تفسير ابن عطية
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز حم (1) وَالْكِتَابِ
الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ
إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ
حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
(5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ
كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي
وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الدّخان
هذه السورة مكية لا أحفظ خلافا في شيء منها.
قوله عز وجل:
[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي
لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً
مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي
شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10)
تقدم القول في: حم. وقوله: وَالْكِتابِ الْمُبِينِ قسم أقسم
الله تعالى به. و: الْمُبِينِ يحتمل أن يكون من الفعل المتعدي،
أي يبين الهدى والشرع ونحوه، ويحتمل أن يكون من غير المتعدي،
أي هو مبين في نفسه.
وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ يحتمل أن يقع القسم عليه،
ويحتمل أن يكون: إِنَّا أَنْزَلْناهُ من وصف الكتاب فلا يحسن
وقوع القسم عليه، وهذا اعتراض يتضمن تفخيم الكتاب ويحسن القسم
به، ويكون الذي وقع القسم عليه: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ.
واختلف الناس في تعيين الليلة المباركة، فقال قتادة والحسن: هي
ليلة القدر، وقالوا: إن كتب الله كلها إنما نزلت في رمضان:
التوراة في أوله، والإنجيل في وسطه، والزبور في نحو ذلك ونزل
القرآن في آخره في ليلة القدر، ومعنى هذا النزول: أن ابتداء
النزول كان في ليلة القدر، وهذا قول الجمهور. وقالت فرقة: بل
أنزله الله جملة ليلة القدر إلى البيت المعمور، ومن هنالك كان
جبريل يتلقاه. وقال عكرمة وغيره:
الليلة المباركة هي النصف من شعبان.
وقوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ
عِنْدِنا معناه: يفصل من غيره ويتخلص، وروي عن عكرمة في تفسير
هذه الآية أن الله تعالى يفصل للملائكة في ليلة النصف من
شعبان، وقال الحسن وعمير مولى غفرة ومجاهد وقتادة: في ليلة
القدر كل ما في العام المقبل من الأقدار والآجال والأرزاق وغير
ذلك،
(5/68)
يَغْشَى النَّاسَ
هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا
الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى
وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا
عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو
الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ
نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ
رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
ويكتب ذلك لهم إلى مثلها من العام المقبل.
قال هلال بن يساف كان يقال: انتظروا القضاء في شهر رمضان. وروي
في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الرجل يتزوج
ويعرس وقد خرج اسمه في الموتى، لأن الآجال تقطع في شعبان» .
وقرأ الحسن والأعرج والأعمش: «يفرق» بفتح الياء وضم الراء. و:
حَكِيمٍ بمعنى محكم.
وقوله: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا نصب على المصدر. وقوله: مِنْ
عِنْدِنا صفة لقوله: أَمْراً.
وقوله: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ يحتمل أن يريد الرسل
والأنبياء، ويحتمل أن يريد الرحمة التي ذكر بعد، وعلى التأويل
الأول نصب قوله: رَحْمَةً على المصدر، ويحتمل أن يكون نصبها
على الحال.
وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ تقرير وتثبيت، أي إن كنت
موقنا بهذا يكون يقينك، كما تقول لإنسان تقيم نفسه: العلم غرضك
إن كنت رجلا.
وقوله: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي مالككم
ومالك آبائكم الأولين.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «ربّ السماوات»
بالرفع على القطع والاستئناف، وهي قراءة الأعرج وابن أبي إسحاق
وأبي جعفر وشيبة. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالكسر على البدل
مِنْ رَبِّكَ المتقدم، وهي قراءة ابن محيصن والأعمش. وأما قوله
تعالى: «ربّكم وربّ» فالجمهور على رفع الباء. وقرأ الحسن
بالكسر، رواها أبو موسى عن الكسائي.
وقوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ إضراب قبله نفي مقدر، كأنه
يقول: ليس هؤلاء ممن يؤمن ولا ممن يتبع وصاة، بل هم في شك
يلعبون في أقوالهم وأعمالهم.
