تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة ص
هذه السورة مكية بإجماع من المفسرين.
قوله عز وجل:

[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5)
قرأ الحسن وأبي بن كعب وابن أبي إسحاق: «صاد» بكسر الدال على أنه أمر من صادى يصادي إذا ضاهى وماثل، أي صار كالصدى الذي يحكي الصياح، والمعنى: ماثل القرآن بعلمك وقارنه بطاعتك، وهكذا فسر الحسن، أي انظر أين عملك منه، وقال جمهور الناس: إنه حرف المعجم المعروف، ويدخله ما يدخل سائر أوائل السور من الأقوال، ويختص هذا الموضع بأن قال بعض الناس: معناه صدق محمد.
وقال الضحاك معناه: صدق الله، وقال محمد بن كعب القرظي: هو مفتاح أسماء الله: صمد صادق الوعد، صانع المصنوعات، وقرأها الجمهور: «صاد» بسكون الدال، وقرأ ابن أبي إسحاق بخلاف عنه «صاد» بكسر الدال وتنوينها على القسم، كما تقول: الله لأفعلن. وحكى الطبري وغيره عن ابن أبي إسحاق:
«صاد» بدون تنوين، وألحقه بقول العرب: خاث باث، وخار وباز. وقرأ فرقة منها عيسى بن عمر: «صاد» بفتح الدال، وكذلك يفعل في نطقه بكل الحروف، يقول: قاف، ونون، ويجعلها كأين وليت. قال الثعلبي، وقيل معناه: صاد محمد القلوب، بأن استمالها للإيمان.
وقوله: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ قسم. وقال السدي وابن عباس وسعيد بن جبير، معناه ذي الشرف الباقي المخلد. وقال قتادة والضحاك: ذي التذكرة للناس والهداية لهم. وقالت فرقة معناه: ذي الذكر للأمم والقصص والغيوب. وأما جواب القسم فاختلف فيه، فقالت فرقة: الجواب في قوله: ص إذ هو بمعنى صدق محمد، أو صدق الله. وقال الكوفيون والزجاج، الجواب قوله: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: 64] . وقال بعض البصريين ومنهم الأخفش، الجواب في قوله: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ [ص: 14] .
قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان بعيدان.

(4/491)


وقال قتادة والطبري: الجواب مقدر قبل بل، وهذا هو الصحيح، تقديره: والقرآن ما الأمر كما يزعمون، ونحو هذا من التقدير فتدبره. وحكى الزجاج عن قوم أن الجواب قوله: كَمْ أَهْلَكْنا وهذا متكلف جدا. والعزة هنا: المعازة والمغالبة. والشقاق: نحوه أي هم في شق، والحق في شق. و: كَمْ للتكثير، وهي خبر فيه مثال ووعيد، وهي في موضع نصب ب أَهْلَكْنا. والقرن الأمة من الناس يجمعها زمن أحد، وقد تقدم تحريره مرارا.
وقوله: فَنادَوْا معناه: مستغيثين، والمعنى أنهم فعلوا ذلك بعد المعاينة فلم ينفع ذلك، ولم يكن في وقت نفع. وَلاتَ بمعنى: ليس، واسمها مقدر عند سيبويه، تقديره ولات الحين حين مناص، وهي: لا (لحقتها: تاء، كما تقول) ربت وثمت. قال الزجاج: وهي كتاء جلست وقامت، تاء الحروف كتاء الأفعال دخلت على ما لا يعرب في الوجهين، ولا تستعمل «لا» مع التاء إلا في الحين والزمان والوقت ونحوه، فمن ذلك قول الشاعر [محمد بن عيسى بن طلحة] : [الكامل] لات ساعة مندم وقال الآخر: [الوافر]
تذكر حب ليلى لات حينا ... وأضحى الشيب قد قطع القرينا
وأنشد بعضهم في هذا المعنى: [الخفيف]
طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء
وأنشد الزجاج بكسر التاء، وهذا كثير، قراءة الجمهور: فتح التاء من: «لات» والنون من: «حين» وروي عن عيسى كسر التاء من: «لات» ونصب النون. وروي عنه أيضا: «حين» بكسر النون، واختلفوا في الوقف على: لاتَ فذكر الزجاج أن الوقف بالتاء، ووقف الكسائي بالهاء، ووقف قوم واختاره أبو عبيد على «لا» ، وجعلوا التاء موصولة ب حِينَ، فقالوا «لا تحين» . وذكر أبو عبيد أنها كذلك في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويحتج لهذا بقول أبي وجزة: [الكامل]
العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان ما من مطعم
يمدح آل الزبير. وقرأ بعض الناس: «لات حين» برفع النون من: حِينَ على إضمار الخبر.
والمناص: المفر، ناص ينوص، إذا فات وفر، قال ابن عباس: المعنى ليس بحين نزو ولا فرار ضبط القوم. والضمير في: عَجِبُوا لكفار قريش، واستغربوا أن نبىء بشر منهم فأنذرهم، وأن وحد إلها، وقالوا: كيف يكون إله واحد يرزق الجميع وينظر في كل أمرهم؟ و: عُجابٌ بناء مبالغة، كما قالوا سريع وسراع، وهذا كثير.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعيسى بن عمر: «عجّاب» بشد الجيم، ونحوه قول الراجز: [الرجز]
جاؤوا بصيد عجب من العجب ... أزيد والعينين طوال الذنب

(4/492)


وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)

وقد قالوا: رجل كرام، أي كريم.
قوله عز وجل:

[سورة ص (38) : الآيات 6 الى 9]
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
روي في قصص هذه الآية أن أشراف قريش وجماعتهم اجتمعوا عند مرض أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن من القبيح علينا أن يموت أبو طالب ونؤذي محمدا بعده، فتقول العرب:
تركوه مدة عمه، فلما مات آذوه، ولكن لنذهب إلى أبي طالب فلينصفنا منه، وليربط بيننا وبينه ربطا، فنهضوا إليه، فقالوا يا أبا طالب إن محمدا يسب ويسفه آراءنا وآراء آبائنا ونحن لا نقاره على ذلك، ولكن افصل بيننا وبينه في حياتك، بأن يقيم في منزله يعبد ربه الذي يزعم، ويدع آلهتنا، ولا يعرض لأحد منا بشيء من هذا، فبعث أبو طالب في محمد صلى الله عليه وسلم، فقال يا محمد، إن قومك قد دعوك إلى النصفة، وهي أن تدعهم وتعبد ربك وحدك، فقال: أو غير ذلك يا عم؟ قال وما هو؟ قال: يعطوني كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم الجزية بها العجم قالوا وما هي؟ فإنا نبادر إليها، قال: لا إله إلا الله، فنفروا عند ذلك، وقالوا ما يرضيك منا غير هذا؟ قال: والله لو أعطيتموني الأرض ذهبا ومالا. وفي رواية:
لو جعلتم الشمس في يميني والقمر في شمالي ما أرضاني منكم غيرها، فقاموا عند ذلك، وبعضهم يقول:
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] ويرددون هذا المعنى، وعقبة بن أبي معيط يقول: امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ.
وجلبت هذا الخبر تام المعنى، وفي بعض رواياته زيادة ونقصان، والغرض متقارب، ولما ذهبوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال: والله لولا أن تكون سبة في بني بعدي لأقررت بها عينك، ومات وهو يقول: على ملة عبد المطلب، فنزلت في ذلك:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] وانطلق.
فقوله تعالى في هذه الآية: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ عبارة عن خروجهم عن أبي طالب وانطلاقهم من ذلك الجمع، هذا قول جماعة من المفسرين. وقالت فرقة: هي عبارة عن إذاعتهم لهذه الأقاويل، فكأنه كما يقول الناس: انطلق الناس بالدعاء للأمير ونحوه، أي استفاض كلامهم بذلك، والْمَلَأُ الأشراف والرؤوس الذين يسدون مسد الجميع في الآراء ونحوه.
وقوله: أَنِ امْشُوا أَنِ مفسرة لا موضع لها في الإعراب، ويجوز أن يكون في موضع نصب بإسقاط حرف الجر، أي بأن، فهي بتقدير المصدر، كأنه قال: وانطلق الملأ منهم بقولهم: امشوا ومعنى الآية أنه قال بعضهم لبعض امشوا واصبروا على كل أمر آلهتكم، وذهب بعض الناس إلى أن قولهم:

(4/493)


أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)

امْشُوا، هو دعاء بكسب الماشية، وفي هذا ضعف، لأنه كان يلزم أن تكون الألف مقطعوعة، لأنه إنما يقال: أمشى الرجل إذا صار صاحب ماشية، وأيضا فهذا المعنى غير متمكن في الآية، وإنما المعنى:
سيروا على طريقتكم ودوموا على سيركم، أو يكون المعنى: أمر من نقل الأقدام، قالوه عند انطلاقهم، وهو في مصحف عبد الله بن مسعود: «وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا» .
وقولهم: إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ يريدون ظهور محمد وعلوه بالنبوة، أي يراد منا: الانقياد إليه:
وقولهم: ما سَمِعْنا بِهذا يريدون بمثل هذه المقالة أن الإله واحد.
واختلف المتأولون في قولهم: فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ فقال مجاهد: أرادوا ملتهم ونحلتهم التي العرب عليها، ويقال لكل ما تتبعه أمة ما ملة. وقال ابن عباس والسدي: أراد ملة النصارى، وذلك متجه، لأنها ملة شهير فيها التثليث، وأن الإله ليس بواحد. وقالت فرقة معنى قولهم: ما سَمِعْنا أنه يكون مثل هذا، ولا أنه يقال في الملة الآخرة التي كنا نسمع أنها تكون في آخر الزمان، وذلك أنه قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كان الناس يستشعرون خروج نبي وحدوث ملة ودين، ويدل على صحة هذا ما روي من قول الأحبار ذوي الصوامع، وما روي عن شق وسطيح، وما كانت بنو إسرائيل تعتقد من أنه يكون منهم.
وقولهم: إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ إشارة إلى جميع ما يخبر به محمد صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، ثم قالوا على جهة التقرير من بعضهم لبعض، ومضمن ذلك الإنكار: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بمعنى نحن الأشراف الأعلام، فلم خص هذا؟ وكيف يصح هذا؟ فرد الله تعالى قولهم بما تقضيه بل، لأن المعنى ليس تخصيص الله وإنعامه جار على شهواتهم، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أي في ريب أن هذا التذكير بالله حق، ثم توعدهم بقوله: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي لو ذاقوه لتحققوا أن هذه الرسالة حق، أي هم لجهالتهم لا يبين لهم النظر، وإنما يبين لهم مباشرة العذاب.
وقرأ ابن مسعود: «أم أنزل» بميم بين الهمزتين، ثم وقفهم احتجاجا عليهم، أعندهم رحمة ربك وخزائنها التي فيها الهدى والنبوءة وكل فضل، فيكون لهم تحكم في الرسالة وغيرها من نعم الله. وأَمْ:
هنا، لم تعادلها ألف، فهي المقطوعة التي معناها إضراب عن الكلام الأول واستفهام، وقدرها سيبويه ب «بل» والألف كقول العرب: إنها لإبل أم شاء. والخزائن للرحمة مستعارة، كأنها موضع جمعها وحفظها من حيث كانت ذخائر البشر تحتاج إلى ذلك خوطبوا في الرحمة بما ينحوا إلى ذلك. وقال الطبري: يعني ب «الخزائن» المفاتيح، والأول أبين، والله أعلم.
قوله عز وجل:

[سورة ص (38) : الآيات 10 الى 14]
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14)
أَمْ في هذه الآية معادلة للألف المقدرة في أَمْ [ص: 9] الأولى، وكأنه تعالى يقول في هذه

(4/494)


وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)

الآية: أم لهم هذا الملك فتكون النبوءة والرسالة على اختيارهم ونظرهم فليرتقوا في الأسباب إن كان الأمر كذلك، أي إلى السماء، قاله ابن عباس. والْأَسْبابِ: كل ما يتوصل به إلى الأشياء، وهي هنا بمعنى الحبال والسلاليم. وقال قتادة: أراد أبواب السماء.
وقوله تعالى: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ اختلف المتأولون في الإشارة ب هُنالِكَ إلى ما هي؟
فقالت فرقة: أشار إل الارتقاء في الأسباب، أي هؤلاء القوم إن راموا ذلك جند مهزوم، وهذا قوي. وقالت فرقة: الإشارة ب هُنالِكَ إلى حماية الأصنام وعضدها، أي هؤلاء القوم حند مهزوم في هذه السبيل. وقال مجاهد: الإشارة ب هُنالِكَ، إلى يوم بدر، وكان غيب أعلم الله به على لسان رسوله، أي جند المشركين يهزمون، فخرج في بدر. وقالت فرقة: الإشارة إلى حصر عام الخندق بالمدينة.
وقوله: مِنَ الْأَحْزابِ أي من جملة أحزاب الأمم الذين تعصبوا في الباطل وكذبوا الرسل فأخذهم الله تعالى. وما، في قوله: جُنْدٌ ما زائدة مؤكدة وفيها تخصيص.
واختلف المتأولون في قوله: ذِي الْأَوْتادِ، فقال ابن عباس وقتادة سمي بذلك لأنه كانت له أوتاد وخشب يلعب له بها وعليها. وقال السدي: كان يقتل الناس بالأوتاد، يسمرهم في الأرض بها. وقال الضحاك: أراد المباني العظام الثابتة، وهذا أظهر الأقوال، كما يقال للجبال أوتاد لثبوتها، ويحتمل أن يقال له ذو أوتاد عبارة عن كثرة أخبيته وعظم عساكره، ونحو من هذا قولهم: أهل العمود.
وقرأت فرقة: «ليكة» . وقرأت فرقة: «الأيكة» ، وقد تقدم القول في شرح ذلك في سورة الشعراء، ثم أخبر تعالى أن هؤلاء المذكورين هم الأحزاب، وضرب بهم المثل لقريش في أنهم كذبوا، ثم أخبر أن عقابه حق على جميعهم، أي فكذلك يحق عليكم أيها المكذبون بمحمد وفي قراءة ابن مسعود: «إن كل لما» . وحكى أبو عمرو الداني إن فيها: «إن كلهم إلا كذب» .
قوله عز وجل:

[سورة ص (38) : الآيات 15 الى 20]
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)
يَنْظُرُ بمعنى ينتظر، وهذا إخبار من الله لرسوله صدقه الوجود، ف «الصيحة» على هذا عبارة عن جميع ما نابهم من قتل وأسر وغلبة، وهذا كما تقول: صاح فيهم الدهر. وقال قتادة: توعدهم بصيحة القيامة والنفخ في الصور. قال الثعلبي: روي هذا التفسير مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت طائفة: توعدهم بصيحة يهلكون بها في الدنيا، وعلى هذين التأويلين فمعنى الكلام أنهم بمدرج عقوبة

(4/495)


وتحت أمر خطير، ما ينتظرون فيه إلا الهلكة، وليس معناه التوعد بشيء معين ينتظره محمد فيه كالتأويل الأول.
وقرأ جمهور القراء: «فواق» بفتح الفاء. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش وأبو عبد الرحمن: «فواق» بضم الفاء. قال ابن عباس وغيره: هما بمعنى واحد، أي ما لها من انقطاع وعودة، بل هي متصلة حتى تهلكهم، ومنه فواق الحلب: المهلة التي بين الشخبين: وجعلوه مثل قصاص الشعر وقصاصه وغير ذلك، ومنه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من رابط فوق ناقة حرم الله جسده على النار» . وقال ابن زيد وأبو عبيدة ومؤرج والفراء: المعنى مختلف: الضم كما تقدم من معنى فواق الناقة، والفتح بمعنى الإفاقة، أي ما يكون لهم بعد هذه الصيحة إفاقة ولا استراحة، ف «فواق» : مثل جواب، من أجاب.
ثم ذكر عز وجل عنهم أنهم قالوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ والقط: الحظ والنصيب، والقط أيضا: الصك والكتاب من السلطان بصلة ونحوه، ومنه قول الأعشى: [الطويل]
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطي القطوط ويافق
وهو من قططت، أي قطعت.
واختلف الناس في «القط» هنا ما أرادوا به، فقال سعيد بن جبير: أرادوا به عجل لنا نصيبنا من الخير والنعيم في دنيانا. وقال أبو العالية والكلبي: أرادوا عجل لنا صحفنا بإيماننا، وذلك لما سمعوا في القرآن أن الصحف تعطى يوم القيامة بالأيمان والشمائل، قالوا ذلك. وقال ابن عباس وغيره: أرادوا ضد هذا من العذاب ونحوه، فهذا نظير قولهم: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: 42] وقال السدي، المعنى: أرنا منازلنا في الجنة حتى نتابعك، وعلى كل تأويل، فكلامهم خرج على جهة الاستخفاف والهزء، ويدل على ذلك ما علم من كفرهم واستمر، ولفظ الآية يعطي إقرارا بيوم الحساب.
وقوله تعالى: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي من هذه الأقاويل التي يريدون بها الاستخفاف ولا يلتفت إليها: واذكر داود ذا الأيد في الدين والشرع والصدع به، فتأس به وتأيد كما تأيد. و: الْأَيْدِ القوة، وهي في داود متضمنة قوة البدن وقوته على الطاعة. و «الأواب» الرجاع إلى طاعة الله، وقاله مجاهد وابن زيد، وفسره السدي بالمسبح، وذكر الثعلبي أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الزرقة يمن. وكان داود أزرق.
وأخبر تعالى عما وهب لداود من الكرامة في أن سخر الجبال تسبح معه، وظاهر الآية عموم الجبال.
وقالت فرقة: بل هي الجبال التي كان فيها وعندها، وتسبيح الجبال هنا حقيقة. وَالْإِشْراقِ وقت ضياء الشمس وارتفاعها، ومنه قولهم: أشرق ثبير، أي ادخل في الشروق، وفي هذين الوقتين كانت صلاة بني إسرائيل. وقال ابن عباس: صلاة الضحى عندنا هي صلاة الإشراق، وهي في هذه الآية.
وقوله تعالى: وَالطَّيْرَ عطف على الْجِبالَ، أي وسخرنا الطير، ومَحْشُورَةً نصب على الحال، ومعناه: مجموعة.

