تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)

بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الشّورى
هذه السورة مكية بإجماع من أكثر المفسرين، وقال قتادة: فيها مدني: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ [الشورى: 23] إلى: الصُّدُورِ [الشورى: 24] وقوله: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ [الشورى: 39] إلى قوله: مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 41] . وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي: إن حم عسق هذه الحروف بأعيانها نزلت في كل كتب الله تعالى المنزلة على كل نبي أنزل عليه الكتاب، ولذلك قال تعالى:
كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ.
قوله عز وجل:

[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
فصلت: حم من: عسق، ولم يفعل ذلك ب كهيعص [مريم: 1] لتجري هذه مجرى الحواميم أخواتها.
وقرأ الجمهور: «حم عسق» . وقرأ ابن مسعود وابن عباس: «حم سق» بسقوط عين، والأقوال في هذه كالأقوال في أوائل السور. وروى حذيفة في هذا حديثا مضمنه: أنه سيكون في هذه الأمة مدينتان يشقهما نهر بالمشرق، تهلك إحداهما ليلا ثم تصبح الأخرى سالمة، فيجتمع فيها جبابرة المدينتين متعجبين من سلامتها، فتهلك من الليلة القابلة، وأن حم معناه: حم هذه الأمر. وعين: معناه عدلا من الله. وسين:
سيكون ذلك. وقاف: معناه يقع ذلك بهم. وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يستفيد علم الفتن والحروب من هذه الأحرف التي في أوائل السور. والكاف في قوله: كَذلِكَ نعت لمصدر محذوف، والإشارة بذلك تختلف بحسب الأقوال في الحروف.
وقرأ جمهور القراء: «يوحي» بالياء على إسناد الفعل إلى الله تعالى، وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي جعفر والجحدري وعيسى وطلحة والأعمش. وقرأ أبو حيوة والأعشى عن أبي بكر عن عاصم:
«نوحي» : بنون العظمة، ويكون قوله: اللَّهُ ابتداء وخبره: الْعَزِيزُ ويحتمل أن يكون خبره: لَهُ ما فِي

(5/25)


وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)

السَّماواتِ
. وقرأ ابن كثير وحده: «يوحى» بالياء وفتح الحاء على بناء الفعل للمفعول، وهي قراءة مجاهد، والتقدير: يوحى إليك القرآن يوحيه الله، وكما قال الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ومه قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ [النور: 36] .
وقوله تعالى: وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ يريد من الأنبياء الذين نزلت عليهم الكتب.
وقوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ أي الملك والخلق والاختراع. و: الْعَلِيُّ من علو القدر والسلطان. و: الْعَظِيمُ كذلك، وليس بعلو مسافة ولا عظم جرم، تعالى الله عن ذلك وقرأ نافع والكسائي: «يكاد» بالياء. وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة وأبو عمرو وعاصم: «تكاد» بالتاء. وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي ونافع وابن عباس وأبو جعفر وشيبة وقتادة: «يتفطرون» من التفطر، وهو مطاوع فطرت. وقرأ أبو عمرو وعاصم والحسن والأعرج وأبو رجاء والجحدري: «ينفطرون» من الإفطار وهو مطاوع فطر، والمعنى فيهما: يتصدعن ويتشققن من سرعة جريهن خضوعا وخشية من سلطان الله تعالى وتعظيما له وطاعة، وما وقع للمفسرين هنا من ذكر الثقل ونحوه مردود، لأن الله تعالى لا يوصف به.
وقوله: مِنْ فَوْقِهِنَّ أي من أعلاهن. وقال الأخفش علي بن سليمان: الضمير للكفار.
قال القاضي أبو محمد: المعنى من فوق الفرق والجماعات الملحدة التي من أجل أقوالها تكاد السماوات يتفطرن، فهذه الآية على هذا كالآية التي في: كهيعص [مريم: 1] . وقالت فرقة معناه: من فوق الأرضين، إذ قد جرى ذكر الأرض، وذكر الزجاج أنه قرىء «يتفطرن ممن فوقهن» .
وقوله تعالى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ قيل معناه: يقولون سبحان الله، وقيل معناه: يصلون لربهم.
وقوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ قالت فرقة: هذا منسوخ بقوله تعالى: في آية أخرى:
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: 7] وهذا قول ضعيف، لأن النسخ في الإخبار لا يتصور. وقال السدي ما معناه: إن ظاهر الآية العموم ومعناها الخصوص في المؤمن، فكأنه قال: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ من المؤمنين، إذ الكفار عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وقالت فرقة: بل هي على عمومها، لكن استغفار الملائكة ليس بطلب غفران الله تعالى للكفرة على أن يبقوا كفرة، وإنما استغفارهم لهم بمعنى طلب الهداية التي تؤدي إلى الغفران لهم، وكأن الملائكة تقول: اللهم اهد أهل الأرض واغفر لهم. ويؤيد هذا التأويل تأكيده صفة الغفران والرحمة لنفسه بالاستفتاح، وذلك قوله: أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي لما كان الاستغفار لجميع من في الأرض يبعد أن يجاب، رجا عز وجل بأن استفتح الكلام تهيئة لنفس السامع فقال: أَلا إِنَّ اللَّهَ هو الذي يطلب هذا منه، إذ هذه أوصافه، وهو أهل المغفرة:
قوله عز وجل:

[سورة الشورى (42) : الآيات 6 الى 9]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)

(5/26)


وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)

هذه آية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد للكفار وإزالة عن النبي صلى الله عليه وسلم جميع الكلف سوى التبليغ فقط، لئلا يهتم بعدم إيمان قريش وغيرهم، فقال تعالى لنبيه: إن الذين اتخذوا الأصنام والأوثان أولياء من دون الله، الله هو الحفيظ عليهم كفرهم، المحصي لأعمالهم، المجازي لهم عليها بعذاب الآخرة، وأنت فلست بوكيل عليهم ولا ملازم لأمرهم حتى يؤمنوا. والوكيل: المقيم على الأمر، وما في هذا اللفظ من موادعة فهو منسوخ بآية السيف، ثم قال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي وكما قضينا أمرك هكذا وأمضيناه في هذه الصورة، كذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا مبينا لهم، لا يحتاجون معه إلى آخر سواه ولا محتج غيره، إذ فهمه متأت لهم ولم يكلفك إلا إنذارا من ذكر. و: أُمَّ الْقُرى مكة، والمراد أهل مكة، ولذلك عطف مَنْ، وهي في الأغلب لمن يعقل. و: يَوْمَ الْجَمْعِ هو يوم القيامة، واقتصر في تُنْذِرَ على المفعول الأول، لأن المعنى: وتنذر أهل أم القرى العذاب، وتنذر الناس يوم الجمع، أي تخوفهم إياه لما فيه من عذاب من كفر، وسمي يَوْمَ الْجَمْعِ لاجتماع أهل الأرض فيه بأهل السماء، أو لاجتماع بني آدم للعرض.
وقوله: لا رَيْبَ فِيهِ أي في نفسه وذاته، وارتياب الكفار به: لا يعتد به.
وقوله: فَرِيقٌ مرتفع على خبر الابتداء المضمر، كأنه قال: هم فريق في الجنة، وفريق في السعير. ثم قوى تعالى تسلية نبيه عليه السلام بأن عرفه أن الأمر موقوف على مشيئة الله من إيمانهم أو كفرهم، وأنه لو أراد كونهم أمة واحدة لجمعهم عليه، ولكنه يدخل من سبقت له السعادة عنده في رحمته، وييسره في الدنيا لعمل أهل السعادة، وأن الظالمين بالكفر الميسرين لعمل الشقوة ما لهم من وليّ ولا نصير.
وقوله: أَمِ اتَّخَذُوا كلام منقطع مما قبله، وليست معادلة، ولكن الكلام: كأنه أضرب عن حجة لهم أو مقالة مقررة فقال: «بل اتخذوا» هذا مشهور قول النحويين في مثل هذا، وذهب بعضهم إلى أن أَمِ هذه هي بمنزلة ألف الاستفهام دون تقدير إضراب، ثم أثبت الحكم بأنه عز وجل هو الولي الذي تنفع ولايته، وأنه هو الذي يحيي الموتى ويحشرهم إلى الآخرة ويبعثهم من قبورهم، وأن قدرته على كل شيء تعطي هذا وتقتضيه.
قوله عز وجل:

[سورة الشورى (42) : الآيات 10 الى 12]
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)

(5/27)


المعنى: قل لهم يا محمد: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ أيها الناس من تكذيب وتصديق وإيمان وكفر وغير ذلك، فالحكم فيه والمجازاة عليه ليست إلي ولا بيدي، وإنما ذلك إِلَى اللَّهِ الذي صفاته ما ذكر من إحياء الموتى والقدرة على كل شيء، ثم قال: ذلكم الله ربي وعليه توكلي وإليه إنابتي ورجوعي، وهو فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أي مخترعها وخالقها شق بعضها من بعض.
وقوله تعالى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً يريد: زوج الإنسان الأنثى، وبهذه النعمة اتفق الذرء، وليست الأزواج هاهنا الأنواع، وأما الأزواج المذكورة مع الأنعام، فالظاهر أيضا والمتسق: أنه يريد: إناث الذكران، ويحتمل أن يريد الأنواع، والأول أظهر.
وقوله: يَذْرَؤُكُمْ أي يخلقكم نسلا بعد نسل وقرنا بعد قرن، قاله مجاهد والناس، فلفظة ذرأ:
تزيد على لفظة: خلق معنى آخر ليس في خلق، وهو توالي الطبقات على مر الزمان.
وقوله: فِيهِ الضمير عائد على الجعل الذي يتضمنه قوله: جَعَلَ لَكُمْ، وهذا كما تقول:
كلمت زيدا كلاما أكرمته فيه. وقال القتبي: الضمير للتزويج، ولفظة: «في» مشتركة على معان، وإن كان أصلها الوعاء وإليه يردها النظر في كل وجه.
وقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ الكاف مؤكدة للتشبيه، فبقي التشبيه أوكد ما يكون، وذلك أنك تقول: زيد كعمرو، وزيد مثل عمرو، فإذا أردت المبالغة التامة قلت: زيد كمثل عمرو، ومن هذا قول أوس بن حجر: [المتقارب]
وقتلى كمثل جذوع النخي ... ل يغشاهم سيل منهمر
ومنه قول الآخر: [البسيط]
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ... ما إن كمثلهم في الناس من أحد
فجرت الآية في هذا الموضع على عرف كلام العرب، وتفترق الآية مع هذه الشواهد متى أردت أن تتبع بذهنك هذا اللفظ فتقدر للجزوع مثلا موجودا وتشبه القتل بذلك المثل أمكنك أو لا يمكنك هذا في جهة الله تعالى إلا أن تجعل المثل ما يتحصل في الذهن من العلم بالله تعالى، إذ المثل والمثال واحد، وذهب الطبري وغيره إلى أن المعنى: ليس كهو شيء. وقالوا لفظة مثل في الآية توكيد أو واقعة موقع هو.
قال القاضي أبو محمد: ومما يؤيد دخول الكاف تأكيدا أنها قد تدخل على الكاف نفسها، وأنشد سيبويه:
وصاليات ككما يؤثفين

(5/28)


شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)

والمقاليد: المفاتيح، قاله ابن عباس والحسن، وقال مجاهد: أصلها بالفارسية، وهي هاهنا استعارة لوقع كل أمر تحت قدرته. وقال السدي: المقاليد: الخزائن، وفي العبارة على هذا حذف مضاف، قال قتادة: من ملك مقالد خزائن، فالخزائن في ملكه، وبسط الرزق وقدره بيّن، وقد مضى تفسيره.
قوله عز وجل:

[سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 14]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
المعنى: شَرَعَ لَكُمْ وبين من المعتقدات والتوحيد ما وَصَّى بِهِ نُوحاً قبل.
وقوله: وَالَّذِي عطف على ما، وكذلك ما ذكر بعد من إقامة الدين مشروع اتفقت النبوات فيه، وذلك في المعتقدات أو في جملة أمرها من أن كل نبوة فإنما مضمنها معتقدات وأحكام، فيجيء المعنى على هذا: شرع لكم شرعة هي كشرعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام في أنها ذات المعتقدات المشهورة التي هي في كل نبوءة وذات أحكام كما كانت تلك كلها، وعلى هذا يتخرج ما حكاه الطبري عن قتادة قال: ما وَصَّى بِهِ نُوحاً يريد الحلال والحرام، وعليه روي أن نوحا أول من أتى بتحريم البنات والأمهات. وأما الأحكام بانفرادها فهي في الشرائع مختلفة، وهي المراد في قوله تعالى:
لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48] وأَنْ في قوله: أَنْ أَقِيمُوا يجوز أن تكون في موضع نصب بدلا من ما، ويجوز في موضع خفض بدلا من الضمير في بِهِ، وفي موضع رفع على خبر ابتداء تقديره: ذلك أن، وأَنْ تكون مفسرة بمعنى: أي، لا موضع لها من الإعراب، وإقامة الدين هو توحيد الله تعالى ورفض سواه.
وقوله: وَلا تَفَرَّقُوا نهي عن المهلك من تفرق الأنحاء والمذاهب، والخير كله في الإلفة واجتماع الكلمة. ثم أخبر تعالى نبيه بصعوبة موقع هذه الدعوة إلى إقامة الدين على المشركين بالله العابدين الأصنام. قال قتادة: كبّرت عليهم: لا إله إلا الله، وأبى الله إلا نصرها، ثم سلاه عنهم بقوله: اللَّهُ يَجْتَبِي أي يختار ويصطفي، قاله مجاهد وغيره: و: يُنِيبُ معناه يرجع عن الكفر ويحرص على الخير ويطلبه.
وقوله: وَلا تَتَفَرَّقُوا عبارة يجمع خطابها كفار العرب واليهود والنصارى وكل مدعو إلى الإسلام، فلذلك حسن أن يقال: ما تفرقوا، يعني بذلك أوائل اليهود والنصارى. والعلم الذي جاءهم: هو

(5/29)


فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)

ما كان حصل في نفوسهم من علم كتب الله تعالى فبغى بعضهم على بعض، أداهم ذلك إلى اختلاف الرأي وافتراق الكلمة والكلمة السابقة: قال المفسرون: هي حتمه تعالى القضاء بأن مجازاتهم إنما تقع في الآخرة، فلولا ذلك لفصل بينهم في الدنيا وغلب المحق على المبطل.
وقوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ إشارة إلى معاصري محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى، وقيل هي إشارة إلى العرب. والْكِتابَ: هو القرآن. والضمير في قوله: لَفِي شَكٍّ يحتمل أن يعود على الْكِتابَ، أو على محمد، أو على الأجل المسمى، أي في شك من البعث على قول من رأى الإشارة إلى العرب، ووصف الشك ب مُرِيبٍ مبالغة فيه.
قوله عز وجل:

[سورة الشورى (42) : الآيات 15 الى 16]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16)
اللام في قوله: فَلِذلِكَ قالت فرقة: هي بمنزلة إلى، كما قال تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة:
5] أي إليها، كأنه قال: فإلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد فَادْعُ، وقالت فرقة: بل هي بمعنى من أجل كأنه قال: فمن أجل أن الأمر كذا ولكونه كذا فَادْعُ أنت إلى ربك وبلغ ما أرسلت به. وخوطب عليه السلام بأمر الاستقامة، وقد كان مستقيما، بمعنى: دم على استقامتك، وهكذا الشأن في كل مأمور بشيء هو متلبس به إنما معناه الدوام، وهذه الآية ونحوها كانت نصب عين النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت شديدة الموقع من نفسه، أعني قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] لإنها جملة تحتها جميع الطاعات وتكاليف النبوءة، وفي هذا المعنى قال عليه السلام: شيبتني هود وأخواتها، فقيل له: لم ذلك؟
فقال: لأن فيها فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] وهذا الخطاب له عليه السلام بحسب قوته في أمر الله تعالى وقال هو لأمته بحسب ضعفهم استقيموا.
وقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ يعني قريشا فيما كانوا يهوونه من أن يعظم آلهتهم وغير ذلك، ثم أمره تعالى أن يؤمن بالكتب المنزلة قبله من عند الله، وهو أمر يعم سائر أمته.
وقوله تعالى: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ قالت فرقة: اللام في لِأَعْدِلَ يمعنى: أن، التقدير: بأن أعدل بينكم. وقالت فرقة المعنى: وأمرت بما أمرت به من التبليغ والشرع لكي أعدل بينكم، فحذف من الكلام ما يدل الظاهر عليه.
وقوله: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ إلى آخر الآية منسوخ ما فيه من موادعة بآية السيف.

