للخلق إنما هي بعلمه الذي لا يحتاج معه إلى
روية وفكرة ولا لشيء مما يحتاجه الحاسبون. وقالت فرقة:
يَعْلَمُ متصل بقوله: لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ
شَيْءٌ [غافر: 16] ، وهذا قول حسن يقويه تناسب المعنيين
ويضعفه بعد الآية وكثرة الحائل. والخائنة: مصدر كالخيانة،
ويحتمل في الآية أن يكون خائِنَةَ اسم فاعل، كما تقول:
ناظرة الأعين إذا خانت في نظرها. وهذه الآية عبارة عن علم
الله تعالى بجميع الخفيات، فمن ذلك كسر الجفون والغمز
بالعين أو النظرة التي تفهم معنى، أو يريد بها صاحبها
معنى، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه عبد
الله بن أبي سرح ليسلم بعد ردته بشفاعة عثمان، فتلكأ عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بايعه، ثم قال عليه
السلام لأصحابه: «هلا قام إليه رجل حين تلكأت عليه فضرب
عنقه؟» ، فقالوا يا رسول الله: ألا أومأت إلينا؟ فقال عليه
السلام: «ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين» . وفي
بعض الكتب المنزلة من قول الله عز وجل: أنا مرصاد الهمم،
أنا العالم بمجال الفكر وكسر الجفون. وقال مجاهد: خائِنَةَ
الْأَعْيُنِ: مسارقة النظر إلى ما لا يجوز. ثم قوى تعالى
هذه الأخبار بأنه يعلم ما تخفي الصدور مما لم يظهر على عين
ولا غيرها، ومثل المفسرون في هذه الآية بنظر رجل إلى امرأة
هي حرمة لغيره، فقالوا خائِنَةَ الْأَعْيُنِ: هي النظرة
الثانية. وَما تُخْفِي الصُّدُورُ: أي عند النظرة الأولى
التي لا يمكن المرء دفعها، وهذا المثال جزء من خائِنَةَ
الْأَعْيُنِ.
ثم قدح في جهة الأصنام، فأعلم أنه لا رب غيره يَقْضِي
بِالْحَقِّ، أي يجازي الحسنة بعشر والسيئة بمثل، وينصف
المظلوم من الظالم إلى غير ذلك من أقضية الحق والعدل،
والأصنام لا تقضي بشيء ولا تنفذ أمرا. و: يَدْعُونَ معناه:
يعبدون.
وقرأ جمهور القراء: «يدعون» بالياء على ذكر الغائب. وقرأ
نافع بخلاف عنه. وأبو جعفر وشيبة:
«تدعون» بالتاء على معنى قل لهم يا محمد: والذين تدعون
أنتم.
ثم ذكر تعالى لنفسه صفتين بين عرو الأوثان عنهما وهي في
جهة الله تعالى عبارة عن الإدراك على إطلاقه، ثم أحال كفار
قريش وهم أصحاب الضمير في يَسِيرُوا على الاعتبار بالأمم
القديمة التي كذبت أنبياءها فأهلكها الله تعالى.
وقوله: فَيَنْظُرُوا يحتمل أن يجعل في موضع نصب جواب
الاستفهام، ويحتمل أن يكون مجزوما عطفا على يَسِيرُوا. و:
كَيْفَ في قوله: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ خبر كانَ مقدم، وفي
كَيْفَ ضمير، وهذا مع أن تكون كانَ الناقصة. وأما إن جعلت
تامة بمعنى حدث ووقع، ف كَيْفَ ظرف ملغى لا ضمير فيه.
وقرأ ابن عامر وحده: «أشد منكم» بالكاف، وكذلك هي في مصاحف
الشام، وذلك على الخروج من غيبة إلى الخطاب. وقرأ الباقون:
«أشد منهم» وكذلك هي في سائر المصاحف، وذلك أوفق لتناسب
ذكر الغيب.
والآثار في ذلك: هي المباني والمآثر والصيت الدنياوي،
وذنوبهم كانت تكذيب الأنبياء. والواقي:
الساتر المانع، مأخوذ من الوقاية.
(4/553)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا
وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا
جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا
أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا
نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي
ضَلَالٍ (25)
قوله عز وجل:
[سورة غافر (40) : الآيات 22 الى 25]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ
قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى
بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ
وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24)
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا
اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ
فِي ضَلالٍ (25)
قوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى أخذه إياهم بذنوبهم وإن لم
يكن لهم منه واق. ثم ذكر تعالى أن السبب في إهلاكهم هو ما
قريش عليه من أن جاءهم رسول من الله بينات من المعجزات
والبراهين فكفروا به، وذكر أن الله تعالى أخذهم، ووصف نفسه
تعالى بالقوة وشدة العقاب، وهذا كله بيان في وعيد قريش.
ثم ابتدأ تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملإه، وهي
قصة فيها للنبي صلى الله عليه وسلم تسلية وأسوة، وفيها
لقريش والكفار به وعيد ومثال يخافون منه أن يحل بهم ما حل
بأولئك من النقمة، وفيها للمؤمنين وعد ورجاء في النصر
والظفر وحمد عاقبة الصبر، وآيات موسى عليه السلام كثيرة
عظمها، والذي عرضه على جهة التحدي بالعصا واليد، ووقعت
المعارضة في العصا وحدها ثم انفصلت القضية عن إيمان السحرة
وغلبة الكافرين. والسلطان: البرهان.
وقرأ عيسى بن عمر: «سلطان» بضم اللام، والناس على سكونها.
وخص تعالى هامانَ وَقارُونَ بالذكر تنبيها على مكانهما من
الكفر، ولكونهما أشهر رجال فرعون، وقيل إن قارون هذا ليس
بقارون بني إسرائيل، وقيل هو ذلك، ولكنه كان منقطعا إلى
فرعون خادما مستعينا معه.
وقوله: ساحِرٌ أي في أمر العصا. و: كَذَّابٌ في قوله: إني
رسول من الله.
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لما جاءهم موسى بالنبوة والحق من
عند الله، قال هؤلاء الثلاثة وأجمع رأيهم على أن يقتل
أبناء بني إسرائيل أتباع موسى وشبانهم وأهل القوة منهم،
وأن يستحي النساء للخدمة والاسترقاق، وهذا رجوع منهم إلى
نحو القتل الأول الذي كان قبل ميلاد موسى، ولكن هذا الأخير
لم تتم فيه عزمة، ولا أعانهم الله تعالى على شيء منه. قال
قتادة: هذا قتل غير الأول الذي كان حذر المولود، وسموا من
ذكرنا من بني إسرائيل أبناء، كما تقول لأنجاد القبيلة أو
المدينة وأهل الظهور فيها: هؤلاء أبناء فلانة.
وقوله تعالى: وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ
عبارة وجيزة تعطي قوتها أن هؤلاء الثلاثة لم يقدرهم الله
تعالى على قتل أحد من بني إسرائيل ولا نجحت لهم فيه سعاية،
بل أضل الله سعيهم وكيدهم.
(4/554)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ
ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي
أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي
الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ
بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ
بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ
آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا
أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا
فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ
بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ
هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
قوله عز وجل:
[سورة غافر (40) : الآيات 26 الى 28]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ
رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ
يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى
إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ
مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَقالَ
رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ
أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ
وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ
يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً
يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا
يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
الظاهر من أمر فرعون أنه لما بهرت آيات موسى عليه السلام
انهد ركنه واضطربت معتقدات أصحابه، ولم يفقد منهم من
يجاذبه الخلاف في أمره، وذلك بين من غير ما موضع من
قصتهما، في هذه الآية على ذلك دليلان، أحدهما قوله:
ذَرُونِي فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكنين من إنفاذ
أوامرهم. والدليل الثاني: مقالة المؤمن وما صدع به، وأن
مكاشفته لفرعون أكثر من مسايرته، وحكمه بنبوة موسى أظهر من
توريته في أمره. وأما فرعون فإنما لجأ إلى المخرقة
والاضطراب والتعاطي، ومن ذلك قوله: ذَرُونِي أَقْتُلْ
مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ أي إني لا أبالي عن رب موسى، ثم
رجع إلى قومه يريهم النصيحة والحماية لهم فقال: إِنِّي
أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ. والدين: السلطان، ومنه
قول زهير:
لئن حللت بجوّ من بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «وأن» . وقرأ
عاصم وحمزة والكسائي: «أو أن» ، ورجحها أبو عبيد بزيادة
الحرف، فعلى الأولى خاف أمرين، وعلى الثانية: خاف أحد
أمرين.
وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم والحسن وقتادة والجحدري
وأبو رجاء ومجاهد وسعيد بن المسيب ومالك بن أنس: «يظهر»
بضم الياء وكسر الهاء. «الفساد» نصيبا. وقرأ ابن كثير وابن
عامر: «يظهر» بفتح الياء والهاء «الفساد» بالرفع على إسناد
الفعل إليه، وهي قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم
والأعرج وعيسى والأعمش وابن وثاب. وروي عن الأعمش أنه قرأ:
«ويظهر في الأرض الفساد» برفع الراء. وفي مصحف ابن مسعود:
«ويظهر» بفتح الراء.
ولما سمع موسى عليه السلام مقالة فرعون- لأنه كان معه في
مجلس واحد- دعا وقال: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ
الآية. وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر ببيان الذال. وقرأ
أبو عمرو وحمزة والكسائي:
عُذْتُ بالإدغام، واختلف عن نافع، وفي مصحف أبي بن كعب:
«عت» ، على الإدغام في الخط ثم حكى مقالة رجل مؤمن من آل
فرعون وشرفه بالذكر، وخلد ثناءه في الأمم، سمعت أبي رضي
الله عنه يقول: سمعت أبا الفضل الجوهري على المنبر وقد سئل
أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة، فأطرق قليلا ثم رفع
رأسه وأنشد [عدي بن زيد] : [الطويل]
(4/555)
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل
قرين بالمقارن مقتد
ماذا تريدون من قوم قرنهم الله بنبيه صلى الله عليه وسلم
وخصهم بمشاهدته وتلقي الوحي منه؟ وقد أثنى الله على رجل
مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسره، فجعله الله تعالى في
كتابه وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس
الكفر، وأين هو من عمر بن الخطاب رضي الله عنه جرد سيفه
بمكة وقال: والله لا عبد الله سرا بعد اليوم.
وقرأت فرقة: «رجل» بسكون الجيم، كعضد وعضد، وسبع وسبع،
وقراءة الجمهور بضم الجيم واختلف الناس في هذا الرجل، فقال
السدي وغيره: كان من آل فرعون وأهله، وكان يكتم إيمانه، ف
يَكْتُمُ على هذا في موضع الصفة دون تقديم وتأخير. وقال
مقاتل: كان ابن عم فرعون. وقالت فرقة:
لم يكن من أهل فرعون. (وقالت فرقة: لم يكن من أهل فرعون) .
بل من بني إسرائيل، وإنما المعنى:
وقال رجل يكتم إيمانه من آل فرعون، ففي الكلام تقديم
وتأخير، والأول أصح، ولم يكن لأحد من بني إسرائيل أن يتكلم
بمثل هذا عند فرعون، ويحتمل أن يكون من غير القبط، ويقال
فيه من آل فرعون، إذ كان في الظاهر على دينه ومن أتباعه،
وهذا كما قال أراكة الثقفي يرثي أخاه ويتعزى برسول الله
صلى الله عليه وسلم: [الطويل]
فلا تبك ميتا بعد ميت أجنه ... علي وعباس وآل أبي بكر
يعني المسلمين إذ كانوا في طاعة أبي بكر الصديق.
وقوله: أَنْ يَقُولَ مفعول من أجله، أي لأجل أن يقول: وجلح
معهم هذا المؤمن في هذه المقالات ثم غالطهم بعد في أن جعله
في احتمال الصدق والكذب، وأراهم أنها نصيحة، وحذفت النون
من: يَكُ تخفيفا على ما قال سيبويه وتشبيها بالنون في
تفعلون وتفعلان على مذهب المبرد، وتشبيها بحرف العلة الياء
والواو على مذهب أبي علي الفارسي وقال: كأن الجازم دخل على
«يكن» وهي مجزومة بعد فأشبهت النون الياء من يقضي والواو
من يدعو، لأن خفتها على اللسان سواء.
واختلف المتأولون في قوله: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي
يَعِدُكُمْ فقال أبو عبيدة وغيره: بَعْضُ بمعنى كل،
وأنشدوا قول القطامي عمرو بن شييم: [البسيط]
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقال الزجاج: هو إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر، وليس فيه
نفي إضافة الكل. وقالت فرقة، أراد:
يصبكم بعض العذاب الذي يذكر، وذلك كاف في هلاككم، ويظهر
إلي أن المعنى: يصبكم القسم الواحد مما يعد به، وذلك هو
بعض ما يعد، لأنه عليه السلام وعدهم إن آمنوا بالنعيم وإن
كفروا بالعذاب فإن كان صادقا فالعذاب بعض ما وعد به. وقالت
فرقة: أراد ببعض ما يعدكم عذاب الدنيا، لأنه بعض عذاب
الآخرة، أي وتصيرون بعد ذلك إلى الباقي وفي البعض كفاية في
الإهلاك، ثم وعظهم هذا المؤمن بقوله:
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ قال
السدي: معناه: مسرف بالقتل. وقال قتادة: مسرف بالكفر.
(4/556)
يَا قَوْمِ لَكُمُ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ
يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ
فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا
أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ
الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ
نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ
وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا
قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ
مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ
هَادٍ (33)
قوله عز وجل:
[سورة غافر (40) : الآيات 29 الى 33]
يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي
الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ
جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما
أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي
آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ
الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ
وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ
يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي
أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ
تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ
عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)
قول هذا المؤمن: يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
استنزال لهم ووعظ لهم من جهة شهواتهم وتحذير من زوال
ترفتهم ونصيحة لهم في أمر دنياهم.
وقوله: فِي الْأَرْضِ يريد في أرض مصر وما والاها من
مملكتهم. ثم قررهم على من هو الناصر لهم من بأس الله، وهذه
الأقوال تقتضي زوال هيبة فرعون، ولذلك استكان هو ورجع
يقول: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى كما تقول لمن لا تحكم
له.
وقوله: أُرِيكُمْ من رأى قد عدي بالهمزة، فللفعل مفعولان
أحدهما الضمير في أُرِيكُمْ والآخر ما في قوله: إِلَّا ما
وكأن الكلام أراكم ما أرى، ثم أدخل في صدر الكلام ما
النافية وقلب معناها ب إِلَّا الموجبة تخصيصا وتأكيدا
للأمر، وهذا كما تقول: قام زيد، فإذا قلت: ما قام إلا زيد
أفدت تخصيصه وتأكيد أمره. وأَرى متعدية إلى مفعول واحد وهو
الضمير الذي فيه العائد على ما، تقديره: إلا ما أراه، وحذف
هذا المفعول من الصفة حسن لطول الصلة.
وقرأ الجمهور: الرَّشادِ مصدر رشد، وفي قراءة معاذ بن جبل:
«سبيل الرشّاد» بشد الشين. قال أبو الفتح: وهو اسم فاعل في
بنيته مبالغة وهو من الفعل الثلاثي رشد فهو كعباد من عبد.
وقال النحاس: هو لحن وتوهمه من الفعل الرباعي وقوله مردود.
قال أبو حاتم: كان معاذ بن جبل يفسرها سبيل الله. ويبعد
عندي هذا على معاذ رضي الله عنه، وهل كان فرعون إلا يدعي
أنه إله، ويقلق بناء اللفظة على هذا التأويل.
واختلف الناس من المراد بقوله: وَقالَ الَّذِي آمَنَ فقال
جمهور المفسرين: هو المؤمن المذكور أولا، قص الله تعالى
أقاويله إلى آخر الآيات. وقالت فرقة: بل كلام ذلك المؤمن
قديم، وإنما أراد تعالى ب الَّذِي آمَنَ موسى عليه السلام،
واحتجت هذه الفرقة بقوة كلامه، وأنه جلح معهم بالإيمان
وذكر عذاب الآخرة وغير ذلك، ولم يكن كلام الأول إلا
بملاينة لهم.
وقوله: مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مثل يوم من أيامهم، لأن
عذابهم لم يكن في يوم واحد ولا عصر
(4/557)
واحد. والْأَحْزابِ: المتحزبون على أنبياء
الله تعالى، ومِثْلَ الثاني بدل من الأول.
والدأب: العادة.
وقوله: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ أي من
نفسه أن يظلمهم هو عز وجل، فالإرادة هنا على بابها، لأن
الظلم منه لا يقع البتة، وليس معنى الآية أن الله لا يريد
ظلم بعض العباد لبعض، والبرهان وقوعه، ومحال أن يقع ما لا
يريده الله تعالى.
وقوله: يَوْمَ التَّنادِ معناه ينادي قوم قوما ويناديهم
الآخرون. واختلف المتأولون في التَّنادِ المشار إليه، فقال
قتادة: هو نداء أهل الجنة أهل النار فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما
وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الأعراف: 44] ، ونداء أهل النار
لهم: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ [الأعراف: 50] .
وقالت فرقة: بل هو النداء الذي يتضمنه قوله تعالى: يَوْمَ
نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: 71] . وقال
ابن عباس وغيره: هو التنادي الذي يكون بالناس عند النفخ في
الصور نفخة الفزع في الدنيا وأنهم يفرون على وجوههم للفزع
الذي نالهم وينادي بعضهم بعضا، وروي هذا التأويل عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون المراد التذكير بكل
نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة، ولها أجوبة
بنداء وهي كثيرة منها ما ذكرناه، ومنها «يا أهل النار خلود
لا موت» ، ومنها «يا أهل الجنة خلود لا موت» ، ومنها نداء
أهل الغدرات والنداء لَمَقْتُ اللَّهِ [غافر: 10] ،
والنداء لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] إلى غير
ذلك.