(4/496)


وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)

وقرأ ابن أبي عبلة: «والطير محشورة» بالرفع فيهما. والضمير في: لَهُ قالت فرقة: هو عائد على داود، ف كُلٌّ للجبال والطير.
وقوله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ عبارة عامة لجميع ما وهبه الله تعالى من قوة وخير ونعمة، وقد خصص بعض المفسرين في ذلك أشياء دون أشياء، فقال السدي: بالجنود. وقال آخرون: بهيبة جعلها الله تعالى له.
وقرأ الجمهور: «وشددنا» بتخفيف الدال الأولى. وروي عن الحسن: «شدّدنا» بشدها على المبالغة.
والْحِكْمَةَ: الفهم في الدين وجودة النظر، هذا قول فرقة. وقالت فرقة: أراد ب الْحِكْمَةَ النبوءة. وقال أبو العالية: الْحِكْمَةَ العلم الذي لا ترده العقول.
قال القاضي أبو محمد: هي عقائد البرهان واختلف الناس في فَصْلَ الْخِطابِ، فقال ابن عباس ومجاهد والسدي: فصل القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه. وقال علي بن أبي طالب وشريح والشعبي: فَصْلَ الْخِطابِ إيجاب اليمين على المدعى عليه، والبينة على المدعي. وقال الشعبي أيضا وزياد: أراد قول أما بعد، فإنه أول من قالها، والذي يعطيه لفظ الآية أن الله تعالى آتاه أنه كان إذا خاطب في نازلة فصل المعنى وأوضحه وبينه، لا يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف، وهذه صفة قليل من يدركها، فكان كلامه عليه السلام فصلا، وقد قال الله تعالى في صفة القرآن: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق: 13] ويزيد محمد صلى الله عليه وسلم على هذه الدرجة بالإيجاز في العبارة وجمع المعاني الكثيرة في اللفظ اليسير، وهذا هو الذي تخصص عليه السلام في قوله: «وأعطيت جوامع الكلم» فإنها في الخلال التي لم يؤتها أحد قبله، ذكر جوامع الكلم معدودة في ذلك مسلم.
قوله عز وجل:

[سورة ص (38) : الآيات 21 الى 24]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24)
هذه مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم واستفتحت بالاستفهام تعجيبا من القصة وتفخيما لها، لأن المعنى: هل أتاك هذا الأمر العجيب الذي هو عبرة، فكأن هذا الاستفهام إنما هو تهيئة نفس المخاطب وإعدادها للتلقي. والْخَصْمِ جار مجرى عدل وزور، يوصف به الواحد والاثنان والجميع، ومنه قول لبيد: [الطويل]

(4/497)


وخصم يعدو الذحول كأنهم ... قروم غيارى كل أزهر مصعب
وتحتمل هذه الآية أن يكون المتسور للمحراب اثنين فقط، لأن نفس الخصومة إنما كانت بين اثنين، فتجيء الضمائر في: تَسَوَّرُوا و: دَخَلُوا و: قالُوا على جهة التجوز، والعبارة عن الاثنين بلفظ الجمع، ويحتمل أنه جاء مع كل فرقة، كالعاضدة والمؤنسة، فيقع على جميعهم خصم، وتجيء الضمائر حقيقة. و: تَسَوَّرُوا معناه: علوا سوره وهو جمع سورة، وهي القطعة من البناء، وهذا كما تقول:
تسنمت الحائط أو البعير، إذا علوت على سنامه. والْمِحْرابَ: الموضع الأرفع من القصر أو المسجد، وهو موضع التعبد، والعامل في: إِذْ الأولى نَبَأُ وقيل: أَتاكَ. والعامل في: إِذْ الثانية تَسَوَّرُوا، وقيل هي بدل من إِذْ الأولى وقوله تعالى: فَفَزِعَ مِنْهُمْ يحتمل أن يكون فزعه من الداخلين أنفسهم لئلا يؤذوه، وإنما فزع من حيث دخلوا من غير الباب ودون استئذان، وقيل إن ذلك كان ليلا، ذكره الثعلبي، ويحتمل أن يكون فزعه من أن يكون أهل ملكه قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان، فيكون فزعه على فساد السيرة لا من الداخلين. ويحتمل قولهم: لا تَخَفْ أنهم فهموا منه عليه السلام خوفه.
وهنا قصص طول الناس فيها، واختلفت الروايات به، ولا بد أن نذكر منه ما لا يقوم تفسير الآية إلا به، ولا خلاف بين أهل التأويل أنهم إنما كانوا ملائكة بعثهم الله ضرب مثل لداود عليه السلام، فاختصموا إليه في نازلة قد وقع هو في نحوها، فأفتى بفتيا هي واقفة عليه في نازلته، ولما شعر وفهم المراد، خر وأناب واستغفر، وأما نازلته التي وقع فيها، فروي أنه عليه السلام جلس في ملإ من بني إسرائيل فأعجب بعمله، وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف على نفسه الفتنة، ويقال بل وقعت له في مثل هذا مجاورة مع الملكين الحافظين عليه فقال لهما: جرباني يوما، فإني وإن غبتما عني لا أواقع مكروها. وقال السدي:
كان داود قد قسم دهره: يوما يقضي فيه بين الناس، ويوما لعبادته، ويوما لشأن نفسه، ففتن يوم خلوه للعبادة لما تمنى أن يعطى مثل فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والتزم أن يمتحن كما امتحنوا، وقيل في السبب غير هذا مما لا يصح تطويله. قال ابن عباس ما معناه: أنه أخذ داود يوما في عبادته وانفرد في محرابه يصلي ويسبح إذ دخل عليه طائر من كوة، فوقع بين يديه، فروي أنه كان طائرا حسن الهيئة: حمامة، فمد داود يده ليأخذه فزال مطمعا له فما زال يتبعه حتى صعد الكوة التي دخل منها فصعد داود ليأخذه، فتنحى له الطائر، فتطلع داود عليه السلام، فإذا هو بامرأة تغتسل عريانة، فرأى منظرا جميلا فتنه، ثم إنها شعرت به، فأسبلت شعرها على بدنها فتجللت به، فزاده ولوعا بها، ثم إنه انصرف وسأل عنها، فأخبر أنها امرأة رجل من جنده يقال له: أوريا وإنه في بعث كذا وكذا، فيروى أنه كتب إلى أمير تلك الحرب أن قدم فلانا يقاتل عند التابوت، وهو موضع بركاء الحرب قلما يخلص منه أحد، فقدم ذلك الرجل حتى استشهد هنالك.
ويروى أن داود كتب أن يؤمر ذلك الرجل على جملة من الرجال، وترمى به الغارة والوجوه الصعبة من الحرب، حتى قتل في الثالثة من نهضاته، وكان لداود فيما روي تسع وتسعون امرأة، فلما جاءه الكتاب بقتل من قتل في حربه، جعل كلما سمي رجل يسترجع ويتفجع، فلما سمي الرجل قال: كتب الموت على كل نفس، ثم إنه خطب المرأة وتزوجها، فكانت أم سليمان فيما روي عن قتادة فبعث الله تعالى إليه

(4/498)


الخصم ليفتي بأن هذا ظلم. وقالت فرقة: إن هذا كله هم به داود ولم يفعله، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك. وقال آخرون: إنما الخطأ في أن لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده، إذ كان عنده أمر المرأة.
قال القاضي أبو محمد: والرواة على الأول أكثر، وفي كتب بني إسرائيل في هذه القصة صور لا تليق، وقد حدث بها قصاص في صدر هذه الأمة، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من حدث بما قال هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام جلدته حدين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله.
وقوله: خَصْمانِ تقديره: نحن خصمان، وهذا كقول الشاعر: [الطويل]
وقولا إذا جاوزتما أرض عامر ... وجاوزتما الحيين نهدا وخثعما
نزيعان من جرم ابن زبان إنهم ... أبوا أن يميروا في الهزاهز محجما
ونحوه قال العرب في مثل: محسنة فهيلي، التقدير: أنت محسنة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
«آئبون تائبون» . و: بَغى معناه: اعتدى واستطال، ومنه قول الشاعر: [الوافر]
ولكن الفتى حمل بن بدر ... بغى والبغي مرتعه وخيم
وقوله: فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ إغلاظ على الحاكم واستدعاء بعدله، وليس هذا بارتياب منه، ومنه قول الرجل للنبي عليه السلام: فاحكم بيننا بكتاب الله.
وقرأ جمهور الناس: «ولا تشطط» بضم التاء وكسر الطاء الأولى، معناه: ولا تتعد في حكمك. وقرأ أبو رجاء وقتادة: «تشطط» بفتح التاء وضم الطاء، وهي قراءة الحسن والجحدري، ومعناه: ولا تبعد، يقال: شط إذا بعد، وأشط إذا أبعد غيره. وقرأ زر بن حبيش: «تشاطط» بضم التاء وبالألف. و: سَواءِ الصِّراطِ معناه: وسط الطريق ولا حبه.
وقوله: إِنَّ هذا أَخِي إعراب أخي عطف بيان، وذلك أن ما جرى من هذه الأشياء صفة كالخلق والخلق وسائر الأوصاف، فإنه نعت محض، والعامل فيه هو العامل في الموصوف، وما كان منها مما ليس ليوصف به بتة فهو بدل، والعامل فيه مكرر، وتقول: جاءني أخوك زيد، فالتقدير: جاءني أخوك جاءني زيد، فاقتصر على حذف العامل في البدل والمبدل منه في قوله: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [يس: 31] وما كان منها مما لا يوصف به واحتيج إلى أن يبين به ويجري مجرى الصفة فهو عطف بيان، وهو بين في قول الشاعر: [الرجز] يا نصر نصرا نصرا فإن الرواية في الثاني بالتنوين، فدل ذلك على أن النداء ليس بمكرر عليه، فليس ببدل، وصح فيه عطف البيان، وهذه الأخوة مستعارة، إذ هما ملكان، لكن من حيث تصورا آدميين تكلما بالأخوة التي بينهما في الدين والإيمان، والله أعلم. و «النعجة» في هذه الآية، عبر بها عن المرأة. والنعجة في كلام العرب تقع

(4/499)


على أنثى بقر الوحش، وعلى أنثى الضأن، وتعبر العرب بها عن المرأة، وكذلك بالشاة، قال الأعشى:
[الكامل]
فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها
أراد عن امرأته، وفي قراءة ابن مسعود: «وتسعون نعجة أنثى» . وقرأ حفص عن عاصم: «ولي» بفتح الياء. وقرأ الباقون بسكونها، وهما حسنان. وقرأ الحسن والأعرج: «نعجة» بكسر النون، والجمهور على فتحها. وقرأ الحسن: «تسع وتسعون» بفتح التاء فيهما وهي لغة.
وقوله: أَكْفِلْنِيها أي ردها في كفالتي، وقال ابن كيسان، المعنى: اجعلها كفلي، أي نصيبي.
وَعَزَّنِي: معناه غلبني، ومنه قول العرب: من عزبز، أي من غلب سلب وقرأ أبو حيوة: «وعزني» بتخفيف الزاي. قال أبو الفتح: أراد عززني، فحذف الزاي الواحدة تخفيفا كما قال أبو زيد:
أحسن به فهن إليه شوس قال أبو حاتم: ورويت «عزني» بتخفيف الزاي عن عاصم. وقرأ ابن مسعود وأبو الضحى وعبيد بن عمير: «وعازني» ، أي غالبني.
ومعنى قوله: فِي الْخِطابِ كان أوجه مني وأقوى، فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي، وقوته أعظم من قوتي، فيروى أن داود عليه السلام لما سمع هذه الحجة قال للآخر: ما تقول؟ فأقر وألد، فقال له داود: لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك. وقال للثاني: لقد ظلمك، فتبسما عند ذلك، وذهبا ولم يرهما لحينه، فشعر حينئذ للأمر. وروي أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه. وقيل بل بينا فعله في تلك المرأة وزوجها، وقالا له: إنما نحن مثال لك. وقال بعض الناس: إن داود قال: لقد ظلمك، قبل أن يسمع حجة الآخر، وهذه كانت خطيئة ولم تنزل به هذه النازلة المروية قط.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق ابن عطية رضي الله عنه: وهذا ضعيف من جهات، لأنه خالف متظاهر الروايات، وأيضا فقوله: لَقَدْ ظَلَمَكَ إنما معناه إن ظهر صدقك ببينة أو باعتراف، وهذا من بلاغة الحاكم التي ترد المعوج إلى الحق، وتفهمه ما عند القاضي من الفطنة. وقال الثعلبي: كان في النازلة اعتراف من المدعى عليه حذف اختصارا، ومن أجله قال داود: لَقَدْ ظَلَمَكَ.
وقوله عليه السلام: «لقد ظلمت بسؤال نعجتك» أضاف الضمير إلى المفعول، والْخُلَطاءِ الأشراك والمتعاقبون في الأملاك والأمور، وهذا القول من داود وعظ وبسط لقاعدة حق ليحذر من الوقوع في خلاف الحق. وما في قوله: وَقَلِيلٌ ما هُمْ زائدة مؤكدة.
وقوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ معناه: شعر للأمر وعلمه. وقالت فرقة: ظَنَّ هنا بمعنى أيقن.
قال القاضي أبو محمد: والظن أبدا في كلام العرب إنما حقيقته توقف بين معتقدين يغلب أحدهما على الآخر، وتوقعه العرب على العلم الذي ليس على الحواس ولا له اليقين التام، ولكن يخلط الناس في

(4/500)


فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)

هذا ويقولون ظن بمعنى: أيقن، ولسنا نجد في كلام العرب على العلم الذي ليس على الحواس شاهدا يتضمن أن يقال: رأى زيد كذا وكذا فظنه. وانظر إلى قوله تبارك وتعالى في كتابه: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها [الكهف: 53] وإلى قول دريد بن الصمة: [الطويل]
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم بالفارسي المسرد
وإلى هذه الآية: وَظَنَّ داوُدُ فإنك تجد بينها وبين اليقين درجة، ولو فرضنا أهل النار قد دخلوها وباشروا، لم يقل «ظن» ولا استقام ذلك، ولو أخبر جبريل داود بهذه الفتنة لم يعبر عنها ب «ظن» ، فإنما تعبر العرب بها عن العلم الذي يقارب اليقين وليس به، لم يخرج بعد إلى الإحساس وقرأ جمهور الناس: «فتنّاه» بفتح التاء وشد النون، أي ابتليناه وامتحناه. وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رجاء والحسن: بخلاف عنه، «فتّنّاه» بشد التاء والنون على معنى المبالغة. وقرأ أبو عمرو في رواية علي بن نصر: «فتناه» بتخفيف التاء والنون على أن الفعل للخصمين، أي امتحناه عن أمرنا، وهي قراءة قتادة. وقرأ الضحاك: «افتتناه» .
وقوله: وَخَرَّ أي ألقى بنفسه نحو الأرض متضامنا متواضعا، والركوع والسجود: الانخفاض والترامي نحو الأرض، وخصصتها الشرائع على هيئات معلومة. وقال قوم يقال: «خر» ، لمن ركع وإن كان لم ينته إلى الأرض. وقال الحسن بن الفضل، المعنى: خر من ركوعه، أي سجد بعد أن كان راكعا. وقال أبو سعيد الخدري: رأيتني في النوم وأنا أكتب سورة: «ص» فلما بلغت هذه الآية سجد القلم، ورأيتني في منام آخر وشجرة تقرأ: «ص» فلما بلغت هذا سجدت، وقالت: اللهم اكتب لي بها أجرا، وحط عني بها وزرا، وارزقني بها شكرا، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وسجدت أنت يا أبا سعيد؟ قلت لا، قال: أنت كنت أحق بالسجدة من الشجرة، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات حتى بلغ: وَأَنابَ، فسجد، وقال كما قالت الشجرة. وَأَنابَ معناه: رجع وتاب، ويروى عن مجاهد أن داود عليه السلام بقي في ركعته تلك لاصقا بالأرض يبكي ويدعو أربعين صباحا حتى نبت العشب من دمعه، وروي غير هذا مما لا تثبت صحته. وروي أنه لما غفر الله له أمر المرأة، قال:
يا رب فكيف لي بدم زوجها إذا جاء يطلبني يوم القيامة، فأوحى الله إليه أني سأستوهبه ذلك يا داود، وأجعله أن يهبه راضيا بذلك، فحينئذ سر داود عليه السلام واستقرت نفسه، وروي عن عطاء الخراساني ومجاهد أن داود عليه السلام نقش خطيئته في كفه فكان يراها دائما ويعرضها على الناس في كل حين من خطبه وكلامه وإشاراته وتصرفه تواضعا لله عز وجل وإقرارا، وكان يسيح في الأرض ويصيح: إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إلي روحي، سبحانك، إلهي أتيت أطباء الدين يداووا علتي، فكلهم عليك دلني. وكان يدخل في صدر خطبته الاستغفار للخاطئين، وما رفع رأسه إلى السماء بعد خطيئته حياء صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء المرسلين.
قوله عز وجل:

[سورة ص (38) : الآيات 25 الى 29]
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)

(4/501)


«غفرنا» : معناه سترنا، وذلك إشارة إلى الذنب المتقدم. و: «الزلفى» : القربة والمكانة الرفيعة.
و «المآب» : المرجع في الآخرة، ومن آب يؤوب إذا رجع، وبعد هذا حذف يدل عليه ظاهر الكلام، تقديره: وقلنا له يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، واستدل بعض الناس من هذه الآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وليس هذا بلازم من الآية، بل لزومه من الشرع والإجماع، ولا يقال خليفة الله إلا لرسوله، وأما الخلفاء: فكل واحد منهم خليفة الذي قبله، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله، فذلك تجوز وغلو كما قال ابن قيس الرقيات: [المنسرح]
خليفة الله في بريته ... جفت بذاك الأقلام والكتب
ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم حرروا هذا المعنى فقالوا لأبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا كان يدعى مدته، فلما ولي عمر قالوا: يا خليفة خليفة رسول الله، فطال الأمر، ورأوا أنه في المستقبل سيطول أكثر، فدعوه أمير المؤمنين، وقصر هذا الاسم على الخلفاء.
وقوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ. إلى قوله: وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ اعتراض بين الكلامين من أمر داود وسليمان، هو خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وعظة لأمته، ووعيد للكفرة به.
وقرأ أبو حيوة: «يضلون» بضم الياء، ونَسُوا في هذه الآية معناه: تركوا وأخبر تعالى أن الذين كفروا يظنون أن خلق السماء وما بينهما إنما هو باطل لا معنى له، وأن الأمر ليس يؤول إلى ثواب ولا إلى عقاب.
وأخبر تعالى عن كذب ظنهم وتوعدهم بالنار، ثم وقف تعالى على الفرق عنده بين المؤمنين العاملين بالصالحات، وبين المفسدين بالكفرة، وبين المتقين والفجار، وفي هذا التوقيف حض على الإيمان وترغيب فيه، ووعيد للكفرة. ثم أحال في طلب الإيمان والتقوى على كتابه العزيز بقوله: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ المعنى: هذا كتاب لمن أراد التمسك بالإيمان والقربة إلينا، وفي هذه الآيات اقتضاب وإيجاز بديع حسب إعجاز القرآن العزيز ووصفه بالبركة لأن أجمعها فيه، لأنه يورث الجنة وينقذ من النار، ويحفظ المرء في حال الحياة الدنيا ويكون سبب رفعة شأنه في الحياة الآخرة.