(5/30)


اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)

وقوله: لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أي لا جدال ولا مناظرة، قد وضح الحق وأنتم تعاندون، وفي قوله تعالى: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وعيد.
وقوله: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ قال ابن عباس ومجاهد إنها نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم ومجادلتهم بأن قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، فديننا أفضل، فنزلت الآية في ذلك، وقيل بل نزلت في قريش لأنها كانت أبدا تحاول هذا المعنى وتطمع في رد الجاهلية و: يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ معناه في توحيد الله، أي يحاجون فيه بالإبطال والإلحاد وما أشبه، والضمير في: لَهُ يحتمل أن يعود على اللَّهِ تعالى، أي بعد ما دخل في دينه، ويحتمل أن يعود على الدين والشرع، ويحتمل أن يعود على محمد عليه السلام. و: داحِضَةٌ معناه: زاهقة. والدحض: الزلق، وباقي الآية بيّن.
قوله عز وجل:

[سورة الشورى (42) : الآيات 17 الى 20]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
لما أنحى القول على الذين يحاجون في توحيد الله ويرومون إطفاء نوره، صدع في هذه الآية بصفة من أنزل الكتاب الهادي للناس. و: الْكِتابَ هنا اسم جنس يعم جميع الكتب المنزلة.
وقوله: بِالْحَقِّ يحتمل أن يكون المعنى بأن كان ذلك حقا واجبا للمصلحة والهدى، ويحتمل أن يكون المعنى مضمنا الحق، أي بالحق في أحكامه وأوامره. والْمِيزانَ هنا العدل، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والناس. وحكى الثعلبي عن مجاهد أنه قال: هو هنا الميزان الذي بأيدي الناس.
قال القاضي أبو محمد: ولا شك أنه داخل في العدل وجزء منه وكل شيء من الأمور، فالعدل فيه إنما هو بوزن وتقدير مستقيم، فيحتاج في الأجرام إلى آلة، وهي العمود والكفتان التي بأيدي البشر، ويحتاج في المعاني إلى هيئات في النفوس وفهوم توازن بين الأشياء.
وقوله: وَما يُدْرِيكَ، لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ وعيد للمشركين، أي فانظر في أي غورهم وجاء لفظ:
قَرِيبٌ مذكرا من حيث تأنيث الساعة غير حقيقي، وإذ هي بمعنى الوقت.
ثم وصف تعالى حال الجهلة الكاذبين بها، فهم لذلك يستعجلون بها، أي يطلبون تعجيلها ليبين العجز ممن يحققها، فالمصدق بها مشفق خائف، والمكذب مستعجل مقيم لحجته على تكذيبه بذلك

(5/31)


أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)

المستعجل به. ثم استفتح الإخبار عن الممارين في الساعة بأنهم في ضلال قد بعد بهم، فرجوعهم عنه صعب متعذر، وفي هذا الاستفتاح مبالغة وتأكيد وتهيئة لنفس السامع، ثم رجى تبارك وتعالى عباده بقوله:
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ، و: لَطِيفٌ هنا بمعنى: رفيق متحف، والعباد هنا: المؤمنون ومن سبق له الخلود في الجنة، وذلك أن الأعمال بخواتمها، ولا لطف إلا ما آل إلى الرحمة، وأما الإنعام على الكافرين في الدنيا فليس بلطف بهم، بل هو إملاء واستدراج. وقال الجنيد: لطف بأوليائه حتى عرفوه ولو لطف بالكفار لما جحدوه، وقيل: لَطِيفٌ معناه في أن نشر عنهم المناقب، وستر عليهم المثالب. وقيل هو الذي لا يخاف إلا عدله، ولا يرجى إلا فضله.
وقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ معناه: إرادة مستعد عامل عارف، لا إرادة متمن لم يدر نفسه. والحرث في هذه الآية: عبارة عن السعي والتكسب والإعداد.
ولما كان حرث الأرض أصلا من أصول المكاسب استعير لكل متكسب، ومنه قول ابن عمر: احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
وقوله تعالى: نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وعد منتجز.
وقوله في: حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها معناه: ما شئنا ولمن شئنا، فرب ممتحن مضيق عليه حريص على حرث الدنيا مريد له لا يحس بغيره، نعوذ بالله من ذلك، وهذا الذي لا يعقل غير الدنيا هو الذي نفى أن يكون له نصيب في الآخرة.
وقرأ سلام: «نؤته» برفع الهاء وهي لغة لأهل الحجاز، ومثله قراءتهم: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [القصص: 81] برفع الهاء فيهما.
قوله عز وجل:

[سورة الشورى (42) : الآيات 21 الى 23]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
أَمْ هذه هي منقطعة لا معادلة، وهي بتقدير بل وألف الاستفهام. والشركاء في هذه الآية: يحتمل أن يكون المراد بهم الشياطين والمغوين من أسلافهم، ويكون الضمير في لَهُمْ للكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي شرع الشركاء لهم ما لم يأذن به الله، فالاشتراك هاهنا هو في الكفر

(5/32)


والغواية، وليس بشركة الإشراك بالله، ويحتمل أن يكون المراد ب «الشركاء» : الأصنام والأوثان على معنى:
أم لهم أصنام جعلوها شركاء لله في ألوهيته، ويكون الضمير: في: شَرَعُوا لهؤلاء المعاصرين من الكفار ولآبائهم. والضمير في: لَهُمْ للأصنام الشركاء، أي شرع هؤلاء الكفار لأصنامهم وأوثانهم ما لم يأذن به الله، و: شَرَعُوا معناه: أثبتوا ونهجوا ورسموا. والدِّينِ هنا العوائد والأحكام والسيرة، ويدخل في ذلك أيضا المعتقدات، لأنهم في جميع ذلك وضعوا أوضاعا، فأما في المعتقدات فقولهم إن الأصنام آلهة، وقولهم إنهم يعبدون الأصنام زلفى وغير ذلك، وأما في الأحكام فكالبحيرة والوصيلة والحامي وغير ذلك من السوائب ونحوها، والإذن في هذه الآية الأمر. وكَلِمَةُ الْفَصْلِ: هي ما سبق من قضاء الله تعالى بأنه يؤخر عقابهم إلى الآخرة والقضاء بينهم: هو عذابهم في الدنيا ومجازاتهم.
وقرأ جمهور الناس: «وإن الظالمين» بكسر الهمزة على القطع والاستئناف. وقرأ مسلم بن جندب «وأن الظالمين» بفتح الهمزة، وهي في موضع رفع عطف على: كَلِمَةُ المعنى: وأن الظالمين لهم في الآخرة عذاب.
وقوله: تَرَى الظَّالِمِينَ هي رؤية بصر، والظَّالِمِينَ مفعول، و: مُشْفِقِينَ حال وليس لهم في هذا الإشفاق مدح، لأنهم إنما أشفقوا حين نزل بهم ووقع، وليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مشفقون من الساعة كما تقدم.
وقوله تعالى: وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ جملة في موضع الحال. والروضات: المواضع المؤنفة النظرة، وهي مرتفعة في الأغلب من الاستعمال، وهي الممدوحة عند العرب وغيرهم، ومن ذلك قوله تعالى كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [البقرة: 265] ومن ذلك تفضيلهم روضات الحزن لجودة هوائها. قال الطبري: ولا تقول العرب لموضع الأشجار رياض.
وقوله تعالى: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إشارة إلى قوله تعالى في الآية الأخرى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: 47] .
وقرأ جمهور الناس: «يبشّرهم» بضم الياء وفتح الباء وشد الشين المكسورة، وذلك على التعدية بالتضعيف. وقرأ مجاهد وحميد: «يبشر» بضم الياء وسكون الباء وكسر الشين على التعدية بالهمزة. قرأ ابن مسعود وابن يعمر وابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش وطلحة: «يبشر» بفتح الياء وضم الشين، ورويت عن ابن كثير. وقال الجحدري في تفسيرها: ترى النضرة في الوجوه.
وقوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى اختلف الناس في معناه، فقال له ابن عباس وغيره: هي آية مكية نزلت في صدر الإسلام ومعناها استكفاف شر الكفار ودفع أذاهم أي ما أسألكم على القرآن والدين والدعاء إلى الله إلا أن تودوني لقرابة هي بيني وبينكم فتكفوا عني أذاكم. قال ابن عباس وابن إسحاق وقتادة: ولم يكن في قريش بطن إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه نسب أو صهر، فالآية على هذا هي استعطاف ما، ودفع أذى وطلب سلامة منهم، وذلك كله منسوخ بآية السيف، ويحتمل على هذا التأويل أن يكون معنى الكلام استدعاء نصرهم، أي لا أسألكم غرامة ولا شيئا إلا أن

(5/33)


أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)

تودوني لقرابتي منكم وأن تكونوا أولى بي من غيركم. وقال مجاهد: المعنى إلا أن تصلوا رحمي باتباعي.
وقال ابن عباس أيضا ما يقتضي أنها مدنية، وسببها أن قوما من شباب الأنصار فاخروا المهاجرين ومالوا بالقول على قريش، فنزلت الآية في ذلك على معنى إلا أن تودوني فتراعوننى في قرابتي وتحفظونني فيهم، وقال بهذا المعنى في الآية علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، واستشهد بالآية حين سيق إلى الشام أسيرا، وهو تأويل ابن جبير وعمرو بن شعيب، وعلى هذا التأويل قال ابن عباس، قيل يا رسول الله، من قرابتك الذين أمرنا بمودتهم؟ فقال: علي وفاطمة وابناهما، وقيل هو ولد عبد المطلب.
قال القاضي أبو محمد: وقريش كلها عندي قربى وإن كانت تتفاضل، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مات على حب آل محمد مات شهيدا، ومن مات على بغضهم لم يشم رائحة الجنة» وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي: سبب هذه الآية أن الأنصار جمعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مالا وساقته إليه فرده عليهم ونزلت الآية في ذلك. وقال ابن عباس أيضا، معنى الآية: من قربى الطاعة والتزلف إلى الله تعالى: كأنه قال: إلا أن تودني، لأني أقربكم من الله، وأريد هدايتكم وأدعوكم إليها. وقال الحسن بن أبي الحسن معناه: إلا أن يتوددوا إلى الله بالتقرب إليه. وقال عبد الله بن القاسم في كتاب الطبري معنى الآية: إلا أن تتوددوا بعضكم إلى بعض وتصلوا قراباتكم، فالآية على هذا أمر بصلة الرحم. وذكر النقاش عن ابن عباس ومقاتل والكلبي والسدي أن الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة سبأ قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ: 47] والصواب أنها محكمة، وعلى كل قول فالاستثناء منقطع، و: إِلَّا بمعنى: لكن. و: يَقْتَرِفْ معناه يكتسب، ورجل قرفة: إذا كان محتالا كسوبا.
وقرأت فرقة «يزد» على إسناد الفعل إلى الله تعالى، وقرأ جمهور الناس: «نزد» على نون العظمة، وزيادة الحسن هو التضعيف الذي وعد الله تعالى به مؤمني عباده، قاله الحسن بن أبي الحسن.
و: غَفُورٌ معناه: ساتر عيوب عبيده. و: شَكُورٌ معناه: مجاز على الدقيقة من الخير لا يضيع عنده لعامل عمل.
قوله عز وجل:

[سورة الشورى (42) : الآيات 24 الى 27]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
أَمْ هذه أيضا منقطعة مضمنة إضرابا عن كلام متقدم وتقريرا على هذه المقالة منهم.
وقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ معناه في قول قتادة وفرقة من المفسرين: ينسيك القرآن، والمراد الرد على مقالة الكفار وبيان إبطالها، وذلك كأنه يقول: وكيف يصح أن تكون مفتريا وأنت من الله بمرأى

(5/34)


ومسمع، وهو قادر لو شاء على أن يختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك، فمقصد اللفظ هذا المعنى وحذف ما يدل عليه الظاهر اختصارا واقتصارا. وقال مجاهد في كتاب الثعلبي وغيره، المعنى:
فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ بالصبر لأذى الكفار ويربط عليه بالجلد، فهذا تأويل لا يتضمن الرد على مقالتهم.
وقوله تعالى: وَيَمْحُ فعل مستقبل خبر من الله أنه يمحو الباطل ولا بد إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذا بحسب نازلة. وكتبت يَمْحُ في المصحف بحاء مرسلة كما كتبوا: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ [الإسراء: 11] إلى غير ذلك مما ذهبوا فيه إلى الحذف والاختصار.
وقوله: بِكَلِماتِهِ معناه: بما سبق في قديم علمه وإرادته من كون الأشياء بالكلمات المعاني القائمة التي لا تبديل لها.
وقوله تعالى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ خبر مضمنه وعيد. ثم ذكر النعمة في تفضله بقبول التوبة عن عباده، وقبول التوبة فيما يستأنف العبد من زمنه وأعماله مقطوع به بهذه الآية، وأما ما سلف من أعماله فينقسم: فأما التوبة من الكفر فماحية كل ما تقدمها من مظالم العباد الفانية، وأما التوبة من المعاصي فلأهل السنة قولان، هل تذهب المعاصي السالفة للعبد بينه وبين خالقه؟ فقالت فرقة: هي مذهبة لها، وقالت فرقة: هي في مشيئة الله تعالى، وأجمعوا على أنها لا تذهب مظالم العباد.
وحقيقة التوبة: الإقلاع عن المعاصي والإقبال والرجوع إلى الطاعات، ويلزمها الندم على ما فات، والعزم على ملازمة الخيرات. وقال سري السقطي: والتوبة: العزم على ترك الذنوب، والإقبال بالقلب إلى علام الغيوب. وقال يحيى بن معاذ: التائب من كسر شبابه على رأسه وكسر الدنيا على رأس الشيطان ولزم الفطام حتى أتاه الحمام.
وقوله تعالى: عَنْ عِبادِهِ بمعنى: من عباده، وكأنه قال: التوبة الصادرة عن عباده.
وقرأ جمهور القراء والأعرج وأبو جعفر والجحدري وقتادة: «يفعلون» بالياء على الكناية عن غائب.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن مسعود وعلقمة: «تفعلون» بالتاء على المخاطبة، وفي الآية توعد.
وقوله تعالى: وَيَسْتَجِيبُ قال الزجاج وغيره معناه: يجيب، والعرب تقول: أجاب واستجاب بمعنى ومنه قول الشاعر [كعب بن سعد الغنوي] : [الطويل]
وداع دعا يا من يجيب الندا ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
و: الَّذِينَ على هذا القول مفعول ب يَسْتَجِيبُ، وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل ونحوه عن ابن عباس، وقالت فرقة المعنى: ويستدعي الذين آمنوا الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحة.
ودل قوله: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على أن المعنى فيجيبهم، وحملت هذه الفرقة استجاب على المعهود من باب استفعل، أي طلب الشيء. و: الَّذِينَ على هذا القول فاعل ب يَسْتَجِيبُ. وقالت

