.
قال القاضي أبو محمد: وهذه عبارة تدل على حرج السائل لارتياب السائلين لا شك باللفظة من أجل القراءات المختلفة، وذكر الطبري عن مجاهد عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: «حتى يلج الجمل الأصفر» ، وقرأ أبو السمال «الجمل» بسكون الميم وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وابن جبير والشعبي ومالك بن الشخير وأبو رجاء: «الجمل» بضم الجيم وتشديد الميم وهو حبل السفينة، وقرأ سالم الأفطس وابن خير وابن عامر أيضا: «الجمل» بتخفيف الميم من الجمل وقالوا هو حبل السفن، وروى الكسائي أن الذي روى تثقيل الميم عن ابن عباس كان أعجميا فشدد الميم لعجمته.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لكثرة أصحاب ابن عباس على القراءة المذكورة وقرأ سعيد بن جبير فيما روي عنه: «الجمل» بضم الجيم وسكون الميم، وقرأ ابن عباس أيضا: «الجمل» بضم الجيم والميم، و «السم» : الثقب من الإبرة وغيرها يقال سم وسم بفتح السين وكسرها وضمها، وقرأ الجمهور بفتح السين، وقرأ ابن سيرين بضمها، وقرأ أبو حيوة بضمها وبكسرها، وروي عنه الوجهان، والْخِياطِ والمخيط الإبرة، وقرأ ابن مسعود: «في سم المخيط» بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء، وقرأ طلحة «في سم المخيط» بفتح الميم، وكذلك أبى على هذه الصفة وبمثل هذا الحتم وغيره يجزى الكفرة وأهل الجرائم على الله تعالى.

(2/400)


وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

وقوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ الآية، المعنى أن جهنم فراش لهم ومسكن ومضجع يتمهدونه وهي لهم غواش جمع غاشية وهي ما يغشى الإنسان أي يغطيه ويستره من جهة فوق، قال الضحاك «المهاد» الفراش، و «الغواشي» اللحف ودخل التنوين في غَواشٍ عند سيبويه لنقصانه عن بناء مفاعل فلما زال البناء المانع من الصرف بأن حذفت الياء حذفا لا للالتقاء بل كما حذفت من قوله وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الفجر: 4] وذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ [الكهف: 64] ومن قول الشاعر: [زهير]
ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفر
زال الامتناع، وهذا كقولهم ذلذل بالتنوين وهم يريدون: الذلاذل لما زال البناء، قال الزجاج:
والتنوين في غَواشٍ عند سيبويه عوض من الياء المنقوصة ورد أبو علي أن يكون هذا هو مذهب سيبويه، ويجوز الوقوف ب «يا» وبغير «يا» والاختيار بغير «يا» .
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية، هذه آية وعد مخبرة أن جميع المؤمنين هم أصحاب الجنة ولهم الخلد فيها، ثم اعترض أثناء القول بعقب الصفة، التي شرطها في المؤمنين باعتراض يخفف الشرط ويرجى في رحمة الله ويعلم أن دينه يسر وهذه الآية نص في أن الشريعة لا يتقرر من تكاليفها شيء لا يطاق، وقد تقدم القول في جواز تكليف ما لا يطاق وفي وقوعه بمغن عن الإعادة، و «الوسع» معناه الطاقة وهو القدر الذي يتسع له قدر البشر.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : آية 43]
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
هذا إخبار من الله عز وجل أنه ينقي قلوب ساكني الجنة من الغل والحقد، وذلك أن صاحب الغل متعذب به ولا عذاب في الجنة، وورد في الحديث «الغل على باب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين» .
قال القاضي أبو محمد: ومعنى هذا الحديث إذا حمل على حقيقته، أن الله عز وجل يخلق جوهرا يجعله حيث يرى كمبارك الإبل، لأن الغل عرض لا يقوم بنفسه، وإن قيل إن هذه استعارة وعبر عن سقوطه عن نفوسهم فهذه الألفاظ على جهة التمثيل كما تقول فلان إذا دخل على الأمير ترك نخوته بالباب ملقاة فله وجه، والأول أصوب وأجرى مع الشرع في أشياء كثيرة، مثل قوله يؤتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش فيذبح وغير ذلك، وروى الحسن عن علي بن أبي طالب قال: فينا والله أهل بدر نزلت وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الحجر: 47] وروي عنه أيضا أنه قال: فينا والله نزلت وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ، وذكر قتادة: أن عليا قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.

(2/401)


وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)

قال القاضي أبو محمد: وهذا هو المعنى الصحيح، فإن الآية عامة في أهل الجنة، و «الغل» الحقد والإحنة الخفية في النفس وجمعه غلال ومنه الغلول أخذ في خفاء ومنه الانغلال في الشيء، ومنه المغل بالأمانة، ومنه قول علقمة بن عبدة:
سلاءة كعصا الهندي غل لها ... ذو فيئة من نوى قران معجوم
وقوله: مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ بين لأن ما كان لاطئا بالأرض فهو تحت ما كان منتصبا آخذا في سماء، وهَدانا بمعى أرشدنا، والإشارة بهذا تتجه أن تكون إلى الإيمان والأعمال الصالحة المؤدية إلى دخول الجنة، ويحتمل أن تكون إلى الجنة نفسها، أي أرشدنا إلى طرقها ولكل واحد من الوجهين أمثلة في القرآن، وقرأ ابن عامر وحده «ما كنا لنهتدي» بسقوط الواو من قوله: وَما كُنَّا، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام، قال أبو علي: وجه سقوط الواو أن الكلام متصل مرتبط بما قبله، ولما رأوا تصديق ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى وعاينوا إنجاز المواعيد قالوا: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فقضوا بأن ذلك حق قضاه من يحس وكانوا في الدنيا يقضون بأن ذلك حق قضاه من يستدل وَنُودُوا أي قيل لهم بصياح، وهذا النداء من قبل الله عز وجل، وأَنْ يحتمل أن تكون مفسرة لمعنى النداء بمعنى أي، ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة وفيها ضمير مستتر تقديره أنه تلكم الجنة، ونحو هذا قول الأعشى: [البسيط]
في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل
تقديره أنه هالك، ومنه قول الآخر: [الوافر]
أكاشره ويعلم أن كلانا ... على ما ساء صاحبه حريص
وتِلْكُمُ الْجَنَّةُ ابتداء وصفه وأُورِثْتُمُوها الخبر وتِلْكُمُ إشارة فيها غيبة فإما لأنهم كانوا وعدوا بها في الدنيا فالإشارة إلى تلك، أي تلكم هذه الجنة، وحذفت هذه، وإما قبل أن يدخلوها وإما بعد الدخول وهم مجتمعون في موضع منها، فكل غائب عن منزله، وقوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لا على طريق وجوب ذلك على الله، لكن بقرينة رحمته وتغمده، والأعمال أمارة من الله وطريق إلى قوة الرجاء، ودخول الجنة إنما هو بمجرد رحمة الله تعالى، والقسم فيها على قدر العمل، و «أورثتم» مشيرة إلى الأقسام، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «أورثتموها» وكذلك الزخرف، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي» أورتموها» بإدغام الثاء في التاء وكذلك في الزخرف.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 45]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45)
هذا إخبار من الله عز وجل عما يكون منهم، وعبر عن معان مستقبلة بصيغة ماضية وهذا حسن فيما

(2/402)


وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)

يحقق وقوعه، وهذا النداء من أهل الجنة لأهل النار تقريع وتوبيخ وزيادة في الكرب وهو بأن يشرفوا عليهم ويخلق الإدراك في الأسماع والأبصار، وقرأ جمهور الناس «نعم» بفتح العين، وقرأ الكسائي «نعم» بكسر العين ورويت عن عمر بن الخطاب وعن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأها ابن وثاب والأعمش قال الأخفش هما لغتان، ولم يحك سيبويه الكسر، وقال: «نعم» عدة وتصديق أي مرة هذا ومرة هذا، وفي كتاب أبي حاتم عن الكسائي عن شيخ من ولد الزبير قال: ما كنت أسمع أشياخ قريش يقولون: إلا «نعم» بكسر العين ثم فقدتها بعده، وفيه عن قتادة عن رجل من خثعم قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت تزعم أنك نبي:؟ قال: «نعم» بكسر العين، وفيه عن أبي عثمان النهدي قال: سأل عمر عن شيء فقالوا نعم، فقال عمر: النعم الإبل والشاء، قولوا «نعم» بكسر العين. قال أبو حاتم: وهذه اللغة لا تعرف اليوم بالحرمين، وقوله فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ الآية قال أبو علي الفارسي والطبري وغيرهما: «أذن مؤذن» بمعنى أعلم معلم، قال سيبويه: أذنت إعلام بتصويت، وقرأ ابن كثير في رواية قنبل ونافع وأبو عمرو وعاصم «أن» لعنة الله» بتخفيف «أن» من الثقيلة ورفع اللعنة.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير في رواية البزي وشبل «أنّ لعنة» بتثقيل «أنّ» ونصب اللعنة، وكلهم قرأ التي في النور أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ [النور: 7] وأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ [النور: 9] بتشديد النون غير نافع فإنه قرأهما «أن لعنة الله وأن غضب» مخففتين، وروى عصمة عن الأعمش «مؤذن بينهم إن» بكسر الألف على إضمار قال.
قال القاضي أبو محمد: لما كان الأذان قولا، و «الظالمون» في هذه الآية: الكافرون، ثم ابتدأ صفتهم بأفعالهم في الدنيا ليكون علامة أن أهل هذه الصفة هم المراد يوم القيامة بقوله أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ويَصُدُّونَ معناه يعرضون، و «السبيل» الطريق والمنهج ويذكر ويؤنث وتأنيثها أكثر، وَيَبْغُونَها معناه: يطلبونها أو يطلبون لها، فإن قدرت يطلبونها ف عِوَجاً نصب على الحال، ويصح أن يكون من الضمير العائد على السبيل أي معوجه، ويصح أن يكون من ضمير الجماعة في يَبْغُونَها أي معوجين، وإن قدرت يَبْغُونَها يطلبون لها وهو ظاهر تأويل الطبري رحمه الله ف عِوَجاً مفعول بيبغون، والعوج بكسر العين في الأمور والمعاني، والعوج بفتح العين في الأجرام والمتنصبات.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 46 الى 48]
وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
الضمير في قوله وَبَيْنَهُما عائد على الجنة والنار، ويحتمل على الجمعين إذ يتضمنهما قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ [الأعراف: 44] ، و «الحجاب» : هو السور الذي ذكره عز

(2/403)


وجل في قوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ [الحديد: 13] قاله ابن عباس، وقال مجاهد: الْأَعْرافِ حجاب بين الجنة والنار، وقال ابن عباس أيضا هو تل بين الجنة والنار، وذكر الزهراوي حديثا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدا جبل يحبنا ونحبه، وإنه يقوم يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار يحتبس عليه أقوام يعرفون كلا بسيماهم هم إن شاء الله من أهل الجنة» ، وذكر حديثا آخر عن صفوان بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدا على ركن من أركان الجنة» والْأَعْرافِ جمع عرف وهو المرتفع من الأرض.
ومنه قول الشاعر: [الرجز]
كل كناز لحمه نياف ... كالجمل الموفي على الأعراف
ومنه قول الشماخ: [الطويل]
فظلت بأعراف تعالى كأنها ... رماح نحاها وجهة الريح راكز
ومنه عرف الفرس وعرف الديك لعلوهما، وقال السدي سمي الأعراف أعرافا لأن أصحابه يعرفون الناس.
قال القاضي أبو محمد: وهذه عجمة وإنما المراد على أعراف ذلك الحجاب أعاليه، وقوله:
رِجالٌ قال أبو مجلز لاحق بن حميد: هم الملائكة، ولفظة رِجالٌ مستعارة لهم لما كانوا في تماثيل رجال قال: وهم ذكور ليسوا بإناث.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وقد سمى الله رجالا في الجن، وقال الجمهور: هم رجال من البشر، ثم اختلفوا فقال مجاهد: هم قوم صالحون فقهاء علماء، وحكى الزهراوي أنهم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم وهم كل أمة، وقاله الزجاج وقال قوم: هم أنبياء، وقال المهدوي: هم الشهداء، وقال شرحبيل بن سعد: هم المستشهدون في سبيل الله الذين خرجوا عصاة لآبائهم، وذكر الطبري في ذلك حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه تعادل عقوقهم واستشهادهم، وقال ابن مسعود والشعبي وحذيفة بن اليمان وابن عباس وابن جبير والضحاك: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.
قال القاضي أبو محمد: وقع في مسند خيثمة بن سليمان في آخر الجزء الخامس عشر حديث عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار» ، قيل يا رسول الله فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال «أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون» ، وقال حذيفة بن اليمان أيضا: هم قوم أبطأت بهم صغارهم إلى آخر الناس.
قال القاضي أبو محمد: واللازم من الآية أن على أعراف ذلك السور أو على مواضع مرتفعة عن الفريقين حيث شاء الله تعالى رجالا من أهل الجنة، يتأخر دخولهم ويقع لهم ما وصف من الاعتبار في الفريقين.