وقرأت فرقة: «التناد» بسكون الدال في الوصل، وهذا على
إجرائهم الوصل مجرى الوقف في غير ما موضع، وقرأ نافع وابن
كثير: «التنادي» بالياء في الوصل والوقف وهذا على الأصل.
وقرأ الباقون «التناد» بغير ياء فيهما، وروي ذلك عن نافع
وابن كثير، وحذفت الياء مع الألف واللام حملا على حذفها مع
معاقبها وهو التنوين. وقال سيبويه: حذفت الياء تخفيفا.
وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو صالح والكلبي: «التنادّ» بشد
الدال، وهذا معنى آخر ليس من النداء، بل هو من ند البعير
إذا هرب، وبهذا المعنى فسر ابن عباس والسدي هذه الآية،
وروت هذه الفرقة في هذا المعنى حديثا أن الله تعالى إذا
طوى السماوات نزلت ملائكة كل سماء فكانت صفا بعد صف
مستديرة بالأرض التي عليها الناس للحساب، فإذا رأى العالم
هول القيامة وأخرجت جهنم عنقها إلى أصحابها فر الكفار
وندوا مدبرين إلى كل جهة فتردهم الملائكة إلى المحشر
خاسئين لا عاصم لهم، قالت هذه الفرقة، ومصداق هذا الحديث
في كتاب الله تعالى قوله: وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها
[الحاقة: 17] وقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ
صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] وقوله تعالى: يا مَعْشَرَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا
مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا، لا
تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ [الرحمن: 33] .
وقوله تعالى: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ معناه: على
بعض الأقاويل في التنادي تفرون هروبا من المفزع وعلى بعضها
تفرون مدبرين إلى النار. والعاصم: المنجي.
(4/558)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ
يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي
شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ
لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ
يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ
سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ
وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ
عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ
فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي
أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ
فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ
كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ
وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا
فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ
اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا
قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ
وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ
عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ
عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا
بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
قوله عز وجل:
[سورة غافر (40) : الآيات 34 الى 35]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ
فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا
هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ
رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ
مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ
بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ
وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى
كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
قد قدمنا ذكر الخلاف في هذه الأقوال كلها، هل هي من قول
مؤمني آل فرعون أو من قول موسى عليه السلام. وقالت فرقة من
المتأولين منهم الطبري: يُوسُفُ المذكور هو يوسف بن يعقوب
صلى الله عليه. وقالت فرقة: بل هو حفيده يوسف بن إبراهيم
بن يوسف بن يعقوب. و «البينات» التي جاء بها يوسف لم تعين
لنا حتى نقف على معجزاته. وروي عن وهب بن منبه أن فرعون
موسى لقي يوسف، وأن هذا التقريع له كان. وروى أشهب عن مالك
أنه بلغه أن فرعون عمر أربعمائة سنة وأربعين سنة. وقالت
فرقة:
بل هو فرعون آخر.
وقوله: قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ
رَسُولًا حكاية لرتبة قولهم لأنهم إنما أرادوا أن يجيء بعد
هذا من يدعي مثل ما ادعى ولم يقر أولئك قط برسالة الأول
ولا الآخر، ولا بأن الله يبعث الرسل فحكى رتبة قولهم،
وجاءت عبارتهم مشنعة عليهم، ولذلك قال بإثر هذا: كَذلِكَ
يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ أي كما صيركم
من الكفر والضلالة في هذا الحد فنحو ذلك هو إضلاله لصنعكم
أهل السرف في الأمور وتعدي الطور والارتياب بالحقائق. وفي
مصحف أبي بن كعب وابن مسعود: «قلتم لن يبعث الله» ، ثم
أنحى لهم على قوم صفتهم موجودة في قوم فرعون، فكأنه أرادهم
فزال عن مخاطبتهم حسن أدب واستجلابا، فقال الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أي بالإبطال لها والرد بغير
برهان ولا حجة أتتهم من عند الله كبر مقت جدالهم عند الله،
فاختصر ذكر الجدال لدلالة تقدم ذكره عليه، ورد الفاعل ب
كَبُرَ نصيبا على التمييز كقولك: تفقأت شحما وتصببت عرقا.
و: يَطْبَعُ معناه: يختم بالضلال ويحجب عن الهدى.
وقرأ أبو عمرو وحده والأعرج بخلاف عنه «على كلّ قلب»
بالتنوين «متكبرا» على الصفة. وقرأ الباقون: «على كلّ قلب»
بغير تنوين وبإضافته إلى «متكبر» . قال أبو علي: المعنى
يطبع الله على القلوب إذ كانت قلبا قلبا من كل متكبر،
ويؤكد ذلك أن في مصحف عبد الله بن مسعود: «على قلب كل
متكبر جبار» .
قال القاضي أبو محمد: ويتجه أن يكون المراد عموم قلب
المتكبر الجبار بالطبع أي لا ذرة فيه من إيمان ولا مقاربة
فهي عبارة عن شدة إظلامه.
قوله عز وجل:
[سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 40]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي
أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ
فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ
كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ
وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ
فِي تَبابٍ (37) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ
اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ
إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ
الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ
سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ
صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها
بِغَيْرِ حِسابٍ (40)
(4/559)
ذكر الله عز وجل مقالة فرعون حين أعيته
الحيل في مقاومة موسى عليه السلام بحجة، وظهر لجميع
المشاهدين أن ما يدعو إليه موسى من عبادة إله السماء حق،
فنادى فرعون هامان وهو وزيره والناظر في أموره، فأمره أن
يبني له بناء عاليا نحو السماء. و «الصرح» كل بناء عظيم
شنيع القدر، مأخوذ من الظهور والصراحة، ومنه قولهم: صريح
النسب، وصرح بقوله، فيروى أن هامان طبخ الآجر لهذا الصرح
ولم يطبخ قبله، وبناه ارتفاع مائة ذراع فبعث الله جبريل
فمسحه بجناحه فكسره ثلاث كسر، تفرقت اثنتان ووقعت ثالثة في
البحر. وروي أن هامان لم يكن من القبط، وقيل: كان منهم. و:
الْأَسْبابَ الطرق، قاله السدي.
وقال قتادة: أراد الأبواب وقيل: عنى لعله يجد مع قربه من
السماء سببا يتعلق به.
وقرأ الجمهور: «فأطلع» بالرفع عطفا على «أبلغ» ، وقرأ حفص
عن عاصم والأعرج: «فأطلع» بالنصب بالفاء في جواب التمني.
ولما قال فرعون بمحضر من ملإه فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ
مُوسى اقتضى كلامه الإقرار ب إِلهِ مُوسى، فاستدرك ذلك
استدراكا قلقا بقوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً، ثم
قال تعالى: وَكَذلِكَ زُيِّنَ أي إنه كما تخرق فرعون في
بناء الصرح والأخذ في هذه الفنون المقصرة كذلك جرى جميع
أمره. و: زُيِّنَ أي زين الشيطان سوء عمله في كل أفعاله.
وقرأ الجمهور: «وصد عن السبيل» بفتح الصاد بإسناد الفعل
إلى فرعون. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وجماعة: «وصدّ» بضم
الصاد وفتح الدال المشددة عطفا على زُيِّنَ وحملا عليه،
وقرأ يحيى بن وثاب: «وصد» بكسر الصاد على معنى صد، أصله:
صدد، فنقلت الحركة ثم أدغمت الدال في الدال. وقرأ ابن أبي
إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة بفتح الصاد ورفع الدال
المشددة وتنوينها عطفا على قوله: سُوءُ عَمَلِهِ.
و: السَّبِيلِ سبيل الشرع والإيمان و «التباب» : الخسران،
ومنه: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] وبه فسر مجاهد
وقتادة. وتب فرعون ظاهر، لأنه خسر ماله في الصرح وغيره،
وخسر ملكه وخسر نفسه وخلد في جهنم، ثم وعظ الذي آمن فدعا
إلى اتباع أمر الله.
وقوله: اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ يقوي أن المتكلم موسى، وإن
كان الآخر يحتمل أن يقول ذلك، أي
(4/560)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي
أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى
النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ
وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا
أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ
أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي
الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى
اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ
(43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ
أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
(44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ
بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)
اتبعوني في اتباعي موسى، ثم زهد في الدنيا
وأخبر أنه شيء يتمتع به قليلا، ورغب في الآخرة إذ هي دار
الاستقرار.
وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وأبو
رجاء وشيبة والأعمش: «يدخلون» بفتح الياء وضم الخاء. وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم والأعرج والحسن وأبو
جعفر وعيسى:
«يدخلون» بضم الياء وفتح الخاء.
قوله عز وجل:
[سورة غافر (40) : الآيات 41 الى 45]
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ
وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي
لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ
عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ
(42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ
دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ
مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ
أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ
وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ
بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا
وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45)
قد تقدم ذكر الخلاف هل هذه المقالة لموسى أو لمؤمن آل
فرعون. والدعاء إلى طاعة الله وعبادته وتوحيده هو الدعاء
إلى سبب النجاة فجعله دعاء إلى النجاة اختصارا واقتضابا،
وكذلك دعاؤهم إياه إلى الكفر واتباع دينهم: هو دعاء إلى
سبب دخول النار، فجعله دعاء إلى النار اختصارا، ثم بين
عليهم ما بين الدعوتين من البون في أن الواحدة شرك وكفر،
والأخرى دعوة إلى الإسناد إلى عزة الله وغفرانه.
وقوله: ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ليس معناه أني جاهل به،
بل معناه العلم بأن الأوثان وفرعون وغيره ليس لهم مدخل في
الألوهية، وليس لأحد من البشر علم بوجه من وجوه النظر بأن
لهم في الألوهية مدخلا، بل العلم اليقين بغير ذلك من
حدوثهم متحصل، و: لا جَرَمَ مذهب سيبويه والخليل أنها لا
النافية دخلت على جَرَمَ، ومعنى: جَرَمَ ثبت ووجب، ومن ذلك
جرم بمعنى كسب، ومنه قول الشاعر [أبو اسماء بن الضريبة] :
[الكامل]
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها من أن
يغضبوا
أي أوجبت لهم ذلك وثبتته لهم، فكأن الكلام نفي للكلام
المردود عليه ب لا، وإثبات للمستأنف ب جَرَمَ و «أن» على
هذا النظر في موضع رفع ب جَرَمَ، وكذلك أَنَّ الثانية
والثالثة، ومذهب جماعة من أهل اللسان أن لا جَرَمَ بمعنى
لا بد ولا محالة، ف أَنَّ على هذا النظر في موضع نصب
بإسقاط حرف الجر، أي لا محالة بأن ما. و «ما» بمعنى الذي
واقعة على الأصنام وما عبدوه من دون الله.
وقوله: لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ أي قدر وحق يجب أن يدعى أحد
إليه، فكأنه تدعونني إلى ما لا غناء له وبين أيدينا خطب
جليل من الرد إلى الله. وأهل الإسراف والشرك: هم أصحاب
النار بالخلود فيها
(4/561)
النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ
(46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ
الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا
لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا
مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا
كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ
(48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ
ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ
الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ
رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا
فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ
(50)
والملازمة، أي فكيف أطيعكم مع هذه الأمور
الحقائق، في طاعتكم رفض العمل بحسبها والخوف. قال ابن
مسعود ومجاهد: المسرفون: سفاكو الدماء بغير حلها. وقال
قتادة: هم المشركون. ثم توعدهم بأنهم سيذكرون قوله عند
حلول العذاب بهم، وسوف بالسين، إذ الأمر محتمل أن يخرج
الوعيد في الدنيا أو في الآخرة، وهذا تأويل ابن زيد. وروى
اليزيدي وغيره عن أبي عمرو فتح الياء من: «أمري» ، والضمير
في:
فَوَقاهُ يحتمل أن يعود على موسى، ويحتمل أن يعود على مؤمن
آل فرعون، وقال قائلو ذلك: إن ذلك المؤمن نجا مع موسى عليه
السلام في البحر، وفر في جملة من فر معه من المتبعين.
وقرأ عاصم: فَوَقاهُ اللَّهُ بالإمالة.
وَحاقَ معناه: نزل، وهي مستعملة في المكروه. و: سُوءُ
الْعَذابِ الغرق وما بعده من النار وعذابها.
قوله عز وجل:
[سورة غافر (40) : الآيات 46 الى 50]
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ
أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ
فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا
كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا
نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ
الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ
جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً
مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ
رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا
وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50)
قوله: النَّارُ رفع على البدل من قوله: سُوءُ [غافر: 45] .
وقالت فرقة: النَّارُ رفع بالابتداء وخبره: يُعْرَضُونَ.
وقالت فرقة: هذا الغدو والعشي هو في الدنيا، أي في كل غدو
وعشي من أيام الدنيا يعرض آل فرعون على النار. وروي في ذلك
عن الهزيل بن شرحبيل والسدي: أن أرواحهم في أجواف طير سود
تروح بهم وتغدو إلى النار، وقاله الأوزاعي حين قال له رجل:
إني رأيت طيورا بيضا تغدو من البحر ثم ترجع بالعشي سودا
مثلها، فقال الأوزاعي: تلك هي التي في حواصلها أرواح آل
فرعون يحترق رياشها وتسود بالعرض على النار. وقال محمد بن
كعب القرظي وغيره: أراد أنهم يعرضون في الآخرة على النار
على تقدير ما بين الغدو والعشي، إذ لا غدو ولا عشي في
الآخرة، وإنما ذلك على التقدير بأيام الدنيا وقوله:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يحتمل أن يكون يَوْمَ عطفا
على عَشِيًّا، والعامل فيه يُعْرَضُونَ، ويحتمل أن يكون
كلاما مقطوعا والعامل في: يَوْمَ أَدْخِلُوا، والتقدير:
على كل قول يقال ادخلوا.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعرج وأبو جعفر
وشيبة والأعمش وابن وثاب وطلحة: «أدخلوا» بقطع الألف. وقرأ
علي بن أبي طالب وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر
عن
(4/562)
إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ
الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ
(53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ
وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي
آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي
صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
(56)
عاصم والحسن وقتادة: «ادخلوا» بصلة الألف
على الأمر ل آلَ فِرْعَوْنَ على هذه القراءة منادى مضاف.
و: أَشَدَّ نصب على ظرفية.
والضمير في قوله: يَتَحاجُّونَ لجميع كفار الأمم، وهذا
ابتداء قصص لا يختص بآل فرعون، والعامل في إِذْ، فعل مضمر
تقديره: واذكر. قال الطبري: وَإِذْ هذه عطف على قوله: إِذِ
الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ [غافر: 18] وهذا بعيد.
قال القاضي أبو محمد: والمحاجة: التحاور بالحجة والخصومة.
و: الضُّعَفاءُ يريد في القدر والمنزلة في الدنيا. و:
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا هم أشراف الكفار وكبراؤهم، ولم
يصفهم بالكبر إلا من حيث استكبروا، لأنهم من أنفسهم كبراء،
ولو كانوا كذلك في أنفسهم لكانت صفتهم الكبر أو نحوه مما
يوجب الصفة لهم. و «تبع» : قيل هو جمع واحده تابع، كغائب
وغيب، وقيل هو مفرد يوصف به الجمع، كعدل وزور وغيره.
وقوله: مُغْنُونَ عَنَّا أي يحملون عنا كله ومشقته،
فأخبرهم المستكبرون أن الأمر قد انجزم بحصول الكل منهم
فيها وأن حكم الله تعالى قد استمر بذلك.
وقوله: كُلٌّ فِيها ابتداء وخبر، والجملة موضع خبر «إن» .
وقرأ ابن السميفع: «إنا كلّا» ، بالنصب على التأكيد.
ثم قال جميع من في النار لخزنتها وزبانيتها: ادْعُوا
رَبَّكُمْ عسى أن يخفف عنا مقدار يوم من أيام الدنيا من
العذاب، فراجعتهم الخزنة على معنى التوبيخ لهم. والتقرير:
أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ فأقر
الكفار عند ذلك وقالوا بَلى، أي قد كان ذلك، فقال لهم
الخزنة عند ذلك: فادعوا أنتم إذا، وعلى هذا معنى الهزء
بهم، فادعوا أيها الكافرون الذين لا معنى لدعائهم. وقالت
فرقة: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ هو من
قول الخزنة. وقالت فرقة: هو من قول الله تعالى إخبارا منه
لمحمد صلى الله عليه وسلم، وجاءت هذه الأفعال على صيغة
المضي، قال الناس الذين استكبروا وقال للذين في النار،
لأنها وصف حال متيقنة الوقوع فحسن ذلك فيها.
قوله عز وجل:
[سورة غافر (40) : الآيات 51 الى 56]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ
آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ
الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ
وَالْإِبْكارِ (55)
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ
سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما
هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
(4/563)
أخبر الله تعالى أنه ينصر رسله والمؤمنين
في الحياة الدنيا وفي الآخرة، قال بعض المفسرين: وهذا خاص
فيمن أظهره الله على أمته كنوح وموسى ومحمد وليس بعام،
لأنا نجد من الأنبياء من قتله قومه كيحيى ولم ينصر عليهم،
وقال السدي: الخبر عام على وجهه، وذلك أن نصرة الرسل واقعة
ولا بد، إما في حياة الرسول المنصور كنوح وموسى، وإما فيما
يأتي من الزمان بعد موته، ألا ترى إلى ما صنع الله ببني
إسرائيل بعد قتلهم يحيى من تسليط بختنصر عليهم حتى انتصر
ليحيى، ونصر المؤمنين داخل في نصر الرسل، وأيضا فقد جعل
الله للمؤمنين الفضلاء ودا ووهبهم نصرا إذ ظلموا وحضت
الشريعة على نصرهم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «من رد
عن أخيه المسلم في عرضه، كان حقا على الله أن يرد عنه نار
جهنم» ، وقوله عليه السلام: «من حمى مؤمنا من منافق
يغتابه، بعث الله ملكا يحميه يوم القيامة» .
وقوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يريد يوم
القيامة.
وقرأ الأعرج وأبو عمرو بخلاف «تقوم» بالتاء. وقرأ نافع
وأبو جعفر وشيبة: «يقوم» بالياء.
والْأَشْهادُ: جمع شاهد، كصاحب وأصحاب. وقالت فرقة: أشهاد:
جمع شهيد، كشريف وأشراف.
و: يَوْمَ لا يَنْفَعُ بدل من الأول. وقرأ ابن كثير وأبو
عمرو وقتادة وعيسى وأهل مكة «لا تنفع» بالتاء من فوق. وقرأ
الباقون: «لا ينفع» بالياء، وهي قراءة جعفر وطلحة وعاصم
وأبي رجاء، وهذا لأن تأنيث المعذرة غير حقيقي، وأن الحائل
قد وقع، والمعذرة: مصدر يقع كالعذر. و: اللَّعْنَةُ:
الإبعاد.
و: سُوءُ الدَّارِ فيه حذف مضاف تقديره: سوء عاقبة الدار.
ثم أخبر تعالى بقصة موسى وما أتاه من النبوة تأنيسا لمحمد
عليه السلام، وضرب أسوة وتذكيرا لما كانت العرب تعرفه من
أمر موسى، فيبين ذلك أن محمدا ليس ببدع من الرسل. و:
الْهُدى النبوة والحكمة، والتوراة تعم جميع ذلك.
وقوله: وَأَوْرَثْنا عبر عن ذلك بالوراثة إذ كانت طائفة
بني إسرائيل قرنا بعد قرن تصير فيهم التوراة إماما، فكان
بعضهم يرثها عن بعض وتجيء التوراة في حق الصدر الأول منهم
على تجوز. و: الْكِتابَ التوراة. ثم أمر نبيه عليه السلام
بالصبر وانتظار إنجاز الوعد أي فستكون عاقبة أمرك كعاقبة
أمره. وقال الكلبي: نسخت آية القتال الصبر حيث وقع.
وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ يحتمل أن يكون ذلك
قبل إعلام الله إياه إنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر، لأن آية هذه السورة مكية، وآية سورة الفتح مدنية
متأخرة، ويحتمل أن يكون الخطاب في هذه الآية له والمراد
أمته، أي إنه إذا أمر هو بهذا فغيره أحرى بامتثاله.
وَالْإِبْكارِ والبكر: بمعنى واحد.
وقال الطبري: الْإِبْكارِ من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع
الشمس. وحكي عن قوم أنه من طلوع الشمس
(4/564)
لَخَلْقُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا
يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا
تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا
رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
إلى ارتفاع الضحى. وقال الحسن:
بِالْعَشِيِّ، يريد صلاة العصر وَالْإِبْكارِ: يريد به
صلاة الصبح.
ثم أخبر تعالى عن أولئك الكفار الذين يجادلون في آيات الله
بغير حجة ولا برهان وهم يريدون بذلك طمسها والرد في وجهها
أنهم ليسوا على شيء، بل في صدورهم وضمائرهم كبر وأنفة عليك
حسدا منهم على الفضل الذي آتاك الله، ثم نفى أن يكونوا
يبلغون آمالهم بحسب ذلك الكبر فقال: ما هُمْ بِبالِغِيهِ
وهنا حذف مضاف تقديره: ببالغي إرادتهم فيه، وفي هذا النفي
الذي تضمن أنهم لا يبلغون أملا تأنيس لمحمد عليه السلام.
ثم أمره تعالى الاستعاذة بالله في كل أمره من كل مستعاذ
منه، لأن الله يسمع أقواله وأقوال مخالفيه، وهو بصير
بمقاصدهم ونياتهم، ويجازي كلّا بما يستوجبه، (والمقصد بأن
يستعاذ منه عند قوم الكبر المذكور) ، كأنه قال: هؤلاء لهم
كبر لا يبغون منه أملا، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من حالهم.
وذكر الثعلبي: أن هذه الاستعاذة هي من الدجال وفتنته،
والأظهر ما قدمناه من العموم في كل مستعاذ منه.
قوله عز وجل:
[سورة غافر (40) : الآيات 57 الى 60]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ
النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57)
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً
ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا
رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ
(59) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ
جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)
قوله تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ
مِنْ خَلْقِ النَّاسِ توبيخ لهؤلاء الكفرة المتكبرين، كأنه
قال: مخلوقات الله أكبر وأجل قدرا من خلق البشر، فما لأحد
منهم يتكبر على خالقه، ويحتمل أن يكون الكلام في معنى
البعث والإعادة، فأعلم أن الذي خلق السماوات والأرض قوي
قادر على خلق الناس تارة أخرى. والخلق على هذا التأويل
مصدر مضاف إلى المفعول. وقال النقاش: المعنى مما يخلق
الناس، إذ هم في الحقيقة لا يخلقون شيئا، فالخلق في قوله:
مِنْ خَلْقِ النَّاسِ مضاف إلى الفاعل على هذا التأويل.
وقوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يقتضي أن الأقل منهم
يعلم ذلك، ولذلك مثل الأكثر الجاهل:
ب الْأَعْمى، والأقل العالم: ب الْبَصِيرُ، وجعل:
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعادلهم قوله:
وَلَا الْمُسِيءُ وهو اسم جنس يعم المسيئين، وأخبر تعالى
أن هؤلاء لا يستوون، فكذلك الأكثر الجهلاء من الناس لا
يستوون مع الأقل الذين يعلمون.
وقرأ أكثر القراء والأعرج وأبو جعفر وشيبة والحسن:
«يتذكرون» بالياء على الكناية عن الغائب. وقرأ عاصم وحمزة
والكسائي وقتادة وطلحة وعيسى وأبو عبد الرحمن: «تتذكرون»
بالتاء من فوق على المخاطبة.
(4/565)
اللَّهُ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ
مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ
يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
(63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ
رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)
والمعنى: قل لهم يا محمد. ثم جزم الإخبار
بأن الساعة آتية، وهي القيامة المتضمنة للبعث من القبور
والحساب بين يدي الله تعالى، واقتران الجمع إلى الجنة وإلى
النار.
وقوله تعالى: لا رَيْبَ فِيها، أي في نفسها وذاتها، وإن
وجد من العالم من يرتاب فيها فليست فيها في نفسها ريبة.
وقوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ آية تفضل ونعمة ووعد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم
بالإجابة عند الدعاء، وهذا الوعد مقيد بشرط المشيئة لمن
شاء تعالى، لا أن الاستجابة عليه حتم لكل داع، لا سيما لمن
تعدى في دعائه، فقد عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء
الذي قال: اللهم أعطني القصر الأبيض الذي عن يمين الجنة.
وقالت فرقة: معنى: ادْعُونِي وأَسْتَجِبْ، معناه:
بالثواب والنصر، ويدل على هذا التأويل قوله: إِنَّ
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي ويحتج له لحديث
النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء
هو العبادة» وقرأ هذه الآية. وقال ابن عباس:
المعنى: وحدوني أغفر لكم. وقيل للثوري: ادع الله، فقال: إن
ترك الذنوب هو الدعاء.
وقرأ ابن كثير وأبو جعفر: «سيدخلون» بضم الياء وفتح الخاء.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وابن عامر والحسن وشيبة: بفتح
الياء وضم الخاء، واختلف عن أبي عمرو وعن عاصم. والداخر:
هو الصاغر الذليل.
قوله عز وجل:
[سورة غافر (40) : الآيات 61 الى 64]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا
فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ
عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ
(61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ
يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
(63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً
وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ
فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64)
هذا تنبيه من الله تعالى على آيات وعبر، متى تأملها العاقل
أدته إلى توحيد الله والإقرار بربوبيته.
وقوله تعالى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً مجازه يبصر فيه، كما
تقول: نهار صائم، وليل قائم.
وقوله تعالى: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مخلوق، وما يستحيل أن
يكون مخلوقا كالقرآن والصفات فليس يدخل في هذا العموم،
وهذا كما قال تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الأحقاف: 25]
معناه كل شيء مبعوث لتدميره.
وقرأت فرقة: «تؤفكون» بالتاء، وقرأت فرقة: «يؤفكون»
بالياء، والمعنى في القراءة الأولى قل لهم.
(4/566)
هُوَ الْحَيُّ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي
نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي
وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا
أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
و: تُؤْفَكُونَ معناه: تصرفون على طريق
النظر والهدى، وهذا تقرير بمعنى التوبيخ والتقريع، ثم قال
لنبيه: كَذلِكَ يُؤْفَكُ أي على هذه الهيئة وبهذه الصفة
صرف الله تعالى الكفار الجاحدين بآيات الله من الأمم
المتقدمة على طريق الهدى، ثم بين تعالى نعمته في أن جعل
الْأَرْضَ قَراراً ومهادا للعباد، وَالسَّماءَ بِناءً
وسقفا.
وقرأ الناس: «صوركم» بضم الصاد. وقرأ أبو رزين: «صوركم»
بكسر الصاد. وقرأت فرقة:
«صوركم» بكسر الواو على نحو بسرة وبسر.
وقوله تعالى: مِنَ الطَّيِّباتِ يريد من المستلذات طعما
ولباسا ومكاسب وغير ذلك، ومتى جاء ذكر الطَّيِّباتِ بقرينة
رَزَقَكُمْ ونحو فهو المستلذ، ومتى جاء بقرينة تحليل أو
تحريم كما قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ
الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ
الرِّزْقِ [الأعراف: 32] وكما قال: وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّباتِ [الأعراف: 157] والطيبات في مثل هذا: الحلال،
وعلى هذا النظر يخرج مذهب مالك رحمه الله في الطيبات
والخبائث، وقول الشافعي رحمه الله: إن الطيبات هي
المستلذات، والخبائث، هي المستقذرات ضعيف ينكسر بمستلذات
محرمة ومستقذرات محللة لا رد له في صدرها، وأما حيث وقعت
الطيبات مع الرزق فإنما هي تعديد نعمة فيما يستحسنه البشر،
لا سيما هذه الآية التي هي مخاطبة لكفار، فإنما عددت عليهم
النعمة التي يعتقدونها نعمة، وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
[سورة غافر (40) : الآيات 65 الى 67]
هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي
الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ
لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ
ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى
مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
لما سددت الآيات صفات الله تعالى التي تبين فساد حال
الأصنام كان من أبينها أن الأصنام موات جماد، وأنه عز وجل
الحي القيوم، وصدور الأمور من لدنه، وإيجاد الأشياء وتدبير
الأمر دليل قاطع على أنه حي لا إله إلا هو.
وقوله: فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ كلام متصل مقتضاه: ادعوه
مخلصين بالجهد، وبهذه الألفاظ قال ابن عباس: من قال لا إله
إلا الله، فليقل على أثرها: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ. وقال نحو هذا سعيد بن جبير ثم قرأ هذه
الآية.
ثم أمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يصدع بأنه نهي عن
عبادة الأصنام التي عبدها الكفار من دون
(4/567)
هُوَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا
بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ
الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ
يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ
يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ
تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا
عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)
الله، ووقع النهي لما جاءه الوحي والهدي من
ربه تعالى. وأمر بالإسلام الذي هو الإيمان والأعمال.
وقوله:
لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي إن استسلم لرب العالمين واخضع له
بالطاعة.
ثم بين تعالى أمر الوحدانية والألوهية بالعبرة في ابن آدم
وتدريج خلقه، فأوله خلق آدم عليه السلام من تراب من طين
لازب، فجعل البشر من التراب كما كان منسلا من المخلوق من
التراب. وقوله تعالى:
مِنْ نُطْفَةٍ إشارة إلى التناسل من آدم فمن بعده.
والنطفة: الماء الذي خلق المرء منه. والعلقة: الدم الذي
يصير من النطفة. والطفل هنا: اسم جنس. وبلوغ الأشد: اختلف
فيه: فقيل ثلاثون، وقيل ستة وثلاثون، وقيل أربعون، وقيل
ستة وأربعون، وقيل عشرون، وقيل ثمانية عشر، وقيل خمسة عشر،
وهذه الأقوال الأخيرة ضعيفة في الأشد.
وقوله تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ
عبارة تتردد في الأدراج المذكورة كلها، فمن الناس من يموت
قبل أن يخرج طفلا، وآخرون قبل الأشد، وآخرون قبل الشيخوخة.
وقوله: وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى أي هذه الأصناف
كلها مخلوقة ميسرة ليبلغ كل واحد منها أجلا مسمى لا يتعداه
ولا يتخطاه ولتكون معتبرا. وَلَعَلَّكُمْ أيها البشر
تَعْقِلُونَ الحقائق إذا نظرتم في هذا وتدبرتم حكمة الله
تعالى.
قوله عز وجل:
[سورة غافر (40) : الآيات 68 الى 74]
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى
يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما
أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ
الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ
(71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ
نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ
اللَّهُ الْكافِرِينَ (74)
قوله تعالى: فَإِذا قَضى أَمْراً عبارة عن إنقاذ الإيجاد،
وإخراج المخلوق من العدم وإيجاد الموجودات هو بالقدرة،
واقتران الأمر بذلك: هو عظمة في الملك وتخضيع للمخلوقات
وإظهار للقدرة بإيجاده، والأمر للموجد إنما يكون في حين
تلبس القدرة بإيجاده لا قبل ذلك، لأنه حينئذ لا يخاطب في
معنى الوجود والكون ولا بعد ذلك، لأن ما هو كائن لا يقال
له كُنْ.
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي
آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ظاهر الآية أنها في
الكفار المجادلين في رسالة محمد والكتاب الذي جاء به بدليل
قوله: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ. وهذا قول ابن زيد
والجمهور من المفسرين. وقال محمد بن سيرين وغيره، قوله
تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ
اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ هي إشارة إلى أهل الأهواء من
الأمة، وروت هذه الفرقة في نحو هذا حديثا وقالوا
(4/568)
ذَلِكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ
حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ
أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ
قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ
عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ
قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
هي في أهل القدر ومن جرى مجراهم، ويلزم
قائلي هذه المقالة أن يجعلوا قوله تعالى: الَّذِينَ
كَذَّبُوا كلاما مقطوعا مستأنفا في الكفار. الَّذِينَ
ابتداء وخبره: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، ويحتمل أن يكون خبر
الابتداء محذوفا والفاء متعلقة به.
وقوله تعالى: إِذِ الْأَغْلالُ يعني يوم القيامة، والعامل
في الظرف يَعْلَمُونَ وعبر عن ظرف الاستقبال بظرف لا يقال
إلا في الماضي، وذلك لما تيقن وقوع الأمر حسن تأكيده
بالإخراج في صيغة المضي، وهذا كثير في القرآن كما قال
تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
[المائدة: 116] قال الحسن بن أبي الحسن: لم تجعل السلاسل
في أعناق أهل النار، لأنهم أعجزوا الرب، لكن لترسبهم إذا
أطفاهم اللهب.
وقرأ جمهور الناس: «والسلاسل» عطفا على الْأَغْلالُ. وقرأ
ابن عباس وابن مسعود:
«والسلاسل» بالنصب «يسحبون» بفتح الحاء وإسناد الفعل إليهم
وإيقاع الفعل على «السلاسل» . وقرأت فرقة «والسلاسل»
بالخفض على تقدير إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل، فعطف
على المراد من الكلام لا على ترتيب اللفظ، إذ ترتيبه فيه
قلب، وهو على حد قول العرب: أدخلت القلنسوة في رأسي. وفي
مصحف أبي بن كعب: «وفي السلاسل يسحبون» . و: يُسْحَبُونَ
معناه يجرون، والسحب الجر.
والْحَمِيمِ: الذائب الشديد الحر من النار، ومنه يقال
للماء السخن: حميم. و: يُسْجَرُونَ قال مجاهد معناه: توقد
النار بهم، والعرب تقول: سجرت التنور إذا ملأتها. وقال
السدي: يُسْجَرُونَ يحرقون.
ثم أخبر تعالى أنهم يوقفون يوم القيامة على جهة التوبيخ
والتقريع، فيقال لهم أين الأصنام التي كنتم تعبدون من دون
الله؟ فيقولون: ضَلُّوا عَنَّا أي تلفوا لنا وغابوا
واضمحلوا، ثم تضطرب أقوالهم ويفزعون إلى الكذب فيقولون:
بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً وهذا من
أشد الاختلاط وأبين الفساد في الدهر والنظر فقال الله
تعالى لنبيه: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ أي
كهذه الصفة المذكورة وبهذا الترتيب.
قوله عز وجل:
[سورة غافر (40) : الآيات 75 الى 78]
ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا
أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ
حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ
أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ
قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ
وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ
بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
المعنى يقال للكفار المعذبين ذلِكُمْ العذاب الذي أنتم فيه
بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الدنيا
(4/569)
اللَّهُ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا
وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ
وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
(81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا
أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي
الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
(82)
بالمعاصي والكفر. و: تَمْرَحُونَ قال مجاهد
معناه: الأشر والبطر. وقال ابن عباس: الفخر والخيلاء.
وقوله تعالى: ادْخُلُوا معناه: يقال لهم قبل هذه المحاورة
في أول الأمر ادْخُلُوا، لأن هذه المخاطبة إنما هي بعد
دخولهم وفي الوقت الذي فيه الأغلال في أعناقهم. و:
أَبْوابَ جَهَنَّمَ هي السبعة المؤدية إلى طبقاتها
وأدراكها السبعة. والمثوى: موضع الإقامة.
ثم أنس تعالى نبيه ووعده بقوله: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ
اللَّهِ حَقٌّ أي في نصرك وإظهار أمرك، فإن ذلك أمر إما أن
ترى بعضه في حياتك فتقر عينك به، وإما أن تموت قبل ذلك
فإلى أمرنا وتعذيبنا يصيرون ويرجعون.
