تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)

المجلد الثالث
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة التّوبة
تفسير سورة براءة: هذه السورة مدنية إلا آيتين: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ [التوبة: 128] إلى آخرها، وتسمى سورة التوبة، فاله حذيفة وغيره، وتسمى الفاضحة قاله ابن عباس، وتسمى الحافرة لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، قال ابن عباس مازال ينزل ومنهم ومنهم حتى ظن أنه لا يبقى أحد، وقال حذيفة: هي سورة العذاب، قال ابن عمر كنا ندعوها المفشفشة، قال الحارث بن يزيد: كانت تدعى المبعثرة ويقال لها المثيرة، ويقال لها البحوث، وقال أبو مالك الغفاري: أول آية نزلت من براءة انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التوبة: 41] وقال سعيد بن جبير: كانت براءة مثل سورة البقرة في الطول، واختلف لم سقط سطر بسم الله الرحمن الرحيم من أولها، فقال عثمان بن عفان أشبهت معانيها معاني الأنفال وكانت تدعى القرينتين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطول، وقال علي بن أبي طالب لابن عباس رضي الله عنهما: بسم الله الرحمن الرحيم أمان وبشارة، وبراءة نزلت بالسيف ونبذ العهود فلذلك لم تبدأ بالأمان.
قال القاضي أبو محمد: ويعزى هذا القول للمبرد وهو لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا كما يبدأ المخاطب الغاضب أما بعد، دون تقريظ ولا استفتاح بتبجيل، وروي أن كتبة المصحف في مدة عثمان اختلفوا في الأنفال وبراءة، هل هي سورة واحدة أو هما سورتان؟ فتركوا فصلا بينهما مراعاة لقول من قال هما سورتان ولم يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم مراعاة لقول من قال منهم هما واحدة فرضي جميعهم بذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول يضعفه النظر أن يختلف في كتاب الله هكذا، وروي عن أبيّ بن كعب أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بوضع بسم الله الرحمن الرحيم في أول كل سورة، ولم يأمرنا في هذا بشيء فلذلك لم نضعه نحن، وروي عن مالك أنه قال: بلغنا أنها كانت نحو سورة البقرة ثم نسخ ورفع كثير منها وفيه البسملة، فلم يروا بعد أن يضعوه في غير موضعه، وسورة براءة من آخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وحكى عمران بن جدير أن أعرابيا سمع سورة براءة فقال أظن هذه من آخر ما أنزل الله على رسوله، فقيل له لم تقول ذلك؟ فقال أرى أشياء تنقص وعهودا تنبذ.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 3]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)

(3/3)


بَراءَةٌ رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذه الآيات براءة، ويصح أن ترتفع بالابتداء والخبر في قوله: إِلَى الَّذِينَ وجاز الابتداء بالنكرة لأنها موصوفة فتعرفت تعريفا ما، وجاز الإخبار عنها، وقرأ عيسى بن عمر «براءة» بالنصب على تقدير التزموا براءة ففيها معنى الإغراء، وبَراءَةٌ معناها تخلص وتبرؤ من العهود التي بينكم وبين الكفار البادئين بالنقض، تقول برئت إليك من كذا، فبرىء الله تعالى ورسوله بهذه الآية إلى الكفار من تلك العهود التي كانت ونقضها الكفار، وقرأ أهل نجران «من الله» بكسر النون من «من» ، وهذه الآية حكم من الله عز وجل بنقض العهود والموادعات التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين طوائف المشركين الذين ظهر منهم أو تحسس من جهتهم نقض، ولما كان عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لازما لأمته حسن أن يقول عاهَدْتُمْ قال ابن إسحاق وغيره من العلماء: كانت العرب قد وافقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا عاما على أن لا يصد أحد عن البيت الحرام ونحو ذلك من الموادعات، فنقض ذلك بهذه الآية وأجل لجميعهم أربعة أشهر، فمن كان له مع النبي صلى الله عليه وسلم عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة الأشهر بلغ به تمامها، ومن كان أمده أكثر من أربعة أشهر أتم له عهده، إلا إن كان ممن تحسس منه نقض فإنه قصر على أربعة أشهر، ومن لم يكن له عهد خاص فرضت له الأربعة الأشهر «يسيح فيها» في الأرض أي يذهب مسرحا آمنا كالسيح من الماء وهو الجاري المنبسط ومنه قول طرفة بن العبد: [السريع]
لو خفت هذا منك ما نلتني ... حتى نرى خيلا أمامي تسيح
وهذا ينبىء عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشعر من الكفار نقضا وتربصا به إلا من الطائفة المستثناة، وقال ابن عباس رضي الله عنه: أول الأشهر الأربعة شوال وحينئذ نزلت الآية، وانقضاؤها عند انسلاخ الأشهر الحرم وهو انقضاء المحرم بعد يوم الأذان بخمسين يوما فكان أجل من له عهد أربعة أشهر من يوم نزول الآية، وأجل سائر المشركين خمسون ليلة من يوم الأذان.
قال القاضي أبو محمد: اعترض هذا بأن الأجل لا يلزم إلا من يوم سمع ويحتمل أن البراءة قد كانت سمعت من أول شوال، ثم كرر إشهارها مع الأذان يوم الحج الأكبر، وقال السدي وغيره: بل أولها يوم الأذان وآخرها العشر من ربيع الآخر، وهي الحرم استعير لها الاسم بهذه الحرمة والأمن الخاص الذي رسمه الله وألزمه فيها، وهي أجل الجميع ممن له عهد وتحسس منه نقض وممن لا عهد له، وقال الضحاك وغيره من العلماء: كان من العرب من لا عهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة، وكان منهم من بينه وبينهم عهد وتحسس منهم النقض وكان منهم من بينه وبينهم عهد ولم ينقضوا، فقوله فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ هو أجل ضربه لمن كان بينه وبينهم عهد وتحسس منهم نقضه، وأول هذا الأجل

(3/4)


يوم الأذان وآخره انقضاء العشر الأول من ربيع الآخر، وقوله فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، هو حكم مباين للأول حكم به في المشركين الذين لا عهد لهم البتة، فجاء أجل تأمينهم خمسين يوما أولها يوم الأذان وآخرها انقضاء المحرم، وقوله إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ، يريد به الذين لهم عهد ولم ينقضوا ولا تحسس منهم نقض، وهم فيما روي بنو ضمرة من كنانة عاهد لهم المخش بن خويلد وكان تبقى من عهدهم يوم الأذان تسعة أشهر: وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: إنما أجل الله أربعة أشهر من كان عهده ينصرم عند انقضائها أو قبله، والمعنى فقل لهم يا محمد سيحوا، وأما من كان له عهد يتمادى بعد الأربعة الأشهر فهم الذين أمر الله لهم بالوفاء، وقوله وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، معناه واعلموا أنكم لا تفلتون الله ولا تعجزونه هربا من عقابه، ثم أعلمهم بحكمه بخزي الكافرين، وذلك حتم إما في الدنيا وإما في الآخرة. وقوله تعالى: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ الآية، وَأَذانٌ معناه إعلام وإشهار، والنَّاسِ هاهنا عام في جميع الخلق، ويَوْمَ منصوب على الظرف والعامل فيه أَذانٌ وإن كان قد وصف فإن رائحة الفعل باقية، وهي عاملة في الظروف، وقيل لا يجوز ذلك إذ قد وصف المصدر فزالت عنه قوة الفعل، ويصح أن يعمل فيه فعل مضمر تقتضيه الألفاظ، وقيل العامل فيه صفة الأذان وقيل العامل فيه مُخْزِي.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد، ويَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ قال عمر وابن عمر وابن المسيب وغيرهم: هو يوم عرفة، وقال به علي، وروي عنه أيضا أنه يوم النحر، وروي ذلك عن أبي هريرة وجماعة غيرهم، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال منذر بن سعيد وغيره: كان الناس يوم عرفة مفترقين إذ كانت الحمس تقف بالمزدلفة وكان الجمع يوم النحر بمنى، فلذلك كانوا يسمونه الحج الأكبر أي من الأصغر الذي هم فيه مفترقون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا زال في حجة أبي بكر لأنه لم يقف أحد بالمزدلفة، وقد ذكر المهدوي أن الحمس ومن اتبعها وقفوا بالمزدلفة في حجة أبي بكر، والذي تظاهرت به الأحاديث في هذا المعنى أن عليا رضي الله عنه أذن بتلك الآية يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر، ثم رأى أنه لم يعلم الناس بالإسماع فتتبعهم بالأذان بها يوم النحر، وفي ذلك اليوم بعث معه أبو بكر من يعينه بالأذان بها كأبي هريرة وغيره، وتتبعوا بها أيضا أسواق العرب كذي المجاز وغيره، فمن هنا يترجح قول سفيان إن يَوْمَ في هذه الآية بمعنى أيام، بسبب ذلك قالت طائفة يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ عرفة حيث وقع أول الأذان وقالت طائفة أخرى: هو يوم النحر حيث وقع إكمال الأذان، واحتجوا أيضا بأنه من فاته الوقوف يوم عرفة فإنه يجزيه الوقوف ليلة النحر، فليس يوم عرفة على هذا يوم الحج الأكبر.
قال القاضي أبو محمد: ولا حجة في هذا، وقال سفيان بن عيينة: المراد أيام الحج كلها كما تقول يوم صفين ويوم الجمل يريد جميع أيامه، وقال مجاهد يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أيام منى كلها، ومجامع المشركين حيث كانوا بذي المجاز وعكاظ حين نودي فيهم ألا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كما قال عثمان لعمر حين عرض عليه زواج حفصة: إني قد رأيت ألا

(3/5)


أتزوج يومي هذا، وكما ذكر سيبويه: تقول لرجل: ما شغلك اليوم؟ وأنت تريد في أيامك هذه، واختلف لم وصف بالأكبر؟ فقال الحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن الحارث بن نوفل لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون وصادف أيضا عيد اليهود والنصارى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف أن يصفه الله في كتابه بالكبر لهذا، وقال الحسن أيضا: إنما سمي أكبر لأنه حج فيه أبو بكر ونبذت فيه العهود.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو القول الذي يشبه نظر الحسن، وبيانه أن ذلك اليوم كان المفتتح بالحق وإمارة الإسلام بتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبذت فيه العهود وعز فيه الدين وذل الشرك، ولم يكن ذلك في عام ثمان حين ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج عتاب بن أسيد كان أمر العرب على أوله، فكل حج بعد حج أبي بكر فمتركب عليه فحقه لهذا أن يسمى أكبر، وقال عطاء بن أبي رباح وغيره: الحج أكبر بالإضافة إلى الحج الأصغر وهي العمرة، وقال الشعبي: بالإضافة إلى العمرة في رمضان فإنها الحج الأصغر، وقال مجاهد: الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد، وهذا ليس من هذه الآية في شيء، وقد تقدم ما ذكره منذر بن سعيد، ويتجه أن يوصف بالأكبر على جهة المدح لا بإضافة إلى أصغر معين، بل يكون المعنى الأكبر من سائر الأيام فتأمله، واختصار ما تحتاج إليه هذه الآية على ما ذكر مجاهد وغيره من صورة تلك الحال، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح مكة سنة ثمان، فاستعمل عليها عتاب بن أسيد وقضى أمر حنين والطائف وانصرف إلى المدينة فأقام بها حتى خرج إلى تبوك، ثم انصرف من تبوك في رمضان سنة تسع فأراد الحج ثم نظر في أن المشركين يحجون في تلك السنة ويطوفون عراة فقال لا أريد أن أرى ذلك، فأمر أبا بكر على الحج بالناس وأنفذه، ثم أتبعه علي بن أبي طالب على ناقته العضباء، وأمره أن يؤذن في الناس بأربعة أشياء، وهي:
لا يحج بعد العام مشرك، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وفي بعض الروايات ولا يدخل الجنة كافر، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته، وفي بعض الروايات، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله أربعة أشهر يسيح فيها، فإذا انقضت ف أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ.
قال القاضي أبو محمد: وأقول: إنهم كانوا ينادون بهذا كله، فهذا للذين لهم عهد وتحسس منهم نقضه، والإبقاء إلى المدة لمن لم يخبر منه نقض، وذكر الطبري أن العرب قالت يومئذ: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب، فلام بعضهم بعضا وقالوا ما تصنعون وقد أسلمت قريش؟
فأسلموا كلهم ولم يسح أحد.
قال القاضي أبو محمد: وحينئذ دخل الناس في دين الله أفواجا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر عليا أن يقرأ على الناس الأربعين آية صدر سورة براءة وقيل ثلاثين، وقيل عشرين، وفي بعض الروايات عشر آيات، وفي بعضها تسع آيات، ذكرها النقاش، وقال سليمان بن موسى الشامي ثمان وعشرون آية، فلحق علي أبا بكر في الطريق فقال له أبو بكر أمير أو مأمور، فقال بل مأمور فنهضا حتى بلغا

(3/6)


إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

الموسم، فلما خطب أبو بكر بعرفة: قال: قم يا علي، فأدّ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام علي ففعل، قال ثم وقع في نفسي أن جميع الناس لم يشاهدوا خطبة أبي بكر، فجعلت أتتبع الفساطيط يوم النحر، وقرأ جمهور الناس «أن الله بريء» بفتح الألف على تقدير بأن الله، وقرأ الحسن والأعرج: «إن الله» بكسر الألف على القطع، إذ الأذان في معنى القول، وقرأ جمهور الناس «ورسوله» بالرفع على الابتداء وحذف الخبر «ورسوله بريء منهم» ، هذا هو عند شيخنا الفقيه الأستاذ أبي الحسن بن الباذش رحمه الله معنى العطف على الموضع، أي تؤنس بالجملة الأولى التي هي من ابتداء وخبر فعطفت عليها هذه الجملة، وقيل هو معطوف على موضع المكتوبة قبل دخول «أن» التي لا تغير معنى الابتداء بل تؤكده وإذ قد قرئت بالكسر لأنه لا يعطف على موضع «أن» بالفتح، وانظره فإنه مختلف في جوازه، لأن حكم «أن» رفع حكم الابتداء إلا في هذا الموضع وما أشبهه، وهذا قول أبي العباس وأبي علي رحمهما الله، ومذهب الأستاذ على مقتضى كلام سيبويه أن لا موضع لما دخلت عليه «أن» إذ هو معرب قد ظهر فيه عمل العامل ولأنه لا فرق بين «أن» وبين ليت ولعل، والإجماع أن لا موضع لما دخلت عليه هذه وقيل عطف على الضمير المرفوع الذي في «بريء» ، وحسن ذلك أن المجرور قام مقام التوكيد، كما قامت «لا» في قوله تعالى: ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام: 148] وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر «رسوله» بالنصب عطفا على لفظ المكتوبة، وبهذه الآية امتحن معاوية أبا الأسود حتى وضع النحو إذ جعل قارئا يقرأ بخفض «ورسوله» ، والمعنى في هذه الآية بريء من عهودهم وأديانهم براءة عامة تقتضي المحارجة وإعمال السيف، وقوله فَإِنْ تُبْتُمْ أي عن الكفر ووعدهم مع شرط التوبة وتوعدهم مع شرط التولي، وجاز أن تدخل البشارة في المكروه لما جاء مصرحا به مرفوع الاشكال.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 4 الى 5]
إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
هذا هو الاستثناء الذي تقدم ذكره في المشركين الذين بقي من عهدهم تسعة أشهر وكانوا قد وفوا بالعهد على ما يجب، وقال قتادة: هم قريش الذين عوهدوا زمن الحديبية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مردود بإسلام قريش في الفتح قبل الأذان بهذا كله، وقال ابن عباس:
قوله إِلى مُدَّتِهِمْ إلى الأربعة الأشهر التي في الآية، وقرأ الجمهور «ينقصوكم» بالصاد غير منقوطة، وقرأ عطاء بن يسار وعكرمة وابن السميفع «ينقضوكم» بالضاد من النقض وهي متمكنة مع العهد ولكنها قلقة في تعديها إلى الضمير، ويحسن ذلك أن النقض نقض وفاء وحق للمعاهد، وكذلك تعدى «أتموا» ب «إلى» لما

(3/7)


وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)

كان العهد في معنى ما يؤدى ويبرأ به وكأنهم يقتضون العهد، ويُظاهِرُوا معناه يعاونوا، والضمير المعين، وأصله من الظهر كان هذا يسند ظهره إلى الآخر والآخر كذلك وقوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تنبيه على أن الوفاء بالعهد من التقوى، وقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الآية، الانسلاخ خروج الشيء عن الشيء المتلبس به كانسلاخ الشاة عن الجلد والرجل عن الثياب، ومنه قوله تعالى: نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] فشبه انصرام الأشهر أسمائها وأحكامها من الزمن بذلك، وقد تقدم القول فيمن جعل له انقضاء الأشهر الحرم أجلا وما المعنى ب الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ بما أغنى عن إعادته، وقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، أمر بقتال المشركين فخرج الأمر بذلك بلفظ اقتلوا على جهة التشجيع وتقوية النفس، أي هكذا يكون أمركم معهم، وهذه الآية نسخت كل موادعة في القرآن أو مهادنة وما جرى مجرى ذلك وهي على ما ذكر مائة آية وأربع عشرة آية، وقال الضحاك والسدي وعطاء: هذه الآية منسوخة بقوله فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: 47] وقالوا لا يجوز قتل أسير البتة صبرا إما أن يمن عليه وإما أن يفادى، وقال قتادة ومجاهد وغيرهما: قوله فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: 47] منسوخ بهذه الآية، وقالوا لا يجوز المن على أسير ولا مفاداته، ولا شيء إلا القتل، وقال ابن زيد: هما محكمتان.
قال القاضي أبو محمد: ولم يفسر أكثر من هذا، وقوله هو الصواب، والآيتان لا يشبه معنى واحدة، معنى الأخرى، وذلك أن هذه الآية قوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ أفعال إنما تمتثل مع المحارب المرسل المناضل، وليس للأسير فيها ذكر ولا حكم وإذا أخذ الكافر خرج عن درجات هذه الآية وانتقل إلى حكم الآية الأخرى، وتلك الآية لا مدخل فيها لغير الأسير، فقول ابن زيد هو الصواب، وقوله خُذُوهُمْ معناه الأسر، وقوله كُلَّ مَرْصَدٍ معناه في مواضع الغرة حيث يرصدون، وقال النابغة: [الطويل]
أعاذل إن الجهل من لذة الفتى ... وإن المنايا للنفوس بمرصد
ونصب كُلَّ على الظرف، وهو اختيار الزجّاج، أو بإسقاط الخافض التقدير في كل مرصد، أو على كل مرصد، وحكى سيبوية ضرب الظهر والبطن، وقوله تعالى: فَإِنْ تابُوا يريد من الكفر فهي متضمنة الإيمان، ثم قرن بها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تنبيها على مكان الصلاة والزكاة من الشرع، وقوله فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ تأمين، وقال أنس بن مالك: هذا هو دين الله الذي جاءت به الرسل وهو من آخر ما نزل قبل اختلاف الأهواء، وفيه قال النبيء صلى الله عليه وسلم: «من فارق الدنيا مخلصا لله تعالى مطيعا له لقي الله وهو عنه راض» ، ثم وعد بالمغفرة في صيغة الخبر عن أوصافه تعالى.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 6 الى 7]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بعد الأمر بقتال المشركين بأن يكون متى طلب

(3/8)


كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)

