تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)

قال القاضي أبو محمد: وهذا يقتضي كفر العناد الذي قلناه، وقوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الآية، نزلت على ما ذكر جماعة من المفسرين في وديعة بن ثابت وذلك أنه مع قوم من المنافقين كانوا يسيرون في غزوة تبوك، فقال بعضهم لبعض هذا يريد أن يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بني الأصفر هيهات هيهات، فوقفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقال لهم قلتم كذا وكذا، فقالوا إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، يريدون كنا غير مجدين، وذكر ابن إسحاق أن قوما منهم تقدموا النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم كأنكم والله غدا في الحبال أسرى لبني الأصفر إلى نحو هذا من القول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: «أدرك القوم فقد احترقوا وأخبرهم بما قالوا» ، ونزلت الآية، وروي أن وديعة بن ثابت المذكور قال في جماعة من المنافقين: ما رأيت كقرائنا هؤلاء لا أرغب بطونا ولا أكثر كذبا ولا أجبن عند اللقاء فعنفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المقالة فقالوا إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، ثم أمره بتقريرهم أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ وفي ضمن هذا التقرير وعيد، وذكر الطبري عن عبد الله بن عمر أنه قال: رأيت قائل هذه المقالة وديعة متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ والنبي يقول أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ، وذكر النقاش أن هذا المتعلق كان عبد الله بن أبي ابن سلول، وذلك خطأ لأنه لم يشهد تبوك، وقوله تعالى: لا تَعْتَذِرُوا الآية، المعنى قل لهم يا محمد لا تعتذروا على جهة التوبيخ كأنه قال لا تفعلوا ما لا ينفع.
ثم حكم عليهم بالكفر فقال لهم قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ الذي زعمتموه ونطقتم به، وقوله عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ يريد فيما ذكر المفسرون رجلا واحدا قيل اسمه مخشن بن حفير قاله ابن إسحاق، وقال ابن هشام ويقال فيه مخشي وقال خليفة بن خياط في تاريخه مخاشن بن حمير وذكر ابن عبد البر مخاشن الحميري وذكر جميعهم أنه استشهد باليمامة وكان قد تاب وتسمى عبد الرحمن، فدعا الله أن يستشهد، ويجهل أمره فكان ذلك باليمامة ولم يوجد جسده، وذكر أيضا ابن عبد البر محشي بن حمير بضم الحاء وفتح الميم وسكون الياء ولم يتقن القصة، وكان محشي مع المنافقين الذين قالوا إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فقيل كان منافقا ثم تاب توبة صحيحة، وقيل كان مسلما مخلصا إلا أنه سمع كلام المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم فعفا الله عنه في كلا الوجهين، ثم أوجب العذاب لباقي المنافقين الذين قالوا ما تقدم، وقرأ جميع السبعة سوى عاصم «إن يعف عن طائفة» بالياء «تعذب» بالتاء، وقرأ الجحدري «إن يعف» بالياء على تقدير يعذب الله «طائفة» بالنصب، وقرأ عاصم وزيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن «إن نعف» بالنون «نعذب» بنون الجميع أيضا، وقرأ مجاهد «إن تعف» بالتاء المضمومة على تقدير إن تعف هذه الذنوب «تعذب» بالتاء أيضا.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 67 الى 69]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69)

(3/55)


هذا ابتداء إخبار عنهم وحكم من الله تعالى عليهم بما تضمنته الآية، فقوله بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يريد في الحكم والمنزلة من الكفر، وهذا نحو قولهم الأذنان من الرأس يريدون في حكم المسح وإلا فمعلوم أنهما من الرأس، ولما تقدم قبل «وما هم منكم» حسن هذا الإخبار، وقوله يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ يريد بالكفر وعبادة غير الله وسائر ذلك من الآية لأن المنافقين الذين نزلت هذه الآيات فيهم لم يكونوا أهل قدرة ولا أفعال ظاهرة وذلك بسبب ظهور الإسلام وكلمة الله عز وجل، و «القبض» هو عن الصدقة وفعل الخير، وقوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ أي تركوه حين تركوا نبيه وشرعته فتركهم حين لم يهدهم ولا كفاهم عذاب النار، وإنما يعبر بالنسيان عن الترك مبالغة إذا بلغ وجوه الترك الوجه الذي يقترن به نسيان، وعلى هذا يجيء وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة: 237] وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا [القصص: 77] ثم حكم عليهم عز وجل بالفسق وهو فسوق الكفر المقتضي للخلود في النار.
وكان قتادة يقول فَنَسِيَهُمْ أي من الخير ولم ينسهم من الشر، وقوله وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ الآية، لما قيد الوعد بالتصريح بالشر صح ذلك وحسن وإن كانت آية وعيد محض، والْكُفَّارَ في هذه الآية المعلنون، وقوله هِيَ حَسْبُهُمْ أي كافيتهم وكافية جرمهم وكفرهم نكالا وجزاء، فلو تمنى أحد لهم عذابا لكان ذلك عنده حسبا لهم، وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ معناه أبعدهم عن رحمته، وعَذابٌ مُقِيمٌ معناه مؤبد لا نقلة له، وقوله تعالى كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الآية، أمر الله نبيه أن يخاطب بها المنافقين فيقول لهم كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، والمعنى أنتم كالذين أو مثلكم مثل الذين من قبلكم، وقال الزجّاج: المعنى وعدا كما وعد الذين من قبلكم فهو متعلق بوعد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قلق، ثم قال كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ وأعظم فعصوا فأهلكوا فأنتم أحرى بالإهلاك لمعصيتكم وضعفكم، والخلاق الحظ من القدر والدين وجميع حال المرء وخلاق المرء الشيء الذي هو به خليق والمعنى عجلوا حظهم في دنياهم وتركوا باب الآخرة فاتبعتموهم أنتم.
قال القاضي أبو محمد: وأورد الطبري في تفسير هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» ، وما شاكل هذا الحديث مما يقتضي اتباع محمد صلى الله عليه وسلم لسائر الأمم، وهو معنى لا يليق بالآية جدا إذ هي مخاطبة لمنافقين كفار أعمالهم حابطة والحديث مخاطبة لموحدين يتبعون سنن من مضى في أفعال دنيوية لا تخرج عن

(3/56)


أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

الدين، وقوله خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أي خلطتم كالذي خلطوا، وهو مستعار من الخوض في المائعات، ولا يستعمل إلا في الباطل، لأن التصرف في الحقائق إنما هو على ترتيب ونظام، وأمور الباطل إنما هي خوض، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «رب متخوض في مال الله له النار يوم القيامة» ، ثم قال تعالى: أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فيحتمل أن يراد ب أُولئِكَ القوم الذين وصفهم بالشدة وكثرة الأموال والاستمتاع بالخلاق، والمعنى وأنتم أيضا كذلك يعتريكم بإعراضكم عن الحق، ويحتمل أن يريد ب أُولئِكَ المنافقين المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويكون الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وفي ذلك خروج من خطاب إلى خطاب غير الأول، و «حبط العمل» وما جرى مجراه يحبط حبطا إذا بطل بعد التعب فيه، وحبط البطن حبطا بفتح الباء وهو داء في البطن، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم» ، وقوله فِي الدُّنْيا معناه إذا كان في المنافقين ما يصيبهم في الدنيا من المقت من المؤمنين وفساد أعمالهم عليهم وفي الآخرة بأن لا تنفع ولا يقع عليها جزاء، ويقوي أن الإشارة ب أُولئِكَ إلى المنافقين قوله في الآية المستقبلة أَلَمْ يَأْتِهِمْ فتأمله.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 70 الى 72]
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
يقول عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر الأمم السالفة التي عصت الله بتكذيب رسله فأهلكها، وَعادٍ وَثَمُودَ قبيلتان، وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ نمرود وأصحابه وتباع دولته، وَأَصْحابِ مَدْيَنَ قوم شعيب، وَالْمُؤْتَفِكاتِ أهل القرى الأربعة، وقيل السبعة الذين بعث إليهم لوط صلى الله عليه وسلم، ومعنى الْمُؤْتَفِكاتِ المنصرفات والمنقلبات أفكت فانتفكت لأنها جعل أعاليها أسفلها، وقد جاءت في القرآن مفردة تدل على الجمع، ومن هذه اللفظة قول عمران بن حطان: [البسيط]
بمنطق مستبين غير ملتبس ... به اللسان وإني غير مؤتفك
أي غير منقلب منصرف مضطرب ومنه يقال للريح مؤتفكة لتصرفها، ومنه أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة: 75، التوبة: 30، العنكبوت: 61، الزخرف: 87، المنافقون: 4] والإفك صرف القول من

(3/57)


الحق إلى الكذب، والضمير في قوله أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ عائد على هذه الأمم المذكورة، وقيل على الْمُؤْتَفِكاتِ خاصة، وجعل لهم رسلا وإنما كان نبيهم واحدا لأنه كان يرسل إلى كل قرية رسولا داعيا، فهم رسل رسول الله ذكره الطبري، والتأويل الأول في عود الضمير على جميع الأمم أبين، وقوله بِالْبَيِّناتِ يريد بالمعجزات وهي بينة في أنفسها بالإضافة إلى الحق لا بالإضافة إلى المكذبين بها، ولما فرغ من ذكر المنافقين بالأشياء التي ينبغي أن تصرف عن النفاق وتنهى عنه عقب ذلك بذكر المؤمنين بالأشياء التي ترغب في الإيمان وتنشط إليه تلطفا منه تعالى بعباده لا رب غيره، وذكرت هنا «الولاية» إذ لا ولاية بين المنافقين لا شفاعة لهم ولا يدعو بعضهم لبعض وكان المراد هنا الولاية في الله خاصة، وقوله بِالْمَعْرُوفِ يريد بعبادة الله وتوحيده وكل ما اتبع ذلك، وقوله عَنِ الْمُنْكَرِ يريد عن عبادة الأوثان وكل ما اتبع ذلك، وذكر الطبري عن أبي العالية أنه قال كل ما ذكر الله في القرآن من الأمر بالمعروف فهو دعاء من الشرك إلى الإسلام وكل ما ذكر من النهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين، وقال ابن عباس في قوله وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ هي الصلوات الخمس.
قال القاضي أبو محمد: وبحسب هذا تكون الزَّكاةَ المفروضة، والمدح عندي بالنوافل أبلغ، إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرض، وقوله وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ جامع للمندوبات، والسين في قوله سَيَرْحَمُهُمُ مدخلة في الوعد مهلة لتكون النفوس تنعم برجائه، وفضله تعالى زعيم بالإنجاز، وقوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الآية، وعد في هذه الآية صريحة في الخير، وقوله مِنْ تَحْتِهَا إما من تحت أشجارها وإما من تحت علياتها وإما من تحتها بالإضافة إلى مبدأ كما تقول في دارين متجاورتين متساويتي المكان هذه تحت هذه، وذكر الطبري في قوله وَمَساكِنَ طَيِّبَةً عن الحسن أنه قال سألت عنها عمران بن الحصين وأبا هريرة فقالا على الخبير سقطت، سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريرا، ونحو هذا مما يشبه هذه الألفاظ أو يقرب منها فاختصرتها طلب الإيجاز، وأما قوله فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ فمعناه في جنات إقامة وثبوت يقال عدن الشيء في المكان إذا أقام به وثبت، ومنه المعدن أي موضع ثبوت الشيء، ومنه قول الأعشى:
وإن يستضيفوا إلى حلمه ... يضافوا إلى راجح قد عدن
هذا الكلام اللغوي، وقال كعب الأحبار جَنَّاتِ عَدْنٍ هي بالفارسية جنات الكروم والأعناب.
قال القاضي أبو محمد: وأظن هذا وهما اختلط بالفردوس، وقال الضحاك جَنَّاتِ عَدْنٍ هي مدينة الجنة وعظمها فيها الأنبياء والعلماء والشهداء وأئمة العدل والناس حولهم بعد، والجنات حولها، وقال ابن مسعود: «عدن» هي بطنان الجنة وسرتها، وقال عطاء: «عدن» نهر في الجنة جناته على حافته، وقال الحسن: «عدن» قصر في الجنة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل ومد بها صوته.
قال القاضي أبو محمد: والآية تأبى هذا التخصيص إذ قد وعد الله بها جمع المؤمنين، وأما قوله وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ فروي فيه أن الله عز وجل يقول لعباده إذا استقروا في الجنة هل رضيتم؟ فيقولون

(3/58)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)

وكيف لا نرضى يا ربنا؟ فيقول إني سأعطيكم أفضل من هذا كله، رضواني أرضى عليكم فلا أسخط عليكم أبدا، الحديث، وقوله أَكْبَرُ يريد أكبر من جميع ما تقدم، ومعنى الآية والحديث متفق، وقال الحسن بن أبي الحسن وصل إلى قلوبهم برضوان الله من اللذة والسرور ما هو ألذ عندهم وأقر لأعينهم من كل شيء أصابوه من لذة الجنة.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر أن يكون قوله تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ إشارة إلى منازل المقربين الشاربين من تسنيم والذين يرون كما يرى النجم الفائر في الأفق، وجميع من في الجنة راض والمنازل مختلفة، وفضل الله تعالى متسع، والْفَوْزُ النجاة والخلاص ومن أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران: 185] والمقربون هم في الفوز العظيم، والعبارة عندي عن حالهم بسرور وكمال أجود من العبارة عنها بلذة، واللذة أيضا مستعملة في هذا.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)
قوله جاهِدِ مأخوذ من بلوغ الجهد وهي مقصود بها المكافحة والمخالفة، وتتنوع بحسب المجاهد فجهاد الكافر المعلن بالسيف، وجهاد المنافق المتستر باللسان والتعنيف والاكفهرار في وجهه، ونحو ذلك، ألا ترى أن من ألفاظ الشرع قوله صلى الله عليه وسلم «والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله» ، فجهاد النفس إنما هو مصابرتها باتباع الحق وترك الشهوات، فهذا الذي يليق بمعنى هذه الآية لكنا نجلب قول المفسرين نصا لتكون معرضة للنظر، قال الزجّاج: وهو متعلق في ذلك بألفاظ ابن مسعود: أمر في هذه الآية بجهاد الكفار والمنافقين بالسيف، وأبيح له فيها قتل المنافقين، قال ابن مسعود: إن قدر وإلا فباللسان وإلا فبالقلب والاكفهرار في الوجه.
قال القاضي أبو محمد: والقتل لا يكون إلا مع التجليح ومن جلح خرج عن رتبة النفاق، وقال ابن عباس: المعنى «جاهد المنافقين» باللسان، وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى جاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم، قال: وأكثر ما كانت الحدود يومئذ تصيب المنافقين.
قال القاضي أبو محمد: ووجه ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين بالمدينة أنهم لم يكونوا مجلحين بل كان كل مغموص عليه إذا وقف ادعى الإسلام، فكان في تركهم إبقاء وحياطة للإسلام ومخافة أن تنفر العرب إذا سمعت أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل من يظهر الإسلام، وقد أوجبت هذا المعنى في صدر سورة البقرة، ومذهب الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرفهم ويسترهم، وأما قوله

(3/59)


تعالى: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ فلفظة عامة تتصرف في الأفعال والأقوال واللحظات، ومنه قوله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ [آل عمران: 159] ومنه قول النسوة لعمر بن الخطاب: أنت أفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى الغلظ خشن الجانب فهي ضد قوله تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] ثم جرت الآية المؤمنين عليهم في عقب الأمر بإخباره أنهم في جهنم، والمعنى هم أهل لجميع ما أمرت أن تفعل بهم، و «المأوى» حيث يأوي الإنسان ويستقر، وقوله يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا الآية، هذه الآية نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت، وذلك كأنه كان يأتي من قباء ومعه ابن امرأته عمير بن سعد فيما قال ابن إسحاق، وقال عروة اسمه مصعب، وقال غيره وهما على حمارين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمى قوما ممن اتهمهم بالنفاق، وقال إنهم رجس، فقال الجلاس للذي كان يسير معه: والله ما هؤلاء الذين سمى محمد إلا كبراؤنا وسادتنا، ولئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من حمرنا هذه، فقال له ربيبه أو الرجل الآخر؟ والله إنه لحق، وإنك لشر من حمارك، ثم خشي الرجل من أن يلحقه في دينه درك، فخرج وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في الجلاس فقرره فحلف بالله ما قال، فنزلت هذه الآية، والإشارة ب كَلِمَةَ الْكُفْرِ إلى قوله: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمر، إن التكذيب في قوة هذا الكلام، قال مجاهد وكان الجلاس لما قال له صاحبه إني سأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولك هم بقتله، ثم لم يفعل عجزا عن ذلك فإلى هذا هي الإشارة بقوله وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا، وقال قتادة بن دعامة: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول، وذلك أن سنان بن وبرة الأنصاري والجهجاه الغفاري كسع أحدهما رجل الآخر في غزوة المريسيع، فثاروا، فصاح جهجاه بالأنصار وصاح سنان بالمهاجرين، فثار الناس فهدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: ما أرى هؤلاء إلا قد تداعوا علينا، ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقفه فحلف أنه لم يقل ذلك، فنزلت الآية مكذبة له، والإشارة ب كَلِمَةَ الْكُفْرِ إلى تمثيله: سمن كلبك يأكلك، قال قتادة والإشارة ب هَمُّوا إلى قوله لئن رجعنا إلى المدينة، وقال الحسن هم المنافقون من إظهار الشرك ومكابرة النبي صلى الله عليه وسلم بما لم ينالوا، وقال تعالى: بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ولم يقل بعد إيمانهم لأن ذلك لم يتجاوز ألسنتهم، وقوله تعالى: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفذ لعبد الله بن أبي ابن سلول دية كانت قد تعطلت له، ذكر عكرمة أنها كانت اثني عشر ألفا، وقيل بل كانت للجلاس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا بحسب الخلاف المتقدم فيمن نزلت الآية من أولها، وتقدم اختلاف القراء في نَقَمُوا في سورة الأعراف، وقرأها أبو حيوة وابن أبي عبلة بكسر القاف، وهي لغة، وقوله إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ استثناء من غير الأول كما قال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
فكأن الكلام وما نقموا إلا ما حقه أن يشكر، وقال مجاهد في قوله وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا إنها نزلت