وقرأ الجمهور: «يرجعون» بضم الياء. وقرأ أبو عبد الرحمن
ويعقوب «يرجعون» بفتح الياء. وقرأ طلحة بن مصرف ويعقوب في
رواية الوليد بن حسان: بفتح التاء منقوطة من فوق.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ
الآية رد على العرب الذين قالوا: إن الله لا يبعث بشرا
رسولا واستبعدوا ذلك.
وقوله تعالى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا قال النقاش: هم أربعة
وعشرون.
وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ روي
من طريق أنس بن مالك عن النبي عليه السلام أن الله تعالى
بعث ثمانية آلاف رسول. وروي عن سلمان عن النبي عليه السلام
قال: بعث الله أربعة آلاف نبي. وروي عن ابن عباس وعلي بن
أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال: بعث الله رسولا من
الحبشة أسود، وهو الذي يقص على محمد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما ساقه على أن هذا الحبشي
مثال لمن لم يقص، لا أنه هو المقصود وحده، فإن هذا بعيد.
وقوله تعالى: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ رد على قريش في إنكارهم أمر محمد
صلى الله عليه وسلم وقولهم إنه كاذب على الله تعالى.
والإذن يتضمن علما وتمكينا. فإذا اقترن به أمر قوي كما هو
في إرسال النبي، ثم قال تعالى: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ
أي إذا أراد الله إرسال رسول وبعثة نبي، قضى ذلك وأنفذه
بالحق، وخسر كل مبطل وحصل على فساد آخرته، وتحتمل الآية
معنى آخر، وهو أن يريد ب أَمْرُ اللَّهِ القيامة، فتكون
الآية توعدا لهم بالآخرة.
قوله عز وجل:
[سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 82]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا
مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ
وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)
وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
(81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا
أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي
الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ
(82)
(4/570)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ
مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا
آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ
مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ
لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ
خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ
(85)
هذه آيات عبر وتعديد نعم. و: الْأَنْعامَ
الأزواج الثمانية. ع و: مِنْها الأولى للتبعيض، لأن
المركوب ليس كل الأنعام، بل الإبل خاصة. وَمِنْها الثانية
لبيان الجنس، لأن الجميع منها يؤكل. وقال الطبري في هذه
الآية: إن الْأَنْعامَ تعم الإبل والبقر والغنم والخيل
والبغال والحمير وغير ذلك مما ينتفع به في البهائم، ف
مِنْها في الموضعين للتبعيض على هذا، لكنه قول ضعيف، وإنما
الأنعام: الأزواج الثمانية التي ذكر الله فقط. ثم ذكر
تعالى المنافع ذكرا مجملا، لأنها أكثر من أن تحصى.
وقوله تعالى: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي
صُدُورِكُمْ يريد قطع المهامة الطويلة والمشاق البعيدة.
و: الْفُلْكِ السفن، وهو هنا جمع. و: تُحْمَلُونَ يريد:
برا وبحرا. وكرر الحمل عليها، وقد تقدم ذكر ركوبها لأن
المعنى مختلف وفي الأمرين تغاير، وذلك أن الركوب هو
المتعارف فيما قرب واستعمل في القرى والمواطن نظير الأكل
منها وسائر المنافع بها، ثم خصص بعد ذلك السفر الأطول
وحوائج الصدور مع البعد والنوى، وهذا هو الحمل الذي قرنه
بشبيهه من أمر السفن. ثم ذكر تعالى آياته عامة جامعة لكل
عبرة وموضع نظر، وهذا غير منحصر لاتساعه، ولأن في كل شيء
له آية تدل على وحدانيته، ثم قررهم على جهة التوبيخ بقوله:
أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
. ثم احتج تعالى على قريش بما يظهر في الأمم السالفة من
نقمات الله في الكفرة الذين كانُوا أَكْثَرَ عددا
وَأَشَدَّ قُوَّةً أبدان وممالك، وأعظم آثارا في المباني
والأفعال من قريش والعرب، فلم يغن عنهم كسبهم ولا حالهم
شيئا حين جاءهم عذاب الله وأخذه.
و «ما» في قوله: فَما أَغْنى عَنْهُمْ نافية. قال الطبري:
وقيل هي تقرير وتوقيف.
قوله عز وجل:
[سورة غافر (40) : الآيات 83 الى 85]
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا
بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا
قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا
بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ
إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ
الْكافِرُونَ (85)
الضمير في: جاءَتْهُمْ عائد على الأمم المذكورين الذين
جعلوا مثلا وعبرة. واختلف المفسرون في الضمير في: فَرِحُوا
على من يعود، فقال مجاهد وغيره: هو عائد على الأمم
المذكورين، أي بما عندهم من العلم في ظنهم ومعتقدهم من
أنهم لا يبعثون ولا يحاسبون. قال ابن زيد: واغتروا بعلمهم
في الدنيا والمعايش، وظنوا أنه لا آخرة ففرحوا، وهذا كقوله
تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا
[الروم: 7] وقالت فرقة: الضمير في فَرِحُوا عائد على
الرسل، وفي هذا الرسل حذف، وتقديره:
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ كذبوهم،
ففرح الرسل بما عندهم من العلم بالله والثقة به، وبأنه
(4/571)
سينصرهم. وَحاقَ معناه: نزل وثبت، وهي
مستعملة في الشر. وما في قوله: ما كانُوا هو العذاب الذي
كانوا يكذبون به ويستهزئون بأمره، والضمير في بِهِمْ عائد
على الكفار بلا خلاف. ثم حكى حالة بعضهم ممن آمن بعد تلبس
العذاب بهم فلم ينفعهم ذلك، وفي ذكر هذا حض للعرب على
المبادرة وتخويف من التأني لئلا يدركهم عذاب لا تنفعهم
توبة بعد تلبسه بهم. وأما قصة قوم يونس فرأوا العذاب ولم
يكن تلبس بهم، وقد مر تفسيرها مستقصى في سورة يونس عليه
السلام. و: سُنَّتَ اللَّهِ نصب على المصدر. و: خَلَتْ
معناه: مضت واستمرت وصارت عادة.
وقوله: هُنالِكَ إشارة إلى أوقات العذاب، أي ظهر خسرانهم
وحضر جزاء كفرهم.
(4/572)
فهرس الجزء الرابع من المحرر الوجيز
(4/573)
فهرس المحتويات تفسير سورة مريم الآيات: 1-
6 3 الآيات: 7- 11 6 الآيات: 12- 15 7 الآيات: 16- 20 8
الآيات: 21- 23 9 الآيات: 24- 26 11 الآيتان: 27، 28 13
الآيات: 29- 33 14 الآيات: 34- 36 15 الآيات: 37- 40 16
الآيات: 41- 46 17 الآيات: 47- 50 19 الآيات: 51- 55 20
الآيات: 56- 58 21 الآيات: 59- 63 22 الآيتان: 64، 65 23
الآيات: 66- 69 25 الآيات: 70- 72 26 الآيتان: 73، 74 28
الآيات: 75- 80 29 الآيات: 81- 87 31 الآيات: 88- 96 33
الآيتان: 97، 98 34 تفسير سورة طه الآيات: 1- 8 36 الآيات:
9- 14 38 الآيات: 15- 18 39 الآيات: 19- 35 41 الآيات: 36-
39 43 الآيات: 40- 46 45 الآيات: 47- 49 46 الآيات: 50- 52
47 الآيات: 53- 59 48 الآيات: 60- 64 49 الآيات: 65- 69 51
الآيتان: 70، 71 52 الآيات: 72- 76 53 الآيات: 77- 79 54
الآيات: 80- 82 55 الآيات: 83- 85 57 الآيتان: 86، 87 58
الآيات: 88- 91 59 الآيات: 92- 94 60 الآيات: 95- 97 61
الآيات: 98- 102 63 الآيات: 103- 111 64 الآيات: 112- 114
65 الآيات: 115- 117 66 الآيات: 118- 121 67 الآيات: 122-
126 68 الآيات: 127- 130 69 الآيات: 131- 133 70
(4/575)
الآيتان: 134، 135 71 تفسير سورة الأنبياء
الآيات: 1- 4 73 الآيات: 5- 8 74 الآيات: 9- 12 75 الآيات:
13- 16 76 الآيات: 17- 20 77 الآيات: 21- 24 78 الآيات:
25- 30 79 الآيات: 31- 33 80 الآيات: 34- 38 81 الآيات:
39- 44 83 الآيتان: 45، 46 84 الآيات: 47- 50 85 الآيات:
51- 63 86 الآيات: 64- 70 87 الآيات: 71- 73 89 الآيات:
74- 79 90 الآيتان: 80، 81 93 الآيات: 82- 84 94 الآيتان:
85، 86 95 الآيتان: 87، 88 96 الآيات: 89- 95 98 الآيتان:
96، 97 99 الآيات: 98- 103 101 الآيتان: 104، 105 102
الآيات: 106- 112 103 تفسير سورة الحج الآيتان: 1، 2 105
الآيات: 3- 5 107 الآيات: 5- 10 108 الآيات: 11- 13 110
الآيات: 14- 17 111 الآيات: 18- 22 113 الآيات: 23- 25 114
الآيات: 26- 28 117 الآيات: 29- 31 119 الآيات: 32- 35 121
الآيتان: 36، 37 122 الآيات: 38- 40 123 الآيات: 41- 48
126 الآيات: 49- 54 128 الآيات: 55- 62 130 الآيات: 63- 65
131 الآيات: 66- 72 132 الآيتان: 73، 74 133 الآيات: 75-
77 134 الآية: 78 135 تفسير سورة المؤمنون الآيات: 1- 7
136 الآيات: 8- 14 137 الآيات: 15- 20 139 الآيتان: 21، 22
140 الآيات: 23- 30 141 الآيات: 31- 34 142 الآيات: 35- 39
143 الآيات: 40- 48 144 الآيات: 49- 51 145 الآيات: 52- 56
146 الآيات: 57- 61 147 الآيات: 62- 64 148 الآيات: 65- 68
149 الآيات: 69- 75 151 الآيتان: 76، 77 152 الآيات: 78-
83 152 الآيات: 84- 89 153
(4/576)
الآيات: 90- 98 154 الآيات: 99- 102 155
الآيات: 103- 108 156 الآيات: 109- 111 157 الآيات: 112-
115 158 الآيات: 116- 118 159 تفسير سورة النور الآيتان:
1، 2 160 الآية: 3 162 الآيتان: 4، 5 164 الآيات: 6- 10
165 الآية: 11 168 الآيات: 12- 18 170 الآيتان: 19، 20 171
الآيتان: 21، 22 172 الآيات: 23- 25 173 الآية: 26 174
الآيتان: 27، 28 175 الآيتان: 29، 30 177 الآية: 31 178،
179 الآية: 32 180 الآية: 33 181 الآيات: 33- 35 182
الآيتان: 36، 37 185 الآيات: 38- 40 187 الآيتان: 41، 42
188 الآيتان: 43، 44 189 الآيات: 45- 50 190 الآيات: 51-
54 191 الآيات: 55- 57 192 الآية: 58 193 الآيتان: 59، 60
194 الآية: 61 195 الآية: 62 197 الآيتان: 63، 64 198
تفسير سورة الفرقان الآيات: 1- 3 199 الآيات: 4- 10 200
الآيات: 11- 14 202 الآيات: 15- 19 203 الآيتان: 20، 21
205 الآيات: 22- 26 206 الآيات: 27- 31 208 الآيات: 32- 34
209 الآيات: 35- 39 210 الآيات: 40- 44 211 الآيات: 45- 47
212 الآيات: 48- 52 213 الآيات: 53- 57 214 الآيات: 58- 60
216 الآيات: 61- 63 217 الآيات: 64- 70 219 الآيات: 71- 74
221 الآيات: 75- 77 223 تفسير سورة الشعراء الآيات: 1- 9
224 الآيات: 10- 19 226 الآيات: 20- 28 228 الآيات: 29- 37
229 الآيات: 38- 51 230 الآيات: 52- 62 231 الآيات: 63- 68
233 الآيات: 69- 87 234 الآيات: 88- 95 235 الآيات: 96-
104 236 الآيات: 105- 122 237
(4/577)
الآيات: 123- 140 238 الآيات: 141- 159 239
الآيات: 160- 175 240 الآيات: 176- 191 241 الآيات: 192-
199 242 الآيات: 200- 216 244 الآيات: 217- 226 245 الآية:
227 247 تفسير سورة النمل الآيات: 1- 5 248 الآيات: 6- 9
249 الآيات: 10- 12 250 الآيتان: 13، 14 252 الآيات: 15-
17 253 الآيتان: 18، 19 254 الآيات: 20- 23 255 الآيات:
24- 28 256 الآيات: 29- 34 258 الآيات: 35- 40 259 الآيات:
41- 44 261 الآيات: 45- 51 263 الآيات: 52- 58 264 الآيات:
59- 61 265 الآيات: 62- 66 267 الآيات: 67- 74 268 الآيات:
75- 82 269 الآيات: 83- 87 271 الآيات: 88- 93 273 تفسير
سورة القصص الآيات: 1- 4 275 الآيات: 5- 7 276 الآيات: 8-
11 277 الآيات: 12- 15 279 الآيات: 16- 18 280 الآيات: 19-
21 281 الآيات: 22- 24 282 الآيات: 25- 27 284 الآيات: 28-
32 285 الآيات: 33- 39 288 الآيات: 40- 46 289 الآيات: 47-
50 290 الآيات: 51- 55 291 الآيات: 56- 58 292 الآيات: 59-
61 293 الآيات: 62- 64 294 الآيات: 65- 68 295 الآيات: 69-
73 296 الآيتان: 74- 75 297 الآيتان: 76- 77 298 الآيتان:
78- 79 300 الآيات: 80- 82 301 الآيات: 83- 85 302 الآيات:
86- 88 303 تفسير سورة العنكبوت الآيات: 1- 3 305 الآيات:
4- 7 306 الآيات: 8- 11 307 الآيات: 12- 15 309 الآيتان:
16، 17 310 الآيات: 18- 20 311 الآيات: 21- 25 312 الآيات:
26- 31 314 الآيات: 32- 35 315 الآيات: 36- 38 316 الآيات:
39، 40- 317 الآيات: 41- 43 318
(4/578)
الآيتان: 44، 45 319 الآية: 46 320 الآيات:
47- 49 321 الآيات: 50- 52 322 الآيات: 53- 55 323 الآيات:
56- 63 324 الآيات: 64- 67 325 الآيتان: 68، 69 326 تفسير
سورة الروم الآيات: 1- 6 327 الآيتان: 7، 8 329 الآيات: 9-
13 330 الآيات: 14- 18 331 الآيات: 19- 22 332 الآيات: 23-
25 333 الآيات: 26- 28 334 الآيات: 29- 32 336 الآيات: 33-
35 337 الآيات: 36- 38 338 الآيات: 39- 41 339 الآيات: 42-
44 340 الآيات: 45- 50 341 الآيات: 51- 53 342 الآيات: 54-
56 343 الآيات: 57- 60 344 تفسير سورة لقمان الآيات: 1- 6
345 الآيات: 7- 11 346 الآيتان: 12، 13 347 الآيتان: 14،
15 348 الآيات: 16- 19 350 الآيتان: 20، 21 352 الآيات:
22- 28 353 الآيتان: 29، 30 354 الآيتان: 31، 32 355
الآيتان: 33، 34 356 تفسير سورة السجدة الآيات: 1- 4 357
الآية: 5 358 الآيات: 6- 11 359 الآيات: 12- 15 361
الآيات: 16- 20 362 الآيتان: 21، 22 363 الآيات: 23- 25
364 الآيات: 26- 30 365 تفسير سورة الأحزاب الآيات: 1- 4
367 الآيتان: 5، 6 369 الآيات: 7- 9 371 الآيات: 10- 12
372 الآيات: 13- 15 373 الآيات: 16- 18 374 الآية: 19 375
الآيتان: 20، 21 376 الآيات: 22- 24 377 الآيات: 25- 27
379 الآيتان: 28- 29 380 الآيات: 30- 32 381 الآية: 33 383
الآيتان: 34، 35 384 الآيتان: 36، 37 385 الآيات: 38- 44
387 الآيات: 45- 49 389 الآية: 50 390 الآيتان: 51، 52 392
الآية: 53 395
(4/579)
الآيتان: 54، 55 396 الآيات: 56- 58 397
الآيات: 59- 62 399 الآيات: 63- 68 400 الآيات: 69- 71 401
الآيتان: 72، 73 402 تفسير سورة سبأ الآيتان: 1، 2 404
الآيات: 3- 8 405 الآيات: 9- 11 406 الآية: 12 408 الآية:
13 409 الآية: 14 411 الآيات: 15- 17 413 الآيتان: 18، 19
415 الآيات: 20- 22 417 الآية: 23 418 الآيات: 24- 27 419
الآيات: 28- 32 420 الآية: 33 421 الآيات: 34- 37 422
الآيات: 38- 43 423 الآيات: 44- 46 424 الآيات: 47- 51 425
الآيات: 52- 54 426 تفسير سورة فاطر الآيات: 1- 5 428
الآيات: 6- 10 430 الآية: 11 432 الآية: 12 433 الآيات:
13- 18 434 الآيات: 19- 26 435 الآيتان: 27، 28 436
الآيات: 29- 34 438 الآيات: 35- 37 440 الآيات: 38- 41 442
الآيتان: 42، 43 443 الآيتان: 44، 45 444 تفسير سورة يس
الآيات: 1- 5 445 الآيات: 6- 9 446 الآيات: 10- 12 447
الآيات: 13- 21 449 الآيات: 22- 27 450 الآيات: 28- 32 452
الآيات: 33- 40 453 الآيات: 41- 46 454 الآيات: 47- 50 456
الآيات: 51- 54 457 الآيات: 55- 61 458 الآيات: 62- 65 460
الآيات: 66- 70 461 الآيات: 71- 80 453 الآيات: 81- 83 464
تفسير سورة الصافات الآيات: 1- 7 465 الآيات: 8- 10 466
الآيات: 11- 18 467 الآيات: 19- 26 468 الآيات: 27- 34 469
الآيات: 35- 49 471 الآيات: 50- 53 473 الآيات: 54- 61 474
الآيات: 62- 70 475 الآيات: 71- 79 476 الآيات: 80- 90 477
(4/580)
الآيات: 91- 98 478 الآيات: 99- 102 480
الآيات: 103- 111 481 الآيات: 112- 125 483 الآيات: 126-
146 485 الآيات: 147- 157 487 الآيات: 158- 169 488
الآيات: 170- 182 489 تفسير سورة ص الآيات: 1- 5 491
الآيات: 6- 9 493 الآيات: 10- 14 494 الآيات: 15- 20 495
الآيات: 21- 24 497 الآيات: 25- 29 502 الآيات: 30- 35 503
الآيات: 36- 44 506 الآيات: 45- 54 508 الآيات: 55- 61 510
الآيات: 62- 66 512 الآيات: 67- 74 513 الآيات: 75- 81 514
الآيات: 82- 88 516 تفسير سورة الزمر الآيات: 1- 3 517
الآيات: 3- 5 518 الآية: 6 519 الآية: 7 520 الآية: 8 521
الآيتان: 9، 10 522 الآيات: 11- 15 524 الآيات: 16- 18 525
الآيات: 19- 21 526 الآيتان: 22، 23 527 الآيات: 24- 28
528 الآيات: 29- 32 529 الآيات: 33- 37 531 الآيات: 38- 40
532 الآيتان: 41، 42 533 الآيات: 43- 45 534 الآيات: 46-
52 535 الآيات: 53- 55 536 الآيات: 56- 60 538 الآيات: 61-
65 539 الآيات: 66- 68 540 الآيات: 69- 72 542 الآيات: 73-
75 543 تفسير سورة غافر الآيات: 1- 5 545 الآيات: 6- 9 547
الآيات: 10- 12 548 الآيات: 13- 17 550 الآيات: 18- 21 552
الآيات: 22- 25 554 الآيات: 26- 28 555 الآيات: 29- 33 557
الآيتان: 34، 35 559 الآيات: 36- 40 560 الآيات: 41- 45
561 الآيات: 46- 50 562 الآيات: 51- 56 563 الآيات: 57- 60
565 الآيات: 61- 64 566 الآيات: 65- 67 567 الآيات: 68- 74
568 الآيات: 75- 78 569 الآيات: 79- 85 571
(4/581)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا
وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا
يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ
مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ
بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا
عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
[المجلد الخامس]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة فصّلت
هذه السورة مكية بإجماع من المفسرين، ويروى أن عتبة بن
ربيعة ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين عليه
أمر مخالفته لقومه وليحتج عليه فيما بينه وبينه وليبعد ما
جاء به، فلما تكلم عتبة، قرأ رسول الله صلى الله عليه
وسلم: حم ومر في صدر هذه السورة حتى انتهى إلى قوله:
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ
صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] فأرعد الشيخ وقفّ شعره
وأمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وناشده
بالرحم أن يمسك، وقال حين فارقه: والله لقد سمعت شيئا ما
هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، ولقد ظننت أن صاعقة
العذاب على رأسي.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ
فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ
أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا
إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ
حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما
أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ
إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ
وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ
الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7)
تقدم القول في أوائل السور مما يختص به الحواميم، وأمال
الأعمش حم [فصلت: 1، الشورى: 1، الدخان: 1، الزخرف: 1،
الجاثية: 1، الأحقاف: 1] في كلها. و: تَنْزِيلٌ خبر
الابتداء، إما على أن يقدر الابتداء، إما على أن يقدر
الابتداء في: حم على ما تقتضيه بعض الأقوال إذا جعلت اسما
للسورة أو للقرآن أو إشارة إلى حروف المعجم، وإما على أن
يكون التقدير: هذا تنزيل، ويجوز أن يكون تَنْزِيلٌ ابتداء
وخبره في قوله: كِتابٌ فُصِّلَتْ على معنى ذو تنزيل. و:
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ صفتا رجاء ورحمة لله تعالى. و:
فُصِّلَتْ معناه بينت آياته، أي فسرت معانيه ففصل بين
حلاله وحرامه وزجره وأمره ووعده ووعيده، وقيل فُصِّلَتْ في
التنزيل، أي نزل نجوما، لم ينزل مرة واحدة، وقيل فُصِّلَتْ
بالمواقف وأنواع أواخر الآي، ولم يكن يرجع إلى قافية
ونحوها كالشعر والسجع.