(5/35)


وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)

فرقة: المعنى ويجيب المؤمنون ربهم، ف الَّذِينَ: فاعل بمعنى يجيبون دعوة شرعه ورسالته. والزيادة من فضله: هي تضعيف الحسنات، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: هي قبول الشفاعات في المذنبين والرضوان.
وقوله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ قال عمرو بن حريث وغيره إنها نزلت لأن قوما من أهل الصفة طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغنيهم الله ويبسط لهم الأموال والأرزاق، فأعلمهم الله تعالى أنه لو جاء الرزق على اختيار البشر واقتراحهم لكان سبب بغيهم وإفسادهم، ولكنه تعالى أعلم بالمصلحة في كل أحد، وله بعبيده خبرة وبصر بأخلاقهم ومصالحهم، فهو ينزل لهم من الرزق القدر الذي به صلاحهم، فرب إنسان لا يصلح وتكتف عاديته إلا بالفقر وآخر بالغنى. وروى أنس بن مالك في هذا المعنى التقسم حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال أنس: اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى، فلا تفقرني. وقال خباب بن الأرتّ: فينا نزلت: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ الآية، لأنا نظرنا إلى أموال بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت الآية.
قوله عز وجل:

[سورة الشورى (42) : الآيات 28 الى 33]
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32)
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)
هذه تعديد نعمة الله تعالى الدالة على وحدانيته، وأنه الإله الذي يستحق أن يعبد دون سواه من الأنداد.
وقرأ «ينزّل» مثقلة جمهور القراء، وقرأها «ينزل» مخففة ابن وثاب والأعمش، ورويت عن أبي عمرو، ورجحها أبو حاتم، وقرأ جمهور الناس: «قنطوا» بفتح النون، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش: بكسر النون، وقد تقدم ذكرها وهما لغتان: قنط، وقنط، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل له:
أجدبت الأرض وقنط الناس، فقال: مطروا إذا، بمعنى أن الفرج عند الشدة، واختلف المتأولون في قوله تعالى: وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ فقالت فرقة: أراد بالرحمة المطر، وعدد النعمة بعينها بلفظتين: الثاني منهما يؤكد الأول. وقالت فرقة: الرحمة في هذا الموضع الشمس، فذلك تعديد نعمة غير الأولى، وذلك أن المطر إذا ألم بعد القنط حسن موقعه، فإذا دام سئم، فتجيء الشمس بعده عظيمة الموضع.
وقوله تعالى: وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ أي من هذه أفعاله فهو الذي ينفع إذا والى وتحمد أفعاله ونعمه،

(5/36)


لا كالذي لا يضر ولا ينفع من أوثانكم. ثم ذكر تعالى الآية الكبرى، الصنعة الدالة على الصانع، وذلك خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
وقوله تعالى: وَما بَثَّ فِيهِما يتخرج على وجوه، منها أن يريد إحداهما فيذكر الاثنين كما قال:
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: 22] وذلك إنما يخرج من الملح وحده، ومنها أن يكون تعالى قد خلق السماوات وبث دواب لا نعلمها نحن، ومنها أن يريد الحيوانات التي توجد في السحاب، وقد يقع أحيانا كالضفادع ونحوها، فإن السحاب داخل في اسم السماء. وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال في تفسير: وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ هم الناس والملائكة، وبعيد غير جار على عرف اللغة أن تقع الدابة على الملائكة.
وقوله تعالى: وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ يريد القيامة عند الحشر من القبور وقوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ قرأ جمهور القراء: «فبما» بفاء، وكذلك هي في جل المصاحف. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وشيبة: «بما» دون فاء. وحكى الزجاج أن أبا جعفر وحده من المدنيين أثبت الفاء. قال أبو علي الفارسي: «أصاب» ، من قوله: «وما أصاب» يحتمل أن يكون في موضع جزم، وتكون ما شرطية، وعلى هذا لا يجوز حذف الفاء عند سيبويه، وجوز حذفها أبو الحسن الأخفش وبعض البغداديين على أنها مرادة في المعنى، ويحتمل أن يكون «أصاب» صلة لما، وتكون ما بمعنى الذي، وعلى هذا يتجه حذف الفاء وثبوتها، لكن معنى الكلام مع ثبوتها التلازم، أي لولا كسبكم ما أصابتكم مصيبة، والمصيبة إنما هي بسبب كسب الأيدي، ومعنى الكلام مع حذفها يجوز أن يكون التلازم، ويجوز أن يعرى منه، وأما في هذه الآية فالتلازم مطرد مع الثبوت والحذف.
وأما معنى الآية فاختلف الناس فيه، فقالت فرقة: هي إخبار من الله تعالى بأن الرزايا والمصائب في الدنيا إنما هي مجازاة من الله تعالى على ذنوب المرء وخطاياه، وأن الله تعالى يعفو عن كثير فلا يعاقب عليه بمصيبة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر» ، وقال عمران بن حصين وقد سئل عن مرضه إن أحبه إلي أحبه إلي الله، وهذا بما كسبت يداي، وعفو ربي كثير. وقال مرة الهمداني: رأيت على ظهر كف شريح قرحة فقلت ما هذا؟ قال هذا بما كسبت يدي وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ، وقيل لأبي سليمان الداراني: ما بال الفضلاء لا يلومون من أساء إليهم؟ فقال لأنهم يعلمون أن الله تعالى هو الذي ابتلاهم بذنوبهم. وروي عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله أكرم من أن يثني على عبده العقوبة إذا أصابته في الدنيا بما كسبت يداه» . وقال الحسن بن أبي الحسن، معنى الآية في الحدود: أي ما أصابكم من حد من حدود الله، وتلك مصائب تنزل بشخص الإنسان ونفسه، فإنما هي بكسب أيديكم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ، فستره على العبد حتى لا يحد عليه. ثم أخبر عن قصور ابن آدم وضعفه وأنه في قبضة القدرة، لا يعجز طلب ربه، ولا يمكنه الفرار منه والْجَوارِ جمع جارية، وهي السفينة.
وقرأ: الجواري بالياء نافع وعاصم وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة، ومنهم من أثبتها في الوصل ووقف

(5/37)


أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)

على الراء. وقرأ أيضا عاصم بحذف الياء في وصل ووقف. وقال أبو حاتم: نحن نثبتها في كل حال.
و: «الأعلام» الجبال، ومنه قول الخنساء: [البسيط]
وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
ومنه المثل: إذا قطعن علما بدا علم فجري السفن في الماء آية عظيمة، وتسخير الريح لذلك نعمة منه تعالى، وهو تعالى لو شاء أن يديم سكون الريح عنها لركدت أي أقامت وقرت ولم يتم منها غرض.
وقرأ أبو عمرو وعاصم «الريح» واحدة. وقرأ: «الرياح» نافع وابن كثير والحسن.
وقرأ الجمهور: «فيظللن» بفتح اللام. وقرأ قتادة: «فيظللن» بكسر اللام.
وباقي الآية فيه الموعظة وتشريف الصبار الشكور بالتخصيص، والصبر والشكر فيهما الخير كله، ولا يكونان إلا في عالم.
قوله عز وجل:

[سورة الشورى (42) : الآيات 34 الى 38]
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
أوبقت الرجل إذا أنشبته في أمر يهلك فيه، فالإيباق في السفن هو تغريقها، والضمير في: كَسَبُوا هو لركابها من البشر، أي بذنوب البشر. ثم ذكر تعالى ثانية: وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ مبالغة وإيضاحا.
وقرأ نافع وابن عامر والأعرج وأبو جعفر وشيبة: «ويعلم» بالرفع على القطع والاستئناف، وحسن ذلك إذا جاء بعد الجزاء. وقرأ الباقون والجمهور: «ويعلم» بالنصب على تقدير: أن، وهذه الواو نحو التي يسميها الكوفيون واو الصرف، لأن حقيقة واو الصرف هي التي يريد بها عطف فعل على اسم، فيقدر أن لتكون مع الفعل بتأويل المصدر فيحسن عطفه على اسم، وذلك نحو قول الشاعر: [الطويل] تقضي لبانات ويسأم سائم فكأنه أراد: وسآمة سائم، فقدر: وأن يسأم لتكون ذلك بتأويل المصدر الذي هو سآمة قال أبو علي:
حسن النصب إذ كان قبله شرط وجزاء، وكل واحد منهما غير واجب وقوله تعالى: ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ هو معلموهم الذي أراد أن يعلمه المجادلون في آياته عز وجل. والمحيص: المنجي وموضوع الروغان، يقال حاص إذا راغ، وفي حديث هرقل: فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، ثم وعظ تعالى عباده

(5/38)


وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)

وحقر عندهم أمر الدنيا وشأنها ورغبهم فيما عنده من نعيمهم والمنزلة الرفيعة لديه، وعظم قدر ذلك في قوله: فَما أُوتِيتُمْ الآية.
وقوله: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ عطف على قوله: الذين آمَنُوا. وقرأ جمهور الناس: «كبائر» على الجمع. قال الحسن: هي كل ما توعد فيه بالنار. وقال الضحاك: أو كان فيه حد من الحدود. وقال ابن مسعود: الكبائر من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية. وقال علي وابن عباس: هي كل ما ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم: «كبير» على الإفراد الذي هو اسم الجنس. وقال ابن عباس: كبير الإثم: هو الشرك. وَالْفَواحِشَ قال السدي: الزنا. وقال مقاتل: موجبات الحدود، ويحتمل أن يكون كبير اسم جنس بمعنى كبائر، فتدخل موبقات السبع على ما قد تفسر من أمرها في غير هذه.
وقوله تعالى: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ حض على كسر الغضب والتدرب في إطفائه، إذ هو جمهرة من جهنم وباب من أبوابها، وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: لا تغضب، قال: زدني، قال: لا تغضب. قال: زدني: قال: لا تغضب ومن جاهد هذا العارض من نفسه حتى غلبه فقد كفي هما عظيما في دنياه وآخرته.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا مدح لكل من آمن بالله وقبل شرعه، ومدح تعالى القوم الذين أمرهم شورى بينهم، لأن في ذلك اجتماع الكلمة والتحاب واتصال الأيدي والتعاضد على الخير، وفي الحديث: «ما تشاور قوم إلا هدوا لأحسن ما بحضرتهم» .
وقوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ معناه في سبيل الله وبرسم الشرع وعلى حدوده، وفي القوام الذي مدحه تعالى في غير هذه الآية. وقال ابن زيد قوله تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ الآية نزلت في الأنصار، والظاهر أن الله تعالى مدح كل من اتصف بهذه الصفة كائنا من كان، وهل حصل الأنصار في هذه الصفة إلا بعد سبق المهاجرين لها رضي الله تعالى عن جميعهم بمنه.
قوله عز وجل:

[سورة الشورى (42) : الآيات 39 الى 41]
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
مدح الله تعالى في هذه الآية قوما بالانتصار من البغي، ورجح ذلك قوم من العلماء وقالوا: الانتصار بالواجب تغيير منكر، ومن لم ينتصر مع إمكان الانتصار فقد ترك تغيير المنكر واختلف الناس في المراد بالآية بعد اتفاقهم على أن من بغي عليه وظلم فجائز له أن ينتصر بيد الحق وحاكم المسلمين، فقال مقاتل:
الآية في المجروح ينتصف من الجارح بالقصاص. وقالت فرقة: إنها نزلت في بغي المشرك على المؤمن، فأباح الله لهم الانتصار منهم دون تعدّ، وجعل العفو والإصلاح مقرونا بأجر، ثم نسخ ذلك بآية السيف،

(5/39)


إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)

وقالت هذه الفرقة وهي الجمهور إن المؤمن إذا بغى على مؤمن وظلمه، فلا يجوز للآخر أن ينتصف منه بنفسه ويجازيه على ظلمه، مثال ذلك: أن يخون الإنسان آخر ثم يتمكن الإنسان من خيانته، فمذهب مالك رحمه الله أن لا يفعل، وهو مذهب جماعة عظيمة معه، ولم يروا هذه الآية من هذا المعنى، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» . وهذا القول أنزه وأقرب إلى الله تعالى. وقالت طائفة من أهل العلم: هذه الآية عامة في المشركين والمؤمنين، ومن بغي عليه وظلم فجائز له أن ينتصف لنفسه ويخون من خانه في المال حتى ينتصر منه، وقالوا إن الحديث: «ولا تخن من خانك» ، إنما هو في رجل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يزني بحرمة من زنا بحرمته؟ فقال له النبي عليه السلام: ذلك يريد به الزنا، وكذلك ورد الحديث في معنى الزنا، ذكر ذلك الرواة، أما أن عمومه ينسحب في كل شيء.
وقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ قال الزجاج: سمى العقوبة باسم الذنب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إذا أخذنا السيئة في حق الله تعالى بمعنى المعصية، وذلك أن المجازاة من الله تعالى ليست سيئة إلا بأن سميت باسم موجبتها، وأما إن أخذنا السيئة بمعنى المعصية في حق البشر، أي يسوء هذا هذا ويسوء الآخر، فلسنا نحتاج إلى أن نقول سمى العقوبة باسم الذنب، بل الفعل الأول والآخر سَيِّئَةٍ وقال ابن أبي نجيح والسدي معنى الآية: أن الرجل إذا شتم بشتمة فله أن يردها بعينها دون أن يتعدى. قال الحسن بن أبي الحسن: ما لم يكن حدا أو عوراء جدا واللام في قوله: لَمَنِ انْتَصَرَ لام التقاء القسم.
وقوله: مِنْ سَبِيلٍ يريد مِنْ سَبِيلٍ حرج ولا سبيل حكم، وهذا إبلاغ في إباحة الانتصار، والخلاف فيه هل هو بين المؤمن والمشرك، أو بين المؤمنين على ما تقدم.
قوله عز وجل:

[سورة الشورى (42) : الآيات 42 الى 45]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45)
المعنى إنما سبيل الحكم والإثم عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ، أي الذين يضعون الأشياء غير مواضعها من القتل وأخذ المال والأذى باليد وباللسان. والبغي بغير الحق وهو نوع من أنواع الظلم، خصه بالذكر تنبيها على شدته وسوء حال صاحبه، ثم توعدهم تعالى بالعذاب الأليم في الآخرة.