واختلف الناس في الدخان الذي أمر الله تعالى بارتقابه، فقالت
فرقة منها علي بن أبي طالب وزيد بن علي وابن عمر وابن عباس
والحسن بن أبي الحسن وأبو سعيد الخدري: هو دخان يجيء قبل يوم
القيامة يصيب المؤمن منه مثل الزكام، وينضج رؤوس الكافرين
والمنافقين حتى تكون كأنها مصلية حنيذة. وقالت فرقة منها عبد
الله بن مسعود وأبو العالية وإبراهيم النخعي: هو الدخان الذي
رأته قريش حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع
يوسف، فكان الرجل يرى من الجدب والجوع دخانا بينه وبين السماء،
وما يأتي من الآيات يقوي هذا التأويل. وقال ابن مسعود: خمس قد
مضين، الدخان واللزام والبطشة والقمر والروم وذكر الطبري حديثا
عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول آيات
الساعة الدخان، ونزول عيسى ابن مريم، ونار تخرج من قعر عدن» ،
وضعف الطبري سند هذا الحديث، واختار قول ابن مسعود رضي الله
عنه في الدخان قال: ويحتمل إن صح حديث حذيفة أن يكون قد مر
دخان ويأتي دخان.
قوله عز وجل:
[سورة الدخان (44) : الآيات 11 الى 18]
يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ
عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ
الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ
تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا
كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15)
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ
(16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ
وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ
اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
(5/69)
يَغْشَى معناه: يغطي.
وقوله تعالى: هذا عَذابٌ أَلِيمٌ يحتمل أن يكون إخبارا من الله
تعالى، كأنه يعجب منه على نحو من قوله تعالى لما وصف قصة
الذبح: إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات: 106]
، ويحتمل أن يكون هذا عَذابٌ أَلِيمٌ من قول الناس، كأن تقدير
الكلام: يقولون هذا عذاب أليم، ويؤيد هذا التأويل سياقه حكاية
عنهم أنهم يقولون رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا
مُؤْمِنُونَ، وعلم الله تعالى أن قولهم في حال الشدة إِنَّا
مُؤْمِنُونَ إنما هو عن غير حقيقة منهم، فدل على ذلك بقوله:
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى، أي من أين لهم أن يتذكروا وهم قد
تركوا الذكرى وراء ظهورهم بأن جاءهم رسول مبين، وهو محمد عليه
السلام فكفروا به. وتَوَلَّوْا عَنْهُ أي أعرضوا، وقالوا إنه
يعلم هذا الكلام الذي يتلو وأنه مَجْنُونٌ، وإخباره تعالى بأنه
يكشف عنهم الْعَذابِ قَلِيلًا إخبار عن إقامة الحجة عليهم
ومبالغة في الإملاء لهم، ثم أخبرهم بأنهم عائدون إلى الكفر.
وقال قتادة: هو توعد بمعاد الآخرة، ثم أخبرهم بأنه ينتقم منهم
بسبب هذا كله في يوم البطشة، وقدم اليوم وذكره على الذي عمل
فيه تهمما به وتخويفا منه، والعامل فيه مُنْتَقِمُونَ، وقد ضعف
البصريون هذا من حيث هو خبر إن، وأبعدوا أن يعمل خبرها فيما
قبلها، وقالوا العامل فعل مضمر يدل عليه مُنْتَقِمُونَ.
واختلف الناس في يوم الْبَطْشَةَ الْكُبْرى، فقال ابن عباس
والحسن وعكرمة وقتادة: هو يوم القيامة وقال عبد الله بن مسعود
وابن عباس أيضا وأبي بن كعب ومجاهد: هو يوم بدر.
وقرأ جمهور الناس: «نبطش» بفتح النون وكسر الطاء. وقرأ الحسن
بن أبي الحسن: بضم الطاء.
وقرأ الحسن أيضا وأبو رجاء وطلحة بن مصرف: بضم النون وكسر
الطاء، ومعناها: نسلط عليهم من يبطش بهم، ثم ذكر تعالى قوم
فرعون على جهة المثال لقريش.
و: فَتَنَّا معناه: امتحنا واختبرنا. والرسول الكريم: قال
قتادة: هو موسى عليه السلام، ومعنى الآية يعطي ذلك بلا خلاف
وهنا متروك يدل عليه الظاهر، تقديره قال لهم: أَدُّوا هذا،
مأخوذ من الأداء، كأنه يقول: أن ادفعوا إلي وأعطوني ومكنوني.