(2/404)


أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

ويَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ أي بعلامتهم وهي بياض الوجوه وحسنها في أهل الجنة، وسوادها وقبحها في أهل النار إلى غير ذلك في حيز هؤلاء وحيز هؤلاء، والسيما العلامة وهو من وسم، وفيه قلب، يقال سيما مقصور وسيماء ممدود وسيمياء بكسر الميم وزيادة ياء فوزنها فعلا مع كونها من وسم، وقيل هي من سوم إذا علم فوزنها على هذا فعلا، ونداؤهم أصحاب الجنة يحتمل أن يكون وأصحاب الجنة لم يدخلوها بعد فيكون أيضا قوله لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ محتملا أن يعنى به أهل الجنة وهو تأويل أبي مجلز إذ جعل أصحاب الأعراف ملائكة، ومحتملا أن يعنى به أهل الأعراف، ويحتمل أن يكون نداؤهم أهل الجنة بالسلام وهم قد دخلوها، فلا يحتمل حينئذ قوله: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ إلا أهل الأعراف فقط، وهو تأويل السدي وقتادة وابن مسعود والحسن، وقال: والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لخير أراده بهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الأظهر الأليق ولا نظر لأحد مع قول النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: وَهُمْ يَطْمَعُونَ هي جملة مقطوعة، أخبر أنهم لم يدخلوها وهم طامعون بدخولها فكأن الجملة حال من الضمير في نادَوْا، وقرأ أبو رقيش النحوي «لم يدخلوها وهم طامعون» ، وقرأ إياد بن لقيط «وهم ساخطون» ، وذكر بعض الناس قولا وهو أن يقدر قوله وَهُمْ يَطْمَعُونَ في موضع الحال من ضمير الجماعة في يَدْخُلُوها، ويكون المعنى لم يدخلوها في حال طمع بها بل كانوا في حال يأس وخوف لكنهم عمهم عفو الله عز وجل، وقال ابن مسعود: إنما طمع أصحاب الأعراف لأن النور الذي كان في أيديهم لم يطفأ حين يطفأ كل ما بأيدي المنافقين.
والضمير في قوله أَبْصارُهُمْ عائد على أصحاب الأعراف، فهم يسلمون على أصحاب الجنة وإذا نظروا إلى النار وأهلها دعوا الله في التخليص منها، قاله ابن عباس وجماعة من العلماء، وقال أبو مجلز الضمير لأهل الجنة وهم لم يدخلوها بعد، وقوله: صُرِفَتْ معطية ما هنالك من هول المطلع، وقوله:
رِجالًا يريد من أهل النار، ويحتمل أن يكون هذا النداء وأهل النار في النار، فتكون معرفتهم بعلامات معرفة بأنهم أولئك الذين عرفوا في الدنيا، ويحتمل أن يكون هذا النداء وهم يحملون إلى النار، فتكون السيما التي عرفوا بها أنهم أهل النار تسويد الوجوه وتشويه الخلق، وقال أبو مجلز الملائكة تنادي رجالا في النار، وقال غيره بل الآدميون ينادون أهل النار، وقيل: إن ما في قوله: ما أَغْنى استفهام بمعنى التقرير والتوبيخ، وقيل ما نافية والأول أصوب، وجَمْعُكُمْ لفظ يعم جموع الأجناد والخول وجمع المال لأن المراد بالرجال أنهم جبارون ملوك يقررون يوم القيامة على معنى الإهانة والخزي، وما الثانية:
مصدرية، وقرأت فرقة «تستكثرون» بالثاء مثلثة من الكثرة.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 49 الى 52]
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

(2/405)


قال أبو مجلز: أهل الأعراف هم الملائكة وهم القائلون أَهؤُلاءِ إشارة إلى أهل الجنة.
قال القاضي أبو محمد: وكذلك يجيء قول من قال أهل الأعراف أنبياء وشهداء، وقال غيره: أهل الأعراف بشر مذنبون، وقوله: أَهؤُلاءِ من كلام ملك بأمر الله عز وجل إشارة إلى أهل الأعراف ومخاطبة لأهل النار، وهذا قول ابن عباس، وقال النقاش: لما وبخوهم بقولهم ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ [الأعراف: 48] ، أقسم أهل النار أن أهل الأعراف داخلون النار معهم فنادتهم الملائكة أَهؤُلاءِ، ثم نادت أصحاب الأعراف ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، وقال بعض المتأولين: الإشارة بهؤلاء إلى أهل الجنة، والمخاطبون هم أهل الأعراف والذين خوطبوا هم أهل النار، والمعنى أهؤلاء الضعفاء في الدنيا الذين حلفتم أن الله لا يعبأ بهم قيل لهم ادخلوا الجنة، وقد تقدم ما قال النقاش من أن القسم هو في الآخرة على أهل الأعراف والذين خوطبوا هم أهل النار، والمعنى أهؤلاء الضعفاء في الدنيا الذين حلفتم أن الله لا يعبأ بهم قيل لهم ادخلوا الجنة، وقد تقدم ما قال النقاش من أن القسم هو في الآخرة على أهل الأعراف، وقرأ الحسن وابن هرمز «أدخلوا الجنة» بفتح الألف وكسر الخاء معنى أدخلوا أنفسكم، أو على أن تكون مخاطبة للملائكة ثم ترجع المخاطبة بعد إلى البشر في عَلَيْكُمْ، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس «دخلوا الجنة» على الإخبار بفعل ماض، وقرأ طلحة بن مصرف وابن وثاب والنخعي «أدخلوا الجنة» خبر مبني للمفعول.
قال القاضي أبو محمد: وترتيب كل قراءة من هذه على الأقوال في المخاطب والمخاطب بقوله تعالى: أَهؤُلاءِ ممكن بأيسر تناول فاختصرته إيجازا، وكذلك ما في الآية من الرجوع من مخاطبة فريق إلى مخاطبة غيره، وقوله تعالى: لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ معناه: لا تخافون ما يأتي ولا تحزنون على ما فات، وذكر الطبري من طريق حذيفة أن أهل الأعراف يرغبون في الشفاعة فيأتون آدم فيدفعهم إلى نوح ثم يتدافعهم الأنبياء عليهم السلام حتى يأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيشفع لهم فيشفع فيدخلون الجنة فيلقون في نهر الحياة فيبيضون ويسمون مساكين الجنة، قال سالم مولى أبي حذيفة:
ليت أني من أهل الأعراف.
وقوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الآية، لفظة النداء تتضمن أن أهل النار وقع لهم علم بأن أهل الجنة يسمعون نداءهم، وجائز أن يكون ذلك وهم يرونهم بإدراك يجعله الله لهم على بعد السفل من العلو، وجائز أن يكون ذلك وبينهم السور والحجاب المتقدم الذكر، وروي أن ذلك النداء هو عند إطلاع أهل الجنة عليهم، وأَنْ في قوله: أَنْ أَفِيضُوا مفسرة بمعنى أي، وفاض الماء إذا سال وانماع وأفاضه غيره، وقوله: أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ إشارة إلى الطعام قاله السدي، فيقول لهم أهل الجنة إن الله حرم طعام الجنة وشرابها على الكافرين.
قال القاضي أبو محمد: والأشنع على الكافرين في هذه المقالة أن يكون بعضهم يرى بعضا فإنه أخزى وأنكى للنفس، وإجابة أهل الجنة بهذا الحكم هو عن أمر الله تعالى، وذكر الزهراوي: أنه روي عن

(2/406)


هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أفضل الصدقة بالماء» ، يعني عند الحاجة إليه إذ هو ألذ مشروب وأنعشها للنفس، واستسقى الشعبي عند مصعب فقال له أي الأشربة تحب؟ فقال أهونها موجودا وأعزها مفقودا، فقال له مصعب: يا غلام هات الماء.
وقوله تعالى: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً الآية، أضيف «الدين» إليهم من حيث قولهم أن يلتزموه إذ هو دين الله من حيث أمر به، ودين جميع الناس من حيث أمروا به، وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يحتمل أن يكون من كلام أهل الجنة، ويكون ابتداء كلام الله من قوله: فَالْيَوْمَ، ويحتمل أن يكون الكلام من أوله من كلام الله عز وجل، ومعنى قوله: اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً أي بالإعراض والاستهزاء لمن يدعوهم إلى الإسلام، وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي خدعتهم بزخرفها واعتقادهم أنها الغاية القصوى، ويحتمل أن يكون اللفظ من الغر وهو ملء الفم أي أشبعتهم وأبطرتهم، وأما قوله فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ فهو من إخبار الله عز وجل عما يفعل بهم، والنسيان في هذه الآية هو بمعنى الترك، أي نتركهم في العذاب كما تركوا النظر للقاء هذا اليوم، قاله ابن عباس وجماعة من المفسرين، قال قتادة نسوا من الخير ولم ينسوا من الشر، وإن قدر النسيان بمعنى الذهول من الكفرة فهو في جهة ذكر الله تسمية العقوبة باسم الذنب، وقوله:
وَما كانُوا عطف على «ما» من قوله: كَما نَسُوا ويحتمل أن تقدر ما الثانية زائدة ويكون قوله:
«وكانوا» عطفا على قوله نَسُوا.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ الآية، ذكر الاعذار إليهم إثر ذكر ما يفعل بهم واللام في قوله:
لَقَدْ لام قسم والضمير في جِئْناهُمْ لمن تقدم ذكره، وقال يحيى بن سلام تم الكلام في يَجْحَدُونَ وهذا الضمير لمكذبي محمد صلى الله عليه وسلم ابتداء كلام آخر، والمراد بالكتاب القرآن العزيز.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون اسم جنس في جميع الكتب المنزلة على تأويل من يرى الضمير في جِئْناهُمْ لمن تقدم ذكره، وقرأ جمهور الناس «فصلناه» من تفصيل الآيات وتبيينها، وقرأ ابن محيصن «فضلناه» بضاد منقوطة، وعَلى عِلْمٍ معناه: عن بصيرة واستحقاق لذلك، وقوله: هُدىً وَرَحْمَةً مصدران في موضع الحال.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 53 الى 54]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)
يَنْظُرُونَ معناه ينتظرون، و «التأويل» في هذا الموضع بمعنى المآل والعاقبة، قاله قتادة ومجاهد

(2/407)