(5/40)


وقوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ. وقوله: أَلِيمٌ اعتراض بين الكلامين، ثم عاد في قوله: وَلَمَنْ صَبَرَ إلى الكلام الأول، كأنه قال: ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ولمن صبر وغفر.
واللام في قوله: وَلَمَنْ صَبَرَ يصح أن تكون لام القسم، ويصح أن تكون لام الابتداء. و «من» ابتداء.
وخبره في قوله: إِنَّ ذلِكَ. و: عَزْمِ الْأُمُورِ محكها ومتقنها والحميد العاقبة منها. ومن رأى أن هذه الآية هي فيما بين المؤمنين والمشركين وأن الضمير للمشركين كان أفضل، قال إن الآية نسخت بآية السيف، ومن رأى أن الآية إنما هي بين المؤمنين، قال هي محكمة، والصبر والغفران أفضل إجماعا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد، من كان له على الله أجر فليقم، فيقوم عنق من الناس كثير، فيقال ما أجركم؟ فيقولون: نحن الذين عفونا ظلمنا في الدنيا» .
وقوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ تحقير لأمر الكفرة فلا يبال بهم أحد من المؤمنين، فقد أضارهم كفرهم وإضلال الله إياهم إلى ما لا فلاح لهم معه. ثم وصف تعالى لنبيه عليه السلام حالهم في القيامة عند رؤيتهم العذاب فاجتزى من صفتهم وصفة حالتهم بأنهم يقولون هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ، وهذه المقالة تدل على سوء ما أطلعوا عليه، والمراد موضوع الرد إلى الدنيا، والمعنى الذي قصدوه أن يكون رد فيكون منهم استدراك للعمل والإيمان. والرؤية في هذه الآية: رؤية عين.
والضمير في قوله: عَلَيْها عائد على النار، وعاد الضمير مع أنها لم يتقدم لها ذكر من حيث دل عليها قوله: رَأَوُا الْعَذابَ وقوله: مِنَ الذُّلِّ يحتمل أن يتعلق ب خاشِعِينَ ويحتمل أن يتعلق بما بعده من قوله: يَنْظُرُونَ.
وقرأ طلحة بن مصرف: «من الذل» بكسر الذال.
والخشوع: الاستكانة، وقد يكون محمودا، وما يخرجه إلى حالة الذم قوله: مِنَ الذُّلِّ فيقوى على هذا تعلق: مِنَ ب: خاشِعِينَ.
وقوله: مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ يحتمل ثلاثة معان. قال ابن عباس: خفي ذليل.
قال القاضي أبو محمد: لما كان نظرهم ضعيفا ولحظهم بمهانة وصفه بالخفاء، ومن هذا المعنى قول الشاعر [جرير بن عطية] :
فغض الطرف إنك من نمير وقال قوم فيما حكى الطبري: لما كانوا يحشرون عميا وكان نظرهم بعيون قلوبهم جعله طرفا خفيا، أي لا يبدو نظرهم، وفي هذا التأويل تكلف. وقال قتادة والسدي: المعنى يسارقون النظر لما كانوا من الهم وسوء الحال لا يستطيعون النظر بجميع العين، وإنما ينظرون من بعضها. قال: مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أي قليل. ف «الطرف» هنا على هذا التأويل يحتمل أن يكون مصدرا، أي يطرف طرفا خفيا. وقول: الَّذِينَ آمَنُوا هو في يوم القيامة عند ما عاينوا حال الكفار وسوء منقلبهم. وخسران الأهلين: يحتمل أن يراد به أهلوهم الذين كانوا في الدنيا، ويحتمل أن يراد به أهلوهم الذين كانوا يكونون لهم في الجنة أن لو دخلوها.

(5/41)


وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

وقوله تعالى: أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ يحتمل أن يكون من قول المؤمنين يومئذ حكاه الله عنهم، ويحتمل أن يكون استئنافا من قول الله تعالى وإخباره لمحمد عليه السلام.
قوله عز وجل:

[سورة الشورى (42) : الآيات 46 الى 48]
وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)
قوله تعالى: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ إنحاء على الأصنام والأوثان التي أظهر الكفار ولايتها واعتقدت ذلك دينا، المعنى: فما بالهم يوالون هذه التي لا تضر ولا تنفع، ولكن من يضلل الله فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ هدى ونجاة، ثم أمر تعالى نبيه أن يأمرهم بالاستجابة لدعوة الله وشريعته، وحذرهم إتيان يوم القيامة الذي لا يرد أحد بعده إلى عمل، والذي لا ملجأ ولا منجا لأحد فيه إلا إلى العلم بالله تعالى والعمل الصالح في الدنيا، فأخبرهم أنه لا ملجأ لهم ولا نكير. والنكير مصدر بمعنى الإنكار وهو بمنزلة عديد الحي ونحوه من المصادر، ويحتمل أن يكون من أبنية اسم الفاعل من نكر، وإن كان المعنى يبعد به، لأن نكر إنما معناه لم يميز وظن الأمر غير ما عهده.
وقوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تأنيس لمحمد عليه السلام وإزالة لهمه بهم، وأعلمه أنه ليس عليه إلا البلاغ وتوصيل الحجة، ثم جاءت عبارة في باقي الآية هي بمنزلة ما يقول، والقوم قوم عتو وتناقض أخلاق واضطراب، إذا أذيقوا رحمة فرحوا بها وبطروا، وإن أصابت سيئة أي مصيبة تسوءهم في أجسامهم أي في نفوسهم، وذلك بذنوبهم وقبيح فعلهم فإنهم كفر عند ذلك غير صبر. وعبر ب الْإِنْسانَ الذي هو اسم عام ليدخل في الآية والمذمة جميع الكفرة من المجاورين يومئذ ومن غيرهم، وجمع الضمير في قوله: تُصِبْهُمْ وهو عائد على لفظ الْإِنْسانَ من حيث هو اسم جنس يعم كثيرا.
قوله عز وجل:

[سورة الشورى (42) : الآيات 49 الى 53]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

(5/42)


الآية الأولى آية اعتبار دال على القدرة والملك المحيط بالجميع، وأن مشيئته تبارك وتعالى نافذة في جميع خلقه وفي كل أمرهم، وهذا لا مدخل لصنم فيه، فإن الذي يخلق ما يشاء ويخترع، فإنما هو الله تبارك وتعالى، وهو الذي يقسم الخلق فيهب الإناث لمن يشاء، أي يجعل بنيه نساء، ويهب الذكور لمن يشاء على هذا الحد، أو ينوعهم مرة يهب ذكرا ويهب أنثى، وذلك معنى قوله تعالى: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ.
وقال محمد بن الحنفية: يريد بقوله تعالى: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ التوأم، أي يجعل في بطن زوجا من الذرية ذكرا وأنثى. والعقيم: الذي لا يولد له، وهذا كله مدبر بالعلم والقدرة، وهذه الآية تقضي بفساد وجود الخنثى المشكل. وبدئ في هذه الآية بذكر الإناث تأنيسا بهن وتشريفا لهن ليتهمم بصونهن والإحسان إليهن، وقال النبي عليه السلام: «من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له حجابا من النار» .
وقال واثلة بن الأسقع: من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر، لأن الله تعالى بدأ بالإناث، حكاه الثعلبي. وقال إسحاق بن بشر: نزلت هذه الآية في الأنبياء ثم عمت، فلوط أبو البنات لم يولد له ذكر، وإبراهيم ضده، ومحمد عليه السلام ولد له الصنفان، ويحيى بن زكرياء عقيم.
وقوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ الآية نزلت بسبب خوض كان للكفار في معنى تكليم الله موسى ونحو ذلك، ذهبت قريش واليهود في ذلك إلى تجسيم ونحوه، فنزلت الآية مبينة صورة تكليم الله عباده كيف هو، فبين الله أنه لا يكون لأحد من الأنبياء ولا ينبغي له ولا يمكن فيه أن يكلمه الله إلا بأن يوحي إليه أحد وجوه الوحي من الإلهام. قال مجاهد، والنفث في القلب. وقال النقاش: أو وحي في منام؟ قال إبراهيم النخعي: كان من الأنبياء من يخط له في الأرض ونحو هذا، أو بأن يسمعه كلامه دون أن يعرف هو للمتكلم جهة ولا حيزا كموسى عليه السلام، وهذا معنى: مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي من خفاء عن المتكلم لا يحده ولا يتصور بذهنه عليه، وليس كالحجاب في الشاهد، أو بأن يرسل إليه ملكا يشافهه بوحي الله تعالى. وقرأ جمهور القراء والناس: «أو يرسل» بالنصب «فيوحي» بالنصب أيضا. وقرأ نافع وابن عامر وأهل المدينة: «أو يرسل» بالرفع «فيوحي» بسكون الياء ورفع الفعل. فأما القراءة الأولى فقال سيبويه: سألت الخليل عنها فقال: هي محمولة على أَنْ غير التي في قوله: أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ لأن المعنى كان يفسد لو عطف على هذه، وإنما التقدير في قوله: وَحْياً إلا أن يوحي وحيا.
وقوله: مِنْ وَراءِ حِجابٍ، مِنْ متعلقة بفعل يدل ظاهر الكلام عليه، تقديره: أو يكلمه من وراء حجاب، ثم عطف: «أو يرسل» على هذا الفعل المقدر.
وأما القراءة الثانية فعلى أن «يرسل» في موضع الحال أو على القطع، كأنه قال: أو هو يرسل، وكذلك يكون قوله: إِلَّا وَحْياً مصدر في موضع الحال، كما تقول: أتيتك ركضا وعدوا، وكذلك قوله:
مِنْ وَراءِ حِجابٍ في موضع الحال كما هو قوله: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل

(5/43)


عمران: 46] في موضع الحال، فكذلك مِنَ [آل عمران: 46] وما عملت فيه هذه الآية أيضا، ثم عطف قوله: «أو يرسل» على هذه الحال المتقدمة. وفي هذه الآية دليل على أن الرسالة من أنواع التكليم، وأن الحالف المرسل حانث إذا حلف أن لا يكلم إنسانا فأرسل إليه وهو لم ينو المشافهة وقت يمينه.
وقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ المعنى وبهذه الطرق ومن هذا الجنس أوحينا إليك أو بالرسل. والروح في هذه الآية: القرآن وهدى الشريعة سماه رُوحاً من حيث يحيي به البشر والعالم، كما يحيي الجسد بالروح، فهذا على جهة التشبيه.
وقوله تعالى: مِنْ أَمْرِنا أي واحد من أمورنا، ويحتمل أن يكون الأمر بمعنى الكلام، ومِنْ لابتداء الغاية.
وقوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ توقيف على مقدار النعمة. والضمير في:
جَعَلْناهُ عائد على الكتاب، و. يهدي بمعنى يرشد.
وقرأ جمهور الناس: «وإنك لتهدي» بفتح التاء وكسر الدال. وقرأ حوشب: «تهدى» بضم التاء وفتح الدال على بناء الفعل للمفعول، وفي حرف أبي: «لتدعو» ، وهي تعضد قراءة الجمهور. وقرأ ابن السميفع وعاصم والجحدري: «لتهدي» بضم التاء وكسر الدال..
وقوله: صِراطِ اللَّهِ يعني صراط شرع الله ورحمته وجنته، فبهذا الوجه ونحوه من التقدير أضيف الصراط إلى الله تعالى. واستفتح القول في الإخبار بصيرورة الأمور إلى الله تعالى مبالغة وتحقيقا وتثبيتا، والأمور صائرة على الدوام إلى الله تعالى، ولكن جاءت هذه العبارة مستقبلة تقريبا لمن في ذهنه أن شيئا من الأمور إلى البشر. وقال سهيل بن أبي الجعد: احترق مصحف فلم يبق منه إلا قوله: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ.

(5/44)


حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)

بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الزّخرف
هذه السورة مكية بإجماع من أهل العلم.
قوله عز وجل:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)
تقدم القول في الحروف في أوائل السور.
وقوله: وَالْكِتابِ خفض بواو القسم. و: الْمُبِينِ يحتمل أن يكون من أبان الذي هو بمعنى بان، أي ظهر، فلا يحتاج إلى مفعول، ويحتمل أن يكون معدى من بان، فهذا لا بد من مفعول تقديره:
المبين الهدى أو الشرع ونحوه.
وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ معناه: سميناه وصيرناه، وهو إخبار عليه وقع القسم، والضمير في:
جَعَلْناهُ عائد على: الْكِتابِ، و: عَرَبِيًّا معناه: بلسانكم لئلا يبقى لكم عذر.
وقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ترج بحسب معتقد البشر، أي إذا أبصر المبصر من البشر هذا الفعل منا ترجى منه أن يعقل الكلام ويفهم.
وقوله تعالى: وَإِنَّهُ عطف على قوله: إِنَّا جَعَلْناهُ وهذا الإخبار الثاني واقع أيضا تحت القسم.
و: أُمِّ الْكِتابِ اللوح المحفوظ، وهذا فيه تشريف للقرآن وترفيع.
واختلف المتأولون كيف هو في أُمِّ الْكِتابِ، فقال عكرمة وقتادة والسدي وعطية بن سعيد: القرآن بأجمعه فيه منسوخ، ومنه كان جبريل عليه السلام ينزل، وهنالك هو علي حكيم. وقال جمهور الناس: إنما في اللوح المحفوظ ذكره ودرجته ومكانته من العلو والحكمة.

(5/45)


وقرأ جمهور الناس: «في أم» بضم الهمزة، وقرأها بكسر الهمزة يوسف والي العراق وعيسى بن عمر.
وقوله: أَفَنَضْرِبُ بمعنى: أفنترك، تقول العرب أضربت عن كذا وضربت إذا أعرضت وتركته.
و: الذِّكْرَ هنا الدعاء إلى الله والتذكير بعذابه والتخويف من عقابه، وقال أبو صالح: الذِّكْرَ هنا هو العذاب نفسه، وقال الضحاك ومجاهد: الذِّكْرَ القرآن.
وقوله تعالى: صَفْحاً انتصابه كانتصاب صُنْعَ اللَّهِ [النمل: 88] ، فيحتمل أن يكون بمعنى العفو والغفر للذنب، فكأنه يقول: أفنترك تذكيركم وتخويفكم عفوا عنكم وغفرا لإجرامكم إذ كنتم أو من أجل أن كنتم قوما مسرفين، أي هذا لا يصلح، وهذا قول ابن عباس ومجاهد، ويحتمل قوله: صَفْحاً أن يكون بمعنى مغفولا عنه، أي نتركه يمر لا تؤخذون بقبوله ولا بتدبر ولا تنبهون عليه، وهذا المعنى نظير قول الشاعر: [الطويل]
تمر الصبا صفحا بساكن ذي الغضا ... ويصدع قلبي إن يهب هبوبها
أي تمر مغفولا عنها، فكأن هذا المعنى: أفنترككم سدى، وهذا هو منحى قتادة وغيره، ومن اللفظة قول كثير: [الطويل]
صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة ... فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت
وقرأ السميط بن عمرو السدوسي: «صفحا» بضم الصاد. وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «إن كنتم» بكسر الألف، وهو جزاء دل ما تقدم على جوابه. وقرأ الباقون والأعرج وقتادة: «أن كنتم» بفتح الألف.
بمعنى من أجل أن، وفي قراءة ابن مسعود: «إذ كنتم» . والإسراف في الآية: هو الكفر والضلال البعيد في عبادة غير الله عز وجل والتشريك به.
وقوله تعالى: وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ الآيات تسلية لمحمد عليه السلام، وذكر إسوة له ووعيد لهم وتهديد بأن يصيبهم ما أصاب من هو أشد بطشا. والأولون: هم الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، والضمير في قوله: كانُوا يَسْتَهْزِؤُنَ ظاهره العموم والمراد به الخصوص فيمن استهزأ، وإلا فقد كان في الأولين من لم يستهزئ، والضمير في: مِنْهُمْ عائد على قريش.
وقوله تعالى: وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي سلف أمرهم وسنتهم، وصاروا عبرة عابر الدهر.
وقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الآية ابتداء احتجاج على قريش يوجب عليهم التناقض في أمرهم، وذلك أنهم يقرون أن الخالق الموجد لهم وللسماوات والأرض هو الله تعالى، وهم مع ذلك يعبدون أصناما ويدعونها آلهتهم، ومقتضى جواب قريش أن يقولوا «خلقهن الله» فلما ذكر تعالى المعنى جاءت العبارة عن الله ب الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ليكون ذلك توطئة لما عدد بعد من أوصافه التي ابتدأ الإخبار بها وقطعها من الكلام الذي حكى معناه عن قريش.