مشرك عهدا يأمن به يسمع القرآن ويرى حال الإسلام أن يعطيه ذلك، وهي الإجارة وهو من الجوار، ثم أمر بتبليغه المأمن إذا لم يرض الإسلام ولم يهد إليه، قال الحسن: هي محكمة سنة إلى يوم القيامة، وقال مجاهد وقال الضحاك والسدي: هذا منسوخ بقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] ، وقال غيرهما: هذه الآية إنما كان حكمها مدة الأربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلا، وقوله سبحانه: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ يعني القرآن وهي إضافة صفة إلى موصوف لا إضافة خلق إلى خالق، والمعنى ويفهم أحكامه وأوامره ونواهيه، فذكر السماع بالأذان إذ هو الطريق إلى الفهم وقد يجيء السماع في كلام العرب مستعملا بمعنى الفهم كما تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك أنت لم تسمع قولي تريد لم تفهمه، وذلك في كتاب الله تعالى في عدة مواضع، وأَحَدٌ في هذه الآية مرتفع بفعل يفسره قوله اسْتَجارَكَ ويضعف فيه الابتداء لولاية الفعل، لأن قوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى هذا اللطف في الإجارة والإسماع وتبليغ المأمن ولا يعلمون نفي علمهم بمراشدهم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ.
الآية لفظ استفهام وهو على جهة التعجب والاستبعاد، أي على أي وجه يكون للمشركين عهد وهم قد نقضوا وجاهروا بالتعدي ثم استثنى من عموم المشركين القوم الذين عوهدوا عند المسجد الحرام أي في ناحيته وجهته، وقال ابن عباس فيما روي عنه: المعني بهذا قريش، وقال السدي: المعني بنو خزيمة بن الديل، وقال ابن إسحاق: هي قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش فلم يكن نقض إلا قريش وبنو الديل من بني بكر فأمر المسلمون بإتمام العهد لمن لم يكن نقض، وقال قوم: المعني خزاعة قاله مجاهد وهو مردود بإسلام خزاعة عام الفتح، وقال بعض من قال إنهم قريش إن هذه الآية نزلت فلم يستقيموا بل نقضوا فنزل تأجيلهم أربعة أشهر بعد ذلك، وحكى الطبري هذا القول عن ابن زيد وهو ضعيف متناقض، لأن قريشا وقت الأذان بالأربعة الأشهر لم يكن منهم إلا مسلم، وذلك بعد فتح مكة بسنة وكذلك خزاعة، قاله الطبري وغيره، وقوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يريد به الموفين بالعهد من المؤمنين، فلذلك جاء بلفظ مغترق الوفاء بالعهد متضمن الإيمان.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 8 الى 10]
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
بعد كَيْفَ في هذه الآية فعل مقدر ولا بد، يدل عليه ما تقدم، فيحسن أن يقدر كيف يكون لهم عهد ونحوه قول الشاعر: [الطويل]
وخير تماني إنما الموت في القرى ... فكيف وهاتا هضبة وكثيب
وفي كَيْفَ هنا تأكيد للاستبعاد الذي في الأولى، ولا يَرْقُبُوا معناه لا يراعوا ولا يحافظوا وأصل

(3/9)


الارتقاب بالبصر، ومنه الرقيب في الميسر وغيره، ثم قيل لكل من حافظ على شيء وراعاه راقبه وارتقبه، وقرأ جمهور الناس «إلّا» وقرأ عكرمة مولى ابن عباس بياء بعد الهمزة خفيفة اللام «إيلا» ، وقرأت فرقة «ألا» بفتح الهمزة، فأما من قرأ «إلا» فيجوز أن يراد به الله عز وجل قاله مجاهد وأبو مجلز، وهو اسمه بالسريانية، ومن ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع كلام مسيلمة فقال هذا كلام لم يخرج من إل، ويجوز أن يراد به العهد والعرب تقول للعهد والخلق والجوار ونحو هذه المعاني إلا، ومنه قول أبي جهل:
[الطويل]
لإل علينا واجب لا نضيعه ... متين فواه غير منتكث الحبل
ويجوز أن يراد به القرابة، فإن القرابة في لغة العرب يقال له إل، ومنه قول ابن مقبل: [الرمل]
أفسد الناس خلوف خلّفوا ... قطعوا الإل وأعراق الرحم
أنشده أبو عبيدة على القرابة، وظاهره أنه في العهود، ومنه قول حسان: [الوافر]
لعمرك أن إلّك في قريش ... كإل السقب من رال النعام
وأما من قرأ «ألا» بفتح الهمزة فهو مصدر من فعل للإل الذي هو العهد، ومن قرأ «إيلا» فيجوز أن يراد به الله عز وجل، فإنه يقال أل وأيل، وفي البخاري قال جبر، وميك، وسراف: عبد بالسريانية، وأيل الله عز وجل، ويجوز أن يريد إِلًّا المتقدم فأبدل من أحد المثلين ياء كما فعلوا ذلك في قولهم أما وأيما، ومنه قول سعد بن قرط يهجو أمه: [البسيط]
يا ليت أمنا شالت نعامتها ... أيما إلى جنة أيما إلى نار
ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: [الطويل]
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحي وأما بالعشي فيخصر
وقال آخر: [الرجز]
لا تفسدوا آبا لكم ... أيما لنا أيما لكم
قال أبو الفتح ويجوز أن يكون مأخوذا من آل يؤول إذا ساس.
قال القاضي أبو محمد: كما قال عمر بن الخطاب: قد ألنا وإيل علينا فكان المعنى على هذا لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة، وقلبت الواو ياء لسكونها والكسرة قبلها، و «الذمة» أيضا بمعنى المتات والحلف والجوار، ونحوه قول الأصمعي الذمة كل ما يجب أن يحفظ ويحمى، ومن رأى الإل أنه العهد جعلها لفظتين مختلفتين لمعنى واحد أو متقارب، ومن رأى الإل لغير ذلك فهما لفظان لمعنيين، وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ معناه تأبى أن تذعن لما يقولونه بالألسنة، وأبى يأبى شاذ لا يحفظ فعل يفعل بفتح العين في الماضي والمستقبل، وقد حكي ركن يركن، وقوله وَأَكْثَرُهُمْ يريد به الكل أو يريد استثناء من قضى له بالإيمان كل ذلك محتمل، وقوله تعالى: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ الآية اللازم من ألفاظ هذه الآية أن هذه

(3/10)


فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)

الطائفة الكافرة الموصوفة بما تقدم لما تركت آيات الله ودينه وآثرت الكفر وحالها في بلادها كل ذلك كالشراء والبيع، لما كان ترك قد مكنوا منه وأخذ لما يمكن نبذه، وهذه نزعة مالك رحمه الله في منع اختيار المشتري فيما تختلف آحاد جنسه ولا يجوز التفاضل فيه، وقد تقدم ذكر ذلك في سورة البقرة وقوله فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ يريد صدوا أنفسهم وغيرهم، ثم حكم عليهم بأن عملهم سيء، وساءَ في هذه الآية إذ لم يذكر مفعولها يحتمل أن تكون مضمنة كبئس، فأما إذا قلت ساءني فعل زيد فليس تضمين بوجه، وإن قدرت في هذه الآية مفعولا زال التضمين، وروي أن أبا سفيان بن حرب جمع بعض العرب على طعام وندبهم إلى وجه من وجوه النقض فأجابوا إلى ذلك فنزلت الآية، وقال بعض الناس: هذه في اليهود.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول وإن كانت ألفاظ هذه الآية تقتضيه فما قبلها وما بعدها يرده ويتبرأ منه، ويختل أسلوب القول به، وقوله تعالى: لا يَرْقُبُونَ الآية، وصف لهذه الطائفة المشترية يضعف ما ذهب إليه من قال إن قوله اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ هو في اليهود، وقوله تعالى: فِي مُؤْمِنٍ إعلام بأن عداوتهم إنما هي بحسب الإيمان فقط، وقوله أولا فِيكُمْ كان يحتمل أن يظن ظان أن ذلك للإحن التي وقعت فزال هذا الاحتمال بقوله فِي مُؤْمِنٍ، ثم وصفهم تعالى بالاعتداء والبداءة بالنقض للعهود والتعمق في الباطل.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 11 الى 12]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
تابُوا رجعوا عن حالهم، والتوبة منهم تتضمن الإيمان، ثم قرن تعالى بإيمانهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، قال ابن عباس: حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة، وقال ابن زيد: قرن الله الصلاة بالزكاة ولم يرض بإحداهما دون الأخرى.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا مر أبو بكر رضي الله عنه وقت الردة، و «الأخوة في الدين» هي أخوة الإسلام وجمع الأخ منها إخوان وجمعه من النسب إخوة قاله بعض اللغويين، وقد قيل إن الأخ من النسب يجمع على إخوان أيضا وذلك ظاهر من قوله تعالى وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ [النور: 61] ويبين ذلك قوله تعالى في آخر الآية أَوْ صَدِيقِكُمْ [النور: 61] وكذلك قوله في هذه السورة قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ [التوبة: 24] ، فأما الأخ من التوادّ ففي كتاب الله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] ، وقال أبو هريرة في البخاري كان إخوتي من المهاجرين يشغلهم صفق بالأسواق فيصح من هذا كله أن الأخ يجمع إخوة وإخوانا سواء كان من نسب أو مودة، وتفصيل الآية بيانها وإيضاحها، وقوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ الآية النكث النقض وأصله في كل ما قبل ثم حل، فهي في الأيمان والعهود مستعارة، وقوله

(3/11)


وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ أي بالاستنقاص والحرب وغير ذلك مما يفعله المشرك، وهذه استعارة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر أسامة: إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، الحديث.
قال القاضي أبو محمد: ويليق هنا ذكر شيء من طعن الذمي في الدين فالمشهور من مذهب مالك رحمه أنه: إذا فعل شيئا من ذلك مثل تكذيب الشريعة وسب النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه قتل، وقيل إذا كفر وأعلن بما هو معهود من معتقده وكفره أدّب على الإعلان وترك، وإذا كفر بما ليس من معهود كفره كالسب ونحوه قتل، وقال أبو حنيفة في هذا: إنه يستتاب، واختلف إذا سب الذمي النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم تقية القتل فالمشهور من المذهب أن يترك، وقد قال صلى الله عليه وسلم «الإسلام يجب ما قبله» ، وفي العتبية أنه يقتل ولا يكون أحسن حالا من المسلم، وقوله تعالى فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي رؤوسهم وأعيانهم الذين يقودون الناس إليه، وقال قتادة: المراد بهذا أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهما.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إن لم يتأول أنه ذكرهم على جهة المثال ضعيف لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير، وروي عن حذيفة أنه قال: لم يجىء هؤلاء بعد.
قال القاضي أبو محمد: يريد أن ينقرضوا فهم يحيون أبدا ويقتلون، وأصوب ما في هذا أن يقال إنه لا يعنى بها معين، وإنما وقع الأمر بقتال أئمة الناكثين بالعهود من الكفرة إلى يوم القيامة دون تعيين، واقتضت حال كفار العرب ومحاربي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون الإشارة إليهم أولا بقوله أَئِمَّةَ الْكُفْرِ وهم حصلوا حينئذ تحت اللفظة إذ الذي يتولى قتال النبي والدفع في صدر شريعته هو إمام كل من يكفر بذلك الشرع إلى يوم القيامة، ثم تأتي في كل جيل من الكفار أئمة خاصة بجيل جيل، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «أيمة» بهمزة واحدة وبعدها ياء مكسورة، وقد روي عن نافع مد الهمزة، وروى عنه ابن أبي أويس «أأمة» بهمزتين وأصلها «أأمة» وزنها أفعلة جمع إمام كعماد وأعمدة، نقلت حركة الميم إلى الهمزة التي هي فاء الفعل وأدغمت الميم الأخرى وقلبت الهمزة ياء لانكسارها ولاجتماع همزتين من كلمة واحدة، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «أأمة» والتعليل واحد، إلا أنهم لم يقلبوا الهمزة ياء، وقرأ المسيبي عن نافع «آئمة» بهمزة ممدودة، وقرأ هشام عن أبي عامر بمدة بين الهمزتين، وقرأ الناس الجم الغفير لا «أيمان لهم» على جمع يمين، وليس المراد نفي الأيمان جملة، وإنما المعنى لا أيمان لهم يوفى بها ويبر، وهذا المعنى يشبه الآية، وقرأ الحسن وعطاء وابن عامر وحده من السبعة «لا إيمان لهم» ، وهذا يحتمل وجهين أحدهما لا تصديق، قال أبو علي وهذا غير قوي لأنه تكرير وذلك أنه وصف أئمة الكفر بأنهم «لا إيمان لهم» فالوجه في كسر الألف أنه مصدر من آمنه إيمانا، ومنه قوله تعالى: آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 4] فالمعنى أنهم لا يؤمنون كما يؤمن أهل الذمة الكتابيون، إذ المشركون لم يكن لهم إلا الإسلام أو السيف، قال أبو حاتم فسر الحسن قراءته لا إسلام لهم.
قال القاضي أبو محمد: والتكرير الذي فر أبو علي منه متجه لأنه بيان المهم الذي يوجب قتلهم لا إسلام لهم.

(3/12)


أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)

قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 13 الى 15]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
قوله أَلا تُقاتِلُونَ عرض وتحضيض، وقوله وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، قال الحسن بن أبي الحسن: المراد من المدينة، وهذا مستقيم كغزوة أحد والأحزاب وغيرهما، وقال السدي:
المراد من مكة فهذا على أن يكون المعنى هموا وفعلوا، أو على أن يقال هموا بإخراجه بأيديهم فلم يصلوا إلى ذلك بل خرج بأمر الله عز وجل، وهذا يجري مع إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان بن الحارث قوله: [الطويل]
وردني إلى الله من ... طردته كل مطرد
ولا ينسب الإخراج إليهم إلا إذا كان الكلام في طريق تذنيبهم كما قال تعالى: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة: 127] وقوله: مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد: 13] والأول هو على أن ما فعلوا به من أسباب الإخراج هو الإخراج، وقوله أَوَّلَ مَرَّةٍ قيل يراد أفعالهم بمكة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، وقال مجاهد: يراد به ما بدأت به قريش من معونة بني بكر حلفائهم على خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا بدء النقض، وقال الطبري: يعني فعلهم يوم بدر، وقوله أَتَخْشَوْنَهُمْ استفهام على معنى التقرير والتوبيخ، وقوله فَاللَّهُ مرتفع بالابتداء وأَحَقُّ خبره، وأَنْ تَخْشَوْهُ بدل من اسم الله بدل اشتمال أو في موضع نصب على إسقاط خافض تقديره بأن تخشوه، ويجوز أن يكون «الله» ابتداء وأَحَقُّ ابتداء ثان وأَنْ تَخْشَوْهُ خبر الثاني والجملة خبر الأول، وقوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ كما تقول افعل كذا إن كنت رجلا أي رجلا كاملا، فهذا معناه إن كنتم مؤمنين كاملي الإيمان، لأن إيمانهم قد كان استقر، وقوله قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ الآية، قررت الآيات قبلها أفعال الكفرة ثم حضض على القتال مقترنا بذنوبهم لتنبعث الحمية مع ذلك، ثم جزم الأمر بقتالهم في هذه الآية مقترنا بوعد وكيد يتضمن النصرة عليهم والظفر بهم، وقوله يُعَذِّبْهُمُ معناه بالقتل والأسر وذلك كله عذاب، وَيُخْزِهِمْ معناه يذلهم على ذنوبهم يقال خزي الرجل يخزى خزيا إذا ذل من حيث وقع في عار، وأخزاه غيره وخزي خزاية إذا استحيا، وأما قوله وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فإن الكلام يحتمل أن يريد جماعة المؤمنين لأن كل ما يهد من الكفر هو شفاء من هم صدور المؤمنين، ويحتمل أن يريد تخصيص قوم من المؤمنين، وروي أنهم خزاعة قاله مجاهد والسدي ووجه تخصيصهم أنهم الذين نقض فيهم العهد ونالتهم الحرب وكان يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير، ويقتضي ذلك قول الخزاعي عن المستنصر بالنبي صلى الله عليه وسلم: [الرجز] ثمّت أسلمنا فلم تنزع يدا

(3/13)


أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)

وفي آخر الرجز:
وقتلونا ركّعا وسجّدا وقرأ جمهور الناس «ويذهب غيظ قلوبهم» على إسناد الفعل إلى الله عز وجل، وقرأت فرقة «ويذهب غيظ قلوبهم» على إسناد الفعل إلى الغيظ، وقرأ جمهور الناس «يتوب» بالرفع على القطع مما قبله، والمعنى أن الآية استأنفت الخبر بأنه قد يتوب على بعض هؤلاء الكفرة الذين أمر بقتالهم، قال أبو الفتح:
وهذا أمر موجود سواء قوتلوا أو لم يقاتلوا، فلا وجه لإدخال التوبة في جواب الشرط الذي في قاتِلُوهُمْ على قراءة النصب، وإنما الوجه الرفع على الاستئناف والقطع، وقرأ الأعرج وابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي وعمرو بن عبيد وأبو عمرو فيما روي عنه «ويتوب» بالنصب على تقدير وأن يتوب، ويتوجه ذلك عندي إذا ذهبت إلى أن التوبة إنما يراد بها هنا أن قتل الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبة لكم أيها المؤمنون وكمال لإيمانكم، فتدخل التوبة على هذا في شرط القتال، وعَلِيمٌ حَكِيمٌ صفتان نسبتهما إلى الآية واضحة.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 16 الى 17]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17)
أَمْ في هذه الآية ليست المعادلة، وإنما هي المتوسطة في الكلام، وهي عند سيبويه التي تتضمن إضرابا عن اللفظ لا عن معناه، واستفهاما فهي تسد مسد بل وألف الاستفهام، وهي التي في قولهم: «إنها لإبل أم شاء» التقدير بل أهي شاء، وقوله أَنْ تُتْرَكُوا يسد عند سيبويه مسد مفعولي «حسب» ، وقال المبرد: «أن» وما بعدها مفعول أول والثاني محذوف.
قال القاضي أبو محمد: كان تقديره مهملين أو سدى ونحو ذلك، وقوله وَلَمَّا هي دخلت على لم وفيها مبالغة، ومعنى الآية أظننتم أن تتركوا دون اختبار وامتحان؟ ف لَمَّا في هذه الآية بمنزلة قول الشاعر [الفرزدق] : [الطويل]
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلّت
قال القاضي أبو محمد: والمراد بقوله وَلَمَّا يَعْلَمِ لما يعلم ذلك موجودا كما علمه أزلا بشرط الوجود ولما يظهر فعلكم واكتسابكم الذي يقع عليه الثواب والعقاب ففي العبارة تجوز وإلا فحتم أنه قد علم الله في الأزل الذين وصفهم بهذه الصفة مشروطا وجودهم، وليس يحدث له علم تبارك وتعالى عن ذلك، ووَلِيجَةً معناه بطانة ودخيلة، وقال عبادة بن صفوان الغنوي: [الطويل]
ولائجهم في كل مبدى ومحضر ... إلى كل من يرجى ومن يتخوف

(3/14)


إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)

وهو مأخوذ من الولوج، فالمعنى أمرا باطنا مما ينكره الحق، وهذه الآية مخاطبة للمؤمنين معناها أنه لا بد من اختبارهم فهي كقوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 214] وكقوله الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: 1- 2] وفي هذه الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج لا سيما عند ما فرض القتال، وقرأ جمهور الناس «والله خبير بما تعملون» بالتاء على المخاطبة، وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رويس وسلام بالياء على الحكاية عن الغائب، وقوله تعالى ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ الآية، معناه ما كان للمشركين بحق الواجب أن يعمروا، وهذا هو الذي نفى الله عز وجل وإلا فقد عمروا مساجده قديما وحديثا وتغلبا وظلما، وقرأ حماد بن أبي سلمة عن ابن كثير والجحدري «مسجد الله» بالإفراد في الموضعين، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي والأعرج وشيبة وأبو جعفر ومجاهد وقتادة وغيرهم «مساجد» بالجمع في الموضعين، وقرأ ابن كثير أيضا وأبو عمرو «مسجد» بالإفراد في هذا الموضع الأول و «مساجد» بالجمع في الثاني، كأنه ذكر أولا فيه النازلة ذلك الوقت، ثم عمت المساجد ثانيا في الحكم الثابت ما بقيت الدنيا، ولفظ الجمع يقتضي عموم المساجد كلها، ويحتمل أن يراد به المسجد الحرام في الموضعين وحده على أن يقدر كل موضع سجود فيه مسجدا ثم يجمع، ولفظ الإفراد في الموضعين يقتضي خصوص المسجد الحرام وحده، ويحتمل أن يراد به الجنس فيعم المساجد كلها ولا يمنع من ذلك إضافته كما ذهب إليه من لا بصر له، وقال أبو علي الثاني في هذه القراءة يراد به الأول وسائر المساجد كلها حكمها حكم المسجد الحرام، وقوله شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ إشارة إلى حالهم إذ أقوالهم وأفعالهم تقتضي الإقرار بالكفر والتحلي به، وقيل الإشارة إلى قولهم في التلبية إلا شريك هو لك ونحو ذلك، وحكى الطبري عن السدي أنه قال: الإشارة إلى أن النصراني كان يقول أنا نصراني واليهودي كذلك والوثني يقول أنا مشرك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لم يحفظ، ثم حكم الله تعالى عليهم بأن أعمالهم حَبِطَتْ أي بطلت ولا أحفظها تستعمل إلا في السعي والعمل، ويشبه أن يكون من الحبط وهو داء قاتل يأخذ السائمة إذا رعت وبيلا وهو الذي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم» الحديث.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 18 الى 19]
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
المعنى في هذه الآية إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ بالحق لهم والواجب، ولفظ هذه الآية الخبر وفي ضمنها أمر المؤمنين بعمارة المساجد، وقد قال بعض السلف إذا رأيتم الرجل يعمر المسجد فحسنوا به