(3/60)


وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)

في قوم من قريش أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يناسب الآية، وقالت فرقة إن الجلاس هو الذي هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يشبه الآية إلا أنه غير قوي السند، وحكى الزجّاج أن اثني عشر من المنافقين هموا بذلك فأطلع الله عليهم، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في إغنائهم من حيث كثرت أموالهم من الغنائم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم سبب في ذلك وعلى هذا الحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار «كنتم عالة فأغناكم الله بي» ، ثم فتح عز وجل لهم باب التوبة رفقا بهم ولطفا في قوله فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ.
وروي أن الجلاس تاب من النفاق فقال إن الله قد ترك لي باب التوبة فاعترف وأخلص، وحسنت توبته، و «العذاب الأليم» اللاحق بهم في الدنيا هو المقت والخوف والهجنة عند المؤمنين.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 78]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)
هذه الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري، وقال الحسن: وفي معتب بن قشير معه، واختصار ما ذكره الطبري وغيره من أمره أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعل لي مالا فإني لو كنت ذا مال لقضيت حقوقه وفعلت فيه الخير، فراده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، فعاود فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ألا تريد أن تكون مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو دعوت الله أن يسير الجبال معي ذهبا لسارت، فأعاد عليه حتى دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت به المدينة، فتنحى عنها وكثرت غنمه، فكان لا يصلي إلا الجمعة ثم كثرت حتى تنحى بعيدا ونجم نفاقه، ونزل خلال ذلك فرض الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث مصدقين بكتابه في أخذ زكاة الغنم، فلما بلغوا ثعلبة وقرأ الكتاب قال: هذه أخت الجزية، ثم قال لهم: دعوني حتى أرى رأيي، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه، قال «ويح ثعلبة» ثلاثا، ونزلت الآية فيه، فحضر القصة قريب لثعلبة فخرج إليه فقال أدرك أمرك، فقد نزل كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرغب أن يؤدي زكاته فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال إن الله أمرني أن لا آخذ زكاتك، فبقي كذلك حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ورد ثعلبة على أبي بكر ثم على عمر ثم على عثمان يرغب إلى كل واحد منهم أن يأخذ منه الزكاة، فكلهم رد ذلك وأباه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فبقي

(3/61)


ثعلبة كذلك حتى هلك في مدة عثمان. وفي قوله تعالى: فَأَعْقَبَهُمْ نص المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه، وقوله: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ يقتضي موافاتهم على النفاق، ولذلك لم يقبل الخلفاء رضي الله عنهم رجوع ثعلبة لشهادة القرآن عليه بالموافاة، ولولا الاحتمال في أنه نفاق معصية لوجب قتله، وقرأ الأعمش «لنصدقن» بالنون الثقيلة مثل الجماعة «ولنكونن» خفيفة النون، والضمير الذي في قوله فَأَعْقَبَهُمْ يعود على الله عز وجل.
ويحتمل أن يعود على «البخل» المضمن في الآية، ويضعف ذلك الضمير في يَلْقَوْنَهُ، وقوله نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ، يحتمل أن يكون نفاق كفر ويكون تقرير ثعلبة بعد هذا النص والإبقاء عليه لمكان إظهاره الإسلام وتعلقه بما فيه احتمال.
ويحتمل أن يكون قوله نِفاقاً يريد به نفاق معصية وقلة استقامة، فيكون تقريره صحيحا، ويكون ترك في أول الزكاة عقابا له ونكالا.
وهذا نحو ما روي أن عاملا كتب إلى عمر بن عبد العزيز أن فلانا يمنع الزكاة، فكتب إليه أن دعه واجعل عقوبته أن لا يؤدي الزكاة مع المسلمين، يريد لما يلحقه من المقت في ذلك، وقرأ الحسن والأعرج وأبو عمرو وعاصم ونافع وسائرهم يَكْذِبُونَ، قرأ أبو رجاء «يكذبون» ، وذكر الطبري في هذه الآية ما يناسبها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا، إذا وعد أخلف وإذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان» وفي حديث آخر «وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر» ونحو هذا من الأحاديث، ويظهر من مذهب البخاري وغيره من أهل العلم أن هذه الخلال الذميمة منافق من اتصف بها إلى يوم القيامة.
وروي أن عمرو بن العاص لما احتضر قال زوجوا فلانا فإني قد وعدته لا ألقى الله بثلث النفاق، وهذا ظاهر كلام الحسن بن أبي الحسن، وقال عطاء بن بن أبي رباح قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء، وهذه الأحاديث إنما هي في المنافقين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، الذين شهد الله عليهم، وهذه هي الخصال في سائر الأمة معاص لا نفاق.
قال القاضي أبو محمد: ولا محالة أنها كانت مع التوحيد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، معاص لكنها من قبيل النفاق اللغوي، وذكر الطبري عن فرقة أنها قالت: كان العهد الذي عاهد الله عليه هؤلاء المنافقون شيئا نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به.
قال القاضي أبو محمد: وهذا فيه نظر، وقوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا الآية، لفظ به تعلق من قال في الآية المتقدمة إن العهد كان من المنافقين بالنية لا بالقول، وقرأ الجمهور «يعلموا» بالياء من تحت، وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن «ألم تعلموا» بالتاء، من فوق، وهذه الآية تناسب حالهم وذلك أنها تضمنت إحاطة علم الله بهم وحصره لهم، وفيها توبيخهم على ما كانوا عليه من التحدث في نفوسهم من الاجتماع على ثلب الإسلام، وراحة بعضهم مع بعض في جهة النبي صلى الله عليه وسلم وشرعه، فهي تعم المنافقين أجمع، وقائل المقالة المذكورة ذهب إلى أنها تختص بالفرقة التي عاهدت.

(3/62)


الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)

قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 79 الى 80]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)
قوله الَّذِينَ يَلْمِزُونَ رد على الضمائر في قول يَكْذِبُونَ [التوبة: 77] وأَ لَمْ يَعْلَمُوا [التوبة: 78] وسِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ [التوبة: 78] ويَلْمِزُونَ معناه ينالون بألسنتهم، وقرأ السبعة «يلمزون» بكسر الميم، وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب وابن كثير فيما روي عنه «يلمزون» بضم الميم، والْمُطَّوِّعِينَ لفظة عموم في كل متصدق، والمراد به الخصوص فيمن تصدق بكثير دل على ذلك قوله، عطفا على الْمُطَّوِّعِينَ، وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ، ولو كان الَّذِينَ لا يَجِدُونَ قد دخلوا في الْمُطَّوِّعِينَ لما ساغ عطف الشيء على نفسه، وهذا قول أبي على الفارسي في قوله عز وجل: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] فإنه قال المراد بالملائكة من عدا هذين.
وكذلك قال في قوله: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: 68] وفي هذا كله نظر، لأن التكرار لقصد التشريف يسوغ هذا مع تجوز العرب في كلامها، وأصل الْمُطَّوِّعِينَ المتطوعين فأبدل التاء طاء وأدغم، وأما المتصدق بكثير الذي كان سببا للآية فأكثر الروايات أنه عبد الرحمن بن عوف، تصدق بأربعة آلاف وأمسك مثلها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم، بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أنفقت.
وقيل هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصدق بنصف ماله، وقيل عاصم بن عدي تصدق بمائة وسق، وأما المتصدق بقليل فهو أبو عقيل حبحاب الأراشي، تصدق بصاع من تمر وقال يا رسول الله جررت البارحة بالجرير وأخذت صاعين تركت أحدهما لعيالي وأتيت بالآخر صدقة.
فقال المنافقون: الله غني عن صدقة هذا، وقال بعضهم: إن الله غني عن صاع أبي عقيل، وقيل: إن الذي لمز في القليل أبو خيثمة، قاله كعب بن مالك صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وتصدق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف، وقيل بأربعمائة أوقية من فضة، وقيل أقل من هذا.
فقال المنافقون: ما هذا إلا رياء، فنزلت الآية في هذا كله، وقوله: فَيَسْخَرُونَ معناه يستهزئون ويستخفون، وهو معطوف على يَلْمِزُونَ، واعترض ذلك بأن المعطوف على الصلة فهو من الصلة وقد دخل بين هذا المعطوف والمعطوف عليه قوله وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ، وهذا لا يلزم، لأن قوله وَالَّذِينَ معمول للذي عمل في الْمُطَّوِّعِينَ فهو بمنزلة قوله جاءني الذي ضرب زيدا وعمرا فقتلهما، وقوله:
سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ تسمية العقوبة باسم الذنب وهي عبارة عما حل بهم من المقت والذل في نفوسهم، وقوله: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ معناه مؤلم، وهي آية وعيد محض، وقرأ جمهور «جهدهم» بضم الجيم، وقرأ

(3/63)


الأعرج وجماعة معه «جهدهم» بالفتح، وقيل هما بمعنى واحد، وقاله أبو عبيدة، وقيل هما لمعنيين الضم في المال والفتح في تعب الجسم، ونحوه عن الشعبي، وقوله: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ يصح أن يكون خبر ابتداء تقديره هم الذين، ويصح أن يكون ابتداء وخبره سَخِرَ، وفي سَخِرَ معنى الدعاء عليهم.
ويحتمل أن يكون خبرا مجردا عن الدعاء، ويحتمل أن يكون الَّذِينَ صفة جارية على ما قبل كما ذكرت أول الترجمة، وقوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ يحتمل معنيين، أحدهما أن يكون لفظ أمر ومعناه الشرط، بمعنى إن استغفرت أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم، فيكون مثل قوله تعالى:
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ [التوبة: 53] وبمنزلة قول الشاعر: [كثير]
أسيئي لنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت
وإلى هذا المعنى ذهب الطبري وغيره في معنى الآية، والمعنى الثاني الذي يحتمله اللفظ أن يكون تخييرا، كأنه قال له: إن شئت فاستغفر وإن شئت لا تستغفر ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وإن استغفر سَبْعِينَ مَرَّةً، وهذا هو الصحيح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبيينه ذلك.
وذلك أن عمر بن الخطاب سمعه بعد نزول هذه الآية يستغفر لهم فقال يا رسول الله، أتستغفر للمنافقين وقد أعلمك الله أنه لا يغفر لهم، فقال له «يا عمر إن الله قد خيرني فاخترت، ولو علمت أني إذا زدت على السبعين يغفر لهم لزدت» ، ونحو هذا من مقاولة عمر في وقت إرادة النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على عبد الله بن أبي ابن سلول، وظاهر صلاته عليه أن كفره لم يكن يقينا عنده، ومحال أن يصلي على كافر، ولكنه راعى ظواهره من الإقرار ووكل سريرته إلى الله عز وجل، وعلى هذا كان ستر المنافقين من أجل عدم التعيين بالكفر.
وفي هذه الألفاظ التي لرسول الله صلى الله عليه وسلم رفض إلزام دليل الخطاب، وذلك أن دليل الخطاب يقتضي أن الزيادة على السبعين يغفر معها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو علمت فجعل ذلك مما لا يعلمه، ومما ينبغي أن يتعلم ويطلب علمه من الله عز وجل، ففي هذا حجة عظيمة للقول برفض دليل الخطاب، وإذا ترتب كما قلنا التخيير في هذه الآية صح أن ذلك التخيير هو الذي نسخ بقوله تعالى: في سورة المنافقون سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [المنافقون: 6] ، ولمالك رحمه الله مسائل تقتضي القول بدليل الخطاب، منها قوله: إن المدرك للتشهد وحده لا تلزمه أحكام الإمام لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» فاقتضى دليل الخطاب أن من لم يدرك ركعة فليس بمدرك، وله مسائل تقتضي رفض دليل الخطاب، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم، «وفي سائمة الغنم الزكاة» فدليل الخطاب أن لا زكاة في غير السائمة، ومالك يرى الزكاة في غير السائمة، ومنها أن الله عز وجل يقول في الصيد مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً [المائدة: 95] فقال مالك: حكم المخطئ والمتعمد سواء ودليل الخطاب يقتضي غير هذا، وأما تمثيله «السبعين» دون غيرها من الأعداد فلأنه عدد كثيرا ما يجيء غاية وتحقيقا في الكثرة، ألا ترى إلى القوم الذين اختارهم موسى وإلى أصحاب العقبة وقد قال بعض اللغويين إن التصريف الذي يكون من

(3/64)


فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)

السين والباء والعين فهو شديد الأمر، من ذلك السبعة فإنها عدد مقنع هي في السماوات وفي الأرض وفي خلق الإنسان وفي رزقه وفي أعضائه التي بها يطيع الله وبها يعصيه، وبها ترتيب أبواب جهنم فيما ذكر بعض الناس، وهي عيناه وأذناه ولسانه وبطنه وفرجه ويداه ورجلاه، وفي سهام الميسر وفي الأقاليم وغير ذلك.
ومن ذلك السبع والعبوس والعنبس ونحو هذا من القول، وقوله ذلِكَ إشارة إلى امتناع الغفران، وقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ إما من حيث هم فاسقون، وإما أنه لفظ عموم يراد به الخصوص فيمن يوافي على كفره.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 83]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)
هذه آية تتضمن وصف حالهم على جهة التوبيخ لهم وفي ضمنها وعيد، وقوله الْمُخَلَّفُونَ لفظ يقتضي تحقيرهم وأنهم الذين أبعدهم الله من رضاه وهذا أمكن في هذا من أن يقال المتخلفون، ولم يفرح إلا منافق، فخرج من ذلك الثلاثة وأصحاب العذر، و «مقعد» مصدر بمعنى القعود، ومثله:
من كان مسرورا بمقتل مالك وقوله خِلافَ معناه بعد وأنشد أبو عبيدة في ذلك: [الكامل]
عقب الربيع خلافهم فكأنّما ... بسط الشواطب بينهنّ حصير
يريد بعدهم ومنه قول الشاعر: [الطويل]
فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى ... تأهّب لأخرى مثلها فكأن قد
وقال الطبري هو مصدر خالف يخالف.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا هو مفعول له، والمعنى فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ لخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مصدر ونصبه في القول الأول كأنه على الظرف، و «كراهيتهم» لما ذكر هي شح إذ لا يؤمنون بالثواب في سبيل الله فهم يظنون بالدنيا، وقولهم لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ كان لأن غزوة تبوك كانت في وقت شدة الحر وطيب الثمار والظلال، قاله ابن عباس وكعب بن مالك والناس، فأقيمت عليهم الحجة بأن قيل لهم فإذا كنتم تجزعون من حر القيظ فنار جهنم التي هي أشد أحرى أن تجزعوا منها

(3/65)


لو فهمتم، وقرأ ابن عباس وأبو حيوة «خلف» وذكرها يعقوب ولم ينسبها، وقرىء «خلف» بضم الخاء، ويقوي قول الطبري أن لفظة «الخلاف» هي مصدر من خالف ما تظاهرت به الروايات من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالنفر فعصوا وخالفوا وقعدوا مستأذنين.
وقال محمد بن كعب: قال لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ رجل من بني سلمة.
وقال ابن عباس: قال رجل يا رسول الله الحر شديد فلا تنفر في الحر، قال النقاش: وفي قراءة عبد الله «يعلمون» بدل يَفْقَهُونَ، وقال ابن عباس وأبو رزين والربيع بن خثيم وقتادة وابن زيد قوله فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا إشارة إلى مدة العمر في الدنيا، وقوله وَلْيَبْكُوا كَثِيراً إشارة إلى تأبيد الخلود في النار، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم، ويحتمل أن يكون صفة حالهم أي هم لما هم عليه من الخطر مع الله، وسوء الحال بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلا وبكاؤهم من أجل ذلك كثيرا، وهذا يقتضي أن يكون وقت الضحك والبكاء في الدنيا على نحو قوله صلى الله عليه وسلم، لأمته «لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا» .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قال هذا الكلام أوحى الله إليه يا محمد لا تقنط عبادي، وجَزاءً متعلق بالمعنى الذي تقديره وَلْيَبْكُوا كَثِيراً إذ هم معذبون جَزاءً، وقوله:
يَكْسِبُونَ نص في أن التكسب هو الذي يتعلق به العقاب والثواب، وقوله: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ الآية، «رجع» يستوي مجاوزه وغير مجاوزه، وقوله تعالى: «إن» مبينة أن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وسواه وأيضا فيحتمل أن يموتوا هم قبل رجوعه وأمر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، بأن يقول لهم لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ، هو عقوبة لهم وإظهار لدناءة منزلتهم وسوء حالهم، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته، ولا خزي أعظم من أن يكون إنسان قد رفضه الشرع ورده كالجمل الأجرب، وقوله: إِلى طائِفَةٍ يقتضي عندي أن المراد رؤوسهم والمتبوعون، وعليها وقع التشديد بأنها لا تخرج ولا تقاتل عدوا، وكرر معنى قتال العدو لأنه عظم الجهاد وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة، ولولا تخصيص الطائفة لكان الكلام «فإن رجعك الله إليهم» ، ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد ختم عليها بالموافاة على النفاق، وعينوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فكيف يترتب ألا يصلي على موتاهم إن لم يعينهم الله، وقوله: وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ ونص في موافاتهم، ومما يؤيد هذا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، عينهم لحذيفة بن اليمان وكانت الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها.
وروي عن حذيفة أنه قال يوما: بقي من المنافقين كذا وكذا، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنشدك الله أنا منهم؟ فقال لا، والله، لا أمنه منها أحدا بعدك، وقرأ جمهور الناس «معي» بسكون الياء في الموضعين، وقرأ عاصم فيما قال المفضل «معي» بحركة الياء في الموضعين، وقوله أَوَّلَ هو الإضافة إلى وقت الاستئذان.
و «الخالفون» جميع من تخلف من نساء وصبيان وأهل عذر غلب المذكر فجمع بالياء والنون وإن كان