(5/46)


الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)

قوله عز وجل:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 10 الى 14]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
هذه أوصاف فعل، وهي نعم من الله تعالى على البشر، تقوم بها الحجة على كل كافر مشرك بالله تعالى.
وقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ليس من قول المسئولين، بل هو ابتداء إخبار من الله تعالى.
وقرأ جمهور الناس: «مهادا» وقرأ ابن مسعود وطلحة والأعمش: «مهدا» ، والمعنى واحد، أي يتمهد ويتصرف فيها.
والسبل: الطرق. و: تَهْتَدُونَ معناه في المقاصد من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر، ويحتمل أن يريد: تَهْتَدُونَ بالنظر والاعتبار.
وقوله تعالى: مِنَ السَّماءِ هو المطر بإجماع، واختلف المتأولون في معنى قوله: بِقَدَرٍ فقالت فرقة معناه: بقضاء وحتم في الأزل. وقال آخرون المعنى: بقدر في الكفاية للصلاح لا إكثار فيفسد ولا قلة فيقصر، بل غيثا مغيثا سبيلا نافعا. وقالت فرقة معناه: بتقدير وتحرير، أي قدرا معلوما، ثم اختلف قائلو هذه المقالة، فقال بعضهم: ينزل كل عام ماء قدرا واحدا لا يفضل عام عاما، لكن يكثر مرة هنا ومرة هاهنا. وقالت فرقة: بل ينزل الله تقديرا ما في عام، وينزل في آخر تقديرا آخر بحسب ما سبق به قضاؤه، لا إله غيره. و: «أنشرنا» معناه: أحيينا، يقال: نشر الميت، وأنشره الله. و: بَلْدَةً اسم جنس، ووصفها ب مَيْتاً دون ضمير من حيث هي واقعة موقع قطر ونحوه، إذ التأنيث فيها غير حقيقي.
وقرأ الجمهور: «ميتا» بسكون الياء. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «ميّتا» بياء مكسورة مشددة، وهي قراءة عيسى بن عمر، والأول أرجح لشبه لفظها: بزور، وعدل، فحسن وصف المؤنث بها.
وقرأ أكثر السبعة والأعرج وأبو جعفر: «كذلك تخرجون» بضم التاء وفتح الراء. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وعبد الله بن جبير المصيح: «وكذلك تخرجون» بفتح التاء وضم الراء.
و: الْأَزْواجَ الأنواع من كل شيء، ومِنَ في قوله: مِنَ الْفُلْكِ للتبعيض، وذلك أنه لا يركب من الأنعام غير الإبل، وتدخل الخيل والبغال والحمير فيما يركب بالمعنى. واللام في قوله:
لِتَسْتَوُوا لام الأمر، ويحتمل أن تكون لام كي، وما في قوله: ما تَرْكَبُونَ واقعة على النوع

(5/47)


وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)

المركوب، والضمير في: ظُهُورِهِ عائد على النوع الذي وقعت عليه ما.
وقد بينت آية ما يقال عند ركوب الفلك، وهو: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود: 41] وإنما هذه خاصة فيما يركب من الحيوان، ويقال (-) عند النزول منها: اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين. والسنة للراكب إذا ركب أن يقول: الحمد لله على نعمة الإسلام، أو على النعمة بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو على النعمة في كل حال، وقد روي هذا اللفظ عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سُبْحانَ الَّذِي الآية، وركب أبو مجلز لا حق بن حميد وقال: «سبحان الله» الآية، ولم يذكر نعمة، وسمعه الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال: ما هكذا أمرتم، قال أبو مجلز، فقلت له: كيف أقول؟ قال: قل الحمد لله الذي هدانا للإسلام، أو نحو هذا، ثم تقول بعد ذلك: سُبْحانَ الَّذِي الآية، وكان طاوس إذا ركب قال: اللهم هذا من منك وفضلك، ثم يقول: سُبْحانَ الَّذِي الآية، وإن قدرنا أن ذكر النعمة هو بالقلب والتذكير بدأ الراكب: ب سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ، وهو يرى نعمة الله في ذلك وفي سواه. والمقرن: الغالب الضابط المستولي على الأمر المطيق له. وروي أن بعض الأعراب ركب جملا فقيل له قل: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ فقال: أما والله إني لمقرن تياه، فضرب به الجمل فوقصه فقتله.
وقوله: وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أمر بالإقرار بالبعث وترداد القول به، وذلك داعية إلى استشعار النظر فيه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا ركب ولم يقل هذه الآية جاءه الشيطان فقال: «تغنه، فإن كان يحسن غنى، وإلا قال له تمنه، فيتمنى الأباطيل ويقطع زمنه بذلك» .
قوله عز وجل:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 19]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19)
الضمير في: جَعَلُوا لكفار قريش والعرب، والضمير في: لَهُ لله تعالى. والجزء: القطع من الشيء، وهو بعض الكل، فكأنهم جعلوا جزءا من عباده نصيبا له وحظا، وذلك في قول كثير من المتأولين قول العرب: الملائكة بنات الله، وقال بعض أهل اللغة الجزء: الإناث، يقال أجزأت المرأة إذا ولدت أنثى، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب ... قد تجزئ المرأة المذكار أحيانا
وقد قيل في هذا البيت إنه بيت موضوع. وقال قتادة: المراد بالجزء: الأصنام وفرعون وغيره ممن عبد

(5/48)


من دون الله، أي جزءا ندا، فعلى هذا التأويل فتعقيب الكفرة في فصلين في أمر الأصنام وفي أمر الملائكة، وعلى هذا التأويل الأول فالآية كلها في أمر الملائكة.
وقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أي بلفظ الجنس العام، والمراد بعض الإنسان، وهو هؤلاء الجاعلون ومن أشبههم. و: مُبِينٌ في هذا الموضع غير متعد.
وقوله تعالى: أَمِ اتَّخَذَ إضراب وتقرير، وهذه حجة بالغة عليهم. إذ المحمود من الأولاد والمحبوب قد خوله الله بني آدم، فكيف يتخذ هو لنفسه النصيب الأدنى. وَأَصْفاكُمْ معناه: خصكم وجعل ذلك صفوة لكم، ثم قامت الحجة عليهم في هذا المعنى وبانت بقوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ الآية.
ومُسْوَدًّا خبر: ظَلَّ. والكظيم: الممتلئ غيظا الذي قد رد غيظه إلى جوفه، فهو يتجرعه ويروم رده، وهذا محسوس عند الغيظ، ثم زاد توبيخهم وإفساد رأيهم بقوله: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا. و: مَنْ في موضع نصب بفعل يدل عليه: جَعَلُوا كأنه قال: أومن ينشأ في الحيلة وهو الذي خصصتم به الله ونحو هذا، والمراد به: مَنْ النساء، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي، و: يُنَشَّؤُا معناه: ينبت ويكبر.
وقرأ جمهور القراء: «ينشأ» بفتح الياء. وقرأ ابن عباس وقتادة: «ينشئ» بضم الياء على تعدية الفعل بالهمزة. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص: «ينشأ» بضم الياء وفتح الشين على تعدية الفعل بالتضعيف، وهي قراءة ابن عباس أيضا والحسن ومجاهد، وفي مصحف ابن مسعود: «أو من لا ينشأ إلا في الحلية» .
و: الْحِلْيَةِ الحلي من الذهب والفضة والأحجار. و: الْخِصامِ المحاجة ومجاذبة المحاورة، وقل ما تجد امرأة إلا تفسد الكلام وتخلط المعاني، وفي مصحف ابن مسعود: «وهو في الكلام غير مبين» .
و: مُبِينٍ في هذه الآية متعد، والتقدير غَيْرُ مُبِينٍ غرضا أو منزعا ونحو هذا. وقال ابن زيد: المراد ب: مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ الآية: الأصنام والأوثان، لأنهم كانوا يتخذون كثيرا منها من الذهب والفضة، وكانوا يجعلون الحلي على كثير منها.
ولما فرغ تعنيفهم على ما أتوا في جهة الله تعالى بقولهم: الملائكة بنات الله، بين تعالى فسادا في مقالتهم بعينها من جهة أخرى من الفساد، وذلك شنيع قولهم في عباد الله مختصين مقربين أنهم إناث.
وقرأ أكثر السبعة وابن عباس وابن مسعود وابن جبير وعلقمة: «عباد الرحمن إناثا» . وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «عند الرحمن إناثا» وهذه القراءة أدل على رفع المنزلة وقربها في التكرمة كما قيل: ملك مقرب، وقد يتصرف المعنيان في كتاب الله تعالى في وصف الملائكة في غير هذه الآية فقال تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: 26] ، وقال تعالى في أخرى: فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [فصلت: 38] ، وفي مصحف ابن مسعود:
«وجعلوا الملائكة عبد الرحمن إناثا» .
وقرأ نافع وحده «أأشهدوا» بالهمزتين وبلا مد بينهما، وبفتح الأولى وضم الثانية وتسهيلها بين الهمزة

(5/49)


وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)

والواو، ورواها المفضل عن عاصم بتحقيق الهمزتين. وقرأ المسيبي عن نافع بمد بين الهمزتين. وقرأ أبو عمرو ونافع أيضا وعلي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد: «أ. شهدوا» بتسهيل الثانية بلا مد. وقرأ جماعة من القراء بالتسهيل في الثانية ومدة بينهما. وقرأ آخرون: «أشهدوا» بهمزة واحدة بغير استفهام، وهي قراءة الزهري، وهي صفة لإناث، أي مشهدا خلقهم.
ومعنى الآية: التوبيخ وإظهار فساد عقولهم، وادعائهم وأنها مجردة من الحجة، وهذا نظير الآية الرادة على المنجمين وأهل الطبائع، وهي قوله تعالى: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [الكهف: 51] الآية.
وقرأ جمهور الناس: «ستكتب شهادتهم» برفع الشهادة وبناء الفعل للمفعول. وقرأ الأعرج وابن عباس وأبو جعفر وأبو حيوة: «سنكتب» بنون الجمع «شهادتهم» بالنصب. وقرأت فرقة: «سيكتب» بالياء على معنى: سيكتب الله «شهادتهم» بالنصب. وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «ستكتب شهاداتهم» على بناء الفعل للمفعول وجمع الشهادات.
وفي قوله تعالى: وَيُسْئَلُونَ وعيد مفصح. و: أَشَهِدُوا في هذه الآية معناه: أحضروا وليس ذلك من شهادة تحمل المعاني التي تطلب أن تؤدى.
قوله عز وجل:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 20 الى 25]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
ذكر الله تعالى احتجاج الكفار لمذهبهم ليبين فساد منزعهم، وذلك أنهم جعلوا إمهال الله لهم وإنعامه عليهم وهم يعبدون الأصنام، دليلا على أنه يرضى عبادة الأصنام دينا، وأن ذلك كالأمر به، فنفى الله عن الكفرة أن يكون لهم علم بهذا وليس عندهم كتاب منزل يقتضي ذلك، وإنما هم يظنون ويَخْرُصُونَ ويخمنون، وهذا هو الخرص والتخرص.
وقرأ جمهور الناس: «على أمة» بضم الهمزة، وهي بمعنى الملة والديانة، والآية على هذا تعيب عليهم التقليد. وقرأ مجاهد والعبدري وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: «على إمة» بكسر الهمزة وهي بمعنى النعمة، ومنه قول الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بإمته يعطي القطوط ويافق

(5/50)


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)

ومنه قول عدي بن زيد: [الخفيف]
ثم بعد الفلاح والملك والإم ... ة وارتهم هناك القبور
فالآية على هذا استمرار في احتجاجهم، لأنهم يقولون: وجدنا آباءنا في نعمة من الله وهم يعبدون الأصنام، فذلك دليل رضاه عنهم، وكذلك اهتدينا نحن بذلك عَلى آثارِهِمْ. وذكر الطبري عن قوم:
أن الأمة الطريقة، مصدر من قولك: أممت كذا أمة ثم ضرب تعالى المثل لنبيه محمد عليه السلام وجعل له الإسوة فيمن مضى من النذر والرسل، وذلك أن المترفين من قومهم وهم أهل التنعم والمال قد قابلوهم بمثل هذه المقالة.
وقرأ جمهور القراء: «قل أو لو» والمعنى: فقلنا للنذير قل. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم: «قال أو لو» ، ففي «قال» ضمير بعود على النذير. وباقي الآية يدل على أن: «قل» في قراءة من قرأها ليست بأمر لمحمد عليه السلام، وإنما هي حكاية لما أمر به النذير.
وقوله تعالى: أَوَلَوْ هي ألف الاستفهام دخلت على واو عطف جملة كلام على جملة متقدمة، ولَوْ في هذا الموضع كأنها شرطية بمعنى أن، كأن معنى الآية: وإن جئتكم بأبين وأوضح مما كان آباؤكم عليه فيصح لجاجكم وتقليدكم، فأجاب الكفار حينئذ لرسلهم: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ.
وفي قوله تعالى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ الآية وعيد لقريش وضرب مثل بمن سلف من الأمم المعذبة المكذبة بأنبيائها كما كذبت هي بمحمد عليه السلام.
وقرأ جمهور الناس: «أو لو جئتكم» وقرأ أبو جعفر وأبو شيخ وخالد: «أو لو جئناكم» . وقرأ الأعمش:
«أو لو أتيتم» .
قوله عز وجل:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 30]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30)
المعنى: واذكر إذا قال إبراهيم، ولما ضرب تعالى المثل لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنذر وجعلهم إسوة له، خص إبراهيم بالذكر لعظم منزلته، وذكر محمدا صلى الله عليه وسلم بمنابذة إبراهيم عليه السلام لقومه، أي فافعل أنت فعله وتجلد جلده. و: بَراءٌ صفة تجري على الواحد والاثنين والجميع كعدل وزور.
وقرأ جمهور الناس: «براء» بفتح الباء. وقرأت فرقة: «براء» بضم الباء. وفي مصحف عبد الله وقراءة الأعمش: «إني» بنون واحدة «برىء» قال الفراء: ومن الناس من يكتب شكل الهمزة المخففة ألفا في كل

(5/51)


وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

موضع، ولا يراعي حركة ما قبلها، قال: فربما كان خط مصحف عبد الله بألف كما في مصحف الجماعة، لكن كان يلفظ بها: «برىء» بكسر الراء.
وقوله: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي قالت فرقة: الاستثناء متصل، وكانوا يعرفون الله ويعظمونه، إلا أنهم كانوا يشركون معه أصنامهم، فكأن إبراهيم قال لهم: أنا لا أوافقكم إلا على عبادة الله الفاطر. وقالت فرقة:
الاستثناء منقطع، والمعنى: لكن الذي فطرني معبودي، وعلى هذا فلم يكونوا يعبدون الله إلا قليلا ولا كثيرا، وعلل إبراهيم لقومه عبادته بأنه الهادي المنجي من العذاب، وفي هذا استدعاء لهم وترغيب في الله وتطميع برحمته، والضمير في قوله: وَجَعَلَها كَلِمَةً قالت فرقة: ذلك عائد على كلمته بالتوحيد في قوله:
إِنَّنِي بَراءٌ وقال مجاهد وقتادة والسّدي، ذلك مراد به: لا إله إلا الله، وعاد الضمير عليها وإن كانت لم يجر لها ذكر، لأن اللفظ يتضمنها. وقال ابن زيد: المراد بذلك: الإسلام ولفظته، وذلك قوله عليه السلام:
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 128] وقوله: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ، قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [البقرة: 131] وقول الله تعالى هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الحج: 78] . والعقب: الذرية وولد الولد ما امتد فرعهم.
قوله عز وجل: بَلْ مَتَّعْتُ الآية، كلام متصل بما قبله، لأنه لما قال في عقبه، وكانت قريش من عقبه، اقتضى الكلام أن يقدر فيه لكن هؤلاء ليسوا ممن بقيت الكلمة فيهم بل متعتهم. والمعنى في الآية:
بل أمهلت هؤلاء ومتعتهم بالنعمة مع كفرهم حتى جاءهم الحق والرسول، وذلك هو شرع الإسلام.
والرسول: محمد عليه السلام.
و: «متعت» بضم التاء هي قراءة الجمهور. وقرأ قتادة: «متعت» بفتح التاء الأخيرة على معنى: قل يا رب متعت، ورواها يعقوب عن نافع. وقرأ الأعمش: «بل متعنا» ، وهي تعضد قراءة الجمهور.
و: مُبِينٌ في هذه الآية يحتمل التعدي وترك التعدي.
ثم أخبر تعالى عنهم على جهة التقريع بأنهم قالُوا للقرآن: هذا سِحْرٌ وأنهم كفروا به، وإنما جعلوه بزعمهم سحرا من حيث كان عندهم يفرق بين المرء وولده وزوجه، فجعلوه لذلك كالسحر، ولم ينظروا إلى الفرق في أن المفارق بالقرآن يفارق عن بصيرة في الدين، والمفارق بالسحر يفارق عن خلل في ذهنه.
قوله عز وجل:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 31 الى 35]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

(5/52)


الضمير في: قالُوا لقريش، وذلك أنهم استبعدوا أولا أن يرسل الله بشرا، فلما تقرر أمر موسى وعيسى وإبراهيم ولم يكن لهم في ذلك مدفع، رجعوا يناقضون فيما يخض محمدا عليه السلام بعينه، فقالوا: لم كان محمد ولم يكن نزول الشرع عَلى رَجُلٍ من إحدى الفرقتين عَظِيمٍ، وقدر المبرد قولهم على رجل من رجلين من القريتين، والقريتان: مكة والطائف، ورجل مكة الذي أشاروا إليه: قال ابن عباس وقتادة هو: الوليد بن المغيرة المخزومي. وقال مجاهد هو: عتبة بن ربيعة. وقال قتادة: بلغنا أنه لم يبق فخذ من قريش إلا ادعاه. ورجل الطائف قال قتادة هو: عروة بن مسعود. وقال ابن عباس: حبيب بن عبد بن عمير. وقال مجاهد: كنانة بن عبد ياليل.
قال القاضي أبو محمد: وإنما قصدوا إلى من عظم ذكره بالسن والقدم، وإلا فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان حينئذ أعظم من هؤلاء، لكن لما عظم أولئك قبل مدة النبي وفي صباه استمر ذلك لهم.
ثم وقف على جهة التوبيخ لهم بقوله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ المعنى على اختيارهم وإرادتهم تنقسم الفضائل والمكانة عند الله. والرحمة: اسم يعم جميع هذا. ثم أخبر تعالى خبرا جازما بأنه قاسم المعايش والدرجات في الدنيا ليسخر بعض الناس بعضا، المعنى: فإذا كان اهتمامنا بهم أن نقسم هذا الحقير الفاني، فأحرى أن نقسم الأهم الخطير.
وفي قوله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ تزهيد في السعايات، وعون على التوكل على الله تعالى، ولله در القائل: [الرجز] لما أتى نحن قسمنا بينهم زال المرا وقرأ الجمهور: «معيشتهم» . وقرأ ابن مسعود والأعمش: «معائشهم» .
وقرأ جمهور الناس «سخريا» بضم السين. وقرأ أبو رجاء وابن محيصن: «سخريا» بكسر السين، وهما لغتان في معنى التسخير، ولا مدخل لمعنى الهزء في هذه الآية.
وقوله تعالى: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ قال قتادة والسدي: يعني الجنة.
قال القاضي أبو محمد: لا شك أن الجنة هي الغاية، ورحمة الله في الدنيا بالهداية، والإيمان خير من كل مال، وهذا اللفظ تحقير للدنيا، ثم استمر القول في تحقيرها بقوله: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ الآية، وذلك أن معنى الآية: أن الله تعالى أبقى على عبيده وأنعم بمراعاة بقاء الخير والإيمان وشاء حفظه على طائفة منهم بقية الدهر، ولولا كراهية أن يكون الناس كفارا كلهم وأهل حب في الدنيا وتجرد لها لوسع على الكفار غاية التوسعة ومكنهم من الدنيا، إذ حقارتهم عنده تقتضي ذلك، لأنها لا قدر لها ولا وزن لفنائها وذهاب رسومها، فقوله: أُمَّةً واحِدَةً معناه: في الكفر، قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي، ومن

(5/53)


وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)

هذا المعنى قول النبي عليه السلام: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» ثم يتركب معنى الآية على معنى هذا الحديث. واللام في قوله: لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لام الملك.
واللام في قوله: لِبُيُوتِهِمْ لام تخصيص، كما تقول: هذا الكساء لزيد لدابته، أي هو لدابته حلس ولزيد ملك. قال المهدوي: ودلت هذه الآية على أن السقف لرب البيت الأسفل لا لصاحب العلو، إذ هو منسوب إلى البيوت، وهذا تفقه واهن.
وقرأ جمهور القراء: «سقفا» بضم السين والقاف. وقرأ مجاهد: «سقفا» بضم السين وسكون القاف على الإفراد.
والمعارج: الأدراج التي يطلع عليها، قاله ابن عباس وقتادة والناس. وقرأ طلحة: «معاريج» بزيادة ياء. و: يَظْهَرُونَ معناه يعلون، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها: والشمس في حجرتها لم تظهر.
والسرر: جمع سرير.
واختلف الناس في الزخرف، فقال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي: الزخرف: الذهب نفسه وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: «إياكم والحمزة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان» .
قال القاضي أبو محمد: الحسن أحمر، والشهوات تتبعه.
وقال ابن زيد: الزخرف: أثاث البيت وما يتخذ له من الستور والنمارق ونحوه. وقالت فرقة:
الزخرف: التزاويق والنقش ونحوه من التزيين وشاهد هذا القول: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ [يونس: 24] .
وقرأ جمهور القراء: «وإن كل ذلك لما» بتخفيف الميم من «لما» ف «إن» مخففة من الثقيلة، واللام في: «لما» داخلة لتفصل بين النفي والإيجاب. وقرأ عاصم وحمزة وهشام بخلاف عنه، والحسن وطلحة والأعمش وعيسى: «لمّا متاع» بتشديد الميم من «لمّا» فإن «لمّا» نافية بمعنى ما. ولَمَّا: بمعنى: إلا، وقد حكى سيبويه نشدتك الله لما فعلت، وحمله على إلا. وفي مصحف أبي بن كعب: «وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا» . وقرأ أبو رجاء: «لما» بكسر اللام وتخفيف، الميم، ف «ما» بمعنى الذي، والعائد عليها محذوف، والتقدير: وإن كل ذلك للذي هو متاع الحياة الدنيا.
وفي قوله تعالى: وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ وعد كريم وتحريض على التقوى، إذ في الآخرة هو التباين في المنازل.
قوله عز وجل:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 39]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
مَنْ في قوله: وَمَنْ يَعْشُ شرطية، وعشى يعشو، معناه: قل الإبصار منه كالذي يعتري في

(5/54)


الليل، وكذلك هو الأعشى من الرجال، ويقال أيضا: عشى الرجل يعشي عشاء إذا فسد بصره فلم ير، أو لم ير إلا قليلا.
وقرأ قتادة ويحيى بن سلام البصري: «ومن يعش» بفتح الشين، وهي من قولهم: عشى يعشي، والأكثر عشى يعشو، ومنه قول الشاعر [الحطيئة] : [الطويل]
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
وفي شعر آخر [عبد الله بن الحر] :
تجد حطبا جزلا وجمرا تأججا وقرأ الأعمش: «ومن يعش عن الرحمن» ، وسقط: ذِكْرِ.
فالمعنى في الآية: ومن يقل نظره في شرع الله ويغمض جفونه عن النظر في ذكر الرحمن، أي فيما ذكر به عباده، فالمصدر إلى الفاعل، نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً أي نيسر له ونعد، وهذا هو العقاب على الكفر بالحتم وعدم الفلاح، وهذا كما يقال: إن الله يعاقب على المعصية بالتزيد في المعاصي، ويجازي على الحسنة بالتزيد من الحسنات، وقد روي هذا المعنى مرفوعا.
وقرأ الجمهور: «نقيض» بالنون. وقرأ الأعمش: «يقيض» ، بالياء «شيطانا» ، أي يقيض الله. وقرأ ابن عباس: «يقيّض له شيطان» ، بفتح الياء الثانية وشدها ورفع النون من «شيطان» .
والضمير في قوله: وَإِنَّهُمْ عائد على الشياطين. وفي: «يصدونهم» على الكفار.
و: السَّبِيلِ هي سبيل الهدى والفوز. والضمير في: يَحْسَبُونَ للكفار.
وقرأ نافع وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر وأبو جعفر وشيبة وقتادة والزهري والجحدري: «حتى إذا جاءانا» على التثنية، يريد العاشي والقرين، قاله سعيد الجريري وقتادة. وقرأ أبو عمرو والحسن وابن محيصن والأعرج وعيسى والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي: «جاءنا» يريد العاشي وحده. وفاعل: قالَ هو العاشي.
وقوله: بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ يحتمل ثلاثة معان، أحدهما: أن يريد بعد المشرق من المغرب، فسماهما مشرقين، كما يقال: القمران والعمران، قال الفرزدق:
لما قمراها والنجوم الطوالع والثاني: أن يريد مشرق الشمس في أطول يوم، ومشرقها في أقصر يوم، فكأنه أخذ نهايتي المشارق. والثالث: أن يريد بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ من المغربين، فاكتفى بذكر الْمَشْرِقَيْنِ.
وقوله تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ الآية حكاية عن مقالة تقال لهم يوم القيامة، وهي مقالة موحشة حرمتهم روح التأسي، لأنه يوقفهم بها على أنهم لا ينفعهم التأسي، وذلك لعظم المصيبة وطول العذاب واستمرار مدته، إذ التأسي راحة كل شيء في الدنيا في الأغلب، ألا ترى إلى قول الخنساء: [الوافر]

(5/55)


أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
فهذا التأسي قد كفاها مؤونة قتل النفس، فنفى الله تعالى عنهم الانتفاع بالتأسي، وفي ذلك تعذيب لهم ويأس من كل خير، وفاعل قوله: يَنْفَعَكُمُ الاشتراك.
وقرأ جمهور القراء: «أنكم» بفتح الألف. وقرأ ابن عامر وحده: «إنكم» بكسر الألف، وقد يجوز أن يكون الفاعل يَنْفَعَكُمُ التبري الذي يدل عليه قوله: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ وعلى هذا يكون «أنكم» في موضع نصب على المفعول من أجله، وتخرج الآية على معنى نفي الأسوة.
قوله عز وجل:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 40 الى 45]
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
لما ذكر تعالى حال الكفرة في الآخرة وما يقال لهم وهم في العذاب، اقتضى ذلك أن تشفق النفوس، وأن ينظر كل سامع لنفسه ويسعى في خلاصها، فلما كانت قريش مع هذا الذي سمعت لم تزل عن عتوها وإعراضها عن أمر الله، رجعت المخاطبة إلى محمد عليه السلام على جهة التسلية له عنهم وشبههم ب الصُّمَّ والْعُمْيَ، إذ كانت حواسهم لا تفيد شيئا.
وقوله: وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يريد بذلك قريشا بأنفسهم، ولذلك لم يقل: «من كان» بل جاء بالواو العاطفة، كأنه يقول: وهؤلاء، ويؤيد ذلك أيضا عود الضمير عليهم في قوله: فَإِنَّا مِنْهُمْ ولم يجر لهم ذكر إلا في قوله: وَمَنْ كانَ.
وقوله تعالى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ الآية تتضمن وعيدا واقعا، وذهب جمهور العلماء إلى أن المتوعدين هم الكفار، وأن الله تعالى أرى نبيه الذي توعدهم في بدر والفتح وغير ذلك، وذهب الحسن وقتادة إلى أن المتوعدين هم في هذه الأمة، وأن الله تعالى أكرم نبيه على أن ينتقم منهم بحضرته وفي حياته، فوقعت النقمة منهم بعد أن ذهب به، وذلك في الفتن الحادثة في صدر الإسلام مع الخوارج وغيرهم، قال الحسن وقتادة: أكرم الله نبيه على أن يرى في أمته ما يكره كما رأى الأنبياء، فكانت بعد ذهابه صلى الله عليه وسلم، وقد روي حديث عن جابر بن عبد الله أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ فقال: بعلي بن أبي طالب والقول الأول من توعد الكفار أكثر، ثم أمر تعالى نبيه بالتمسك بما جاء من عند الله من الوحي المتلو وغيره. والصراط: الطريق.