(3/15)


الظن، وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا عليه بالإيمان» وقد تقدم القول في قراءة مسجد، وقوله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ يتضمن الإيمان بالرسول إذ لا يتلقى ذلك إلا منه، وقوله وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ حذفت الألف من «يخشى» للجزم، قال سيبويه: واعلم أن الأخير إذا كان يسكن في الرفع حذف في الجزم لئلا يكون الجزم بمنزلة الرفع، ويريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة، وهذه المرتبة العدل بين الناس، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره ويخشى المحاذير الدنياوية وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه، و «عسى» من الله واجبة حيثما وقعت في القرآن، ولم يرج الله بالاهتداء إلا من حصل في هذه المرتبة العظيمة من العدالة، ففي هذا حض بليغ على التقوى، وقرأ الجمهور «أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام» وقرأ ابن الزبير وأبو حمزة ومحمد بن علي وأبو جعفر القاري «أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام» ، وقرأها كذلك ابن جبير إلا أنه نصب «المسجد» على إرادة التنوين في «عمرة» وقرأ الضحاك وأبو وجزة وأبو جعفر القاري «سقاية الحاج» بضم السين «وعمرة» ، فأما من قرأ «سقاية وعمارة» ففي الكلام عنده محذوف إما في أوله وإما في آخره فإما أن يقدر «أجعلتم أهل سقاية» وإما أن يقدر كفعل من آمن بالله. وأما من قرأ «سقاة» و «عمرة» فنمط قراءته مستو، وأما قراءة الضحاك فجمع ساق إلا أنه ضم أوله كما قالوا عرف وعراف وظئر وظؤار، وكان قياسه أن يقال سقاء وإن أنث كما أنث من الجموع حجارة وغيره. فكان القياس سقية من أول مرة على التأنيث قاله ابن جني، وسِقايَةَ الْحاجِّ كانت في بني هاشم وكان العباس يتولاها، سقية من أول مرة على التأنيث قاله ابن جني، وسِقايَةَ الْحاجِّ كانت في بني هاشم وكان العباس يتولاها، قال الحسن: ولما نزلت هذه الآية قال العباس: ما أراني إلا أترك السقاية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أقيموا عليها فإنها لكم خير، وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ قيل هي حفظه من الظلم فيه ويقال هجرا، وكان ذلك إلى العباس، وقيل هي السدانة خدمة البيت خاصة، وكانت في بني عبد الدار وكان يتولاها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الدار، وشيبة بن عثمان بن أبي طلحة المذكور هذان هما اللذان دفع إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة في ثاني يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعلي رضي الله عنهما، وقال صلى الله عليه وسلم لعثمان وشيبة: «يوم وفاء وبر خذوها خالدة تالدة لا ينازعكموها إلا ظالم» .
قال القاضي أبو محمد: يعني السدانة واختلف الناس في سبب نزول هذه الآية فقيل إن كفار قريش قالوا لليهود إنّا نسقي الحجيج ونعمر البيت، أفنحن أفضل أم محمد صلى الله عليه وسلم ودينه؟ فقالت لهم أحبار اليهود بل أنتم، فنزلت الآية في ذلك، وقيل إن الكفار افتخروا بهذه الأشياء فنزلت الآية في ذلك، وأسند الطبري إلى النعمان بن بشير أنه قال: كنت عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فقال أحدهم ما أتمنى بعد الإسلام إلا أن أكون ساقي الحاج، وقال الآخر إلا أن أكون خادم البيت وعامره، وقال الثالث إلا أن أكون مجاهدا في سبيل الله، فسمعهم عمر بن الخطاب فقال: اسكتوا حتى أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأستفتيه فدخل عليه فاستفتاه فنزلت الآية في ذلك، وقال ابن عباس والضحاك:
إن المسلمين عيروا أسرى بدر بالكفر فقال العباس بل نحن سقاة الحاج وعمرة البيت فنزلت الآية في ذلك، وقال مجاهد: أمروا بالهجرة فقال العباس أنا أسقي الحاج وقال عثمان بن طلحة أنا حاجب للكعبة فلا نهاجر

(3/16)


الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)

فنزلت أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ إلى قوله حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، وقال مجاهد وهذا كله قبل فتح مكة، وقال محمد بن كعب: إن العباس وعليا وعثمان بن طلحة تفاخروا فقال العباس أنا ساقي الحاج وقال عثمان أنا عامر البيت ولو شئت بت فيه وقال علي أنا صاحب جهاد الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم والذي آمنت وهاجرت قديما، فنزلت الآية في ذلك.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 20 الى 23]
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
لما حكم الله تعالى في الآية المتقدمة بأن الصنفين لا يستوون بين ذلك في هذه الآية الأخيرة وأوضحه، فعدد الإيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفس، وحكم أن أهل هذه الخصال أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ من جميع الخلق، ثم حكم لهم بالفوز برحمته ورضوانه، والفوز بلوغ البغية إما في نيل رغبته أو نجاة من مهلكة، وينظر إلى معنى هذه الآية الحديث الذي جاء «دعوا لي أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» .
قال القاضي أبو محمد: لأن أصحاب هذه الخصال على سيوفهم انبنى الإسلام وهم ردوا الناس إلى الشرع، وقوله تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ الآية، هذه آية وعد، وقراءة الناس «يبشّرهم» بضم الياء وكسر الشين المشددة، وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف وحميد بن هلال «يبشرهم» بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين خفيفة، وأسند الطبري إلى جابر بن عبد الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله عز وجل أعطيتكم أفضل من هذا، فيقولون ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ قال:
رضواني» ، وفي البخاري في كتاب السنة منه «فلا أسخط عليكم أبدا» ، وقرأ الجمهور «ورضوان» بكسر الراء، وقرأ عاصم وعمرو «ورضوان» بضم الراء وقرأ الأعمش بضم الراء والضاد جميعا، قال أبو حاتم لا يجوز هذا وقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ الآية، ظاهر هذه المخاطبة أنها لجميع المؤمنين كافة، وهي باقية الحكم إلى يوم القيامة، وروت فرقة أن هذه الآية إنما نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفر، فالمخاطبة على هذا هي للمؤمنين الذين كانوا في مكة وغيرها من بلاد العرب خوطبوا بأن لا يوالوا الآباء والإخوة فيكونون لهم تبعا في سكنى بلاد الكفر، ولم يذكر الأبناء في هذه الآية إذ الأغلب من البشر أن الأبناء هم التبع للآباء و «إخوان» في هذه الآية جمع أخ النسب، وكذلك هو في قوله تعالى: أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ [النور: 61] وقرأ عيسى بن عمر «أن استحبوا» بفتح الألف من «أن» وقرأ الجمهور «إن» بكسر الألف على الشرط، واسْتَحَبُّوا متضمنة معنى فضلوا

(3/17)


قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)

وآثروا ولذلك تعدت ب «على» ، ثم حكم الله عز وجل بأن من والاهم واتبعهم في أغراضهم فإنه ظالم أي واضع للشيء غير موضعه، وهذا ظلم المعصية لا ظلم الكفر.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : آية 24]
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)
هذه الآية تقوي مذهب من رأى أن هذه والتي قبلها إنما مقصودها الحض على الهجرة، وفي ضمن قوله: فَتَرَبَّصُوا وعيد بين، وقوله: بِأَمْرِهِ قال الحسن: الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله، وقال مجاهد: الإشارة إلى فتح مكة، والمعنى فإذا جاء الله بأمره فلم تسلبوا ما يكون لكم أجرا ومكانة في الإسلام.
قال القاضي أبو محمد: وذكر الأبناء في الآية لما جلبت ذكرهم المحبة، والأبناء صدر في المحبة وليسوا كذلك في أن تتبع آراؤهم كما في الآية المتقدمة، وقرأ جمهور الناس «وعشيرتكم» ، وقرأ عاصم وحده بخلاف عنه وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن وعصمة «وعشيراتكم» ، وحسن هذا الجمع إذ لكل أحد عشيرة تختص به، ويحسن الإفراد أن أبا الحسن الأخفش قال إنما تجمع العرب عشائر ولا تكاد تقول عشيرات، واقْتَرَفْتُمُوها معناه اكتسبتموها، وأصل الاقتراف والمقارفة مقاربة الشيء، وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها بيّن في أنواع المال، وقال ابن المبارك: الإشارة إلى البنات اللواتي لا يتزوجن لا يوجد لهن خاطب، وَمَساكِنُ جمع مسكن بفتح الكاف مفعل من السكنى، وما كان من هذا معتل الفاء فإنما يأتي على مفعل بكسر العين كموعد وموطن، والمساكن القصور والدور، وأَحَبَّ خبر كان، وكان الحجاج بن يوسف يقرؤها «أحبّ» بالرفع وله في ذلك خبر مع يحيى بن يعمر سأله الحجاج هل تسمعني الجن قال نعم في هذا الحرف، وذكر له رفع أحب فنفاه.
قال القاضي أبو محمد: وذلك خارج في العربية على أن يضمر في كان الأمر والشأن ولم يقرأ بذلك، وقوله وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ عموم لفظ يراد به الخصوص فيمن يوافى على فسقه، أو عموم مطلق على أنه لا هداية من حيث الفسق.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)

(3/18)


هذه مخاطبة لجميع المؤمنين يعد الله نعمه عليهم، ومَواطِنَ جمع موطن بكسر الطاء، والموطن موضع الإقامة أو الحلول لأنه أول الإقامة، و «المواطن» المشار إليها بدر والخندق والنضير وقريظة، ولم يصرف مَواطِنَ لأنه جمع ونهاية جمع، وَيَوْمَ عطف على موضع قوله فِي مَواطِنَ أو على لفظة بتقدير وفي يوم، فانحذف حرف الخفض، وحُنَيْنٍ واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز وصرف حين أريد به الموضع والمكان، ولو أريد به البقعة لم يصرف كما قال الشاعر [حسان رضي الله عنه] :
[الكامل]
نصروا نبيّهم وشدّوا أزره ... بحنين يوم تواكل الأبطال
وقوله إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حين رأى حملته اثني عشر ألفا قال: لن نغلب اليوم من قلة، وروي أن رجلا من أصحابه قالها فأراد الله إظهار العجز فظهر حين فر الناس، ثم عطف القدر بنصره، وقوله وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي بقدر ما هي رحبة واسعة لشدة الحال وصعوبتها، ف «ما» مصدرية، وقوله ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ يريد فرار الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: واختصار هذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما فتح مكة وكان في عشرة آلاف من أصحابه وانضاف إليه ألفان من الطلقاء فصار في اثني عشر ألفا سمع بذلك كفار العرب فشق عليهم فجمعت له هوازن وألفافها وعليهم مالك بن عوف النصري وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفا فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اجتمعوا بحنين، فلما تصافّ الناس حمل المشركون من مجاني الوادي، فانهزم المسلمون، قال قتادة:
ويقال إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء، وقال أبو عبد الرحمن الفهري: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، يومئذ وكان على فرس قد اكتنفه العباس عمه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وبين يديه أيمن بن أم أيمن، وثم قتل رحمه الله، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الحال نزل عن بغلته إلى الأرض، قاله البراء بن عازب، واستنصر الله عز وجل فأخذ قبضة من تراب وحصى فرمى بها وجوه الكفار، وقال: شاهت الوجوه، وقال عبد الرحمن: تطاول من فرسه فأخذ قبضة التراب ونزلت الملائكة لنصره ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يا للأنصار، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس أن ينادي أين أصحاب الشجرة أين أصحاب سورة البقرة، فرجع الناس عنقا واحدا وانهزم المشركون، قال يعلى بن عطاء:
فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا لم يبق منا أحد إلا دخل في عينيه من ذلك التراب، واستيعاب هذه القصة في كتاب السير.

(3/19)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

وظاهر كلام النحاس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أربعة عشر ألفا، وهذا غلط، ومُدْبِرِينَ نصب على الحال المؤكدة كقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [البقرة: 91] والمؤكدة هي التي يدل ما قبلها عليها كدلالة التولي على الأدبار، وقوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ الآية، ثُمَّ هاهنا على بابها من الترتيب، و «السكينة» النصر الذي سكنت إليه ومعه النفوس والحال، والإشارة بالمؤمنين إلى الأنصار على ما روي، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى في ذلك اليوم يا معشر الأنصار، فانصرفوا وهم ردوا الهزيمة، و «الجنود» الملائكة، و «الرعب» قال أبو حاجز يزيد بن عامر: كان في أجوافنا مثل ضربة الحجر في الطست من الرعب، «وعذاب الذين كفروا» هو القتل الذي استحرّ فيهم والأسر الذي تمكن في ذراريهم، وكان مالك بن عوف النصري قد أخرج الناس بالعيال والذراري ليقاتلوا عليها، فخطأه في ذلك دريد بن الصمة، وقال لمالك بن عوف راعي ضأن وهل يرد المنهزم شيء؟ وفي ذلك اليوم قتل دريد بن الصمة القتلة المشهورة، قتله ربيعة بن رفيع بن أهبان السلمي، ويقال ابن الدغنة وقوله ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ إعلام بأن من أسلم وتاب من الكفار الذين نجوا ذلك اليوم فإنهم مقبولون مسلمون موعودون بالغفران والرحمة.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : آية 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
قال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما: صفة المشرك بالنجس إنما كانت لأنه جنب إذ غسله من الجنابة ليس بغسل، وقال ابن عباس وغيره: بل معنى الشرك هو الذي كنجاسة الخمر، قال الحسن البصري: من صافح مشركا فليتوضأ.
قال القاضي أبو محمد: فمن قال بسبب الجنابة أوجب الغسل على من يسلم من المشركين، ومن قال بالقول الآخر لم يوجب الغسل، والمذهب كله على القول بإيجاب الغسل إلا ابن عبد الحكم فإنه قال:
ليس بواجب، وقرأ أبو حيوة «نجس» بكسر النون وسكون الجيم، ونص الله تعالى في هذه الآية على المشركين وعلى المسجد الحرام، فقاس مالك رحمه الله غيره جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد وكذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله ونزع في كتابه بهذه الآية، ويؤيد ذلك قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور: 36] ، وقال الشافعي هي عامة في الكفار خاصة في المسجد الحرام، فأباح دخول اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد، ومن حجته حديث ربط ثمامة بن أثال، وقال أبو حنيفة هي خاصة في عبدة الأوثان وفي المسجد الحرام، فأباح دخول اليهود والنصارى في المسجد الحرام وغيره، ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد، وقال عطاء: وصف المسجد بالحرام ومنع القرب يقتضي منعهم من جميع الحرم.

(3/20)


قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)

قال القاضي أبو محمد: وقوة قوله فَلا يَقْرَبُوا يقتضي أمر المسلمين بمنعهم، وقال جابر بن عبد الله وقتادة: لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب جزية أو عبدا لمسلم، وعبدة الأوثان مشركون بإجماع، واختلف في أهل الكتاب، فمذهب عبد الله بن عمر وغيره أنهم مشركون، وقال جمهور أهل العلم ليسوا بمشركين، وفائدة هذا الخلاف تتبين في فقه مناكحهم وذبائحهم وغير ذلك، وقوله بَعْدَ عامِهِمْ هذا يريد بعد عام تسع من الهجرة وهو عام حج أبو بكر بالناس وأذن علي بسورة براءة، وأما قوله وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً قال عمرو بن فائد: المعنى وإذ خفتم.
قال القاضي أبو محمد: وهذه عجمة والمعنى بارع بإن، وكان المسلمون لما منع المشركون من الموسم وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارات قذف الشيطان في نفوسهم الخوف من الفقر وقالوا من أين نعيش؟
فوعدهم الله بأن يغنيهم من فضله، قال الضحاك: ففتح عليهم باب أخذ الجزية من أهل الذمة، بقوله قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [التوبة: 29] إلى قوله وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة: 29] ، وقال عكرمة: أغناهم بإدرار المطر عليهم.
قال القاضي أبو محمد: وأسلمت العرب فتمادى حجهم وتجرهم وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم، و «العيلة» الفقر، يقال: عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر، قال الشاعر: [أحيحة]
وما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل
وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود، «عايلة» وهو مصدر كالقايلة من قال يقيل، وكالعاقبة والعافية، ويحتمل أن تكون نعتا لمحذوف تقديره حالا عائلة، وحكى الطبري أنه يقال عال يعول إذا افتقر.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : آية 29]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29)
هذه الأشياء تضمنت قتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى حتى يقتلوا أو يؤدوا الجزية، قال مجاهد: وعند نزول هذه الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزو الروم ومشى نحو تبوك، ومن جعل أهل الكتاب مشركين فهذه الآية عنده ناسخة بما فيها من أخذ الجزية لقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] ونفى عنهم الإيمان بالله واليوم الآخر من حيث تركوا شرع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه، فصار جميع ما لهم في البعث وفي الله عز وجل من تخيلات واعتقادات لا معنى لها، إذ تلقوها من غير طريقها، وأيضا فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة لأنهم تشعبوا وقالوا: عزير ابن الله والله ثالث ثلاثة وغير ذلك، ولهم أيضا في البعث آراء كشراء منازل الجنة من الرهبان، وقول اليهود في النار نكون فيها أياما بعد ونحو ذلك، وأما قوله لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فبين، ونص على مخالفتهم لمحمد

(3/21)


صلى الله عليه وسلم، وأما قوله وَلا يَدِينُونَ فمعناه ولا يطيعون ويمتثلون، ومنه قول عائشة: ما عقلت أبوي إلا وهما يدينان الدين، والدين في اللغة لفظة مشتركة وهي هاهنا الشريعة، وهي مثل قوله تعالى:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 19] ، وأما قوله مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فنص في بني إسرائيل وفي الروم وأجمع الناس في ذلك، وأما المجوس فقال ابن المنذر: لا أعلم خلافا في أن الجزية تؤخذ منهم.
قال القاضي أبو محمد: وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، فقال كثير من العلماء معنى ذلك في أخذ الجزية منهم، وليسوا أهل الكتاب، فعلى هذا لم يتعد التشبيه إلى ذبائحهم ومناكحهم، وهذا هو الذي ذكره ابن حبيب في الواضحة، وقال بعض العلماء: معناه سنوا بهم سنة أهل الكتاب إذ هم أهل كتاب، فعلى هذا يتجه التشبيه في ذبائحهم وغيرها، والأول هو قول مالك وجمهور أصحابه، وروي أنه قد كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت، وأما مجوس العرب فقال ابن وهب: لا تقبل منهم جزية ولا بد من القتال أو الإسلام، وقال سحنون وابن القاسم وأشهب: تؤخذ الجزية من مجوس العرب والأمم كلها، وأما عبدة الأوثان من العرب فلم يستثن الله فيهم جزية ولا بقي منهم على الأرض بشر، قال ابن حبيب وإنما لهم القتال أو الإسلام وهو قول ابن حنيفة.
قال القاضي أبو محمد: ويوجد لابن القاسم أن الجزية تؤخذ منهم، وذلك أيضا في التفريع لابن الجلاب وهو احتمال لا نص، وأما أهل الكتاب من العرب فذهب مالك رحمه الله إلى أن الجزية تؤخذ منهم، وأشار إلى المنع من ذلك أبو حنيفة، وأما السامرة والصابئون فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى تؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبائحهم، وقالت فرقة لا تؤكل ذبائحهم، وعلى هذا لا تؤخذ الجزية منهم، ومنع بعضهم الذبيحة مع إباحة أخذ الجزية منهم، وأما عبدة الأوثان والنيران وغير ذلك فجمهور العلماء على قبول الجزية منهم، وهو قول مالك في المدونة، وقال الشافعي وأبو ثور: لا تؤخذ الجزية إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط ومذهب مالك رحمه الله أن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال البالغين الأحرار العقلاء، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، ولا تضرب على الصبيان والنساء والمجانين ولا تضرب على رهبان الديارات والصوامع المنقطعين، قال مالك في الواضحة: وأما إن كانت قد ضربت عليهم ثم انقطعوا بعد ذلك فلا تسقط عنهم، وأما رهبان الكنائس فتضرب عليهم، واختلف في الشيخ الفاني، ومن راعى أن علتها الإذلال أمضاها في الجميع وقال النقاش: العقوبات الشرعية تكون في الأموال والأبدان فالجزية من عقوبات الأموال، وأما قدرها فذهب رحمه الله وكثير من أهل العلم على ما فرضه عمر رضي الله عنه وذلك أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الفضة، وفرض ... «1» رضي الله عنه ضيافة وأرزاقا وكسوة، قال مالك في الواضحة ويحط ذلك عنهم اليوم لما «2» عليهم من اللوازم، فهذا أحد ما ذكر عن عمر وبه أخذ مالك، قال سفيان الثوري رويت عن ... «3» عمر ضرائب مختلفة.
قال القاضي أبو محمد: وأظن ذلك بحسب اجتهاده رضي الله عنه في يسرهم وعسرهم، وقال
__________
(1، 2، 3) بياض في الأصل.