(3/66)


وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)

ثم نساء، وهو جمع خالف، وقال قتادة «الخالفون» النساء، وهذا مردود، وقال ابن عباس: هم الرجال، وقال الطبري: يحتمل قوله مَعَ الْخالِفِينَ أن يريد مع الفاسدين، فيكون ذلك مأخوذا من خلف الشيء إذا فسد ومنه خلوف فم الصائم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل مقحم والأول أفصح وأجرى على اللفظة، وقرأ مالك بن دينار وعكرمة «مع الخلفين» وهو مقصور من الخالفين، كما قال: عردا وبردا يريد عاردا وباردا، وكما قال الآخر: [الرجز] مثل النقا لبده برد الظلال يريد الظلال.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 84 الى 87]
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87)
هذه الآية نزلت في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول وصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل عليه السلام، فجذبه بثوبه وتلا عليه، وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً الآية، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصل عليه، وتظاهرت الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وأن الآية نزلت بعد ذلك، وفي كتاب الجنائز من البخاري من حديث جابر، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما أدخل حفرته فأمر به فأخرج ووضعه على ركبته ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه، وروي في ذلك أن عبد الله بن أبي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ورغب إليه أن يستغفر له وأن يصلي عليه.
وروي أن ابنه عبد الله بن عبد الله جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت أبيه فرغب في ذلك وفي أن يكسوه قميصه الذي يلي بدنه، ففعل، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه قام إليه عمر رضي الله عنه، فقال يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله عن الاستغفار لهم؟
وجعل يعدد أفعال عبد الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أخر عني يا عمر، فإني خيرت، ولو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت» ، وفي حديث آخر «إن قميصي لا يغني عنه من الله

(3/67)


شيئا، وإني لأرجو أن يسلم بفعلي هذا ألف رجل من قومي» ، كذا في بعض الروايات، يريد من منافقي العرب، والصحيح أنه قال رجال من قومه، فسكت عمر وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله، ثم نزلت هذه الآية بعد ذلك، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لموضع إظهاره الإيمان، ومحال أن يصلي عليه وهو يتحقق كفره وبعد هذا والله أعلم، عين له من لا يصلي عليه.
ووقع في معاني أبي إسحاق وفي بعض كتب التفسير، فأسلم وتاب بهذه الفعلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة من عبد الله ألف رجل من الخزرج.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، قاله من لم يعرف عدة الأنصار، وقوله تعالى: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ الآية، تقدم تفسير مثل هذه الآية، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، إذ هو بإجماع ممن لا تفتنه زخارف الدنيا.
ويحتمل أن يكون معنى الآية ولا تعجبك أيها الإنسان، والمراد الجنس، ووجه تكريرها تأكيد هذا المعنى وإيضاحه، لأن الناس كانوا يفتنون بصلاح حال المنافقين في دنياهم، وقوله وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ الآية، العامل في إِذا اسْتَأْذَنَكَ، و «السورة» المشار إليها هي براءة فيما قال بعضهم، ويحتمل أن يكون إلى كل سورة فيها الأمر بالإيمان والجهاد مع الرسول، وسورة القرآن أجمع على ترك همزها في الاستعمال واختلف هل أصلها الهمز أم لا فقيل أصلها الهمز فهي من أسأر إذا بقيت له قطعة من الشيء، فالسورة قطعة من القرآن، وقيل أصلها أن لا تهمز فهي كسورة البناء وهي ما يبنى منه شيئا بعد شيء، فهي الرتبة بعد الرتبة، ومن هذا قول النابغة: [الطويل]
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب
وقد مضى هذا كله مستوعبا في صدر هذا الكتاب، وأَنْ في قوله: أَنْ آمِنُوا يحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي فهي على هذا لا موضع لها، ويحتمل أن يكون التقدير ب «أن» فهي في موضع نصب، والطَّوْلِ في هذه الآية المال، قاله ابن عباس وابن إسحاق وغيرهما، والإشارة بهذه الآية إلى الجد بن قيس وعبد الله بن أبي ومعتب بن قشير ونظرائهم، و «القاعدون» الزمنى وأهل العذر في الجملة ومن ترك لضبط المدينة لأن ذلك عذر.
وقوله: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ الآية، تقريع وإظهار شنعة كما يقال على وجه التعيير رضيت يا فلان، والْخَوالِفِ النساء جمع خالفة، هذا قول جمهور المفسرين، وقال أبو جعفر النحاس يقال للرجل الذي لا خير فيه خالفة، فهذا جمعه بحسب اللفظ والمراد أخسة الناس وأخالفهم، وقال النضر بن شميل في كتاب النقاش: الْخَوالِفِ من لا خير فيه، وقالت فرقة الْخَوالِفِ جمع خالف فهو جار مجرى فوارس ونواكس وهوالك، وَطُبِعَ في هذه الآية مستعار، ولما كان الطبع على الصوان والكتاب مانعا منه وحفاظا عليه شبه القلب الذي قد غشيه الكفر والضلال حتى منع الإيمان والهدى منه بالصوان المطبوع عليه، ومن هذا استعارة القفل والكنان للقلب، ولا يَفْقَهُونَ معناه لا يفهمون.

(3/68)


لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)

قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 88 الى 90]
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)
الأكثر في لكِنِ أن تجيء بعد نفي، وهو هاهنا في المعنى، وذلك أن الآية السالفة معناها أن المنافقين لم يجاهدوا فحسن بعدها «لكن الرسول والمؤمنون جاهدوا» ، والْخَيْراتُ جمع خيرة وهو المستحسن من كل شيء، وكثر استعماله في النساء، فمن ذلك قوله عز وجل: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ [الرحمن: 70] ومن ذلك قول الشاعر أنشده الطبري: [الكامل] ربلات هند خيرة الملكات والْمُفْلِحُونَ الذين أدركوا بغيتهم من الجنة، والفلاح يأتي بمعنى إدراك البغية، من ذلك قول لبيد: [الرجز]
أفلح بما شئت فقد يبلغ بالض ... عف وقد يخدع الأريب
ويأتي بمعنى البقاء ومن ذلك قول الشاعر: [المنسرح]
لكل همّ من الهموم سعه ... والمسى والصبح لا فلاح معه
أي لا بقاء.
قال القاضي أبو محمد: وبلوغ البغية يعم لفظة الفلاح حيث وقعت فتأمله، وأَعَدَّ معناه يسر وهيأ، وقوله مِنْ تَحْتِهَا يريد من تحت مبانيها وأعاليها، والْفَوْزُ حصول الإنسان على أمله، وظفره ببغيته، ومن ذلك فوز سهام الأيسار.
وقوله تعالى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ الآية، اختلف المتألون في هؤلاء الذي جاءوا هل كانوا مؤمنين أو كافرين، فقال ابن عباس وقوم معه منهم مجاهد: كانوا مؤمنين وكانت أعذارهم صادقه، وقرأ «وجاء المعذرون» بسكون العين، وهي قراءة الضحاك وحميد الأعرج وأبي صالح وعيسى بن هلال. وقرأ بعض قائلي هذه المقالة «المعذّرون» بشد الذال، قالوا وأصله المتعذرون فقلبت التاء ذالا وأدغمت.
ويحتمل المعتذرون في هذا القول معنيين أحدهما المتعذرون بأعذار حق والآخر أن يكون الدين قد بلغوا عذرهم من الاجتهاد في طلب الغزو معك فلم يقدروا فيكون مثل قول لبيد:
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

(3/69)


لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)

وقال قتادة وفرقة معه: بل الذين جاءوا كفرة وقولهم وعذرهم كذب، وكل هذه الفرقة قرأ «المعذّرون» بشد الذال، فمنهم من قال أصله المتعذرون نقلت حركة التاء إلى العين وأدغمت التاء في الذال، والمعنى معتذرون بكذب، ومنهم من قال هو من التعذير أي الذين يعذرون الغزو ويدفعون في وجه الشرع، فالآية إلى آخرها في هذا القول إنما وصفت صنفا واحدا في الكفر ينقسم إلى أعرابي وحضري، وعلى القول الأول وصفت صنفين: مؤمنا وكافرا، قال أبو حاتم: وقال بعضهم سألت مسلمة فقال «المعذّرون» بشد العين والذال، قال أبو حاتم: أراد المعتذرين والتاء لا تدغم في العين لبعد المخارج وهي غلط عنه أو عليه، قال أبو عمرو: وقرأ سعيد بن جبير «المعتذرون» بزيادة تاء، وقرأ الحسن بخلاف عنه وأبو عمرو ونافع والناس «كذبوا» بتخفيف الذال، وقرأ الحسن وهو المشهور عنه وأبي بن كعب ونوح وإسماعيل «كذّبوا» بتشديد الذال، والمعنى لم يصدقوه تعالى ولا رسوله وردوا عليه أمره، ثم توعد في آخر الآية الكافرين ب عَذابٌ أَلِيمٌ، فيحتمل أن يريد في الدنيا بالقتل والأسر.
ويحتمل أن يريد في الآخرة بالنار، وقوله: مِنْهُمْ يريد أن المعذرين كانوا مؤمنين ويرجحه بعض الترجيح فتأمله، وضعف الطبري قول من قال إن المعذرين من التعذير وأنحى عليه، والقول منصوص ووجهه بين والله المعين، وقال ابن إسحاق «المعذرون» نفر من بني غفار منهم خفاف بن إيماء بن رحضة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يقتضي أنهم مؤمنون.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 91 الى 92]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92)
يقول تعالى ليس على أهل الأعذار الصحيحة من ضعف أبدان أو مرض أو زمانة أو عدم نفقة إثم، و «الحرج» الإثم، وقوله: إِذا نَصَحُوا يريد بنياتهم وأقوالهم سرا وجهرا، وقرأ حيوة «نصحوا الله ورسوله» بغير لام وبنصب الهاء المكتوبة، وقوله تعالى: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ الآية، في لائمة تناط بهم أو تذنيب أو عقوبة، ثم أكد الرجاء بقوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وقرأ ابن عباس «والله لأهل الإساءة غفور رحيم» .
قال القاضي أبو محمد: وهذا على جهة التفسير أشبه منه على جهة التلاوة لخلافه المصحف، واختلف فيمن المراد بقوله: الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ، فقالت فرقة: نزلت في بني مقرن.
قال القاضي أبو محمد: وبنو مقرن ستة إخوة صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وليس في الصحابة ستة إخوة غيرهم، وقيل كانوا سبعة، وقيل نزلت في عبد الله بن مغفل المزني، قاله ابن عباس، وقوله

(3/70)


إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)

تعالى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ الآية، اختلف فيمن نزلت هذه الآية فقيل نزلت في عرباض بن سارية، وقيل نزلت في عبد الله بن مغفل، وقيل في عائذ بن عمرو، وقيل في أبي موسى الأشعري ورهطه، وقيل في بني مقرن، وعلى هذا جمهور المفسرين، وقيل نزلت في سبعة نفر من بطون شتى، فهم البكاءون وهم سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف، وحرمي بن عمرو من بني واقف، وأبو ليلى عبد الرحمن من بني مازن بن النجار، وسليمان بن صخر من بني المعلى، وأبو رعياة عبد الرحمن بن زيد من بني حارثة وهو الذي تصدق بعرضه فقبل الله منه، وعمرو بن غنمة من بني سلمة، وعائد بن عمرو المزني، وقيل عبد الله بن عمرو المزني قال هذا كله محمد بن كعب القرظي، وقال مجاهد: البكاءون هم بنو مكدر من مزينة.
ومعنى قوله: لِتَحْمِلَهُمْ أي على ظهر يركب ويحمل عليه الأثاث، وقال بعض الناس: إنما استحملوه النعال، ذكره النقاش عن الحسن بن صالح، وهذا بعيد شاذ، والعامل في إِذا يحتمل أن يكون قُلْتَ، ويكون قوله تَوَلَّوْا مقطوعا.
ويحتمل أن يكون العامل تَوَلَّوْا ويكون تقدير الكلام فقلت، أو يكون قوله قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ بمنزلة وجدوك في هذه الحال.
وفي الكلام اختصار وإيجاز ولا بد يدل ظاهر الكلام على ما اختصر منه، وقال الجرجاني في النظم له إن قوله قُلْتَ في حكم المعطوف تقديره وقلت، وحَزَناً نصب على المصدر، وقرأ معقل بن هارون «لنحملهم» بنون الجماعة.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 94]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
قوله في هذه الآية إِنَّمَا ليس بحصر وإنما هي للمبالغة فيما يريد تقريره على نحو ذلك إنما الشجاع عنترة ويقضي بذلك انّا نجد السبيل في الشرع على غير هذه الفرقة موجودا، والسَّبِيلُ قد توصل ب عَلَى وإِلى فتقول لا سبيل على فلان ولا سبيل إلى فلان غير أن وصولها ب عَلَى يقتضي أحيانا ضعف المتوصل إليه وقلة منعته، فلذلك حسنت في هذه الآية، وليس ذلك في إلى، ألا ترى أنك تقول فلان لا سبيل إلى الأمر ولا إلى طاعة الله ولا يحسن في شبه هذا على، والسَّبِيلُ في هذه الآية سبيل المعاقبة، وهذه الآية نزلت في المنافقين المتقدم ذكرهم عبد الله بن أبيّ والجد بن قيس ومعتب وغيرهم، وقد تقدم نظير تفسير الآية، قوله: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ الآية، هذه المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم،

(3/71)


سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)

وشرك معه المسلمون في بعض لأن المنافقين كانوا يعتذرون أيضا إلى المؤمنين ولأن أنباء الله أيضا تحصل للمؤمنين وقوله: رَجَعْتُمْ يريد من غزوة تبوك، وقوله: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ معناه لن نصدقكم، ولكن لفظة نُؤْمِنَ تتصل بلام أحيانا كما تقدم في قوله يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61] ، و «نبأ» في هذه الآية قيل هي بمعنى عرف لا تحتاج إلى أكثر من مفعولين، فالضمير مفعول أول، وقوله مِنْ أَخْبارِكُمْ مفعول ثان على مذهب أبي الحسن في زيادة مِنْ في الواجب، فالتقدير قد نبأنا الله أخباركم، وهو على مذهب سيبويه نعت لمحذوف هو المفعول الثاني تقديره قد نبأنا الله جلية من أخباركم، وقيل «نبأ» بمعنى أعلم يحتاج إلى ثلاثة مفاعيل، فالضمير واحد ومِنْ أَخْبارِكُمْ ثان حسب ما تقدم من القولين، والثالث محذوف يدل الكلام عليه، تقديره قد نبأنا الله من أخباركم كذبا أو نحوه.
وحذف هذا المفعول مع الدلالة عليه جائز بخلاف الاقتصار، وذلك أن الاقتصار إنما يجوز إما على المفعول الأول ويسقط الاثنان إذ هما الابتداء والخبر، وإما على الاثنين الأخيرين ويسقط الأول، وإما أن يقتصر على المفعولين الأولين ويسقط الثالث دون دلالة عليه، فذلك لا يجوز، ويجوز حذفه مع الدلالة عليه والإشارة بقوله: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ إلى قوله ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التوبة: 47] ونحو هذا، وقوله وَسَيَرَى اللَّهُ توعد معناه وسيراه في حال وجوده ويقع الجزاء منه عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وقوله: ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ يريد البعث من القبور، والْغَيْبِ والشهادة يعمان جميع الأشياء وقوله: فَيُنَبِّئُكُمْ معناه التخويف ممن لا تخفى عليه خافية.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 95 الى 97]
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
قيل إن هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك وذلك أن بعض المنافقين اعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واستأذنوه في القعود قبل مسيره فأذن لهم فخرجوا من عنده وقال أحدهم والله ما هو إلا شحمة لأول آكل، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزل فيهم القرآن، فانصرف رجل من القوم فقال للمنافقين في مجلس منهم: والله لقد نزل على محمد صلى الله عليه وسلم فيكم قرآن، فقالوا له وما ذلك؟ فقال لا أحفظ إلا أني سمعت وصفكم فيه بالرجس، فقال لهم مخشي والله لوددت أن أجلد مائة جلدة ولا أكون معكم، فخرج حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ما جاء بك؟ فقال: وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسفعه الريح وأنا في الكنّ، فروي أنه ممن تاب وقوله: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ أمرنا بانتهارهم وعقوبتهم بالإعراض والوصم بالنفاق.