(5/56)


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)

وقرأ الجمهور: «أوحي» على بناء الفعل للمفعول. وقرأ الضحاك: «أوحى» على الفعل المبني للفاعل، أي أوحى الله.
وقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ يحتمل أن يريد وإنه لشرف وحمد في الدنيا. والقوم: على هذا قريش ثم العرب، وهذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وابن زيد. قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل، فإذا قالوا له: فلمن يكون الأمر بعدك؟ سكت حتى نزلت هذه الآية، فكان إذا سئل بعد ذلك، قال لقريش، فكانت العرب لا تقبل على ذلك حتى قبلته الأنصار وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان» وروى أبو موسى الأشعري عنه صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الأمر في قريش ما زالوا، إذا حكوا عدلوا، وإذا استرحموا رحموا، وإذا عاهدوا وفوا، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» . وروى معاوية أنه عليه السلام قال: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما أقاموا الدين» . ويحتمل أن يريد وإنه لتذكرة وموعظة، ف «القوم» على هذا أمة بأجمعها، وهذا قول الحسن بن أبي الحسن، وقوله: وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ قال ابن عباس وغيره معناه: عن أوامر القرآن ونواهيه: وقال الحسن بن أبي الحسن معناه: عن شكر النعمة فيه، واللفظ يحتمل هذا كله ويعمه.
واختلف المفسرون في المراد بالسؤال في قوله: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا فقالت فرقة، أراد: أن اسأل جبريل، ذكر ذلك النقاش، وفيه بعد. وقال ابن زيد وابن جبير والزهري، أراد: واسأل الرسل إذا لقيتهم ليلة الإسراء، أما أن النبي عليه السلام لم يسأل الرسل ليلة الإسراء عن هذا، لأنه كان أثبت يقينا من ذلك ولم يكن في شك. وقالت فرقة، أراد: واسألني، أو واسألنا عمن أرسلنا، والأولى على هذا التأويل أن يكون:
مَنْ أَرْسَلْنا استفهاما أمره أن يسأل له، كأن سؤاله: يا رب من أرسلت قبلي من رسلك؟ أجعلت في رسالته الأمر بآلهة يعبدون؟ ثم ساق السؤال محكي المعنى، فرد المخاطبة إلى محمد عليه السلام في قوله:
مِنْ قَبْلِكَ. وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي وعطاء، أراد: وسل تباع من أرسلنا وحملة شرائعهم، لأن المفهوم أنه لا سبيل إلى سؤاله الرسل إلا بالنظر في آثارهم وكتبهم وسؤال من حفظها.
وفي قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب: «وسئل الذين أرسلنا إليهم رسلنا» ، فهذه القراءة تؤيد هذا المعنى، وكذلك قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] مفهوم إنه لا يسأل إلا أهلها، ومما ينظر إلى هذا المعنى قوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] فمفهوم أن الرد إنما هو إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأن المحاور في ذلك إنما هم تباعهم وحفظة الشرع.
وقوله: يُعْبَدُونَ أخرج ضميرهم على حد من يعقل مراعاة للفظ الآلهة.
قوله عز وجل:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 50]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)

(5/57)


وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)

هذه آية ضرب مثل وإسوة لمحمد عليه السلام بموسى عليه السلام ولكفار قريش بفرعون وَمَلَائِهِ. والآيات التي أرسل بها موسى وهي التسع المذكورة وغير ذلك مما جاءت به الروايات، وخص الملأ بالذكر لأنهم يسدون مسد جميع الناس، ثم وصفهم تعالى بالضحك من آيات موسى، كما كانت قريش تضحك وتسخر من أخبار محمد عليه السلام، ثم وصف تعالى صورة عرض الآيات عليهم وإنما كانت شيئا بعد شيء.
وقوله: إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها عبارة عن شدة موقعها في نفوسهم بحدة أمرها وحدوثه، وذلك أن أول آية عرض موسى هي: العصا واليد، وكانت أكبر آياته، ثم كل آية بعد ذلك كانت تقع فيعظم عندهم لحينها وتكبر، لأنهم قد كانوا أنسوا التي قبلها، فهذا كما قال الشاعر: [الطويل]
على أنها تعفو الكلوم وإنما ... توكل بالأدنى وان جل ما يقضى
وذهب الطبري إلى أن الآيات هي الحجج والبينات. ثم ذكر تعالى أخذهم بالعذاب في العمل والضفادع والدم وغير ذلك، وهذا كما أخذ قريش بالسنين والدخان.
وقوله: لَعَلَّهُمْ ترج بحسب معتقد البشر وظنهم. و: يَرْجِعُونَ معناه: يتوبون ويقلعون.
وقوله تعالى: وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ جائز أن يكون قائل ذلك من أعلمهم بكفر السحر فيقول: قوله استهزاء وهو يعلم قدر السحر وانحطاط منزلته، ويكون قوله: عِنْدَكَ بمعنى: في زعمك وعلى قولك، ويحتمل أن يكون القائل ليس من المتمردين الحذاق ويطلق لفظة الساحر لأحد وجهين، إما لأن السحر كان عند عامتهم علم الوقت، فكأنه قال: يا أيه العالم، وإما لأن هذه الاسمية قد كانت انطلقت عندهم على موسى لأول ظهورها، فاستصحبها هذا القائل في مخاطبة قلة تحرير وغباوة، ويكون القول على هذا التأويل جدا من القائل، ويكون قوله: إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ بمعنى إن نفعتنا دعوتك، وهذا التأويل أرجح، أعني أن كلام هذا القائل مقترن بالجد.
وقرأ ابن عامر وحده: «يا أي» بياء مضمومة فقط.
ثم أخبر عنهم أنه لما كشف عنهم العذاب نكثوا، ولو كان الكلام هزلا من أوله لما وقع نكث.
قوله عز وجل:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 51 الى 56]
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)

(5/58)


نداء فرعون يحتمل أن يكون بلسانه في ناديه، ويحتمل أن يكون بأن أمر من ينادي في الناس، ومعنى هذه الحجة التي نادى بها أنه أراد أن يبين فضله على موسى، إذ هو ملك مصر، وصاحب الأنهار والنعم، وموسى خامل متقلل لا دنيا له، قال: فلو أن إله موسى يكون حقا كما يزعم، لما ترك الأمر هكذا.
و: مِصْرَ من بحر الإسكندرية إلى أسوان بطول النيل. و: الْأَنْهارُ التي أشار إليها هي الخلجان الكبار الخارجة من النيل وعظمها نهر الإسكندرية وتنيس ودمياط ونهر طولون.
وقوله: أَمْ أَنَا خَيْرٌ قال سيبويه: أَمْ هذه المعادلة، والمعنى: أم أنتم لا تبصرون، فوضع موضع قوله: أم تبصرون الأمر الذي هو حقيق أن يبصر عنده، وهو أنه خير من موسى. و «لا» على هذا النظر نافية.
وقالت فرقة: أَفَلا تُبْصِرُونَ أم لا تبصرون، ثم اقتصر على أَمْ لدلالة ظاهر الكلام على المحذوف منه، وابتدأ قوله: أَنَا خَيْرٌ إخبارا منه، فقوله: أَفَلا على هذا النظر بمنزلة: هلا ولولا على معنى التخصيص. وقالت فرقة: أَبمعنى بل.
وقرأ بعض الناس: «أما أنا خير» ، حكاه الفراء، وكان مجاهد يقف على أَمْ ثم يبتدئ: أَنَا خَيْرٌ. قال قتادة: وفي مصحف أبي بن كعب: «أم أنا خير أم هذا» . ومَهِينٌ معناه ضعيف وقوله:
وَلا يَكادُ يُبِينُ إشارة إلى ما بقي في لسان موسى من أثر الجمرة، وذلك أنها كانت أحدثت في لسانه عقدة، فلما دعا في أن تحل ليفقه قوله، أجيبت دعوته، لكنه بقي أثر كان البيان يقع منه، لكن فرعون عير به. وقوله: وَلا يَكادُ يُبِينُ يقتضي أنه كان يبين.
وقرأ أبو جعفر بن علي: «يبين» بفتح الياء الأولى.
وقوله: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ يريد من السماء على معنى التكرمة.
وقراءة الجمهور: «ألقي» على بناء الفعل للمفعول. وقرأ الضحاك: «ألقى» بفتح الهمزة والقاف على بنائه للفاعل «أساورة» نصبا.
وقرأ جمهور القراء: «أساورة» وقرأ حفص عن عاصم: «أسورة» ، وهي قراءة الحسن والأعرج وقتادة وأبي رجاء ومجاهد. وقرأ أبي بن كعب: «أساور» . وفي مصحف ابن مسعود: «أساوير» ، ويقال سوار وأسوار لما يجعل في الذراع من الحلي، حكى أبو زيد اللغتين وأبو عمرو بن العلاء، وهو كالقلب، قاله ابن عباس، وكانت عادة الرجال يومئذ حبس ذلك والتزيي به. و: أساورة جمع أسوار، ويجوز أن يكون جمع أسورة، كأسقية وأساقي، وكذلك: أساور، جمع أسوار. والهاء في: أساورة عوض من الياء المحذوفة، لأن الجمع إنما هو أساوير كما في مصحف ابن مسعود، فحذفوا الياء وجعلوا الهاء عوضا منها،

(5/59)


وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)

كما فعلوا ذلك في زنادقة وبطارقة وغير ذلك، وأساورة: جمع سوار.
وقوله: مُقْتَرِنِينَ أي يحمونه ويشهدون له ويقيمون حجته. ثم أخبر تعالى عن فرعون أنه استخف قومه بهذه المقالة، أي طلب خفتهم وإجابتهم إلى غرضه، فأجابوه إلى ذلك وأطاعوه في الكفر لفسقهم ولما كانوا بسبيله من الفساد. و: آسَفُونا معناه: أغضبونا بلا خلاف، وإغضاب الله تعالى هو أن تعمل الأعمال الخبيثة التي تظهر من أجلها أفعاله الدالة على إرادة السوء بمن شاء. والغضب على هذا صفة فعل، وهو مما يتردد، فإذا كان بمعنى ما يظهر من الأفعال، فهو صفة فعل، وإذا رد إلى الإرادة فهو صفة ذات، وفي هذا نظر.
وقرأ جمهور القراء: «سلفا» بفتح السين واللام جمع سالف، كحارس وحرس. والسلف: هو الفارط من الأمم المتقدم، أي جعلناهم متقدمين للأمم الكافرة عظة ومثلا لهم يعتبرون بهم، أو يقعون فيما وقعوا فيه، ومن هذه اللفظة قول النبي عليه السلام: «يذهب الصالحون أسلافا» ، وقوله في ولده إبراهيم: «ندفنه عند سلفنا الصالح عثمان بن مظعون» . وقرأ حميد الأعرج وحمزة والكسائي: «سلفا» بضم السين واللام، وهي قراءة عبد الله وأصحابه وسعد بن عياض وابن كثير، وهو جمع: سليف. وذكر الطبري عن القاسم بن معن أنه سمع العرب تقول: مضى سلف من الناس، بمعنى السلف. وقرأ علي بن أبي طالب وحميد الأعرج أيضا: «سلفا» بضم السين وفتح اللام، كأنه جمع سلفة، بمعنى الأمة والقطعة. والآخرون: هو من يأتي من البشر إلى يوم القيامة.
قوله عز وجل:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 62]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
روي عن ابن عباس وغيره في تفسير هذه الآية، أنه لما نزلت: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ، فَيَكُونُ [آل عمران: 59] ونزل مع ذلك ذكر عيسى وحاله وكيف خلق من غير فحل، قالت فرقة: ما يريد محمد من ذكر عيسى إلا أن نعبده نحن كما عبدت النصارى عيسى، فهذا كان صدورهم من ضربه مثلا.
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو جعفر والأعرج والنخعي وأبو رجاء وابن وثاب: «يصدون» بضم الصاد، بمعنى: يعرضون. وقرأ الباقون وابن عباس وابن جبير والحسن وعكرمة: «يصدون» بكسر الصاد، بمعنى يضحكون، وأنكر ابن عباس ضم الصاد، ورويت عن علي بن أبي طالب، وقال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، مثل «يعرشون ويعرشون» .

(5/60)


وقوله تعالى: آلِهَتُنا ابتداء معنى ثان، وذلك أنه لما نزلت إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] جاء عبد الله بن الزعبري ونظراؤه فقالوا: نحن نخصم محمدا: آلهتنا خير أم عيسى؟ وعلموا أن الجواب أن يقال عيسى، قالوا، وهذه آية الحصب لنا أو لكل الأمم من الكفار فقال النبي عليه السلام: بل لكل من تقدم أو تأخر من الكفار، فقالوا نحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى، إذ هو خير منها، وإذ قد عبد فهو من الحصب إذا، فقال: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي ما مثلوا هذا التمثيل إلا جدلا منهم ومغالطة، ونسوا أن عيسى لم يعبد برضى منه ولا عن إرادة، ولا له في ذلك ذنب.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «أأالهتنا» بهمزة استفهام وهمزة بعدها بين بين وألف بعدها. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: بهمزتين مخففتين بعد الثانية ألف. وقرأ ورش عن نافع: بغير استفهام:
«آلهتنا» على مثال الخبر. وقرأ قالون عن نافع: «ءالهتنا» على الاستفهام بهمزة واحدة بعدها مدة. وفي مصحف أبي بن كعب: «خير أم هذا» ، فالإشارة إلى محمد، وخرجت هذه القراءة على التأويل الأول الذي فسرناه، وكذلك قالت فرقة ممن قرأ: أَمْ هُوَ إن الإرادة محمد عليه السلام، وهو قول قتادة. وقال ابن زيد والسدي المراد ب هُوَ عيسى، هذا هو المترجح.
والجدال عند العرب: المحاورة بمغالطة أو تحقيق أو ما اتفق من القول إنما المقصد به أن يغلب صاحبه في الظاهر إلا أن يتطلب الحق في نفسه، وروى أبو أمامة عن النبي عليه السلام أنه قال: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل» ، ثم قرأ: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا قال أبو أمامة: ورأى عليه السلام قوما يتنازعون، فغضب حتى كأنما صب في وجهه الخل، وقال: «لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فما ضل قوم إلا أوتوا الجدل» ثم أخبر تعالى عنهم أنهم أهل خصام ولدد، وأخبر عن عيسى أنه عبد أنعم الله عليه بالنبوءة والمنزلة العالية، وجعله مثلا لبني إسرائيل.
وقوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ الآية، أي لا تستغربوا أن يخلق عيسى من غير فحل، فإن القدرة تقضي ذلك وأكثر منه.
وقوله: لَجَعَلْنا مِنْكُمْ معناه: لجعلنا بدلا منكم، أي لو شاء الله لجعل بدلا من بني آدم ملائكة يسكنون الأرض ويخلفون بني آدم فيها. وقال مجاهد وابن عباس: يخلف بعضهم بعضا. والضمير في قوله: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد: الإشارة به إلى عيسى. وقالت فرقة: إلى محمد عليه السلام. وقال الحسن أيضا وقتادة: إلى القرآن.
وقرأ جمهور الناس: «لعلم» بكسر العين وسكون اللام. وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة وأبو هند الغفاري ومجاهد وأبو نضرة ومالك بن دينار والضحاك: «لعلم» بفتح العين واللام، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس: «للعلم» بلامين، الأولى مفتوحة. وقرأ أبي بن كعب: «لذكر للساعة» .
فمن قال إن الإشارة إلى عيسى حسن مع تأويله علم وعلم أي هو إشعار بالساعة وشرط من أشراطها،

(5/61)


وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)