(3/22)


وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)

الشافعي وغيره: قدر الجزية دينار على الرأس، ودليل ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا بذلك وأخذه جزية اليمن كذلك أو قيمته معافر وهي ثياب، وقال كثير من أهل العلم ليس لذلك في الشرع حد محدود وإنما ذلك إلى اجتهاد الإمام في كل وقت وبحسب قوم قوم، وهذا كله في العنوة، وأما الصلح فهو ما صولحوا عليه من قليل أو كثير، واختلف في المذهب في العبد الذي يعتقه الذمي أو المسلم هل يلزمه جزية أم لا؟ وقال ابن القاسم لا ينقص أحد من أربعة دنانير كان فقيرا أو غنيا، وقال أصبغ: يحط الفقير بقدر ما يرى من حاله، وقال ابن الماجشون: لا يؤخذ من الفقير شيء والجزية وزنها فعلة من جزى يجزي إذا كافى عن ما أسدي إليه، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن، وهي كالقعدة والجلسة. ومن هذا المعنى قول الشاعر: [الكامل]
يجزيك أو يثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
وقوله تعالى: عَنْ يَدٍ يحتمل تأويلات، منها أن يريد سوق الذمي لها بيده لا مع رسول ليكون في ذلك إذلال له، ومنها أن يريد عن نعمة منكم قبلهم في قبولها منهم وتمينهم، واليد في اللغة النعمة والصنع الجميل، ومنها أن يريد عن قوة منكم عليهم وقهر لا تبقى لهم معه راية ولا معقل، و «اليد» في كلام العرب القوة، يقال: فلان ذو يد ويقال ليس لي بكذا وكذا يد أي قوة، ومنها أن يريد أن ينقدوها ولا يؤخروا بها كما تقول بعته يدا بيد، ومنها أن يريد عن استسلام منهم وانقياد على نحو قولهم ألقى فلان بيده إذا عجز واستسلم، وقوله وَهُمْ صاغِرُونَ لفظ يعم وجوها لا تنحصر لكثرتها ذكر منها عن عكرمة أن يكون قابضها جالسا والدافع من أهل الذمة قائم، وهذا ونحوه داع إلى صغارهم.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : آية 30]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
الذي كثر في كتب أهل العلم أن فرقة من اليهود تقول هذه المقالة، وروي أنه لم يقلها إلا فنحاص، وقال ابن عباس: قالها أربعة من أحبارهم، سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف وقال النقاش: لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا.
قال القاضي أبو محمد: فإذا قالها واحد فيتوجه أن يلزم الجماعة شنعة المقالة لأجل نباهة القائل فيهم، وأقوال النبهاء أبدا مشهورة في الناس يحتج بها، فمن هنا صح أن تقول الجماعة قول نبيها، وقرأ عاصم والكسائي «عزير ابن الله» بتنوين عزير، والمعنى أن ابنا على هذا خبر ابتداء عن عزير، وهذا هو أصح المذاهب لأن هذا هو المعنى المنعيّ عليهم، وعُزَيْرٌ ونحوه ينصرف عجميا كان أو عربيا، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «عزير ابن الله» دون تنوين عزير، فقال بعضهم «ابن» خبر عن «عزير» وإنما حذف التنوين من عزير لاجتماع الساكنين ونحوه قراءة من قرأ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص: 1- 2] قال أبو علي وهو كثير في الشعر، وأنشد الطبري في ذلك: [الرجز]

(3/23)


لتجدنّي بالأمير برّا ... وبالقناة مدعسا مكرا
إذا عطيف السلمي برا قال القاضي أبو محمد: فالألف على هذه القراءة والتأويل ثابتة في «ابن» وقال بعضهم «ابن» صفة ل «عزير» كما تقول زيد بن عمرو وجعلت الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد وحذف التنوين إذا جاء الساكنان كأنهما التقيا من كلمة واحدة، والمعنى عزير ابن الله معبودنا وإلهنا أو المعنى معبودنا أو إلهنا عزير ابن الله.
قال القاضي أبو محمد: وقياس هذه القراءة والتأويل أن يحذف الألف من «ابن» لكنها تثبت في خط المصحف، فيترجح من هذا كله أن قراءة التنوين في «عزير» أقواها، وحكى الطبري وغيره أن بني إسرائيل أصابتهم فتن وبلاء وقيل مرض وأذهب الله عنهم التوراة في ذلك ونسوها، وكان علماؤهم قد دفنوها أول ما أحسوا بذلك البلاء، فلما طالت المدة فقدت التوراة جملة فحفظها الله عزيرا كرامة منه له، فقال لبني إسرائيل إن الله قد حفظني التوراة فجعلوا يدرسونها من عنده، ثم إن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي مساوية لما كان عزير يدرس، فضلوا عند ذلك وقالوا إن هذا لن يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله، وظاهر قول النصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ أنها بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة، وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما، وهذا أشنع في الكفر، قال أبو المعالي: أطبقت النصارى على أن المسيح إله وأنه ابن الإله.
قال القاضي أبو محمد: ويقال إن بعضهم يعتقدها بنوة حنو ورحمة، وهذا المعنى أيضا لا يحل أن تطلق البنوة عليه، وهو كفر لمكان الإشكال الذي يدخل من جهة التناسل وكذلك كفرت اليهود في قولهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وقولهم نحن أبناء الله، وإنما توجد في كلام العرب استعارة البنوة عبارة عن نسب وملازمات تكون بين الأشياء إذا لم يشكل الأمر وكان أمر النسل لاستحالة من ذلك قول عبد الملك بن مروان: وقد زبنتنا الحرب وزبناها فنحن بنوها وهي أمنا يريد للملازمة ومن ذلك قول حريث بن مخفض:
[الطويل]
بنو المجد لم تقعد بهم أمهاتهم ... وآباؤهم أبناء صدق فأنجبوا
ومن ذلك ابن نعش وابن ماء وابن السبيل ونحو ذلك ومنه قول الشاعر: [الكامل] والأرض تحملنا وكانت أمنا ومنه أحد التأويلات في قوله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة ابن زنى» أي ملازمه والتأويل الآخر أن لا يدخلها مشكل الأمر والتأويلان في قول النصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ كما تقدم من الصفة والخبر إلا أن شغب التنوين ارتفع هاهنا، وعُزَيْرٌ نبي من أنبياء بني إسرائيل، وقوله بِأَفْواهِهِمْ يتضمن معنيين:
أحدهما إلزامهم المقالة والتأكيد في ذلك كما قال يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة: 79] ، وكقوله وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] ، والمعنى الثاني في قوله بِأَفْواهِهِمْ أي هو ساذج لا حجة عليه ولا برهان غاية بيانه أن يقال بالأفواه قولا مجردا نفس دعوى، ويُضاهِؤُنَ قراءة الجماعة ومعناه يحاكون

(3/24)


اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)

ويبارون ويماثلون، وقرأ عاصم وحده من السبعة وطلحة بن مصرف «يضاهئون» بالهمز على أنه من ضاهأ وهي لغة ثقيف بمعنى ضاهى.
قال القاضي أبو محمد: ومن قال إن هذا مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء وهي التي لا تحيض وقيل التي لا ثدي لها سميت بذلك لشبهها بالرجال فقوله خطأ قاله أبو علي: لأن الهمزة في ضاهأ أصلية وفي ضهياء زائدة كحمراء، وإن كان الضمير في يُضاهِؤُنَ لليهود والنصارى جميعا فالإشارة بقوله الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ هي إما لمشركي العرب إذ قالوا الملائكة بنات الله وهم أول كافر وهو قول الضحاك: وإما لاسم سالفة قبلهما، وإما للصدر الأول من كفرة اليهود والنصارى، ويكون يُضاهِؤُنَ لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان الضمير في يُضاهِؤُنَ للنصارى فقط كانت الإشارة ب الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ إلى اليهود، وعلى هذا فسر الطبري وحكاه الزهراوي عن قتادة، وقوله قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم عام لأنواع الشر، ومعلوم أن من قاتله الله فهو المغلوب المقتول، وحكى الطبري عن ابن عباس أن المعنى لعنهم الله، وأَنَّى يُؤْفَكُونَ مقصده أنى توجهوا أو أنى ذهبوا وبدل مكان هذا الفعل المقصود فعل سوء يحق لهم، وذلك فصيح في الكلام كما تقول لعن الله الكافر أنى هلك كأنك تحتم عليه بهلاك وكأنه حتم عليهم في هذه الآية بأنهم يؤفكون، ومعناه يحرمون ويصرفون عن الخير، والأرض المأفوكة التي لم يصبها مطر، قال أبو عبيدة يُؤْفَكُونَ معناه يحدون.
قال القاضي أبو محمد: يريد من قولك رجل محدود أي محروم لا يصيب خيرا، وكأنه من الإفك الذي هو الكذب، فكأن المأفوك هو الذي تكذبه أراجيه فلا يلقى خيرا. ويحتمل أن يكون قوله تعالى:
أَنَّى يُؤْفَكُونَ ابتداء تقرير، أي بأي سبب ومن أي جهة يصرفون عن الحق بعد ما تبين لهم، و «قاتل» في هذه الآية بمعنى قتل وهي مفاعلة من واحد وهذا كله بين.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 31 الى 33]
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
واحد «الأحبار» حبر بكسر الحاء، ويقال حبر بفتح الحاء والأول أفصح، ومنه مداد الحبر، والحبر بالفتح: العالم، وقال يونس بن حبيب: لم أسمعه إلا بكسر الحاء، وقال الفراء: سمعت فتح الحاء وكسرها في العالم، وقال ابن السكيت الحبر: بالكسر المداد والحبر بالفتح العالم، و «الرهبان» جمع راهب وهو الخائف من الرهبة، وسماهم أَرْباباً وهم لا يعبدوهم لكن من حيث تلقوا الحلال والحرام من جهتهم،

(3/25)


وهو أمر لا يتلقى إلا من جهة الله عز وجل ونحو هذا قال ابن عباس وحذيفة بن اليمان وأبو العالية، وحكى الطبري أن عدي بن حاتم قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب ذهب، فقال: يا عدي اطرح هذا الصليب من عنقك، فسمعته يقرأ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فقلت يا رسول الله وكيف ولم نعبدهم؟ فقال أليس تستحلون ما أحلوا وتحرمون ما حرموا قلت نعم. قال فذاك، وَالْمَسِيحَ عطف على الأحبار والرهبان، وسُبْحانَهُ نصب على المصدر والعامل فيه فعل من المعنى لأنه ليس من لفظ سبحان فعل، والتقدير أنزهه تنزيها، فمعنى سُبْحانَهُ تنزيها له، واحتج من يقول إن أهل الكتاب مشركون بقوله تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، والغير يقول إن اتخاذ هؤلاء الأرباب ضرب ما من الإشراك وقد يقال في المرائي إنه أشرك وفي ذلك آثار، وقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ الآية، نُورَ اللَّهِ في هذه الآية هداه الصادر عن القرآن والشرع المثبت في قلوب الناس فمن حيث سماه نورا سمي محاولة إفساده والصد في وجهه إطفاء، وقالت فرقة: النور القرآن.
قال القاضي أبو محمد: ولا معنى لتخصيص شيء مما يدخل تحت المقصود بالنور، وقوله بِأَفْواهِهِمْ عبارة عن قلة حيلتهم وضعفها، أخبر عنهم أنهم يحاولون مقاومة أمر جسيم بسعي ضعيف فكان الإطفاء بنفخ الأفواه، ويحتمل أن يراد بأقوال لا برهان عليها فهي لا تجاوز الأفواه إلى فهم سامع، وقوله وَيَأْبَى إيجاب يقع بعده أحيانا إلا وذلك لوقوعه هو موقع الفعل المنفي، لأن التقدير ولا يريد الله إلا أن يتم نوره وقال الفراء: هو إيجاب فيه طرف من النفي، ورد الزجاج على هذه العبارة وبيانه ما قلناه، وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ الآية، رَسُولَهُ يراد به محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله بِالْهُدى يعم القرآن وجميع الشرع، وقوله وَدِينِ الْحَقِّ إشارة إلى الإسلام والملة بجمعها وهي الحنيفية، وقوله لِيُظْهِرَهُ قال أبو هريرة وأبو جعفر محمد بن علي وجابر بن عبد الله ما معناه:
إن الضمير عائد على الدين وإظهاره عند نزول عيسى ابن مريم وكون الأديان كلها راجعة إلى دين الإسلام فذلك إظهاره.
قال القاضي أبو محمد: فكأن هذه الفرقة رأت الإظهار على أتم وجوهه أي حتى لا يبقى معه دين آخر، وقالت فرقة لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ أي ليجعله أعلاها وأظهرها وإن كان معه غيره كان دونه.
قال القاضي أبو محمد: فهذا لا يحتاج إلى نزول عيسى بل كان هذا في صدر الأمة وهو حتى الآن إن شاء الله وقالت فرقة: الضمير عائد على الرسول، ومعنى لِيُظْهِرَهُ ليطلعه ويعلمه الشرائع كلها والحلال والحرام.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل وإن كان صحيحا جائزا فالآخر أبرع منه وأليق بنظام الآية وأحرى مع كراهية المشركين، وخص الْمُشْرِكُونَ هنا بالذكر لما كانت كراهية مختصة بظهور دين محمد صلى الله عليه وسلم فذكره العظم والأول ممن كره ذلك وصد فيه، وذكر الكافرون في الآية قبل لأنها كراهية إتمام نور الله في قديم الدهر وفي باقية فعم الكفر من لدن خلق الدنيا إلى انقراضها إذ قد وقعت الكراهية والإتمام مرارا كثيرة.

(3/26)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
المراد بهذه الآية بيان نقائص المذكورين، ونهي المؤمنين عن تلك النقائص مترتب ضمن ذلك، واللام في لَيَأْكُلُونَ لام التأكيد، وصورة هذا الأكل هي بأنهم يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم أي النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله، وهم خلال ذلك يحتجنون تلك الأموال كالذي ذكره سلمان في كتاب السير عن الراهب الذي استخرج كنزه، وقيل كانوا يأخذون منهم من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع، وقيل كانوا يرتشون في الأحكام، ونحو ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وقوله تعالى: بِالْباطِلِ، يعم هذا كله، وقوله يَصُدُّونَ، الأشبه هنا أن يكون معدى أي يصدون غيرهم وهذا الترجيح إنما هو لنباهة منازلهم في قومهم و «صد» يستعمل واقفا ومتجاوزا، ومنه قول الشاعر [عمرو بن كلثوم] : [الوافر]
صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا
وسَبِيلِ اللَّهِ الإسلام وشريعة محمد عليه السلام، ويحتمل أن يريد ويصدون عن سبيل الله في أكلهم الأموال بالباطل، والأول أرجح، وقوله وَالَّذِينَ ابتداء وخبره فَبَشِّرْهُمْ، ويجوز أن يكون وَالَّذِينَ معطوفا على الضمير في قوله يأكلون على نظر في ذلك، لأن الضمير لم يؤكد، وأسند أبو حاتم إلى علباء بن أحمد أنه قال: لما أمر عثمان بكتب المصحف أراد أن ينقص الواو في قوله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ فأبي ذلك أبي بن كعب وقال لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقها.
قال القاضي أبو محمد: وعلى إرادة عثمان يجري قول معاوية، إن الآية في أهل الكتاب وخالفه أبو ذر فقال: بل هي فينا، فشكاه إلى عثمان فاستدعاه من الشام ثم خرج إلى الربذة، والذي يظهر من الألفاظ أنه لما ذكر نقص الأحبار والرهبان الآكلين المال بالباطل ذكر بعد ذلك بقول عامر نقص الكافرين المانعين حق المال، وقرأ طلحة بن مصرف «الذين يكنزون» بغير واو، ويَكْنِزُونَ معناه يجمعون ويحفظون في الأوعية، ومنه قول المنخل الهذلي: [البسيط]
لا در دري إن أطعمت نازلهم ... قرف الحتيّ وعندي البر مكنوز
أي محفوظ في أوعيته، وليس من شروط الكنز الدفن لكن كثر في حفظة المال أن يدفنوه حتى تورق

(3/27)


في المدفون اسم الكنز، ومن اللفظة قولهم رجل مكتنز الخلق أي مجتمع، ومنه قول الراجز: [الرجز]
على شديد لحمه كناز ... بات ينزيني على أوفاز
والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه، ولذلك قال كثير من العلماء: الكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته وإن كان على وجه الأرض، وأما المدفون إذا خرجت زكاته فليس بكنز كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل ما أديت زكاته فليس بكنز» ، وهذه الألفاظ مشهورة عن ابن عمر وروي هذا القول عن عكرمة والشعبي والسدي ومالك وجمهور أهل العلم، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة وما زاد عليها فهو كنز وإن أديت زكاته. وقال أبو ذر وجماعة معه: ما فضل من مال الرجل عن حاجة نفسه فهو كنز، وهذان القولان يقتضيان أن الذم في حبس المال لا في منع زكاته فقط، ولكن قال عمر بن عبد العزيز: هي منسوخة بقوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103] فأتى فرض الزكاة على هذا كله.
قال القاضي أبو محمد: كان مضمن الآية لا تجمعوا مالا فتعذبوا فنسخه التقرير الذي في قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ [التوبة: 103] . والضمير في قوله يُنْفِقُونَها يجوز أن يعود على الأموال والكنوز التي يتضمنها المعنى، ويجوز أن يعود على الذهب والفضة هما أنواع، وقيل عاد على الفضة واكتفي بضمير الواحد عن ضمير الآخر إذا فهمه المعنى وهذا نحو قول الشاعر [قيس بن الخطيم] : [المنسرح]
نحن بما عندنا وأنت بما عن ... دك راض والرأي مختلف
ونحن قول حسان: [الخفيف]
إنّ شرخ الشباب والشّعر الأس ... ود ما لم يعاص كان جنونا
وسيبويه يكره هذا في الكلام، وقد شبه كثير من المفسرين هذه الآية بقوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: 11] وهي لا تشبهها، لأن «أو» قد فصلت التجارة عن اللهو وحسنت عود الضمير على أحدهما دون الآخر، والذهب تؤنث وتذكر والتأنيث أشهر، وروي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قد ذم الله كسب الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير حتى نكسبه، فقال عمر: أنا أسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسأله، فقال «لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة تعين المؤمن على دينه» . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت الآية «تبا للذهب تبا للفضة» ، فحينئذ أشفق أصحابه وقالوا ما تقدم، والفاء في قوله فَبَشِّرْهُمْ، جواب كما في قوله وَالَّذِينَ من معنى الشرط، وجاءت البشارة مع العذاب لما وقع التصريح بالعذاب وذلك أن البشارة تقيد بالخير والشر فإذا أطلقت لم تحمل إلا على الخير فقط، وقيل بل هي أبدا للخير فمتى قيدت بشر فإنما المعنى أقم لهم مقام البشارة عذابا أليما، وهذا نحو قول الشاعر [عمرو بن معديكرب] : [الوافر]
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع
وقوله تعالى يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها الآية: يَوْمَ ظرف والعامل فيه أَلِيمٍ وقرأ جمهور الناس

(3/28)


إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)