و: قُرْآناً نصب على الحال عند قوم، وهي مؤكدة، لأن هذه
الحال ليست مما تنتقل. وقالت فرقة: هو
(5/3)
نصب على المصدر، وقالت فرقة: قُرْآناً
توطئة للحال. و: عَرَبِيًّا حال. وقالت فرقة: قُرْآناً نصب
على المدح وهو قول ضعيف.
وقوله تعالى: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قالت فرقة: معناه
يعلمون الأشياء ويعقلون الدلائل وينظرون على طريق نظر،
فكأن القرآن فصلت آياته لهؤلاء، إذ هم أهل الانتفاع بها،
فخصوا بالذكر تشريفا، ومن لم ينتفع بالتفصيل فكأنه لم يفصل
له. وقالت فرقة: يَعْلَمُونَ متعلق في المعنى بقوله:
عَرَبِيًّا أي جعلناه بكلام العرب لقوم يعلمون ألفاظه
ويتحققون أنها لم يخرج شيء منها عن كلام العرب، وكأن الآية
رادة على من زعم أن في كتاب الله ما ليس في كلام العرب،
فالعلم على هذا التأويل أخص من العلم على التأويل الأول،
والأول أشرف معنى، وبين أنه ليس في القرآن إلا ما هو من
كلام العرب إما من أصل لغتها وإما عربته من لغة غيرها ثم
ذكر في القرآن وهو معرب مستعمل.
وقوله: بَشِيراً وَنَذِيراً نعت للقرآن، أي يبشر من آمن
بالجنة، وينذر من كفر بالنار. والضمير في:
أَكْثَرُهُمْ عائد على القوم المذكورين.
وقوله: فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ نفي لسمعهم النافع الذي يعتد
به سمعا، ثم حكى عنهم مقالتهم التي باعدوا فيها كل
المباعدة وأرادوا أن يؤيسوهم من قبولهم دينهم وهي
قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ جمع كنان وهو باب فعال وأفعلة.
والكنان: ما يجمع الشيء ويضمه ويحول بينه وبين غيره، ومنه:
الكن ومنه: كنانة النبل، وبها فسر مجاهد هذه الآية. و «من»
في قوله: مِمَّا لابتداء الغاية وكذلك هي في قوله: وَمِنْ
بَيْنِنا مؤكدة ولابتداء الغاية. والوقر: الثقل في الأذن
الذي يمنع السمع.
وقرأ ابن مصرف: «وقر» بكسر الواو.
والحجاب: الذي أشاروا إليه: هو مخالفته إياهم ودعوته إلى
الله دون أصنامهم، أي هذا أمر يحجبنا عنك، وهذه مقالة
تحتمل أن تكون معها قرينة الجد في المحاورة وتتضمن
المباعدة، ويحتمل أن تكون معها قرينة الهزل والاستخفاف،
وكذلك قوله: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ يحتمل أن يكون
القول تهديدا، ويحتمل أن يكون متاركة محضة.
وقرأ الجمهور: «قل إنما» على الأمر لمحمد صلى الله عليه
وسلم. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش:
«قل إنما» على المضي والخبر عنه، وهذا هو الصدع بالتوحيد
والرسالة.
وقوله: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ قال الحسن: علمه الله
تعالى التواضع، و «إن» في قوله: إِنَّما رفع على المفعول
الذي لم يسم فاعله.
وقوله: فَاسْتَقِيمُوا أي على محجة الهدى وطريق الشرع
والتوحيد، وهذا المعنى مضمن قوله:
إِلَيْهِ. والويل: الحزن والثبور، وفسره الطبري وغيره في
هذه الآية بقبح أهل النار وما يسيل منهم.
وقوله تعالى: الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ قال الحسن
وقتادة وغيره: هي زكاة المال. وروي: الزكاة قنطرة الإسلام،
من قطعها نجا، ومن جانبها هلك. واحتج لهذا التأويل بقول
أبي بكر في الزكاة وقت
(5/4)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي
خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ
فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا
وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)
الردة. وقال ابن عباس والجمهور: الزَّكاةَ
في هذه الآية: لا إله إلا الله التوحيد كما قال موسى
لفرعون:
هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: 18] ويرجح هذا
التأويل أن الآية من أول المكي، وزكاة المال إنما نزلت
بالمدينة، وإنما هذه زكاة القلب والبدن، أي تطهيره من
الشرك والمعاصي، وقاله مجاهد والربيع.
وقال الضحاك ومقاتل: معنى الزَّكاةَ هنا: النفقة في
الطاعة، وأعاد الضمير في قوله: هُمْ كافِرُونَ توكيدا.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (41) : الآيات 8 الى 10]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ
أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ
(9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها
وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10)
ذكر عز وجل حالة الذين آمنوا معادلا بذلك حالة الكافرين
المذكورين ليبين الفرق.
وقوله: غَيْرُ مَمْنُونٍ قال ابن عباس معناه: غير منقوص.
وقالت فرقة معناه: غير مقطوع، يقال مننت الحبل: إذا قطعته.
وقال مجاهد معناه: غير محسوب، لأن كل محسوب محصور، فهو معد
لأن يمن به، فيظهر في الآية أنه وصفه بعدم المن والأذى من
حيث هو من جهة الله تعالى، فهو شريف لا من فيه، وأعطيات
البشر هي التي يدخلها المن. وقال السدي: نزلت هذه الآية من
المرضى والزمنى، إذا عجزوا عن إكمال الطاعات كتب لهم من
الأجر كأصح ما كانوا يعملون، ثم أمر تعالى نبيه أن يوقفهم
موبخا على كفرهم بخالق الأرض والسماوات ومخترعها، ووصف
صورة خلقها ومدته، والحكمة في خلقه هذه المخلوقات في مدة
ممتدة مع قدرة الله على إيجادها في حين واحد. وهي إظهار
القدرة في ذلك حسب شرف الإيجاد أولا أولا. قال قوم:
وليعلّم عباده التأني في الأمور والمهل، وقد تقدم القول
غير مرة في نظير قوله: أَإِنَّكُمْ.
واختلف رواة الحديث في اليوم الذي ابتدأ الله تعالى فيه
خلق الأرض، فروي عن ابن عباس وغيره:
أن أول يوم هو الأحد، وأن الله تعالى خلق فيه وفي الاثنين:
الأرض، ثم خلق الجبال ونحوها يوم الثلاثاء.
قال ابن عباس فمن هنا قيل: هو يوم ثقيل. ثم خلق الشجر
والثمار والأنهار يوم الأربعاء، ومن هنا قيل: هو يوم راحة
وتفكر في هذه التي خلقت فيه. ثم خلق السماوات وما فيها يوم
الخميس ويوم الجمعة، وفي آخر ساعة من يوم الجمعة: خلق آدم.
وقال السدي: وسمي يوم الجمعة لاجتماع المخلوقات فيه
وتكاملها، فهذه رواية فيها أحاديث مشهورة. ولما لم يخلق
تعالى في يوم السبت شيئا امتنع فيه بنو إسرائيل عن الشغل.
ووقع في كتاب مسلم بن الحجاج: أن أول يوم خلق الله فيه
التربة يوم السبت، ثم رتب المخلوقات على ستة أيام، وجعل
الجمعة عاريا من المخلوقات على ستة أيام إلا من آدم وحده.
والظاهر من القصص في طينة آدم أن الجمعة التي خلق فيها آدم
قد تقدمتها أيام وجمع كثيرة، وأن هذه الأيام التي خلق الله
فيها هذه
(5/5)
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ
ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا
طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي
يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا
وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا
ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
المخلوقات هي أول الأيام، لأن بإيجاد الأرض
والسماء والشمس وجد اليوم، وقد يحتمل أن يجعل تعالى قوله:
يَوْمَيْنِ على التقدير، وإن لم تكن الشمس خلقت بعد، وكأن
تفصيل الوقت يعطي أنها الأحد ويوم الاثنين كما ذكر.
والأنداد: الأشباه والأمثال، وهذه إشارة إلى كل ما عبد من
الملائكة والأصنام وغير ذلك. قال السدي: أكفاء من الرجال
تطيعونهم. والرواسي: هي الجبال الثوابت، رسا الجبل إذا
ثبت.
وقوله تعالى: وَبارَكَ فِيها أي جعلها منبتة للطيبات
والأطعمة، وجعلها طهورا إلى غير ذلك من وجوه البركة. وفي
قراءة ابن مسعود: «وقسم فيها أقواتها» . وفي مصحف عثمان
رضي الله عنه: «وقدر» واختلف الناس في معنى قوله:
أَقْواتَها فقال السدي: هي أقوات البشر وأرزاقهم، وأضافها
إلى الأرض من حيث هي فيها وعنها. وقال قتادة: هي أقوات
الأرض من الجبال والأنهار والأشجار والصخور والمعادن
والأشياء التي بها قوام الأرض ومصالحها. وروى ابن عباس رضي
الله عنه في هذا المعنى حديثا مرفوعا فشبهها بالقوت الذي
به قوام الحيوان. وقال مجاهد: أراد أَقْواتَها من المطر
والمياه. وقال عكرمة والضحاك ومجاهد أيضا: أراد بقوله:
أَقْواتَها خصائصها التي قسمها في البلاد، فجعل في اليمن
أشياء ليست في غيره، وكذلك في العراق والشام والأندلس
وغيرها من الأقطار ليحتاج بعضها إلى بعض ويتقوت من هذه في
هذه الملابس والمطعوم، وهذا نحو القول الأول، إلا أنه بوجه
أعم منه.
وقوله تعالى: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يريد باليومين
الأولين، وهذا كما تقول: بنيت جدار داري في يوم وأكملت
جميعها في يومين، أي بالأول.
وقرأ الحسن البصري وأبو جعفر وجمهور الناس: «سواء» بالنصب
على الحال، أي سواء هي وما انقضى فيها. وقرأ أبو جعفر بن
القعقاع: «سواء» بالرفع، أي هي سواء. وقرأ الحسن وعيسى
وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد: «سواء» بالخفض على نعت
الأيام.
واختلف المتأولون في معنى: لِلسَّائِلِينَ فقال قتادة
والسدي معناه: سواء لمن سأل عن الأمر واستفهم عن حقيقة
وقوعه وأراد العبرة فيه فإنه يجده كما قال عز وجل. وقال
ابن زيد وجماعة معناه: مستو مهيأ أمر هذه المخلوقات ونفعها
للمحتاجين إليها من البشر، فعبر عنهم ب «السائلين» بمعنى
الطالبين، لأنهم من شأنهم ولا بد طلب ما ينتفعون به، فهم
في حكم من سأل هذه الأشياء إذ هم أهل حاجة إليها، ولفظة
سَواءً تجري مجرى عدل وزور في أن ترد على المفرد والمذكر
والمؤنث.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (41) : الآيات 11 الى 12]
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا
أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي
يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها
وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً
ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
اسْتَوى إِلَى السَّماءِ معناه بقدرته واختراعه أي إلى خلق
السماء وإيجادها.
(5/6)
فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ
وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ
مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
(14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ
أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يَجْحَدُونَ (15)
وقوله تعالى: وَهِيَ دُخانٌ روي أنها كانت
جسما رخوا كالدخان أو البخار، وروي أنه مما أمره الله أن
يصعد من الماء، وهنا لفظ متروك ويدل عليه الظاهر، وتقديره:
فأوجدها وأتقنها وأكمل أمرها، وحينئذ قيل لها وللأرض
ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً.
وقرأ الجمهور: «إيتيا» من أتى يأتي «قالتا أتينا» على وزن
فعلنا، وذلك بمعنى إيتيا وإرادتي فيكما، وقرأ ابن عباس
وابن جبير ومجاهد: «آتيا» من آتى يؤتى «قالتا آتينا» على
وزن أفعلنا، وذلك بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما
أردته منكما، والإشارة بهذا كله إلى تسخيره وما قدره الله
من أعمالها.
وقوله: أَوْ كَرْهاً فيه محذوف ومقتضب، والتقدير: ائْتِيا
طَوْعاً وإلا أتيتما كَرْهاً. وقوله:
قالَتا أراد الفرقتين المذكورتين، وجعل السماوات سماء
والأرضين أرضا، ونحو هذا قول الشاعر:
[الوافر]
ألم يحزنك أن حبال قومي ... وقومك قد تباينتا انقطاعا
جعلها فرقتين، وعبر عنها ب ائْتِيا.
وقوله: طائِعِينَ لما كانت ممن يقول وهي حالة عقل جرى
الضمير في طائِعِينَ ذلك المجرى، وهذا كقوله: رَأَيْتُهُمْ
لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] ونحوه.
واختلف الناس في هذه المقالة من السماء والأرض، فقالت
فرقة: نطقت حقيقة، وجعل الله تعالى لها حياة وإدراكا يقتضي
نطقها. وقالت فرقة: هذا مجاز، وإنما المعنى أنها ظهر منها
من اختيار الطاعة والخضوع والتذلل ما هو بمنزلة القول
أَتَيْنا طائِعِينَ والقول الأول أحسن، لأنه لا شيء يدفعه
وإنما العبرة به أتم والقدرة فيه أظهر.