واختلف المتأولون في الشيء المؤدى في هذه الآية ما هو؟ فقال
مجاهد وابن زيد وقتادة: طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل
وإياهم أراد بقوله: عِبادَ اللَّهِ وقال ابن عباس المعنى:
اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحق، فقوله: عِبادَ اللَّهِ
منادى مضاف، والمؤدى هي الطاعة والإيمان والأعمال.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر من شرع موسى عليه السلام أنه بعث
إلى دعاء فرعون إلى الإيمان،
(5/70)
وَأَنْ لَا تَعْلُوا
عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا
رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ
بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ
الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ
تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ
كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
وأن يرسل بني إسرائيل، فلما أبى أن يؤمن،
ثبتت المكافحة في أن يرسل بني إسرائيل، وفي إرسالهم هو قوله:
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أي بني إسرائيل، ويقوي
ذلك قوله بعد: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ
[الدخان: 21] ، وهذا قريب نص في أنه إنما يطلب بني إسرائيل
فقط، ويؤيد ذلك أيضا قوله تعالى:
فَأَسْرِ بِعِبادِي فيظهر أنه إياهم أراد موسى بقوله: عِبادَ
اللَّهِ وقوله: رَسُولٌ أَمِينٌ معناه على وحي الله تعالى
أؤديه إلى عباده.
قوله عز وجل:
[سورة الدخان (44) : الآيات 19 الى 28]
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ
مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ
تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ
(21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ
(24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ
وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27)
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28)
المعنى كانت رسالته وقوله: أَنْ أَدُّوا [الدخان: 18] وَأَنْ
لا تَعْلُوا وعبر بالعلو عن الطغيان والعتو على الله تعالى
وعلى شرعه وعلى رسوله.
وقرأ الجمهور: «إني آتيكم» بكسر الألف على الإخبار المؤكد،
والسلطان: الحجة، فكأنه قال: لا تكفروا، فإن الدليل المؤدي إلى
الإيمان بيّن. وقرأت فرقة: «أني آتيكم» بفتح الألف. و «أن» في
موضع نصب بمعنى: لا تكفروا من أجل أني آتيكم بسلطان مبين، فكأن
مقصد هذا الكلام التوبيخ، كما تقول لإنسان: لا تغضب، لأن الحق
قيل لك.
وقوله: وَإِنِّي عُذْتُ الآية، كلام قاله موسى عليه السلام
لخوف لحقه من فرعون وملئه و: عُذْتُ معناه: استجرت وتحرمت.
وأدغم الدال في التاء الأعرج وأبو عمرو.
واختلف الناس في قوله: أَنْ تَرْجُمُونِ فقال قتادة وغيره:
أراد الرجم بالحجارة المؤدي إلى القتل. وقال ابن عباس وأبو
صالح: أراد الرجم بالقول من السباب والمخالفة ونحوه، والأول
أظهر، لأنه أعيذ منه ولم يعذ من الآخر، بل قيل فيه عليه السلام
وله.
وقوله: تُؤْمِنُوا لِي بمعنى: تؤمنوا بي. والمعنى: تصدقوا.
وقوله: فَاعْتَزِلُونِ مشاركة صريحة. قال قتادة: أراد خلّوا
سبيلي.
وقوله: فَدَعا رَبَّهُ قبله محذوف من الكلام، تقديره: فما كفوا
عنه، بل تطرقوا إليه وعتوا عليه وعلى دعوته فَدَعا رَبَّهُ.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى «إن هؤلاء» بكسر الألف من
«إن» على معنى «قال إن» ، وقرأ جمهور الناس والحسن أيضا: «أن
هؤلاء» بفتح الألف، والقراءتان حسنتان.
(5/71)
وحكم عليهم بالإجرام المضمن للكفر حين يئس
منهم، وهنا أيضا محذوف من الكلام تقديره: فقال الله له:
فَأَسْرِ بِعِبادِي وهذا هو الأمر الذي أنفذه الله إلى موسى
بالخروج من ديار مصر ببني إسرائيل، وقد تقدم شرحه وقصصه في
سورة الأنبياء وغيرها.
وقرأ جمهور الناس: «فاسر» موصولة الألف. وقرأ: «فأسر» بقطع
الألف: الحسن وعيسى، ورويت عن أبي عمرو. وأعلمه تعالى بأنهم
مُتَّبَعُونَ، أي يتبعهم فرعون وجنوده.
واختلف المفسرون في قوله تعالى: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً
متى قالها لموسى؟ فقالت فرقة: هو كلام متصل إِنَّكُمْ
مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ إذا انفرق لك رَهْواً. وقال
قتادة وغيره: خوطب به بعد ما اجتاز البحر وخشي أن يدخل فرعون
وقومه وراءه، وأن يخرجوا من المسالك التي خرج منها بنو
إسرائيل، فهم موسى أن يضرب البحر عسى أن يلتئم ويرجع إلى حاله،
فقيل له عند ذلك: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً.