«يحمى» بالياء بمعنى يحمى الوقود، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تحمى» بالتاء من فوق بمعنى تحمى النار والضمير في عليها عائد على الكنوز أو الأموال حسبما تقدم، وقرأ قوم «جباهم» بالإدغام وأشموها الضم حكاه أبو حاتم، ووردت أحاديث كثيرة في معنى هذه الآية من الوعيد لكنها مفسرة في منع الزكاة فقط لا في كسب المال الحلال وحفظه، ويؤيد ذلك حال أصحابه وأموالهم رضي الله عنهم، فمن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك بعده كنزا لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع» الحديث. وأسند الطبري قال كان نعل سيف أبي هريرة من فضة فنهاه أبو ذر، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها، وأسند إلى أبي أمامة الباهلي قال: مات رجل من أهل الصفة فوجد في برده دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كية ثم مات آخر فوجد له ديناران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيتان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إما لأنهما كانا يعيشان من الصدقات وعندهما التبر وإما لأن هذا كان في صدر الإسلام، ثم قرر الشرع ضبط المال وأداء حقه، ولو كان ضبط المال ممنوعا لكان حقه أن يخرج كله لا زكاته فقط، وليس في الأمة من يلزم هذا، وقوله هذا ما كَنَزْتُمْ إشارة إلى المال الذي كوي به، ويحتمل أن تكون إلى الفعل النازل بهم، أي هذا جزاء ما كنزتم، وقال ابن مسعود: والله لا يمس دينار دينارا بل يمد الجلد حتى يكوى بكل دينار وبكل درهم، وقال الأحنف بن قيس: دخلت مسجد المدينة وإذا رجل خشن الهيئة رثها يطوف في الحلق وهو يقول: بشر أصحاب الكنوز بكي في جباهم وجنوبهم وظهورهم، ثم انطلق يتذمر وهو يقول وما عسى تصنع في قريش.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : آية 36]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
هذه الآية والتي بعدها تتضمن ما كانت العرب شرعته في جاهليتها من تحريم شهور الحل وتحليل شهور الحرمة، وإذا نص ما كانت العرب تفعله تبين معنى الآيات فالذي تظاهرت به الروايات وينفك عن مجموع ما ذكر الناس، أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وإعمال سلاحها فكانوا إذا توالت عليهم حركة ذي القعدة وذي الحجة والمحرم صعب عليهم وأملقوا، وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين في العرب وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد بن حذيفة، ثم خلف ابنه قلع بن عباد، ثم خلفه ابنه أمية بن قلع، ثم خلفه ابنه عوف بن أمية، ثم خلفه ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف وعليه قام الإسلام، وذكر الطبري وغيره أن الأمر كان في عدوان قبل بني مالك بن كنانة، وكانت صورة فعلهم أن العرب كانت إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين، فقالوا أنسئنا شهرا أي أخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر، فيحل لهم

(3/29)


المحرم فيغيرون فيه ويعيشون ثم يلتزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة، قال مجاهد: ويسمون ذلك الصفر المحرم، ثم يسمون، ربيعا، ربيعا الأول صفرا وربيعا الآخر ربيعا الأول، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون سنتهم من المحرم الموضوع لهم فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حال لهم، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهرا أولها المحرم المحلل ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر، ثم استقبال السنة كما ذكرنا، ففي هذا قال الله عز وجل إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً أي ليست ثلاثة عشر شهرا، قال الطبري حدثني ابن وكيع عن عمران بن عيينة عن حصين عن أبي مالك قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا، قال مجاهد: ثم كانوا يحجون في كل شهر عامين ولاء، وبعد ذلك يندلون فيحجون عامين ولاء، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة، وهم يسمونه ذا الحجة، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة، فذلك قوله إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وفي حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خطب في حجة الوداع فساق الحديث فقال فيه: أولهن رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
قال القاضي أبو محمد: ويجيء في أكثر الكتب أنهم كانوا يجعلون حرمة المحرم في صفر ويسكت عن تمام القصة، والذي ذكرناه هو بيانها، وأما كون المحرم أول السنة العربية وكان حقه إذ التاريخ من الهجرة أن يكون أول السنة في ربيع الأول فإن ذلك فيما يرون لأن عمر بن الخطاب دون ديوان المسلمين وجعل تاريخه المحرم إذ قبله انقضاء الموسم والحج فكان الحج خاتمة للسنة، واعتد بعام الهجرة وإن كان قد نقص من أوله شيء، ولما كانت سنة العرب هلالية بدىء العام من أول شهر ولم يكن في الثاني عشر من ربيع الذي هو يوم دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ولا كان عند تمام الحج لأنه في كسر شهر، وأما الأربعة الحرم فهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» قصد التفريق بينه وبين ما كانت تفعله قبائل ربيعة بأسرها، فإنها كانت تجعل رجبها رمضان وتحرمه ابتداعا منها، وكانت قريش ومن تابعها في ذلك من قبائل مضر على الحق، فقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ونسبه إلى مضر إذ كان حكمه وتحريمه إنما كان من قبل قريش، وفي المفضليات لبعض شعراء الجاهلي [عوف بن الأحوص العامري] : [الوافر] وشهر بني أمية والهدايا البيت قال الأصمعي: يريد رجبا، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «اثنا عشر شهرا» بسكون العين وذلك تخفيف لتوالي الحركات، وكذلك قرأ أحد عشر وتسعة عشر وقوله فِي كِتابِ اللَّهِ أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ أو غيره، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه وليست بمعنى قضائه وتقديره لأن تلك هي قبل خلق السموات والأرض، و «الكتاب» الذي هو المصدر هو العامل في يَوْمَ، وفي قوله فِي كِتابِ اللَّهِ متعلقة بمستقرة أو ثابتة ونحوه، ويقلق أن يكون الكتاب القرآن في هذا الموضع، وتأمل، ولا يتعلق في بعده للتفرقة بين الصلة والموصول بخبر «أن» ، وقوله مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ نص على تفضيل هذه

(3/30)


إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)

الأربعة وتشريفها، قال قتادة: اصطفى الله من الملائكة والبشر رسلا ومن الشهور المحرم ورمضان، ومن البقع المساجد، ومن الأيام الجمعة، ومن الليالي ليلة القدر، ومن الكلام ذكره فينبغي أن يعظم ما عظم الله، وقوله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، قالت فرقة: معناه الحساب المستقيم، وقال ابن عباس فيما حكى المهدوي: معناه القضاء المستقيم.
قال القاضي أبو محمد: والأصوب عندي أن يكون الدين هاهنا على أشهر وجوهه، أي ذلك الشرع والطاعة لله، الْقَيِّمُ أي القائم المستقيم، وهو من قام يقوم بمنزلة سيد من ساد يسود أصله قيوم، وقوله فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ الضمير عائد على ال اثْنا عَشَرَ شَهْراً، أي لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في الزمن كله، وقال قتادة الضمير عائد على الأربعة الأشهر، ونهي عن الظلم فيها تشريفا لها بالتخصيص والذكر وإن كان منهيا عنه في كل الزمن، وزعم النحاة أن العرب تكني عما دون العشرة من الشهور، فيهن وعما فوق العشرة فيها، وروي عن الكسائي أنه قال إني لأتعجب من فعل العرب هذا، وكذلك يقولون فيما دون العشرة من الليالي خلون وفيما فوقها خلت وقال الحسن معنى فيهن أي بسببهن ومن جراهن في أن تحلوا حرامها وتبدلوه بما لا حرمة له، وحكى المهدوي أنه قيل «لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتل» . ثم نسخ بفرض القتال في كل زمن، قال سعيد بن المسيب في كتاب الطبري: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحرم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل الله في ذلك حتى نزلت براءة.
قال القاضي أبو محمد: وقوله وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ معناه فيهن فأحرى في غيرهن، وقوله كَافَّةً معناه جميعا وهو مصدر في موضع الحال، قال الطبري: كالعاقبة والعافية فهو على هذا كما تقول خاصة وعامة، ويظهر أيضا أنه من كف يكف أي جماعة تكف من عارضها وكذلك نقل الكافة أي تكف من خالفها، فاللفظة على هذا اسم فاعل، وقال بعض الناس: معناه يكف بعضهم بعضا عن التخلف، وما قدمناه أعم وأحسن، وقال بعض الناس: كان الفرض بهذه الآية قد توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك بعد وجعل فرض كفاية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الذي قالوه لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ألزم الأمة جميعا النفر، وإنما معنى الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة، ثم قيدها بقوله كَما يُقاتِلُونَكُمْ فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم، وأما الجهاد الذي ينتدب إليه فإنما هو فرض على الكفاية إذا قام به بعض الأمة سقط عن الغير، وقوله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ خبر في ضمنه أمر بالتقوى ووعد عليها بالنصر والتأييد.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : آية 37]
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)
النَّسِيءُ على وزن فعيل مصدر بمعنى التأخير، تقول العرب أنسأ الله في أجلك ونسأ في أجلك.

(3/31)


ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سره النساء في الأجل والسعة في الرزق فليصل رحمه» . وقرأ جمهور الناس والسبعة «النسيء» كما تقدم، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه وقوم معه في الشاذ «النسيّ» بشد الياء، وقرأ فيما روى عنه جعفر بن محمد والزهري «النسيء» ، وقرأ أيضا فيما روي عنه «النسء» على وزن النسع وقرأت فرقة «النسي» . فأما «النسيء» بالمد والهمز فقال أبو علي هو مصدر مثل النذير والنكير وعذير الحي ولا يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول لأنه يكون المعنى إنما المؤخر زيادة والمؤخر الشهر ولا يكون الشهر زيادة في الكفر.
قال القاضي أبو محمد: وقال أبو حاتم هو فعيل بمعنى مفعول، وينفصل عن إلزام أبي علي بأن يقدر مضاف كان المعنى إنما إنساء النسيء، وقال الطبري هو من معنى الزيادة أي زيادتهم في الأشهر، وقال أبو وائل كان النسيء رجلا من بني كنانة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وأما «النسي» فهو الأول بعينه خففت الهمزة وقيل قلبت الهمزة ياء وأدغمت الياء في الياء، وأما «النسء» هو مصدر من نسأ إذا أخر، وأما «النسي» فقيل تخفيف همزة النسيء وذلك على غير قياس، وقال الطبري هو مصدر من نسي ينسى إذا ترك.
قال القاضي أبو محمد: والنسيء هو فعل العرب في تأخيرهم الحرمة، وقوله زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ أي جار في كفرهم بالله وخلاف منهم للحق فالكفر متكثر بهذا الفعل الذي هو باطل في نفسه.
قال القاضي أبو محمد: ومما وجد في أشعارها من هذا المعنى قول بعضهم: [الوافر] ومنا منسىء الشهر القلمس وقال الآخر: [الكامل]
نسؤوا الشهور بها وكانوا أهلها ... من قبلكم والعز لم يتحول
ومنه قول جذل الطعان: [الوافر]
وقد علمت معدّ أنّ قومي ... كرام الناس أن لهم كراما
فأي الناس فاتونا بوتر ... وأي الناس لم تعلك لجاما
ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «يضل» بفتح الياء وكسر الضاد، وقرأ ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون «يضل» بضم الياء وكسر الضاد فإما على معنى يضل الله وإما على معنى يضل به الذين كفروا أتباعهم، ف الَّذِينَ في التأويل الأول في موضع نصب، وفي الثاني في موضع رفع، وقرأ عاصم أيضا وحمزة والكسائي وابن مسعود فيما روي عنه «يضل» بضم الياء وفتح الضاد على المفعول الذي لم يسم فاعله، ويؤيد ذلك قوله تعالى: زُيِّنَ للتناسب في اللفظ، وقرأ أبو رجاء «يضل» من ضل يضل على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها وهي لغتان يقال ضل يضل وضل يضل والوزن الذي ذكرناه يفرق بينهما، وكذلك يروى قول النبي صلى الله عليه وسلم، «حتى يضل الرجل إن

(3/32)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

يدركم صلى» بفتح الضاد وكسرها، وقوله يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً معناه عاما من الأعوام وليس يريد أن تلك مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام.
قال القاضي أبو محمد: وقد تأول بعض الناس القصة أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم عليهم صفر بدلا منه ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقه وأحل صفر، ومشت الشهور مستقيمة، ورأت هذه الطائفة أن هذه كانت حالة القوم.
قال القاضي أبو محمد: والذي قدمناه قبل أليق بألفاظ الآيات، وقد بينه مجاهد وأبو مالك، وهو مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم، «إن الزمان قد استدار» مع أن هذا الأمر كله قد تقضى والله أعلم.
أي ذلك كان، وقوله لِيُواطِؤُا معناه ليوافقوا والمواطأة الموافقة تواطأ الرجلان على كذا إذا اتفقا عليه، ومعنى ليواطئوا عدة ما حرم الله ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد.
قال القاضي أبو محمد: فأزالوا الفضيلة التي خص الله بها الأشهر الحرم وحدها بمثابة أن يفطر أحد رمضان ويصوم شهرا من السنة بغير مرض أو سفر، وقوله زُيِّنَ يحتمل هذا التزيين أن يضاف إلى الله عز وجل والمراد به خلقه لكفرهم وإقرارهم عليه وتحبيبه لهم، ويحتمل أن يضاف إلى مغويهم ومضلهم من الإنس والجن، ثم أخبر تعالى أنه لا يهديهم ولا يرشدهم، وهو عموم معناه الخصوص في الموافين أو عموم مطلق لكن لا هدية من حيث هم كفار.
قال القاضي أبو محمد: وذكر أبو علي البغدادي في أمر «النسيء» أنه كان إذا صدر الناس من منى قام رجل يقال له نعيم بن ثعلبة فيقول أنا الذي لا أعاب ولا يرد لي قضاء فيقولون أنسئنا شهرا أي أخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر.
قال القاضي أبو محمد: واسم نعيم لم يعرف في هذا وما أرى ذلك إلا كما حكى النقاش من بني فقيم كانوا يسمون القلامس واحدهم قلمس وكانوا يفتون العرب في الموسم، يقوم كبيرهم في الحجر ويقوم آخر عند الباب ويقوم آخر عند الركن فيفتون.
قال القاضي أبو محمد: فهم على هذا عدة، منهم نعيم وصفوان ومنهم ذرية القلمس حذيفة وغيرهم.
قال القاضي أبو محمد: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «لا عدوى ولا هامة ولا صفر» ، فقال بعض الناس: إنه يريد بقوله لا صفر هذا النسيء، وقيل غير ذلك.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 39]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

(3/33)


هذه الآية هي بلا اختلاف نازلة عتابا على تخلف من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام غزا فيها الروم في عشرين ألفا بين راكب وراجل، وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون فالعتاب في هذه الآية هو للقبائل وللمؤمنين الذين كانوا بالمدينة، وخص الثلاثة كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية بذلك التذنيب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم، وكان تخلفهم لغير علة حسب ما يأتي، وقوله ما لَكُمْ استفهام بمعنى التقرير والتوبيخ، وقوله قِيلَ يريد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن صرفه الفعل لا يسمى فاعله يقتضي إغلاظا ومخاشنة ما، و «النفر» هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث، يقال في ابن آدم نفر إلى الأمر ينفر نفيرا ونفرا، ويقال في الدابة نفرت تنفر بضم الفاء نفورا، وقوله اثَّاقَلْتُمْ أصله تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء فاحتيج إلى ألف الوصل كما قال فَادَّارَأْتُمْ وكما تقول ازين، وكما قال الشاعر [الكسائي] : [البسيط]
تولي الضجيع إذا ما استافها خصرا ... عذب المذاق إذا ما اتّابع القبل
وقرأ الأعمش فيما حكى المهدوي وغيره «تثاقلتم» على الأصل، وذكرها أبو حاتم «تتثاقلتم» بتاءين ثم ثاء مثلثة، وقال هي خطأ أو غلط، وصوب «تثاقلتم» بتاء واحدة وثاء مثلثة أن لو قرىء بها، وقوله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ عبارة عن تخلفهم ونكولهم وتركهم الغزو لسكنى ديارهم والتزام نخلهم وظلالهم، وهو نحو من أخلد إلى الأرض، وقوله: أَرَضِيتُمْ تقرير يقول أرضيتم نزر الدنيا على خطير الآخرة وحظها الأسعد، ثم أخبر فقال إن الدنيا بالإضافة إلى الآخرة قليل نزر، فتعطي قوة الكلام التعجب من ضلال من يرضى النزر بدل الكثير الباقي، وقوله إِلَّا تَنْفِرُوا الآية، إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ شرط وجواب، وقوله يُعَذِّبْكُمْ لفظ عام يدخل تحته أنواع عذاب الدنيا والآخرة، والتهديد بعمومه أشد تخويفا، وقالت فرقة يريد يعذبكم بإمساك المطر عنكم، وروي عن ابن عباس أنه قال: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة من القبائل فقعدت فأمسك الله عنها المطر وعذبها به، و «أليم» بمعنى مؤلم بمنزلة قول عمرو بن معديكرب: [الوافر] أمن ريحانة الداعي السميع وقوله وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ توعد بأن يبدل لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوما لا يقعدون عند استنفاره إياهم، والضمير في قوله وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً عائد على الله عز وجل أي لا ينقص ذلك من عزه وعز دينه، ويحتمل أن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم وهو أليق، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي على كل شيء مقدور وتبديلهم منه ليس بمحال ممتنع.

(3/34)


إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : آية 40]
إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
هذا أيضا شرط وجواب والجواب في الفاء من قوله فَقَدْ وفيما بعدها، قال النقاش: هذه أول آية نزلت من سورة براءة، ومعنى الآية أنكم إن تركتم نصره فالله متكفل به، إذ فقد نصره في موضع القلة والانفراد وكثرة العدو، فنصره إياه اليوم أحرى منه حينئذ، وقوله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يريد فعلوا من الأفاعيل ما أدى إلى خروجه، وأسند الإخراج إليهم إذ المقصود تذنيبهم، ولما كان مقصد أبي سفيان بن الحارث الفخر في قوله: من طردت كل مطرد. لم يقرره النبي صلى الله عليه وسلم، والإشارة إلى خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وفي صحبته أبو بكر، واختصار القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينتظر أمر الله عز وجل في الهجرة من مكة، وكان أبو بكر حين ترك ذمة ابن الدغنة قد أراد الخروج من مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «اصبر فلعل الله أن يسهل في الصحبة» ، فلما أذن الله لرسوله في الخروج تجهز من دار أبي بكر وخرجا فبقيا في الغار الذي في جبل ثور في غربي مكة ثلاث ليال، وخرج المشركون في أثرهم حتى انتهوا إلى الغار فطمس عليهم الأثر، وقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم لقدمه لرآنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما.
ويروى أن العنكبوت نسجت على باب الغار، ويروى أن الحمامة عششت عند باب الغار، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يجعل ثماما في باب الغار فتخيله المشركون نابتا وصرفهم الله عنه، ووقع في الدلائل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبتت على باب الغار راءة أمرها الله بذلك في الحين، قال الأصمعي: جمعها راء وهي نبات من السهل.
وروي أن أبا بكر لما دخل الغار خرق رداءه فسدّ به كواء الغار لئلا يكون فيها حيوان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم.
وروي أنه بقيت واحدة فسدها برجله فوقى الله تعالى، وكان يروح عليهما باللبن عامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وقوله ثانِيَ اثْنَيْنِ معناه أحد اثنين، وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة فالمعنى صير الثلاثة بنفسه أربعة، وقرأ جمهور الناس «ثاني اثنين» بنصب الياء من «ثاني» . قال أبو حاتم: لا يعرف غير هذا وقرأت فرقة «ثاني اثنين» بسكون الياء من ثاني، قال أبو الفتح: حكاها أبو عمرو بن العلاء، ووجهه أنه سكن الياء تشبيها لها بالألف.