وقوله تعالى: فَقَضاهُنَّ معناه: صنعهن وأوجدهن، ومنه قول
أبي ذؤيب: [الكامل]
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع
وقوله تعالى: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها قال
مجاهد وقتادة: أوحى إلى سكانها وعمرتها من الملائكة وإليها
هي في نفسها ما شاء تعالى من الأمور التي بها قوامها
وصلاحها. قال السدي وقتادة: ومن الأمور التي هي لغيرها مثل
ما فيها من جبال البرد ونحوه، وأضاف الأمر إليها من حيث هو
فيها، ثم أخبر تعالى أن الكواكب زين بها السماء الدنيا،
وذلك ظاهر اللفظ وهو بحسب ما يقتضيه حسن البصر.
وقوله تعالى: وَحِفْظاً منصوب بإضمار فعل، أي وحفظناها
حفظا.
وقوله: ذلِكَ إشارة إلى جميع ما ذكر، أو أوجده، بقدرته
وعزته، وأحكمه بعلمه.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 15]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ
صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ
تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا
لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ
كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا
قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي
خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا
بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15)
(5/7)
المعنى: فإن أعرضت قريش والعرب الذين
دعوتهم إلى الله عن هذه الآيات البينة، فأعلمهم بأنك
تحذرهم أن يصيبهم من العذاب الذي أصاب الأمم التي كذبت كما
تكذب هي الآن.
وقرأ جمهور الناس: «صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود» وقرأ
النخعي وأبو عبد الرحمن وابن محيصن «صعقة مثل صعقة» ، فأما
هذه القراءة الأخيرة فبينة المعنى، لأن الصعقة: الهلاك
يكون معها في الأحيان قطعة نار، فشبهت هنا وقعة العذاب
بها، لأن عادا لم تعذب إلا بريح، وإنما هذا تشبيه
واستعارة، وبالوقيعة فسر هنا «الصاعقة» ، قاله قتادة
وغيره. وخص عادا وثمود بالذكر لوقوف قريش على بلادها في
اليمن وفي الحجر في طريق الشام.
وقوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أي قد تقدموا في الزمن
واتصلت نذارتهم إلى أعمار عاد وثمود، وبهذا الاتصال قامت
الحجة.
وقوله: مِنْ خَلْفِهِمْ أي جاءهم رسول بعد اكتمال أعمارهم
وبعد تقدم وجودهم في الزمن، فلذلك قال: وَمِنْ خَلْفِهِمْ
وجاء من مجموع العبارة إقامة الحجة عليهم في أن الرسالة
والنذارة عمّتهم خبرا ومباشرة، ولا يتوجه أن يجعل وَمِنْ
خَلْفِهِمْ عبارة عما أتى بعدهم في الزمن، لأن ذلك لا
يلحقهم منه تقصير، وأما الطبري فقال: الضمير في قوله:
وَمِنْ خَلْفِهِمْ عائد على الرسل، والضمير في قوله:
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ على الأمم، وتابعه الثعلبي، وهذا
غير قوي لأنه يفرق الضمائر ويشعب المعنى.
و (أن) في قوله: أَلَّا تَعْبُدُوا نصب على إسقاط الخافض،
التقدير: «بأن» . وتَعْبُدُوا مجزوم على النهي، ويتوجه أن
يكون منصوبا على أن تكون (لا) نافية، وفيه بعد. وكان من
تلك الأمم إنكار بعثة البشر واستدعاء الملائكة، وهذه أيضا
كانت من مقالات قريش.
وقوله: فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ليس على جهة
الإقرار بأنهم أرسلوا بشيء، وإنما معناه على زعمكم
ودعواكم. ثم وصف حالة القوم، وأن عادا طلبوا التكبر ووضعوا
أنفسهم فيه بغير حق، بل بالكفر والمعاصي وغوتهم قوتهم وعظم
أبدانهم والنعم فقالوا على جهة التقرير: مَنْ أَشَدُّ
مِنَّا قُوَّةً فعرض الله تعالى موضع النظر بقوله:
أَوَلَمْ يَرَوْا الآية، وهذا بين في العقل، فإن للشيء
المخترع له المذهب متى شاء هو أقوى منه، وأخبر تعالى عنهم
بجحودهم بآياته المنصوبة للنظر والمنزلة من عنده، إذ لفظ
الآيات يعم ذلك كله في المعنى.
قوله عز وجل:
(5/8)
فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ
لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا
يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ
صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
(17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ
(18)
[سورة فصلت (41) : الآيات 16 الى 18]
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ
نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا
يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ
صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)
روي في الحديث أن الله تعالى أمر خزنة الريح ففتحوا على
عاد منها مقدار حلقة الخاتم، ولو فتحوا مقدار منخر الثور
لهلكت الدنيا: وروي أن الريح كانت ترفع العير بأوقارها
فتطيرها حتى تطرحها في البحر.
وقال جابر بن عبد الله والتيمي: حبس عنهم المطر ثلاثة
أعوام، وإذا أراد الله بقوم شرا حبس عنهم المطر وأرسل
عليهم الرياح.
واختلف الناس في الصرصر، فقال قتادة والسدي والضحاك: هو
مأخوذ من الصر، وهو البرد، والمعنى: ريحا باردة لها صوت.
وقال مجاهد: صرصر: شديدة السموم. وقال الطبري وجماعة من
المفسرين: هو من صريصر إذا صوت صوتا يشبه الصاد والراء،
وكذلك يجيء صوت الريح في كثير من الأوقات بحسب ما تلقى.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والأعرج وعيسى والنخعي:
بسكون الحاء وهو جمع نحس، يقال يوم نحس، فهو مصدر يوصف به
أحيانا وعلى الصفة به جمع في هذه الآية، واحتج أبو عمرو
لهذه القراءة بقوله: يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [القمر:
19] . وقال النخعي: نَحِساتٍ وليست ب «نحسات» بكسر. وقرأ
الباقون وأبو جعفر وشيبة وأبو رجاء وقتادة والجحدري
والأعمش: «نحسات» بكسر الحاء، وهي جمع لنحس على وزن حذر،
فهو صفة لليوم مأخوذ من النحس. وقال الطبري: نحس ونحس
لغتان، وليس كذلك، بل اللغة الواحدة تجمعهما، أحدهما مصدر،
والآخر من أمثلة اسم الفاعل، وأنشد الفراء: [البسيط]
أبلغ جذاما ولخما أن إخوتهم ... طيا وبهراء قوم نصرهم نحس
وقالت فرقة: إن «نحسات» بالسكون مخفف من «نحسات» بالكسر،
والمعنى في هذه اللفظة مشاييم من النحس المعروف، قاله
مجاهد وقتادة والسدي: وقال الضحاك معناه: شديدة، أي شديدة
البرد حتى كان البرد عذابا لهم. قال أبو علي: وأنشد
الأصمعي في النحس بمعنى البرد:
كأن سلافة عرضت بنحس ... يحيل شفيفها الماء الزلالا
وقال ابن عباس: نَحِساتٍ معناه: متتابعات، وكانت آخر شوال
من الأربعاء إلى الأربعاء وعذاب الخزي في الدنيا هو العذاب
بسبب الكفر ومخالفة أمر الله، ولا خزي أعظم من هذا إلا ما
في الآخرة من الخلود في النار.
وقرأ جمهور الناس: «ثمود» بغير حرف، وهذا على إرادة
القبيلة. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وبكر بن حبيب: «ثمود»
بالتنوين والإجراء، وهذا على إرادة الحي، وبالصرف كان
الأعمش يقرأ في جميع القرآن إلا في قوله: وَآتَيْنا
ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الإسراء: 59] لأنه في
المصحف بغير ألف. وقرأ ابن أبي إسحاق والأعرج بخلاف،
والأعمش وعاصم «ثمود» بالنصب، وهذا على إضمار فعل يدل عليه
قوله:
(5/9)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ
أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ
وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا
قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ
شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ
يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا
جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا
يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
فَهَدَيْناهُمْ، وتقديره عند سيبويه: مهما
يكن من شيء فهدينا ثمود هديناهم، والرفع عنده أوجه، وروي
عن ابن أبي إسحاق والأعمش: «ثمودا» منونة منصوبة، وروى
الفضل عن عاصم الوجهين.
وقوله تعالى: فَهَدَيْناهُمْ معناه: بينّا لهم، قاله ابن
عباس وقتادة وابن زيد، وليس الهدى هنا بمعنى الإرشاد، وهذا
كما هي الآن شريعة الإسلام مبينة لليهود والنصارى
المختلطين لنا ولكنهم يعرضون ويشتغلون بالصد، فذلك استحباب
العمى على الهدى.
وقوله تعالى: فَاسْتَحَبُّوا عبارة عن تكسبهم في العمى،
وإلا فهو بالاختراع لله تعالى، ويدلك على أنها إشارة إلى
تكسبهم قوله تعالى: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
وقوله تعالى: الْعَذابِ الْهُونِ وصف بالمصدر، والمعنى
الذي معه هوان وإذلال، ثم قرن تعالى بذكرهم ذكر من آمن
واتقى ونجاته ليبين الفرق.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 22]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ
يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ
سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ
عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ
كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ
أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ
وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا
يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
قوله تعالى: وَيَوْمَ نصب بإضمار فعل تقديره: واذكر يوم.
وقرأ نافع وحده والأعرج وأهل المدينة: «نحشر» بالنون
«أعداء» بالنصب، إلا أن الأعرج كسر الشين. وقرأ الباقون:
«يحشر» بالياء المرفوعة، «أعداء» رفعا، وهي قراءة الأعمش
والحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وقتادة وعيسى وطلحة ونافع فيما
روي عنه، وحجتها يُوزَعُونَ، و: أَعْداءُ اللَّهِ هم
الكفار المخالفون لأمره.
و: يُوزَعُونَ قال قتادة والسدي وأهل اللغة، معناه: يكف
أولهم حبسا على آخرتهم، وفي حديث أبي قحافة يوم الفتح: ذلك
الوازع. وقال الحسن البصري: لا بد للقاضي من وزعة. وقال
أبو بكر: إني لا أقيد من وزعة الله تعالى. و: حَتَّى غاية
لهذا الحشر المذكور، وهذا وصف حال من أحوالهم في بعض أوقات
القيامة، وذلك عند وصولهم إلى جهنم فإن الله تعالى يستقرهم
عند ذلك على أنفسهم ويسألون سؤال توبيخ عن كفرهم فينكرون
ذلك ويحسبون أن لا شاهد عليهم، ويظنون السؤال سؤال استفهام
واستخبار، فينطق الله تعالى جوارحهم بالشهادة عليهم، فروي
عن النبي عليه السلام أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه
الأيسر ثم تنطق الجوارح، فيقول الكافر: تبا لك أيها
الأعضاء، فعنك كنت أدافع. وفي حديث آخر:
(5/10)
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ
الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا
فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا
هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ
قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا
فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
يجيئون يوم القيامة على أفواههم الفدام
فيتكلم الفخذ والكف. ثم ذكر الله تعالى محاورتهم لجلودهم
في قولهم: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا أي وعذابنا عذاب لكم.
واختلف الناس ما المراد بالجلود؟ فقال جمهور الناس: هي
الجلود المعروفة. وقال عبد الله بن أبي جعفر: كنى بالجلود
عن الفروج، وإياها أراد. وأخبر تعالى أن الجلود ترد جوابهم
بأن الله الخالق المبدئ المعيد هو الذي أنطقهم.
وقوله: أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ يريد كل ناطق مما هي فيه
عادة أو خرق عادة.
قوله عز وجل: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ يحتمل أن يكون
من كلام الجلود ومحاورتها، ويحتمل أن يكون من كلام الله عز
وجل لهم، أو من كلام ملك يأمره تعالى. وأما المعنى فيحتمل
وجهين أحدهما أن يريد: وما كنتم تتصاونون وتحجزون أنفسكم
عن المعاصي والكفر خوف أن يشهد، أو لأجل أن يشهد، ولكن
ظننتم أن الله لا يعلم فانهملتم وجاهرتم، وهذا هو منحى
مجاهد. والستر قد يتصرف على هذا المعنى ونحوه، ومنه قول
الشاعر: [الكامل]
والستر دون الفاحشات وما ... يلقاك دون الخير من ستر
والمعنى الثاني أن يريد: وما كنتم تمتنعون ولا يمكنكم ولا
يسعكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها بكفركم
ومعاصيكم، ولا تظنون أنها تصل بكم إلى هذا الحد، وهذا هو
منحى السدي، كأن المعنى:
وما كنتم تدفعون بالاختفاء والستر أن يشهد، لأن الجوارح
لزيمة لكم، وفي إلزامه إياهم الظن بأن الله تعالى لا يعلم،
هو إلزامهم الكفر والجهل بالله وهذا المعتقد يؤدي بصاحبه
إلى تكذيب أمر الرسل واحتقار قدرة الإله، لا رب غيره. وفي
مصحف ابن مسعود: «ولكن زعمتم أن الله» . وحكى الطبري عن
قتادة أنه عبر عن تَسْتَتِرُونَ ب «تبطنون» ، وذلك تفسير
لم ينظر فيه إلى اللفظ ولا ارتباط فيه معه. وذكر الطبري
وغيره حديثا عن عبد الله بن مسعود قال: إني لمستتر بأستار
الكعبة إذ دخل ثلاثة نفر قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي،
قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم، فتحدثوا بحديث، فقال
أحدهم: أترى الله يسمع ما قلنا؟
قال الآخر إنه يسمع إذا رفعنا، ولا يسمع إذا أخفينا. وقال
الآخر: إن كان يسمع منه شيئا فإنه يسمعه كله، فجئت رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فنزلت هذه الآية:
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ الآية، فقرأ حتى بلغ: وَإِنْ
يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت: 28]
. وذكر النقاش أن الثلاثة: صفوان بن أمية وفرقد بن ثمامة
وأبو فاطمة. وذكر الثعلبي أن الثقفي: عبد ياليل،
والقرشيان: ختناه ربيعة وصفوان ابنا أمية بن خلف، ويشبه أن
يكون هذا بعد فتح مكة فالآية مدنية، ويشبه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قرأ الآية متمثلا بها عند إخبار عبد
الله إياه، والله أعلم.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (41) : الآيات 23 الى 26]
وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ
أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ
يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ
يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ
فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) وَقالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ
وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
(5/11)
ذلِكُمْ رفع بالابتداء، والإشارة به إلى
قوله: وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ
[فصلت: 22] قال قتادة: الظن ظنان: ظن منج، وظن مهلك.
قال القاضي أبو محمد: فالمنجي: هو أن يظن الموحد العارف
بربه أن الله يرحمه والمهلك: ظنون الكفرة الجاهلين على
اختلافها، وفي هذا المعنى ليحيى بن أكثم رؤيا حسنة مؤنسة.
وظَنُّكُمُ خبر ابتداء.
وقوله: أَرْداكُمْ يصح أن يكون خبرا بعد خبر، وجوز
الكوفيون أن يكون في موضع الحال، والبصريون لا يجيزون وقوع
الماضي حالا إذا اقترن ب «قد» ، تقول رأيت زيدا قد قام،
وقد يجوز تقديرها عندهم وإن لم تظهر. ومعنى: أَرْداكُمْ
أهلككم. والردى: الهلاك.
وقوله تعالى: فَإِنْ يَصْبِرُوا مخاطبة لمحمد عليه السلام،
والمعنى: فإن يصبروا أو لا يصبروا، واقتصر لدلالة الظاهر
على ما ترك. والمثوى: موضع الإقامة.
وقرأ جمهور الناس: «وإن يستعتبوا» بفتح الياء وكسر التاء
الأخيرة على إسناد الفعل إليهم. «فما هم من المعتبين» بفتح
التاء على معنى: وإن طلبوا العتبى وهي الرضى فما هم ممن
يعطوها ويستوجبها. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وموسى
الأسواري: «وإن يستعتبوا» بضم الياء وفتح التاء. «فما هم
من المعتبين» بكسر التاء على معنى: وإن طلب منهم خير أو
إصلاح فما هم ممن يوجد عنده، لأنهم قد فارقوا الدنيا دار
الأعمال كما قال عليه السلام: «ليس بعد الموت مستعتب»
ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى: وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] .
ثم وصف عز وجل حالهم في الدنيا وما أصابهم به حين أعرضوا،
فختم عليهم فقال: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ أي يسرنا
لهم قُرَناءَ سوء من الشياطين وغواة الإنس.
وقوله: فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي
علموهم وقرروا في نفوسهم معتقدات سوء في الأمور التي
تقدمتهم من أمر الرسل والنبوات، ومدح عبادة الأصنام واتباع
فعل الآباء إلى غير ذلك مما يقال إنه بين أيديهم، وذلك كل
ما تقدمهم في الزمان واتصل إليهم أثره أو خبره، وكذلك
أعطوهم معتقدات سوء فيما خلفهم وهو كل ما يأتي بعدهم من
القيامة والبعث ونحو ذلك مما يقال فيه إنه خلف الإنسان،
فزينوا لهم في هذين كل ما يرديهم ويفضي بهم إلى عذاب جهنم.
وقوله: وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي سبق القضاء الحتم،
وأمر الله بتعذيبهم في جملة أمم معذبين كفار مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ وقالت فرقة: فِي بمعنى: مع، أي مع أمم،
والمعنى يتأدى بالحرفين، ولا نحتاج أن نجعل حرفا بمعنى حرف
إذ قد أبى ذلك رؤساء البصريين.
(5/12)
فَلَنُذِيقَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ
أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ
جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ
أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا
تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ
اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ
أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
قوله عز وجل: لا تَسْمَعُوا لِهذَا
الْقُرْآنِ.
حكاية لما فعله بعض قريش كأبي جهل، وذلك أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن في المسجد الحرام ويصغي
إليه الناس من مؤمن وكافر، فخشي الكفار استمالة القلوب
بذلك، فقالوا: متى قرأ محمد فلنلغط نحن بالمكاء والصفير
والصياح وإنشاد الشعر والإرجاز حتى يخفى صوته ولا يقع
الاستماع منه، وهذا الفعل منهم هو اللغو. وقال أبو العالية
أرادوا: قعوا فيه وعيبوه. واللغو في اللغة: سقط القول الذي
لا معنى له، وهو من الخساسة والبطول في حكم لا معنى له.