وغيرهما، وقال ابن عباس: تَأْوِيلَهُ مآله يوم القيامة، وقال السدي: ذلك في الدنيا وقعة بدر وغيرها ويوم القيامة أيضا، والمراد هل ينتظر هؤلاء الكفار إلا مآل الحال في هذا الدين وما دعوا إليه وما صدوهم عنه وهم يعتقدون مآله جميلا لهم؟ فأخبر الله عز وجل أن مآله يوم يأتي يقع معه ندمهم، ويقولون تأسفا على ما فاتهم من الإيمان لقد صدقت الرسل وجاءوا بالحق، فالتأويل على هذا مأخوذ من آل يؤول، وقال الخطابي: أولت الشيء رددته إلى أوله فاللفظة مأخوذة من الأول، حكاه النقاش.
قال القاضي أبو محمد: وقد قيل أولت معناه طلبت أول الوجوه والمعاني ونَسُوهُ في الآية يحسن أن يكون النسيان من أول الآية بمعنى الترك ويقرون بالحق ويستفهمون عن وجوه الخلاص في وقت لا مستعتب لهم فيه، وقرأت فرقة: «أو نردّ» برفع الفعل على تقدير أو هل نرد وبنصب «فنعمل» في جواب هذا الاستفهام الأخير، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «أو نردّ فنعمل» بالرفع فيهما على عطف «فنعمل» ، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة «أو نردّ فنعمل» ونصب نرد في هذه القراءة إما على العطف على قوله: فَيَشْفَعُوا، وإما بما حكاه الفراء من أن «أو تكون» بمعنى حتى كنحو قول امرئ القيس:
أو نموت فنعذرا ويجيء المعنى، أن الشفاعة تكون في أن يردوا ثم أخبر تعالى عن خسارتهم أنفسهم واضمحلال افترائهم على الله وكذبهم في جعل الأصنام آلهة.
وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ الآية، خطاب عام يقتضي التوحيد والحجة عليه بدلائله، والرب أصله في اللغة المصلح من رب يرب وهو يجمع في جهة ذكر الله تعالى المالك والسيد وغير ذلك من استعمالات العرب، ولا يقال الرب معرفا إلا لله، وإنما يقال في البشر بإضافة، وروى بكار بن الشقير «إن ربكم الله» بنصب الهاء، وقوله فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ حكى الطبري عن مجاهد أن اليوم كألف سنة، وهذا كله والساعة اليسيرة سواء في قدرة الله تعالى، وأما وجه الحكمة في ذلك فمما انفرد الله عز وجل بعلمه كسائر أحوال الشرائع، وما ذهب إليه من أراد أن يوجه هذا كالمهدوي وغيره تخرص، وجاء في التفسير وفي الأحاديث أن الله ابتدأ الخلق يوم الأحد وكملت المخلوقات يوم الجمعة، ثم بقي دون خلق يوم السبت، ومن ذلك اختارته اليهود لراحتها، وعلى هذا توالت تفاسير الطبري وغيره، ولليهود لعنهم الله تعالى في هذا كلام سوء تعالى الله عما يصفون.
ووقع حديث في كتاب مسلم بن الحجاج في كتاب الدلائل لثابت السرقسطي، أن الله تعالى خلق التربة يوم السبت وذكره مكي في الهداية، وقوله تعالى: اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ معناه عند أبي المعالي وغيره من حذاق المتكلمين بالملك والسلطان، وخص العرش بالذكر تشريفا له إذ هو أعظم المخلوقات، وقال سفيان الثوري: فعل فعلا في العرش سماه استواء.
قال القاضي أبو محمد: والْعَرْشِ مخلوق معين جسم ما، هذا الذي قررته الشريعة، وبلغني عن أبي الفضيل بن النحوي أنه قال: العرش مصدر عرش يعرش عرشا، والمراد بقوله اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ هذا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خروج كثير عن ما فهم من العرش في غير ما حديث عن النبي صلى

(2/408)


الله عليه وسلم، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «يغشي» من أغشى، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «يغشّي» بالتشديد من غشّى، وهما طريقان في تعدية «غشي» إلى مفعول ثان، وقرأ حميد «يغشى» بفتح الياء والشين ونصب «الليل» ورفع «النهار» ، كذا قال أبو الفتح وقال أبو عمرو الداني برفع «الليل» قال القاضي أبو محمد: وأبو الفتح أثبت وحَثِيثاً معناه سريعا، ويَطْلُبُهُ حَثِيثاً حال من الليل بحسب اللفظ على قراءة الجماعة، ومن النهار بحسب المعنى، وأما على قراءة حميد فمن النهار في الوجهين، ويحتمل أن يكون حالا منهما، ومثله قوله تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ [مريم: 27] فيصح أن يكون تَحْمِلُهُ حالا منها، وأن يكون حالا منه وأن يكون حالا منهما. ومُسَخَّراتٍ في موضع الحال، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة و «الشمس والقمر والنجوم مسخرات» بالرفع في جميعها، ونصب الباقون هذه الحروف كلها، وقرأ أبان بن تغلب و «الشمس والقمر» بالنصب، و «النجوم مسخرات» بالرفع.
وأَلا استفتاح كلام فاستفتح بها في هذا الموضع هذا الخبر الصادق المرشد.
قال القاضي أبو محمد: وأخذ المفسرون الْخَلْقُ بمعنى المخلوقات. أي هي له كلها وملكه واختراعه، وأخذوا الْأَمْرُ مصدرا من أمر يأمر، وعلى هذا قال النقاش وغيره: إن الآية ترد على القائلين بخلق القرآن لأنه فرق فيها بين المخلوقات وبين الكلام إذ الأمر كلامه عز وجل.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن تؤخذ لفظة الْخَلْقُ على المصدر من خلق يخلق خلقا أي له هذه الصفة إذ هو الموجد للأشياء بعد العدم، ويؤخذ الْأَمْرُ على أنه واحد الأمور إلا أنه يدل على الجنس فيكون بمنزلة قوله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [هود: 123] وبمنزلة قوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [البقرة:
210] فإذا أخذت اللفظتان هكذا خرجتا عن مسألة الكلام.
قال القاضي أبو محمد: ولما تقدم في الآية خلق وبأمره تأكد في آخره أن لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ المصدرين حسب تقدمهما، وكيف ما تأولت الآية فالجميع لله، وأسند الطبري إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من زعم أن الله تعالى جعل لأحد من العباد شيئا من الأمر فقد كفر بما أنزل الله لقوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» ، قال النقاش: ذكر الله الإنسان في القرآن في ثمانية عشر موضعا في جميعها أنه مخلوق، وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعا ليس في واحد منها إشارة إلى أنه مخلوق، وقال الشعبي الْخَلْقُ عبارة عن الدنيا والْأَمْرُ عبارة عن الآخرة، وتَبارَكَ معناه عظم وتعالى وكثرت بركاته، ولا يوصف بها إلا الله تعالى، وتَبارَكَ لا يتصرف في كلام العرب، لا يقال منه يتبارك، وهذا منصوص عليه لأهل اللسان.
قال القاضي أبو محمد: وعلة ذلك أن تَبارَكَ لما لم يوصف بها غير الله تعالى لم تقتض مستقبلا إذ الله قد تبارك في الأزل، وقد غلط بها أبو علي القالي فقيل له كيف المستقبل من تبارك فقال يتبارك فوقف على أن العرب، لم تقله، و «الرب» السيد المصلح، والْعالَمِينَ جمع عالم.

(2/409)


ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)

قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 55 الى 56]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
هذا أمر بالدعاء وتعبد به، ثم قرر عز وجل بالأمر به صفات تحسن معه، وقوله: تَضَرُّعاً معناه بخشوع واستكانة، والتضرع لفظة تقتضي الجهر لأن التضرع إنما يكون بإشارات جوارح وهيئات أعضاء تقترن بالطلب، وَخُفْيَةً يريد في النفس خاصة، وقد أثنى الله عز وجل على ذلك في قوله إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مريم: 3] ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: خير الذكر الخفي، والشريعة مقررة أن السر فيما لم يعترض من أعمال البر أعظم أجرا من الجهر، وتأول بعض العلماء «التضرع والخفية» في معنى السر جميعا، فكأن التضرع فعل للقلب، ذكر هذا المعنى الحسن بن أبي الحسن، وقال: لقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يكون سرا فيكون جهرا أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء فلا يسمع لهم صوت، إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مريم: 3] وقال الزجاج ادْعُوا رَبَّكُمْ معناه اعبدوا ربكم تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي باستكانة واعتقاد ذلك في القلوب، وقرأ جميع السبعة «وخفية» بضم الخاء، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر هنا وفي الأنعام و «خفية» بكسرها وهما لغتان، وقد قيل إن «خفية» بكسر الخاء بمعنى الخوف والرهبة، ويظهر ذلك من كلام أبي علي.
وقرأت فرقة «وخيفة» من الخوف، أي ادعوه باستكانة وخوف ذكرها ابن سيده في المحكم ولم ينسبها، وقال أبو حاتم قرأها الأعمش فيما زعموا، وقوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ يريد في الدعاء وإن كان اللفظ عاما، فإلى هذا هي الإشارة، والاعتداء في الدعاء على وجوه، منها الجهر الكثير والصياح كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم- وقد رفعوا أصواتهم بالتكبير-: «أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا» ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي أو يدعو في محال ونحو هذا من التشطط، ومنها أن يدعو طالبا معصية وغير ذلك، وفي هذه الأسئلة كفاية، وقرأ ابن أبي عبلة «إن الله لا يحب المعتدين» ، والمعتدي هو مجاوز الحد ومرتكب الحظر، وقد يتفاضل بحسب ما اعتدى فيه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيكون أقوام يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول:
اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل» .
وقوله تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ الآية، ألفاظ عامة تتضمن كل إفساد قلّ أو كثر بعد إصلاح، قل أو كثر، والقصد بالنهي هو على العموم وتخصيص شيء دون شيء في هذا تحكم إلا أن يقال على وجهة المثال، قال الضحاك: معناه لا تغوروا الماء المعين ولا تقطعوا الشجر المثمر ضرارا، وقد ورد قطع الدينار والدرهم من الفساد في الأرض، وقد قيل تجارة الحكام من الفساد في الأرض، وقال بعض الناس: المراد ولا تشركوا في الأرض بعد أن أصلحها الله ببعثة الرسل وتقرير الشرائع ووضوح ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وقائل هذه المقالة قصد إلى أكبر فساد بعد أعظم صلاح فخصه بالذكر.