(3/35)


انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)

قال القاضي أبو محمد: فهذه كقراءة ما بقي من الربا وكقول جرير: [البسيط]
هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ... ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
و «صاحبه» أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وروي أن أبا بكر الصديق قال يوما وهو على المنبر: أيكم يحفظ سورة التوبة، فقال رجل أنا، فقال اقرأ فقرأ، فلما انتهى إلى قوله إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا بكى وقال أنا والله صاحبه، وقال الليث: ما صحب الأنبياء مثل أبي بكر الصديق، وقال سفيان بن عيينة: خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله: إِلَّا تَنْصُرُوهُ.
قال القاضي أبو محمد: أقول بل خرج منها كل من شاهد غزوة تبوك ولم يتخلف، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط، أما إن هذه الآية منوهة بأبي بكر حاكمة بقدمه وسابقته في الإسلام رضي الله عنه، وقوله:
إِنَّ اللَّهَ مَعَنا يريد به النصر والإنجاء واللطف، وقوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ الآية، قال حبيب بن أبي ثابت: الضمير في عَلَيْهِ عائد على أبي بكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل ساكن النفس ثقة بالله عز وجل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول من لم ير السكينة إلا سكون النفس والجأش، وقال جمهور الناس:
الضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أقوى، و «السكينة» عندي إنما هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة لهم والخصائص التي لا تصلح إلا لهم، كقوله تعالى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 248] ويحتمل أن يكون قوله فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح لا أن تكون هذه الآية تختص بقصة الغار والنجاة إلى المدينة، فعلى هذا تكون «الجنود» الملائكة النازلين ببدر وحنين، ومن رأى أن الآية مختصة بتلك القصة قال «الجنود» ملائكة بشروه بالنجاة وبأن الكفار لا ينجح لهم سعي، وفي مصحف حفصة «فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما» ، وقرأ مجاهد «وأأيده» بألفين، والجمهور «وأيّده» بشد الياء، وقوله: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى يريد بإدحارها ودحضها وإذلالها، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا قيل يريد لا إله إلا الله، وقيل الشرع بأسره، وقرأ جمهور الناس «وكلمة» بالرفع على الابتداء، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ويعقوب «وكلمة» بالنصب على تقدير وجعل كلمة، قال الأعمش: ورأيت في مصحف أنس بن مالك المنسوب إلى أبيّ بن كعب «وجعل كلمته هي العليا» .
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 41 الى 42]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42)
هذا أمر من الله عز وجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالنفر إلى الغزو فقال بعض الناس هذا أمر

(3/36)


عام لجميع المؤمنين تعين به الفرض على الأعيان في تلك المدة، ثم نسخه الله عز وجل، بقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] ، روي ذلك عن الحسن وعكرمة، وقال جل الناس: بل هذا حض والأمر في نفسه موقوف على فرض الكفاية ولم يقصد بالآية فرضه على الأعيان، وأما قوله خِفافاً وَثِقالًا فنصب على الحال من الضمير في قوله انْفِرُوا، ومعنى الخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة، وأما من لا يمكنه كالعمي ونحوهم فخارج عن هذا.
وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعليّ أن أنفر؟ فقال له نعم، حتى نزلت لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ [النور: 61] ، وذكر الناس من معاني الخفة والثقل أشياء لا وجه لتخصيص بعضها دون بعض، بل هي وجوه متفقة، فقيل «الخفيف» الغني «والثقيل» الفقير: قاله مجاهد، وقيل الخفيف الشاب والثقيل الشيخ قاله الحسن وجماعة، وقيل الخفيف النشيط والثقيل الكاسل، قاله ابن عباس وقتادة، وقيل المشغول ومن لا شغل له قاله الحكم بن عيينة وزيد بن علي، وقيل الذي له ضيعة هو الثقيل ومن لا ضيعة له هو الخفيف قاله ابن زيد: وقيل الشجاع هو الخفيف والجبان هو الثقيل حكاه النقاش، وقيل الرجل هو الثقيل والفارس هو الخفيف قاله الأوزاعي.
قال القاضي أبو محمد: وهذان الوجهان الآخران ينعكسان وقد قيل ذلك ولكنه بحسب وطأتهم على العدو فالشجاع هو الثقيل وكذلك الفارس والجبان هو الخفيف وكذلك الراجل وكذلك ينعكس الفقير والغني فيكون الغني هو الثقيل بمعنى صاحب الشغل ومعنى هذا أن الناس أمروا جملة.
وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة، وقال أبو طلحة: ما أسمع الله عذرا أحدا وخرج إلى الشام فجاهد حتى مات.
وقال أبو أيوب: ما أجدني أبدا إلا ثقيلا أو خفيفا، وروي أن بعض الناس رأى في غزوات الشام رجلا سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له يا عم إن الله قد عذرك، فقال يا ابن أخي إنّا قد أمرنا بالنفر خفافا وثقالا، وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود بحمص وهو على تابوت صراف وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو فقال له لقد عذرك الله، فقال أتت علينا سورة البعوث انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا، وروي سورة البحوث، وقوله تعالى: بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفسه عند الله تعالى: فحض على كمال الأوصاف، وقدمت الأموال في الذكر إذ هي أول مصرف وقت التجهيز فرتب الأمر كما هو في نفسه، ثم أخبر أن ذلك لهم خير للفوز برضى الله وغلبة العدو ووراثة الأرض، وفي قوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ تنبيه وهز للنفوس، وقوله: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً الآية، ظاهر هذه الآية وما يحفظ من قصة تبوك أن الله لما أمر رسوله بغزو الروم نذب الناس وكان ذلك في شدة من الحر وطيب من الثمار والظلال، فنفر المؤمنون، واعتذر منهم لا محالة فريق لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة، ويدل على ذلك قوله في أول هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التوبة: 38] ، لأن هذا الخطاب ليس للمنافقين خاصة بل هو عام، واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة، وكانوا بسبيل كسل مفرط وقصد للتخلف وكانت أعذار المؤمنين خفيفة ولكنهم

(3/37)


عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)

تركوا الأولى من التحامل، فنزل ما سلف من الآيات في عتاب المؤمنين، ثم ابتدأ من هذه الآية ذكر المنافقين وكشف ضمائرهم، فيقول لو كان هذا الغزو لعرض أي لمال وغنيمة تنال قريبا بسفر قاصد يسير لبادروا إليه، لا لوجه الله ولا لظهور كلمته، ولكن بعدت عليهم الشقة في غزو الروم أي المسافة الطويلة، وذكر أبو عبيدة أن أعرابيا قدم البصرة وكان قد حمل حمالة فعجز عنها، وكان معه ابن له يسمى الأحوص فبادر الأحوص أباه بالقول، فقال إنا من تعلمون وابنا سبيل وجئنا من شقة ونطلب في حق وتنطوننا ويجزيكم الله فتهيأ أبوه ليخطب فقال له يا إياك إني قد كفيتك.
قال القاضي أبو محمد: يا تنبيه وإياك نهي، وقرأ عيسى ابن عمر «الشّقة» بكسر الشين، وقرأ الأعرج «بعدت» بكسر العين، وحكى أبو حاتم أنها لغة بني تميم في اللفظتين، وقوله: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ يريد المنافقين، وهذا إخبار بغيب، وقوله يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ يريد عند تخلفهم مجاهرة وكفرهم، فكأنهم يوجبون على أنفسهم الحتم بعذاب الله.
ثم أخبر أن الله الذي هو أعدل الشاهدين يعلم كذبهم وأنهم كانوا يستطيعون الخروج ولكنهم تركوه كفرا ونفاقا، وهذا كله في الجملة لا بتعيين شخص ولو عين لقتل بالشرع، وقرأ الأعمش على جهة التشبيه بواو ضمير الجماعة «لو استطعنا» بضم الواو، ذكره ابن جني، ومثله بقوله تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ [التوبة: 48] فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [البقرة: 94] واشْتَرَوُا الضَّلالَةَ [البقرة 16- 175] .
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 43 الى 44]
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
هذه الآية في صنف مبالغ في النفاق واستأذنوا دون اعتذار، منهم عبد الله بن أبيّ والجد بن قيس ورفاعة بن التابوت ومن اتبعهم فقال بعضهم إيذن لي ولا تفتني وقال بعضهم إيذن لنا في الإقامة فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استيفاء منه صلى الله عليه وسلم، وأخذا بالأسهل من الأمور وتوكلا على الله، وقال مجاهد إن بعضهم قال نستأذنه فإن أذن في القعود قعدنا وإلا قعدنا فنزلت الآية في ذلك.
وقالت فرقة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أذن لهم دون أن يؤمر بذلك فعفي عنه ما يلحق من هذا، وقدم له ذكر العفو قبل العتاب إكراما له صلى الله عليه وسلم، وقال عمرو بن ميمون الأودي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صدع برأيه في قصتين دون أن يؤمر فيهما بشيء.
هذه، وأمر أسارى بدر، فعاتبه الله فيهما، وقالت فرقة بل قوله في هذه الآية عَفَا اللَّهُ عَنْكَ استفتاح كلام، كما تقول أصلحك الله وأعزك الله، ولم يكن منه صلى الله عليه وسلم، ذنب يعفى عنه لأن صورة الاستنفار قبول الإعذار مصروفة إلى اجتهاده، وأما قوله لِمَ أَذِنْتَ فهي على معنى التقرير، وقوله الَّذِينَ

(3/38)


إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)

صَدَقُوا
يريد استئذانك وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك وقوله وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ يريد في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدك وهم كذبة قد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لم تأذن، وقال الطبري معناه حتى تعلم الصادقين في أن لهم عذرا والكاذبين في أن لا عذر لهم.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا التأويل يختلط المتعذرون وقد قدمنا أن فيهم مؤمنين كالمستأذنين وهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر والأول أصوب والله أعلم.
وأدخل الطبري أيضا في تفسير هذه الآية عن قتادة أن هذه الآية نزلت بعدها الآية الأخرى في سورة النور فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [الآية: 62] .
قال القاضي أبو محمد: وهذا غلط لأن آية النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات، فأباح الله له أن يأذن فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى، وقوله لا يَسْتَأْذِنُكَ الآية، نفي عن المؤمنين أن يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في التخلف دون عذر كما فعل الصنف المذكور من المنافقين، وقوله أَنْ يُجاهِدُوا يحتمل أن تكون أَنْ في موضع نصب على معنى لا يستأذنون في التخلف كراهية أن يجاهدوا، قال سيبويه ويحتمل أن تكون في موضع خفض.
قال القاضي أبو محمد: على معنى لا يحتاجون إلى أن يستأذنوا في أن يجاهدوا بل يمضون قدما، أي فهم أحرى ألا يستأذنوا في التخلف، ثم أخبر بعلمه تعالى بِالْمُتَّقِينَ وفي ذلك تعيير للمنافقين وطعن عليهم بين.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 45 الى 47]
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
هذه الآية تنص على أن المسأذنين إنما هم مخلصون للنفاق، وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ معناه شكّت، والريب نحو الشك، ويَتَرَدَّدُونَ أي يتحيرون لا يتجه لهم هدى، ومن هذه الآية نزع أهل الكلام في حد الشك أنه تردد بين أمرين، والصواب في حده أنه توقف بين أمرين، والتردد في الآية إنما هو في ريب هؤلاء المنافقين إذ كانوا تخطر لهم صحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا، وأنه غير صحيح أحيانا، ولم يكونوا شاكين طالبين للحق لأنه كان يتضح لهم لو طلبوه، بل كانوا مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كالشاة الحائرة بين الغنمين، وأيضا فبين الشك والريب فرق ما، وحقيقة الريب إنما هو الأمر يستريب به

(3/39)


الناظر فيخلط عليه عقيدته فربما أدى إلى شك وحيرة وربما أدى إلى علم ما في النازلة التي هو فيها، ألا ترى أن قول الهذلي:
كأني أريته بريب لا يتجه أن يفسر بشك قال الطبري: وكان جماعة من أهل العلم يرون أن هاتين الآيتين منسوختان بالآية التي ذكرنا في سورة النور، وأسند عن الحسن وعكرمة أنهما قالا في قول لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ [التوبة: 44] إلى قوله فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ نسختها الآية التي في النور،، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الآية: 62] إلى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 62] .
قال القاضي أبو محمد: وهذا غلط وقد تقدم ذكره، وقوله تعالى: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ الآية، حجة على المنافقين، أي ولو أرادوا الخروج بنياتهم لنظروا في ذلك واستعدوا له قبل كونه، و «العدة» ما يعد للأمر ويروى له من الأشياء، وقرأ جمهور الناس «عدة» بضم العين وتاء تأنيث، وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنه معاوية بن محمد «عده» بضم العين وهاء إضمار يريد «عدته» فحذفت تاء التأنيث لما أضاف، كما قال «وأقام الصلاة» يريد وإقامة الصلاة، هذا قول الفراء، وضعفه أبو الفتح وقال إنما حدف تاء التأنيث وجعل هاء الضمير عوضا منها، وقال أبو حاتم: هو جمع عدة على عد، كبرة وكبر ودرة ودر، والوجه فيه عدد ولكن لا يوافق خط المصحف، وقرأ عاصم فيما روى عنه أبان وزر بن حبيش «عده» بكسر العين وهاء إضمار وهو عندي اسم لما يعد كالريح والقتل لأن العدو سمي قتلا إذ حقه أن يقتل هذا في معتقد العرب حين سمته، وانْبِعاثَهُمْ نفوذهم لهذه الغزوة، و «التثبيط» التكسيل وكسر العزم، وقوله وَقِيلَ، يحتمل أن يكون حكاية عن الله تعالى أي قال الله في سابق قضائه اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ، ويحتمل أن يكون حكاية عنهم أي كانت هذه مقالة بعضهم لبعض إما لفظا وإما معنى، فحكي في هذه الألفاظ التي تقتضي لهم مذمة إذ القاعدون النساء والأطفال، ويحتمل أن يكون عبارة عن إذن محمد صلى الله عليه وسلم، لهم في القعود، أي لما كره الله خروجهم يسر أن قلت لهم اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ، والقعود هنا عبارة عن التخلف والتراخي كما هو في قول الشاعر:
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي وليس للهيئة في هذا كله مدخل، وكراهية الله انبعاثهم رفق بالمؤمنين وقوله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ الآية، خبر بأنهم لو خرجوا لكان خروجهم مضرة، وقوله إِلَّا خَبالًا استثناء من غير الأول، وهذا قول من قدر أنه لم يكن في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبال، فيزيد المنافقون فيه، فكأن المعنى ما زادوكم قوة ولا شدة لكن خبالا، ويحتمل أن يكون الاستثناء غير منقطع وذلك أن عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك كان فيه منافقون كثير ولهم لا محالة خبال، فلو خرج هؤلاء لا لتأموا مع الخارجين فزاد الخبال، والخبال الفساد في الأشياء المؤتلفة الملتحمة كالمودات وبعض الأجرام، ومنه قول الشاعر: [الكامل]
يا بني لبينى لستما بيد ... إلّا يدا مخبولة العضد

(3/40)


لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)

وقرأ ابن أبي عبلة «ما زادكم» بغير واو، وقرأ جمهور الناس لَأَوْضَعُوا ومعناه لأسرعوا السير، وخِلالَكُمْ معناه فيما بينكم من هنا إلى هنا يسد الموضع الخلة بين الرجلين، والإيضاع سرعة السير، وقال الزجّاج خِلالَكُمْ معناه فيما يخل بكم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وماذا يقول في قوله: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ [الإسراء: 5] وقرأ مجاهد فيما حكى النقاش عنه، «ولأوفضوا» وهو أيضا بمعنى الإسراع ومنه قوله تعالى: إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج: 43] ، وحكي عن الزبير أنه قرأ «ولأرفضوا» قال أبو الفتح: هذه من رفض البعير إذا أسرع في مشية رقصا ورقصانا، ومنه قول حسان بن ثابت: [الكامل] رقص القلوص براكب مستعجل ووقعت «ولا أوضعوا» بألف بعد «لا» في المصحف، وكذلك وقعت في قوله أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ [النمل: 21] ، قيل وذلك لخشونة هجاء الأولين قال الزجّاج: وإنما وقعوا في ذلك لأن الفتحة في العبرانية وكثير من الألسنة تكتب ألفا.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن تمطل حركة اللام فيحدث بين اللام والهمزة التي من أوضع، وقوله: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي يطلبون لكم الفتنة، وقوله وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ، قال سفيان بن عيينة والحسن ومجاهد وابن زيد معناه جواسيس يستمعون الأخبار وينقلونها إليهم، ورجحه الطبري، قال النقاش: بناء المبالغة يضعف هذا القول، وقال جمهور المفسرين معناه وفيكم مطيعون سامعون لهم، وقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ توعد لهم ولمن كان من المؤمنين على هذا الصفة.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 48 الى 51]
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
في هذه الآية تحقير شأنهم، وذلك أنه أخبر أنهم قد لما سعوا على الإسلام فأبطل الله سعيهم، ومعنى قوله: مِنْ قَبْلُ ما كان من حالهم من وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوعهم عنه في أحد وغيرها، ومعنى وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ دبروها ظهرا لبطن ونظروا في نواحيها وأقسامها وسعوا بكل حيلة، وقرأ مسلمة بن محارب «وقلبوا لك» بالتخفيف في اللام، وأَمْرُ اللَّهِ الإسلام ودعوته، وقوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي نزلت في الجد بن قيس، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أمر

(3/41)


بالغزو إلى بلاد الروم حرض الناس فقال للجد بن قيس هل لك العام في جلاد بني الأصفر، وقال له وللناس: اغزوا تغنموا بنات الأصفر، فقال له الجد بن قيس: ائذن لي في التخلف ولا تفتني بذكر بنات الأصفر، فقد علم قومي أني لا أتمالك عن النساء إذا رأيتهن، ذكر ابن إسحاق ونحو هذا من القول الذي فيه فتور كثير وتخلف في الاعتذار، وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اغزوا تبوك تغنموا بنات الأصفر، فقال الجد ائذن ولا تفتنا بالنساء، وهذا منزع الأول إذا نظر، وهو أشبه بالنفاق والمحادة، وقال ابن عباس إن الجد قال: ولكني أعينك بمالي، وتأول بعض الناس قوله وَلا تَفْتِنِّي أي لا تصعب علي حتى أحتاج إلى مواقعة معصيتك ومخالفتك، فسهل أنت عليّ ودعني غير مجلح، وهذا تأويل حسن واقف مع اللفظ، لكن تظاهر ما روي من ذكر بنات الأصفر، وذلك معترض في هذا التأويل، وقرأ عيسى بن عمر «ولا تفتني» بضم التاء الأولى قال أبو حاتم هي لغة بني تميم، والأصفر هو الروم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهما السلام وكان أصفر اللون فيقال للروم بنو الأصفر، ومن ذلك قول أبي سفيان: أمر أمر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر، ومنه قول الشاعر [عدي بن زيد العبادي] :
[الخفيف]
وبنو الأصفر الكرام ملوك الر ... وم لم يبق منهم مذكور
وذكر النقاش والمهدوي أن الأصفر رجل من الحبشة وقع ببلاد الروم فتزوج وأنسل بنات لهن جمال وهذا ضعيف، وقوله: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي في الذي أظهروا الفرار منه بما تبين لك وللمؤمنين من نفاقهم وصح عندكم من كفرهم وفسد مما بينكم وبينهم، وسَقَطُوا عبارة منبئة عن تمكن وقوعهم ومنه على الخبير سقطت، ثم قال وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ، وهذا توعد شديد لهم أي هي مآلهم ومصيرهم كيف ما تقلبوا في الدنيا فإليها يرجعون فهي محيطة بهذا الوجه، وقوله تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ الآية، أخبر تعالى عن معتقدهم وما هم عليه، و «الحسنة» هنا بحسب الغزوة هي الغنيمة والظفر، و «المصيبة» الهزم والخيبة، واللفظ عام بعد ذلك في كل محبوب ومكروه، ومعنى قوله: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ، أي حزمنا نحن في تخلفنا ونظرنا لأنفسنا، وقوله تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا الآية، أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يرد على المنافقين ويفسد عليهم فرحهم بأن يعلمهم أن الشيء الذي يعتقدونه مصيبة ليس كما اعتقدوه، بل الجميع مما قد كتبه الله عز وجل للمؤمنين، فإما أن يكون ظفرا وسرورا في الدنيا وإما أن يكون ذخرا للآخرة، وقرأ طلحة بن مصرف «قل هل يصيبنا» ، ذكره أبو حاتم، وعند ابن جني وقرأ طلحة بن مصرف وأعين قاضي الري «قل لن يصيّبنا» بشد الياء التي بعد الصاد وكسرها كذا ذكر أبو الفتح وشرح ذلك وهو وهم، والله أعلم.
قال أبو حاتم: قال عمرو بن شفيق سمعت أعين قاضي الري يقرأ «قل لن يصيبنا» النون مشددة، قال أبو حاتم: ولا يجوز ذلك لأن النون لا تدخل مع لن، ولو كانت لطلحة بن مصرف لجازت لأنها مع «هل» ، قال الله عز وجل هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ [الحج: 15] وقوله: كَتَبَ اللَّهُ يحتمل أن يريد ما قضى وقدر.