(3/72)


وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)

وهذا مع إجمال لا مع تعيين مصرح من الله ولا من رسوله، بل كان لكل واحد منهم ميدان المغالطة مبسوطا، وقوله رِجْسٌ أي نتن وقذر، وناهيك بهذا الوصف محطة دنياوية، ثم عطف بمحطة الآخرة فقال وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي مسكنهم، ثم جعل ذلك جزاء بتكسبهم المعاصي والكفر مع أن ذلك مما قدره الله وقضاه لا رب غيره ولا معبود سواه، وأسند الطبري عن كعب بن مالك أنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك جلس للناس فجاءه المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، وقوله يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ، هذه الآية والتي قبلها مخاطبة للمؤمنين مع الرسول، والمعنى يحلفون لكم مبطلين ومقصدهم أن ترضوا لا أنهم يفعلون ذلك لوجه الله ولا للبر، وقوله فَإِنْ تَرْضَوْا إلى آخر الآية، شرط يتضمن النهي عن الرضى عنهم، وحكم هذه الآية يستمر في كل مغموص عليه ببدعة ونحوها، فإن المؤمن ينبغي أن يبغضه ولا يرضى عنه لسبب من أسباب الدنيا، وقوله الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ الآية، الْأَعْرابُ لفظة عامة ومعناها الخصوص فيمن استثناه الله عز وجل، وهذا معلوم بالوجود وكيف كان الأمر، وإنما انطلق عليهم هذا الوصف بحسب بعدهم عن الحواضر ومواضع العلم والأحكام والشرع، وهذه الآية إنما نزلت في منافقين كانوا في البوادي، ولا محالة أن خوفهم هناك أقل من خوف منافقي المدينة، فألسنتهم لذلك مطلقة ونفاقهم أنجم، وأسند الطبري أن زيد بن صوحان كان يحدث أصحابه بالعلم وعنده أعرابي وكان زيد قد أصيبت يده اليسرى يوم نهاوند فقال الأعرابي والله إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني وقال زيد: وما يريبك من يدي وهي الشمال؟ فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين تقطعون أم الشمال؟ فقال زيد صدق الله الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ، وَأَجْدَرُ معناه أحرى وأقمن، و «الحدود» هنا السنن والأحكام ومعالم الشريعة.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 98 الى 99]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
هذا نص من المنافقين منهم، ومعنى يَتَّخِذُ في هذه الآيات أي يجعل مقصده ولا ينوي فيه غير ذلك، وأصل «المغرم» الدين، ومنه تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من المغرم والمأثم، ولكن كثر استعمال المغرم فيما يؤديه الإنسان مما لا يلزمه بحق، وفي اللفظ معنى اللزوم، ومنه قوله تعالى: إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً [الفرقان: 65] أي مكروها لازما، والدَّوائِرَ المصائب التي لا مخلص للإنسان منها فهي تحيط به كما تحيط الدائرة، وقد يحتمل أن تشتق من دور الزمان، والمعنى ينتظر بكم ما تأتي به الأيام وتدور به، ثم قال على جهة الدعاء عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وكل ما كان بلفظ دعاء من جهة الله عز وجل فإنما

(3/73)


وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)

هو بمعنى إيجاب الشيء، لأن الله لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته ومن هذا، وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1] وللمطففين.، فهي كلها أحكام تامة تضمنها خبره تعالى، وقرأ الجمهور من السبعة وغيرهم «دائرة السّوء» بفتح السين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن واختلف عنه عاصم والأعمش بخلاف عنهما «دائرة السّوء» بضم السين، واختلف عن ابن كثير، وقيل الفتح المصدر والضم الاسم، واختلف الناس فيهما وهو اختلاف يقرب بعضه من بعض والفتح في السين يقتضي وصف الدائرة بأنها سيئة، وقال أبو علي معنى الدائرة يقتضي معنى السوء فإنما هي إضافة بيان وتأكيد كما قالوا شمس النهار ولحيا رأسه.
قال القاضي أبو محمد: ولا يقال رجل سوء بفتح السين، هذا قول أكثرهم وقد حكي «رجل سوء» بضم السين وقد قال الشاعر [الفرزدق] : [الطويل]
وكنت كذئب السّوء لما رأى دما ... بصاحبه يوما أحال على الدم
ولم يختلف القراء في فتح السين من قوله ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ [مريم: 28] وقوله تعالى:
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الآية، قال قتادة: هذه ثنية الله تعالى من الأعراب، ويَتَّخِذُ في هذه الآية أيضا هي بمعنى يجعله مقصدا، والمعنى ينوي بنفقته في سبيل الله القربة عند الله عز وجل واستغنام دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي دعائه لهم خير الآخرة في النجاة من النار وخير الدنيا في أرزاقهم ومنح الله لهم، ف صَلَواتِ على هذا عطف على قُرُباتٍ، ويحتمل أن يكون عطفا على ما ينفق، أي ويتخذ بالأعمال الصالحة صلوات الرسول قربة، والأولى أبين، وقُرُباتٍ جمع قربة أو قربة بسكون الراء وضمها وهما لغتان و «الصلاة» في هذه الآية الدعاء إجماعا.
وقال بعض العلماء: الصلاة من الله رحمة ومن النبي والملائكة دعاء، ومن الناس عبادة، والضمير في قوله إِنَّها يحتمل أن يعود على النفقة، وهذا في انعطاف «الصلوات» على «القربات» ، ويحتمل أن يعود على الصلوات وهذا في انعطافه على ما ينفق، وقرأ نافع «قربة» بضم الراء، واختلف عنه وعن عاصم والأعمش، وقرأ الباقون «قربة» بسكون الراء ولم يختلف في قُرُباتٍ، ثم وعد تعالى بقوله سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ الآية، وروي أن هذه الآية نزلت في بني مقرن من مزينة وقاله مجاهد، وأسند الطبري إلى عبد الرحمن بن مغفل بن مقرن أنه قال: كنا عشرة ولد مقرن، فنزلت فينا وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إلى آخر الآية.
قال القاضي أبو محمد: وقوله عشرة ولد مقرن يريد السنة أولاد مقرن لصلبه أو السبعة على ما في الاستيعاب من قول سويد بن مقرن، وبنيهم لأن هذا هو الذي في مشهور دواوين أهل العلم.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 100 الى 101]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101)

(3/74)


قال أبو موسى الأشعري وابن المسيب وابن سيرين وقتادة السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ من صلى القبلتين، وقال عطاء السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ من شهد بدرا.
قال القاضي أبو محمد: وحولت القبلة قبل بدر بشهرين، وقال عامر بن شراحيل الشعبي:
السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ من أدرك بيعة الرضوان، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ يريد سائر الصحابة، ويدخل في هذا اللفظ التابعون وسائر الأمة لكن بشريطة الإحسان، وقد لزم هذا الاسم الطبقة التي رأت من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قال قائل إن السابقين الأولين هم جميع من هاجر إلى أن انقطعت الهجرة لكان قولا يقتضيه اللفظ وتكون مِنَ لبيان الجنس، وَالَّذِينَ في هذه الآية عطف على قوله وَالسَّابِقُونَ، وقرأ عمر بن الخطاب والحسن بن أبي الحسن وقتادة وسلام وسعيد ويعقوب بن طلحة وعيسى الكوفي «والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار» برفع الراء عطفا على وَالسَّابِقُونَ، وكذلك ينعطف على كلتا القراءتين قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ وجعل الأتباع عديلا للأنصار، وأسند الطبري أن زيد بن ثابت سمعه فرده فبعث عمر في أبي بن كعب فسأله فقال أبي بن كعب وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، فقال عمر ما كنا نرى إلا أنّا قد رفعنا رفعة لا ينالها معنا أحد، فقال أبي إن مصداق هذا في كتاب الله في أول سورة الجمعة وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الآية: 3] وفي سورة الحشر وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ [الآية: 10] وفي سورة الأنفال في قوله وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ [الآية: 75] ، فرجع عمر إلى قول أبي، ونبهت هذه الآية من التابعين وهم الذين أدركوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نبه من ذكرهم قوله صلى الله عليه وسلم «اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» فتأمله، وقرأ ابن كثير «من تحتها الأنهار» ، وقرأ الباقون «تحتها» بإسقاط «من» ومعنى هذه الآية الحكم بالرضى عنهم بإدخالهم الجنة وغفر ذنوبهم والحكم برضاهم عنه في شكرهم وحمدهم على نعمه وإيمانهم به وطاعتهم له جعلنا الله من الفائزين برحمته ومِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ الآية، مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم شرك في بعضها أمته، والإشارة بقوله وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ هي إلى جهينة ومزينة وأسلم وغفار وعصية ولحيان وغيرهم من القبائل المجاورة للمدينة، فأخبر الله عن منافقيهم، وتقدير الآية: ومن أهل المدينة قوم أو منافقون هذا أحسن ما حمل اللفظ، ومَرَدُوا قال أبو عبيدة: معناه مرنوا عليه ولجوا فيه، وقيل غير هذا مما هو قريب منه، وقال ابن زيد: أقاموا عليه لم يتوبوا كما تاب الآخرون.
والظاهر من معنى اللفظ أن التمرد في الشيء أو المردود عليه إنما هو اللجاج والاستهتار به والعتو على الزاجر وركوب الرأس في ذلك، وهو مستعمل في الشر لا في الخير، ومن ذلك قولهم شيطان مارد ومريد،

(3/75)


ومن هذا سميت مراد لأنها تمردت، وقال بعض الناس: يقال تمرد الرجل في أمر كذا إذا تجرد له، وهو من قولهم شجرة مرداء إذا لم يكن عليها ورق، ومنه رْحٌ مُمَرَّدٌ
[النمل: 44] ومنه قولهم: تمرد مارد وعز الأبلق ومنه الأمرد الذي لا لحية له، فمعنى مَرَدُوا في هذه الآية لجوا فيه واستهتروا به وعتوا على زاجرهم، ثم نفى عز وجل علم نبيه بهم على التعيين، وأسند الطبري عن قتادة في قوله لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ قال: فما بال أقوام يتكلفون علم الناس فلان في الجنة فلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال لا أدري، أنت لعمري بنفسك أعلم منك بأعمال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الرسل، قال نبي الله نوح صلى الله عليه وسلم وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الشعراء: 112] وقال نبي الله شعيب صلى الله عليه وسلم بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [هود: 86] وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ.
قال القاضي أبو محمد: وقوله تعالى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ في مصحف أنس بن مالك «سيعذبهم» بالياء والكلام على القراءتين وعيد، واللفظ يقتضي ثلاثة مواطن من العذاب، ولا خلاف بين المتأولين أن «العذاب العظيم» الذي يردون إليه هو عذاب الآخرة، وأكثر الناس أن العذاب المتوسط هو عذاب القبر، واختلف في عذاب المرة الأولى فقال مجاهد وغيره: هو عذابهم بالقتل والجوع، وهذا بعيد لأن منهم من لم يصبه هذا، وقال ابن عباس أيضا: عذابهم هو بإقامة حدود الشرع عليهم مع كراهيتهم فيه، وقال ابن إسحاق: عذابهم هو همهم بظهور الإسلام وعلو كلمته، وقال ابن عباس وهو الأشهر عنه: عذابهم هو فضيحتهم ووصمهم بالنفاق، وروي في هذا التأويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم جمعة فندد بالمنافقين وصرح وقال اخرج يا فلان من المسجد فإنك منافق واخرج أنت يا فلان واخرج أنت يا فلان حتى أخرج جماعة منهم، فرآهم عمر يخرجون من المسجد وهو مقبل إلى الجمعة فظن أن الناس انتشروا وأن الجمعة فاتته فاختبأ منهم حياء، ثم وصل إلى المسجد فرأى أن الصلاة لم تقض وفهم الأمر.
قال القاضي أبو محمد: وفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا بهم هو على جهة التأديب اجتهادا منه فيهم، ولم يسلخهم ذلك من الإسلام وإنما هو كما يخرج العصاة والمتهمون، ولا عذاب أعظم من هذا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يتكلم فيهم على الإجمال دون تعيين، فهذا أيضا من العذاب، وقال قتادة وغيره: العذاب الأول هي علل وأدواء أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يصيبهم بها، وأسند الطبري في ذلك عن قتادة أنه قال ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أسرّ إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين وقال «ستة منهم تكفيكهم الدبيلة سراج من نار جهنم تأخذ في كتف أحدهم حتى تقضي إلى صدره، وستة يموتون موتا» ، ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا مات رجل ممن يظن أنه منهم نظر إلى حذيفة فإن صلى صلى عمر عليه وإلا ترك.
وذكر لنا أن عمر رضي الله عنه قال لحذيفة أنشدك بالله أمنهم أنا؟ قال لا والله ولا أؤمن منها أحدا بعدك؟ وقال ابن زيد في قوله تعالى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ أما عذاب الدنيا فالأموال والأولاد، لكل صنف

(3/76)


وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)

عذاب، فهو مرتان، وقرأ قول الله تعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [التوبة: 55] وقال ابن زيد أيضا «المرتان» هي في الدنيا، الأولى القتل والجوع والمصائب، والثانية الموت إذ هو للكفار عذاب، وقال الحسن: الأولى هي أخذ الزكاة من أموالهم، و «العذاب العظيم» هو جميع ما بعد الموت، وأظن الزجّاج أشار إليه.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 102 الى 103]
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
المعنى ومن هذه الطوائف آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ، واختلف في تأويل هذه الآية فقال ابن عباس فيما روي عنه وأبو عثمان: هي في الأعراب وهي عامة في الأمة إلى يوم القيامة فيمن له أعمال صالحة وسيئة، فهي آية ترج على هذا، وأسند الطبري هذا عن حجاج بن أبي زينب قال سمعت أبا عثمان يقول: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ، وقال قتادة بل نزلت هذه الآية في أبي لبابة الأنصاري خاصة في شأنه مع بني قريظة، وذلك أنه كلمهم في النزول على حكم الله ورسوله فأشار هو لهم إلى حلقه يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم يذبحهم إن نزلوا، فلما افتضح تاب وندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وأقسم أن لا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت، فمكث كذلك حتى عفا الله عنه ونزلت هذه الآية وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحله، وذكر هذا الطبري عن مجاهد، وذكره ابن إسحاق في كتاب السير أوعب وأتقن، وقالت فرقة عظيمة: بل نزلت هذه الآية في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك، فكان عملهم السيّء التخلف بإجماع من أهل هذه المقالة، واختلفوا في «الصالح» فقال الطبري وغيره الاعتراف والتوبة والندم، وقالت فرقة بل «الصالح» غزوهم فيما سلف من غزو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اختلف أهل هذه المقالة في عدد القوم الذين عنوا بهذه الآية، فقال ابن عباس: كانوا عشرة رهط ربط منهم أنفسهم سبعة، وبقي الثلاثة الذين خلفوا دون ربط المذكورون بعد هذا، وقال زيد بن أسلم كانوا ثمانية منهم كردم ومرداس وأبو قيس وأبو لبابة، وقال قتادة:
كانوا سبعة، وقال ابن عباس أيضا وفرقة: كانوا خمسة، وكلهم قال كان فيهم أبو لبابة، وذكر قتادة فيهم الجد بن قيس وهو فيما أعلم وهم لأن الجد لم يكن نزوله توبة، وأما قوله وَآخَرَ فهو بمعنى بآخر وهما متقاربان، وعَسَى من الله واجبة.
وروي في خبر الذين ربطوا أنفسهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد فرآهم، قال ما بال هؤلاء؟ فقيل له إنهم تابوا وأقسموا أن لا ينحلوا حتى يحلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعذرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وأنا والله لا أحلهم ولا أعذرهم إلا أن يأمرني الله بذلك، فإنهم تخلفوا عني وتركوا جهاد الكفار مع المؤمنين» ، وقوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الآية، روي أن أبا

(3/77)


لبابة والجماعة التائبة التي ربطت أنفسها وهي المقصودة بقوله خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تيب عليها فقالت يا رسول الله إنّا نريد أن نتصدق بأموالنا زيادة في توبتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لا أعرض لأموالكم إلا بأمر من الله فتركهم حتى نزلت هذه الآية فهم المراد بها، فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ ثلث أموالهم مراعاة لقوله تعالى: مِنْ أَمْوالِهِمْ، فهذا هو الذي تظاهرت به أقوال المتأولين، ابن عباس رضي الله عنه وغيره، وقالت جماعة من الفقهاء: المراد بهذه الزكاة المفروضة، فقوله على هذا خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ. ضميره لجميع الناس، وهو عموم يراد به الخصوص إذ يخرج من الأموال الأنواع التي لا زكاة فيها كالثياب والرباع ونحوه، والضمير الذي في أَمْوالِهِمْ أيضا كذلك عموم يراد به خصوص، إذ يخرج منه العبيد وسواهم، وقوله صَدَقَةً مجمل يحتاج إلى تفسير، وهذا يقتضي أن الإمام يتولى أخذ الصدقات وينظر فيها، ومِنْ في هذه الآية للتبعيض، هذا أقوى وجوهها، وقوله تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها أحسن ما يحتمل أن تكون هذه الأفعال مسندة إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن تكون في موضع الحال من الضمير في خُذْ، ويحتمل أن تكون من صفة «الصدقة» ، وهذا مترجح بحسب رفع الفعل ويكون قوله بِها أي بنفسها أي يقع تطهيرهم من ذنوبهم بها، ويحتمل أن يكون تُطَهِّرُهُمْ صفة «للصدقة» ، وَتُزَكِّيهِمْ مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون حالا من «الصدقة» ، وذلك ضعيف لأنها حال من نكرة، وحكى مكي أن يكون تُطَهِّرُهُمْ من صفة الصدقة، وقوله وَتُزَكِّيهِمْ بِها حالا من الضمير في خُذْ.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مردود لمكان واو العطف لأن ذلك يتقدر خذ من أموالهم صدقة مطهرة ومزكيا بها، وهذا فاسد المعنى، ولو لم يكن في الكلام واو العطف جاز، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تطهرهم» بسكون الطاء، وقوله وَصَلِّ عَلَيْهِمْ معناه ادع لهم فإن في دعائك لهم سكونا لأنفسهم وطمأنينة ووقارا، فهذه عبارة عن صلاح المعتقد، وحكى مكي والنحاس وغيرهما أنه قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [التوبة: 84] .
قال القاضي أبو محمد: وهذا وهم بعيد، وذلك أن تلك في المنافقين الذين لهم حكم الكافرين، وهذه في التائبين من التخلف الذين لهم حكم المؤمنين فلا تناسخ بين الآيتين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ونافع وابن عامر «إن صلواتك» بالجمع، وكذلك في هود وفي المؤمنين وقرأ حفص عن عاصم وحمزة والكسائي «ان صلاتك» بالإفراد، وكذلك قرأ حمزة والكسائي في هود وفي المؤمنين، وقرأ عاصم في المؤمنين وحدها جمعا، ولم يختلفوا في سورة الأنعام وسأل سائل، وهو مصدر أفردته فرقة وجمعته فرقة، وقوله سَمِيعٌ لدعائك عَلِيمٌ أي بمن يهدي ويتوب عليه وغير ذلك مما تقتضيه هاتان الصفتان، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية فعل ما أمر به من الدعاء والاستغفار لهم، قال ابن عباس سَكَنٌ لَهُمْ رحمه لهم، وقال قتادة سَكَنٌ لَهُمْ أي وقار لهم.
قال القاضي أبو محمد: وإنما معناه أن من يدعو له النبي صلى الله عليه وسلم فإنه تطيب نفسه ويقوى رجاؤه، ويروى أنه قد صحت وسيلته إلى الله تعالى وهذا بين.