(2/410)


وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

وقوله تعالى: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب وتحزن وتأميل لله عز وجل حتى يكون الرجاء والخوف كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامة وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان، وقد قال كثير من العلماء ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة، فإذا جاء الموت غلب الرجاء، وقد رأى كثير من العلماء أن يكون الخوف أغلب على المرء بكثير، وهذا كله احتياط ومنه تمني الحسن البصري أن يكون الرجل الذي هو آخر من يدخل الجنة، وتمنى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف لأن مذهبه أنهم مذنبون، ثم أنس قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فإنها آية وعد فيها تقييد بقوله مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
واختلف الناس في وجه حذف التاء من قَرِيبٌ في صفة الرحمة على أقوال، منها أنه على جهة النسب أي ذات قرب، ومنها أنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جرت مجرى كف خضيب ولحية دهين، ومنها أنها بمعنى مذكر فذكر الوصف لذلك.
واختلف أهل هذا القول في تقدير المذكر الذي هي بدل منه فقالت فرقة الغفران والعفو، وقالت فرقة المطر، وقيل غير ذلك، وقال الفراء: لفظة القرب إذا استعملت في النسب والقرابة فهي مع المؤنث بتاء ولا بد، وإذا استعملت في قرب المسافة.
قال القاضي أبو محمد: أو الزمن- فقد تجيء مع المؤنث بتاء وقد تجيء بغير تاء، وهذا منه، ومن هذا قول الشاعر: [الطويل]
عشية لا عفراء منك قريبة ... فتدنو ولا عفراء منك بعيد
فجمع في هذا البيت بين الوجهين.
قال القاضي أبو محمد: هذا قول الفراء في كتابه، وقد مر في بعض كتب المفسرين مقيدا ورد الزجّاج على هذا القول، وقال أبو عبيدة قَرِيبٌ في الآية ليس بصفة للرحمة وإنما هو ظرف لها وموضع، فيجيء هكذا في المؤنث والاثنين والجميع وكذلك بعيد، فإذا جعلوها صفة بمعنى مقربة قالوا قريبة وقريبتان وقريبات.
وذكر الطبري أن قوله قَرِيبٌ إنما يراد به مقاربة الأرواح للأجساد أي عند ذلك تنالهم الرحمة.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 58]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
هذه آية اعتبار واستدلال، وقرأ نافع وأبو عمرو «الرياح» بالجمع «نشرا» بضم النون والشين، قال أبو

(2/411)


حاتم: وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء، واختلف عنهم الأعرج، وأبي جعفر ونافع وأبي عمرو وعيسى بن عمر وأبي يحيى وأبي نوفل الأعرابيين، وقرأ ابن كثير «الريح» واحدة «نشرا» بضمها أيضا، وقرأ ابن عامر «الرياح» جمعا «نشرا» بضم النون وسكون الشين، قال أبو حاتم: ورويت عن الحسن وأبي عبد الرحمن وأبي رجاء وقتادة وأبي عمرو، وقرأ حمزة والكسائي، «الريح» واحدة، «نشرا» بفتح النون وسكون الشين، قال أبو حاتم وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وزر بن حبيش وابن وثاب وإبراهيم وطلحة والأعمش ومسروق بن الأجدع، وقرأ ابن جني قراءة مسروق «نشرا» بفتح النون والشين، وقرأ عاصم «الرياح» جماعة «بشرا» بالباء المضمومة والشين الساكنة، وروي عنه «بشرا» بضم الباء والشين، وقرأ بها ابن عباس والسلمي وابن أبي عبلة. وقرأ محمد بن السميفع وأبو قطيب «بشرى» على وزن فعلى بضم الباء، ورويت عن أبي يحيى وأبي نوفل، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «بشرا» بفتح الباء وسكون الشين، قال الزهراوي: ورويت هذه عن عاصم.
ومن جمع الريح في هذه الآية فهو أسعد، وذلك أن الرياح حيث وقعت في القرآن فهي مقترنة بالرحمة كقوله وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الروم: 45] وقوله وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الحجر: 22] وقوله اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الروم: 48] وأكثر ذكر الريح مفردة، إنما هو بقرينة عذاب، كقوله وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذاريات: 41] وقوله وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ [الحاقة: 6] وقوله بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الأحقاف: 24] نحا هذا المنحى يحيى بن يعمر وأبو عمرو بن العلاء وعاصم، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت الريح يقول «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» .
قال القاضي أبو محمد: والمعنى في هذا كله بين، وذلك أن ريح السقيا والمطر أنها هي منتشرة لينة تجيء من هاهنا وتتفرق فيحسن من حيث هي منفصلة الأجزاء متغايرة المهب يسيرا أن يقال لها رياح، وتوصف بالكثرة ريح الصر والعذاب، عاصفة صرصر جسد واحد شديدة المر مهلكة بقوتها وبما تحمله أحيانا من الصر المحرق، فيحسن من حيث هي شديدة الاتصال أن تسمى ريحا مفردة، وكذلك أفردت الريح في قوله تعالى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس: 22] من حيث جري السفن إنما جرت بريح متصلة كأنها شيء واحد فأفردت لذلك ووصفت بالطيب إزالة الاشتراك بينها وبين الريح المكروهة، وكذلك ريح سليمان عليه السلام إنما كانت تجري بأمره أو تعصف في حقوله وهي متصلة، وبعد فمن قرأ في هذه الآية الريح بالإفراد فإنما يريد به اسم الجنس، وأيضا فتقييدها ب «نشر» يزيل الاشتراك.
والإرسال في الريح هو بمعنى والإجراء والإطلاق والإسالة ومنه الحديث فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، والريح تجمع في القليل أرواح وفي الكثير رياح لأن العين من الريح واو انقلبت في الواحد ياء للكسر الذي قبلها، وكذلك في الجمع الكثير، وصحت في القليل لأنه لا شيء فيه يوجب الإعلال، وأما «نشرا» بضم النون والشين فيحتمل أن يكون جمع ناشر على النسب أي ذات نشر من الطي أو نشور من الحياة، ويحتمل «نشرا» أن يكون جمع نشور بفتح النون وضم الشين كرسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر، ويحتمل «نشرا» أن يكون كالمفعول بمعنى منشور

(2/412)


كركوب بمعنى مركوب، ويحتمل أن يكون من أبنية اسم الفاعل لأنها تنشر الحساب، وأما مثال الأول في قولنا ناشر ونشر فشاهد وشهد ونازل ونزل، كما قال الشاعر:
أو تنزلون فإنّا معشر نزل وقاتل وقتل ومنه قول الأعشى: [البسيط] إنا لمثلكم يا قومنا قتل وأما من قرأ «نشرا» بضم النون وسكون الشين فإنما خفف الشين من قوله نَشْراً وأما من قرأ «نشرا» بفتح النون وسكون الشين فهو مصدر في موضع الحال من الريح، ويحتمل في المعنى أن يراد به من النشر الذي هو خلاف الطيّ كل بقاء الريح دون هبوب طيّ، ويحتمل أن يكون من أن النشر الذي هو الإحياء كما قال الأعشى: [السريع] يا عجبا للميّت الناشر وأما من قرأ «نشرا» بفتح النون والشين وهي قراءة شاذة فهو اسم وهو على النسب، قال أبو الفتح أي ذوات نشر، والنّشر أن تنتشر الغنم بالليل فترعى، فشبه السحاب، في انتشاره وعمومه بذلك، وأما «بشرا» بضم الباء والشين فجمع بشير كنذير ونذر، و «بشرا» بسكون الشين مخفف منه و «بشرا» بفتح الباء وسكون الشين مصدر و «بشرى» مصدر أيضا في موضع الحال. و «الرحمة» في هذه الآية المطر، وبَيْنَ يَدَيْ أي أمام رحمته وقدامها وهي هنا استعارة وهي حقيقة فيما بين يدي الإنسان من الأجرام.
وأَقَلَّتْ معناه: رفعت من الأرض واستقلت بها، ومنه القلة وكأن المقل يرد ما رفع قليلا إذا قدر عليه، وثِقالًا معناه من الماء، والعرب تصف السحاب بالثقل والدلح، ومنه قول قيس بن الخطيم:
[المتقارب]
بأحسن منها ولا مزنة ... دلوح تكشف أدجانها
والريح تسوق السحاب من ورائها فهو سوق حقيقة، والضمير في سُقْناهُ عائد على السحاب، واستند الفعل إلى ضمير اسم الله تعالى من حيث هو إنعام، وصفة البلد بالموت استعارة بسبب سعته وجدوبته وتصويح نباته، وقرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش: «لبلد ميت» بسكون الياء وشدها الباقون، والضمير في قوله: فَأَنْزَلْنا بِهِ يحتمل أن يعود على الحساب أي منه، ويحتمل أن يعود على البلد، ويحتمل أن يعود على الماء وهو أظهرها، وقال السدي في تفسير هذه الآية: إن الله تعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين طرق السماء والأرض حيث يلتقيان فتخرجه من ثم ثم تنشره فتبسطه في السماء ثم تفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم تمطر السحاب بعد ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التفصيل لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله تبارك وتعالى كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى يحتمل مقصدين أحدهما أن يراد كهذه القدرة العظيمة في إنزال الماء وإخراج الثمرات به من الأرض المجدبة هي القدرة على إحياء الموتى من الأجداث وهذه مثال لها، ويحتمل أن

(2/413)


لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)

يراد أن هكذا يصنع بالأموات من نزول المطر عليهم حتى يحيوا به فيكون الكلام خبرا لا مثلا، وهذا التأويل إنما يستند إلى الحديث الذي ذكره الطبري عن أبي هريرة أن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى مطر عليهم مطر من ماء تحت العرش يقال له ماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع، فإذا كملت أجسادهم نفخ فيهم الروح، ثم تلقى عليهم نومة فينامون فإذا نفخ في الصور الثانية قاموا وهم يجدون طعم النوم، فيقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا، فيناديهم المنادي هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.
وقوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ آية متممة للمعنى الأول في الآية قبلها معرفة بعادة الله تعالى في إنبات الأرضين، فمن أراد أن يجعلها مثالا لقلب المؤمن وقلب الكافر فذلك كله مرتب، لكن ألفاظ الآية لا تقتضي أن المثال قصد بذلك والتمثيل بذلك حكاه الطبري عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي، وقال النحاس: هو مثال للفهيم وللبليد، والطَّيِّبُ: هو الجيد التراب الكريم الأرض، وخص بإذن ربه مدحا وتشريفا، وهذا كما تقول لمن تغض منه، أنت كما شاء الله فهي عبارة تعطي مبالغة في مدح أو ذم ومن هذا قوله تعالى: فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 275] على بعض التأويلات، والخبيث هو السباخ ونحوها من رديء الأرض، وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر «يخرج نباته» بضم الياء وكسر الراء ونصب التاء، و «النكد» العسير القليل، ومنه قول الشاعر: [المنسرح]
لا تنجز الوعد إن وعدت وإن ... أعطيت أعطيت تافها نكدا
ونكد الرجل إذا سأل إلحافا وأخجل ومنه قول الشاعر: [السريع]
وأعط ما أعطيته طيبا ... لا خير في المنكود والناكد
وقرأ جمهور الناس وجميع السبعة «نكدا» بفتح النون وكسر الكاف، وقرأ طلحة بن مصرف «نكدا» بتخفيف الكاف وفتح النون، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «نكدا» بفتح النون والكاف، وقال الزجّاج: وهي قراءة أهل المدينة كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي هكذا نبين الأمور، ويَشْكُرُونَ معناه يؤمنون ويثنون بآلاء الله.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 62]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62)
اللام لام القسم، قال الطبري أقسم الله تعالى أنه أرسل نوحا، وقالت فرقة من المفسرين: سمي نوحا لأنه كان ينوح على نفسه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، قال سيبويه: نوح ولوط وهود أسماء أعجمية إلا أنها حقيقة

(2/414)


أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)