(4/502)


وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)

وقرأ جمهور الناس: «ليدبّروا» بشد الدال والباء، والضمير للعالم. وقرأ حفص عن عاصم:
«لتدبروا» على المخاطبة. وقرأ أبو بكر عنه: «لتدبروا» بتخفيف الدال، أصله: تتدبروا، وظاهر هذه الآية يعطي أن التدبر من أسباب إنزال القرآن، فالترتيل إذا أفضل من الهذ، إذ التدبر لا يكون إلا مع الترتيل، وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:

[سورة ص (38) : الآيات 30 الى 35]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
الهبة والعطية بمعنى واحد، فوهب الله سليمان لداود ولدا، وأثنى تعالى عليه بأوصاف من المدح تضمنها قوله: نِعْمَ الْعَبْدُ. وأَوَّابٌ، معناه: رجاع، ولفظة: أَوَّابٌ هو العامل في إِذْ، لأن أمر الخيل مقتض أوبة عظيمة.
واختلف الناس في قصص هذه الخيل المعروضة، فقال الجمهور: إن سليمان عليه السلام عرضت عليه آلاف من الخيل تركها أبوه له، وقيل: ألف واحد فأجريت بين يديه عشاء، فتشاغل بحسنها وجريها ومحبتها حتى فاته وقت صلاة العشاء. قال قتادة: صلاة العصر ونحوه عن علي بن أبي طالب، فأسف لذلك، وقال: ردوا علي الخيل. قال الحسن: فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف عقرا لما كانت سبب فوت الصلاة، فأبدله الله أسرع منها: الريح. وقال قوم منهم الثعلبي: كانت بالناس مجاعة ولحوم الخيل لهم حلال، فإنما عقرها لتؤكل على وجه القربة لها ونحو الهدي عندنا، ونحو هذا ما فعله أبو طلحة الأنصاري بحائطه إذ تصدق به لما دخل عليه الدبسي في الصلاة فشغله.
و «الصافن» : الفرس الذي يرفع إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه، وقد يفعل ذلك برجله، وهي علامة الفراهية، وأنشد الزجاج: [الكامل]
ألف الصفون فلا يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا
وقال أبو عبيدة: «الصافن الذي يجمع يديه ويسويها، وأما الذي يقف على طرف السنبك فهو المخيم. وفي مصحف ابن مسعود: «الصوافن الجياد» . والْجِيادُ جمع جود، كثوب وثياب، وسمي به لأنه يجود بجريه. وقال بعض الناس: الْخَيْرِ هنا أراد به الخيل. والعرب تسمي الخيل الخير، وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد الخيل: أنت زيد الخير. وحُبَّ منصوب على المفعول به عند فرقة، كأن أَحْبَبْتُ بمعنى آثرت. وقالت فرقة: المفعول ب أَحْبَبْتُ محذوف، وحُبَّ

(4/503)


نصب على المصدر، أي أحببت هذه الخيل حب الخير، وتكون الْخَيْرِ على هذا التأويل غير الخيل، وفي مصحف ابن مسعود: «حب الحيل» ، باللام. وقالت فرقة: أَحْبَبْتُ معناه: سقطت إلى الأرض لذنبي، مأخوذ من أحب البعير إذا أعيا وسقط هزالا. وحُبَّ على هذا مفعول من أجله. والضمير في تَوارَتْ للشمس، وإن كان لم يجر لها ذكر صريح، لأن المعنى يقتضيها، وأيضا فذكر العشي يقتضي لها ذكرا ويتضمنها، لأن العشي إنما هو مقدر متوهم بها. وقال بعض المفسرين في هذه الآية: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ يريد الخيل، أي دخلت اصطبلاتها. وقال ابن عيسى والزهري: إن مسحه بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف، بل بيده تكريما لها ومحبة، ورجحه الطبري. وقال بعضهم: بل غسلا بالماء، وقد يقال للغسل مسح، لأن الغسل بالأيدي يقترن به، وهذه الأقوال عندي إنما تترتب على نحو من التفسير في هذه الآية. وروي عن بعض الناس، وذلك أنه رأى أن هذه القصة لم يكن فيها فوت صلاة ولا تضمن أمر الخيل أوبة ولا رجوعا، فالعامل في: إِذْ عُرِضَ فعل مضمر تقديره: اذكر إذ عرض، وقالوا عرض على سليمان الخيل وهو في الصلاة، فأشار إليهم، أي في الصلاة، فأزالوها عنه حتى أدخلوها في الاصطبلات، فقال هو لما فرغ من صلاته: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ أي الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي، كأنه يقول: فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى أدخلت اصطبلاتها رُدُّوها عَلَيَّ فطفق يمسح أعناقها وسوقها محبة لها، وذكر الثعلبي أن هذا المسح إنما كان وسما في السوق والأعناق بوسم حبس في سبيل الله. وجمهور الناس على أنها كانت خيلا موروثة. قال بعضهم: قتلها حتى لم يبق منها أكثر من مائة فرس، فمن نسل تلك المائة كل ما يوجد اليوم من الخيل، وهذا بعيد. وقالت فرقة: كانت خيلا أخرجتها الشياطين له من البحر وكانت ذوات أجنحة. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنها كانت عشرين فرسا. وطفق معناه: دام يقتل، كما تقول: جعل يفعل.
وقرأ جمهور الناس: «بالسوق» بسكون الواو وهو جمع ساق. وقرأ ابن كثير وحده: «السؤق» بالهمز.
قال أبو علي: وهي ضعيفة، لكن وجهها في القياس أن الضمة لما كانت تلي الواو قدر أنها عليها فهمزت كما يفعلون بالواو المضمومة، وهذا نظير إمالتهم ألف «مقلات» من حيث وليت الكسرة القاف، قدروا أن القاف هي المكسورة، ووجه همزة السوق من السماع أن إباحية النميري كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة، وكان ينشد:
لحب الموقدين إليّ موسى وقرأ ابن محيصن: «بالسؤوق» بهمزة بعدها الواو.
وقوله تعالى: عَنْ ذِكْرِ رَبِّي فإن عَنْ على كل تأويل هنا للمجاورة من شيء إلى شيء، وتدبره فإنه مطرد.
ثم أخبر الله تعالى عن فتنته لسليمان وامتحانه إياه لزوال ملكه، وروي في ذلك أن سليمان عليه السلام قالت له حظية من حظاياه إن أخي له خصومة، فأرغب أن تقضي له بكذا وكذا بشيء غير الحق، فقال سليمان عليه السلام: أفعل، فعاقبه الله تعالى بأن سلط على خاتمه جنيا، وذلك أن سليمان عليه السلام

(4/504)


كان لا يدخل الخلاء بخاتم الملك، توقيرا لاسم الله تعالى، فكان يضعه عند امرأة من نسائه، ففعل ذلك يوما، فألقى الله شبهه على جني اسمه صخر فيما روي عن ابن عباس. وقيل غير هذا مما اختصرناه لعدم الصحة، فجاء إلى المرأة فدفعت إليه الخاتم فاستولى على ملك سليمان، وبقي فيه أربعين يوما، وطرح خاتم سليمان في البحر، وجعل يعبث في بني إسرائيل، وشبه سليمان عليه حتى أنكروا أفعاله، ومكنه الله تعالى من جميع الملك. قال مجاهد: إلا من نساء سليمان فإنه لم يكشفهن، وكان سليمان خلال ذلك قد خرج فارا على وجهه منكرا، لا ينتسب لقوم إلا ضربوه، وأدركه جوع وفاقة فمر يوما بامرأة تغسل حوتا فسألها منه لجوعه، وقيل بل اشتراه فأعطته حوتين، فجعل يفتح أجوافها، وإذا خاتمه في جوف أحدهما، فعاد إليه ملكه، وتسخرت له الجن والريح من ذلك اليوم بدعوته، وفر صخر الجني، فأمر سليمان به فسيق وأطبق عليه في حجارة، وسجنه في البحر إلى يوم القيامة، فهذه هي الفتنة التي فتن سليمان عليه السلام وامتحن بها.
واختلف الناس في الجسد الذي ألقي على كرسيه، فقال الجمهور: هو الجني المذكور، سماه جَسَداً لأنه كان قد تمثل في جسد سليمان وليس به.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أصح الأقوال وأبينها معنى.
وقالت فرقة: بل ألقي على كرسيه جسد ابن له ميت. وقالت فرقة: بل شق الولد الذي ولد له حين أقسم ليطوفن على نسائه ولم يستثن في قسمه. وقال قوم: مرض سليمان مرضا كالإغماء حتى صار على كرسيه كأنه بلا روح، وهذا كله غير متصل بمعنى هذه الآية وأَنابَ معناه ارعوى وانثنى وأجاب إلى طاعة ربه، ومعنى هذا من تلك الحوبة التي وقعت الفتنة بسببها، ثم إن سليمان عليه السلام استغفر ربه واستوهبه ملكا.
واختلف المتأولون في معنى قوله: لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فقال جمهور الناس: أراد أن يفرده بين البشر لتكون خاصة له وكرامة، وهذا هو الظاهر من قول النبي صلى الله عليه وسلم في خبر العفريت الذي عرض له في صلاته فأخذه وأراد أن يوثقه بسرية من سواري المسجد، قال: «ثم ذكرت قول أخي سليمان: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فأرسلته» . وقال قتادة وعطاء بن أبي رباح: إنما أراد سليمان: لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي مدة حياتي، أي لا أسلبه ويصير إلى أحد كما صار إلى الجني. وروي في مثالب الحجاج بن يوسف أنه لما قرأ هذه الآية قال: لقد كان حسودا، وهذا من فسق الحجاج. وسليمان عليه السلام مقطوع بأنه إنما قصد بذلك قصدا برا جائزا، لأن للإنسان أن يرغب من فضل الله فيما لا يناله أحد، لا سيما بحسب المكانة والنبوءة، وانظر أن قوله عليه السلام: يَنْبَغِي إنما هي لفظة محتملة ليست بقطع في أنه لا يعطي الله نحو ذلك الملك لأحد، ومحمد صلى الله عليه وسلم لو ربط الجني لم يكن ذلك نقصا لما أوتيه سليمان، لكن لما كان فيه بعض الشبه تركه جريا منه عليه السلام على اختياره أبدا أيسر الأمرين وأقربهما إلى التواضع.

(4/505)


فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)

قوله عز وجل:

[سورة ص (38) : الآيات 36 الى 40]
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
قرأ الحسن وأبو رجاء: «الرياح» ، والجمهور على الإفراد.
وسخر الله تعالى الريح لسليمان وكان له كرسي عظيم يقال يحمل أربعة آلاف فارس، ويقال أكثر، وفيه الشياطين وتظله الطير، وتأتي عليه الريح الإعصار فتقله من الأرض حتى يحصل في الهواء ثم يتولاه الرخاء، وهي اللينة القوية المتشابهة لا تأتي فيها دفع مفرطة فتحمله غدوها شهر ورواحها شهر، وحَيْثُ أَصابَ حيث أراد، قاله وهب وغيره، وأنشد الثعلبي: [المتقارب]
أصاب الكلام فلم يستطع ... فأخطى الجواب لدى المفصل
ويشبه أن أَصابَ معدى: صاب يصوب، أي حيث وجه جنوده وجعلهم يصوبون صوب السحاب والمطر. قال الزجاج معناه: قصد، وكذلك قولك للمتكلم أصبت: معناه قصدت الحق وقوله: كُلَّ بَنَّاءٍ بدل من الشَّياطِينَ، والمعنى: كل من بنى مصانعه للحروب. ومُقَرَّنِينَ معناه: موثقين قد قرن بعضهم ببعض. والْأَصْفادِ القيود والأغلال.
واختلف الناس في المشار إليه بقوله: هذا عَطاؤُنا فقال قتادة: أشار إلى ما فعله بالجن فَامْنُنْ على من شئت منهم وأطلقه من وثاقه وسرحه من خدمته أَوْ أَمْسِكْ أمره كما تريد وقال ابن عباس: أشار إلى ما وهبه من النساء وأقدره عليه من جماعهن. وقال الحسن بن أبي الحسن: أشار إلى جميع ما أعطاه من الملك وأمره بأن يمن على من يشاء ويمسك عمن يشاء، فكأنه وقفه على قدر النعمة ثم أباح له التصرف فيه بمشيئته، وهو تعالى قد علم منه أن مشيئته عليه السلام إنما تتصرف بحكم طاعة الله، وهذا أصح الأقوال (وأجمعها لتفسير الآية) ، وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:

[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
أَيُّوبَ هو نبي من بني إسرائيل من ذرية يعقوب عليه السلام، وهو نبي ابتلي في جسده وماله وأهله، وسلم دينه ومعتقده، وروي في ذلك أن الله سلط الشيطان عليه ليفتنه عن دينه، فأصابه في ماله، وقال له: إن أطعتني رجع مالك، فلم يطعه، فأصابه في أهله وولده، فهلكوا من عند آخرهم، وقال له: لو

(4/506)


أطعتني رجعوا، فلم يطعه، فأصابه في جسده، فثبت أيوب على أمر الله سبع سنين وسبعة أشهر، قاله قتادة. وروى أنس عن النبي عليه السلام أن أيوب بقي في محنته ثماني عشر سنة يتساقط لحمه حتى مله العالم، ولم يصبر عليه إلا امرأته. وروي أن السبب الذي امتحن الله أيوب من أجله هو: أنه دخل على بعض الملوك فرأى منكرا فلم يغيره. وروي أن السبب: كان أنه ذبح شاة وطبخها وأكلت عنده، وجار له جائع لم يعطه منها شيئا. وروي أن أيوب لما تناهى بلاؤه وصبره، مر به رجلان ممن كان بينه وبينهما معرفة فتقرعاه، وقالا له: لقد أذنبت ذنبا ما أذنب أحد مثله، وفهم منهما شماتا به، فعند ذلك دعا ونادى ربه.
وقوله عليه السلام: مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ يحتمل أن يشير إلى مسه حين سلطه الله عليه حسبما ذكرنا، ويحتمل أن يريد: مسه إياه حين حمله في أول الأمر على أن يواقع الذنب الذي من أجله كانت المحنة، إما ترك التغيير عند الملك، وإما ترك مواساة الجار. وقيل أشار إلى مسه إياه في تعرضه لأهله وطلبه منه أن يشرك بالله، فكان أيوب يتشكى هذا الفعل، وكان أشد عليه من مرضه.
وقرأ الجمهور: «أني» بفتح الهمزة. وقرأ عيسى بن عمر: «إني» بكسرها.
وقوله: أَنِّي في موضع نصب بإسقاط حرف الجر.
وقرأ جمهور الناس: «بنصب» بضم النون وسكون الصاد. وقرأ هبيرة عن حفص عن عاصم:
«بنصب» بفتح النون والصاد، وهي قراءة الجحدري ويعقوب، ورويت عن الحسن وأبي جعفر. وقرأ أبو عمارة عن حفص عن عاصم: «بنصب» بضم النون والصاد، وهي قراءة أبي جعفر بن القعقاع والحسن بخلاف عنه، وروى أيضا هبيرة عن حفص عن عاصم بفتح النون وسكون الصاد، وذلك كله بمعنى واحد، معناه المشقة، وكثيرا ما يستعمل النصب في مشقة الإعياء، وفرق بعض الناس بين هذه الألفاظ، والصواب أنها لغات بمعنى، من قولهم أنصبني الأمر ونصبني إذا شق علي، فمن ذلك قول الشاعر [الطويل] تبغاك نصب من أميمة منصب ومثله قول النابغة: [الطويل] كليني لهمّ يا أميمة ناصب قال القاضي أبو محمد: وقد قيل في هذا البيت إن ناصبا بمعنى منصب، وأنه على النسب، أي ذا نصب، وهنا في الآية محذوف كثير، تقديره: فاستجاب له.
وقال ارْكُضْ بِرِجْلِكَ والركض: الضرب بالرجل، والمعنى: اركض الأرض. وروي عن قتادة أن هذا الأمر كان في الجابية من أرض الشام. وروي أن أيوب أمر بركض الأرض فركض فيها، فنبعت له عين ماء صافية باردة فشرب منها، فذهب كل مرض في داخل جسده، ثم اغتسل فذهب ما كان في ظاهر بدنه.
وروي أنه ركض مرتين ونبع له عينان: شرب من إحداهما، واغتسل في الأخرى وقرأ نافع وشيبة وعاصم والأعمش: «بعذاب اركض» ، بضم نون التنوين. وقرأ عامة قراء البصرة: «بعذاب اركض» ، بنون مكسورة و: مُغْتَسَلٌ معناه: موضع غسل، وماء غسل، كما تقول: هذا الأمر معتبر، وهذا الماء مغتسل مثله.

(4/507)


وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)

وروي أن الله تعالى وهب له أهله وماله في الدنيا، ورد من مات منهم، وما هلك من ماشيته وحاله ثم بارك في جميع ذلك، وولد له الأولاد حتى تضاعف الحال. وروي أن هذا كله وعد في الآخرة، أي يفعل الله له ذلك في الآخرة، والأول أكثر في قول المفسرين. ورَحْمَةً نصب على المصدر.
وقوله: وَذِكْرى معناه: موعظة وتذكرة يعتبر بها أهل العقول ويتأسون بصبره في الشدائد ولا ييأسون من رحمة الله على حال. وروي أن أيوب عليه السلام كانت زوجته مدة مرضه تختلف إليه، فيلقاها الشيطان في صورة طبيب، ومرة في هيئة ناصح وعلى غير ذلك، فيقول لها: لو سجد هذا المريض للصنم الفلاني لبرىء، لو ذبح عناقا للصنم الفلاني لبرىء ويعرض عليها وجوها من الكفر، فكانت هي ربما عرضت ذلك على أيوب، فيقول لها: ألقيت عدو الله في طريقك؟ فلما أغضبته بهذا ونحوه، حلف لها لئن برىء من مرضه ليضربنها مائة سوط، فلما برىء أمره الله أن يأخذ ضغثا فيه مائة قضيب. و «الضغث» القبضة الكبيرة من القضبان ونحوها من الشجر الرطب، قاله الضحاك وأهل اللغة فيضرب به ضربة واحدة فتبر يمينه، ومنه قولهم: ضغث على إبالة. والإبالة: الحزم من الحطب.
و «الضغث» : القبضة عليها من الحطب أيضا، ومنه قول الشاعر [عوف بن الخرع] : [الطويل]
وأسفل مني نهدة قد ربطتها ... وألقيت ضغثا من خلى متطبب
ويروى متطيب. هذا حكم قد ورد في شرعنا عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في حد زنا لرجل زمن، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذق نخلة فيها شماريخ مائة أو نحوها، فضرب به ضربة، ذكر الحديث أبو داود، وقال بهذا بعض فقهاء الأمة، وليس يرى ذلك مالك بن أنس وجميع أصحابه، وكذلك جمهور العلماء على ترك القول به، وأن الحدود والبر في الأيمان لا يقع إلا بإتمام عدد الضربات.
قوله عز وجل:

[سورة ص (38) : الآيات 45 الى 54]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)
قرأ ابن كثير: «واذكر عبدنا» على الإفراد، وهي قراءة ابن عباس وأهل مكة. وقرأ الباقون: «واذكر عبادنا» على الجمع، فأما على هذه القراءة فدخل الثلاثة في الذكر وفي العبودية، وأما على قراءة من قرأ «عبدنا» ، فقال مكي وغيره: دخلوا في الذكر ولم يدخلوا في العبودية إلا من غير هذه الآية وفي هذا نظر.
وتأول قوم من المتأولين من هذه الآية أن الذبيح إِسْحاقَ من حيث ذكره الله بعقب ذكر أيوب أنبياء

(4/508)


امتحنهم بمحن كما امتحن أيوب، ولم يذكر إسماعيل لأنه ممن لم يمتحن، وهذا ضعيف كله وقرأ الجمهور: «أولي الأيدي» .
وقرأ الحسن والثقفي والأعمش وابن مسعود: «أولي الأيد» ، بحذف الياء، فأما أولو فهو جمع ذو، وأما القراءة الأولى ف «الأيدي» فيها عبارة عن القوة في طاعة الله، قاله ابن عباس ومجاهد، وقالت فرقة بل هي عبارة عن القوة في طاعة الله، قاله ابن عباس ومجاهد، وقالت فرقة بل هي عبارة عن إحسانهم في الدين وتقديمهم عند الله تعالى أعمال صدق، فهي كالأيادي. وقالت فرقة: بل معناه: أولي الأيد والنعم التي أسداها الله إليهم من النبوءة والمكانة. وقال قوم المعنى: أيدي الجوارح، والمراد الأيدي المتصرفة في الخير والأبصار الثاقبة فيه، لا كالتي هي منهملة في جل الناس، وأما من قرأ «الأيد» دون ياء فيحتمل أن يكون معناها معنى القراءة بالياء وحذفت تخفيفا، ومن حيث كانت الألف واللام تعاقب التنوين وجب أن تحذف معها كما تحذف مع التنوين. وقالت فرقة: معنى «الأيدي» ، القوة، والمراد طاعة الله تعالى.
وقوله تعالى: وَالْأَبْصارِ عبارة عن البصائر، أي يبصرون الحقائق وينظرون بنور الله تعالى، وبنحو هذا فسر الجميع.
وقرأ نافع وحده: «إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار» على إضافة «خالصة» إلى ذِكْرَى، وهي قراءة أبي جعفر والأعرج وشيبة. وقرأ الباقون والناس: «بخالصة ذكر الدار» على تنوين «خالصة» ، وقرأ الأعمش: «بخالصتهم ذكر الدار» ، وهي قراءة طلحة.
وقوله: بِخالِصَةٍ يحتمل أن يكون خالصة اسم فاعل كأنه عبر بها عن مزية أو رتبة، فأما من أضافها إلى «ذكرى» ، ف ذِكْرَى مخفوض بالإضافة، ومن نون «خالصة» ، ف ذِكْرَى بدل من «خالصة» ، ويحتمل قوله: بِخالِصَةٍ أن يكون «خالصة» مصدرا كالعاقبة وخائنة الأعين وغير ذلك، ف ذِكْرَى على هذا ما أن يكون في موضع نصب بالمصدر على تقدير: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بأن أخلصنا لهم ذكرى الدار، ويكون «خالصة» مصدرا من أخلص على حذف الزوائد، وإما أن يكون ذِكْرَى في موضع رفع بالمصدر على تقدير إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بأن خلصت لهم ذكرى الدار، وتكون «خالصة» من خلص.
والدَّارِ في كل وجه في موضع نصب ب ذِكْرَى، وذِكْرَى مصدر، وتحتمل الآية أن يريد ب الدَّارِ دار الآخرة على معنى أَخْلَصْناهُمْ، بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة ودعاء الناس إليها وحضهم عليها، وهذا قول قتادة، وعلى معنى خلص لهم ذكرهم للدار الآخرة وخوفهم لها والعمل بحسب قول مجاهد. وقال ابن زيد: المعنى إنا وهبناهم أفضل ما في الدار الآخرة وأخلصناهم به وأعطيناهم إياه، ويحتمل أن يريد ب الدَّارِ دار الدنيا على معنى ذكر الثناء والتعظيم من الناس والحمد الباقي الذي هو الخلد المجازي، فتجيء الآية في معنى قوله: لِسانَ صِدْقٍ [مريم: 50، الشعراء: 84] وفي معنى قوله: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ [الصافات: 78، 108، 119، 129] . والْمُصْطَفَيْنَ أصله:
المصطفيين، تحركت الياء وما قبلها مفتوح فانقلبت ألفا، ثم اجتمع سكون الألف وسكون الياء التي هي علامة الجمع، فحذفت الألف. والْأَخْيارِ جمع خير، وخير: مخفف من خير كميت وميت.