(3/42)


قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)

ويحتمل أن يريد ما كتب الله لنا في قرآننا علينا من أنّا إما أن نظفر بعدونا وإما أن نستشهد فندخل الجنة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الاحتمال يرجع إلى الأول وقد ذكرهما الزجّاج، وقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، معناه مع سعيهم وجدهم إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا قول أكثر العلماء وهو الصحيح، والذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، مدة عمره ومنه مظاهرته بين درعين، وتخبط الناس في معنى التوكل في الرزق فالأشهر والأصح أن الرجل الذي يمكنه التحرف الحلال المحض الذي لا تدخله كراهية ينبغي له أن يمتثل منه ما يصونه ويحمله كالاحتطاب ونحوه، وقد قرن الله تعالى الرزق بالتسبب، ومنه وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا [مريم: 25] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الطير: «تغدو خماصا» الحديث.
ومنه قوله: «قيدها وتوكل» ، وذهب بعض الناس إلى أن الرجل القوي الجلد إذا بلغ من التوكل إلى أن يدخل غارا أو بيتا يجهل أمره فيه ويبقى في ذكر الله متوكلا يقول إن كان بقي لي رزق فسيأتي الله به وإن كان رزقي قد تم مت إذ ذلك حسن بالغ عند قوم، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه كان في الحرم رجل ملازم، يخرج من جيبه المرة بعد المرة بطاقة ينظر فيها ثم يصرفها ويبقى على حاله حتى مات في ذلك الموضع، فقرأت البطاقة فإذا فيها مكتوب وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: 48] .
قال القاضي أبو محمد: وهذه الطريقة لا يراها جل أهل العلم بل ينبغي أن يسعى الرجل لقدر القوت سعيا جميلا لا يواقع فيه شبهة، فإن تعذر عليه جميع ذلك وخرج إلى حد الاضطرار فحينئذ إن تسامح في السؤال وأكل الميتة وما أمكنه من ذلك فهو له مباح، وإن صبر وتحتسب نفسه كان في أعلى رتبة عند قوم، ومن الناس من يرى أن فرضا عليه إبقاء رمقه وأما من يختار الإلقاء باليد- والسعي ممكن- فما كان هذا قط من خلق الرسول ولا الصحابة ولا العلماء، والله سبحانه الموفق للصواب، ومن حجج من يقول بالتوكل حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله «يدخل الجنة سبعون ألفا من أمتي بلا حساب وهم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطببون وعلى ربهم يتوكلون» ، وفي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لعكاشة بن محصن أن يكون منهم، فقيل ذلك لأنه عرف منه أنه معد لذلك، وقال للآخر سبقك بها عكاشة وردّت الدعوة، فقيل: ذلك لأنه كان منافقا، وقيل بل عرف منه أنه لا يصح لهذه الدرجة من التوكل.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 52 الى 53]
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53)
فالمعنى في هذه الآية الرد على المنافقين في معتقدهم في المؤمنين، وإزالة ظنهم أن المؤمنين تنزل

(3/43)


وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)

بهم مصائب، والإعلام بأنها حسنى كيف تصرفت، وتَرَبَّصُونَ معناه تنتظرون و «الحسنيان» الشهادة والظفر، وقرأ ابن محيصن: «إلا احدى الحسنيين» بوصل ألف إِحْدَى.
قال القاضي أبو محمد: وهذه لغة ليست بالقياس وهذا مثل قول الشاعر: [الكامل] يا أبا المغيرة رب أمر معضل وقول الآخر: [الكامل] إن لم أقاتل فالبسيني برقعا وقوله بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ، يريد الموت بأخذات الأسف، ويحتمل أن يكون توعدا بعذاب الآخرة، وقوله أَوْ بِأَيْدِينا، يريد القتل وقيل بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ يريد أنواع المصائب والقوارع وقوله: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ وعيد وتهديد، وقوله: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً سببها: أن الجد بن قيس حين قال: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التوبة: 49] قال إني أعينك بمال فنزلت هذه الآية فيه وهي عامة بعده، والطوع والكره يعمان كل إنفاق، وقرأ ابن وثاب والأعمش «وكرها» بضم الكاف.
قال القاضي أبو محمد: ويتصل هاهنا ذكر أفعال الكافر إذا كانت برا كصلة القرابة وجبر الكسير وإغاثة المظلوم هل ينتفع بها أم لا، فاختصار القول في ذلك أن في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن ثواب الكافر على أفعاله البرة هو في الطعمة يطعمها» ونحو ذلك، فهذا مقنع لا يحتاج معه إلى نظر وأما ما ينتفع بها في الآخرة فلا، دليل ذلك أن عائشة أم المؤمنين قالت للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله: أرأيت عبد الله بن جدعان أينفعه ما كان يطعم ويصنع من خير فقال: «لا إنه لم يقل يوما، رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» ، ودليل آخر في قول عمر رضي الله عنه لابنه: ذاك العاصي بن وائل لا جزاه الله خيرا وكان هذا القول بعد موت العاصي، الحديث بطوله، ودليل ثالث في حديث حكيم بن حزام على أحد التأويلين: أعني في قول النبي صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما سلف لك من خير، ولا حجة في أمر أبي طالب كونه في ضحضاح من نار لأن ذلك إنما هو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وبأنه وجده في غمرة من النار فأخرجه، ولو فرضنا أن ذلك بأعماله لم يحتج إلى شفاعة، وأما أفعال الكافر القبيحة فإنها تزيد في عذابه وبذلك هو تفاضلهم في عذاب جهنم، وقوله: أَنْفِقُوا أمر في ضمنه جزاء وهذا مستمر في كل أمر معه جواب فالتقدير: إن تنفقوا لم يتقبل منكم، وأما إذا عري الأمر من جواب فليس يصحبه تضمن الشرط.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 54 الى 56]
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)

(3/44)


لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)

يحتمل أن يكون معنى الآية: وما منعهم الله من أن تقبل إلا لأجل أنهم كفروا بالله، ف أَنْ الأولى على هذا في موضع خفض نصبها الفعل حين زال الخافض، و «أن» الثانية، في موضع نصب مفعول من أجله، ويحتمل أن يكون التقدير: وما منعهم الله قبول نفقاتهم إلا لأجل كفرهم، فالأولى على هذا في موضع نصب، ويحتمل أن يكون المعنى: وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم، فالثانية في موضع رفع فاعلة، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم: «أن تقبل منهم نفقاتهم» ، وقرأ حمزة والكسائي ونافع فيما روي عنه: «أن يقبل منهم نفقاتهم» بالياء وقرأ الأعرج بخلاف عنه: «أن تقبل منهم نفقتهم» بالتاء من فوق وإفراد النفقة، وقرأ الأعمش، «أن يقبل منهم صدقاتهم» ، وقرأت فرقة: «أن نقبل منهم نفقتهم» بالنون ونصب النفقة، وكُسالى جمع كسلان، وكسلان إذا كانت مؤنثته كسلى لا ينصرف بوجه وإن كانت مؤنثته كسلانة فهو ينصرف في النكرة ثم أخبر عنهم تعالى أنهم «لا ينفقون دومة إلا على كراهية» إذ لا يقصدون بها وجه الله ولا محبة المؤمنين، فلم يبق إلا فقد المال وهو من مكارههم لا محالة، وقوله تعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ الآية، حقر هذا اللفظ شأن المنافقين وعلل إعطاء الله لهم الأموال والأولاد بإرادته تعذيبهم بها، واختلف في وجه التعذيب فقال قتادة: في الكلام تقديم وتأخير، فالمعنى «فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة» ، وقال الحسن: الوجه في التعذيب أنه بما ألزمهم فيها من أداء الزكاة والنفقة في سبيل الله.
قال القاضي أبو محمد: فالضمير في قوله بِها عائد في هذا القول على «الأموال» فقط، وقال ابن زيد وغيره: «التعذيب» هو بمصائب الدنيا ورزاياها هي لهم عذاب إذ لا يؤجرون عليها، وهذا القول وإن كان يستغرق قول الحسن فإن قول الحسن يتقوى تخصيصه بأن تعذيبهم بإلزام الشريعة أعظم من تعذيبهم بسائر الرزايا وذلك لاقتران الذلة والغلبة بأوامر الشريعة لهم قوله: وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ، يحتمل أن يريد ويموتون على الكفر، ويحتمل أن يريد «وتزهق أنفسهم» من شدة التعذيب الذي ينالهم، وقوله وَهُمْ كافِرُونَ جملة في موضع الحال على التأويل الأول، وليس يلزم ذلك على التأويل الثاني، وقوله وَيَحْلِفُونَ الآية، أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يحلفون أنهم من المؤمنين في الدين والشريعة ثم أخبر تعالى عنهم على الجملة لا على التعيين أنهم ليسوا من المؤمنين، وإنما هم يفزعون منهم فيظهرون الإيمان وهم يبطنون النفاق، و «الفرق» ، الخوف، والفروقة الجبان وفي المثل وفرق خير من حبين.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 57 الى 59]
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)

(3/45)


«الملجأ» من لجأ يلجأ إذا أوى واعتصم، وقرأ جمهور الناس «أو مغارات» بفتح الميم، وقرأ سعيد بن عبد الرحمن بن عوف «أو مغارات» بضم الميم وهي الغيران في أعراض الجبال ففتح الميم من غار الشيء إذا دخل كما تقول غارت العين إذا دخلت في الحجاج، وضم الميم من أغار الشيء غيره إذا أدخله، فهذا وجه من اشتقاق اللفظة، وقيل إن العرب تقول: غار الرجل وأغار بمعنى واحد أي دخل، قال الزجّاج: إذا دخل الغور فيحتمل أن تكون اللفظة أيضا من هذا.
قال القاضي أبو محمد: ويصح في قراءة ضم الميم أن تكون من قولهم حبل مغار أي مفتول ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبروم، فيجيء التأويل على هذا: لو يجدون عصرة أو أمورا مرتبطة مشددة تعصمهم منكم أو مدخلا لولوا إليه، وقرأ جمهور الناس «أو مدخلا» أصله مفتعل وهو بناء تأكيد ومبالغة ومعناه السرب والنفق في الأرض، وبما ذكرناه في الملجأ والمغارات، «والمدخل» فسر ابن عباس رضي الله عنه، وقال الزجّاج «المدخل» معناه قوما يدخلونهم في جملتهم وقرأ مسلمة بن محارب والحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن كثير بخلاف عنه «أو مدخلا» فهذا من دخل وقرأ قتادة وعيسى بن عمر والأعمش «أو مدخلا» بتشديدهما وقرأ أبي بن كعب «مندخلا» قال أبو الفتح هذا كقول الشاعر [الكميت] :
[البسيط] ولا يدي في حميت السمن تندخل قال القاضي أبو محمد: وقال أبو حاتم: قراءة أبي بن كعب «متدخلا» بتاء مفتوحة، وروي عن الأعمش وعيسى «مدخلا» بضم الميم فهو من أدخل، وقرأ الناس «لولوا» وقرأ جد أبي عبيدة بن قرمل «لوالوا» من الموالاة، وأنكرها سعيد بن مسلم وقال: أظن لوالوا بمعنى للجؤوا، وقرأ جمهور الناس، «يجمحون» معناه يسرعون مصممين غير منثنين، ومنه قول مهلهل: [البسيط]
لقد جمحت جماحا في دمائهم ... حتى رأيت ذوي أحسابهم خمدوا
وقرأ أنس بن مالك «يجمزون» ومعناه يهربون، ومنه قولهم في حديث الرجم: فلما إذ لقته الحجارة جمزة، وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ الآية، الضمير في قوله وَمِنْهُمْ عائد على المنافقين، وأسند الطبري إلى أبي سعيد الخدري أنه قال: جاء ابن ذي الخويصرة التميمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسما فقال: اعدل يا محمد الحديث المشهور بطوله، وفيه قال أبو سعيد: فنزلت في ذلك وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ، وروى داود بن أبي عاصم أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصدقة فقسمها ووراءه رجل من الأنصار فقال: ما هذا بالعدل فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذه نزعة منافق، وكذلك روي من غير ما طريق أن الآية نزلت بسبب كلام

(3/46)


إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

المنافقين إذ لم يعطوا بحسب شطط آمالهم، ويَلْمِزُكَ معناه يعيبك ويأخذ منك في الغيبة ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة ... وأن أغيب فأنت الهامز اللمزة
ومنه قول رؤبة: [الرجز] في ظل عصري باطلي ولمزي والهمز أيضا في نحو ذلك ومنه قوله تعالى وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1] وقيل لبعض العرب: أتهمز الفأرة فقال: إنها تهمزها الهرة قال أبو علي: فجعل الأكل همزا، وهذه استعارة كما استعار حسان بن ثابت الغرث في قوله: [الطويل] وتصبح غرثى من لحوم الغوافل تركيبا على استعارة الأكل في الغيبة.
قال القاضي أبو محمد: ولم يجعل الأعرابي الهمز الأكل، وإنما أراد ضربها إياها بالناب والظفر، وقرأ جمهور الناس «يلمزك» بكسر الميم، وقرأ ابن كثير فيما روى عنه حماد بن سلمة «يلمزك» بضم الميم، وهي قراءة أهل مكة وقراءة الحسن وأبي رجاء وغيرهم، وقرأ الأعمش «يلمّزك» ، وروى أيضا حماد بن سلمة عن ابن كثير «يلامزك» ، وهي مفاعلة من واحد لأنه فعل لم يقع من النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الآية، وصف للحال التي ينبغي أن يكون عليها المستقيمون، يقول تعالى: ولو أن هؤلاء المنافقين رضوا قسمة الله الرزق لهم وما أعطاهم على يدي رسوله ورجوا أنفسهم فضل الله ورسوله وأقروا بالرغبة إلى الله لكان خيرا لهم وأفضل مما هم فيه، وحذف الجواب من الآية لدلالة ظاهر الكلام عليه، وذلك من فصيح الكلام وإيجازه.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : آية 60]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
إِنَّمَا في هذه الآية حاصرة تقتضي وقوف الصَّدَقاتُ على الثمانية الأصناف، وإنما اختلف في صورة القسمة فقال مالك وغيره: ذلك على قدر اجتهاد الإمام وبحسب أهل الحاجة، وقال الشافعي: هي ثمانية أقسام على ثمانية أصناف لا يخل بواحد منها إلا أن الْمُؤَلَّفَةِ انقطعوا.
قال القاضي أبو محمد: ويقول صاحب هذا القول: إنه لا يجزىء المتصدق والقاسم من كل صنف أقل من ثلاثة، وأما الفقير والمسكين فقال الأصمعي وغيره: الفقير أبلغ فاقة وقال غيرهم: المسكين أبلغ فاقة.

(3/47)


قال القاضي أبو محمد: ولا طريق إلى هذا الاختلاف ولا إلى الترجيح إلا النظر في شواهد القرآن والنظر في كلام العرب وأشعارها، فمن حجة الأولين قول الله عز وجل أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف: 79] واعترض هذا الشاهد بوجوه منها، أن يكون سماهم «مساكين» بالإضافة إلى الغاصب وإن كانوا أغنياء على جهة الشفقة كما تقول في جماعة تظلم مساكين لا حيلة لهم وربما كانوا مياسير ومنها: أنه قرىء «لمساكين» بشد السين بمعنى: دباغين يعملون المسوك قاله النقاش وغيره ومنها:
أن تكون إضافتها إليهم ليست بإضافة ملك بل كانوا عاملين بها فهي كما تقول: سرج الفرس، ومن حجة الآخرين قول الراعي: [البسيط]
أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبد
وقد اعترض هذا الشاهد بأنه إنما سماه فقيرا بعد أن صار لا حلوبة له، وإنما ذكر الحلوبة بأنها كانت، وهذا اعتراض يرده معنى القصيدة ومقصد الشاعر بأنه إنما يصف سعاية أتت على مال الحي بأجمعه، فقال: أما الفقير فاستؤصل ماله فكيف بالغني مع هذه الحال، وذهب من يقول إن المسكين أبلغ فاقة إلى أنه مشتق من السكون، وأن الفقير مشتق من فقار الظهر كأنه أصيب فقارة فيه لا محالة حركة، وذهب من يقول إن الفقير أبلغ فاقة: إلى أنه مشتق من فقرت البئر إذا نزعت جميع ما فيها، وأن المسكين من السكن.
قال القاضي أبو محمد: ومع هذا الاختلاف فإنهما صنفان يعمهما الإقلال والفاقة، فينبغي أن يبحث على الوجه الذي من أجله جعلهما الله اثنين، والمعنى فيهما واحد، وقد اضطرب الناس في هذا، فقال الضحاك بن مزاحم: «الفقراء» هم من المهاجرين وَالْمَساكِينِ من لم يهاجر، وقال النخعي نحوه، قال سفيان: يعني لا يعطى فقراء الأعراب منها شيئا.
قال القاضي أبو محمد: «والمسكين السائل» يعطى في المدينة وغيرها، وهذا القول هو حكاية الحال وقت نزول الآية، وأما منذ زالت الهجرة فاستوى الناس، وتعطى الزكاة لكل متصف بفقر، وقال عكرمة:
«الفقراء» من المسلمين، وَالْمَساكِينِ من أهل الذمة، ولا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين، وقال الشافعي في كتاب ابن المنذر: «الفقير» من لا مال له ولا حرفة سائلا كان أو متعففا، «والمسكين» الذي له حرفة أو مال ولكن لا يغنيه ذلك سائلا كان أو غير سائل، وقال قتادة بن دعامة: الفقير الزمن المحتاج، والمسكين الصحيح المحتاج، وقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري وابن زيد وجابر بن زيد ومحمد بن مسلمة:
«المساكين» الذين يسعون ويسألون، و «الفقراء» هم الذين يتصاونون، وهذا القول الأخير إذا لخص وحرر أحسن ما يقال في هذا، وتحريره: أن الفقير هو الذي لا مال له إلا أنه لم يذل ولا بذل وجهه، وذلك إما لتعفف مفرط وإما لبلغة تكون له كالحلوبة وما أشبهها، والمسكين هو الذي يقترن بفقره تذلل وخضوع وسؤال، فهذه هي المسكنة، فعلى هذا كل مسكين فقير وليس كل فقير مسكينا، ويقوي هذا أن الله تعالى قد وصف بني إسرائيل بالمسكنة وقرنها بالذلة مع غناهم، وإذا تأملت ما قلناه بان أنهما صنفان موجودان في المسلمين، ويقوي هذا قوله تعالى: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة: 273] وقيل لأعرابي: أفقير أنت؟ فقال: إني والله مسكين،

(3/48)


وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان، ولكن المسكين هو الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، اقرأوا إن شئتم لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [البقرة: 273] ، فدل هذا الحديث على أن المسكين في اللغة هو الطواف، وجرى تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على المتصاون مجرى تقديم «الفقراء» في الآية لمعنى الاهتمام إذ هم بحيث إن لم يتهمم بهم هلكوا، والمسكين يلح ويذكر بنفسه، وأما العامل فهو الرجل الذي يستنيبه الإمام في السعي على الناس وجمع صدقاتهم، وكل من يصرف من عون لا يستغنى عنه فهو من الْعامِلِينَ لأنه يحشر الناس على السعي، وقال الضحاك: للعاملين ثمن ما عملوا على قسمة القرآن، وقال الجمهور: لهم قدر تعبهم ومؤنتهم قاله مالك والشافعي في كتاب ابن المنذر، فإن تجاوز ذلك ثمن الصدقة فاختلف، فقيل يتم لهم ذلك من سائر الأنصباء وقيل، بل يتم لهم ذلك من خمس الغنيمة، واختلف إذا عمل في الصدقات هاشمي فقيل: يعطى منها عمالته وقيل: بل يعطاها الخمس، ولا يجوز للعامل قبول الهدية والمصانعة ممن يسعى عليه وذلك إن فعله رد في بيت المال كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بابن اللتبية حين استعمله على الصدقة فقال، هذا لكم وهذا أهدي لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هلا قعدت في بيت أبيك وأمك حتى تعلم ما يهدى لك» وأخذ الجميع منه.
قال القاضي أبو محمد: وتأمل عمالة الساعي هل يأخذها قبل العمل أو بعده، وهل هي إجازة أو هي جعل وهل العمل معلوم أو هو يتتبع وإنما يعرف قدره بعد الفراغ، وأما الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ فكانوا صنفين، مسلمين وكافرين مساترين، قال يحيى بن أبي كثير، كان منهم أبو سفيان بن حرب بن أمية والحارث بن هشام وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعيينة والأقرع ومالك بن عوف والعباس بن مرداس والعلاء بن جارية الثقفي.
قال القاضي أبو محمد: وأكثر هؤلاء من الطلقاء الذين ظاهر أمرهم يوم الفتح الكفر، ثم بقوا مظهرين الإسلام حتى وثقه الاستئلاف في أكثرهم واستئلافهم إنما كان لتجلب إلى الإسلام منفعة أو تدفع عنه مضرة، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه والحسن والشعبي وجماعة من أهل العلم: انقطع هذا الصنف بعزة الإسلام وظهوره، وهذا مشهور مذهب مالك رحمه الله، قال عبد الوهاب: إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة.
قال القاضي أبو محمد: وقول عمر عندي إنما هو لمعنيين، فإنه قال لأبي سفيان حين أراد أخذ عطائه القديم: إنما تأخذ كرجل من المسلمين فإن الله قد أغنى عنك وعن ضربائك، يريد في الاستئلاف، وأما أن ينكر عمر الاستئلاف جملة وفي ثغور الإسلام فبعيد، وقال كثير من أهل العلم: الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ موجودون إلى يوم القيامة.
قال القاضي أبو محمد: وإذا تأملت الثغور وجد فيها الحاجة إلى الاستئلاف، وقال الزهري:
الْمُؤَلَّفَةِ من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنيا.
قال القاضي أبو محمد: يريد لتبسط نفسه ويحبب دين الإسلام إليه، وأما الرِّقابِ فقال ابن عباس