فلذلك صرفت، وهذه نذارة من نوح لقومه دعاهم إلى عبادة الله وحده ورفض آلهتهم المسماة ودا وسواعا ويغوث ويعوق وغيرها مما لم يشتهر، وقرأ الكسائي وحده «غيره» بالكسر من الراء على النعت ل إِلهٍ، وهي قراءة يحيى بن وثاب والأعمش وأبي جعفر، وقرأ الباقون «غيره» بالرفع، وقرأ حمزة والكسائي «هل من خالق غير الله» خفضا، وقرأ الباقون: «غير الله» رفعا والرفع في قراءة الجماعة هنا على البدل من قوله مِنْ إِلهٍ لأن موضع قوله: مِنْ إِلهٍ رفع، وهو الذي رجح الفارسي، ويجوز أن يكون نعتا على الموضع لأن التقرير ما لكم إله غيره، أو يقدر «غير» ب «إلا» فيعرب بإعراب ما يقع بعد «إلا» ، وقرأ عيسى بن عمر «غيره» بنصب الراء على الاستثناء، قال أبو حاتم: وذلك ضعيف من أجل النفي المتقدم، وقوله عَذابَ يحتمل أن يريد به عذاب الدنيا ويحتمل أن يريد به عذاب الآخرة.
والْمَلَأُ الجماعة الشريفة، قال الطبري: لا امرأة فيهم، وحكاه النقاش عن ثعلب في الملأ والرهط والنفر والقوم، وقيل هم مأخوذون من أنهم يملؤون النفس والعين، ويحتمل أن يكون من أنهم إذا تمالؤوا على أمرتم، وقال سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري عند قفول رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر إنما قتلنا عجائز صلعا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أولئك الملأ من قريش لو حضرت أفعالهم لاحتقرت فعلك» . والملأ صفة غالبة وجمعه أملاء وليس من باب رهط وإن كانا اسمين للجمع لأن رهط لا واحد له من لفظه، و «ملأ» يوجد من لفظه مالىء قال أحمد بن يحيى: المالئ الرجل الجليل الذي يملأ العين بجهرته فيجيء كعازب وخادم ورائح فإن أسماء جموعها عرب وخدم وروح، وإن كانت اللفظة من تمالأ القوم على كذا فهي مفارقة باب رهط ومنه قول علي رضي الله عنه: ما قتلت عثمان ولا مالأت في دمه، وقال ابن عباس «الملؤ» بواو وكذلك هي في مصاحف الشام، وقولهم لنراك يحتمل أن يجعل من رؤية البصر، ويحتمل من رؤية القلب وهو الأظهر وفِي ضَلالٍ أي في إتلاف وجهالة بما تسلك.
وقوله لهم جوابا عن هذا لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ مبالغة في حسن الأدب والإعراض عن الجفاء منهم وتناول رفيق وسعة صدر حسبما يقتضيه خلق النبوة، وقوله: وَلكِنِّي رَسُولٌ تعرض لمن يريد النظر والبحث والتأمل في المعجزة.
قال القاضي أبو محمد: ونقدر ولا بد أن نوحا عليه السلام وكل نبي مبعوث إلى الخلق كانت له معجزة تخرق العادة فمنهم من عرفنا بمعجزته ومنهم من لم نعرف.
وقرأ السبعة سوى أبي عمرو «أبلّغكم» بشد اللام وفتح الباء، بسكون الباء وتخفيف اللام، وقوله صلى الله عليه وسلم وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وإن كان لفظا عاما في كل ما علمه فالمقصود منه هنا المعلومات المخوفات عليهم لا سيما وهم لم يسمعوا قط بأمة عذبت فاللفظ مضمن الوعيد.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 63 الى 64]
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)

(2/415)


وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)

هذه ألف استفهام دخلت على الواو العاطفة، والاستفهام هنا بمعنى التقرير والتوبيخ، وعجبهم الذي وقع إنما كان على جهة الاستبعاد والاستمحال، هذا هو الظاهر من قصتهم، وقوله: عَلى قيل هي بمعنى مع، وقيل هو على حذف مضاف تقديره على لسان رجل منكم.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون المجيء بنفسه في هذا الموضع يصل ب عَلى إذ كل ما يأتي من الله تعالى فله حكم النزول فكأن جاءَكُمْ معناه نزل فحسن معه أن يقال عَلى رَجُلٍ واللام في لِيُنْذِرَكُمْ لام كي. وقوله وَلَعَلَّكُمْ ترجّ بحسب حال نوح ومعتقده لأن هذا الخبر إنما هو من تلقاء نوح عليه السلام.
وقوله: فَكَذَّبُوهُ الآية، أخبر الله عنهم أنهم بعد تلطفه بهم كذبوه فأنجاه الله والمؤمنين به في السفينة وهي الفلك، والْفُلْكِ لفظ واحد للجمع والمفرد، وليس على حد جنب ونحوه، لكن فلك للواحد كسر على فلك للجميع فضمة الفاء في الواحد ليست هي في الجمع وفعل بناء تكسير مثل أسد وأسد، ويدل على ذلك قولهم في التثنية فلكان، وفي التفسير: أن الذين كانوا مع نوح في السفينة أربعون رجلا، وقيل ثمانون. وقيل عشرة، فهم أولاده يافث وسام وحام، وفي كثير من كتب الحديث للترمذي وغيره: أن جميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه السلام، وقال الزهري في كتاب النقاش: وفي القرآن ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ [الإسراء: 3] .
قال القاضي أبو محمد: فيحتمل أن يكون سائر العشرة أو الأربعين حسب الخلاف حفدة لنوح ومن ذريته فتجتمع الآية والحديث، ويحتمل أن من كان في السفينة غير بنيه لم ينسل، وقد روي ذلك، وإلا لكان بين الحديث والآية تعارض، وقوله: كَذَّبُوا بِآياتِنا يقتضي أن نوحا عليه السلام كانت له آيات ومعجزات، وقوله: عَمِينَ وزنه فعلين وهو جمع عم وزنه فعل، ويريد عمى البصائر، وروي عن ابن عباس أن نوحا بعث ابن أربعين سنة، قال ابن الكلبي: بعد آدم بثمانمائة سنة، وجاء بتحريم البنات والأخوات والأمهات والخالات والعمات، وقال وهب بن منبه بعث نوح وهو ابن أربعمائة سنة، وقيل بعث ابن ثلاثمائة سنة، وقيل ابن خمسين سنة، وروي أنه عمر بعد الغرق ستين سنة، وروي أن الطوفان كان سنة ألف وستمائة من عمره صلى الله عليه وسلم، وأتى في حديث الشفاعة وغيره: أن نوحا أول نبي بعث إلى الناس، وأتى أيضا أن إدريس قبل نوح ومن آبائه وذلك يجتمع بأن تكون بعثة نوح مشتهرة لإصلاح الناس وحملهم بالعذاب والإهلاك على الإيمان، فالمراد أنه أول نبي بعث على هذه الصفة.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 68]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68)

(2/416)


أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)

عادٍ اسم الحي، وأَخاهُمْ نصب ب أَرْسَلْنا [الأعراف: 59] فهو معطوف على نوح، وهذه أيضا نذارة من هود عليه السلام لقومه، وتقدم الخلاف في قراءة غَيْرُهُ وقوله أَفَلا تَتَّقُونَ استعطاف إلى التقى والإيمان.
وقوله تعالى: قالَ الْمَلَأُ الآية، تقدم القول في مثل هذه المقالة آنفا، و «السفاهة» مصدر عبر به عن الحال المهلهلة الرقيقة التي لا ثبات لها ولا جودة، والسفه، في الثوب خفة نسجه، ومنه قول الشاعر:
[الطويل] [ذي الرمة]
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مرّ الرياح النواسم
وقولهم: لَنَظُنُّكَ هو ظن على بابه لأنهم لم يكن عندهم إلا ظنون وتخرص.
وتقدم الخلاف في قراءة أُبَلِّغُكُمْ وقوله: أَمِينٌ يحتمل أن يريد: على الوحي والذكر النازل من قبل الله عز وجل، ويحتمل أن يريد: أنه أمين عليهم وعلى غيبهم وعلى إرادة الخير بهم، والعرب تقول:
فلان لفلان ناصح الجيب أمين الغيب، ويحتمل أن يريد به أمين من الأمن أي جهتي ذات أمن من الكذب والغش.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 69 الى 70]
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)
قد تقدم القول في مثل أَوَعَجِبْتُمْ و «الذكر» لفظ عام للمواعظ والأوامر والنواهي، وقوله تعالى:
وَاذْكُرُوا الآية، تعديد للنعم عليهم، وخُلَفاءَ جمع خليف كظريف وظرفاء، وخليفة جمع خلائف، والعرب تقول خليفة وخليف، وأنشد أبو علي:
فإن يزل زائل يوجد خليفته ... وما خليف أبي وهب بموجود
قال السدي وابن إسحاق: والمعنى جعلكم سكان الأرض بعد قوم نوح، وقوله: وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي في الخلقة، والبصطة الكمال في الطول والعرض، وقيل زادكم على أهل عصركم، قال الطبري: المعنى زادكم على قوم نوح وقاله قتادة.

(2/417)


قال القاضي أبو محمد: واللفظ يقتضي أن الزيادة هي على جميع العالم، وهو الذي يقتضي ما يذكر عنهم، وروي أن طول الرجل منهم كان مائة ذراع وطول أقصرهم ستون ونحو هذا. و «الآلاء» : جمع «إلا» على مثال معى، وأنشد الزجّاج: [للأعشى]
أبيض لا يرهب الهزال ولا ... يقطع رحما ولا يخون إلا
وقيل واحد الآلاء «ألا» على مثال قفى، وقيل واحدها «إلى» على مثال حسى وهي النعمة والمنة، وتُفْلِحُونَ: معناه تدركون البغية والآمال، قال الطبري وعاد هؤلاء فيما حدث ابن إسحاق من ولد عاد بن إرم ابن عوص بن سام بن نوح، وكانت مساكنهم الشحر من أرض اليمن وما والى حضرموت إلى عمان، وقال السدي وكانوا بالأحقاف وهي الرمال، وكانت بلادهم أخصب بلاد فردها الله صحارى، وقال علي بن أبي طالب: إن قبر هود عليه السلام هنالك في كثيب أحمر يخالطه مدرة ذات أراك وسدر، وكانوا قد فشوا في جميع الأرض وملكوا كثيرا بقوتهم وعددهم وظلموا الناس و، كانوا ثلاث عشرة قبيلة وكانوا أصحاب أوثان منها ما يسمى صداء ومنها صمودا ومنها الهنا فبعث الله إليهم هودا من أفضلهم وأوسطهم نسبا فدعاهم إلى توحيد الله وإلى ترك الظلم.
قال ابن إسحاق: لم يأمرهم فيما يذكر بغير ذلك فكذبوه وعتوا واستمر ذلك منهم إلى أن أراد الله إنفاذ أمره أمسك عنهم المطر ثلاث سنين، فشقوا بذلك وكان الناس في ذلك الزمان إذا أهمهم أمر فزعوا إلى المسجد الحرام بمكة فدعوا الله فيه تعظيما له مؤمنهم وكافرهم، وأهل مكة يومئذ العماليق وسيدهم رجل يسمى معاوية بن بكر، فاجتمعت عاد على أن تجهز منهم وفدا إلى مكة يستسقون الله لهم، فبعثوا قيل بن عنز ولقيم بن هزال وعثيل بن ضد بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد بن عفير، وكان هذا مؤمنا يكتم إيمانه وجلهمة بن الخبيري في سبعين رجلا من قومهم، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم فأنزلهم وأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتا معاوية، ولما رأى معاوية إقامتهم وقد بعثتهم عاد للغوث أشفق على عاد وكان ابن أختهم كلهدة بن الخبير أخت جلهمة، وقال هلك أخوالي وشق عليه أن يأمر أضيافه بالانصراف عند فشكا ذلك إلى قينة فقالت له اصنع شعرا نغني به عسى أن ننبههم فقال: [الوافر]
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يصحبنا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا ... قد امسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو ... به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير ... فقد أمست نساؤهم عياما
وإن الوحش تأتيهم جهارا ... ولا تخشى لعاديّ سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم التماما
فقبّح وفدكم من وفد قوم ... ولا لقّوا التحيّة والسّلاما
فغنت به الجرادتان فلما سمعه القوم قال بعضهم يا قوم إنما بعثكم قومكم لما حل بهم فادخلوا هذا

(2/418)


قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)