(3/78)


أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 104 الى 105]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قرأ جمهور الناس «أَلَمْ يَعْلَمُوا» على ذكر الغائب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بخلاف عنه «ألم تعلموا» على معنى قل لهم يا محمد «ألم تعلموا» ، وكذلك هي في مصحف أبي بن كعب بالتاء من فوق، والضمير في يَعْلَمُوا قال ابن زيد: يراد به الذين لم يتوبوا من المتخلفين، وذلك أنهم لما تيب على بعضهم قال الغير ما هذه الخاصة التي خص بها هؤلاء؟ فنزلت هذه الآية، ويحتمل أن يكون الضمير في يَعْلَمُوا يراد به الذين تابوا وربطوا أنفسهم، وقوله هو تأكيد لانفراد الله بهذه الأمور وتحقيق لذلك، لأنه لو قال إن الله يقبل التوبة لاحتمل، ذلك أن يكون قبول رسوله قبولا منه فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك، وقوله وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ معناه يأمر بها ويشرعها كما تقول أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على أدائه.
وقال الزجّاج: معناه ويقبل الصدقات، وقد وردت أحاديث في أخذ الله صدقة عبيده، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبد الله بن أبي قتادة المحاربي عن ابن مسعود عنه: «إن العبد إذا تصدق بصدقة وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل» ، ومنها قوله الذي رواه أبو هريرة: «إن الصدقة تكون قدر اللقمة يأخذها الله بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل» ، ونحو هذا من الأحاديث التي هي عبارة عن القبول والتحفي بصدقة العبد، فقد يحتمل أن تخرج لفظة وَيَأْخُذُ على هذا، ويتعلق بهذه الآية القول في قبول التوبة، وتلخيص ذلك أن قبول التوبة من الكفر يقطع به عن الله عز وجل إجماعا، وهذه نازلة هذه الآية، وهذه الفرقة التائبة من النفاق تائبة من كفر، وأما قبول التوبة من المعاصي فيقطع بأن الله تعالى يقبل من طائفة من الأمة توبتهم، واختلف هل تقبل توبة الجميع، وأما إذا عين إنسان تائب فيرجى قبول توبته ولا يقطع بها على الله، وأما إذا فرضنا تائبا غير معين صحيح التوبة فهل يقطع على الله بقبول توبته أم لا، فاختلف فقالت فرقة فيها الفقهاء والمحدثون- وهو كان مذهب أبي رضي الله عنه- يقطع على الله بقول توبته لأنه تعالى أخبر بذلك عن نفسه، وعلى هذا يلزم أن تقبل توبة جميع التائبين، وذهب أبو المعالي وغيره من الأئمة إلى أن ذلك لا يقطع به على الله تعالى بل يقوى فيه الرجاء، ومن حجتهم أن الإنسان إذا قال في الجملة إني لا أغفر لمن ظلمني ثم جاء من قد سبه وآذاه فله تعقب حقه، وبالغفران لقوم يصدق وعده ولا يلزمه الغفران لكل ظالم.
قال القاضي أبو محمد: ونحو هذا من القول، والقول الأول أرجح والله الموفق للصواب، وقوله تعالى عَنْ عِبادِهِ هي بمعنى «من» ، وكثيرا ما يتوصل في موضع واحد بهذه وهذه، تقول لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى، وفعل فلان ذلك من أشره وبطره وعن أشره وبطره، وقوله تعالى أَلَمْ يَعْلَمُوا تقرير،

(3/79)


وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)

والمعنى حق لهم أن يعلموا، وقوله وَقُلِ اعْمَلُوا الآية، صيغة أمر مضمنها الوعيد، وقال الطبري: المراد بها الذين اعتذروا من المتخلفين وتابوا.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن المراد بها الذين اعتذروا ولم يتوبوا وهم المتوعدون وهم الذين في ضمير قوله أَلَمْ يَعْلَمُوا إلا على الاحتمال الثاني من أن الآيات كلها في الذين خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً [التوبة: 84] ، ومعنى فَسَيَرَى اللَّهُ أي موجودا معوضا للجزاء عليه بخير أو شر، وأما الرسول والمؤمنون فرؤيتهم رؤية حقيقة لا تجوز، وقال ابن المبارك رؤية المؤمنين هي شهادتهم على المرء بعد موته وهي ثناؤهم عند الجنائز، وقال الحسن ما معناه: إنهم حذروا من فراسة المؤمن التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ، وقوله تعالى وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يريد البعث من القبور، والْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ معناه ما غاب وما شوهد، وهي حالتان تعم كل شيء، وقوله فَيُنَبِّئُكُمْ عبارة عن حضور الأعمال وإظهارها للجزاء عليها وهذا وعيد.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 106 الى 107]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107)
قوله وَآخَرُونَ عطف على قوله أولا وَآخَرُونَ [التوبة: 84] ، وقرأ نافع والأعرج وابن نصاح وأبو جعفر وطلحة والحسن وأهل الحجاز «مرجون» من أرجى دون همز، وقرأ أبو عمرو وعاصم وأهل البصرة «مرجؤون» من أرجأ يرجىء بالهمز، واختلف عن عاصم، وهما لغتان، ومعناهما التأخير ومنه المرجئة لأنهم أخروا الأعمال أي أخروا حكمها ومرتبتها، وأنكر المبرد ترك الهمز في معنى التأخير وليس كما قال، والمراد بهذه الآية فيما قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وابن إسحاق الثلاثة الذين خلفوا وهم هلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري وكعب بن مالك، ونزلت هذه الآية قبل التوبة عليهم، وقيل إنها نزلت في غيرهم من المنافقين الذين كانوا معرضين للتوبة مع بنائهم مسجد الضرار، وعلى هذا يكون الذين اتخذوا بإسقاط واو العطف بدلا من آخَرُونَ، أو خبر ابتداء تقديره هم الذين، فالآية على هذا فيها ترج لهم واستدعاء إلى الإيمان والتوبة، وعَلِيمٌ معناه بمن يهدي إلى الرشد، وحَكِيمٌ فيما ينفذه من تنعيم من شاء وتعذيب من شاء لا رب غيره ولا معبود سواه، وقرأ عاصم وعوام القراء والناس في كل قطر إلا بالمدينة «والذين اتخذوا» ، وقرأ أهل المدينة نافع وأبو جعفر وشيبة وغيرهم «الذين اتخذوا» بإسقاط الواو، وكذلك في مصحفهم، قاله أبو حاتم، وقال الزهراوي: وهي قراءة ابن عامر وهي في مصاحف أهل الشام بغير واو، فأما من قرأ بالواو فذلك عطف على قوله وَآخَرُونَ أي ومنهم الذين اتخذوا، وأما من قرأ بإسقاطها فرفع الَّذِينَ بالابتداء.
واختلف في الخبر فقيل الخبر لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً [التوبة: 108] قاله الكسائي ويتجه بإضمار إما في أول الآية

(3/80)


وإما في آخرها، بتقدير لا تقم في مسجدهم وقيل الخبر لا يزال بنيانهم قاله النحاس وهذا أفصح، وقد ذكرت كون الَّذِينَ بدلا من، آخَرُونَ، آنفا، وقال المهدوي: الخبر محذوف تقديره معذبون أو نحوه، وأما الجماعة المرادة ب الَّذِينَ اتَّخَذُوا، فهم منافقو بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف، وأسند الطبري عن ابن إسحاق عن الزهري وغيره أنه قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنّا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه، فلما أقبل ونزل بذي أوان نزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه، فانطلقا مسرعين ففعلا وحرقاه بنار في سعف، وذكر النقاش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث لهدمه وتحريقه عمار بن ياسر ووحشيا مولى المطعم بن عدي، وكان بانوه اثني عشر رجلا، خذام بن خالد، ومن داره أخرج مسجد الشقاق وثعلبة بن حاطب ومتعب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف، وجارية بن عمرو وابناه مجمع بن جارية وهو كان إمامهم، وحلف لعمر بن الخطاب في خلافته أنه لم يشعر بأمرهم وزيد بن جارية ونبتل بن الحارث، ويخرج وهو من بني ضبيعة وبجاد بن عثمان ووديعة بن ثابت ويخرج منهم هو الذي حلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أردت إلا الحسنى» والتوسعة علينا وعلى من عجز أو ضعف عن المسير إلى مسجد قباء، وقرأ ابن أبي عبلة «ما أردنا إلا الحسنى» ، والآية تقتضي شرح شيء من أمر هذه المساجد، فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وقت الهجرة بني مسجدا في بني عمرو بن عوف وهو مسجد قباء، وقيل وجده مبنيا قبل وروده، وقيل وجده موضع صلاة فبناه وتشرف القوم بذلك، فحسدهم من حينئذ رجال من بني عمهم من بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف، فكان فيهم نفاق، وكان موضع مسجد قباء مربطا لحمار امرأة من الأنصار اسمها لية، فكان المنافقون يقولون والله لا نصبر على الصلاة في مربط حمار لية ونحو هذا من الأقوال، وكان أبو عامر عبد عمرو المعروف بالراهب منهم، وكانت أمه من الروم فكان يتعبد في الجاهلية فسمي الراهب، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وكان سيدا نظيرا وقريبا من عبد الله بن أبي ابن سلول، فلما جاء الله بالإسلام نافق ولم يزل مجاهرا بذلك فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، ثم خرج في جماعة من المنافقين فحزب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحزاب، فلما ردهم الله بغيظهم أقام أبو عامر بمكة مظهرا لعداوته، فلما فتح الله مكة هرب إلى الطائف.
فلما أسلم أهل الطائف خرج هاربا إلى الشام يريد قيصر مستنصرا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى قومه المنافقين منهم أن ابنوا مسجدا مقاومة لمسجد قباء وتحقيرا له، فإني سآتي بجيش من الروم أخرج به محمدا وأصحابه من المدينة فبنوه، وقالوا سيأتي أبو عامر ويصلي فيه ويتخذه متعبدا ويسر به، ثم إن أبا عامر هلك عند قيصر ونزل القرآن في أمر مسجد الضرار فذلك قوله وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني أبا عامر وقولهم سيأتي أبو عامر، وقرأ الأعمش «للذين حاربوا الله» وقوله

(3/81)


لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)

ضِراراً أي داعية للتضار من جماعتين فلذلك قال ضِراراً وهو في الأكثر مصدر ما يكون من اثنين وإن كان المصدر الملازم لذلك مفاعلة كما قال سيبويه، ونصب «ضرار» وما بعده على المصدر في موضع الحال، ويجوز أن يكون على المفعول من أجله، وقوله بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يريد بين الجماعة التي كانت تصلي في مسجد قباء فإن من جاوز مسجدهم كانوا يصرفونه إليه وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان، وقيل أراد بقوله بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ جماعة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بحسب الخلاف في المسجد المؤسس على التقوى وسيأتي ذلك، قال النقاش يلزم من هذا أن لا يصلى في كنيسة ونحوها لأنها بنيت على شر من هذا كله وقد قيل في هذا لا تقم فيه أبدا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تفقه غير قوي، و «الإرصاد» الإعداد والتهيئة، والذي حارب الله ورسوله هو أبو عامر الفاسق، وقوله مِنْ قَبْلُ يريد في غزوة الأحزاب وغيرها، والحالف المراد في قوله لَيَحْلِفُنَّ هو يخرج ومن حلف من أصحابه، وكسرت الألف من قوله إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لأن الشهادة في معنى القول، وأسند الطبري عن شقيق أنه جاء ليصلي في مسجد بني غاضرة فوجد الصلاة قد فاتته فقيل له إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد، فقال: لا أحب أن أصلي فيه فإنه بني على ضرار وكل مسجد بني ضرارا ورياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار، وروي أن مسجد الضرار لما هدم وأحرق اتخذ مزبلة ترمى فيه الأقذار والقمامات.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 108 الى 109]
لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً كان لا يمر بالطريق التي فيها المسجد، وهذا النهي إنما هو لأن البانين لمسجد الضرار قد كانوا خادعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: بنينا مسجدا للضرورات والسيل الحائل بيننا وبين قومنا فنريد أن تصلي لنا فيه وتدعو بالبركة، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشي معهم إلى ذلك، واستدعى قميصه لينهض فنزلت الآية لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً وقوله: لَمَسْجِدٌ قيل إن اللام لام قسم، وقيل هي لام الابتداء كما تقول: لزيد أحسن الناس فعلا، وهي مقتضية تأكيدا، وقال ابن عباس وفرقة من الصحابة والتابعين: المراد «بالمسجد الذي أسس على التقوى» هو مسجد قباء.
وروي عن عمر وأبي سعيد وزيد بن ثابت أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ويليق القول الأول بالقصة، إلا أن القول الثاني روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نظر مع الحديث،

(3/82)


وأسند الطبري في ذلك عن أبي سعيد الخدري أنه قال: اختلف رجل من بني خدرة ورجل من بني عمرو بن عوف فقال الخدري: هو مسجد الرسول وقال الآخر: هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه فقال: هو مسجدي هذا، وفي الآخر خير كثير إلى كثير من الآثار في هذا عن أبي بن كعب وسهل بن سعد.
قال القاضي أبو محمد: ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في بقعته نخل وقبور مشركين ومريد ليتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة، وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، الأولى بالسميط وهي لبنة أمام لبنة، والثانية بالصعيدة، وهي لبنة ونصف في عرض الحائط، والثالثة بالأنثى والذكر، وهي لبنتان تعرض عليهما لبنتان، وكان في طوله سبعون ذراعا وكان عمده النخل وكان عريشا يكف في المطر، وعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيانه ورفعه فقال: لا بل يكون عريشا كعريش أخي موسى كان إذا قام ضرب رأسه في سقفه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل فيه اللبن على صدره، ويقال إن أول من وضع في أساسه حجرا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضع أبو بكر حجرا، ثم وضع عمر حجرا، ثم وضع عثمان حجرا، ثم رمى الناس بالحجارة فتفاءل بذلك بعض الصحابة في أنها الخلافة فصدق فأله، قوله: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ قيل معناه منذ أول يوم، وقيل معناه من تأسيس أول يوم، وإنما دعا إلى هذا الاختلاف أن من أصول النحويين أن «من» لا تجر بها الأزمان، وإنما تجر الأزمان بمنذ، تقول ما رأيته منذ يومين أو سنة أو يوم، ولا تقول من شهر ولا من سنة ولا من يوم، فإذا وقعت «من» في الكلام وهي تلي زمنا فيقدر مضمر يليق أن تجره «من» كقول الشاعر: [زهير بن أبي سلمى]
لمن الديار كقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن دهر
ومن شهر رواية، فقدروه من مر حجج ومن مر دهر، ولما كان «أول يوم» يوما وهو اسم زمان احتاجوا فيه إلى تقدير من تأسيس، ويحسن عندي أن يستغنى في هذه الآية عن تقدير وأن تكون «من» تجر لفظة «أول» لأنها بمعنى البدأة كأنه قال من مبتدأ الأيام، وهي هاهنا تقوم مقام المر في البيت المتقدم، وهي كما تقول جئت من قبلك ومن بعدك وأنت لا تدل بهاتين اللفظتين إلا على الزمن، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو، ومعنى أَنْ تَقُومَ فِيهِ أي بصلاتك وعبادتك، وقرأ جمهور الناس «أن تقوم فيه فيه رجال» بكسر الهاء، وقرأ عبد الله بن زيد «أن تقوم فيه فيه» بضم الهاء الثانية على الأصل ويحسنه تجنب تكرار لفظ واحد، وقال قتادة وغيره: الضمير عائد على مسجد الرسول، و «الرجال» جماعة الأنصار.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: يا معشر الأنصار إني رأيت الله أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون؟ فقالوا يا رسول الله إنا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء.
قال القاضي أبو محمد: يريد الاستنجاء بالماء، ففعلنا نحن ذلك فلما جاء الإسلام لم ندعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تدعوه أبدا، وقال عبد الله بن سلام وغيره ما معناه: إن الضمير عائد على مسجد قباء والمراد بنو عمرو بن عوف.