وقرأ جمهور الناس: «والغوا» بفتح الغين وجزم الواو. وقرأ
بكر بن حبيب السهمي: «الغوا» بضم الغين وسكون الواو، ورويت
عن عيسى وابن أبي إسحاق بخلاف عنهما وهما لغتان، يقال لغا
يلغو، ويقال لغى يلغي، ويقال أيضا لغى يلغى، أصله يفعل
بكسر العين، فرده حرف الحلق إلى الفتح، فالقراءة الأولى من
يلغى، والقراءة الثانية من يلغو، قاله الأخفش.
وقوله: لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ أي تطمسون أمر محمد عليه
السلام وتميتون ذكره وتصرفون القلوب عنه، فهذه الغاية التي
تمنوها.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (41) : الآيات 27 الى 30]
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ
(27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها
دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ
(28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا
الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ
الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا
اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ
الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ
(30)
وقوله تعالى: فَلَنُذِيقَنَّ الفاء دخلت على لام القسم،
وهي آية وعيد لقريش. والعذاب الشديد:
هو عذاب الدنيا في بدر وغيرها. والجزاء بأسوأ أعمالهم: هو
عذاب الآخرة.
وقوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى الجزاء المتقدم.. و: جَزاءُ
أَعْداءِ اللَّهِ خبر الابتداء.
و: النَّارُ بدل من قوله: جَزاءُ أَعْداءِ ويجوز أن يكون:
ذلِكَ خبر ابتداء تقديره: الأمر ذلك، ويكون قوله: جَزاءُ
أَعْداءِ ابتداء، و: النَّارُ خبره.
وقوله: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ أي موضع البقاء ومسكن
العذاب الدائم، فالظرفية في قوله: فِيها متمكنة على هذا
التأويل، ويحتمل أن يكون المعنى: هب لهم دار الخلد، ففي
قوله: فِيها معنى التجريد كما قال الشاعر:
وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل
(5/13)
وفي قراءة عبد الله بن مسعود: «ذلك جزاء
أعداء الله النار دار الخلد» ، وسقط لَهُمْ فِيها وجحودهم
بآيات الله مطرد في علاماته المنصوبة لخلقه وفي آيات كتابه
المنزلة على نبيه.
ثم ذكر عز وجل مقالة كفار يوم القيامة إذا دخلوا النار
فإنهم يرون عظيم ما حل بهم وسوء منقلبهم فتجول أفكارهم
فيمن كان سبب غوايتهم وبادي ضلالتهم فيعظم غيظهم وحنقهم
عليه ويودون أن يحصل في أشد عذاب فحينئذ يقولون رَبَّنا
أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا، وظاهر اللفظ يقتضي أن الذي
في قولهم:
الَّذِينَ إنما هو للجنس، أي أَرِنَا كل مغو ومضل مِنَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وهذا قول جماعة من المفسرين. وقال
علي بن أبي طالب وقتادة. وطلبوا ولد آدم الذي سن القتل
والمعصية من البشر وإبليس الأبالسة من الجن.
قال القاضي أبو محمد: وتأمل هل يصح هذا عن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه، لأن ولد آدم مؤمن عاص، وهؤلاء إنما طلبوا
المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود، وإنما القوي أنهم طلبوا
النوعين، وقد أصلح بعضهم هذا القول بأن قال: يطلب ولد آدم
كل عاص دخل النار من أهل الكبائر، ويطلب إبليس كل كافر،
ولفظ الآية يزحم هذا التأويل، لأنه يقتضي أن الكفرة إنما
طلبوا اللذين أضلا.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «أرنا» بكسر الراء، وهي رؤية
عين، ولذلك فهو فعل يتعدى إلى مفعولين. وقرأ ابن كثير وابن
عامر وأبو بكر عن عاصم: «أرنا» بسكون الراء، فقال هشام بن
عمار: هو خطأ. وقال أبو علي: هي مخففة من: أَرِنَا كما
قالوا: ضحك وفخذ. وقرأ أبو عمرو: بإشمام الراء الكسر،
ورويت عن أهل مكة.
وقوله: نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا يريدون في أسفل
طبقة من النار، وهي أشد عذابا. وهي درك المنافقين.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ
ثُمَّ اسْتَقامُوا آية وعد للمؤمنين، قال سفيان بن عبد
الله الثقفي، قلت للنبي عليه السلام: أخبرني بأمر أعتصم
به، فقال: قل ربي الله ثم استقم، قلت فما أخوف ما تخاف
علي؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه فقال:
هذا.
واختلف الناس في مقتضى قوله: ثُمَّ اسْتَقامُوا فذهب الحسن
وقتادة وجماعة إلى أن معناه:
استقاموا بالطاعات واجتناب المعاصي، وتلا عمر بن الخطاب
رضي الله عنه هذه الآية على المنبر ثم قال:
استقاموا والله لله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب.
قال القاضي أبو محمد: ذهب رضي الله عنه إلى حمل الناس على
الأتم الأفضل، وإلا فلزم على هذا التأويل من دليل الخطاب
ألا تنزل الملائكة عند الموت على غير مستقيم على الطاعة
وذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجماعة معه إلى أن
المعنى ثُمَّ اسْتَقامُوا على قولهم: رَبُّنَا اللَّهُ،
فلم يختل توحيدهم ولا اضطرب إيمانهم. وروى أنس بن مالك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال: قد
قالها الناس ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام.
المعنى فهو في أول درجات الاستقامة من الخلود، فهذا كقوله
عليه السلام: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل
الجنة» ، وهذا هو
(5/14)
نَحْنُ
أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ
رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى
اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا
السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا
الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
المعتقد إن شاء الله، وذلك أن العصاة من
أمة محمد عليه السلام وغيرها فرقتان: فأما من قضى الله
بالمغفرة له وترك تعذيبه، فلا محالة ممن تنزل عليه
الملائكة بالبشارة، وهو إنما استقام على توحيده فقط، وأما
من قضى الله بتعذيبه مرة ثم بإدخاله الجنة، فلا محالة أنه
يلقى جميع ذلك عند موته ويعلمه، وليس يصح أن يكون حاله
كحالة الكافر اليائس من رحمة الله، وإذ قد كان هذا فقد
حصلت له بشارة بأن لا يخاف الخلود ولا يحزن منه وبأنه يصير
آخرا إلى الخلود في الجنة، وهل العصاة المؤمنون إلا تحت
الوعد بالجنة، فهم داخلون فيمن يقال لهم: أَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ومع هذا كله فلا
يختلف أن الموحد المستقيم على الطاعة أتم حالا وأكمل
بشارة، وهو مقصد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله
عنه، وعلى نحو ذلك قال سفيان: اسْتَقامُوا، عملوا بنحو ما
قالوا، وقال الربيع: أعرضوا عما سوى الله. وقال الفضيل
زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية، وبالجملة فكلما كان
المرء أشد استعدادا كان أسرع فوزا بفضل الله تعالى.
وقوله تعالى: أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا أمنة عامة
في كل هم مستأنف، وتسلية تامة عن كل فائت ماض. وقال مجاهد:
المعنى لا تخافون ما تقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم
من دنياكم. وفي قراءة ابن مسعود: «الملائكة لا تخافوا»
بإسقاط الألف، بمعنى يقولون لا تخافوا.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (41) : الآيات 31 الى 35]
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي
الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ
رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى
اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا
السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا
الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا
وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
المتكلم ب نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ
هم الملائكة القائلون: «لا تخافوا ولا تحزنوا» أي يقولون
للمؤمنين عند الموت وعند مشاهدة الحق نحن كنا أولياءكم في
الدنيا ونحن هم في الآخرة. قال السدي المعنى: نحن حفظتكم
في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة، والضمير في قوله: فِيها
عائد على الآخرة. و: تَدَّعُونَ
معناه: تطلبون. و: نُزُلًا نصب على المصدر. وقراءة
الجمهور: بضم الواو. وقرأ أبو حيوة: بإسكانها.
وقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا الآية ابتداء توصية
محمد عليه السلام، وهو لفظ يعم كل من دعا قديما وحديثا إلى
الله تعالى وإلى طاعته من الأنبياء والمؤمنين، والمعنى: لا
أحد أحسن قولا ممن هذه حاله، وإلى العموم ذهب الحسن ومقاتل
وجماعة، وبين أن حالة محمد عليه السلام كانت كذلك مبرزة
إلى تخصيصه بالآية ذهب السدي وابن زيد وابن سيرين. وقال
قيس بن أبي حازم وعائشة أم المؤمنين وعكرمة:
نزلت هذه الآية في المؤذنين. قال قيس: وَعَمِلَ صالِحاً هو
الصلاة بين الآذان والإقامة. وذكر النقاش
(5/15)
وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ
آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا
لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ
رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ
تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا
الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا
لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(39)
ذلك عن ابن عباس، ومعنى القول بأنها في
المؤذنين أنهم داخلون فيها، وأما نزولها فبمكة بلا خلاف
ولم يكن بمكة آذان وإنما ترتب بالمدينة، وأن الآذان لمن
الدعاء إلى الله تعالى ولكنه جزء منه. والدعاء إلى الله
بقوة كجهاد الكفار وردع الطغاة وكف الظلمة وغيره أعظم غناء
من تولي الاذان إذ لا مشقة فيه والأصوب أن يعتقد أن الآية
نزلت عامة. قال زيد بن علي المعنى: دعا إلى الله بالسيف.
وقرأ الجمهور: «إنني» بنونين. وقرأ ابن أبي عبلة: «إني»
بنون واحدة.
وقال فضيل بن رفيدة: كنت مؤذنا في أصحاب ابن مسعود، فقال
لي عاصم بن هبيرة: إذا أكملت الآذان فقل: إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ ثم تلا هذه الآية.
ثم وعظ تعالى نبيه عليه السلام ونبهه على أحسن مخاطبة،
فقرر أن الحسنة والسيئة لا تستوي، أي فالحسنة أفضل، وكرر
في قوله: وَلَا السَّيِّئَةُ تأكيدا ليدل على أن المراد:
ولا تستوي الحسنة والسيئة ولا السيئة والحسنة، فحذف
اختصارا ودلت لا على هذا الحذف.
وقوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ آية جمعت
مكارم الأخلاق وأنواع الحلم، والمعنى: ادفع أمورك وما
يعرضك مع الناس ومخالطتك لهم بالفعلة أو بالسيرة التي هي
أحسن السير والفعلات، فمن ذلك بذل السلام، وحسن الأدب،
وكظم الغيظ، والسماحة في القضاء والاقتضاء وغير ذلك. قال
ابن عباس:
إذا فعل المؤمن هذه الفضائل عصمه الله من الشيطان وخضع له
عدوه، وفسر مجاهد وعطاء هذه الآية بالسلام عند اللقاء، ولا
شك أن السلام هو مبدأ الدفع بالتي هي أحسن وهو جزء منه، ثم
قال تعالى:
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ فدخل كاف التشبيه لأن الذي عنده
عداوة لا يعود وليا حميما، وإنما يحسن ظاهره فيشبه بذلك
الولي الحميم. والحميم: هو القريب الذي يحتمّ للإنسان.
والضمير في قوله: يُلَقَّاها عائد على هذه الخلق التي
يتضمنها قوله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وقالت
فرقة: المراد: وما يلقى لا إله إلا الله، وهذا تفسير لا
يقتضيه اللفظ.
وقوله: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا مدح بليغ للصبر، وذلك
بينّ للمتأمل، لأن الصبر للطاعات وعن الشهوات جامع لخصال
الخير كلها. والحظ العظيم: يحتمل أن يريد من العقل والفضل،
فتكون الآية مدحا. وروي أن رجلا شتم أبا بكر الصديق بحضرة
النبي صلى الله عليه وسلم فسكت أبو بكر ساعة، ثم جاش به
الغضب فرد على الرجل، فقام النبي عليه السلام فاتبعه أبو
بكر وقال: يا رسول الله قمت حين انتصرت، فقال إنه كان يرد
عنك ملك، فلما قربت تنتصر، ذهب الملك وجاء الشيطان، فما
كنت لأجالسه، ويحتمل أن يريد: ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الجنة
وثواب الآخرة، فتكون الآية وعدا، وبالجنة فسر فتادة الحظ
هنا.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (41) : الآيات 36 الى 39]
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(36) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ
وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا
فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ
أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا
عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي
أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (39)
(5/16)
إِمَّا شرط، وجواب الشرط قوله:
فَاسْتَعِذْ. والنزغ: فعل الشيطان في قلب أو يد من إلقاء
غضب وحقد أو بطش في اليد، فمن الغضب هذه الآية، ومن الحقد،
قوله: نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي
[يوسف: 100] ، ومن البطش قول النبي عليه السلام: «لا يشر
أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزغ الشيطان في يده فيلقيه في
حفرة من حفر النار» .
وندب تعالى في هذه الآية المتقدمة إلى مكارم الخلق في
الدفع بالتي هي أحسن، ثم أثنى على من لقيها ووعده، وعلم أن
خلقة البشر تغلب أحيانا وتثور بهم سورة الغضب ونزغ الشيطان
فدلهم على مذهب ذلك وهي الاستعاذة به عز وجل.
ثم عدد آياته لتعبر فيها من صدق عن التوحيد بذكر اللَّيْلُ
وَالنَّهارُ، وذكرهما يتضمن ما فيهما من القصر والطول
والتداخل والاستواء في مواضع وسائر عبرهما، وكذلك الشمس
والقمر متضمن عجائبهما وحكمة الله فيهما ونفعه عباده بهما.
ثم قال تعالى: لا تَسْجُدُوا لهذه المخلوقات وإن كانت
تنفعكم، لأن النفع منهما إنما هو بتسخير الله إياهما، فهو
الذي ينبغي أن يسجد له. والضمير في: خَلَقَهُنَّ قالت
فرقة: هو عائد على الأيام المتقدم ذكرها. وقالت فرقة:
الضمير عائد على الشمس والقمر، والاثنان جمع، وجمع ما لا
يعقل يؤنث، فلذلك قال: خَلَقَهُنَّ.
قال القاضي أبو محمد: ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما
بالأيام، ساغ أن يعود الضمير مجموعا.
وقالت فرقة: هو عائد على الأربعة المذكورة، وشأن ضمير ما
لا يعقل إذا كان العدد أقل من العشرة أن يجيء هكذا، فإذا
زاد أفرد مؤنثا، تقول الأجذاع انكسرن، والجذوع انكسرت،
ومنه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ [التوبة: 36] ، ومنه قول
حسان بن ثابت:
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما وقال السموأل: [الطويل]
ولا عيب فينا غير أن سيوفنا ... بها من قراع الدارعين فلول
وهذا كثير مهيع وإن كان الأمر يوجد متداخلا بعضه على بعض،
ثم خاطب تعالى بما يتضمن وعيدهم وحقارة أمرهم، وأن الله
تعالى غير محتاج إلى عبادتهم بقوله: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا
الآية.
(5/17)
إِنَّ الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا
أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي
آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ
لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ
قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
وقوله: فَالَّذِينَ يعني بهم الملائكة هم
صافون يسبحون. و: عِنْدَ في هذه الآية ليست بظرف مكان
وإنما هي بمعنى المنزلة والقربة، كما تقول زيد عند الملك
جليل وفي نفسه رفيع. ويروى أن تسبيح الملائكة قد صار لهم
كالنفس لابن آدم. و: يَسْأَمُونَ معناه: يميلون ثم ذكر
تعالى آية منصوبة ليعتبر بها في أمر البعث من القبور،
ويستدل بما شوهد من هذه على ما لم يشاهد بعد من تلك، وهي
آية يراها عيانا كل مفطور على عقل. وخشوع الأرض هو ما يظهر
عليها من استكانة وشعث بالجدب وصليم السموم فهي عابسة كما
الخاشع عابس يكاد يبكي، والماء المنزل: هو المطر، واهتزاز
الأرض: هو تخلخل أجزائها بالماء وتشققها للنبات. وربوها:
هو انتفاخها بالماء وعلو سطحها به.
وقرأ الجمهور: «وربت» . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «وربأت»
: بألف مهموزة، ورواها الرؤاسي عن أبي عمرو، وهو أيضا
بمعنى: علت وارتفعت، ومنه الربيئة، وهو الذي يرتفع حتى
يرصد للقوم ثم ذكر تعالى بالأمر الذي ينبغي أن يقاس على
هذه الآية والعبرة، وذلك إحياء الموتى.
وقوله تعالى: إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عموم،
والشيء في اللغة: الموجود.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (41) : الآيات 40 الى 43]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ
عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ
يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ
إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ
عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ
قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ
أَلِيمٍ (43)
هذه آية وعيد. والإلحاد: الميل، وهو هاهنا عن الحق، ومن
الإلحاد: لحد الميت، لأنه في جانب، يقال لحد الرجل وألحد
بمعنى.
وقرأ الجمهور: «يلحدون» بضم الياء من ألحد. وقرأ ابن وثاب
وطلحة والأعمش: «يلحدون» بفتح الياء والحاء من لحد.
واختلف المفسرون في الإلحاد الذي أشير إليه ما هو؟ فقال
قتادة وغيره: الإلحاد بالتكذيب. وقال مجاهد وغيره: الإلحاد
بالمكاء والصفير واللغو الذي ذهبوا إليه. وقال ابن عباس:
إلحادهم هو أن يوضع الكلام غير موضعه، ولفظة الإلحاد تعم
هذا كله.