واختلفت عبارة المفسرين في تفسير الرهو، فقال مجاهد وعكرمة
معناه: يبسا من قوله تعالى:
فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً [طه: 77] .
وقال الضحاك بن مزاحم معناه: دمثا لينا. وقال عكرمة أيضا:
جردا. وقال ابن زيد: سهلا. وقال ابن عباس معناه: ساكنا، أي كما
جزته، وهذا القول الأخير هو الذي تؤيده اللغة، فإن العيش
الواهي هو الذي هو في خفض ودعة وسكون، حكاه المبرد وغيره.
والرهو في اللغة هو هذا المعنى، ومنه قول عمرو بن شييم
القطامي:
يمشون رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل
فإنما معناه: يمشون اتئادا وسكونا وتماهلا. ومنه قول الآخر:
وأمة خرجت رهوا إلى عيد أي خرجوا في سكون وتماهل، فقيل لموسى
عليه السلام: اترك البحر ساكنا على حاله من الانفراق ليقضي
الله أمرا كان مفعولا. والرهو: من أسماء الكركي الطائر، ولا
مدخل له في تفسير هذه الآية، ويشبه عندي أن سمي رهوا لسكونه،
وأنه أبدا على تماهل.
وقوله: كَمْ تَرَكُوا الآية، قبله محذوف تقديره: فغرقوا وقطع
الله دابرهم، ثم أخذ يعجب من كثرة ما تركوا من الأمور الرفيعة
الغبيطة في الدنيا، و: كَمْ خبر للتكثير. والجنات والعيون: روي
أنها كانت متصلة ضفتي النيل جميعا من رشيد إلى أسوان. وأما
العيون فيحتمل أنه أراد الخلجان الخارجة من النيل فشبهها
بالعيون، ويحتمل أنه كانت ثم عيون ونضبت كما يعتري في كثير من
بقاع الأرض.
وقرأ قتادة ومحمد بن السميفع اليماني ونافع في رواية خارجة
عنه: «ومقام» بضم الميم، أي موضع إقامة. وكذلك قرأ اليماني في
كل القرآن إلا في مريم خَيْرٌ مَقاماً [مريم: 73] فكأن المعنى:
كَمْ تَرَكُوا من موضع حسن كريم في قدره ونفعه. وقرأ جمهور
الناس ونافع: «ومقام» بفتح الميم، أي موضع قيام، فعلى هذه
القراءة قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير: أراد المنابر. وعلى ضم
الميم في: «مقام» قال قتادة: أراد المواضع الحسان من المساكن
وغيرها، والقول بالمنابر بهي جدا.
(5/72)
فَمَا بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ
(29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ
الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ
الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ
عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا
فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34)
إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ
بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (36)
والنعمة بفتح النون: غضارة العيش ولذاذة
الحياة، والنعمة بكسر النون أعم من هذا، لأن النعمة بالفتح هي
من جملة النعم بالكسر، وقد تكون الأمراض والآلام والمصائب
نعما، ولا يقال فيها نعمة بالفتح. وقرأ أبو رجاء: «ونعمة»
بالنصب.
وقرأ جمهور الناس: «فاكهين» بمعنى: ناعمين. والفاكه: الطيب
النفس: أو يكون بمعنى أصحاب فاكهة كلابن وتامر. وقرأ أبو رجاء
والحسن بخلاف عنه، وابن القعقاع: «فكهين» ، ومعناه قريب من
الأول، لأن الفكه يستعمل كثيرا في المستخف المستهزئ، فكأنه هنا
يقول: كانوا في هذه النعمة مستخفين بشكرها والمعرفة بقدرها.
وقوله: كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها معناه الأمر كذلك، وسماها وراثة
من حيث كانت أشياء أناس وصلت إلى قوم آخرين من بعد موت
الأولين، وهذه حقيقة الميراث في اللغة وربطها الشرع بالنسب
وغيره من أسباب الميراث، والآخرون من ملك مصر بعد القبط. وقال
قتادة: القوم الآخرون، هم بنو إسرائيل، وهذا ضعيف، لأنه لم يرو
أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر في شيء من ذلك الزمان ولا ملكوها
قط، إلا أن يريد قتادة أنهم ورثوا نوعها في بلاد الشام، وقد
ذكر الثعلبي عن الحسن أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك
فرعون.
قوله عز وجل:
[سورة الدخان (44) : الآيات 29 الى 36]
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا
مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ
الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ
عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى
عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ
ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا
الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36)
نفت هذه الآية أن تكون السماء والأرض بكت على قوم فرعون،
فاقتضى أن للسماء والأرض بكاء.