(4/509)


هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)

وقرأ حمزة والكسائي: «والليسع» ، كأنه أدخل لام التعريف على الْيَسَعَ، فأجراه مجرى ضيغم ونحوه، وهي قراءة علي بن أبي طالب والكوفيين. وقرأ الباقون: «واليسع» ، قال أبو علي: الألف واللام فيه زائدتان غير معرفتين كما هي في قول الشاعر: [الكامل]
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
وبنات الأوبر: ضرب من الكمأة. واختلف في نبوة «ذي الكفل» ، وقد تقدم تفسير أمره وقوله تعالى:
هذا ذِكْرٌ يحتمل معنيين: أحدهما أن يشير إلى مدح من ذكر وإبقاء الشرف له، فيتأيد بهذا التأويل قول من قال آنفا: إن الدَّارِ يراد بها الدار الدنيا. والثاني: أن يشير بهذا إلى القرآن، إذ هو ذكر للعالم.
و «المآب» : المرجع حيث يؤوبون. وجَنَّاتِ بدل من «حسن» ومُفَتَّحَةً نعت للجنات.
والْأَبْوابُ مفعول لم يسم فاعله، والتقدير عند الكوفيين: مفتحة لهم أبوابها، ولا يجوز ذلك عند أهل البصرة، والتقدير عندهم: الأبواب منها، وإنما دعا إلى هذا الضمير أن الصفة لا بد أن يكون فيها عائدا على الموصوف. وقاصِراتُ الطَّرْفِ قال قتادة معناه: على أزواجهن. وأَتْرابٌ معناه أمثال، وأصله في بني آدم أن تكون الأسنان واحدة، أي مست أجسادهم التراب في وقت واحد.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «يوعدون» بالياء من تحت، واختلفا في سورة: (ق) ، فقرأها أبو عمرو بالتاء من فوق. وقرأ الباقون في السورتين بالتاء من فوق. والنفاذ: الفناء والانقضاء.
قوله عز وجل:

[سورة ص (38) : الآيات 55 الى 61]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61)
التقدير: الأمر هذا، ويحتمل أن يكون التقدير: هذا واقع ونحوه. والطاغي: المفرط في الشر، مأخوذ من طغا يطغى، والطغيان هنا في الكفر. و «المآب» : المرجع، وجَهَنَّمَ بدل من قولهم:
لَشَرَّ. ويَصْلَوْنَها معناه: يباشرون حرها. والْمِهادُ ما يفترشه الإنسان ويتصرف فيه.
وقوله: هذا فَلْيَذُوقُوهُ يحتمل أن يكون هذا ابتداء، والخبر حَمِيمٌ ويحتمل أن يكون التقدير: الأمر هذا فليذوقوه، ويحتمل أن يكون في موضع نصب بفعل يدل عليه فَلْيَذُوقُوهُ وحَمِيمٌ على هذا خبر ابتداء مضمر. قال ابن زيد: الحميم، دموعهم تجتمع في حياض فيسقونها وقرأ جمهور الناس: «وغساق» بتخفيف السين، وهو اسم بمعنى السائل، يروى عن قتادة أنه ما يسيل من صديد أهل النار. ويروى عن السدي أنه ما يسيل من عيونهم. ويروى عن كعب الأحبار أنه ما يسيل من حمة عقارب النار، وهي يقال مجتمعة عندهم. وقال الضحاك: هو أشد الأشياء بردا. وقال عبد الله بن

(4/510)


بريدة: هو أنتن الأشياء، ورواه أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: «وغسّاق» بتشديد السين، بمعنى سيال وهي قراءة قتادة وابن أبي إسحاق وابن وثاب وطلحة، والمعنى فيه على ما قدمناه من الاختلاف غير أنها قراءة تضعف، لأن غساقا إما أن يكون صفة فيجيء في الآية حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، وذلك غير مستحسن هنا، وأما أن يكون اسما، فالأسماء على هذا الوزن قليلة في كلام العرب كالفياد ونحوه وقرأ جمهور الناس: «وآخر» بالإفراد، وهو رفع بالابتداء، واختلف في تقدير خبره، فقالت طائفة تقديره: ولهم عذاب آخر. وقالت طائفة: خبره: أَزْواجٌ لأن قوله:
أَزْواجٌ ابتداء ومِنْ شَكْلِهِ خبره، والجملة خبر «آخر» . وقالت طائفة: خبره أَزْواجٌ، ومِنْ شَكْلِهِ في موضع الصفة. ومعنى مِنْ شَكْلِهِ: من مثله وضربه، وجاز على هذا القول أن يخبر الجمع الذي هو أزواج عن الواحد من حيث ذلك الواحد درجات ورتب من العذاب وقوى وأقل منه. وأيضا فمن جهة أخرى على أن يسمى كل جزء من ذلك الآخر باسم الكل، قالوا: عرفات لعرفة: وشابت مفارقه فجعلوا كل جزء من المفرق مفرقا، وكما قالوا: جمل ذو عثانين ونحو هذا، ألا ترى أن جماعة من المفسرين قالوا إن هذا الآخر هو الزمهرير، فكأنهم جعلوا كل جزء منه زمهريرا.
وقرأ أبو عمرو وحده: «وأخر» على الجمع، وهي قراءة الحسن ومجاهد والجحدري وابن جبير وعيسى، وهو رفع بالابتداء وخبره أَزْواجٌ، ومِنْ شَكْلِهِ في موضع الصفة، ورجح أبو عبيد هذه القراءة وأبو حاتم بكون الصفة جمعا، ولم ينصرف «أخر» لأنه معدول عن الألف واللام صفة، وذلك أن حق أفعل وجمعه أن لا يستعمل إلا بالألف واللام، فلما استعملت «أخر» دون الألف واللام كان ذلك عدلا لها، وجاز في «أخر» أن يوصف بها النكرة كقوله تعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184- 185] بخلاف جمع ما عدل عن الألف واللام، كسحر ونحوه في أنه لا يجوز أن يوصف به النكرة، لأن هذا العدل في «أخر» اعتد به في منع الصرف ولم يعتد به في الامتناع من صفة النكرة كما يعتدون بالشيء في حكم دون حكم، نحو اللام في قولهم: «لا أبا لك، لأن اللام المتصلة بالكاف اعتد بها فاصلة للإضافة، ولذلك جاز دخول لا، ولم يعتد بها في أن أعرب أبا بالحروف وشأنه إذا انفصل ولم يكن مضافا أن يعرب بالحركات فجاءت اللام ملغاة الحكم من حيث أعرب بالحرف، كأنه مضاف وهي معتد بها فاصلة في أن جوزت دخول لا.
وقرأ مجاهد: «من شكله» بكسر الشين. وأَزْواجٌ معناه: أنواع، والمعنى لهم حميم وغساق وأغذية أخر من ضرب ما ذكره ونحوه أنواع كثيرة.
وقوله تعالى: هذا فَوْجٌ هو ما يقال لأهل النار إذا سيق عامة الكفار وأتباعهم لأن رؤساءهم يدخلون النار أولا، والأظهر أن قائل ذلك لهم ملائكة العذاب، وهو الذي حكاه الثعلبي وغيره، ويحتمل أن يكون ذلك من قول بعضهم لبعض، فيقول البعض الآخر: لا مَرْحَباً بِهِمْ أي لا سعة مكان ولا خير يلقونه.
والفوج: الفريق من الناس.
وقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ حكاية لقول الأتباع حين سمعوا قول الرؤساء: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ معناه بإغوائكم، أسلفتم لنا ما أوجب هذا، فكأنكم فعلتم بنا هذا.

(4/511)


وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)

وقوله: قالُوا رَبَّنا حكاية لقول الأتباع أيضا دعوا على رؤسائهم بأن يكون عذابهم مضاعفا.
قوله عز وجل:

[سورة ص (38) : الآيات 62 الى 66]
وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)
الضمير في: قالُوا لأشراف الكفار ورؤسائهم، أخبر الله عنهم أنهم يتذكرون إذا دخلوا النار لقوم من مستضعفي المؤمنين فيقولون هذه المقالة، وهذا مطرد في كل أمة جاءها رسول. وروي أن القائلين من كفار عصر النبي عليه السلام هم أبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأهل القليب ومن جرى مجراهم، قاله مجاهد وغيره، والمعنى: كنا نعدهم في الدنيا أشرارا لا خلاق لهم، وأمال الراء مِنَ الْأَشْرارِ: أبو عمرو وابن عامر والكسائي، وفتحها ابن كثير وعاصم، وأشم نافع وحمزة.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا بألف الاستفهام، ومعناها: تقرير أنفسهم على هذا على جهة التوبيخ لها والأسف، أي أتخذناهم سخريا ولم يكونوا كذلك، واستبعد معنى هذه القراءة أبو علي. وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «سخريا» بضم السين، وهي قراءة الأعرج وشيبة وأبي جعفر وابن مسعود وأصحابه ومجاهد والضحاك، ومعناها: من السخرة والاستخدام. وقرأ الباقون: «سخريا» بكسر السين وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وعيسى وابن محيصن ومعناه المشهور من السخر الذي هو الهزء، ومنه قول الشاعر [عامر بن الحارث] : [البسيط]
إني أتاني لسان لا أسر بها ... من علو لا كذب فيها ولا سخر
وقالت فرقة يكون كسر السين من التسخير.
و: أَمْ في قولهم: أَمْ زاغَتْ معادلة ل ما في قولهم: ما لَنا لا نَرى وذلك أنها قد تعادل ما، وتعادل من، وأنكر بعض النحويين هذا، وقال: إنها لا تعادل إلا الألف فقط. والتقدير في هذه الآية: أمفقودون هم أم زاغت؟ ومعنى هذا الكلام: أليسوا معنا أم هم معنا؟ ولكن أبصارنا تميل عنهم فلا تراهم، والزيغ: الميل.
ثم أخبر الله تعالى نبيه بقوله: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ و: تَخاصُمُ بدل من قوله:
لَحَقٌّ.
وقرأ ابن أبي عبلة: «تخاصم» بفتح الميم. وقرأ ابن محيصن: «تخاصم» بالتنوين «أهل النار» برفع اللام.
ثم أمر نبيه أن يتجرد للكفار من جميع الأغراض، إلا أنه منذر لهم، وهذا توعد بليغ محرك للنفوس، وباقي الآية بين.

(4/512)


قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)

قوله عز وجل:

[سورة ص (38) : الآيات 67 الى 74]
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71)
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74)
الإشارة بقوله تعالى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ إلى التوحيد والمعاد، فهي إلى القرآن وجميع ما تضمن، وعظمه أن التصديق به نجاة، والتكذيب به هلكة. وحكى الطبري: أن شريحا اختصم إليه أعرابي فشهد عليه، فأراد شريح أن ينفذ الحكم، فقال له الأعرابي: أتحكم بالنبإ؟ فقال شريح: نعم، إن الله يقول:
قُلْ هُوَ نَبَأٌ، وقرأ الآية وحكم عليه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الجواب من شريح إنما هو بحسب لفظ الأعرابي ولم يحرر معه الكلام، وإنما قصد إلى ما يقطعه به، لأن الأعرابي لم يفرق بين الشهادة والنبأ.
والنبأ في كلام العرب بمعنى: الخبر، ووبخهم بقوله: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ، ثم قال: ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ وهذا احتجاج لصحة أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأنه يقول: هذا أمر خطر وأنتم تعرضون عنه مع صحته، ودليل صحته أني أخبركم فيه بغيوب لم تأت إلا من عند الله، فإني لم يكن لي علم بالملأ الأعلى، أراد به الملائكة. والضمير في: يَخْتَصِمُونَ عند جمهور المفسرين هو للملائكة.
واختلف الناس في الشيء الذي هو اختصامهم فيه، فقالت: فرقة اختصامهم في أمر آدم وذريته في جعلهم في الأرض، ويدل على ذلك ما يأتي من الآيات، فقول الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] هو الاختصام. وقالت فرقة: بل اختصامهم في الكفارات وغفر الذنوب ونحوه، فإن العبد إذا فعل حسنة اختلف الملائكة في قدر ثوابه في ذلك حتى يقضي الله بما شاء، وورد في هذا حديث فسره ابن فورك، لأنه يتضمن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ربه عز وجل في نومه: فيم يختصمون؟ فقلت لا أدري، فقال في الكفارات، وهي إسباغ الوضوء في السبرات ونقل الخطى إلى الجماعات الحديث بطوله قال: فوضع الله يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي.
قال القاضي أبو محمد: فتفسير هذا الحديث أن اليد هي نعمة العلم.
وقوله: بردها، أي السرور بها والثلج، كما تقول العرب في الأمر السار: يا برده على الكبد ونحو هذا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصلاة بالليل هي الغنيمة الباردة» . أي السهلة التي يسر بها الإنسان. وقالت فرقة: المراد بقوله: بِالْمَلَإِ الْأَعْلى الملائكة.

(4/513)


قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)

وقوله: إِذْ يَخْتَصِمُونَ مقطوع منه معناه: إذ تختصم العرب الكافرة في الملإ فيقول بعضها هي بنات الله، ويقول بعضها: هي آلهة تعبد، وغير ذلك من أقوالهم. وقالت فرقة: أراد ب «الملأ الأعلى» قريشا. وهذا قول ضعيف لا يتقوى من جهة.
وقرأ جمهور الناس: «ألا أنما» بفتح الألف، كأنه يقول: ألا إنذار. وقرأ أبو جعفر «إلا أنما أنا» على الحكاية، كأنه قيل له: أنت نذير مبين، فحكى هذا المعنى، وهذا كما يقول إنسان: أنا عالم، فيقال له:
قلت إنك عالم، فيحكي المعنى.
و: إِذْ في قوله: إِذْ قالَ رَبُّكَ بدل من قوله: إِذْ الأولى على تأويل من رأى الخصومة في شأن من يستخلف في الأرض، وعلى الأقوال الأخر يكون العامل في إِذْ الثانية فعل مضمر تقديره:
واذكر إذ قال. والبشر المخلوق من الطين: هو آدم عليه السلام. و: سَوَّيْتُهُ يريد به شخصه.
وَنَفَخْتُ هي عبارة عن إجراء الروح فيه، وهي عبارة على نحو ما يفهم من إجراء الأشياء بالنفخ.
وقوله: مِنْ رُوحِي هي إضافة ملك إلى مالك، لأن الأرواح كلها هي ملك لله تعالى، وأضاف إلى نفسه تشريفا.
وقوله: ساجِدِينَ اختلف الناس فيه، فقالت فرقة: على السجود المتعارف. وقالت فرقة معناه:
خاضعين على أصل السجود في اللغة. ثم أخبر تعالى أن الملائكة بأمره سجدوا إِلَّا إِبْلِيسَ فإنه اسْتَكْبَرَ عن السجود.
وقوله تعالى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ يحتمل أن يريد به: وكان من أول أمره من الكافرين في علم الله تعالى، قاله ابن عباس، ويحتمل أن يريد: ووجد عند هذه الفعلة من الكافرين، وعلى القولين فقد حكم الله على إبليس بالكفر، وأخبر أنه كان عقد قلبه في وقت الامتناع.
قوله عز وجل:

[سورة ص (38) : الآيات 75 الى 81]
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)
قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)
القائل لإبليس هو الله عز وجل، وقوله ما مَنَعَكَ تقرير وتوبيخ.
وقرأ عاصم والجحدري: «لمّا خلقت» بفتح اللام من: «لمّا» وشد الميم.
وقرأ جمهور الناس: «بيدي» بالتثنية. وقرأت فرقة: «بيديّ» بفتح الياء، وقد جاء في كتاب الله:
مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا [يس: 71] بالجمع.
وهذه كلها عبارة عن القدرة والقوة، وعبر عن هذا المعنى بذكر اليد تقريبا على السامعين، إذ المعتاد عند البشر أن القوه والبطش والاقتدار إنما هو باليد، وقد كانت جهالة العرب بالله تعالى تقتضي أن تنكر نفوسها أن يكون خلق بغير مماسة، ونحو هذا من المعاني المعقولة، وذهب القاضي ابن الطيب إلى أن اليد

(4/514)


قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

والعين والوجه صفات ذات زائدة على القدرة والعلم وغير ذلك من متقرر صفاته تعالى، وذلك قول مرغوب عنه ويسميها الصفات الخبرية. وروي في بعض الآثار أن الله تعالى خلق أربعة أشياء بيده وهي: العرش والقلم وجنة عدن وآدم وسائر المخلوقات بقوله: «كن» .
قال القاضي أبو محمد: وهذا إن صح فإنما ذكر على جهة التشريف للأربعة والتنبيه منها، وإلا فإذا حقق النظر فكل مخلوق فهو بالقدرة التي بها يقع الإيجاد بعد العدم.
وقرأت فرقة: «استكبرت» بصلة الألف على الخبر عن إبليس، وتكون أَمْ بينة الانقطاع لا معادلة لها. وقرأت فرقة: «أستكبرت» بقطع الألف على الاستفهام، ف أَمْ على هذا معادلة للألف، وذهب كثير من النحويين إلى أن «أم» لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين، وإنما تكون معادلة إذا أدخلتا على فعل واحد، كقولك: أزيد قام أو عمرو؟ وقولك: أقام زيد أم عمرو؟ قالوا: وإذا اختلف الفعلان كهذه الآية فليست أم معادلة، ومعنى الآية: أحدث لك الاستكبار الآن أن كنت قديما ممن لا يليق أن تكلف مثل هذا لعلو مكانك، وهذا على جهة التوبيخ.
وقول إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ قياس أخطأ فيه، وذلك أنه لما توهم أن النار أفضل من الطين، قاس أن ما يخلق من الأفضل فهو أفضل من الذي يخلق من المفضول، ولم يدر أن الفضائل تخصيصات من الله تعالى يسم بها من شاء، وفي قوله رد على حكمة الله تعالى وتجوير. وذلك بين في قوله: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء: 62] ثم قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وعند هذه المقالة اقترن كفر إبليس به إما عنادا على قول من يجيزه، وإما بأن سلب المعرفة، وظاهر أمره أنه كفر عنادا، لأن الله تعالى قد حكم عليه بأنه كافر، ونحن نجده خلال القصة يقول: يا رب بعزتك وإلى يوم يبعثون، فهذا كله يقتضي المعرفة، وإن كان للتأويل فيه مزاحم فتأمله، ثم أمر الله تعالى إبليس بالخروج على جهة الادخار له، فقالت فرقة: أمره بالخروج من الجنة. وقالت فرقة: من السماء. وحكى الثعلبي عن الحسن وأبي العالية أن قوله: مِنْها يريد به من الخلقة التي أنت فيها ومن صفات الكرامة التي كانت له، قال الحسين بن الفضل: ورجعت له أضدادها، وعلى القول الأول فإنما أمره أمرا يقتضي بعده عن السماء، ولا خلاف أنه أهبط إلى الأرض.
و «الرجيم» : المرجوم بالقول السيّء. و «اللعنة» : الإبعاد. و: يَوْمِ الدِّينِ يوم القيامة. والدِّينِ:
الجزاء، وإنما حد له اللعنة ب يَوْمِ الدِّينِ، ولعنته إنما هي مخلدة ليحصر له أمد التوبة، لأن امتناع توبته بعد يوم القيامة، إذ ليست الآخرة دار عمل. ثم إن إبليس سأل النظرة وتأخير الأجل إلى يوم بعث الأجساد من القبور، فأعطاه الله تعالى الإبقاء إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ.
واختلف الناس في تأويل ذلك، فقال الجمهور: أسعفه الله في طلبته وأخره إلى يوم القيامة، فهو الآن حي مغو مضل، وهذا هو الأصح من القولين. وقالت فرقة: لم يسعف بطلبته، وإنما أسعف إلى الوقت الذي سبق من الله تعالى أن يموت إبليس فيه. وقال بعض هذه الفرقة: مات إبليس يوم بدر.
قوله عز وجل:

[سورة ص (38) : الآيات 82 الى 88]
قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

(4/515)


القائل هو إبليس، أقسم بعزة الله تعالى، قال قتادة: علم عدو الله أنه ليست له عزة فأقسم بعزة الله أنه يغوي ذرية آدم أجمع إلا من أخلص الله للإيمان به.
قال القاضي أبو محمد: وهذا استثناء الأقل عن الأكثر على باب الاستثناء لأن المؤمنين أقل من الكفرة بكثير، بدليل حديث بعث النار وغيره. وجوز قوم أن يستثنى الكثير من الجملة ويترك الأقل على الحكم الأول، واحتجوا بقوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الحجر: 42] وقال من ناقضهم: العباد هنا: يعم البشر والملائكة، فبقي الاستثناء على بابه في أن الأقل هو المستثنى.
وفتح اللام من الْمُخْلَصِينَ وكسرها، قد تقدم ذكره. والقائل: فَالْحَقُّ هو الله تعالى قال مجاهد: المعنى فالحق أنا.
وقرأ جمهور القراء: «فالحقّ والحقّ» بنصب الاثنين، فأما الثاني فمنصوب ب أَقُولُ، وأما الأول فيحتمل أن ينتصب على الإغراء، ويحتمل أن ينتصب على القسم على إسقاط حرف القسم، كأنه قال:
فو الحق، ثم حذف الحرف كما تقول: الله لأفعلن، تريد: والله، ويقوي ذلك قوله: لَأَمْلَأَنَّ، وقد قال سيبويه: قلت للخليل ما معنى لأفعلن إذا جاءت مبتدأة: قال هي بتقدير قسم منوي. وقالت فرقة: «الحق» الأول منصوب بفعل مضمر. وقال ابن عباس ومجاهد: «فالحقّ والحقّ» برفع الاثنين، فأما الأول فرفع بالابتداء وخبره في قوله: لَأَمْلَأَنَّ، لأن المعنى: أن أملأ، وأما الثاني فيرتفع على ابتداء أيضا. وقرأ عاصم وحمزة: «فالحقّ» بالرفع «والحقّ» بالنصب، وهي قراءة مجاهد والأعمش وأبان بن تغلب وإعراب هذه بين. وقرأ الحسن: «فالحقّ والحقّ» بخفض القاف فيهما على القسم، وذكرها أبو عمرو الداني.
ثم أمر تعالى نبيه أن يخبرهم بأنه ليس بسائل أجر ولا مال، وأنه ليس ممن يتكلف ما لم يجعل إليه ولا يتحلى بغير ما هو فيه. وقال الحسين بن الفضل: هذه الآية ناسخة لقوله: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] وقال الزبير بن العوام: نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم، اللهم اغفر للذين لا يدعون ولا يتكلفون، ألا إني بريء من التكلف، وصالحو أمتي، وقوله تعالى: إِنْ هُوَ يريد به القرآن. و: ذِكْرٌ بمعنى: تذكرة، ثم توعدهم بقوله: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ وهذا على حذف تقديره: لتعلمن صدق نبإه بعد حين في توعدكم واختلف الناس في معنى قوله: بَعْدَ حِينٍ إلى أي وقت أشار، لأن الحين في اللغة يقع على القليل والكثير من الوقت، فقال ابن زيد: أشار إلى يوم القيامة. وقال قتادة والحسن في اللغة أشار إلى الآجال التي لهم، لأن كل واحد منهم يعرف الحقائق بعد موته. وقال السدي: أشار إلى يوم بدر، لأنه يوم عرف الكفار فيه صدق وعيد القرآن لهم.

(4/516)


تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)

بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الزّمر
وهذه السورة مكية بإجماع، غير ثلاث آيات نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب، وهي: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] الآيات. وقالت فرقة: بل إلى آخر السورة هو مدني وقيل فيها: مدني سبع آيات.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
تَنْزِيلُ رفع بالابتداء، والخبر قوله: مِنَ اللَّهِ. وقالت فرقة: تَنْزِيلُ خبر ابتداء تقديره: هذا تنزيل، والإشارة إلى القرآن.
وقرأ ابن أبي عبلة: «تنزيل» بنصب اللام.
و: الْكِتابِ في قوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ قال المفسرون: هو القرآن، ويظهر إلى أنه اسم عام لجميع ما تنزل من عند الله من الكتب، فإنه أخبر إخبارا مجردا أن الكتب الهادية الشارعة إنما تنزيلها من الله، وجعل هذا الإخبار تقدمة وتوطئة لقوله: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ.
و: الْعَزِيزِ في قدرته. الْحَكِيمِ في ابتداعه. و: الْكِتابَ الثاني: هو القرآن لا يحتمل غير ذلك.
وقوله: بِالْحَقِّ يحتمل معنيين، أحدهما: أن يكون معناه متضمنا الحق، أي بالحق فيه وفي أحكامه وأخباره. والثاني: أن يكون بِالْحَقِّ بمعنى بالاستحقاق والوجوب وشمول المنفعة للعالم في هدايتهم ودعوتهم إلى الله.
وقوله تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ يحتمل أن تكون الفاء عاطفة جملة من القول على جملة واصلة، ويحتمل أن يكون كالجواب، لأن قوله: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ جملة كأنه ابتداء وخبر، كما لو

(4/517)


لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)

قال: الكتاب منزل، وفي الجمل التي هي ابتداء وخبر إبهام ما تشبه به الجزاء، فجاءت الفاء كالجواب، كما تقول: زيد قائم فأكرمه، ونحو هذا:
وقائلة خولان فانكح فتاتهم التقدير: هذه خولان. و: مُخْلِصاً حال. و: الدِّينَ نصب به. ومعنى الآية الأمر بتحقيق النية لله في كل عمل، والدِّينَ هنا يعم المعتقدات وأعمال الجوارح.
وقوله تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ بمعنى من حقه ومن واجباته لا يقبل غير هذا، وهذا كقوله:
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ [الجاثية: 36] ، أي واجبا ومستحقا. قال قتادة: الدِّينُ الْخالِصُ، لا إله إلا الله.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا رفع بالابتداء، وخبره في المحذوف المقدر، تقديره: يقولون ما نعبدهم، وفي مصحف ابن مسعود: «قالوا ما نعبدهم» ، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وابن جبير.
و: أَوْلِياءَ يريد بذلك معبودين، وهذه مقالة شائعة في العرب، يقول كثير منهم في الجاهلية: الملائكة بنات الله ونحن نعبدهم ليقربونا، وطائفة منهم قالت ذلك في أصنامهم وأوثانهم. وقال مجاهد: قد قال ذلك قوم من اليهود في عزير، وقوم من النصارى في عيسى ابن مريم. وفي مصحف أبي بن كعب: «ما نعبدكم» بالكاف «إلا لتقربونا» بالتاء. وزُلْفى بمعنى قربى وتوصلة، كأنه قال: لتقربونا إلى الله تقريبا، وكأن هذه الطوائف كلها كانت ترى نفوسها أقل من أن تتصل هي بالله، فكانت ترى أن تتصل بمخلوقاته.
وزُلْفى عند سيبويه مصدر في موضع الحال، كأنه ينزل منزلة متزلفين، والعامل فيه لِيُقَرِّبُونا هذا مذهب سيبويه وفيه خلاف، وباقي الآية وعيد في الدنيا والآخرة قوله عز وجل:
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ هذه الآية إما أن يكون معناها أن الله لا يهدي الكاذب الكفار في حال كذبه وكفره، وإما أن يكون لفظها العموم ومعناها الخصوص فيمن ختم الله عليه بالكفر وقضى في الأزل أنه لا يؤمن أبدا، وإلا فقد وجد الكاذب الكفار قد هدى كثيرا.
وقرأ أنس بن مالك والجحدري: «كذب كفار» بالمبالغة فيهما، ورويت عن الحسن والأعرج ويحيى بن يعمر، وهذه المبالغة إشارة إلى المتوغل في الكفر، القاسي فيه الذي يظن به أنه مختوم عليه.

[سورة الزمر (39) : الآيات 4 الى 5]
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
قوله تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ. معناه: اتخاذ التشريف والتبني، وعلى هذا يستقيم. قوله تعالى: لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ.

(4/518)


خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)

وأما الاتخاذ المعهود في الشاهد فمستحيل أن يتوهم في جهة الله تعالى، ولا يستقيم عليه معنى قوله: لَاصْطَفى وقوله: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً [مريم: 92] لفظ يعم اتخاذ النسل واتخاذ الأصفياء، فأما الأول فمعقول، وأما الثاني فمعروف لخبر الشرع، ومما يدل على أن معنى قوله: أن يتخذ الاصطفاء والتبني قوله: مِمَّا يَخْلُقُ أي من موجوداته ومحدثاته. ثم نزه تعالى نفسه تنزيها مطلقا عن جميع ما لا يكون مدحة، واتصافه تعالى ب الْقَهَّارُ اتصاف على الإطلاق، لأن أحدا من البشر إن اتصف بالقهر فمقيد في أشياء قليلة، وهي في حين قهره لغيره مقهور لله تعالى عن أشياء كثيرة.
وقوله: بِالْحَقِّ معناه بالواجب الواقع موقعه الجامع للمصالح.
وقوله: يُكَوِّرُ معناه يعيد من هذا على هذا، ومنه كور العمامة التي يلتوي بعضها على بعض، فكأن الذي يطول من النهار أو الليل يصير منه على الآخر جزء فيستره، وكأن الآخر الذي يقصر يلج في الذي يطول فيستتر فيه، فيجيء يُكَوِّرُ على هذا معادلا لقوله: يُولِجُ [الحج: 61، لقمان: 29، فاطر: 13، الحديد: 6] ضدا له. وقال أبو عبيدة: هما بمعنى، وهذا من قوله تقرير لا تحرير، و «تسخير الشمس» دوامها على الجري واتساق أمرها على ما شاء الله تعالى، و «الأجل المسمى» يحتمل أن يكون يوم القيامة حين تنفسد البنية ويزول جري هذه الكواكب، ويحتمل أن يريد وقت مغيبها كل يوم وليلة، ويحتمل أن يريد أوقات رجوعها إلى قوانينها كل شهر في القمر وسنة في الشمس.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : آية 6]
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
«النفس الواحدة» المرادة في الآية هي نفس آدم عليه السلام، قاله قتادة وغيره. ويحتمل أن يكون اسم الجنس.
وقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلَ ظاهر اللفظ يقتضي أن جعل الزوجة من النفس هو بعد أن خلق الخلق منها، وليس الأمر كذلك.
واختلف الناس في تأويل هذا الظاهر، فقالت فرقة قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هو أخذ الذرية من ظهر آدم وذلك شيء كان قبل خلق حواء، وقالت فرقة: إنما هي لترتيب الأخبار لا لترتيب المعاني.
كأنه قال: ثم كان من أمره قبل ذلك أن جعل منها زوجها، وفي نحو هذا المعنى ينشد هذا البيت [أبو النواس] : [الخفيف]
قل لمن ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جدّه
وقالت فرقة قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ عبارة عن سبق ذلك في علم الله تعالى، فلما كان

(4/519)


إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)

ذلك أمرا حتما واقعا ولا بد، حسن أن يخبر عن تلك الحال التي كانت وثيقة، ثم عطف عليها حالة جعل الزوجة منها، فجاءت معان مترتبة وإن كان خروج خلق العالم من آدم إلى الوجود إنما يجيء بعد ذلك، وزوج آدم حواء عليهما السلام، وخلقت من ضلعه القصيري فيما روي، ويؤيد هذا الحديث الذي فيه أن المرأة خلقت من ضلع، فإن ذهبت تقيمه كسرته. وقالت فرقة: خلقت حواء من بقية طين آدم والأول أصح، وقد تقدم شرح ذلك. وقوله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ قيل معناه: أن المخلوق الأول من هذه الأنعام خلق في السماء وأهبط إلى الأرض، وقالت فرقة: بل لما نزل الأمر بخلقه وإيجاده من عند الله، وكانت العادة في نعم الله ورحمته وأمطاره وغير ذلك أن يقال فيها إنها من السماء عبر عن هذه ب أَنْزَلَ، وقالت فرقة: لما كانت الأمطار تنزل وكانت الأعشاب والنبات عن المطر، وكانت هذه الأنعام عن النبات في سمنها ومعاشها، قال في هذه أَنْزَلَ فهو على التدريج كما قال الراجز:
أسنمة الآبال في ربابه.
وكما قال الشاعر [عمرو بن حبان] : [الطويل] تعالى الندى في متنه وتحدرا وجعلها ثَمانِيَةَ، لأن كل واحد فيه زوج للذكر من فرعه، وهي الضأن والمعز والبقر والإبل.
وقوله تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ قال ابن زيد، معناه: يخلقكم في البطون خلقا من بعد خلق آخر في ظهر آدم وظهور الآباء. وقال مجاهد وعكرمة والسدي: يخلقكم في البطون رتبا خلقا من بعد خلق على المضغة والعلقة وغير ذلك.
وقرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف: يَخْلُقُكُمْ بإدغام القاف في الكاف في جميع القرآن.
وقرأ الجمهور: أُمَّهاتِكُمْ بضم الهمزة. وقرأ يحيى بن وثاب: بكسرها وهي لغتان.
وقوله: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ قالت فرقة: الأولى هي ظهر الأب، ثم رحم الأم، ثم المشيمة في البطن. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: هي المشيمة والرحم والبطن، وهذه الآيات كلها هي معتبر وتنبيه لهم على الخالق الصانع الذي لا يستحق العبادة غيره، وهذا كله في رد أمر الأصنام والإفساد لها. ثم قال تعالى لهم: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ وقد قامت على ذلك البراهين واتسقت الأدلة فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، أي من أي جهة تضلون وبأي سبب؟
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : آية 7]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
قال ابن عباس: هذه الآية مخاطبة للكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم. و «عباده» : هم المؤمنون.

(4/520)


وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)

قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن تكون مخاطبة لجميع الناس، لأن الله تعالى غني عن جميع الناس وهم فقراء إليه، وبين بعد البشر عن رضى الله إن كفروا بقوله: إِنْ تَكْفُرُوا.
واختلف المتأولون من أهل السنة في تأويل قوله: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ فقالت فرقة: الرضى بمعنى الإرادة والكلام ظاهره العموم ومعناه الخصوص فيمن قضى الله له بالإيمان وحتمه له، و «عباده» على هذا ملائكته ومؤمنو البشر والجن، وهذا يتركب على قول ابن عباس. وقالت فرقة: الكلام عموم صحيح، والكفر يقع ممن يقع بإرادة الله، إلا أنه بعد وقوعه لا يرضاه دينا لهم، فهذا يتركب على الاحتمال الذي تقدمك آنفا. ومعنى: لا يرضاه لا يشكره لهم ولا يثيبهم به خيرا، فالرضى على هذا هو صفة فعل لمعنى القبول ونحوه. وتأمل الإرادة فإنها حقيقة، إنما هي فيما لم يقع بعد، والرضى، فإنما حقيقة فيما قد وقع، واعتبر هذا في آيات القرآن تجده، وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارها على جهة التجوز هذا بدل هذا.
وقوله تعالى: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ عموم، والشكر الحقيقي في ضمنه الإيمان.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: «يرضه» بضمة على الهاء مشبعة. وقرأ ابن عامر وعاصم «يرضه» بضمة على الهاء غير مشبعة، واختلف عن نافع وأبي عمرو. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر:
«يرضه» بسكون الهاء، قال أبو حاتم: وهو غلط لا يجوز، قال تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا يحمل أحد ذنب أحد، وأنث «الوازرة» و «الأخرى» لأنه أراد الأنفس. والوزر الثقل، وهذا خبر مضمنه الحض على أن ينظر كل أحد في خاصة أمره وما ينوبه في ذاته.
ثم أخبرهم تعالى بأن مرجعهم في الآخرة إلى ربهم، أي إلى ثوابه أو عقابه، فيوقف كل أحد على أعماله، لأنه المطلع على نيات الصدور وسائر الأفئدة. و «ذات الصدور» : ما فيه من خبيئة، ومنه قولهم:
الذيب مغبوط بذي بطنه.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : آية 8]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8)
الْإِنْسانَ في هذه الآية يراد به الكافر بدلالة ما وصفه به آخرا من اتخاذ الأنداد لله تعالى، وقوله:
تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا وهذه آية بين تعالى بها على الكفار أنهم على كل حال يلجؤون في حال الضرورات إليه وإن كان ذلك عن غير يقين منهم ولا إيمان فلذلك ليس بمعتد به. ومُنِيباً معناه مقاربا مراجعا بصيرته.
وقوله تعالى: ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً يحتمل أن يريد النعمة في كشف الضر المذكور، ويحتمل أن يريد نعمة أي نعمة كانت، واللفظ يعم الوجهين. وخَوَّلَهُ معناه ملكه وحكمه فيها ابتداء لا مجازاة، ولا يقال في الجزاء خول، ومنه الخول، ومنه قول زهير:

(4/521)


أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)

هنالك أن يستخولوا المال يخولوا هذه الرواية الواحدة، ويروى يستخبلوا.
وقوله تعالى: نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ قالت فرقة: ما مصدرية، والمعنى نسي دعاءه إليه في حال الضرر ورجع إلى كفره. وقالت فرقة: بمعنى الذي، والمراد بها الله تعالى، وهذا كنحو قوله:
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون: 3- 5] وقد تقع «ما» مكان «من» فيما لا يحصى كثرة من كلامهم، ويحتمل أن تكون ما نافية، ويكون قوله: نَسِيَ كلاما تاما، ثم نفى أن يكون دعاء هذا الكافر خالصا لله ومقصودا به من قبل النعمة، أي في حال الضرر، ويحتمل أن تكون ما نافية ويكون قوله: مِنْ قَبْلُ يريد به: من قبل الضرر، فكأنه يقول: ولم يكن هذا الكافر يدعو في سائر زمنه قبل الضرر، بل ألجأه ضرره إلى الدعاء. والأنداد: الأضداد التي تضاد وتزاحم وتعارض بعضها بعضا. قال مجاهد: المراد من الرجال يطيعونهم في معصية الله تعالى. وقال غيره: المراد الأوثان.
وقرأ الجمهور: «ليضل» بضم الياء، وقرأها الباقون: أبو عمرو وعيسى وابن كثير وشبل (بفتحها) ثم أمر تعالى نبيه أن يقول لهم على جهة التهديد قولا يخاطب به واحدا منهم: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ أي تلذذ به واصنع ما شئت، والقليل: هو عمر هذا المخاطب، ثم أخبره أنه مِنْ أَصْحابِ النَّارِ، أي من سكانها والمخلدين فيها.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 9 الى 10]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10)
وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة: «أمن» بتخفيف الميم، وهي قراءة أهل مكة والأعمش وعيسى وشيبة بن نصاح، ورويت عن الحسن، وضعفها الأخفش وأبو حاتم. وقرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر والكسائي والحسن والأعرج وقتادة وأبو جعفر: «أمن» بتشديد الميم، فأما القراءة الأولى فلها وجهان، أحدهما: وهو الأظهر أن الألف تقرير واستفهام، وكأنه يقول: أهذا القانت خير أم هذا المذكور الذي يتمتع بكفره قليلا وهو من أصحاب النار؟ وفي الكلام حذف يدل عليه سياق الآيات مع قوله آخرا: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، ونظيره قول الشاعر [امرئ القيس] : [الطويل]
فأقسم لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
ويوقف على هذا التأويل على قوله: رَحْمَةَ رَبِّهِ. والوجه الثاني: أن يكون الألف نداء، والخطاب لأهل هذه الأوصاف، كأنه يقول: أصاحب هذه الصفات قُلْ هَلْ يَسْتَوِي فهذا السؤال ب هَلْ هو