(3/83)


وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال المقالة المتقدمة لنبي عمرو بن عوف والأول أكثر، واختلف أهل العلم في الأفضل بين الاستنجاء بالماء أو بالحجارة فقيل هذا وقيل هذا، ورأت فرقة من أهل العلم الجمع بينهما فينقي بالحجارة ثم يتبع بالماء، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض علماء القيروان كانوا يتخذون في متوضياتهم أحجارا في تراب ينقون بها، ثم يستنجون بالماء أخذا بهذا القول.
قال القاضي أبو محمد: وإنما يتصور الخلاف في البلاد التي يمكن فيها أن تنقى الحجارة، وابن حبيب لا يجيز الاستنجاء بالحجارة حيث يوجد الماء، وهو قول شذ فيه، وقرأ جمهور الناس «يتطهروا» ، وقرأ طلحة بن مصرف والأعمش «يطهروا» بالإدغام، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
«المتطهرين» بالتاء، وأسند الطبري عن عطاء أنه قال: أحدث قوم من أهل قباء الاستنجاء بالماء فنزلت الآية فيهم.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: منهم عويم بن ساعدة ولم يسم أحد منهم غير عويم، وقوله: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ الآية استفهام بمعنى تقرير، وقرأ نافع وابن عامر وجماعة «أسس بنيانه» على بناء «أسس» للمفعول ورفع «بنيان» فيهما، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وجماعة «أسس بنيانه» على بناء الفعل للفاعل ونصب «بنيان» فيهما، وقرأ عمارة بن ضبا رواه يعقوب الأول على بناء الفعل للمفعول والثاني على بنائه للفاعل، والآية تتضمن معادلة بين شيئين، فإما بين البناءين وإما بين البانين، فالمعادلة الأولى هي بتقدير أبناء من أسس، وقرأ نصر بن علي ورويت عن نصر بن عاصم: «أفمن أس بنيانه» على إضافة «أس» إلى «بنيان» وقرأ نصر بن عاصم وأبو حيوة أيضا «أساس بنيانه» ، وقرأ نصر بن عاصم أيضا «أسس بنيانه» على وزن فعل بضم الفاء والعين وهو جمع أساس كقذال وقذل حكى ذلك أبو الفتح، وذكر أبو حاتم أن هذه القراءة لنصر إنما هي «أسس» بهمزة مفتوحة وسين مفتوحة وسين مضمومة، وعلى الحكايتين فالإضافة إلى البنيان، وقرأ نصر بن علي أيضا «أساس» على جمع «أس» و «البنيان» يقال بنى يبني بناء وبنيانا كالغفران والطغيان فسمي به المبنى مثل الخلق إذا أردت به المخلوق، وقيل هو جمع واحده بنيانة، وأنشد في ذلك أبو علي: [الطويل]
كبنيانة القاري موضع رجلها ... وآثار نسعيها من الدق أبلق
وقرأ الجمهور عَلى تَقْوى وقرأ عيسى بن عمر «على تقوّى» بتنوين الواو حكى هذه القراءة سيبويه وردها الناس، قال أبو الفتح: قياسها أن تكون الألف للإلحاق كأرطى ونحوه، وأما المراد بالبنيان الذي أسس على التقوى والرضوان فهو في ظاهر اللفظ وقول الجمهور المسجد المذكور قبل ويطرد فيه الخلاف المتقدم، وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: المراد بالمسجد المؤسس على التقوى هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بأنه أسس على تقوى من الله، وَرِضْوانٍ خَيْرٌ هو مسجد قباء، وأما البنيان الذي أسس عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فهو مسجد الضرار بإجماع. و «الشفا» الحاشية والشفير.
و «الجرف» حول البئر ونحوه مما جرفته السيول والندوة والبلى. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو

(3/84)


والكسائي وجماعة «جرف» بضم الراء، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة وجماعة «جرف» بسكون الراء، واختلف عن عاصم. وهما لغتان، وقيل الأصل ضم الراء وتخفيفها بعد ذلك مستعمل وهارٍ: معناه متهدم منهال وهو من هار يهور ويقال هار يهير ويهير، وأصله هاير أو هاور، فقيل قلبت راؤه قبل حرف العلة فجاء هارو أو هاري فصنع به ما صنع بقاض وغاز، وعلى هذا يقال في حال النصب هاريا، ومثله في يوم راح أصله رايح ومثله شاكي السلاح أصله شايك ومثله قول العجاج: [الوافر] لاث به الأشاء والعبري أصله لايث.
ومثله قول الشاعر [الأجدع الهمداني] : [الكامل] خفضوا أسنتهم فكلّ ناع على أحد الوجهين:
فإنه يحتمل أنه من نعى ينعي والمراد أنهم يقولون يا ثارات فلان، ويحتمل أن يريد فكلهم نايع أي عاطش كما قال عامر بن شييم، والأسل النياعا وقيل في هارٍ إن حرف علته حذف حذفا فعلى هذا يجري بوجوه الإعراب، فتقول: جرف هار ورأيت جرفا هارا، ومررت بحرف هار.
واختلف القراء في إمالة هارٍ وانهار، وتأسيس البناء على تقوى إنما هو بحسن النية فيه وقصد وجه الله تعالى وإظهار شرعه، كما صنع بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفي مسجد قباء.
والتأسيس عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ إنما هو بفساد النية وقصد الرياء والتفريق بين المؤمنين، فهذه تشبيهات صحيحة بارعة، وخَيْرٌ في هذه الآية تفضيل ولا شركة بين الأمرين في خير إلا على معتقد يأتي مسجد الضرار، فبحسب ذلك المعتقد صح التفضيل، وقوله فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ الظاهر منه وما صح من خبرهم وهدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجدهم أنه خارج مخرج المثل، أي مثل هؤلاء المضارين من المنافقين في قصدهم معصية الله وحصولهم من ذلك على سخطه كمن ينهار بنيانه في نار جهنم، ثم اقتضب الكلام اقتضابا يدل عليه ظاهره، وقيل بل ذلك حقيقة وإن ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم، قاله قتادة وابن جريج.
وروي عن جابر بن عبد الله وغيره أنه قال: رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي في بعض الكتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه حين انهار حتى بلغ الأرض السابعة ففزع لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي أنهم لم يصلوا فيه أكثر من ثلاثة أيام أكملوه يوم الجمعة وصلوا فيه يوم الجمعة وليلة السبت وانهار يوم الاثنين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله بإسناد لين، وما قدمناه أصوب وأصح، وكذلك بقي أمره والصلاة فيه من قبل سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك إلى أن يقبل صلى الله عليه وسلم.

(3/85)


لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)

وقوله وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ: طعن على هؤلاء المنافقين وإشارة إليهم، والمعنى لا يهديهم من حيث هم الظالمون، أو يكون المراد الخصوص فيمن يوافي على ظلمه، وأسند الطبري عن خلف بن ياسين أنه قال: رأيت مسجد المنافقين الذين ذكر الله في القرآن، فرأيت فيه مكانا يخرج منه الدخان، وذلك في زمن أبي جعفر المنصور.
وروي شبيه بهذا أو نحوه عن ابن جريج أسنده الطبري.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 110 الى 111]
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
الضمير في بُنْيانُهُمُ عائد على المنافقين البانين للمسجد ومن شاركهم في غرضهم، وقوله الَّذِي بَنَوْا تأكيد وتصريح بأمر المسجد ورفع للإشكال، و «الريبة» الشك، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه والاعتراض في الشيء والتحفظ فيه والحزازة من أجله وإن لم يكن شكا، فقد يرتاب من لا يشك، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك، ومعنى «الريبة» في هذه الآية أمر يعم الغيظ والحنق ويعم اعتقاد صواب فعلهم ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام، فمقصد الكلام لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقي في قلوبهم حزازة وأثر سوء، وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا، وفسرها السدي بالكفر، وقيل له أفكفر مجمع بن جارية؟ قال: لا ولكنها حزازة.
قال القاضي أبو محمد: ومجمع رحمه الله قد أقسم لعمر أنه ما علم باطن القوم ولا قصد سوءا، والآية إنما عنت من أبطن سوءا فليس مجمع منهم، ويحتمل أن يكون المعنى لا يزالون مريبين بسبب بنائهم الذي اتضح فيه نفاقهم، وجملة هذا أن الريبة في الآية تعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي «إلا أن تقطع قلوبهم» بضم التاء وبناء الفعل للمفعول، وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم بخلاف عنه «إلا أن تقطع» بفتح التاء على أنها فاعلة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب: «إلى أن تقطع» على معنى إلى أن يموتوا، وقرأ بعضهم:
«إلى أن تقطع» ، وقرأ أبو حيوة «إلا أن يقطع» بالياء مضمومة وكسر الطاء ونصب «القلوب» أي بالقتل، وأما على القراءة الأولى فقيل بالموت قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم، وقيل، بالتوبة وليس هذا بالظاهر إلا أن يتأول: أو يتوبوا توبة نصوحا يكون معها من الندم والحسرة على الذنب ما يقطع القلوب هما وفكرة، وفي مصحف ابن مسعود «ولو قطعت قلوبهم» ، وكذلك قرأها أصحابه وحكاها أبو عمرو «وأن قطعت» بتخفيف الطاء، وفي مصحف أبيّ «حتى الممات» وفيه «حتى تقطع» ، وقوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

(3/86)


أَنْفُسَهُمْ
الآية، هذه الآية نزلت في البيعة الثالثة وهي بيعة العقبة الكبرى، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين وكان أصغرهم سنا عقبة بن عمرو، وذلك أنهم اجتمعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة فقالوا: اشترط لك ولربك، والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة، فاشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم حمايته مما يحمون منه أنفسهم، واشترط لربه التزام الشريعة وقتال الأحمر والأسود في الدفع عن الحوزة، فقالوا: ما لنا على ذلك؟ قال الجنة، فقالوا: نعم ربح البيع لا نقيل ولا نقال، وفي بعض الروايات ولا نستقيل فنزلت الآية في ذلك.
ثم الآية بعد ذلك عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وقال بعض العلماء: ما من مسلم إلا ولله في عنقه هذه البيعة وفى بها أو لم يف، وفي الحديث أن فوق كل بربرا حتى يبذل العبد دمه فإذا فعل ذلك فلا بر فوق ذلك، وهذا تمثيل من الله عز وجل جميل صنعه بالمبايعة، وذلك أن حقيقة المبايعة أن تقع بين نفسين بقصد منهما وتملك صحيح، وهذا القصة وهب الله عباده أنفسهم وأموالهم ثم أمرهم ببذلها في ذاته ووعدهم على ذلك ما هو خير منها، فهذا غاية التفضل، ثم شبه القصة بالمبايعة، وأسند الطبري عن كثير من أهل العلم أنهم قالوا: ثامن الله تعالى في هذه الآية عباده فأعلى لهم وقاله ابن عباس والحسن بن أبي الحسن، وقال ابن عيينة: معنى الآية اشترى منهم أنفسهم ألا يعملوها إلا في طاعة الله، وأموالهم أن لا ينفقوها إلا في سبيل الله.
قال القاضي أبو محمد: فالآية على هذا أعم من القتل في سبيل الله، ومبايعة الخلفاء هي منتزعة من هذه الآية. كان الناس يعطون الخلفاء طاعتهم ونصائحهم وجدهم ويعطيهم الخلفاء عدلهم ونظرهم والقيام بأمورهم، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه سمع الواعظ أبا الفضل بن الجوهري يقول على المنبر بمصر:
ناهيك من صفقة البائع فيها رب العلى والثمن جنة المأوى والواسطة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقوله يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مقطوع ومستأنف، وذلك على تأويل سفيان بن عيينة، وأما على تأويل الجمهور من أن الشراء والبيع إنما هو مع المجاهدين فهو في موضع الحال، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو والحسن وقتادة وأبو رجاء وغيرهم: «فيقتلون» على البناء للفاعل «ويقتلون» على البناء للمفعول، وقرأ حمزة والكسائي والنخعي وابن وثاب وطلحة والأعمش بعكس ذلك، والمعنى واحد إذ الغرض أن المؤمنين يقاتلون فيوجد فيهم من يقتل وفيهم من يقتل وفيهم من يجتمعان له وفيهم من لا تقع له واحدة منهما، وليس الغرض أن يجتمع ولا بد لكل واحد واحد، وإذا اعتبر هذا بان، وقوله سبحانه وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا مصدر مؤكد لأن ما تقدم من الآية هو في معنى الوعد فجاء هو مؤكدا لما تقدم من قوله: بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، وقال المفسرون: يظهر من قوله: فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، أن كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن ميعاد أمة محمد صلى الله عليه وسلم تقدم ذكره في هذه الكتب، وقوله وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ استفهام على جهة التقرير أي لا أحد أوفى بعهده من الله، وقوله فَاسْتَبْشِرُوا فعل جاء فيه استفعل بمعنى أفعل وليس هذا من معنى طلب الشيء، كما تقول: استوقد نارا

(3/87)


التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)

واستهدى مالا واستدعى نصرا بل هو كعجب واستعجب، ثم وصف تعالى ذلك البيع بأنه الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، أي أنه الحصول على الحظ الأغبط من حط الذنوب ودخول الجنة بلا حساب.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 112 الى 113]
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113)
هذه الأوصاف هي من صفات المؤمنين الذين ذكر الله أنه اشترى منهم أنفسهم، وارتفعت هذه الصفات لما جاءت مقطوعة في ابتداء آية على معنى: «هم التائبون» ، ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله تعالى ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى رتبة والآية الأولى مستقلة بنفسها يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات التي هي في هذه الآية الثانية أو بأكثرها وقالت فرقة: بل هذه الأوصاف جاءت على جهة الشرط، والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف ويبذلون أنفسهم في سبيل الله، وأسند الطبري في ذلك عن الضحاك بن مزاحم أن رجلا سأله عن قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى [التوبة: 111] وقال الرجل ألا أحمل على المشركين فأقاتل حتى أقتل، فقال الضحاك: ويلك أين الشرط التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الآية، وهذا القول تحريج وتضييق والله أعلم، والأول أصوب، والشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد، وقد روي أن الله تعالى يحمل عن الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه ختم الله لنا بالحسنى، وقالت فرقة: إن رفع «التائبين» إنما هو على الابتداء وما بعده صفة، إلا قوله الْآمِرُونَ فإنه خبر الابتداء كأنه قال «هم الآمرون» ، وهذا حسن إلا أن معنى الآية ينفصل من معنى التي قبلها وذلك قلق فتأمله، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «التائبين العابدين» إلى آخرها، ولذلك وجهان أحدهما: الصفة للمؤمنين على اتباع اللفظ والآخر النصب على المدح، والتَّائِبُونَ لفظ يعم الرجوع من الشر إلى الخير كان ذلك من كفر أو معصية والرجوع من حالة إلى ما هي أحسن منها، وإن لم تكن الأولى شرا بل خيرا، وهكذا توبة النبي صلى الله عليه وسلم واستغفاره سبعين مرة في اليوم، والتائب هو المقلع عن الذنب العازم على التمادي على الإقلاع النادم على ما سلف، والتائب عن ذنب يسمى تائبا وإن قام على غيره إلا أن يكون من نوعه فليس بتائب والتوبة ونقضها دائبا خير من الإصرار، ومن تاب ثم نقض ووافى على النقض فإن ذنوبه الأولى تبقى عليه لأن توبته منها علم الله أنها منقوضة، ويحتمل الأمر غير ذلك والله أعلم.
وقال الحسن في تفسير الآية: التَّائِبُونَ معناه من الشرك، والْعابِدُونَ لفظ يعم القيام بعبادة الله والتزام شرعه وملازمة ذلك والمثابرة عليه والدوام، والعابد هو المحسن الذي فسر رسول الله صلى الله عليه

(3/88)