وقوله: لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أي فنحن بالمرصاد لهم
وسنعذبهم، ثم قرر على هذين القسمين أنهما خير، وهذا
التقرير هم المراد به، أي فقل لهم يا محمد أَفَمَنْ. قال
مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي جهل وعثمان بن عفان، وقيل في
عمار بن ياسر، وحسن التفضيل هنا بين الإلقاء في النار
والأمن يوم القيامة وإن كانا لا يشتركان في صفة الخير من
حيث كان الكلام تقريرا لا مجرد خبر، لأن المقرر قد يقرر
خصمه
(5/18)
على قسمين: أحدهما بين الفساد حتى يرى
جوابه، فعساه يقع في الفاسد المعنى فيبين جهله، وقد تقدم
نظير هذه الآية واستيعاب القول في هذا المعنى، ولا يتجه
هنا أن يقال خاطب على معتقدهم كما يتجه ذلك في قوله:
خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان: 24] فتأمله.
وقوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ وعيد في صيغة الأمر
بإجماع من أهل العلم، ودليل الوعيد ومبينه قوله: إِنَّهُ
بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ
لَمَّا جاءَهُمْ. يريد قريشا. و «الذكر» : القرآن بإجماع.
واختلف الناس في الخبر عنهم أين هو؟ فقالت فرقة: هو في
قوله: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44]
ذكر النقاش أن بلال بن أبي بردة سأل عن هذا في مجلسه وقال:
لم أجد لها نفاذا، فقال له أبو عمرو بن العلاء: إنه منك
لقريب أُولئِكَ يُنادَوْنَ [فصلت: 44] . ويرد هذا النظر
كثرة الحائل، وإن هنالك قوما قد ذكروا بحسن رد قوله:
أُولئِكَ يُنادَوْنَ [فصلت: 44] عليهم. وقالت فرقة:
الخبر مضمر تقديره: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ
لَمَّا جاءَهُمْ هلكوا أو ضلوا. وقال بعض نحويي الكوفة
الجواب في قوله: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ حكى ذلك
الطبري، وهو ضعيف لا يتجه، وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد
عن هذا، فقال عمرو معناه في التفسير: إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ كفروا به وَإِنَّهُ
لَكِتابٌ، فقال عيسى بن عمر: أجدت يا أبا عثمان.
قال القاضي أبو محمد: والذي يحسن في هذا هو إضمار الخبر،
ولكنه عند قوم في غير هذا الموضع الذي قدره هؤلاء فيه،
وإنما هو بعد حَكِيمٍ حَمِيدٍ وهو أشد إظهارا لمذمة الكفار
به، وذلك أن قوله:
وَإِنَّهُ لَكِتابٌ داخل في صفة الذكر المكذب به، فلم يتم
ذكر المخبر عنه إلا بعد استيفاء وصفه، وهذا كما تقول:
تخالف زيدا وهو العالم الودود الذي من شأنه ومن أمره، فهذه
كلها أوصاف.
ووصف تعالى الكتاب بالعزة، لأنه بصحة معانيه ممتنع الطعن
فيه والإزراء عليه، وهو محفوظ من الله تعالى، قال ابن
عباس: معناه كريم على الله تعالى، قال مقاتل: منيع من
الشيطان. قال السدي: غير مخلوق.
وقوله: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ قال قتادة والسدي: يريد
الشيطان، وظاهر اللفظ يعم الشيطان وأن يجيء أمر يبطل منه
شيئا.
وقوله: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ معناه ليس فيما تقدمه من
الكتب ما يبطل شيئا منه. وقوله: وَلا مِنْ خَلْفِهِ أي ليس
يأتي بعده من نظر ناظر وفكرة عاقل ما يبطل أشياء منه،
والمراد باللفظ على الجملة: لا يأتيه الباطل من جهة من
الجهات. وقوله: تَنْزِيلٌ خبر ابتداء، أي هو تنزيل.
وقوله: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ
مِنْ قَبْلِكَ يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون تسلية للنبي
عليه السلام عن مقالات قومه، أي ما تلقى يا محمد من
المكروه منهم، ولا يقولون لك من الأقوال المؤلمة إلا ما قد
قيل ولقي به من تقدمك من الرسل، فلتتأسّ بهم ولتمض لأمر
الله ولا يهمنك شأنهم. والمعنى
(5/19)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ
قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ
آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي
آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ
يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ
لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
الثاني: أن تكون الآية تخليصا لمعاني
الشرع، أي ما يقال لك من الوحي وتخاطب به من جهة الله
تعالى إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، ثم فسر ذلك الذي قيل
لجميعهم وهو إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ للطائعين
وَذُو عِقابٍ للكافرين. وفي هذه الكلمات جماع النهي والزجر
الموعظة، وإليها يرجع كل نظر.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (41) : الآيات 44 الى 46]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا
فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى
أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ
آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا
كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ
صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما
رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)
الأعجمي: هو الذي لا يفصح عربيا كان أو غير عربي، والعجمي:
الذي ليس من العرب فصيحا كان أو غير فصيح، وهذه الآية نزلت
بسبب تخليط كان من قريش في أقوالهم من أجل الحروف التي
وقعت في القرآن، وهي مما عرّب من كلام العجم: كالسجين
والإستبرق ونحوه، فقال عز وجل: ولو جعلنا هذا القرآن
أعجميا لا يبين لقالوا واعترضوا لولا بينت آياته.
واختلف القراء في قوله: أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ فقراءة
الجمهور على الاستفهام وهمزة ممدودة قبل الألف. وقرأ حمزة
والكسائي وحفص عن عاصم والأعمش: «أأعجمي» بهمزتين، وكأنهم
كانوا ينكرون ذلك فيقولون: لولا بين أأعجمي وعربي مختلط
هذا لا يحسن، وتأول ابن جبير أن معنى قولهم: أتجيئنا عجمة
ونحن عرب؟ ما لنا وللعجمة؟ وقرأ الحسن البصري وأبو الأسود
والجحدري وسلام والضحاك وابن عباس وابن عامر بخلاف عنهما:
«أعجمي وعربي» دون استفهام وبسكون العين، كأنهم قالوا عجمة
وإعراب، إن هذا لشاذ، أو كأنهم قالوا لولا فصل فصلين، فكان
بعضه أعجميا يفهمه العجم، وبعضه عربيا يفهمه العرب، وهذا
تأويل لابن جبير أيضا. وقرأ عمرو بن ميمون: «أعجمي» بهمزة
واحدة دون مد وبفتح العين، فأخبر الله تعالى عنهم أنه لو
كان على أي وجه تخيل لكان لهم قول واعتراض فاسد، هذا مقصد
الكلام.
وأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يقول لهم: إن القرآن
هُدىً وَشِفاءٌ للمؤمنين المبصرين للحقائق، وأنه على الذين
لا يؤمنون ولا يصرفون نظرهم وحواسهم في المصنوعات عمي،
لأنهم فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وعلى قلوبهم أقفال وعلى أعينهم
غشاوة.
واختلف الناس في قوله: وَهُوَ عَلَيْهِمْ فقالت فرقة: يريد
ب هُوَ القرآن. وقالت فرقة: وَهُوَ يريد به الوقر. والوقر:
الثقل في الأذن المانع من السمع، وهذه كلها استعارات، أي
هم لما لم يفهموا ولا حصلوا كالأعمى وصاحب الوقر.
(5/20)
إِلَيْهِ يُرَدُّ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ
أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ
إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ
شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ
(47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ
وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ
الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ
الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ
رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ
لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ
قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي
عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ
(50)
وقرأ ابن عباس ومعاوية وعمرو بن العاصي:
«وهو عليهم عم» بكسر الميم وتنوينه. وقال يعقوب: لا أدري
أنونوا أم فتحوا الياء على الفعل الماضي؟ وبغير ياء رواها
عمرو بن دينار وسليمان بن قتة عن ابن عباس.
وهذه القراءة أيضا فيها استعارة، وكذلك قوله تعالى:
أُولئِكَ يُنادَوْنَ يحتمل معنيين، وكلاهما مفعول
للمفسرين: أحدهما أنها استعارة لقلة فهمهم، شبههم بالرجل
ينادى على بعد يسمع منه الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا
معانيه، وهذا تأويل مجاهد، والآخر أن الكلام على الحقيقة
وأن معناه أنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم
من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف، فتعظم السمعة عليهم ويحل
المصاب، وهذا تأويل الضحاك بن مزاحم. ثم ضرب تعالى أمر
موسى مثلا للنبي عليه السلام ولقريش، أي فعل أولئك كأفعال
هؤلاء حين جاءهم مثل ما جاء هؤلاء، والكلمة السابقة هي:
حتم الله تعالى بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة، والضمير في
قولهم: لَفِي شَكٍّ مِنْهُ يحتمل أن يعود على موسى أو على
كتابه.
وقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً الآية نصيحة بينة للعالم
وتحذير وترجية وصدع بين الله تعالى لا يجعل شيئا من عقوبات
عبيده في غير موضعها، بل هو العادل المتفضل الذي يجازي كل
عبد بتكسبه.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (41) : الآيات 47 الى 50]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ
ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا
تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ
شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ
وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ
الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ
الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ
رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ
لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً
وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ
لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما
عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50)
المعنى: أن وقت علم الساعة ومجيئها يرده كل مؤمن متكلم فيه
إلى الله عز وجل. وذكر تعالى الثمار وخروجها من الأكمام
وحمل الإناث مثالا لجميع الأشياء، إذ كل شيء خفي فهو في
حكم هذين.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي والحسن وطلحة
والأعمش: «من ثمرة» بالإفراد على أنه اسم جنس. وقرأ نافع
وابن عامر: «ثمرات» بالجمع، واختلف عن عاصم وهي قراءة أبي
جعفر وشيبة والأعرج والحسن بخلاف، وفي مصحف عبد الله: «في
ثمرة من أكمامها» . والأكمام: جمع كم، وهو غلاف التمر قبل
ظهوره.
وقوله تعالى: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ تقديره: واذكر يوم
يناديهم والضمير في: يُنادِيهِمْ ظاهره والأسبق فيه أنه
يريد به الكفار عبدة الأوثان. ويحتمل أن يريد به كل من عبد
من دون الله من إنسان وغيره، وفي هذا
(5/21)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا
عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا
مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ
كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ
بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ
أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ
رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
ضعف، وإنما الضمير في قوله: وَضَلَّ
عَنْهُمْ فلا احتمال لعودته إلا على الكفار. و: آذَنَّاكَ
قال ابن عباس وغيره معناه: أعلمناك ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ
ولا من يشهد بأن لك شريكا. وَضَلَّ عَنْهُمْ أي نسوا ما
كانوا يقولون في الدنيا ويدعون من الآلهة والأصنام، ويحتمل
أن يريد: وَضَلَّ عَنْهُمْ الأصنام، أي تلفت لهم فلم يجدوا
منها نصرا وتلاشى لهم أمرها.
وقوله: وَظَنُّوا يحتمل أن يكون متصلا بما قبله ويكون
الوقف عليه، ويكون قوله: ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ استئناف
نفي أن يكون لهم منجى أو موضع روغان، يقول: حاص الرجل: إذا
راغ يطلب النجاة من شيء، ومنه الحديث: فحاصوا حيصة حمر
الوحش إلى الأبواب، ويكون الظن على هذا التأويل على بابه،
أي ظنوا أن هذه المقالة: ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ منجاة
لهم، أو أمر يموهون به، ويحتمل أن يكون الوقف في قوله:
مِنْ قَبْلُ، ويكون: وَظَنُّوا متصلا بقوله: ما لَهُمْ
مِنْ مَحِيصٍ أي ظنوا ذلك، ويكون الظن على هذا التأويل
بمعنى اليقين وبه فسر السدي، وهذه عبارة يطلقها أهل اللسان
على الظن، ولست تجد ذلك إلا فيما علم علما قويا وتقرر في
النفس ولم يتلبس به بعد، وإلا فمتى تلبس بالشيء وحصل تحت
إدراك الحواس فلست تجدهم يوقعون عليه لفظة الظن.
وقوله تعالى: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ آيات نزلت في كفار
قريش، قيل في الوليد بن المغيرة، وقيل في عتبة بن ربيعة،
وجل الآية يعطي أنها نزلت في كفار وإن كان أولها يتضمن
خلقا ربما شارك فيه بعض المؤمنين. و: دُعاءِ الْخَيْرِ
إضافته المصدر إلى المفعول، والفاعل محذوف تقديره: من دعاء
الخير هو.
وفي مصحف ابن مسعود: «من دعاء بالخير» . والْخَيْرِ في هذه
الآية: المال والصحة، وبذلك تليق الآية بالكافر، وإن
قدرناه خير الآخرة فهي للمؤمن، وأما اليأس والقنط على
الإطلاق فمن صفة الكافر وحده.
وقوله تعالى: لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي بعلمي وبما سعيت،
ولا يرى أن النعم إنما هي بتفضل من الله تعالى: وَما
أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً قول بيّن فيه الجحد والكفر.
ثم يقول هذا الكافر، ولئن كان ثم رجوع كما تقولون، لتكونن
لي حال ترضيني من غنى ومال وبنين، فتوعدهم الله تعالى بأنه
سيعرفهم بأعمالهم الخبيثة مع إذاقتهم العذاب عليها، فهذا
عذاب وخزي. وغلظ العذاب شدته وصعوبته. وقال الحسن بن محمد
بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: للكافر أمنيتان، أما في
دنياه فهذه:
إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى. وأما في آخرته: فا
لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ: 40] .
قال القاضي أبو محمد: والأماني على الله تعالى وترك الجد
في الطاعة مذموم لكل أحد، فقد قال عليه السلام: الكيس من
دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها
وتمنى على الله.
قوله عز وجل:
[سورة فصلت (41) : الآيات 51 الى 54]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى
بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ
(51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي
شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ
وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ
لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ
(54)
(5/22)
ذكر الله تعالى الخلق الذميمة من الإنسان
جملة، وهي في الكفار بينه متمكنة، وأما المؤمن في الأغلب
فيشكر عند النعمة، وكثيرا ما يصبر عند الشدة.
وقرأ جمهور والناس: «ونأى بجانبه» الهمزة عين الفعل. وقرأ
ابن عامر: «وناء» الهمزة لام الفعل، وهي قراءة أبي جعفر،
والمعنى فيهما واحد. قال أبو علي: ناء قلب ابن آدم فعل
فلع، ومنه قول الشاعر [كثير] : [الطويل]
وكل خليل راءني فهو قائل ... من أجلك هذا هامة اليوم أو غد
ومنه قول الآخر: [الطويل] وقد شاءني أهل السباق وأمعنوا
وَنَأى معناه: بعد ولم يمل إلى شكر ولا طاعة.
وقوله: فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أي طويل أيضا، فاستغنى بالصفة
الواحدة عن لزيمتها، إذ العرض يقتضي الطول ويتضمنه، ولم
يقل طويل، لأن الطويل قد لا يكون عريضا، ف عَرِيضٍ أدل على
الكثرة.
ثم أمر تعالى نبيه أن يقف قريشا على هذا الاحتجاج وموضع
تغريرهم بأنفسهم فقال: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ هذا الشرع
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وبأمره وخالفتموه أنتم، ألستم على
هلكة من قبل الله تعالى، فمن أضل ممن يبقى على مثل هذا
الغرر مع الله، وهذا هو الشقاق، ثم وعد تعالى نبيه عليه
السلام بأنه سيري الكفار آياته.
واختلف المتأولون في معنى قوله: فِي الْآفاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ فقال المنهال والسدي وجماعة: هو وعد بما
يفتحه الله تعالى على رسوله من الأقطار حول مكة، وفي غير
ذلك من الأرض كخيبر ونحوها. وَفِي أَنْفُسِهِمْ أراد به
فتح مكة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل حسن ينتظم الإعلام بغيب
ظهر وجوده بعد كذلك ويجري معه لفظ الاستئناف الذي في
الفعل.
وقال الضحاك وقتادة: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ هو
ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديما وَفِي
أَنْفُسِهِمْ يوم بدر، وقال ابن زيد وعطاء: الْآفاقِ: آفاق
السماء. وأراد: الآيات: في الشمس والقمر والرياح وغير ذلك.
وَفِي أَنْفُسِهِمْ عبرة الإنسان بجسمه وحواسه وغريب خلقته
وتدريجه في البطن ونحو ذلك، وهذه آيات قد كانت مرئية، فليس
هذا المعنى يجري مع قوله: «سنري» والتأويل الأول أرجحها،
والله أعلم. والضمير في قوله تعالى: أَنَّهُ الْحَقُّ عائد
على الشرع والقرآن، فبإظهار الله إياه وفتح البلاد عليه
تبين لهم أنه الحق.
(5/23)
ثم قال تعالى وعدا لنبيه عليه السلام:
أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ والتقدير: أو لم يكف ربك،
والباء زائدة للتأكيد، وأنه يحتمل أن يكون في موضع رفع على
البدل من الموضع، إذ التقدير: أو لم يكف ربك، ويحتمل أن
يكون في موضع خفض على البدل من اللفظ، وهذا كله بدل
الاشتمال، ويصح أن يكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر،
أي لأنه على كل شيء شهيد.
وقرأ الجمهور: «أنه» بفتح الألف، وقرأ بعض الناس «إنه»
بكسرها على الاعتراض أثناء القول.
وقوله: أَلا استفتاح يقتضي إقبال السامع على ما يقال له،
فاستفتح الإخبار على أنهم في شك وريب وضلال أداهم إلى الشك
في البعث.
وقرأ جمهور الناس: «في مرية» بكسر الميم. وقرأ أبو عبد
الرحمن والحسن: «في مرية» بضم الميم، والمعنى واحد، ثم
استفتح الإخبار بإحاطته بكل شيء على معنى الوعيد لهم،
وإحاطته تعالى هي بالقدرة والسلطان، لا إله إلا هو، العزيز
الحكيم.
نجز تفسير سورة حم السجدة، والحمد لله رب العالمين.
(5/24)