(3/49)


والحسن ومالك وغيره: هو ابتداء العتق وعون المكاتب بما يأتي على حريته، واختلف هل يعان بها المكاتب في أثناء نجومه بالمنع والإباحة، واختلف على القول بإباحة ذلك إن عجز فقيل يرد ذلك من عند السيد، وقيل يمضى لأنه كان يوم دفعه بوجه مترتب، وقال الشافعي: معنى وَفِي الرِّقابِ في المكاتبين ولا يبتدأ منها عتق عبد، وقاله الليث وإبراهيم النخعي وابن جبير، وذلك أن هذه الأصناف إنما تعطى لمنفعة المسلمين أو لحاجة في أنفسها، والعبد ليس له واحدة من هاتين العلتين، والمكاتب قد صار من ذوي الحاجة وقال الزهري: سهم الرقاب نصفان، نصف للمكاتبين ونصف يعتق منه رقاب مسلمون ممن صلى، قال ابن حبيب: ويفدى منه أسارى المسلمين ومنع ذلك غيره، وأما «الغارم» فهو الرجل يركبه دين في غير معصية ولا سفه، قال العلماء: فهذا يؤدى عنه وإن كانت له عروض تقيم رمقه وتكفي عياله، وكذلك الرجل يتحمل بحمالة في ديارات أو إصلاح بين القبائل ونحو هذا، وهو أحد الخمسة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لعامل عليها أو غاز في سبيل الله أو رجل تحمل بحمالة أو من أهديت له أو من اشتراها بماله» .
قال القاضي أبو محمد: وقد سقط الْمُؤَلَّفَةِ من هذا الحديث، ولا يؤدى من الصدقة دين ميت ولا يعطى منها من عليه كفارة ونحو ذلك من حقوق الله، وإنما «الغارم» من عليه دين يسجن فيه، وقد قيل في مذهبنا وغيره: يؤدى دين الميت من الصدقات قاله أبو ثور، وأما فِي سَبِيلِ اللَّهِ فهو المجاهد يجوز أن يأخذ من الصدقة لينفقها في غزوه وإن كان غنيا قال ابن حبيب: ولا يعطى منها الحاج إلا أن يكون فقيرا فيعطى لفقره، وقال ابن عباس وابن عمر وأحمد وإسحاق: يعطى منها الحاج وإن كان غنيا، والحج سبيل الله، ولا يعطى منها في بناء مسجد ولا قنطرة ولا شراء مصحف ونحو هذا، وأما ابْنِ السَّبِيلِ فهو الرجل في السفر والغربة يعدم فإنه يعطى من الزكاة وإن كان غنيا في بلده، وسمي المسافر ابن السبيل لملازمته السبيل كما يقال للطائر: ابن ماء لملازمته له ومنه عندي قولهم: ابن جلا وقد قيل فيه غير هذا ومنه قولهم:
بنو الحرب وبنو المجد ولا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة، قال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ وابن حبيب: ولا من التطوع ولا يعطى مواليهم لأن مولى القوم منهم، وقال ابن القاسم: يعطى بنو هاشم من صدقة التطوع ويعطى مواليهم من الصدقتين، ومن سأل من الصدقة وقال إنه فقير، فقالت فرقة يعطى دون أن يكلف بينة على فقره بخلاف حقوق الآدميين يدعي معها الفقر فإنه يكلف البينة لأنها حقوق الناس يؤخذ لها بالأحوط، وأيضا فالناس إذا تعلقت بهم حقوق آدمي محمولون على الغنى حتى يثبت العدم ويظهر ذلك من قوله تعالى وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ [البقرة: 280] أي ان وقع فيعطي هذا أن الأصل الغنى فإن وقع ذو عسرة فنظرة، وقالت فرقة: الرجل الصحيح الذي لا يعلم فقره لا يعطى إلا أن يعلم فقره، وأما إن ادعى أنه غارم أو مكاتب أو ابن سبيل أو في سبيل الله أو نحو ذلك مما لم يعلم منه فلا يعطى إلا ببينة قولا واحدا، وقد قيل في الغارم: تباع عروضه وجميع ما يملك ثم يعطى بالفقر، ويعطي الرجل قرابته الفقراء وهم أحق من غيرهم فإن كان قريبه غائبا في موضع تقصر إليه الصلاة فجاره الفقير أولى، وإن كان في غيبة لا تقصر إليه الصلاة فقيل هو أولى من الجار الفقير، وقيل الجار أولى ويعطي الرجل قرابته الذين لا تلزمه نفقتهم، وتعطي المرأة زوجها، وقال بعض الناس ما لم ينفق ذلك عليها، ويعطي الرجل زوجته إذا كانت من الغارمين، واختلف

(3/50)


في ولاء الذي يعتق من الصدقة، فقال مالك: ولاؤه لجماعة المسلمين وقال أبو عبيد: ولاؤه للمعتق وقال عبيد الله بن الحسن: يجعل ماله في بيت الصدقات، وقال الحسن وأحمد وإسحاق: ويعتق من ماله رقاب، وإذا كان لرجل على معسر دين فقيل يتركه له ويقطع ذلك من صدقته وقيل لا يجوز ذلك جملة، وقيل إن كان ممن لو رفعه للحاكم أمكن أن يؤديه جاز ذلك وإلا لم يجز لأنه قد توي وأما السبيل: فهو الذي قدمنا ذكره يعطى الرجل الغازي وإن كان غنيا، وقال أصحاب الرأي لا يعطى الغازي في سبيل الله إلا أن يكون منقطعا به، قال ابن المنذر؟ وهذا خلاف ظاهر القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما القرآن فقوله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وأما الحديث فقوله «إلا لخمسة لعامل عليها أو غاز في سبيل الله» ، وأما صورة التفريق فقال مالك وغيره: على قدر الحاجة ونظر الإمام يضعها في أي صنف رأى وكذلك المتصدق، وقاله حذيفة بن اليمان وسعيد بن جبير وإبراهيم وأبو العالية، قال الطبري: وقال بعض المتأخرين: إذا قسم المتصدق قسم في ستة أصناف لأنه ليس ثم عامل ولأن المؤلفة قد انقطعوا فإن قسم الإمام ففي سبعة أصناف، وقال الشافعي وعكرمة والزهري: هي ثمانية أقسام لثمانية أصناف لا يخل بواحد منها واحتج الشافعي بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله: «إن الله تعالى لم يرض في الصدقات بقسم نبي ولا غيره حتى قسمها بنفسه فجعلها ثمانية أقسام لثمانية أصناف فإن كنت واحدا منها أعطيتك» .
قال القاضي أبو محمد: والحديث في مصنف أبي داود، وقال أبو ثور: إذا قسمها الإمام لم يخل بصنف منها وإن أعطى الرجل صدقته صنفا دون صنف أجزأه ذلك وقال النخعي: إذا كان المال كثيرا قسم على الأصناف كلها وإذا كان قليلا أعطاه صنفا واحدا. وقالت فرقة من العلماء: من له خمسون درهما فلا يعطى من الزكاة، وقال الحسن وأبو عبيد، لا يعطى من له أوقية وهي أربعون درهما، قال الحسن: وهو غني وقال الشافعي: قد يكون الرجل الذي لا قدر له غنيا بالدرهم مع سعيه وتحيله، وقد يكون الرجل له القدر والعيال ضعيف النفس والحيلة فلا تغنيه آلاف، وقال أبو حنيفة: لا يأخذ الصدقة من له مائتا درهم ومن كان له أقل فلا بأس أن يأخذ، قال سفيان الثوري: لا يدفع إلى أحد من الزكاة أكثر من خمسين درهما، إلا أن يكون غارما وقال أصحاب الرأي، إن أعطي ألفا وهو محتاج أجزأ ذلك، وقال أبو ثور: يعطى من الصدقة حتى يغنى ويزول عنه اسم المسكنة ولا بأس أن يعطى الفقير الألف وأكثر من ذلك، وقال ابن المنذر: أجمع أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم أن من له دار وخادم لا يستغني عنهما أن يأخذ من الزكاة وللمعطي أن يعطيه، وقال مالك: إن لم يكن في ثمن الدار والخادم فضلة على ما يحتاج إليه منهما جاز له الأخذ وإلا لم يجزه، وأما الرجل يعطي الآخر وهو يظنه فقيرا فإذا هو غني، فإنه إن كان بفور ذلك أخذها منه فإن فاتت نظر، فإن كان الآخذ غنيا وأخذها مع علمه بأنها لا تحل له ضمنها على كل وجه، وإن كان لم يغر بل اعتقد أنها تجوز له، أو لم يتحقق مقصد المعطي نظر، فإن كان أكلها أو لبسها ضمنها، وإن كانت تلفت لم يضمن، واختلف في إجزائها عن المتصدق فقال الحسن وأبو عبيدة: تجزيه، وقال الثوري وغيره: لا تجزيه، وأهل بلد الصدقة أحق بها إلا أن تفضل فضلة فتنقل إلى غيرها بحسب نظر الإمام، قال ابن حبيب في الواضحة: أما الْمُؤَلَّفَةِ فانقطع سهمهم، وأما سبيل الله فلا بأس أن يعطي الإمام الغزاة إذا قل الفيء في بيت المال.

(3/51)


وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)

قال القاضي أبو محمد: وهذا الشرط فيه نظر، قال ابن حبيب: وينبغي للإمام أن يأمر السعاة بتفريقها بالمواضع التي جبيت فيها ولا يحمل منه شيء إلى الإمام إلا أن يرى ذلك لحاجة أو فاقة نزلت بقوم، قال مالك: ومن له مزرعة أو شيء في ثمنه إذا باعه ما يغنيه لم يجز له أخذ الصدقة، وهذه جملة من فقه الآية كافية على شرطنا في الإيجاز والله الموفق برحمته، وقوله تعالى: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي موجبة محدودة وهو مأخوذ من الفرض في الشيء بمعنى الحز والقطع ثبوت ذلك ودوامه، شبه ما يفرض من الأحكام، ونصب فَرِيضَةً على المصدر، ثم وصف نفسه تعالى بصفتين مناسبتين لحكم هذه الآية لأنه صدر عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة بينهم.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 63]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
الضمير في قوله وَمِنْهُمُ عائد على المنافقين، ويُؤْذُونَ لفظ يعم جميع ما كانوا يفعلونه ويقولونه في جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى، وخص بعد ذلك من قولهم هُوَ أُذُنٌ، وروي أن قائل هذه اللفظة نبتل بن الحارث وكان من مردة المنافقين، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث وكان ثائر الرأس منتفش الشعرة أحمر العينين أسفع الخدين مشوها، وروي عن الحسن البصري ومجاهد أنهما تأولا أنهم أرادوا بقولهم هُوَ أُذُنٌ أي يسمع منا معاذيرنا وتنصلنا ويقبله، أي فنحن لا نبالي عن أذاه ولا الوقوع فيه إذ هو سماع لكل ما يقال من اعتذار ونحوه، فهذا تنقص بقلة الحزامة والانخداع، وروي عن ابن عباس وجماعة معه أنهم أرادوا بقولهم هُوَ أُذُنٌ أي يسمع كل ما ينقل إليه عنا ويصغي إليه ويقبله، فهذا تشكّ منه ووصف بأنه يسوغ عنده الأباطيل والنمائم، ومعنى أُذُنٌ سماع، ويسمى الرجل السماع لكل قول أذنا إذا كثر منه استعمال الأذن، فهذه تسمية الشيء بالشيء إذا كان منه بسبب كما يقال للربيئة عين وكما يقال للمسنة من الإبل التي قد بزل نابها ناب وقيل معنى الكلام ذو أذن أي ذو سماع، وقيل إن قوله أُذُنٌ مشتق من قولهم أذن للشيء إذا استمع كما قال الشاعر وهو علي بن زيد: [الرمل]
أيها القلب تعلل بددن ... إن همّي في سماع وأذن
وفي التنزيل وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ [الإنشقاق: 2- 5] ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم «ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن» ومن هذا قول الشاعر [عدي بن زيد] : [الرمل]

(3/52)


في سماع يأذن الشيخ له ... وحديث مثل ماذيّ مشار
ومنه قول الآخر [قعنب بن أم صاحب] : [البسيط]
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقرأ نافع «أذن» بسكون الذال فيهما، وقرأ الباقون «أذن» بضم الذال فيهما، وكلهم قرأ بالإضافة إلى خَيْرٍ إلا ما روي عن عاصم، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومجاهد وعيسى بخلاف «قل أذن خير» برفع خير وتنوين «أذن» ، وهذا يجري مع تأويل الحسن الذي ذكرناه أي من يقبل معاذيركم خير لكم، ورويت هذه القراءة عن عاصم، ومعنى «أذن خير» على الإضافة أي سماع خير وحق، وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ معناه يصدق بالله، وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ قيل معناه ويصدق المؤمنين واللام زائدة كما هي في قوله رَدِفَ لَكُمْ [النمل: 72] وقال المبرد هي متعلقة بمصدر مقدر من الفعل كأنه قال وإيمانه للمؤمنين أي تصديقه، ويقال آمنت لك بمعنى صدقتك ومنه قوله تعالى: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا [يوسف: 17] .
قال القاضي أبو محمد: وعندي أن هذه التي معها اللام في ضمنها باء فالمعنى ويصدق للمؤمنين بما يخبرونه، وكذلك وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا [يوسف: 17] بما نقوله لك والله المستعان، وقرأ جميع السبعة إلا حمزة «ورحمة» بالرفع عطفا على أُذُنٌ، وقرأ حمزة وحده «ورحمة» بالخفض عطفا على خَيْرٍ، وهي قراءة أبي بن كعب وعبد الله والأعمش، وخصص الرحمة لِلَّذِينَ آمَنُوا إذ هم الذين نجوا بالرسول وفازوا به، ثم أوجب تعالى للذين يؤذون رسول الله العذاب الأليم وحتم عليهم به، وقوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ الآية، ظاهر هذه الآية أن المراد بها جميع المنافقين الذين يحلفون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بأنهم منهم في الدين وأنهم معهم في كل أمر وكل حزب، وهم في ذلك يبطنون النفاق ويتربصون الدوائر وهذا قول جماعة من أهل التأويل، وقد روت فرقة أنها نزلت بسبب رجل من المنافقين قال إن كان ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم حقا فأنا شر من الخمر، فبلغ قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه ووقف على قوله ووبخه فحلف مجتهدا أنه ما فعل، فنزلت الآية في ذلك، وقوله وَاللَّهُ مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها، والتقدير عنده والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه وهذا كقول الشاعر: [المنسرح]
نحن بما عندنا وأنت بما عن ... دك راض والرأي مختلف
ومذهب المبرد أن في الكلام تقديما وتأخيرا، وتقديره والله أحق أن يرضوه ورسوله قال وكانوا يكرهون أن يجمع الرسول مع الله في ضمير، حكاه النقاش عنه، وليس هذا بشيء، وفي مصنف أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصها» فجمع في ضمير، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر «بئس الخطيب أنت» ، إنما ذلك وقف في يعصهما فأدخل العاصي في الرشد، وقيل الضمير في يُرْضُوهُ عائد على المذكور كما قال رؤبة: [الرجز] .
فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنّه في الجلد توليع البهق

(3/53)


يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)

وقوله إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ أي على قولهم ودعواهم، وقوله أَلَمْ يَعْلَمُوا الآية، قوله أَلَمْ تقرير ووعيد، وفي مصحف أبي بن كعب «ألم تعلم» على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو وعيد لهم، وقرأ الأعرج والحسن «ألم تعلموا» بالتاء، ويُحادِدِ معناه يخالف ويشاق، وهو أن يعطي هذا حده وهذا حده لهذا، وقال الزجاج: هو أن يكون هذا في حد وهذا في حد، وقوله فَأَنَّ مذهب سيبويه أنها بدل من الأولى وهذا معترض بأن الشيء لا يبدل منه حتى يستوفى، والأولى في هذا الموضع لم يأت خبرها بعد إذ لم يتم جواب الشرط، وتلك الجملة هي الخبر، وأيضا فإن الفاء تمانع البدل، وأيضا فهي في معنى آخر غير الأول فيقلق البدل، وإذا تلطف للبدل فهو بدل الاشتمال وقال غير سيبويه: هي مجردة لتأكيد الأولى وقالت فرقة من النحاة: هي في موضع خبر ابتداء تقديره فواجب أن له، وقيل المعنى فله أن له، وقالت فرقة:
هي ابتداء والخبر مضمر تقديره فإن له نار جهنم واجب، وهذا مردود لأن الابتداء ب «أن» لا يجوز مع إضمار الخبر، قاله المبرد: وحكي عن أبي علي الفارسي قول يقرب معناه من معنى القول الثالث من هذه التي ذكرنا لا أقف الآن على لفظه، وجميع القراء على فتح «أن» الثانية، وحكى الطبري عن بعض نحويي البصرة أنه اختار في قراءتها كسر الألف، وذكر أبو عمرو الداني أنها قراءة ابن أبي عبلة، ووجهه في العربية قوي لأن الفاء تقتضي القطع والاستئناف ولأنه يصلح في موضعها الاسم ويصلح الفعل وإذا كانت كذلك وجب كسرها.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 64 الى 66]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)
قوله، يَحْذَرُ خبر عن حال قلوبهم، وحذرهم إنما هو أن تتلى سورة ومعتقدهم هل تنزل أم لا ليس بنص في الآية لكنه ظاهر، فإن حمل على مقتضى نفاقهم واعتقادهم أن ذلك ليس من عند الله فوجه بين، وإن قيل إنهم يعتقدون نزول ذلك من عند الله وهم ينافقون مع ذلك فهذا كفر عناد، وقال الزجّاج وبعض من ذهب إلى التحرز من هذا الاحتمال: معنى يحذر الأمر وإن كان لفظه لفظ الخبر كأنه يقول «ليحذر» ، وقرأ أبو عمرو وجماعة معه «أن تنزل» ، ساكنة النون خفيفة الزاي، وقرأ بفتح النون مشددة الزاي الحسن والأعرج وعاصم والأعمش، وأَنْ من قوله أَنْ تُنَزَّلَ، مذهب سيبويه أن، يَحْذَرُ عامل فهي مفعوله، وقال غيره حذر إنما هي من هيئات النفس التي لا تتعدى مثل فزع وإنما التقدير يحذر المنافقون من أن تنزل عليهم سورة، وقوله قُلِ اسْتَهْزِؤُا لفظه الأمر ومعناه التهديد، ثم ابتدأ الإخبار عن أنه يخرج لهم إلى حيز الوجود ما يحذرونه، وفعل ذلك تبارك وتعالى في سورة براءة فهي تسمى الفاضحة لأنها فضحت المنافقين، وقال الطبري: كان المنافقون إذا عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا شيئا من أمره قالوا لعل الله لا يفشي سرنا فنزلت الآية في ذلك.

(3/54)