وسلم في قوله، «أن تعبد الله كأنك تراه» الحديث، وبأدنى عبادة يؤديها المرء المسلم يقع عليه اسم عابد ويحصل في أدنى رتبته وعلى قدر زيادته في العبادة يحصل الوصف، والْحامِدُونَ معناه: الذاكرون لله بأوصافه الحسنى في كل حال وعلى السراء والضراء وحمده لأنه أهل لذلك، وهو أعم من الشكر إذ الشكر إنما هو على النعم الخاصة بالشاكر، والسَّائِحُونَ معناه الصائمون، وروي عن عائشة أنها قالت: سياحة هذه الأمة الصيام، وأسنده الطبري وروي أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث «إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغوني صلاة أمتي عليّ» ، ويروى الحديث «صياحين» بالصاد من الصياح والسياحة في الأرض مأخوذ من السيح وهو الماء الجاري على الأرض إلى غير غاية، وقال بعض الناس وهو في كتاب النقاش: السَّائِحُونَ هم الجائلون بأفكارهم في قدرة الله وملكوته، وهذا قول حسن وهي من أفضل العبادات، ومن ذلك قول معاذ بن جبل: اقعد بنا نؤمن ساعة، ويروى أن بعض العباد أخذ القدح ليتوضأ لصلاة الليل فأدخل أصبعه في أذن القدح وجعل يفكر حتى طلع الفجر فقيل له في ذلك فقال: أدخلت أصبعي في أذن القدح فتذكرت قول الله تعالى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غافر: 71] وفكرت كيف أتلقى الغل وبقيت في ذلك ليلي أجمع، والرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ هم المصلون الصلوات الخمس كذا قال أهل العلم، ولكن لا يختلف في أن من يكثر النوافل هو أدخل في الاسم وأغرق في الاتصاف، وقوله: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ هو أمر فرض على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجملة ثم يفترق الناس فيه مع التعيين، فأما ولاة الأمر والرؤساء فهو فرض عليهم في كل حال، وأما سائر الناس فهو فرض عليهم بشروط: منها أن لا تلحقه مضرة وأن يعلم أن قوله يسمع ويعمل به ونحو هذا ثم من تحمل بعد في ذات الله مشقة فهو أعظم أجرا، وأسند الطبري عن بعض العلماء أنه قال: حيثما ذكر الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو الأمر بالإسلام والنهي عن الكفر.
قال القاضي أبو محمد: ولا شك أنه يتناول هذا وهو أحرى، إذ يتناول ما دونه فتعميم اللفظ أولى، وأما هذه الواو التي في قوله وَالنَّاهُونَ ولم يتقدم في واحدة من الصفات قبل فقيل معناها الربط بين هاتين الصفتين وهي «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» إذ هما من غير قبيل الصفات الأول.
قال القاضي أبو محمد: لأن الأول فيما يخص المرء، وهاتان بينه وبين غيره، ووجب الربط بينهما لتلازمهما وتناسبهما، وقيل هي زائدة وهذا قول ضعيف لا معنى له، وقيل هي واو الثمانية لأن هذه الصفة جاءت ثامنة في الرتبة، ومن هذا قوله في أبواب الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] ، وقوله وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] ، ومن هذا قوله ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التحريم: 5] .
قال القاضي أبو محمد: على أن هذه تعترض حتى لا يلزم أن يكون واو ثمانية، لأنها فرقت بين فصلين يعمان بمجموعهما جميع النساء، ولا يصح أن يكون «ثيبات أبكارا» [التحريم: 5] ، فهي فاصلة ضرورة، وواو الثمانية قد ذكرها ابن خالويه، في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] ، وأنكرها أبو علي، وحدثني أبي رضي الله عنه عن الأستاذ أبي عبد الله الكفيف المالقي وكان ممن استوطن غرناطة وقرأ فيها في مدة ابن حبوس أنه قال: هي لغة فصيحة لبعض العرب من

(3/89)


شأنهم أن يقولوا إذا عدوا واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية تسعة عشرة، فهكذا هي لغتهم، ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو، وقوله وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ لفظ عام تحته إلزام الشريعة والانتهاء عما نهى الله في كل شيء وفي كل فن، وقوله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ قيل هو لفظ عام أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشر أمته جميعا بالخير من الله، وقيل بل هذه الألفاظ خاصة لمن لم يغز أي لما تقدم في الآية وعد المجاهدين وفضلهم أمر أن يبشر سائر الناس ممن لم يغز بأن الإيمان مخلص من النار والحمد لله رب العالمين، وقوله تعالى ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآية، يقتضي التأنيب ومنع الاستغفار للمشركين مع اليأس عن إيمانهم إما بموافاتهم على الكفر وموتهم، ومنه قول عمر بن الخطاب في العاصي بن وائل لا جزاه الله خيرا، وإما بنص من الله تعالى على أحد كأبي لهب وغيره فيمتنع الاستغفار له وهو حي، واختلف المفسرون في سبب هذه الآية فقال الجمهور ومداره على ابن المسيب وعمرو بن دينار، نزلت في شأن أبي طالب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه حين احتضر ووعظه وقال: أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله تعالى، وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أمية، فقالا له: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، فقال أبو طالب: يا محمد والله لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لأقررت بها عينك ثم قال: أنا على ملة عبد المطلب، ومات على ذلك، إذ لم يسمع منه النبي صلى الله عليه وسلم ما قال للعباس، فنزلت: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستغفار لأبي طالب، وروي أن المؤمنين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهم، فلذلك دخلوا في التأنيب والنهي.
والآية على هذا ناسخة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ أفعاله في حكم الشرع المستقر وقال فضيل بن عطية وغيره: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة أتى قبر أمه فوقف عليه حتى سخنت عليه الشمس، وجعل يرغب في أن يؤذن له في الاستغفار لها، فلم يؤذن له فأخبر أصحابه أنه أذن له في زيارة قبرها، ومنع أن يستغفر لها، فما رئي باكيا أكثر من يومئذ، ونزلت الآية في ذلك، وقالت فرقة: إنما نزلت بسبب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين: والله لأزيدن على السبعين، وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما: إنما نزلت الآية بسبب جماعة من المؤمنين قالوا: نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه فنزلت الآية في ذلك، وعلى كل حال ففي ورود النهي عن الاستغفار للمشركين موضع اعتراض بقصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم على نبينا وعليه، فنزل رفع ذلك الاعتراض في الآية التي بعدها، وقوله مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ يريد من بعد الموت على الكفر فحينئذ تبين أنهم أصحاب الجحيم أي سكانها وعمرتها، والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يرجى إسلامه ومن هذا قول أبي هريرة رضي الله عنه رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه، قيل له ولأبيه قال: لا، إن أبي مات كافرا، وقال عطاء بن أبي رباح:
الآية في النهي عن الصلاة على المشركين، والاستغفار هاهنا يراد به الصلاة.

(3/90)


وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)

قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 114 الى 116]
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)
المعنى لا حجة أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم الخليل لأبيه فإن ذلك لم يكن إلا عن موعدة، واختلف في ذلك فقيل عن موعدة من إبراهيم في أن يستغفر لأبيه وذلك قوله سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 47] ، وقيل عن موعدة من أبيه له في أنه سيؤمن فكان إبراهيم قد قوي طمعه في إيمانه فحمله على الاستغفار له حتى نهي عنه، وقرأ طلحة: «وما يستغفر إبراهيم» وروي عنه «وما استغفر إبراهيم» ، ومَوْعِدَةٍ مفعلة من الوعد، وأما تبينه أنه عدو لله قيل ذلك بموت آزر على الكفر، وقيل ذلك بأنه نهي عنه وهو حي.
وقال سعيد بن جبير: ذلك كله يوم القيامة وذلك أن في الحديث أن إبراهيم يلقاه فيعرفه ويتذكر قوله:
سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم: 47] فيقول له الزم حقوي فلن أدعك اليوم لشيء، فيلزمه حتى يأتي الصراط فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعانا أمذر فيتبرأ منه حينئذ.
قال القاضي أبو محمد: وربط أمر الاستغفار بالآخرة ضعيف، وقوله إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ثناء من الله تعالى على إبراهيم، و «الأواه» قال ابن مسعود هو الدعّاء، وقيل هو الداعي بتضرع، وقيل هو الموقن قاله ابن عباس، وقيل هو الرحيم قاله ابن مسعود أيضا، وقيل هو المؤمن التواب، وقيل هو المسبح وقيل هو الكثير الذكر لله عز وجل، وقيل هو التلّاء للقرآن، وقيل هو الذي يقول من خوفه لله عز وجل أبدا أوه ويكثر ذلك.
وروي أن أبا ذر سمع رجلا يكثر ذلك في طوافه فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
«دعه فإنه أواه» .
والتأوه التفجع الذي يكثر حتى ينطق الإنسان معه، ب «أوه» ، ويقال أوه فمن الأول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال في بيع أو شراء أنكره عليه: أوه، ذلك الربا بعينه ومن الثاني قول الشاعر:
[الطويل]
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها ... ومن بعد أرض بيننا وسماء
ومن هذا المعنى قول المثقب العبدي: [الوافر]
إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوّه آهة الرجل الحزين

(3/91)


لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)

ويروى آهة، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم، «أوه لأفراخ محمد» ، وحَلِيمٌ معناه صابر محتمل عظيم العقل، والحلم العقل، وقوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً الآية معناه التأنيس للمؤمنين، وقيل: إن بعضهم خاف على نفسه من الاستغفار للمشركين دون أمر من الله تعالى فنزلت الآية مؤنسة، أي ما كان الله بعد أن هدى إلى الإسلام وأنقذ من النار ليحبط ذلك ويضل أهله لمواقعتهم ذنبا لم يتقدم منه نهي عنه، فأما إذا بين لهم ما يتقون من الأمور ويتجنبون من الأشياء فحينئذ من واقع بعد النهي استوجب العقوبة، وقيل: إن هذه الآية إنما نزلت بسبب قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا غيبا فحولت القبلة فصلوا قبل أن يصلهم ذلك إلى بيت المقدس، وآخرين شربوا الخمر بعد تحريمها قبل أن يصل إليهم، فخافوا على أنفسهم وتكلموا في ذلك فنزلت الآية، والقول الأول أصوب وأليق بالآية، وذهب الطبري إلى أن قوله، يُحْيِي وَيُمِيتُ إشارة إلى أنها يجب أيها المؤمنون ألا تجزعوا من عدو وإن كثر، ولا تهابوا أحدا فإن الموت المخوف والحياة المحبوبة إنما هما بيد الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى الذي قال صحيح في نفسه ولكن قوله، إن القصد بالآية إنما هو لهذا قول يبعد، والظاهر في الآية إنما هو لما نص في الآية المتقدمة نعمته وفضله على عبيده في أنه متى منّ عليهم بهداية ففضله أسبغ من أن يصرفهم ويضلهم قبل أن تقع منهم معصية ومخالفة أمر أتبع ذلك بأوصاف فيها تمجيد الله عز وجل وتعظيمه وبعث النفوس على إدمان شكره والإقرار بعبوديته.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 119]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
«التوبة» من الله رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها، فقد تكون في الأكثر رجوعا من حالة طاعة إلى أكمل منها وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه رجع به من حاله قبل تحصيل الغزوة وأجرها وتحمل مشقاتها إلى حاله بعد ذلك كله، وأما توبته على «المهاجرين والأنصار» فحالها معرضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين، وأما توبته على الفريق الذي كاد أن يزيغ فرجوع من حالة محطوطة إلى حال غفران ورضا، واتَّبَعُوهُ معناه: دخلوا في أمره وانبعاثه ولم يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، وقوله فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ، يريد في وقت العسرة فأنزل الساعة منزلة المدة والوقت والزمن، وإن كان عرف الساعة في اللغة أنه لما قلّ من الزمن كالقطعة من النهار.
ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم في رواح يوم الجمعة «في الساعة الأولى وفي الثانية» الحديث،

(3/92)


فهي هنا بتجوز، ويمكن أن يريد بقوله فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة وبها وفيها يقع الأجر على الله، وترتبط النية، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد اتبع في ساعة العسرة ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرتهم لما اختل كونهم متبعين «في ساعة عسرة» والْعُسْرَةِ الشدة وضيق الحال والعدم، ومنه قوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ [البقرة: 280] وهذا هو جيش العسرة الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف جمل وألف دينار.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلب الدنانير بيده وقال: وما على عثمان ما عمل بعد هذا، وجاء أيضا رجل من الأنصار بسبعمائة وسق من تمر، وقال مجاهد وقتادة: إن العسرة بلغت بهم في تلك الغزوة وهي غزوة تبوك إلى أن قسموا التمرة بين رجلين، ثم كان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمضغها أحدهم ويشرب عليها الماء ثم يفعل كلهم بها ذلك.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وأصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء ويعصرون الفرث حتى استسقى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه يدعو فما رجعهما حتى انسكبت سحابة فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر، وحينئذ قال رجل من المنافقين: وهل هذه إلا سحابة مرت، وكانت الغزوة في شدة الحر، وكان الناس كثيرا، فقل الظهر فجاءتهم العسرة من جهات، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أوائل بلد العدو فصالحه أهل أذرج وأيلة وغيرهما على الجزية ونحوها، وانصرف وأما «الزيغ» الذي كادت قلوب فريق منهم أن تواقعه، فقيل همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة والعسرة، قاله الحسن، وقيل زيغها إنما كان بظنون لها ساءت في معنى عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الغزوة لما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد المشقة وقوة العدو المقصود، وقرأ جمهور الناس وأبو بكر عن عاصم «تزيغ» بالتاء من فوق على لفظ القلوب.
وروي عن أبي عمرو أنه كان يدغم الدال في التاء، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم والأعمش والجحدري «يزيغ» بالياء على معنى جمع القلوب، وقرأ ابن مسعود «من بعد ما زاغت قلوب فريق» ، وقرأ أبي بن كعب «من بعد ما كادت تزيغ» ، وأما كان فيحتمل أن يرتفع بها ثلاثة أشياء أولها وأقواها القصة والشأن هذا مذهب سيبويه، وترتفع «القلوب» على هذا ب «تزيغ» ، والثاني أن يرتفع بها ما يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار أولا، ويقدر ذلك القوم فكأنه قال من بعد ما كاد القوم تزيغ قلوب فريق منهم، والثالث أن يرتفع بها «القلوب» ويكون في قوله «تزيغ» ضمير «القلوب» ، وجاز ذلك تشبيها بكان في قوله كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم: 47] وأيضا فلأن هذا التقديم للخبر يراد به التأخير، وشبهت كادَ ب «كان» للزوم الخبر لها، قال أبو علي ولا يجوز ذلك في عسى.
ثم أخبر عز وجل أنه تاب أيضا على هذا الفريق وراجع به، وأنس بإعلامه للأمة بأنه رَؤُفٌ رَحِيمٌ، والثلاثة هم كعب بن مالك وهلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري ويقال ابن ربيعة ويقال

(3/93)


ابن ربعي، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم وهو في السير، فلذلك اختصرنا سوقه، وهم الذين تقدم فيهم وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ [التوبة: 106] ، ومعنى خُلِّفُوا أخروا وترك أمرهم ولم تقبل منهم معذرة ولا ردت عليهم، فكأنهم خلفوا عن المعتذرين، وقيل معنى خُلِّفُوا أي عن غزوة تبوك، قاله قتادة وهذا ضعيف وقد رده كعب بن مالك بنفسه وقال: معنى خُلِّفُوا تركوا عن قبول العذر وليس بتخلفنا عن الغزو، ويقوي ذلك من اللفظة جعله إذا ضاقت غاية للتخليف ولم يكن ذلك عن تخليفهم عن الغزو، وإنما ضاقت عليهم الأرض عن تخليفهم عن قبول العذر، وقرأ الجمهور «خلّفوا» بضم الخاء وشد اللام المكسورة، وقرأ عكرمة بن هارون المخزومي وزر بن حبيش وعمرو بن عبيد وأبو عمرو أيضا «خلفوا» بفتح الخاء واللام غير مشددة، وقرأ أبو مالك «خلفوا» بضم الخاء وتخفيف اللام المكسورة، وقرأ أبو جعفر محمد بن علي وعلي بن الحسين وجعفر بن محمد وأبو عبد الرحمن «خالفوا» والمعنى قريب من التي قبلها، وقال أبو جعفر ولو خلفوا لم يكن لهم ذنب، وقرأ الأعمش «وعلى الثلاثة المخلفين» ، وقوله: بِما رَحُبَتْ معناه برحبها كأنه قال: على ما هي في نفسها رحبة، ف «ما» مصدرية، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ استعارة لأن الغم والهم ملأها، وَظَنُّوا في هذه الآية بمعنى أيقنوا وحصل علم لهم وقوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا لما كان هذا القول في تعديد نعمه بدا في ترتيبه بالجهة التي هي عن الله عز وجل ليكون ذلك منبها على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره، ولو كان القول في تعديد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي عن المذنب كما قال الله تعالى:
فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] ليكون هذا أشد تقريرا للذنب عليهم، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه، وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها إنما يكمل مع مطالعة حديث «الثلاثة» الذين خلفوا في الكتب التي ذكرنا، وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأن الشرع يطلبهم من الجد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه إذ هم أسوة وحجة للمنافقين والطاعنين، إذ كان كعب من أهل العقبة وصاحباه من أهل بدر.
وفي هذا يقتضي أن الرجل العالم والمقتدى به أقل عذرا في السقوط من سواه، وكتب الأوزاعي رحمه الله إلى المنصور أبي جعفر في آخر رسالة: واعلم أن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تزيد حق الله عليك إلا عظما ولا طاعته إلا وجوبا ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكارا والسلام، ولقد أحسن القاضي التنوخي في قوله: [الكامل] والعيب يعلق بالكبير كبير وفي بعض طرق حديث «الثلاثة» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ليلة نزول توبتهم في بيت أم سلمة، وكانت لهم صالحة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أمّ سلمة: تيب على كعب بن مالك وصاحبيه» ، فقالت يا رسول الله ألا أبعث إليهم؟ فقال «إذا يحطمكم الناس سائر الليلة فيمنعوكم النوم» ، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، هذا الأمر بالكون مع أهل الصدق حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين، فجاء هذا الأمر اعتراضا في أثناء

(3/94)


مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)

الكلام إذ عن في القصة ما يجب التنبيه علي امتثاله، وقال ابن جريج وغيره: الصدق في هذه الآية هو صدق الحديث، وقال نافع والضحاك ما معناه: إن اللفظ أعم من صدق الحديث، وهو بمعنى الصحة في الدين والتمكن في الخير، كما تقول العرب: عود صدق ورجل صدق، وقالت هذه الفرقة: كونوا مع محمد وأبي بكر وعمر وأخيار المهاجرين الذين صدقوا الله في الإسلام ومع في هذه الآية تقتضي الصحبة في الحال والمشاركة في الوصف المقتضي للمدح، وقرأ ابن مسعود وابن عباس «وكونوا من الصادقين» ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابن مسعود رضي الله عنه يتأوله في صدق الحديث.
وروي عنه أنه قال: الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، اقرأوا إن شئتم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 121]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121)
هذه معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها على التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوه، وقوة الكلام تعطي الأمر بصحبته إلى توجهه غازيا وبذل النفوس دونه، واختلف المتأولون فقال قتادة: كان هذا الإلزام خاصا مع النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب النفر إلى الغزو إذا خرج هو بنفسه ولم يبق هذا الحكم مع غيره من الخلفاء، وقال زيد بن أسلم: كان هذا الأمر والإلزام في قلة الإسلام والاحتياج إلى اتصال الأيدي ثم نسخ عند قوة الإسلام بقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] .
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله في الانبعاث إلى غزو العدو على الدخول في الإسلام، وأما إذا ألم العدو بجهة فمتعين على كل أحد القيام بذبه ومكافحته، وأما قوله تعالى: وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ فمعناه أن لا يحتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الله مشقة ويجود بنفسه في سبيل الله فيقع منهم شح على أنفسهم ويكعون عما دخل هو فيه، ثم ذكر تعالى لم لم يكن لهم التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ ... الآية. و «النصب» التعب. ومنه قول النابغة: [الطويل] كليني لهم يا أميمة ناصب أي ذي نصب. ومنه قوله تعالى: لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً [الكهف: 62] و «المخمصة»