الحرم وادعوا لعل الله يغيثهم فخرجوا لذلك فقال لهم مرثد بن سعد إنكم والله ما تسقون بدعائكم، ولكنكم إن أطعتم نبيكم وآمنتم به سقيتم، وأظهر إيمانه يومئذ فخالفه الوفد، وقالوا لمعاوية بن بكر وأبيه بكر احبسا عنا مرثدا ولا يدخل معنا الحرم، فإنه قد اتبع هودا ومضوا إلى مكة فاستسقى قيل بن عنز، وقال يا إلهنا إن كان هود صالحا فاسقنا فإنّا قد هلكنا، فأنشأ الله سحائب ثلاثا بيضاء وسوداء، ثم ناداه مناد من السحاب يا قيل اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب، فقال قيل قد اخترت السوداء فإنها أكثرها ماء، فنودي اخترت رمادا رمددا لا تبقي من عاد أحدا، لا والدا ولا ولدا، إلا جعلتهم همدا، وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث، فلما رأوها قالوا هذا عارض ممطرنا، حتى عرفت أنها ريح امرأة من عاد يقال لها مهد، فصاحت وصعقت فلما أفاقت قيل لها ما رأيت؟ قالت رأيت ريحا كشهب النار أمامها رجال يقودونها، فسخرها الله عليهم ثمانية أيام حسوما وسبع ليال، والحسوم الدائمة فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك، فاعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه من الريح إلا ما يلتذ به.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قصص وقع في تفسير مطولا، وفيه اختلاف فاقتضبت عيون ذلك بحسب الإيجاز وفي خبرهم أن الريح كانت تدمغهم بالحجارة وترفع الظعينة عليها المرأة، حتى تلقيها في البحر، وفي خبرهم أن أقوياءهم كان أحدهم يسد بنفسه مهب الريح حتى تغلبه فتلقيه في البحر، فيقوم آخر مكانه حتى هلك الجميع، وقال زيد بن أسلم: بلغني أن ضبعا ربت أولادها في حجاج عين رجل منهم وفي خبرهم، أن الله بعث لما هلكت عاد طيرا وقيل أسدا فنقلت جيفهم حتى طرحتها في البحر، فذلك قوله فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [الأحقاف: 25] في بعض ما روي من شأنهم: أن الريح لم تبعث قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها تمت على الخزنة فغلبتهم فذلك قوله: فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ [الحاقة: 6] وروي أن هودا لما هلكت عاد نزل بمن آمن معه إلى مكة فكانوا بها حتى ماتوا، فالله علم أي ذلك كان.
وقوله تعالى: قالُوا أَجِئْتَنا الآية، ظاهر قولهم وحده أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم ويفردوا العبادة لله مع إقرارهم بالإله الخالق المبدع، ويحتمل أن يكونوا منكرين لله ويكون قولهم لنعبد الله وحده أي على قولك يا هود، والتأويل الأول أظهر فيهم وفي عباد الأوثان كلهم، ولا يجحد ربوبية الله تعالى من الكفرة إلا من أفرطت غباوته كإربد بن ربيعة، وإلا من ادعاها لنفسه كفرعون ونمرود، وقوله: فَأْتِنا تصميم على التكذيب واحتقار لأمر النبوءة واستعجال للعقوبة، وتمكن قولهم: تَعِدُنا لما كان هذا الوعد مصرحا به في الشر ولو كان ذكر الوعد مطلقا لم يجىء إلا في خبر.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 71 الى 73]
قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)

(2/419)


أعلمهم بأن القضاء قد نفذ وحل عليهم الرجس وهو السخط والعذاب يقال «رجس ورجز» بمعنى واحد، قاله أبو عمرو بن العلاء، وقال الشاعر: [الطويل]
إذا سنة كانت بنجد محيطة ... فكان عليهم رجسها وعذابها
وقد يأتي الرجس أيضا بمعنى النتن والقذر، ويقال في الرجيع رجس وركس، وهذا الرجس هو المستعار للمحرمات، أي ينبغي أن يجتنب كما يجتنب النتن، ونحوه في المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في خبر جهجاه الغفاري وسنان بن وبرة الأنصاري حين دعوا بدعوى الجاهلية: «دعوها فإنها منتنة» .
وقوله: أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ إنما يريد أنهم يخاصمونه في أن تسمى آلهة، فالجدل إنما وقع في التسميات لا في المسميات، لكنه ورد في القرآن ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ [يوسف: 40] فهنا لا يريد إلا ذوات الأصنام، فالاسم إنما يراد به المسمى نفسه.
قال القاضي أبو محمد: ومن رأى أن الجدل في هذه الآية إنما وقع في أنفس الأصنام وعبادتها تأول هذا التأويل، والاسم يرد في كلام العرب بمعنى التسمية وهذا بابه الذي استعمله به النحويون، وقد يراد به المسمى ويدل عليه ما قاربه من القول، من ذلك قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] وقوله تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرحمن: 78] على أن هذا يتأول، ومنه قول لبيد: [الطويل] إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما على تأويلات في البيت، وقد مضت المسألة في صدر الكتاب والسلطان: البرهان وقوله فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ الآية وعيد وتهديد.
والضمير في قوله «أنجيناه» عائد على «هود» أي أخرجه الله سالما ناجيا مع من اتبعه من المؤمنين برحمة الله وفضله، وخرج هود ومن آمن معه حتى نزلوا مكة فأقاموا بها حتى ماتوا وَقَطَعْنا دابِرَ استعارة تستعمل فيمن يستأصل بالهلاك، و «الدابر» الذي يدبر القوم ويأتي خلفهم: فإذا انتهى القطع والاستئصال إلى ذلك فلم يبق أحد وقوله كَذَّبُوا بِآياتِنا دال على المعجزة وإن لم تتعين لها.
وقوله تعالى: وَإِلى ثَمُودَ الآية، هو «ثمود» بن غاثن بن أرم بن سام بن نوح أخو جديس بن غاثن، وقرأ يحيى بن وثاب «وإلى ثمود» بكسر الدال وتنوينه في جميع القرآن، وصرفه على اسم الحي وترك صرفه على اسم القبيلة، قاله الزجاج، وقال الله تعالى: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ فالمعنى:
وأرسلنا «إلى ثمود أخاهم» فهو عطف على نوح، والأخوة هنا أخوة القرابة، وقال الزجاج يحتمل أن تكون أخوة الآدمية، وسمى أَخاهُمْ لما بعث إليهم وهم قوم عرب و «هود وصالح» عربيان، وكذلك إسماعيل

(2/420)


وشعيب، كذا قال النقاش، وفي أمر إسماعيل عليه السلام نظر، وصالح عليه السلام هو صالح بن عبيد بن عارم بن أرم بن سام بن نوح كذا ذكر مكي، وقال وهب بعثه الله حين راهق الحلم، ولما هلك قومه ارتحل بمن معه إلى مكة، فأقاموا بها، حتى ماتوا فقبورهم بين دار الندوة والحجر، وقوله بَيِّنَةٌ صفة حذف الموصوف وأقيمت مقامه، قال سيبويه وذلك قبيح في النكرة أن تحذف وتقام صفتها مقامها، لكن إذا كانت الصفة كثيرة الاستعمال مشتهرة وهي المقصود في الأخبار والأمم زال القبح، كما تقول جاءني عبد لبني فلان وأنت تريد جاءني رجل عبد لأن عبدا صفة فكذلك قوله هنا بَيِّنَةٌ، المعنى آية أو حجة أو موعظة «بينة» ، وقال بعض الناس إن «صالحا» جاء بالناقة من تلقاء نفسه، وقالت فرقة وهي الجمهور: بل كانت مقترحة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أليق بما ورد في الآثار من أمرهم، وروي أن بعضهم قال «يا صالح» إن كنت صادقا فادع ربك يخرج لنا من هذه الهضبة وفي بعض الروايات من هذه الصخرة لصخرة بالحجر يقال لها الكاثبة ناقة عشراء قال فدعا الله فتمخضت تلك الهضبة وتنفضت وانشقت عن ناقة عظيمة، وروي: أنها كانت حاملا فولدت سقبها المشهور، وروي أنه خرج معها فصيلها من الصخرة، وروي: أن جملا من جمال ثَمُودَ ضربها فولدت فصيلها المشهور، وقيل ناقَةُ اللَّهِ تشريفا لها وتخصيصا، وهي إضافة خلق إلى خالق، وقال الزجاج: وقيل إنها ناقة من سائر النوق وجعل الله لها شربا يوما ولهم شرب يوم، وكانت الآية في شربها وحلبها.
قال القاضي أبو محمد: وحكى النقاش عن الحسن أنه قال: هي ناقة اعترضها من إبلهم ولم تكن تحلب والذي عليه الناس أقوى وأصح من هذا، قال المفسرون: وكانت حلفا عظيما تأتي إلى الماء بين جبلين فيزحمانها من العظم وقاسمت ثَمُودَ في الماء يوما بيوم فكانت ترد يومها فتستوفي ماء بئر همشريا ويحلبونها ما شاؤوا من لبن ثم تمكث يوما وترد بعد ذلك غيا، فاستمر ذلك ما شاء الله حتى أماتها ثَمُودَ وقالوا ما نصنع باللبن، الماء أحب إلينا منه، وكان سبب الملل فيما روي أنها كانت تصيف في بطن الوادي وادي الحجر وتستوفي ظاهره فكانت مواشيهم تفر منها فتصيف في ظهر الوادي للقيظ، وتستوفي باطنه للزمهرير وفسدت لذلك، فتمالؤوا على قتل الناقة فقال لهم «صالح» مرة إن هذا الشهر يولد فيه مولود يكون هلاككم على يديه، فولد لعشرة نفر أولاد فذبح التسعة أولادهم، وبقي العاشر وهو سالف أبو قدار، فنشأ قدار أحمر أزرق فكان التسعة إذا رأوه قالوا لو عاش بنونا كانوا مثل هذا، فاحفظهم إن قتلوا أولادهم بكلام صالح.
فأجمعوا على قتله، فخرجوا وكمنوا في غار ليبيتوه منه وتقاسموا لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله، فسقط الغار عليهم فماتوا فهم الرهط التسعة الذين ذكر الله تعالى في كتابه هم قدار بن سالف، ومصرع بن مهرج ضما إلى أنفسهما سبعة نفر وعزموا على عقر الناقة، وروي أن السبب في ذلك أن امرأتين من ثَمُودَ من أعداء «صالح» جعلتا لقدار ومصرع أنفسهما وأموالهما على أن يعقرا الناقة وكانتا من أهل الجمال، وقيل إن قدارا شرب الخمر مع قوم فطلبوا ماء يمزجون به الخمر فلم يجدوه لشرب الناقة، فعزموا على عقرها حينئذ فخرجوا وجلسوا على طريقها وكمن لها قدار خلف صخرة، فلما دنت منه

(2/421)


وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)

رماها بالحربة ثم سقطت فنحرها، ثم اتبعوا الفصيل فهرب منهم حتى علا ربوة ورغا ثلاث مرات واستغاث فلحقوه وعقروه، وفي بعض الروايات أنهم وجدوا الفصيل على رابية من الأرض فأرادوه فارتفعت به حتى لحقت به في السماء فلم يقدروا عليه، فرغا الفصيل مستغيثا بالله تعالى فأوحى الله إلى «صالح» أن مرهم فليتمتعوا في دارهم ثلاثة أيام، وحكى النقاش عن الحسن أنه قال إن الله تعالى أنطق الفصيل فنادى أين أمي؟ فقال لهم «صالح» إن العذاب واقع بكم في الرابع من عقر الناقة، وروي: أنه عقرت يوم الأربعاء وقال لهم «صالح» تحمر وجوهم غدا وتصفر في الثاني وتسود في الثالث وينزل العذاب في الرابع يوم الأحد، فلما ظهرت العلامة التي قال لهم أيقنوا واستعدوا ولطخوا أبدانهم بالمن، وحفروا القبور وتحنطوا فأخذتهم الصيحة وخرج صالح ومن معه حتى نزل رملة فلسطين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القصص اقتضبته من كثير أورده الطبري رحمه الله رغبة الإيجاز، وقال أبو موسى الأشعري: أتيت بلاد ثَمُودَ فذرعت صدر الناقة فوجدته ستين ذراعا.
قال القاضي أبو محمد: وبلاد ثَمُودَ هي بين الشام والمدينة، وهي التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين في غزوة تبوك فقال لا تدخلوا مساكين الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم، ثم اعتجر بعمامته وأسرع السير صلى الله عليه وسلم وروي أن المسافة التي أهلكت الصيحة أهلها هي ثمانية عشر ميلا، وهي بلاد الحجر ومراتعها الجناب وحسمي إلى وادي القرى وما حوله، وقيل في قدار إنه ولد زنا من رجل يقال له ظيبان وولد على فراش سالف فنسب إليه ذكره قتادة وغيره، وذكر الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبر فقال أتعرفون ما هذا قالوا: لا، قال هذا قبر أبي رغال الذي هو أبو ثقيف كان من ثَمُودَ فأصاب قومه البلاء وهو بالحرم فسلم فلما خرج من الحرم أصابه ما أصابهم فدفن هنا وجعل معه غصن من ذهب قال فابتدر القوم بأسيافهم فحفروا حتى أخرجوا الغصن.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الخبر يريد ما في السير من أن أبا رغال هو دليل الفيل وحبيسه إلى مكة والله أعلم.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 74 الى 76]
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76)
بَوَّأَكُمْ معناه مكنكم، وهي مستعملة في المكان وظروفه، تقول تبوأ فلان منزلا حسنا، ومنه قوله