يعني خروجه في آخر الزمان، وكذلك من قال: الإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، أي هو آخر الأنبياء، فقد تميزت الساعة به نوعا وقدرا من التمييز، وبقي التحديد التام الذي انفرد الله بعلمه، ومن قال:
الإشارة إلى القرآن، حسن قوله في قراءة من قرأ: «لعلم» بكسر العين وسكون اللام، أي يعلمكم بها وبأهوالها وصفاتها، وفي قراءة من قرأ: «لذكر» .
وقوله: فَلا تَمْتَرُنَّ أي قل لهم يا محمد لا تشكون فيها. وقوله: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ إشارة إلى الشرع، ثم أمره بتحذير العباد من الشيطان وإغوائه ونبههم على عداوته.
قوله عز وجل:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 63 الى 68]
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67)
يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
«البينات» التي جاء بها عيسى عليه السلام هي: إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، إلى غير ذلك. وقال قتادة: الإنجيل. والحكمة: النبوءة قاله السدي وغيره.
وقوله: وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ قال أبو عبيدة: بَعْضَ بمعنى كل، وهذا ضعيف ترده اللغة، ولا حجة له من قول لبيد:
أو يعتلق بعض النفوس حمامها لأنه أراد نفسه ونفس من معه، وذلك بعض النفوس، وإنما المعنى الذي ذهب إليه الجمهور، أن الاختلاف بين الناس هو في أمور كثيرة لا تحصى عددا، منها أمور أخروية ودينية، ومنها ما لا مدخل له في الدين، فكل نبي فإنما يبعث ليبين أمر الأديان والآخرة، فذلك بعض ما يختلف فيه.
وقوله تعالى: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ حكاية عن عيسى عليه السلام إذ أشار إلى شرعه.
و: الْأَحْزابُ المذكورون: قال جمهور المفسرين أراد: اختلف بنو إسرائيل وتحزبوا، فمنهم من آمن به، وهو قليل، وكفر الغير، وهذا إذا كان معهم حاضرا. وقال قتادة: الْأَحْزابُ هم الأربعة الذين كان الرأي والمناظرة صرفت إليهم في أمر عيسى عليه السلام. وقال ابن حبيب وغيره: الْأَحْزابُ النصارى افترقت مذاهبهم فيه بعد رفعه عليه السلام، فقالت فرقة: هو الله، وهم اليعقوبية قال الله عز وجل: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 17] . وقالت فرقة: هو ابن الله، وهم النسطورية قال الله تعالى فيهم: وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] ، وقالت فرقة: هو ثالث ثلاثة، وهم

(5/62)


الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)

الملكانية قال الله تعالى فيهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة: 73] .
وقوله تعالى: مِنْ بَيْنِهِمْ بمعنى من تلقائهم ومن أنفسهم ثار شرهم، ولم يدخل عليهم الاختلاف من غيرهم. والضمير في: يَنْظُرُونَ لقريش، والمعنى: ينتظرون. و: بَغْتَةً معناه: فجأة دون مقدمة ولا إنذار بها.
ثم صرف تعالى بعض حال القيامة، وإنها لهول مطلعها والخوف المطبق بالناس فيها يتعادى ويتباغض كل خليل كان في الدنيا على غير تقى، لأنه يرى أن الضرر دخل عليه من قبل خليله، وأما المتقون فيرون أن النفع دخل بهم من بعضهم على بعض، هذا معنى كلام علي رضي الله عنه.
وقوله: يا عِبادِ المعنى يقال لهم، أي للمتقين.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: «يا عبادي» بفتح الياء، وهذا هو الأصل. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر: «يا عبادي» بسكون الياء. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم «يا عباد» بحذف الياء.
قال أبو علي: وحذفها أحسن، لأنه في موضع تنوين وهي قد عاقبته، فكما يحذف التنوين في الاسم المنادى المفرد، كذلك تحذف الياء هنا لكونها على حرف، كما أن التنوين كذلك، ولأنها لا تنفصل من المضاف كما لا ينفصل التنوين من المنون.
وذكر الطبري عن المعتمر عن أبيه أنه قال: سمعت أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع، فينادي مناد: لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ فيرجوها الناس كلهم، قال فيتبعها. الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ [الزخرف: 69] قال: فييأس منها جميع الكفار.
وقرأ الحسن والزهري وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر ويعقوب: «لا خوف» بنصب الفاء من غير تنوين. وقرأ ابن محيصن برفع الفاء من غير تنوين.
قوله عز وجل:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 69 الى 73]
الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)
الَّذِينَ نعت للعباد في قوله: يا عِبادِ [الزخرف: 68] . ثم ذكر أمره إياهم بدخول الجنة هم وأزواجهم. و: تُحْبَرُونَ معناه: تنعمون وتسرون. والحبرة: السرور. والأكواب: ضرب من الأواني كالأباريق، إلا أنها لا آذان لها ولا مقابض.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر وشيبة: «ما تشتهيه» بإثبات الهاء الأخيرة وكذلك

(5/63)


إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)

في مصحف المدينة ومصاحف الشام، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم والجمهور: «ما تشتهي» بحذف الهاء، وكذلك وقع في أكثر المصاحف وحذفها من الصلة لطول القول حسن، وكذلك كثر في التنزيل كقوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ [الفرقان: 41] وفي قوله: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: 58] وغير ذلك، وفي مصحف ابن مسعود: «ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين» .
وقوله تعالى: أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ليس المعنى أن الأعمال أوجبت على الله إدخالهم الجنة، وإنما المعنى: أن حظوظهم منها على قدر أعمالهم، وأما نفس دخول الجنة وأن يكون من أهلها فبفضل الله وهداه.
قوله عز وجل:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 81]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81)
لما ذكر تعالى حال أهل الجنة وما يقال لهم، عقب ذلك بذكر حال الكفرة من الخلود في النار ولتتضح الأمور التي منها النذارة، والمجرمون في هذه الآية: الكفار، بدليل الخلود وما تتضمنه الألفاظ من مخاطبة مالك وغيره. والمبلس: المبعد اليائس من الخيرة، قاله قتادة وغيره.
وقرأ ابن مسعود: «وهم مبلسون» أي في جهنم.
وقوله تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ أي ما وضعنا العذاب فيمن لا يستحقه، ولكن هم ظلموا في أن وضعوا العبادة فيمن لا يستوجبها وضعفوا الكفر والتفريط في جنب الله تعالى.
وقرأ الجمهور: «كانوا هم الظالمين» على الفصل. وقرأ ابن مسعود: «هم الظالمون» على الابتداء والخبر، وأن تكون الجملة خبر «كان» .
ثم ذكر تعالى عن أهل النار أنهم ينادون مالكا خازن النار، فيقولون على معنى الرغبة التي هي في صيغة الأمر لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي ليمتنا مرة حتى يتكرر عذابنا.
وقرأ النبي عليه السلام على المنبر: «يا مالك» بالكاف، وهي قراءة الجمهور. وقرأ ابن مسعود ويحيى والأعمش: «يا مال» بالترخيم، ورويت عن علي بن أبي طالب، ورواها أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والقضاء في هذه الآية بمعنى الموت، كما قال تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [القصص: 15] وروي في تفسير هذه الآية عن ابن عباس أن مالكا يقيم بعد سؤالهم ألف سنة، وقال

(5/64)


نوف: مائة سنة، وقيل: ثمانين سنة. وقال عبد الله بن عمر: وأربعين سنة، ثم حينئذ يقول لهم: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ.
وقوله: لَقَدْ جِئْناكُمْ الآية، يحتمل أن يكون من قول مالك لأهل النار، ويكون قوله: جِئْناكُمْ (على حد ما يدخل أحد جملة الرئيس كناية عن نفسه في فعل الرئيس فيقول غلبناكم وفعلنا بكم ونحو هذا، ثم ينقطع كلام مالك في قوله: كارِهُونَ ويحتمل أن يكون قوله: جِئْناكُمْ من قول الله تعالى لقريش بعقب حكاية أمر الكفار مع مالك، وفي هذا توعد وتخويف فصيح، بمعنى انظروا كيف تكون حالكم، ثم تتصل الآية على هذا بما بعدها من أمر قريش.
وقوله تعالى: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً من أمور كفرهم وتدبيرهم على عهد محمد صلى الله عليه وسلم كما فعلوا في اجتماعهم على قتله في دار الندوة إلى غير ذلك، و: أَمْ في هذه الآية: المنقطعة.
وقوله: فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أي فإنا محكمو نصره وحمايته. والإبرام: أن تجمع خيطين ثم تفتلهما فتلا متقنا. والبريم: خيط فيه لونان.
وقوله تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ الآية، قال محمد بن كعب القرظي: نزلت لأن كثيرا من العرب كانوا يعتقدون أن الله تعالى لا يسمع السر، ومنه حديث الثقفي والقرشيين الذين سمعهم ابن مسعود يقولون عند الكعبة: أترى الله يسمعنا؟ فقال أحدهم: يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا الحديث، فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يسمع، أي يدرك السر والنجوى، وأن رسله الحفظة من الملائكة يكتبون أعمال البشر مع ذلك، وتعد للجزاء يوم القيامة.
واختلف المفسرون في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ فقالت فرقة:
العابدون: هو من العبادة، ثم اختلفوا في معنى الآية بعد ذلك، فقال قتادة والسدي والطبري، المعنى:
قُلْ لهم إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ كما تقولون فأنا أول من يعبده على ذلك، ولكن ليس به شيء من ذلك تعالى وجل. قال الطبري: فهذا الطاف في الخطاب، ونحوه قوله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] .
قال القاضي أبو محمد: وقوله تعالى: في مخاطبة الكفار: أَيْنَ شُرَكائِيَ [النحل: 27، القصص: 62- 72، فصلت: 47] .
وقال مجاهد المعنى: إن كان لله ولد في قولكم فأنا أول من عبد الله وحده وكذبكم. وقال قتادة أيضا وزهير بن محمد وابن زيد: إِنْ نافية بمعنى: ما، فكأنه قال: ما كان للرحمن ولد. وهنا هو الوقف على هذا التأويل، ثم يبتدئ قوله: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قاله أبو حاتم. وقالت فرقة: العابدون في الآية: من عبد الرجل إذا أنف وأنكر الشيء، ومنه قول الشاعر:
متى يشأ ذو الود يصرم خليله ... ويعبد عليه لا محالة ظالما
ومنه حديث عثمان وعلي في المرجومة حين قال علي: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً

(5/65)


سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

[الأحقاف: 15] قال: فما عبد عثمان أن بعث إليها لترد. والمعنى: إن جعلتم للرحمن ولدا وكان ذلك في قولكم فأنا أول الآنفين المنكرين لذلك.
وقرأ الجمهور: «ولد» بفتح الواو واللام. وقرأ ابن مسعود وابن وثاب وطلحة والأعمش: «ولد» بضم الواو وسكون اللام.
وقرأ أبو عبد الرحمن: «فأنا أول العابدين» وهي على هذا المعنى، قال أبو حاتم: العبد بكسر الباء:
الشديد الغضب. وقال أبو عبيدة معناه: أول الجاحدين، والعرب تقول: عبدني حقي، أي جحدني.
قوله عز وجل:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 82 الى 85]
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
لما قال تعالى: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف: 81] نزه الرب تعالى عن هذه المقالة التي قالوها.
و: سُبْحانَ تنزيه. وخص السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والْعَرْشِ لأنها عظم المخلوقات.
وقوله تعالى: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا مهادنة ما وترك، وهي مما نسخت بآية السيف وقرأ الجمهور:
«يلاقوا» وقرأ أبو جعفر وابن محيصن: «حتى يلقوا» . وقال جمهور اليوم الذي توعدهم به هو القيامة. وقال عكرمة وغيره: هو يوم بدر.
وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ الآية آية حكم بعظمته وإخبار بألوهيته، أي هو النافذ أمره.
وقرأ عمر بن الخطاب وجابر بن زيد وأبو شيخ والحكم بن أبي العاصي وبلال بن أبي بردة وابن مسعود ويحيى بن يعمر وأبي بن كعب وابن السميفع: «وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله» و: الْحَكِيمُ المحكم. وَتَبارَكَ تفاعل من البركة، أي تزيدت بركاته. و: السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما حصر لجميع الموجودات المحسوسات. و: عِلْمُ السَّاعَةِ معناه: علم تحديد قيامها والوقف على تعيينه، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه، وإلا فنحن عندنا علم الساعة، أي إنها واقعة، وإنها ذات أهوال وبصفات ما، والمصدر في قوله: عِلْمُ السَّاعَةِ مضاف إلى المفعول.
وقرأ أكثر القراء: «وإليه يرجعون» بالياء من تحت. وقرأ نافع وأبو عمرو: «ترجعون» بالتاء من فوق مضمومة.
قوله عز وجل:

[سورة الزخرف (43) : الآيات 86 الى 89]
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

(5/66)


قوله تعالى: وَلا يَمْلِكُ الآية مخاطبة لمحمد عليه السلام. و: الَّذِينَ هم المعبودون، والضمير في: يَدْعُونَ هو للكفار الذين عبدوا غير الله عز وجل، فأعلم تعالى أن من عبد من دون الله فإنه لا يملك شفاعة عند الله يوم القيامة.
وقرأ الجمهور: «يدعون» بالياء من تحت. وقرأ ابن وثاب: «تدعون» ، بالتاء من فوق، ثم استثنى تعالى من هذه الأخبار، واختلف الناس في المستثنى، فقال قتادة: استثنى ممن عبد من دون الله: عيسى وعزيرا والملائكة، والمعنى فإنهم يملكون شفاعة، بأن يملكها الله إياهم، إذ هم ممن شهد بالحق وهم يعلمونه في كل أحوالهم، فالاستثناء على هذا التأويل متصل وقال مجاهد وغيره: استثنى من في المشفوع فيهم، فكأنه قال: لا يشفع هؤلاء الملائكة وعزير وعيسى إلا فيمن شهد بالحق وهو يعلمه، أي هو بالتوحيد، فالاستثناء على هذا التأويل منفصل، كأنه قال: لكن من يشهد بالحق يشفع فيهم هؤلاء، والتأويل الأول أصوب، والله أعلم. ثم أظهر تعالى عليهم الحجة من أقوالهم وإقرارهم بأن الله هو خالقهم وموجدهم بعد العدم، ثم وقفهم على جهة التقرير والتوبيخ بقوله: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي فلأي جهة يصرفون.
وقرأ جمهور القراء بالنصب، وهو مصدر كالقول، والضمير فيه لمحمد عليه السلام، وحكى مكي قولا أنه لعيسى وهو ضعيف، واختلف الناس في الناصب، فقالت فرقة هو معطوف على قوله: سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ [الزخرف: 80] . وقالت فرقة العامل فيه يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80] أي أقوالهم من أفعالهم.
وَقِيلِهِ. وقالت فرقة: الناصب له ما في قوله: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [الزخرف: 85] من قوة الفعل، أي ويعلم قيله، ونزل قوله تعالى: وَقِيلِهِ يا رَبِّ بمنزلة وشكوى محمد واستغاثته من كفرهم وعتوهم. وقرأ عاصم وحمزة وابن وثاب والأعمش: و «قيله» بالخفض عطفا على السَّاعَةِ [الزخرف: 85] . وقرأ الأعرج وأبو قلابة ومجاهد: «وقيله» بالرفع على الابتداء. وخبره في قوله: يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ أي قيله هذا القول، أو يكون التقدير: وقيله يا رب مسموع ومتقبل، ف يا رَبِّ على هذا منصوب الموضع ب «قيله» وقرأ أبو قلابة: «يا ربّ» بفتح الباء المشددة، وأراد يا رب على لغة من يقول: يا غلاما، ثم حذف الألف تخفيفا واتباعا لخط المصحف.
وقوله: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ موادعة منسوخة بآيات السيف.
وقوله: سَلامٌ تقديره: وقل أمري سلام، أي مسالمة. (وقالت فرقة) المعنى: وقل سلام عليكم على جهة الموادعة والملاينة، والنسخ قد أتى على هذا السلام، فسواء كان تحية أو عبارة عن الموادعة.
وقرأ جمهور القراء: «يعلمون» بالياء. وقرأ نافع وابن عامر في رواية هشام عنه والحسن والأعرج وأبو جعفر: «تعلمون» بالتاء من فوق.

(5/67)