(4/522)


للقانت، ولا يوقف على التأويل على قوله: رَحْمَةَ رَبِّهِ، وهذا معنى صحيح، إلا أنه أجنبي من معنى الآيات قبله وبعده، وضعفه أبو علي الفارسي. وقال مكي: إنه لا يجوز عند سيبويه، لأن حرف النداء لا يسقط مع المبهم وليس كما قال مكي، أما مذهب سيبويه في أن حرف النداء لا يسقط مع الميم، فنعم، لأنه يقع الإلباس الكثير بذلك، وأما أن هذا الموضع سقط فيه حرف النداء فلا، والألف ثابتة فيه ظاهرة، وأما القراءة بتشديد الميم فإنها: «أم» دخلت على: «من» والكلام على هذه القراءة لا يحتمل إلا المعادلة بين صنفين، فيحتمل أن يكون ما يعادل «أم» متقدما في التقدير، كأنه يقول: أهذا الكافر خير أم من، ويحتمل أن تكون «أم» قد ابتدأ بها بعد إضراب مقدر ويكون المعادل في آخر الكلام، والأول أبين.
والقانت: المطيع، وبهذا فسر ابن عباس رضي الله عنه، والقنوت في كلام العرب: يقع على القراءة وعلى طول القيام في الصلاة، وبهذا فسرها ابن عمر رضي الله عنه، وروي عن ابن عباس أنه قال: من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة، فليره الله في سواد الليل ساجدا أو قائما، ويقع القنوت على الدعاء وعلى الصمت عبادة. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أن القنوت: الطاعة.
وقال جابر بن عبد الله: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل؟ فقال: «طول القنوت» .
والآناء: الساعات، واحدها: أني كمعى ومنه قولهم: لن يعدو شيء أناه، ومنه قوله تعالى: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: 53] على بعض التأويلات في ذلك ويقال في واحدها أيضا: أنى على وزن قفى، ويقال فيه أيضا: إني بكسر الهمزة وسكون النون، ومنه قول الهذلي: [البسيط]
حلو ومر كعطف القدح مرته ... في كل إني حداه الليل ينتعل
وقرأ الضحاك: «ساجد وقائم» بالرفع فيهما.
وقوله تعالى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ معناه يحذر حالها وهولها. وقرأ سعيد بن جبير: «يحذر عذاب الآخرة» وأُولُوا معناه أصحاب الألباب، واحدهم: ذو.
وقرأ جمهور القراء: «قل يا عبادي» بفتح الياء. وقرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش: «يا عبادي» بياء ساكنة. وقرأ أبو عمرو أيضا وعاصم والأعمش وابن كثير: «يا عباد» بغير ياء في الوصل.
ويروى أن هذه الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة. ووعد تعالى بقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ويحتمل أن يكون قوله:
فِي هذِهِ الدُّنْيا، متعلقا ب أَحْسَنُوا، فكأنه يريد أن الذين يحسنون في الدنيا لهم حسنة في الآخرة وهي الجنة والنعيم، قاله مقاتل، ويحتمل أن يريد: أن الذين يحسنون لهم حسنة في الدنيا وهي العاقبة والظهور وولاية الله تعالى، قاله السدي. وكان قياس قوله أن يكون في هذه الدنيا متأخرا ويجوز تقديمه، والأول أرجح أن الحسنة هي في الآخرة. وَأَرْضُ اللَّهِ يريد بها البلاد المجاورة التي تقتضيها القصة التي في الكلام فيها، وهذا حض على الهجرة، ولذلك وصف الله الأرض بالسعة. وقال قوم: أراد ب «الأرض» هنا الجنة، وفي هذا القول تحكم لا دليل عليه.
ثم وعد تعالى على الصبر على المكاره والخروج عن الوطن ونصرة الدين وجميع الطاعات: بأن

(4/523)


قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)

الأجر يوفى بِغَيْرِ حِسابٍ، وهذا يحتمل معنيين، أحدهما: أن الصابر يوفى أجره ثم لا يحاسب عن نعيم ولا يتابع بذنوب، فيقع الصَّابِرُونَ في هذه الآية على الجماعة التي ذكرها النبي عليه السلام أنها تدخل الجنة دون حساب في قوله: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون وجوههم على صورة القمر ليلة البدر» الحديث على اختلاف ترتيباته. والمعنى الثاني: أن أجور الصابرين توفى بغير حصر ولا عد، بل جزافا، وهذه استعارة للكثرة التي لا تحصى، ومنه قول الشاعر [طويس المغني] : [الكامل]
ما تمنعي يقضى فقد تعطينه ... في النوم غير مسرد محسوب
وإلى هذا التأويل ذهب جمهور المفسرين حتى قال قتادة: ليس ثم والله مكيال ولا ميزان، وفي بعض الحديث أنه لما نزلت: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: 261] قال النبي عليه السلام: اللهم زد أمتي فنزلت بعد ذلك: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة: 245] ، فقال:
اللهم زد أمتي حتى أنزلت: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ فقال: رضيت يا رب.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 11 الى 15]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15)
أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية بأن يصدع للكفار فيما أمر به من عبادة ربه.
وقوله: أُمِرْتُ لأن معناه: وأمرت بهذا الذي ذكرت لكي أكون أول من أسلم من أهل عصري وزمني، فهذه نعمة من الله عليه وتنبيه منه.
وقوله: أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ فعل معلق بشرط وهو العصيان، وقد علم أنه عليه السلام معصوم منه، ولكنه خطاب للأمة يعمهم حكمه ويحفهم وعيده.
وقوله تعالى قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ تأكيد للمعنى الأول وإعلام بامتثاله كله للأمر، وهذا كله نزل قبل القتال لأنها موادعات.
وقوله: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ صيغة أمر على جهة التهديد كنحو قوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 40] وقوله: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ [الزمر: 8] ، وهذا كثير. والَّذِينَ في قوله: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ في موضع رفع خبر، لأن قوله: وَأَهْلِيهِمْ قيل معناه أنهم خسروا الأهل الذي كان يكون لهم لو كانوا من أهل الجنة، فهذا كما لو قال: خسروا أنفسهم ونعيمهم، أي الذي كان يكون بهم، وقيل أراد الأنفس والأهلين الذين كانوا في الدنيا، لأنهم صاروا في عذاب النار، ليس لهم نفوس مستقرة ولا بدل من

(4/524)


لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)

أهل الدنيا، ومن له في الجنة قد صار له إما أهله وإما غيرهم على الاختلاف فيما يؤثر في ذلك فهو على كل حال لا خسران معه بتة.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 16 الى 18]
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18)
هذه صفة حال أهل جهنم. والظلة: ما غشي وغم كالسحابة وسقف البيت ونحوه، فأما ما فوقهم فكونه ظلة بين، وأما ما تحتهم فقالت فرقة: سمي ظلة لأنه يتلهب، ويصعد مما تحتهم شيء كثير ولهب حتى يكون ظلة، فإن لم يكن فوقهم شيء لكفى فرع الذي تحتهم في أن يكون ظلة، وقالت فرقة: جعل ما تحتهم ظلة، لأنه فوق آخرين، وهكذا هي حالهم إلا الطبقة الأخيرة التي في القعر.
وقوله: عِبادَهُ يريد جميع العالم خوفهم الله النار وحذرهم منها، فمن هدي وآمن نجا، ومن كفر حصل فيما خوف منه. واختلفت القراءة في قوله: «عباد» وقد تقدم نظيره.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ الآية، قال ابن زيد: إن سبب نزولها زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري، والإشارة إليهم. وقال ابن إسحاق: الإشارة بها إلى عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير، وذلك أنه لما أسلم أبو بكر سمعوا ذلك فجاؤوه، فقالوا أسلمت؟ قال نعم، وذكرهم بالله فآمنوا بأجمعهم فنزلت فيهم هذه الآية، وهي على كل حال عامة في الناس إلى يوم القيامة يتناولهم حكمها. والطَّاغُوتَ: كل ما يعبد من دون الله.
والطَّاغُوتَ أيضا: الشيطان، وبه فسر هنا مجاهد والسدي وابن زيد، وأوقعه هنا على جماعة الشياطين، ولذلك أنث الضمير بعد.
وقوله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ كلام عام في جميع الأقوال، وإنما القصد الثناء على هؤلاء ببصائر هي لهم وقوام في نظرهم حتى أنهم إذا سمعوا قولا ميزوه واتبعوا أحسنه.
واختلف المفسرون في العبارة عن هذا، فقالت فرقة: أحسن القول كتاب الله، أي إذا سمعوا الأقاويل وسمعوا القرآن اتبعوا القرآن. وقالت فرقة: القول هو القرآن وأَحْسَنَهُ ما فيه من عفو وصفح واحتمال على صبر ونحو ذلك. وقال قتادة: أحسن القول طاعة الله، وهذه أمثلة وما قلناه أولا يعمها.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 19 الى 21]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)

(4/525)


أسقط العلامة التي في الفعل المسند إلى الكلمة لوجهين: أحدهما الحائل الذي بين الفعل والفاعل، ولو كان متصلا به لم يحسن ذلك، والثاني أن الكلمة غير مؤنث حقيقي، وهذا أخف وأجوز من قولهم: حضر القاضي يوما امرأة، لأن التأنيث هنا حقيقي. وقالت فرقة: في هذا الكلام محذوف أختصره لدلالة الظاهر عليه تقديرا: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ تتأسف أنت عليه أو نحو هذا من التقدير، ثم استأنف توقيف النبي صلى الله عليه وسلم على أنه يريد أن ينقذ من في النار، أي ليس هذا إليك. وقالت فرقة: الألف في قوله: أَفَأَنْتَ إنما هي مؤكدة زادها لطول، وإنما معنى الآية:
«أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه؟» لكنه زاد الألف الثانية توكيدا للأمر، وأظهر الضمير العائد تشهيرا لهؤلاء القوم وإظهارا لخسة منازلهم، وهذا كقول الشاعر [عدي بن زيد العبادي] : [الخفيف] لا أرى الموت يسبق الموت شيء فإنما أظهر الضمير تنبيها على عظم الموت، وهذا كثير، ثم استفتح إخبارا آخر ب لكِنِ وهذه معادلة وتخصيص على التقوى لمن فكر وازدجر.
وقوله تعالى: مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت الغرف، وعادلت غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ ما تقدم من الظلل فوقهم وتحتهم. والغرف: ما كان من المساكن مرتفعا عن الأرض، في الحديث: «إن أهل الجنة ليتراءون الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الذي في الأفق» . و: وَعْدَ اللَّهِ نصب على المصدر، ونصبه إما بفعل مضمر من لفظه، وإما بما تضمن الكلام قبل من معنى الوعد على الاختلاف الذي للنحاة في ذلك. ثم وقف نبيه صلى الله عليه وسلم على معتبر من مخلوقاته، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وكل بشر داخل معه في معناه. وقال الطبري وغيره: أشار إلى ماء المطر، وقالوا: العيون منه، ودليل ذلك أنها تنماع عند وجوده وتيبس عند فقده. وقال الحسن بن مسلم بن يناق، والإشارة إلى العيون وليست العيون من المطر، ولكن ماؤها نازل من السماء. قال الشعبي: وكل ماء عذب في الأرض فمن السماء نزل.
قال القاضي أبو محمد: والقولان متقاربان: و: «سلكه» معناه: أجراه وأدخله، ومنه قول الشاعر [البسيط]
حتى سلكن الشوى منهن في مسك ... من نسل جوابة الآفاق مهداج
ومنه قول امرئ القيس: [السريع]

(4/526)


أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)

وواحد الينابيع وهو العين بني لها بناء مبالغة من النبع. والزرع هنا واقع على كل ما يزرع. وقالت فرقة: أَلْوانُهُ أعراضه من الحمرة والصفرة وغير ذلك. وقالت فرقة: أَلْوانُهُ أنواعه من القمح والأرز والذرة وغير ذلك. و: يَهِيجُ ييبس، هاج النبات والزرع إذا يبس، ومنه قول علي رضي الله عنه في الحديث الذي في غريب ابن قتيبة: ذمتي رهينة وأنا به زعيم. أي لا يهيج عن التقوى زرع قوم، ولا ييبس على التقوى سنخ أصل، والحديث. والحطام: اليابس المتفتت. ومعنى قوله: لَذِكْرى أي للبعث من القبور وإحياء الموتى على ما يوجبه هذا المثال المذكور.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 22 الى 23]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)
روي أن هذه الآية: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ آية نزلت في علي وحمزة، وأبي لهب وابنه هما اللذان كانا من القاسية قلوبهم، وفي الكلام محذوف يدل الظاهر عليه، تقديره: أفمن شرح الله صدره كالقاسي القلب المعرض عن أمر الله. وشرح الصدر: استعارة لتحصيله للنظر الجيد والإيمان بالله.
و «النور» هداية الله تعالى، وهي أشبه شيء بالضوء. قال ابن مسعود: قلنا يا رسول الله كيف انشراح الصدر؟ قال: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح» ، قالوا وما علامة ذلك؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل الموت» . و «القسوة» : شدة القلب، وهي مأخوذة من قسوة الحجر، شبه قلب الكافر به في ضلالته وقلة انفعاله للوعظ. وقال مالك بن دينار: ما ضرب العبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب، ويدل قوله: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ على المحذوف المقدر.
وقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يريد به القرآن، وروي عن ابن عباس أن سبب هذه الآية أن قوما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وأخبرنا بأخبار الدهر، فنزلت الآية في ذلك.
وقوله: مُتَشابِهاً معناه: مستويا لا تناقض فيه ولا تدافع، بل يشبه بعضه بعضا في وصف اللفظ ووثاقة البراهين وشرف المعاني، إذ هي اليقين في العقائد في الله تعالى وصفاته وأفعاله وشرعه.
وقوله: مَثانِيَ معناه: موضع تثنية للقصص والأقضية، والمواعظ شتى فيه ولا تمل مع ذلك ولا يعرضها ما يعرض الحديث المعاد. قال ابن عباس: ثنى فيه الأمر مرارا. ولا ينصرف مَثانِيَ لأنه جمع لا نظير له في الواحد.

(4/527)


أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)

وقوله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ عبارة عن قفّ شعر الإنسان عند ما يداخله خوف ولين قلب عند سماع موعظة أو زجر قرآن ونحوه، وهذه علامة وفزع المعنى المخشع في قلب السامع، وفي الحديث أن أبي بن كعب قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم فرقت القلوب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة. وقال العباس بن عبد المطلب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها» . وقالت أسماء بنت أبي بكر: كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن، قيل لها: إن أقواما اليوم إذا سمع أحدهم القرآن خر مغشيا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقال ابن عمر: وقد رئي ساقطا عند سماع القرآن فقال: إنا لنخشى الله وما نسقط، هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم. وقال ابن سيرين: بيننا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه ثم يقرأ القرآن كله، فإن رمى بنفسه فهو صادق.
وقوله: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يحتمل أن يشير إلى القرآن، أي ذلك الذي هذه صفته هدى الله، ويحتمل أن يشير إلى الخشية واقشعرار الجلود، أي ذلك أمارة هدى الله، ومن جعل تَقْشَعِرُّ في موضع الصفة لم يقف على مَثانِيَ، ومن جعله مستأنفا وإخبارا منقطعا وقف على مَثانِيَ وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 24 الى 28]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
هذا تقرير بمعنى التعجيب، والمعنى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ كالمنعمين في الجنة.
واختلف المتأولون في قوله: يَتَّقِي بِوَجْهِهِ فقال مجاهد: يخر على وجهه في النار. وقالت فرقة:
ذلك لما روي أن الكافر يلقى في النار مكتوفا مربوطة يداه إلى رجليه مع عنقه ويكب على وجهه، فليس له شيء يتقي به إلا الوجه. وقالت فرقة: المعنى صفة كثرة ما ينالهم من العذاب، وذلك أنه يتقيه بجميع جوارجه ولا يزال العذاب يتزيد حتى يتقيه بوجهه الذي هو أشرف جوارجه وفيه حواسه، فإذا بلغ به العذاب إلى هذه الغاية ظهر أنه لا متجاوز بعدها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا المعنى عندي أبين بلاغة، وفي هذا المضمار يجري قول الشاعر:
[الكامل]
يلقى السيوف بوجهه وبنحره ... ويقيم هامته مقام المغفر

(4/528)


ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)

لأنه إنما أراد عظيم جرأته عليها فهو يلقاها بكل محن وبكل شيء منه حتى بوجهه وبنحره.
وقوله تعالى: ذُوقُوا عبارة عن باشروا، وهنا محذوف تقديره: جزاء ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ، ثم مثل لقريش بالأمم السالفة، ثم أخبر بما نال تلك الأمم من كونها في الدنيا أحاديث ملعنة، ولا خزي أعظم من هذا مع ما نال نفوسهم من الألم والذل والكرب، ثم أخبر أن ما أعد لهم من عذاب الآخرة أكبر من هذا كله الذي كان في الدنيا.
وقوله: قُرْآناً قالت فرقة: هو نصب على الحال، وقالت فرقة: هو نصب على المصدر.
و: عَرَبِيًّا حال، وقالت فرقة: نصب على التوطئة للحال، والحال قوله: عَرَبِيًّا ونفى عنه العوج لأنه لا اختلاف فيه ولا تناقض ولا مغمز بوجه.
واختلفت عبارة المفسرين، فقال عثمان بن عفان: المعنى غير متضاد، قال ابن عباس: غير مختلف.
وقرأ مجاهد: غير ذي لبس. وقال السدي: غير مخلوق. وقال بكر المزني: غير ذي لحن. والعوج بكسر العين في الأمر والمعنى وبفتحها في الأشخاص.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 29 الى 32]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32)
لما ذكر عز وجل أنه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل مجملا جاء بعد ذلك بمثل في أهم الأمور وأعظمها خطرا وهو التوحيد، فمثل تعالى الكافر والعابد للأوثان والشياطين لرجال عدة في أخلاقهم شكاسة ونقص وعدم مسامحة، فهم لذلك يعذبون ذلك العبد بأنهم يتضايقون في أوقاتهم ويضايقون العبد في كثرة العمل، فهو أبدا ناصب، فكذلك عابد الأوثان الذي يعتقد أن ضره ونفعه عندها هو معذب الفكر بها وبحراسة حاله منها، ومتى أرضى صنما منها بالذبح له في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر، فهو أبدا تعب في ضلال، وكذلك هو المصانع للناس الممتحن بخدمة الملوك، ومثل تعالى المؤمن بالله وحده بعبد لرجل واحد يكلفه شغله فهو يعمله على تؤدته وقد ساس مولاه، فالمولى يغفر زلته ويشكره على إعادة عمله.
وقوله: ضَرَبَ مأخوذ من الضريب الذي هو الشبيه، ومنه قولهم: هذا ضرب هذا، أي شبهه.
و: مَثَلًا مفعول ب ضَرَبَ، و: رَجُلًا نصب على البدل. قال الكسائي: وإن شئت على إسقاط الخافض، أي مثلا لرجل أو في رجل، وفي هذا نظر، و: مُتَشاكِسُونَ معناه: لا سمح في أخلاقهم بل فيها لجاج ومتابعة ومحاذقة، ومنه قول الشاعر: [الرجز]

(4/529)