(2/422)


فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

تعالى تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آل عمران: 121] وقال الأعشى: [الطويل]
فما بوّأ الرحمان بيتك منزلا ... بشرقيّ أجياد الصّفا والمحرم
و «القصور» : جمع قصر وهي الدور التي قصرت على بقاع من الأرض مخصوصة بخلاف بيوت العمود وقصرت عن الناس قصرا تاما، و «النحت» النجر والقشر في الشيء الصلب كالحجر والعود ونحوه، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تنحتون» بفتح الحاء، وقرأ جمهور الناس: بكسرها وبالتاء من فوق، وقرأ ابن مصرف: بالياء من أسفل وكسر الحاء، وقرأ أبو مالك بالياء من أسفل وفتح الحاء، وكانوا «ينحتون» الجبال لطول أعمارهم، وتَعْثَوْا معناه تفسدوا يقال: عثا يعثي وعثا يعثو وعثى يعثى كنسى ينسى وعليها لفظ الآية، وقرأ الأعمش «تعثوا» بكسر التاء ومُفْسِدِينَ: حال.
وتقدم القول في الْمَلَأُ، وقرأ ابن عامر وحده في هذا الموضع «وقال الملأ» بواو عطف وهي محذوفة عند الجميع، والَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا هم الأشراف والعظماء الكفرة، واسْتَكْبَرُوا يحتمل أن يكون معناه طلبوا هيئة لنفوسهم من الكبر، أو يكون بمعنى كبروا كبرهم المال والجاه وأعظمهم فيكون على هذا كبر و «استكبر» بمعنى كعجب واستعجب، والأول هو باب استفعل كاستوقد واسترفد، والذين استضعفوا هم العامة والأغفال في الدنيا وهم أتباع الرسل، وقولهم أَتَعْلَمُونَ استفهام على معنى الاستهزاء والاستخفاف، فأجاب المؤمنون بالتصديق والصرامة في دين الله فحملت الأنفة الإشراف على مناقضة المؤمنين في مقالتهم واستمروا على كفرهم.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 77 الى 79]
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
قوله تعالى: فَعَقَرُوا يقتضي بتشريكهم أجمعين في الضمير أن عقر الناقة كان على تمالؤ منهم وإصفاق وكذلك: روي أن قدارا لم يعقرها حتى كان يستشير الرجال والنساء والصبيان، فلما أجمعوا تعاطى فعقر، وَعَتَوْا معناه خشوا وصلبوا ولم يذعنوا للأمر والشرع وصمموا على تكذيبه واستعجلوا النقمة بقولهم ائْتِنا بِما تَعِدُنا وحسن الوعد في هذا الموضع لما تقيد بأنه عذاب، قال أبو حاتم قرأ عيسى وعاصم أيتنا بهمز وإشباع ضم، وقرأ بتخفيف الهمزة كأنها ياء في اللفظ أبو عمرو والأعمش.
والرَّجْفَةُ ما تؤثره الصيحة أو الطامة التي يرجف بها الإنسان وهو أن يتزعزع ويتحرك ويضطرب ويرتعد. ومنه قول خديجة فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، ومنه قول الأخطل:
[البسيط] :
أما تريني حناني الشيب من كبر ... كالنسر أرجف والإنسان ممدود

(2/423)


وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

ومنه «إرجاف» النفوس لكريه الأخبار أي تحريكها، وروي أن صيحة ثمود كان فيها من صوت كل شيء هائل الصوت، وكانت مفرطة شقت قلوبهم فجثوا على صدورهم والجاثم اللاطئ بالأرض على صدره مع قبض ساقيه كما يرقد الأرنب والطير، فإن جثومها على وجهها، ومنه قول جرير: [الوافر] .
عرفت المنتأى وعرفت منها ... مطايا القدر كالحدأ الجثوم
وقال بعض المفسرين معناه حمما محترقين كالرماد الجاثم.
قال القاضي أبو محمد: وحيث وجد الرماد الجاثم في شعر فإنما هو مستعار لهيئة الرماد قبل هموده وتفرقه، وذهب صاحب هذا القول إلى أن الصيحة اقترن بها صواعق محرقة.
وأخبر الله عز وجل بفعل «صالح» في توليه عنهم وقت «عقرهم» الناقة وقولهم ائْتِنا بِما تَعِدُنا وذلك قبل نزول العذاب وكذلك روي أنه عليه السلام خرج من بين أظهرهم قبل نزول العذاب وهو الذي تقتضيه مخاطبته لهم، وأما لفظ الآية فيحتمل أن خاطبهم وهم موتى على جهة التفجع عليهم وذكر حالهم أو غير ذلك كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر، قال الطبري: وقيل لم تهلك أمة ونبيها معها، وروي أنه ارتحل بمن معه حتى جاء مكة فأقام بها حتى مات، ولفظة التولي تقتضي اليأس من خيرهم واليقين في إهلاكهم. وقوله: لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ عبارة عن تغليبهم الشهوات على الرأي، إذ كلام الناصح صعب مضاد لشهوة نفس الذي ينصح، ولذلك تقول العرب أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
«لوط» عليه السلام بعثه الله إلى أمة تسمى سدوم وروي أنه ابن أخي إبراهيم عليه السلام، ونصبه إما أَرْسَلْنا المتقدم في الأنبياء وإما بفعل مضمر تقديره واذكر لُوطاً واستفهامه لهم هو على جهة التوقيف والتوبيخ والتشنيع، والْفاحِشَةَ هنا إتيان الرجال في الأدبار، وروي أنه لم تكن هذه المعصية في أمم قبلهم.
قال القاضي أبو محمد: وإن كان لفظ الآية يقتضي هذا فقد كانت الآية تحتمل أن يراد بها ما سبقكم أحد إلى لزومها وتشهيرها وروي أنهم إن كانوا يأتي بعضهم بعضا، وروي أنهم إنما كانوا «يأتون» الغرباء قاله الحسن البصري، قال عمرو بن دينار ما زنا ذكر على ذكر قبل قوم «لوط» ، وحكى النقاش: أن إبليس كان أصل عملهم بأن دعاهم إلى نفسه، وقال بعض العلماء عامل اللواط كالزاني، وقال مالك رحمه الله

(2/424)


وغيره: يرجم أحصن أو لم يحصن، وحرق أبو بكر الصديق رضي الله عنه رجلا يسمى الفجأة حين عمل عمل قوم «لوط» .
وقرأ نافع والكسائي وحفص عن عاصم «أنكم» على الخبر كأنه فسر الْفاحِشَةَ وقرأ ابن كثير أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة: «أإنكم» باستفهام آخر، وهذا لأن الأول استفهام عن أمر مجمل والثاني عن مفسر، إلا أن حمزة وعاصما قرءا بهمزتين، ولم يهمز أبو عمرو وابن كثير إلا واحدة وشَهْوَةً:
نصب على المصدر من قولك شهيت الشيء شهاه، والمعنى تدعون الغرض المقصود بالوطء وهو ابتغاء ما كتب الله من الولد وتنفردون بالشهوة فقط، وقوله: بَلْ أَنْتُمْ إضراب عن الإخبار عنهم أو تقريرهم على المعصية وترك لذلك إلى الحكم عليهم بأنهم قوم قد تجاوزوا الحد وارتكبوا الحظر، والإسراف الزيادة المفسدة.
وقرأ الجمهور «جواب» بالنصب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «جواب» بالرفع، ولم تكن مراجعة قومه باحتجاج منهم ولا بمدافعة عقلية وإنما كانت بكفر وصرامة وخذلان بحت في قولهم أَخْرِجُوهُمْ وتعليلهم الإخراج بتطهير المخرجين، والضمير عائد على «لوط» وأهله وإن كان لم يجر لهم ذكر فإن المعنى يقتضيهم، وروي أنه لم يكن معه غير ابنتيه وعلى هذا عني في الضمير هو وابنتاه، ويَتَطَهَّرُونَ معناه يتنزهون عن حالنا وعادتنا، قال مجاهد معناه يَتَطَهَّرُونَ عن أدبار الرجال والنساء، قال قتادة: عابوهم بغير عيب وذموهم بغير ذم، والخلاف في أهله حسبما تقدم.
واستثنى الله امرأة «لوط» عليه السلام من الناجين وأخبر أنها هلكت، والغابر الباقي هذا المشهور في اللغة، ومنه غير الحيض كما قال أبو كبير الهذلي: [الكامل]
ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد من ضعة وداء مغيل
وغبر اللبن في الضرع بقيته، فقال بعض المفسرين: كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ في العذاب والعقاب أي مع الباقين ممن لم ينج، وقال أبو عبيدة معمر: ذكرها الله بأنها كانت ممن أسن وبقي من عصره إلى عصر غيره فكانت غابرة إلى أن هلكت مع قومها.
قال القاضي أبو محمد: فكأن قوله: إِلَّا امْرَأَتَهُ اكتفى به في أنها لم تنج ثم ابتدأ وصفها بعد ذلك بصفة لا تتعلق بها النجاة ولا الهلكة، والأول أظهر، وقد يجيء الغابر بمعنى الماضي، وكذلك حكى أهل اللغة غير بمعنى بقي وبمعنى مضى، وأما قول الأعشى: [السريع]
عض بما أبقى المواسي له ... من أمه في الزمن الغابر
فالظاهر أنه أراد الماضي وذلك بالنسبة إلى وقت الهجاء، ويحتمل أن يريد في الزمن الباقي وذلك بالنسبة إلى الحين هو غابر بعد الإبقاء، ويحتمل أن يعلق في الزمن بعض فيكون الباقي على الإطلاق والأول أظهر.
وقوله تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ الآية، نص على إمطار وتظاهرت الآيات في غير هذه السورة أنه

(2/425)


وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)