(3/95)


وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)

مفعلة من خموص البطن وهي ضموره، واستعير ذلك لحالة الجوع إذ الخموص ملازم له، ومن ذلك قول الأعشى: [الطويل]
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
ومنه أخمص القدم والخمصانة من النساء، وقوله تعالى: وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً أي ولا ينتهون من الأرض منتهى مؤذيا للكفار، وذلك هو الغائظ ومنه في المدونة كنا لا نتوضأ من موطىء من قول ابن مسعود، وقوله تعالى: وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا لفظ عام لقليل ما يصنعه المؤمنون بالكفرة من أخذ مال أو إيراد هوان وكثيره، والنيل مصدر نال ينال وليس من قولهم نلت أنوله نولا ونوالا وقيل هو منه، وبدلت الواو ياء لخفتها هنا وهذا ضعيف، والطبري قد ذكر نحوه وضعفه وقال ليس ذلك المعروف من كلام العرب، وقوله وَلا يُنْفِقُونَ الآية، قدم الصغيرة للاهتمام أي إذا كتبت الصغيرة فالكبيرة أحرى، و «الوادي» ما بين جبلين كان فيه ماء أو لم يكن، وجمعه أودية، وليس في كلام العرب فاعل وأفعلة إلا في هذا الحرف وحده، وفي الحديث «ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعدا إلا ازدادوا من الله قربا» .
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 122 الى 123]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
قالت فرقة: سبب هذه الآية أن المؤمنين الذين كانوا بالبادية سكانا ومبعوثين لتعليم الشرع لما سمعوا قول الله عز وجل: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ [الكهف: 62] أهمهم ذلك فنفروا إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يكونوا مذنبين في التخلف عن الغزو فنزلت هذه الآية في نفرهم ذلك، وقالت فرقة: سبب هذه الآية أن المنافقين لما نزلت الآيات في المتخلفين قالوا هلك أهل البوادي فنزلت هذه الآية مقيمة لعذر أهل البوادي.
قال القاضي أبو محمد: فيجيء قوله تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ [الكهف: 62] عموم في اللفظ والمراد به في المعنى الجمهور والأكثر، وتجيء هذه الآية مبينة لذلك مطردة الألفاظ متصلة المعنى من قوله تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ إلى قوله يَحْذَرُونَ بين في آخر الآية العموم الذي في أولها إذ هو معرض أن يتأول فيه ألا يتخلف بشر، و «التفقه» هو من النافرين، و «الإنذار» هو منهم، والضمير في رَجَعُوا لهم أيضا، وقالت فرقة هذه: الآية ليست في معنى الغزو وإنما سببها أن قبائل من العرب لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين أصابتهم مجاعة وشدة، فنفروا إلى المدينة لمعنى المعاش فكادوا أن يفسدوها، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان وإنما أضرعه الجوع فنزلت الآية في ذلك، فقال وما كان من صفته الإيمان لينفر مثل هذا النفر أي ليس هؤلاء المؤمنين، وقال ابن عباس ما معناه: إن

(3/96)


هذه الآية مختصة بالبعوث والسرايا، والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو، وهذه ثابتة الحكم مع تخلفه أي يجب إذا تخلف ألا ينفر الناس كافة فيبقى هو منفردا وإنما ينبغي أن تنفر طائفة وتبقى طائفة لتتفقه هذه الباقية في الدين، وينذروا النافرين إذا رجع النافرون إليهم، وقالت فرقة: هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الكافة النفير والقتال، والضمير في قوله لِيَتَفَقَّهُوا عائد أيضا على هذا التأويل على الطائفة المتخلفة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو القول الأول في ترتيبنا هذا عائد على الطائفة النافرة، وكذلك يترتب عوده مع بعض الأقوال على هذه ومع بعضها على هذه، والجمهور على أن «التفقه» إنما هو بمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته، وقالت فرقة يشبه أن يكون «التفقه» في الغزو في السرايا لما يرون من نصرة الله لدينه وإظهاره العدد القليل من المؤمنين على الكثير من الكافرين وعلمهم بذلك صحة دين الإسلام ومكانته من الله تعالى، ورجحه الطبري وقواه، والآخر أيضا قوي، والضمير في قوله لِيُنْذِرُوا عائد على المتفقهين بحسب الخلاف، و «الإنذار» عام للكفر والمعاصي والحذر منها أيضا كذلك، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ الآية، قيل هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال الكفار كافة فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول يضعفه هذه الآية من آخر ما نزل، وقالت فرقة: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما تجاوز قوما من الكفار غازيا لقوم آخرين أبعد منهم، فأمر الله تعالى بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة، وقالت فرقة: الآية مبينة صورة القتال كافة وهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة، ومعناها أن الله تبارك وتعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجنس الذي يصاقبه من الكفرة، وهذا هو القتال لكلمة الله ورد الناس إلى الإسلام، وأما إذا مال العدو إلى صقع من أصقاع المسلمين ففرض على من اتصل به من المسلمين كفاية عدو ذلك الصقع وإن بعدت الدار ونأت البلاد، وقال قائلو هذه المقالة: نزلت الآية مشيرة إلى قتال الروم بالشام لأنهم كانوا يومئذ العدو الذي يلى ويقرب إذ كانت العرب قد عمها الإسلام وكانت العراق بعيدة، ثم لما اتسع نطاق الإسلام توجه الفرض في قتال الفرس والديلم وغيرهما من الأمم، وسأل ابن عمر رجل عن قتال الديلم فقال: عليك بالروم، وقال الحسن: هم الروم والديلم.
قال القاضي أبو محمد: يعني في زمنه ذلك، وقاله علي بن الحسين، وقال ابن زيد: المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29] إلى قوله حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة: 29] ، وقرأ جمهور الناس «غلظة» بكسر الغين، وقرأ المفضل عن عاصم والأعمش «غلظة» بفتحها، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبان بن ثعلبة وابن أبي عبلة «غلظة» بضمها، وهي قراءة أبي حيوة ورواها المفضل عن عاصم أيضا، قال أبو حاتم رويت الوجوه الثلاثة عن أبي عمرو، وفي هاتين القراءتين شذوذ وهي لغات، ومعنى الكلام وليجدوا فيكم خشونة وبأسا، وذلك مقصود به القتال، ومنه عَذابٍ غَلِيظٍ [إبراهيم: 17، لقمان: 24، فصلت: 50، هود: 58] وغَلِيظَ الْقَلْبِ [آل عمران: 129] وغِلاظٌ شِدادٌ [التحريم: 6] في صفة الزبانية، وغلظت علينا كبده في حفر الخندق إلى غير ذلك، ثم وعد تعالى في

(3/97)


وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)

آخر الآية وحض على التقوى التي هي ملاك الدين والدنيا وبها يلقى العدو، وقد قال بعض الصحابة: إنما تقاتلون الناس بأعمالكم وأهلها هم المجدون في طرق الحق فوعد تعالى أنه مع أهل التقوى ومن كان الله معه فلن يغلب.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 126]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
هذه الآية نزلت في شأن المنافقين، والضمير في قوله فَمِنْهُمْ عائد على المنافقين، وقوله تعالى:
أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً يحتمل أن يكون لمنافقين مثلهم، ويحتمل أن يكون لقوم من قراباتهم من المؤمنين يستنيمون إليهم ويثقون بسترهم عليهم ويطمعون في ردهم إلى النفاق، ومعنى أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً الاستخفاف والتحقير لشأن السورة كما تقول أي غريب في هذا أو أي دليل، ثم ابتدأ عز وجل الرد عليهم والحكم بما يهدم لبسهم فأخبر أن المؤمنين الموقنين قد «زادتهم إيمانا» وأنهم يَسْتَبْشِرُونَ من ألفاظها ومعانيها برحمة الله ورضوانه، والزيادة في الإيمان موضع تخبط للناس وتطويل، وتلخيص القول فيه أن الإيمان الذي هو نفس التصديق ليس مما يقبل الزيادة والنقص في نفسه، وإنما تقع الزيادة في المصدق به، فإذا نزلت سورة من الله تعالى، حدث للمؤمنين بها تصديق خاص لم يكن قبل، فتصديقهم بما تضمنته السورة من إخبار وأمر ونهي أمر زائد على الذي كان عندهم قبل، فهذا وجه من زيادة الإيمان، ووجه آخر أن السورة ربما تضمنت دليلا أو تنبيها عليه فيكون المؤمن قد عرف الله بعدة أدلة، فإذا نزلت السورة زادت في أدلته، وهذه أيضا جهة أخرى من الزيادة، وكلها خارجة عن نفس التصديق إذا حصل تاما، فإنه ليس يبقى فيه موضع زيادة، ووجه آخر من وجوه الزيادة أن الرجل ربما عارضه شك يسير أو لاحت له شبهة مشغبة فإذا نزلت السورة ارتفعت تلك الشبهة واستراح منها، فهذا أيضا زيادة في الإيمان إذ يرتقي اعتقاده عن مرتبة معارضة تلك الشبهة إلى الخلوص منها، وأما على قول من يسمي الطاعات إيمانا وذلك مجاز عند أهل السنة فتترتب الزيادة بالسورة إذ تتضمن أوامر ونواهي وأحكاما، وهذا حكم من يتعلم العلم في معنى زيادة الإيمان ونقصانه إلى يوم القيامة، فإن تعلم الإنسان العلم بمنزلة نزول سورة القرآن والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم المنافقون، وهذا تشبيه وذلك أن السالم المعتقد المنشرح الصدر بالإيمان يشبهه الصحيح، والفاسد المعتقد يشبهه المريض، ففي العبارة مجاز فصيح لأن المرض والصحة إنما هي خاصة في الأعضاء، فهي في المعتقدات مجاز، و «الرجس» في هذه الآية عبارة عن حالهم التي جمعت معنى الرجس في اللغة، وذلك أن الرجس في اللغة يجيء بمعنى القذر ويجيء بمعنى العذاب، وحال هؤلاء المنافقين هي قذر وهي عذاب عاجل كفيل بآجل، وزيادة «الرجس إلى الرجس» هي عمههم في الكفر

(3/98)


وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

وخبطهم في الضلال يعاقبهم الله على الكفر والإعراض بالختم على قلوبهم والختم بالنار عليهم، وإذ كفروا بسورة فقد زاد كفرهم فذلك زيادة رجس إلى رجسهم، وقوله: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ الآية، قرأ الجمهور «أو لا يرون» بالياء على معنى أو لا يرى المنافقون، وقرأ حمزة «أو لا ترون» بالتاء على معنى أو لا ترون أيها المؤمنون، فهذا تنبيه للمؤمنين، وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب والأعمش «أو لا ترى» أي أنت يا محمد.
وروي عن الأعمش أيضا أنه قرأ «أو لم تروا» .
وذكر عنه أبو حاتم «أو لم تر» ، وقال مجاهد يُفْتَنُونَ معناه يختبرون بالسنة والجوع، وحكى عنه النقاش أنه قال مرضة أو مرضتين، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة: معناه يختبرون بالأمر بالجهاد، والذي يظهر مما قبل الآية ومما بعدها أن الفتنة والاختبار إنما هي بكشف الله تعالى أسرارهم وإفشائه عقائدهم، فهذا هو الاختبار الذي تقوم عليه الحجة برؤيته وترك التوبة، وأما الجهاد أو الجوع فلا يترقب معهما ما ذكرناه، فمعنى الآية على هذا فلا يزدجر هؤلاء الذين تفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين بحسب واحد ويعلمون أن ذلك من عند الله فيتوبون ويتذكرون وعد الله ووعيده، وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين وقد كان الحسن ينشد:
أفي كل عام مرضة ثم نقهة ... فحتى متى حتى متى وإلى متى
وقالت فرقة: معنى يُفْتَنُونَ بما يشيعه المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأكاذيب، فكأن الذي في قلوبهم مرض يفتنون في ذلك، وحكى الطبري هذا القول عن حذيفة وهو غريب من المعنى.
قوله عز وجل:

[سورة التوبة (9) : الآيات 127 الى 129]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
الضمير في قوله بَعْضُهُمْ عائد على المنافقين، والمعنى وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحة أسرارهم نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ على جهة التقريب، يفهم من تلك النظرة التقرير: هل معكم من ينقل عنكم؟
هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم؟ وقوله تعالى: ثُمَّ انْصَرَفُوا معناه عن طريق الاهتداء. وذلك أنهم حين ما يبين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة ذلك، فهم إذ يصممون على الكفر ويرتبكون فيه كأنهم انصرفوا عن تلك الحال التي كانت مظنة النظر الصحيح والاهتداء، وابتدئ بالفعل المسند إليهم إذ هو تعديد ذنب على ما

(3/99)


قد بيناه، وقوله: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ يحتمل أن يكون دعاء عليهم، ويحتمل أن يكون خبرا أي استوجبوا ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي لا يفهمون عن الله ولا عن رسوله، وأسند الطبري في تفسير هذه الآية عن ابن عباس أنه قال: لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا قضينا الصلاة.
قال القاضي أبو محمد: فهذا النظر الذي في هذه الآية هو إيماء، وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال: نظر في هذه الآية في موضع قال، وقوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ مخاطبة للعرب في قول الجمهور وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم في ذلك، إذ جاء بلسانهم وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة وشرفوا به غابر الأيام، وقال الزجّاج: هي مخاطبة لجميع العالم، والمعنى لقد جاءكم رسول من البشر والأول أصوب، وقوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ يقتضي مدحا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وشرفها، وينظر إلى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم» ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إني من نكاح ولست من سفاح» معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنى، وقرأ عبد الله بن قسيط المكي «من أنفسكم» بفتح الفاء من النفاسة، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن فاطمة رضي الله عنها، ذكر أبو عمرو أن ابن عباس رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله ما عَنِتُّمْ معناه عنتكم ف ما مصدرية وهي ابتداء، وعَزِيزٌ خبر مقدم، ويجوز أن يكون ما عَنِتُّمْ فاعلا ب عَزِيزٌ وعَزِيزٌ صفة للرسول، وهذا أصوب من الأول والعنت المشقة وهي هنا لفظة عامة أي ما شق عليكم من كفر وضلال بحسب الحق ومن قتل أو أسار وامتحان بسبب الحق واعتقادكم أيضا معه، وقال قتادة: المعنى عنت مؤمنيكم.
قال القاضي أبو محمد: وتعميم عنت الجميع أوجه، وقوله: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ يريد على إيمانكم وهداكم، وقوله: رَؤُفٌ معناه مبالغ في الشفقة، قال أبو عبيدة: الرأفة أرق الرحمة، وقرأ «رؤف» دون مد الأعمش وأهل الكوفة وأبو عمرو ثم خاطب النبي صلى الله عليه وسلم، بعد تقريره عليهم هذه النعمة فقال: فَإِنْ تَوَلَّوْا يا محمد أي أعرضوا بعد هذه الحال المتقررة التي من الله عليهم بها فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ معناه وأعمالك بحسب قوله من التفويض إلى الله والتوكل عليه والجد في قتالهم، وليست بآية موادعة لأنها من آخر ما نزل، وخصص الْعَرْشِ بالذكر إذ هو أعظم المخلوقات، وقرأ ابن محيصن «العظيم» برفع الميم صفة للرب، ورويت عن ابن كثير، وهاتان الآيتان لم توجدا حين جمع المصحف إلا في حفظ خزيمة بن ثابت، ووقع في البخاري أو أبي خزيمة، فلما جاء بهما تذكرهما كثير من الصحابة، وقد كان زيد يعرفهما ولذلك قال: فقدت آيتين من آخر سورة التوبة ولو لم يعرفهما لم يدر هل فقد شيئا أم لا، فإنما ثبتت الآية بالإجماع لا بخزيمة وحده، وأسند الطبري في كتابه قال: كان عمر لا يثبت آية في المصحف إلا أن يشهد عليها رجلان، فلما جاء خزيمة بهاتين الآيتين قال: والله لا أسألك عليهما بينة أبدا فإنه هكذا كان صلى الله عليه وسلم.

(3/100)


قال القاضي أبو محمد: يعني صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي تضمنتها الآية، وهذا والله أعلم قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مدة أبي بكر حين الجمع الأول وحينئذ فقدت الآيتان ولم يجمع من القرآن شيء في خلافة عمر، وخزيمة بن ثابت هو المعروف بذي الشهادتين، وعرف بذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمضى شهادته وحده في ابتياع فرس وحكم بها لنفسه صلى الله عليه وسلم، وهذا خصوص لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر النقاش عن أبيّ بن كعب أنه قال أقرب القرآن عهدا بالله تعالى هاتان الآيتان لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ إلى آخر الآية.

(3/101)