واختلف المتأولون في معنى ذلك فقال علي بن أبي طالب وابن عباس
ومجاهد وابن جبير: إن الرجل المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض
موضع عبادته أربعين صباحا، وبكى عليه من السماء موضع صعود
عمله، قالوا فلم يكن في قوم فرعون من هذه حاله، فهذا معنى
الآية. وقال السدي وعطاء: بكاء السماء:
حمرة أطرافها. وقالوا إن السماء احمرت يوم قتل الحسين بن علي،
وكان ذلك بكاء عليه، وهذا هو معنى الآية.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى الجيد في الآية أنها استعارة
باهية فصيحة تتضمن تحقير أمرهم، وأنهم لم يتغير عن هلاكهم شيء،
وهذا نحو قوله تعالى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ
[إبراهيم: 46] على قراءة من قرأ «لتزول» بكسر اللام ونصب الفعل
وجعل إِنْ [إبراهيم: 46] نافية، ومثل هذا المعنى قول النبي
عليه السلام: «لا ينتطح فيها عنزان» فإنه يتضمن التحقير، لكن
هذه الألفاظ هي بحسب ما قيلت فيه،
(5/73)
وهو قتل المرأة الكافرة التي كانت تؤذي
النبي عليه السلام. وعظم قصة فرعون وقومه يجيء بحسبها جمال
الوصف وبهاء العبارة في قوله: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ
السَّماءُ وَالْأَرْضُ ومن نحو هذا أن يعكس قول جرير:
[الكامل]
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع
فيقال في تحقير: مات فلان فما خشعت الجبال، ونحو هذا، وفي
الحديث عن النبي عليه السلام أنه قال: «ما مات مؤمن في غربة
غاب عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض» ، ثم قرأ هذه
الآية، وقال: «إنهما لا يبكيان على كافر» . ومن التفخيم ببكاء
المخلوقات العظام قول يزيد بن مفرغ [مجزوء الكامل] :
الريح تبكي شجوه ... والبرق يلمع في غمامه
وقول الفرزدق:
فالشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
و: مُنْظَرِينَ معناه: مؤخرين وممهلين.
ثم ذكر تعالى نعمته على بني إسرائيل في إنجائهم من فرعون
وقومه، والْعَذابِ الْمُهِينِ هو ذبح الأبناء والتسخير في
المهن كالبنيان والحفر وغيره.
وفي قراءة ابن مسعود: «من عذاب المهين» ، بسقوط التعريف بالألف
واللام من العذاب.
وقوله: مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من قوله: مِنَ الْعَذابِ. و: «من»
بكسر الميم هي قراءة الجمهور.
وروى قتادة أن ابن عباس كان يقرأها «من» بفتح الميم «فرعون»
برفع النون.
وقوله: عَلى عِلْمٍ أي على شيء سبق عندنا فيهم وثبت في علمنا
أنه سينفذ. وقوله: عَلَى الْعالَمِينَ يريد على جميع الناس،
هذا على التأويل المتقدم في العلم. والمعنى: لقد اخترناها لهذا
الإنجاء وهذه النعم على سابق علم لنا فيهم وخصصناهم بذلك دون
العالم، ويحتمل قوله: عَلى عِلْمٍ أن يكون معناه: على علم
وفضائل فيهم، والمعنى: اخترناهم للنبوءات والرسالات، فيكون
قوله: عَلَى الْعالَمِينَ في هذا التأويل، معناه: على عالم
زمانهم، وذلك بدليل فضل أمة محمد لهم وعليهم، وأن أمة محمد خير
أمة أخرجت للناس.
وقوله تعالى: وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ لفظ جامع لمعجزات
موسى وللعبر التي ظهرت في قوم فرعون من الجراد والقمل والضفادع
وغير ذلك، ولما أنعم به على بني إسرائيل من تظليل الغمام والمن
والسلوى وغير ذلك، فإن لفظ الْآياتِ يعم جميع هذا. والبلاء في
هذا الموضع: الامتحان والاختبار، وهذا كما قال تعالى:
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا
تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35] و: مُبِينٌ بمعنى بين.