خلقت شكسا للأعادي مشكسا ... أكوي السريين وأحسم النسا
من شاء من حر الجحيم استقبسا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «سالما» ، على اسم الفاعل بمعنى سلم من الشركة فيه. قال أبو عمرو معناه: خالصا، وهذه بالألف قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والجحدري والزهري والحسن بخلاف عنه. وقرأ الباقون: «سلما» بفتح السين واللام، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة وأبي رجاء وطلحة والحسن بخلاف. وقرأ سعيد بن جبير: «سلما» ، بكسر السين وسكون اللام، وهما مصدران وصف بهما الرجل بمعنى خالصة وأمر قد سلم له.
ثم وقف الكفار بقوله: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا ونصب مَثَلًا على التمييز، وهذا توقيف لا يجيب عنه أحد إلا بأنهما لا يستويان، فلذلك عاملتهم العبارة الوجيزة على أنهم قد جاوبوا، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على ظهور الحجة عليكم من أقوالكم. ثم قال تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ فأضرب عن مقدر محذوف يقتضيه المعنى، تقديره: الحمد لله على ظهور الحجة، وأن الأمر ليس كما يقولون بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. و «أكثر» في هذه الآية على بابها، لأنا وجدنا الأقل علم أمر التوحيد وتكلم به ورفض الأصنام كورقة وزيد وقس. ثم ابتدأ القول معهم غرضا آخر من الوعيد يوم القيامة والخصوم ومن التحذير من حال الكذبة على الله المكذبين بالصدق، فقدم تعالى لذلك توطئة مضمنها وعظ النفوس وتهيئتها لقبول الكلام وحذف التوعد، وهذا كما تريد أن تنهى إنسانا عن معاصيه أو تأمره بخير فتفتتح كلامك بأن تقول: كلنا يفنى ولا بد للجميع من الموت، أو كل من عليها فان، ونحو هذا مما توقن به نفس الذي تحاور، ثم بعد هذا تورد قولك، فأخبر تعالى أن الجميع «ميت» . وهذه قراءة الجمهور، وقرأها «مائت» و «مايتون» بألف ابن الزبير وابن محيصن وابن أبي إسحاق واليماني وعيسى بن عمر وابن أبي عبلة. والضمير في إِنَّهُمْ لجميع العالم، دخل رجل على صلة بن أشيم فنعى إليه أخاه، وبين يدي صلة طعام فقال صلة للرجل:
ادن فكل، فإن أخي قد نعي إليّ منذ زمان، قال الله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ والضمير في إِنَّكُمْ قيل هو عام فيختصم يوم القيامة المؤمنون والكافرون فيما كان من ظلم الكافرين لهم في كل موطن ظلموا فيه، ومن هذا قول علي بن أبي طالب: أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الرحمن، فيختصم علي وحمزة وعبيدة بن الحارث مع عتبة وشيبة والوليد، ويختصم أيضا المؤمنون بعضهم مع بعض في ظلاماتهم، قاله أبو العالية وغيره. وقال الزبير بن العوام للنبي عليه السلام: أيكتب علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال نعم، حتى يؤدى إلى ذي كل حق حقه. وقد قال عبد الله بن عمر لما نزلت هذه الآية: كيف نختصم ونحن أخوان؟ فلما قتل عثمان وضرب بعضنا وجوه بعض بالسيوف، قلنا هذا الخصام الذي وعدنا ربنا. ويختصم أيضا على ما روي: الروح مع الجسد، في أن يذنب كل واحد منهما صاحبه ويجعل المعصية في حيزه، فيحكم الله تعالى بشركتهما في ذلك.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى الآية عندي أن الله تعالى توعدهم بأنهم سيخاصمون يوم القيامة في معنى ردهم في معنى الشريعة وتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم.

(4/530)


وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)

ثم وقفهم توقيفا معناه نفي الموقف عليه بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله، والإشارة بهذا الكذب بقولهم: إن لله صاحبة وولدا وقولهم: إن كذا حرام، وإن كذا حلال افتراء على الله، وكذبوا أيضا بالصدق، وذلك تكذيبهم أقوال محمد عليه السلام عن الله تعالى ما كان من ذلك معجزا أو غير معجز. ثم توعدهم تعالى تواعدا فيه احتقارهم بقوله على وجه التوقيف: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ، والمثوى موضع الإقامة.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 33 الى 37]
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37)
قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ معادل لقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ [الزمر: 32] فَمَنْ [الزمر: 32] هنالك للجميع والعموم، فكذلك هاهنا هي للجنس أيضا، كأنه قال: والفريق الذي جاء بعضه بالصدق وصدق بعضه، ويستقيم المعنى واللفظ على هذا الترتيب. وفي قراءة ابن مسعود: والذي جاؤوا بالصدق وصدقوا به. و «الصدق» هنا: القرآن وأنباؤه والشرع بجملته. وقالت فرقة: الَّذِي يراد به الذين، وحذفت النون لطول الكلام، وهذا غير جيد، وتركيب جاء عليه يرد ذلك، وليس هذا كقول الفرزدق:
إن عميّ اللذا قتلا الملوك ونظير الآية قول الشاعر [أشهب بن رميلة] : [الطويل]
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
وقال ابن عباس: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي صدق به، وقالت فرقة من المفسرين: «الذي جاء» هو جبريل، والذي صدق به هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال علي بن أبي طالب وأبو العالية والكلبي وجماعة: «الذي جاء» هو محمد عليه السلام، والذي صدق هو أبو بكر. وقال أبو الأسود وجماعة منهم مجاهد: الذي صدق هو علي بن أبي طالب وقال قتادة وابن زيد:
«الذي جاء» هو محمد عليه السلام، والذي صدق به هم المؤمنون. قال مجاهد هم أهل القرآن. وقالت فرقة: بالعموم الذي ذكرناه أولا، وهو أصوب الأقوال.
وقرأ أبو صالح ومحمد بن جحادة وعكرمة بن سليمان: «وصدق به» بتخفيف الدال، بمعنى استحق به اسم الصدق، فعلى هذه القراءة يكون إسناد الأفعال كلها إلى محمد عليه السلام، وكأن أمته في

(4/531)


وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)

ضمن القول، وهو الذي يحسن أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ قال ابن عباس: اتقوا الشرك.
واللام في قوله: لِيُكَفِّرَ يحتمل أن تتعلق بقوله: الْمُحْسِنِينَ، أي الذين أحسنوا لكي يكفر، وقاله ابن زيد. ويحتمل أن تتعلق بفعل مضمر مقطوع مما قبله، كأنك قلت: يسرهم الله لذلك ليكفر، لأن التكفير لا يكون إلا بعد التيسير للخير، واستدلوا على أن عَمِلُوا هو كفر أهل الجاهلية ومعاصي أهل الإسلام.
وقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ تقوية لنفس النبي عليه السلام، لأن كفار قريش كانت خوفته من الأصنام، وقالوا يا محمد أنت تسبها ونخاف أن تصيبك بجنون أو علة، فنزلت الآية في ذلك.
وقرأ حمزة والكسائي: «عباده» يريد الأنبياء المختصين به، وأنت أحدهم، فيدخل في ذلك المطيعون من المؤمنين والمتوكلون على الله، وهذه قراءة أبي جعفر ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش.
وقرأ الباقون: «عبده» وهو اسم جنس، وهي قراءة الحسن وشيبة وأهل المدينة ويقوي أن الإشارة إلى محمد عليه السلام قوله: وَيُخَوِّفُونَكَ.
وقوله: مِنْ دُونِهِ يريد بالذين يعبدون من دونه، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى كسر العزى، فقال سادنها: يا خالد، إني أخاف عليك منها، فلها قوة لا يقوم لها شيء، فأخذ خالد الفأس فهشم به وجهها وانصرف. ثم قرر تعالى الهداية والإضلال من عنده بالخلق والاختراع، وأن ما أراد من ذلك لا راد له. ثم توعدهم بعزته وانتقامه، فكان ذلك، وانتقم منهم يوم بدر وما بعده.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 38 الى 40]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40)
هذا ابتداء احتجاج عليهم بحجة أخرى، وجملتها أن وقفوا على الخالق المخترع، فإذا قالوا إنه الله لم يبق لهم في الأصنام غرض إلا أن يقولوا إنها تنفع وتضر، فلما تقعد من قولهم إن الله هو الخالق، قيل لهم أَفَرَأَيْتُمْ هؤلاء إذا أراد الله أمرا بهم قدرتم على نقضه؟ وحذف الجواب عن هذا، لأنه من البين أنه لا يجيب أحد إلا بأنه لا قدرة بالأصنام على شيء من ذلك.
وقرأ: «إن أرادني» بياء مفتوحة جمهور القراء والناس. وقرأ الأعمش: أَرادَنِيَ اللَّهُ بحذف الياء في الوصل، وروى خارجة «إن أراد» بغير ياء.
وقرأ جمهور القراء والأعرج وأبو جعفر والأعمش وعيسى وابن وثاب: «كاشفات ضرّه» بالإضافة.

(4/532)


إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)

وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم: «كاشفات ضرّه» بالتنوين والنصب في الراء، وهي قراءة شيبة والحسن وعيسي بخلاف عنه وعمرو بن عبيد، وهذا هو الوجه فيما لم يقع بعد، وكذلك الخلاف في: مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ.
ثم أمره تعالى بأن يصدع بالاتكال على الله، وأنه حسبه من كل شيء ومن كل ناصر، ثم أمره بتوعدهم في قوله: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ ما رأيتموه متمكنا لكم وعلى حالتكم التي استقر رأيكم عليها.
وقرأ الجمهور: «مكانتكم» بالإفراد. وقرأ «مكاناتكم» بالجمع: الحسن وعاصم.
وقوله: اعْمَلُوا لفظ بمعنى الوعيد. و «العذاب المخزي» : هو عذاب الدنيا يوم بدر وغيره.
و «العذاب المقيم» : هو عذاب الآخرة، أعاذنا الله تعالى منه برحمته.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 41 الى 42]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
هذا إعلام بعلو مكانة محمد عليه السلام واصطفاء ربه له. والْكِتابَ القرآن.
وقوله: بِالْحَقِّ يحتمل معنيين، أحدهما: أن يريد مضمنا الحق في أخباره وأحكامه، والآخر: أن يريد أنه أنزله بالواجب من إنزاله وبالاستحقاق لذلك لما فيه من مصلحة العالم وهداية الناس، وكأن هذا الذي فعل الله تعالى من إنزال كتاب إلى عبيده هو إقامة حجة عليهم، وبقي تكسبهم بعد إليهم، فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ عمل وسعى، وَمَنْ ضَلَّ «فعليها» جنى، والهدى والضلال إنما لله تعالى فيهما خلق واختراع، وللعبد تكسب، عليه يقع الثواب أو العقاب. وأخبر نبيه أنه ليس بوكيل عليهم ولا مسيطر، والوكيل: القائم على الأمر حتى يكمله، ثم نبه تعالى على آية من آياته الكبر تدل الناظر على الوحدانية وأن ذلك لا شرك فيه لصنم وهي حالة التوفي، وذلك أن الله تعالى ما توفاه على الكمال فهو الذي يموت، وما توفاه متوفيا غير مكمل فهو الذي يكون في النوم، قال ابن زيد: النوم وفاة، والموت وفاة. وكثرت فرقة في هذه الآية وهذا المعنى. ففرقت بين النفس والروح، وفرق قوم أيضا بين نفس التمييز ونفس التخيل، إلى غير ذلك من الأقوال التي هي غلبة ظن. وحقيقة الأمر في هذا هي مما استأثر الله به وغيبه عن عباده في قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] ويكفيك أن في هذه الآية يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ، وفي الحديث الصحيح: «إن الله قبض أرواحنا حين شاء وردها علينا حين شاء» في حديث بلال في الوادي، فقد نطقت الشريعة بقبض الروح والنفس في النوم وقد قال الله تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي

(4/533)


أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)

[الإسراء: 85] فظاهر أن التفصيل والخوض في هذا كله عناء وإن كان قد تعرض القول في هذا ونحوه أئمة، ذكره الثعلبي وغيره عن ابن عباس أنه قال: في ابن آدم نفس بها العقل والتمييز، وفيه روح به النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه. والأجل المسمى في هذه الآية: هو عمر كل إنسان.
وقرأ جمهور القراء: «قضى عليها» بفتح القاف على بناء الفعل للفاعل. وقرأ حمزة والكسائي «قضي» بضم القاف على بنائه للمفعول، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى. ثم أحال أهل الفكرة على النظر في هذا ونحوه فإنه من البين أن هذه القدرة لا يملكها ويصرفها إلا الواحد الصمد، لا رب غيره.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 43 الى 45]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
أَمِ هنا مقطوعة مما قبلها، وهي مقدرة بالألف وبل، وهذا تقرير وتوبيخ، فأمر الله تعالى نبيه أن يوقفهم على الأمر وعلى أنهم يرضون بهذا مع كون الأصنام بصورة كذا وكذا من عدم الملك والعقل.
والواو في قوله: أَوَلَوْ واو عطف دخلت عليها ألف الاستفهام، ومتى دخلت ألف الاستفهام على واو العطف أو فائه أحدثت معنى التقرير.
ثم أمره بأن يخبر بأن جميع الشفاعة إنما هو لله تعالى. و: جَمِيعاً نصب على الحال، والمعنى أن الله تعالى يشفع ثم لا يشفع أحد قبل شفاعته إلا بإذنه، فمن حيث شفاعة غيره موقوفة على إذنه بالشفاعة كلها له ومن عنده.
وقوله تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ الآية، قال مجاهد وغيره: نزلت في قراءة النبي عليه السلام سورة النجم عند الكعبة بمحضر من الكفار، وعند ذلك ألقى الشيطان في أمنيته، فقال: «أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، إنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهم لترتجى» [النجم: 19] فاستبشر الكفار بذلك وسروا، فلما أذهب الله ما ألقى الشيطان، أنفوا واستكبروا واشْمَأَزَّتْ نفوسهم، ومعناه تقبضت كبرا أو أنفة وكراهية ونفورا، ومنه قول عمرو بن كلثوم: [الوافر]
إذا عض الثقاف بها اشمأزت ... وولته عشوزنة زبونا
و: الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يريد الذين يعبدون من دونه، وجاءت العبارة في هذه الآيات عن الأصنام كما يجيء عمن يعقل من حيث صارت في حيز من يعقل، ونسب إليها الضر والنفع والألوهية، ونفي ذلك عنها فعوملت معاملة من يعقل. و: وَحْدَهُ منصوب عند سيبويه على المصدر، وعند الفراء على الحال.

(4/534)


قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 46 الى 48]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)
أمر الله تعالى نبيه بالدعاء ورد الحكم إلى عدله، ومعنى هذا الأمر تضمن الإجابة، واللَّهُمَّ عند سيبويه منادى، وكذلك عند الكوفيين، إلا أنه خالفهم في هذه الميم المشددة، فقال سيبويه: هي عوض من حرف النداء المحذوف إيجازا، وهي دلالة على أن ثم ما حذف. وقال الكوفيون: بل هو فعل اتصل بالمكتوبة وهو: أم، ثم حذفت الهمزة تخفيفا، فكأن معنى اللَّهُمَّ: بالله أم بفضلك ورحمتك.
و: فاطِرَ منادى مضاف، أي فاطِرَ السَّماواتِ. والْغَيْبِ: ما غاب عن البشر.
والشَّهادَةِ: ما شاهدوه. ثم أخبر تعالى عن سوء حال الكفرة يوم القيامة، وأن ما ينزل بهم لو قدروا على الافتداء منه بضعف الدنيا بأسرها لفعلوا.
وقوله: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ أي كانت ظنونهم في الدنيا متفرقة متنوعة حسب ضلالتهم وتخيلاتهم فيما يعتقدونه، فإذا عاينوا العذاب يوم القيامة وقصرت به حالاتهم ظهر لكل واحد ما كان يظن. وقال سفيان الثوري: ويل لأهل الرياء من هذه الآية. وقال عكرمة بن عمار جزع ابن المنكدر عند الموت فقيل له ما هذا؟ فقال أخاف هذه الآية وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَحاقَ معناه: نزل وثبت ولزم.
وقوله: ما كانُوا هو على حذف مضاف تقديره: وَحاقَ بِهِمْ جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 52]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
هذه حجة تلزم عباد الأوثان التناقض في أعمالهم، وذلك أنهم يعبدون الأوثان ويعتقدون تعظيمها، فإذا أزفت آزفة ونالت شدة نبذوها ونسوها ودعوا الخالق المخترع رب السماوات والأرض. و: الْإِنْسانَ

(4/535)


قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)

في هذه الآية للجنس. و: خَوَّلْناهُ معناه: ملكناه. قال الزجاج وغيره: التخويل: العطاء عن غير مجازاة.
والنعمة هنا: عامة في جميع ما يسديه الله إلى العبد، فمن ذلك إزالة الضر المذكور، ومن ذلك الصحة والأمن والمال، وتقوى الإشارة إليه في الآية بقوله: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ وبقوله آخرا يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، وبذكر الكسب، وكذلك الضمير في: أُوتِيتُهُ وذلك يحتمل وجوها، منها: أن يريد بالنعمة المال كما قدمناه، ومنها أن يعيد الضمير على المذكور، إذ اسم النعمة يعم ما هو مذكر وما هو مؤنث، ومنها: أن يكون «ما» في قوله: إِنَّما بمعنى الذي، وعلى الوجهين الأولين كافة.
وقوله: عَلى عِلْمٍ في موضع نصب على الحال مع أن تكون «ما» كافة، وأما إذا كانت بمعنى الذي، ف عَلى عِلْمٍ في موضع خبر «إن» ودال على الخبر المحذوف، كأنه قال: هو على علم، يحتمل أن يريد على علم مني بوجه المكاسب والتجارات وغير ذلك، قاله قتادة. ففي هذا التأويل إعجاب بالنفس وتعاط مفرط ونحو هذا، ويحتمل أن يريد على علم من الله في، وشيء سبق لي، واستحقاق حزته عند الله لا يضرني معه شيء، ففي هذا التأويل اغترار بالله تعالى وعجز وتمن على الله. ثم قال تعالى: بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ أي ليس الأمر كما قال، بل هذه الفعلة به فتنة له وابتلاء. ثم أخبر تعالى عمن سلف من الكفرة أنهم قالوا هذه المقالة كقارون وغيره، وأنهم ما أغنى عنهم كسبهم واحتجانهم للأموال، فكذلك لا يغني عن هؤلاء.
ثم ذكر تعالى على جهة التوعد لهؤلاء في نفس المثال أن أولئك أصابهم سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وأن الذين ظلموا بالكفر من هؤلاء المعاصرين لك سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا (وأن الذين ظلموا بالكفر ما أصاب المتقدمين) وهذا خبر من الله تعالى أبرزه الوجود في يوم بدر وغيره. و: «معجزين» معناه مفلتين وناجين بأنفسهم. ثم قرر على الحقيقة في أمر الكسب وسعة النعم فقال: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هو الذي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لقوم ويضيقه على قوم بمشيئته وسابق علمه، وليس ذلك لكيس أحد ولا لعجزه. وَيَقْدِرُ معناه: يضيق كما قال: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق: 7] .
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 55]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55)
هذه الآية عامة في جميع الناس إلى يوم القيامة في كافر ومؤمن، أي إن توبة الكافر تمحو ذنوبه، وتوبة العاصي تمحو ذنبه. واختلف هل يكون في المشيئة أو هو مغفور له ولا بد؟ فقالت فرقة من أهل السنة: هو مغفور له ولا بد، وهذا مقتضى ظواهر القرآن. وقالت فرقة: التائب في المشيئة، لكن يغلب

(4/536)


أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)