بحجارة، وروي أن الله عز وجل بعث جبريل فاقتلعها بجناحه وهي ست مدن، وقيل خمس، وقيل أربع، فرفعها حتى سمع أهل السماء نهاق الحمير وصراخ الديكة ثم عكسها ورد أعلاها أسفلها وأرسلها إلى الأرض. وتبعتهم الحجارة مع هذا فأهلكت من كان منهم في سفر أو خارجا عن البقع المرفوعة، وقالت امرأة لوط حين سمعت الرجة: ووا قوماه والتفتت فأصابتها صخرة فقتلتها.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 86]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
قيل في مَدْيَنَ إنه اسم بلد وقطر، وقيل اسم قبيلة، وقيل هم من ولد «مدين» بن إبراهيم الخليل، وروي أن لوط عليه السلام هو جد شعيب لأمه، وقال مكي كان زوج بنت لوط، ومن رأى مَدْيَنَ اسم رجل لم يصرفه لأنه معرفة أعجمي، ومن رآه اسما للقبيلة أو الأرض فهو أحرى ألا يصرف، وقوله: أَخاهُمْ منصوب بقوله أَرْسَلْنا [الأعراف: 59] في أول القصص، وهذا يؤيد أن لُوطاً [الأعراف: 80] به انتصب، وأن اللفظ مستمر، وهذه الأخوة في القرابة، وقد تقدم القول في غَيْرُهُ وغيره، والبينة إشارة إلى معجزته وإن كنا نحن لم ينص لنا عليها، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «قد جاءتكم آية من ربكم» مكان بَيِّنَةٌ وقوله: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ أمر لهم بالاستقامة في الإعطاء وهو بالمعنى في الأخذ والإعطاء، وكانت هذه المعصية قد فشت فيهم في ذلك الزمن وفحشت مع كفرهم الذي نالتهم الرجفة بسببه وتَبْخَسُوا معناه تظلموا. ومنه قولهم: تحسبها حمقاء وهي باخس أي ظالمة خادعة، وأَشْياءَهُمْ يريد أموالهم وأمتعتهم مما يكال أو يوزن، وقوله:
وَلا تُفْسِدُوا لفظ عام دقيق الفساد وجليله، وكذلك الإصلاح عام والمفسرون نصوا على أن الإشارة إلى الكفر بالفساد، وإلى النبوءات والشرائع بالإصلاح، وقوله: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي نافع عند الله مكسب فوزه ورضوانه بشرط الإيمان والتوحيد وإلا فلا ينفع عمل دون إيمان.
وقوله: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ الآية، قال السدي هذا نهي عن العشارين والمتقبلين ونحوه من أخذ أموال الناس بالباطل، والصراط: الطريق وذلك أنهم كانوا يكثرون من هذا لأنه من قبيل: خسهم ونقصهم الكيل والوزن، وقال أبو هريرة رضي الله عنه، هو نهي عن السلب وقطع الطريق، وكان ذلك من فعلهم روي في ذلك حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وما تقدم قبل من النهي في شأن المال في الموازين والأكيال والنحس يؤيد

(2/426)


وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)

هذين القولين ويشبههما، وفي هذا كله توعد للناس إن لم يتركوا أموالهم وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي أيضا، قوله: وَلا تَقْعُدُوا نهي لهم عما كانوا يفعلونه من رد الناس عن شعيب، وذلك أنهم كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت قريش تفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وما بعد هذا من ألفاظ الآية يشبه هذا القول، وقوله تعالى: وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ الآية المعنى وتفتنون من آمن وتصدونه عن طريق الهدى وسَبِيلِ اللَّهِ المفضية إلى رحمته، والضمير في بِهِ يحتمل: أن يعود على اسم الله وأن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطرق للرد عن شعيب، وأن يعود على السبيل في لغة من يذكر «السبيل» ، وتقدم القول في مثل قوله:
وَتَبْغُونَها عِوَجاً في صدر السورة، وقال أبو عبيدة والزجاج كسر العين في المعاني وفتحها في الأجرام، ثم عدد عليهم نعم الله تعالى وأنه كثرهم بعد قلة عدد، وقيل: أغناهم بعد فقر، فالمعنى على هذا: إذ كنتم قليلا قدركم، ثم حذرهم ومثل لهم بمن امتحن من الأمم السابقة.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 87 الى 89]
وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)
المعنى: وإن كنتم يا قوم قد اختلفتم عليّ وشعبتم بكفركم أمري فآمنت طائفة وكفرت طائفة فاصبروا أيها الكفرة حتى يأتي حكم الله بيني وبينكم، وفي قوله: فَاصْبِرُوا قوة التهديد والوعيد، هذا ظاهر الكلام وأن المخاطبة بجميع الآية للكفار، وحكى منذر بن سعيد عن ابن عباس أن الخطاب بقوله:
فَاصْبِرُوا للمؤمنين على معنى الوعد لهم، وقاله مقاتل بن حيان، قال النقاش وقال مقاتل بن سليمان المعنى «فاصبروا» يا معشر الكفار.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول الجماعة.
وتقدم القول في معنى الْمَلَأُ ومعنى الاستكبار، وقولهم: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ تهديد بالنفي، والقرية المدينة الجامعة للناس لأنها تقرت أي اجتمعت، وقولهم أو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا معناه أو لتصيرن، وعاد: تجيء في كلام العرب على وجهين. أحدهما عاد الشيء إلى حال قد كان فيها قبل ذلك، وهي على هذه الجهة لا تتعدى فإن عديت فبحرف، ومنه قول الشاعر: [السريع]
إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضرة

(2/427)


ومنه قول الآخر: [الطويل]
ألا ليت أيام الشباب جديد ... وعصرا تولّى يا بثين يعود
ومنه قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا [الأنعام: 28] ومنه قول الشاعر: [الطويل]
فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
والوجه الثاني أن تكون بمعنى صار وعاملة عملها ولا تتضمن أن الحال قد كانت متقدمة. ومن هذه قول الشاعر: [البسيط]
تلك المكارم لاقعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ومنه قول الآخر: [الرجز] وعاد رأسي كالثغامة ومنه قوله تعالى: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] على أن هذه محتملة، فقوله في الآية أو لَتَعُودُنَّ وشُعَيْبُ عليه السلام لم يكن قط كافرا يقتضي أنها بمعنى صار، وأما في جهة المؤمنين بعد كفرهم فيترتب المعنى الآخر ويخرج عنه «شعيب» إلا أن يريدوا عودته إلى حال سكوته قبل أن يبعث، وقوله أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ توقيف منه لهم على شنعة المعصية وطلب أن يقروا بألسنتهم بإكراه المؤمنين بالله على الإخراج ظلما وغشما.
والظاهر في قوله: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ أنه خبر منه أي لقد كنا نواقع عظيما ونفتري على الله الكذب في الرجوع إلى الكفر، ويحتمل أن يكون على جهة القسم الذي هو في صيغة الدعاء، مثل قول الشاعر: بقيت وفري.
وكما تقول «افتريت على الله» إن كلمت فلانا، وافْتَرَيْنا معناه شققنا بالقول واختلفنا. ومنه قول عائشة: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، ونجاة «شعيب» من ملتهم كانت منذ أول أمره، ونجاة من آمن معه كانت بعد مواقعة الكفر، وقوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يحتمل أن يريد إلا أن يسبق علينا من الله في ذلك سابق وسوء وينفذ منه قضاء لا يرد.
قال القاضي أبو محمد: والمؤمنون هم المجوزون لذلك وشعيب قد عصمته النبوة، وهذا أظهر ما يحتمل القول، ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبد الله به المؤمنين مما يفعله الكفار من القربات، فلما قال لهم: إنا لا نعود في ملتكم ثم خشي أن يتعبد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحد بذلك ويقول: هذه عودة إلى ملتنا استثنى مشيئة الله تعالى فيما يمكن أن يتعبد به ويحتمل أن يريد بذلك معنى الاستبعاد كما تقول: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط، وقد علم امتناع ذلك فهو إحالة على مستحيل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل إنما هو للمعتزلة الذين من مذهبهم أن الكفر والإيمان ليسا

(2/428)


وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)

بمشيئة من الله تعالى فلا يترتب هذا التأويل إلا عندهم، وهذا تأويل حكاه المفسرون ولم يشعروا بما فيه، وقيل: إن هذا الاستثناء إنما هو تستر وتأدّب.
قال القاضي أبو محمد: ويقلق هذا التأويل من جهة استقبال الاستثناء ولو كان في الكلام إن شاء الله قوى هذا التأويل، وقوله: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً معناه: وسع علم ربنا كل شيء كما تقول: تصبب زيد عرقا أي تصبب عرق زيد، ووَسِعَ بمعنى أحاط، وقوله: افْتَحْ معناه أحكم والفاتح والفتاح القاضي بلغة حمير، وقيل بلغة مراد، وقال بعضهم: [الوافر]
ألا أبلغ بني عصم رسولا ... فإني عن فتاحتكم غنيّ
وقال الحسن بن أبي الحسن: إن كل نبي أراد الله هلاك قومه أمره بالدعاء عليهم ثم استجاب له فأهلكهم، وقال ابن عباس ما كنت أعرف معنى هذه اللفظة حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك أي أحاكمك، وقوله عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا استسلام لله وتمسك بلفظه وذلك يؤيد التأويل الأول في قوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.
قوله عز وجل:

[سورة الأعراف (7) : الآيات 90 الى 93]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)
هذه المقالة قالها الملأ لتبّاعهم وسائر الناس الذي يقلدونهم، والرَّجْفَةُ الزلزلة الشديدة التي ينال معها الإنسان اهتزاز وارتعاد واضطراب.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن فرقة من قوم شعيب أهلكت ب الرَّجْفَةُ وفرقة بالظلة ويحتمل أن الظلة والرَّجْفَةُ كانتا في حين واحد، وروي أن الله تعالى بعث شُعَيْباً إلى أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة، وقيل هما طائفتان وقيل واحدة وكانوا مع كفرهم يبخسون الكيل والوزن فدعاهم فكذبوه فجرت بينهم هذه المقاولة المتقدمة، فلما عتوا وطالت بهم المدة فتح الله عليهم بابا من أبواب جهنم فأهلكهم الحر منه فلم ينفعهم ظل ولا ماء، ثم إنه بعث سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح وطيبها فتنادوا، عليكم الظلة، فلما اجتمعوا تحت الظلة وهي تلك السحابة انطبقت عليهم فأهلكتهم، قال الطبري:
فبلغني أن رجلا من أهل مدين يقال له عمرو بن جلهاء قال لما رآها: [البسيط]
يا قوم إن شعيبا مرسل فذروا ... عنكم سميرا وعمران بن شداد
إني أرى غيمة يا قوم قد طلعت ... تدعو بصوت على ضمّانة الواد
وإنه لن تروا فيها ضحاء غد ... إلا الرقيم يمشّي بين انجاد

(2/429)


وسمير وعمران كاهناهم والرقيم كلبهم، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر «شعيبا» قال: ذلك خطيب الأنبياء لقوله لقومه: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. [هود: 88] .
قال القاضي أبو محمد: يريد لحسن مراجعته وجميل تلطفه. وحكى الطبري عن أبي عبد الله البجلي أنه قال: أبو جاد وهو زوحطي وكلمن وصعفض وقرست أسماء ملوك مدين، وكان الملك يوم الظلة كلمن، فقالت أخته ترثيه: [مجزوء الرمل]
كلمن قد هد ركني ... هلكه وسط المحلة
سيد القوم اتساه ... حتف نار وسط ظله
جعلت نار عليهم ... دارهم كالمضمحله
قال القاضي أبو محمد: وهذه حكاية مظنون بها والله علم، وقد تقدم معنى جاثِمِينَ.
وقوله: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا لفظ فيه للإخبار عن قوة هلاكهم ونزول النقمة بهم والتنبيه على العبرة بهم، ونحو هذا قول الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
ويَغْنَوْا معناه يقيموا ويسكنوا.
قال القاضي أبو محمد: وغنيت في المكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش مرض، هذا الذي استقريت من الأشعار التي ذكرت العرب فيها هذه اللفظة فمن ذلك قول الشاعر:
[الوافر]
وقد نغنى بها ونرى عصورا ... بها يقتدننا الخرد الخذالا
ومنه قول الآخر: [الرمل]
ولقد يغنى بها جيرانك المس ... تمسكو منكم بعهد ووصال
أنشده الطبري، ومنه قول الآخر: [الطويل] ألا حيّ من أجل الحبيب المغانيا ومنه قول مهلهل: [الخفيف]
غنيت دارنا تهامة في الدهر ... وفيها بنو معد حلّوا
ويشبه أن تكون اللفظة من الاستغناء، وأما قوله: كأن لم تغن بالأمس ففيه هذا المعنى لأن المراد كأن لم تكن ناعمة نضرة مستقلة، ولا توجد فيما علمت إلا مقترنة بهذا المعنى وأما قول الشاعر: [الطويل]
غنينا زمانا بالتصعلك والغنا ... وكلا سقاناه بكأسيهما الدهر
فمعناه استغنينا بذلك ورضيناه مع أن هذه اللفظة ليست مقترنة بمكان.

(2/430)