الرجاء في ناحيته، والعاصي في المشيئة، لكن يغلب الخوف في ناحيته.
واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية، فقال عطاء بن يسار: نزلت في وحشي قاتل حمزة.
وقال قتادة والسدي وابن أبي إسحاق: نزلت في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا وفتنهم قريش فافتتنوا، ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم فنزلت الآية فيهم، منهم الوليد بن الوليد، وهشام بن العاصي، وهذا قول عمر بن الخطاب وأنه كتبها بيده إلى هشام بن العاصي الحديث. وقالت فرقة: نزلت في قوم كفار من أهل الجاهلية، قالوا:
وما ينفعنا الإسلام ونحن قد زنينا وقتلنا الناس وأتينا كل كبيرة فنزلت الآية فيهم. وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عمر: هذه أرجى آية في القرآن. وروى ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ما أحب أن لي الدنيا بما فيها بهذه الآية، يا عِبادِيَ و: أَسْرَفُوا معناه: أفرطوا وتعدوا الطور. والقنط:
أعظم اليأس.
وقرأ نافع وجمهور الناس: «تقنطوا» بفتح النون. قال أبو حاتم: يلزمهم أن يقرؤوا: مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا [الشورى: 28] بالكسر، ولم يقرأ به أحد. وقرأ الأشهب العقيلي بضم النون. وقرأ أبو عمرو وابن وثاب بكسرها، وهي لغات.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً عموم بمعنى الخصوص، لأن الشرك ليس بداخل في الآية إجماعا، وهي أيضا في المعاصي مقيدة بالمشيئة. وجَمِيعاً نصب هلى الحال. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: «إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي» . وقرأ ابن مسعود: «إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء» . وَأَنِيبُوا معناه: ارجعوا وميلوا بنفوسكم، والإنابة: الرجوع بالنفس إلى الشيء.
وقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ توعد بعذاب الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ معناه: أن القرآن العزيز تضمن عقائد نيرة وأوامر ونواهي منجية وعدات على الطاعات والبر وحدودا على المعاصي ووعيدا على بعضها، فالأحسن أن يسلك الإنسان طريق التفهم والتحصيل، وطريق الطاعة والانتهاء والعفو في الأمور ونحو ذلك، فهو أحسن من أن يسلك طريق الغفلة والمعصية فيجد أو يقع تحت الوعيد، فهذا المعنى هو المقصود ب أَحْسَنَ، وليس المعنى أن بعض القرآن أحسن من بعض من حيث هو قرآن، وإنما هو أحسن كله بالإضافة إلى أفعال الإنسان وما يلقى من عواقبها. قال السدي: الأحسن هو ما أمر الله تعالى به في كتابه. و: بَغْتَةً معناه: فجأة وعلى غير موعد. و: تَشْعُرُونَ مشتق من الشعار.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 56 الى 60]
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)

(4/537)


أَنْ في هذه الآية مفعول من أجله أي أنيبوا وأسلموا من أجل أن تقول.
وقرأ جمهور الناس: «يا حسرتي» والأصل «يا حسرتي» ، ومن العرب من يرد ياء الإضافة ألفا فيقول:
يا غلاما ويا جارا. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «يا حسرتاي» بفتح الياء، ورويت عنه بسكون الياء، قال أبو الفتح: جمع بين العوض والمعوض منه. وروى ابن جماز عن أبي جعفر: «يا حسرتي» بكسر التاء وسكون الياء. قال سيبويه: ومعنى نداء الحسرة والويل، أي هذا وقتك وزمانك فاحضري. و: فَرَّطْتُ معناه:
قصرت في اللازم.
وقوله تعالى: فِي جَنْبِ اللَّهِ معناه: في مقاصدي إلى الله وفي جهة طاعته، أي في تضييع شريعته والإيمان به. والجنب: يعبر به عن هذا ونحوه. ومنه قول الشاعر: [الطويل]
أفي جنب بكر قطعتني ملامة ... لعمري لقد طالت ملامتها بيا
ومنه قول الآخر:
الناس جنب والأمير جنب وقال مجاهد: فِي جَنْبِ اللَّهِ أي في أمر الله. وقول الكافر: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ندامة على استهزائه بأمر الله تعالى. والسخر: الاستهزاء.
وقوله: أَوْ تَقُولَ في الموضعين عطف على قوله: أَنْ تَقُولَ الأول. و: كَرَّةً مصدر من كر يكر. وقوله: فَأَكُونَ نصب بأن مضمرة مقدرة، وهو عطف على قول: كَرَّةً والمراد: لو أن لي كرة فكونا، فلذلك احتيج إلى: ليكون مع الفعل بتأويل المصدر، ونحوه قول الشاعر أنشده الفراء: [الطويل]
فما لك منها غير ذكرى وحسبة ... وتسأل عن ركبانها أين يمموا
وقد قرر بعض الناس الكلام: أنه لي أن أكر فأكون، ذكره الطبري، وهذا الكون في هذه الآية داخل في التمني.
وقوله: بَلى جواب لنفي مقدر في قوله: هذه النفس كأنها قالت: فعمري في الدنيا لم يتسع للنظر، أو قالت: فإني لم يتبين لي الأمر في الدنيا ونحو هذا، وحق بَلى أن تجيء بعد نفي عليه تقرير، وقرأ جمهور الناس «جاءتك» بفتح الكاف، وبفتح التاء من قوله: «فكذبت» و «استكبرت وكنت» على مخاطبة الكافر ذي النفس. وقرأ ابن يعمر والجحدري بكسر الكاف والتاء في الثلاثة على خطاب النفس المذكورة. قال أبو حاتم: روتها أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ الأعمش: «بلى قد جاءته» بالهاء.

(4/538)


وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)

ثم خاطب تعالى نبيه بخبر يراه يوم القيامة من حالة الكفار، في ضمن هذا الخبر وعيد بين لمعاصريه.
وقوله: تَرَى هو من رؤية العين، وكذبهم على الله: هو في أن جعلوا لله البنات والصاحبة، وشرعوا ما لم يأذن به إلى غير ذلك.
وقوله: وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ جملة في موضع الحال، وظاهر الآية: أن لون وجوههم يتغير ويسود حقيقة، ويحتمل أن يكون في العبارة تجوز، وعبر بالسواد عن أن يراد به وجوههم وغالب همهم وظاهر كآبتهم. والمثوى: موضع الثواء والإقامة. والمتكبر: رافع نفسه إلى فوق حقه، وقال النبي عليه السلام:
الكبر سفه وغمط الناس أي احتقارهم.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 61 الى 65]
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65)
ذكر الله تعالى المتقين ونجاتهم ليعادل بذلك ما تقدم من ذكر الكفرة، وفي ذلك ترغيب في حالة المتقين، لأن الأشياء تتبين بأضدادها.
وقرأ جمهور القراء: «بمفازتهم» وذلك على اسم الجنس، وهو مصدر من الفوز. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «بمفازاتهم» على الجمع من حيث النجاة أنواع، الأسباب مختلفة وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي عبد الرحمن والأعمش، وفي الكلام حذف مضاف تقديره: وينجي الله الذين اتقوا بأسباب أو بدواعي مفازاتهم. قال السدي: بِمَفازَتِهِمْ بفضائلهم. وقال ابن زيد بأعمالهم.
وقوله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ كلام مستأنف دال على الوحدانية، وهو عموم معناه الخصوص.
والوكيل: القائم على الأمر، الزعيم بإكماله وتتميمه. والمقاليد: المفاتيح، وقاله ابن عباس، واحدها مقلاد، مثل مفتاح، وفي كتاب الزهراوي: واحد المقاليد: إقليد، وهذه استعارة كما تقول بيدك يا فلان مفتاح هذا الأمر، إذا كان قديرا على السعي فيه. وقال السدي: المقاليد الخزائن، وهذه عبارة غير جيدة، ويشبه أن يقول قائل: المقاليد إشارة إلى الخزائن أو دالة عليها فيسوغ هذا القول، كما أن الخزائن أيضا في جهة الله إنما تجيء استعارة، بمعنى اتساع قدرته، وأنه يبتدع ويخترع، ويشبه أن يقال فيما قد أوجد من المخلوقات كالريح والماء وغير ذلك إنها في خزائنه، وهذا كله بتجوز على جهة التقريب والتفهيم للسامعين، وقد ورد القرآن بذكر الخزائن، ووقعت في الحديث الصحيح في قوله عليه السلام:» وما فتح

(4/539)


بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)

الليلة من الخزائن» والحقيقة في هذا غير بعيدة، لكنه ليس باختزان حاجة ولا قلة قدرة كما هو اختزان البشر. وقال عثمان رضي الله عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فقال: «لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير» .
وقوله: أَفَغَيْرَ منصوب ب أَعْبُدُ، كأنه قال: أفغير الله أعبد فيما تأمروني؟ ويجوز أن يكون نصبه ب تَأْمُرُونِّي على إسقاط أن، تقديره أفغير الله تأمروني أن أعبد.
وقرأت فرقة: «تأمرونني» بنونين، وهذا هو الأصل. وقرأ ابن كثير: «تأمرونّي» بنون مشددة مكسورة وياء مفتوحة. وقرأ ابن عامر: «تأمروني» بياء ساكنة ونون مكسورة خفيفة، وهذا على حذف النون الواحدة وهي الموطئة لياء المتكلم، ولا يجوز حذف النون الأولى وهو لحن لأنها علامة رفع الفعل، وفتح نافع الياء على الحذف فقرأ: «تأمروني» وقرأ الباقون بشد النون وبسكون الياء.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ الآية، قالت فرقة: في الآية تقديم وتأخير كأنه قال: «لقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك» ، وقالت فرقة: الآية على وجهها، المعنى: «ولقد أوحي إلى كل نبي لئن أشركت ليحبطن عملك» . وحبط: معناه: بطل وسقط، وبهذه الآية بطلت أعمال المرتد من صلاته وحجه وغير ذلك.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 66 الى 68]
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68)
المكتوبة: نصب بقوله: فَاعْبُدْ. وقوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ معناه: وما عظموا الله حق عظمته ولا وصفوه بصفاته، ولا نفوا عنه ما لا يليق به.
واختلف الناس في المعنى بالضمير في قوله: قَدَرُوا قال ابن عباس: نزل ذلك في كفار قريش الذين كانت هذه الآيات كلها محاورة لهم وردا عليهم. وقالت فرقة: نزلت الآية في قوم من اليهود تكلموا في صفات الله تعالى وجلاله، فألحدوا وجسموا وأتوا كل تخليط، فنزلت الآية فيهم، وفي الحديث الصحيح:
أنه جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليه، فقال له النبي عليه السلام حدثنا، فقال: إن الله عز وجل إذا كان يوم القيامة جعل السماوات على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع، والماء والشجر على أصبع، وجميع الخلائق على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا له، ثم قرأ هذه الآية.

(4/540)


قال القاضي أبو محمد: فرسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل بالآية، وقد كانت نزلت. وقوله في الحديث: تصديقا له، أي في أنه لم يقل إلا ما رأى في كتب اليهود، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر المعنى، لأن التجسيم فيه ظاهر واليهود معروفون باعتقاده، ولا يحسنون حمله على تأويله من أن الأصبع عبارة عن القدرة، أو من أنها أصبع خلق يخلق لذلك، ويعضدها تنكير الأصبع.
وروى سعيد بن المسيب أن سبب نزول الآية أن طائفة من اليهود جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد، هذا الله خلق الأشياء، فمن خلق الله؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وساورهم، ونزلت الآية في ذلك.
وقرأ جمهور الناس: «قدره» بسكون الدال. وقرأ الأعمش: بفتح الدال. وقرأ أبو حيوة والحسن وعيسى بن عمر وأبو نوفل: «وما قدّروا» بشد الدال «حق قدره» بفتح الدال.
وقوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ معناه: في قبضته. وقال ابن عمر ما معناه: أن الأرض في قبضة اليد الواحدة، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ باليمين الأخرى، لأنه كلتا يديه يمين، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: الأرض جميعا قبضته، والسماوات وكل ذلك بيمينه.
وقرأ عيسى بن عمر: «مطويات» بكسر التاء المنونة، والناس على رفعها.
وعلى كل وجه، ف «اليمين» هنا و «القبضة» وكل ما ورد: عبارة عن القدرة والقوة، وما اختلج في الصدور من غير ذلك باطل، وما ذهب إليه القاضي من أنها صفات زائدة على صفات الذات قول ضعيف، وبحسب ما يختلج في النفوس التي لم يحضنها العلم.
قال عز وجل: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. أي هو منزه عن جميع الشبه التي لا تليق به. ثم ذكر تعالى النفخ في الصور ليصعق الأحياء من أهل الدنيا والسماء، وفي بعض الأحاديث من طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قبل هذه الصعقة الفزع ولم تتضمنها هذه الآية. و: «صعق» في هذه الآية معناه: خر ميتا. و: الصُّورِ القرن، ولا يتصور هنا غير هذا، ومن يقول الصُّورِ جمع صورة، فإنما يتوجه قوله في نفخة البعث.
وقرأ قتادة: «في الصور» بفتح الواو، وهي جمع صورة.
وقوله: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قال السدي: استثنى جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم أماتهم بعد هذه الحال، وروي ذلك عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: استثنى الأنبياء: وقال ابن جبير: استثنى الشهداء.
وقوله: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى هي نفخة البعث. وروي أن بين النفختين أربعين، لا يدري أبو هريرة سنة أو يوما أو شهرا أو ساعة. وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:

(4/541)


وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)

[سورة الزمر (39) : الآيات 69 الى 72]
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
أَشْرَقَتِ معناه: أضاءت وعظم نورها، يقال شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت.
وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير: «أشرقت» بضم الهمزة وكسر الراء على بناء الفعل للمفعول، وهذا إنما يترتب من فعل يتعدى، فهذا على أن يقال: أشرق البيت، وأشرقه السراج، فيكون الفعل متجاوزا أو غير متجاوز بلفظ واحد كرجع ورجعته ووقف ووقفته، ومن المتعدي من ذلك يقال أشرقت الأرض:
و: الْأَرْضُ في هذه الآية: الأرض المبدلة من الأرض المعروفة.
وقوله: بِنُورِ رَبِّها إضافة خلق إلى خالق، أي بنور الله تعالى، و: الْكِتابُ كتاب حساب الخلائق، ووحده على اسم الجنس، لأن كل أحد له كتاب على حدة. وقالت فرقة: وضع اللوح المحفوظ، وهذا شاذ وليس فيه معنى التوعد وهو مقصد الآية.
وقوله: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ أي ليشهدوا على أممهم.
وقوله: وَالشُّهَداءِ قيل هو جمع شاهد، والمراد أمة محمد الذين جعلهم الله شهداء على الناس.
وقال السدي: الشُّهَداءِ جمع شهيد في سبيل الله، وهذا أيضا يزول عنه معنى التوعد، ويحتمل أن يريد بقوله: وَالشُّهَداءِ الأنبياء أنفسهم، عطف الصفة على الصفة بالواو، كما تقول: جاء زيد الكريم والعاقل. وقال زيد بن أسلم: الشُّهَداءِ: الحفظة. والضمير في قوله: بَيْنَهُمْ عائد على العالم بأجمعه، إذ الآية تدل عليهم. و: لا يُظْلَمُونَ معناه: لا يوضع شيء من أمورهم غير موضعه. وَوُفِّيَتْ معناه:
جوزيت كملا، وفي هذا وعيد صرح عنه قوله: وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ.
وقرأ الجمهور: وَسِيقَ وجيء بكسر أوله. وقرأها ونظائرها بإشمام الضم: الحسن وابن وثاب وعاصم والأعمش. و: زُمَراً معناه: جماعات متفرقة، واحدها زمرة.
وقوله: فُتِحَتْ جواب إِذا، والكلام هنا يقضي أن فتحها إنما يكون بعد مجيئهم، وفي وقوفهم قبل فتحها مذلة لهم، وهكذا هي حال السجون ومواضع الثقاف والعذاب بخلاف قوله: في أهل الجنة:
وَفُتِحَتْ [الزمر: 73] بالواو مؤذنة بأنهم يجدونها مفتوحة كمنازل الأفراح.
وقرأ الجمهور: «فتّحت» بشد التاء في الموضعين، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيفها، وهي قراءة طلحة والأعمش. ثم ذكر تعالى توقيف الخزنة لهم على مجيء الرسل.

(4/542)


وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)

وقرأ الجمهور: «يأتكم» بالياء من تحت. وقرأ الأعرج: «تأتكم» بتاء من فوق.
وقوله: مِنْكُمْ أعظم في الحجة، أي رسل من جنسكم لا يصعب عليكم مراميهم ولا فهم أقوالهم. وقولهم: بَلى جواب على التقرير على نفي أمر، ولا يجوز هنا الجواب بنعم، لأنهم كانوا يقولون: نعم لم يأتنا، وهكذا كان يترتب المعنى، ثم لا يجدوا حجة إلا أن كلمة العذاب حقت عليهم، أي الكلمة المقتضية من الله تعالى تخليدهم في النار، وهي عبارة عن قضائه السابق لهم بذلك، وهي التي في قوله تعالى لإبليس لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] . والمثوى: موضع الإقامة.
قوله عز وجل:

[سورة الزمر (39) : الآيات 73 الى 75]
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)
قوله: الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لفظ يعم كل من يدخل الجنة من المؤمنين الذين اتقوا الشرك، لأن الذين لم يتقوا المعاصي قد يساق منهم زمر وهم الذين سبق لهم أن يغفر الله لهم من أهل المشيئة، وأيضا فالذين يدخلون النار ثم يخرجون منها قد يساقون زمرا إلى الجنة بعد ذلك فيصيرون من أهل هذه الآية، والواو في قوله: وَفُتِحَتْ مؤذنة بأنها قد فتحت قبل وصولهم إليها، وقد قالت فرقة: هي زائدة. وجواب إِذا، فُتِحَتْ، وقال الزجاج عن المبرد: جواب إِذا محذوف، تقديره بعد قوله: خالِدِينَ فيها سعدوا. وقال الخليل: الجواب محذوف تقديره: حتى جاؤوها وفتحت أبوابها، وهذا كما قدر الخليل قول الله تعالى:
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103] وكما قدر أيضا قول امرئ القيس: [الطويل] فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى أي أجزنا وانتحى. وقال قوم: أشار إليهم ابن الأنباري وضعف قولهم: هذه واو الثمانية مستوعبا في سورة الكهف، وسقطت هذه الواو في مصحف ابن مسعود فهي كالأولى. وسَلامٌ عَلَيْكُمْ تحية. ويحتمل أن يريد أنهم قالوا لهم سلام عليكم وأمنة لكم. و: طِبْتُمْ معناه: أعمالا ومعتقدا ومستقرا وجزاء.
وقوله تعالى حكاية عنهم: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يريد أرض الجنة، قاله قتادة وابن زيد والسدي والوراثة هنا مستعارة، لأن حقيقة الميراث أن يكون تصيير شيء إلى إنسان بعد موت إنسان، وهؤلاء إنما ورثوا مواضع أهل النار أن لو كانوا مؤمنين. و: نَتَبَوَّأُ معناه: نتخذ أمكنة ومساكن.
ثم وصف حالة الملائكة من العرش وحفوفهم به، وقال قوم: واحد حَافِّينَ حاف. وقالت فرقة:

(4/543)


لا واحد لقوله: حَافِّينَ لأن الواحد لا يكون حافا، إذ الحفوف الإحداق بالشيء، وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف وهو الجانب، ومنه قول الشاعر [ابن هرمة] : [الطويل]
له لحظات عن حفافي سريره ... إذا كرها فيها عقاب ونائل
أي عن جانبيه. وقالت فرقة: مِنْ في قوله: مِنْ حَوْلِ زائدة، والصواب أنها لابتداء الغاية.
وقوله: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ قالت فرقة: معناه: أن تسبيحهم يتأتى بحمد الله وفضله. وقالت فرقة: تسبيحهم هو بترديد حمد الله وتكراره. قال الثعلبي: متلذذين لا متعبدين ولا مكلفين.
وقوله: وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ختم للأمر، وقول جزم عند فصل القضاء، أي إن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه، ومن هذه الآية جعلت الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خاتمة المجالس والمجتمعات في العلم. وقال قتادة: فتح الله أول الخلق بالحمد، فقال:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: 1] وختم القيامة بالحمد في هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وجعل الله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 1] فاتحة كتابه، فبه يبدأ كل أمر وبه يختم، وحمد الله تعالى وتقديسه ينبغي أن يكون من المؤمن كما قال الشاعر: [الطويل]
وآخر شيء أنت في كل ضجعة ... وأول شيء أنت عند هبوبي

(4/544)