ثم ذكر تعالى قريشا وحكى عنهم على جهة الإنكار لقولهم حين
أنكروا فيه ما هو جائز في العقل
(5/74)
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ
قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ
إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)
مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ
أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى
شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ
اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ
شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)
فقال: إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ
هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي ما آخر أمرنا ومنتهى
وجودنا إلا عند موتتنا، وما نحن بمبعوثين من القبور، يقال أنشر
الله الميت فنشر هو، وقول قريش: فَأْتُوا مخاطبة للنبي صلى
الله عليه وسلم، إلا أنه من حيث كان النبي عليه السلام مسندا
في أقواله وأفعاله إلى الله تعالى وبواسطة ملك خاطبوه كما
تخاطب الجماعة، وهم يريدونه وربه وملائكته. واستدعاء الكفار في
هذه الآية أن يحيي لهم بعض آبائهم وسموا قصيا لكي يسألوهم عما
رأوا في آخرتهم، ولم يستقص في هذه الآية الرد عليهم لبيانه،
ولأنه مبثوث في غير ما آية من كتاب الله، فإن الله تعالى قد
جزم البعث من القبور في أجل مسمى لا يتعداه أحد، وقد بينت
الأمثلة من الأرض الميتة وحال النبات أمر البعث من القبور.
قوله عز وجل:
[سورة الدخان (44) : الآيات 37 الى 44]
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37)
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما
لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ
مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ
مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)
إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ
الْأَثِيمِ (44)
قوله تعالى: أَهُمْ خَيْرٌ الآية تقرير فيه وعيد، و: تُبَّعٍ
ملك حميري، وكان يقال لكل ملك منهم: (تبع) ، إلا أن المشار
إليه في هذه الآية رجل صالح من التبابعة. قال كعب الأحبار: ذم
الله تعالى قومه ولم يذمه، ونهى العلماء عن سبه، وروي عن النبي
صلى الله عليه وسلم من طريق سهل بن سعد: أن تبعا هذا أسلم وآمن
بالله، وروي أن ذلك كان على يد أهل كتاب كانوا بحضرته. وقال
ابن عباس: كان (تبع) نبيا. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: ما أدري أكان (تبع) نبيا أم غير نبي؟. وقال
ابن جبير: هو الذي كسا الكعبة، وقد ذكره ابن إسحاق في السيرة،
والله أعلم.
وقوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ يريد بالكفر. وقرأت
فرقة: «أنهم» بفتح الألف. وقرأ الجمهور بكسرها.
وقوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ الآية، إخبار فيه
تنبيه وتحذير. وقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ يريد بالواجب المقتضي
للخيرات وفيض الهبات. و: يَوْمَ الْفَصْلِ هو يوم القيامة،
وهذا هو الإخبار بالبعث، وهو أمر جوزه العقل وأثبته الشرع بهذه
الآية وغيرها. والمولى في هذه الآية: يعم جميع الموالي من
القرابات وموالي العتق وموالي الصداقة.
وقوله: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إن كان الضمير يراد به العالم،
فيصح أن يكون من قوله: إِلَّا مَنْ في موضع نصب على الاستثناء
المتصل، وإن كان الضمير يراد به الكفار فالاستثناء منقطع، ويصح
أن يكون في موضع رفع علة الابتداء والخبر تقديره: فإنه يغني
بعضهم عن بعض في الشفاعة ونحوها، أو يكون تقديره: فإن الله
ينصره.
(5/75)
كَالْمُهْلِ يَغْلِي
فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ
فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا
فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ
بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ
أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ
سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ
وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ
فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ
إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ
(56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
وقوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ
طَعامُ الْأَثِيمِ روي عن ابن زيد الْأَثِيمِ المشار إليه: أبو
جهل، ثم هي بالمعنى تتناول كل أثيم، وهو كل فاجر يكتسب الإثم،
وروي عن ابن زيد أن أبا الدرداء أقرأ أعرابيا فكان يقول: «طعام
اليتيم» ، فرد عليه أبو الدرداء مرارا فلم يلقن، فقال له: قل
«طعام الفاجر» ، فقرئت كذلك، وإنما هي على التفسير. و:
شَجَرَةَ الزَّقُّومِ هي الشجرة الملعونة في القرآن، وهي تنبت
في أصل الجحيم، وهي التي طلعها كأنه رؤوس الشياطين.
وروي أن أبا جهل لما نزلت هذه الآية فيه، وأشار الناس بها
إليه، جمع عجوة بزبد ودعا إليها ناسا وقال لهم: «تزقموا، فإن
الزقوم هو عجوة يثرب بالزبد، وهو طعامي الذي حدّث به محمد» ،
وإنما قصد بذلك ضربا من المغالطة والتلبيس على الجهلة.
قوله عز وجل:
[سورة الدخان (44) : الآيات 45 الى 59]
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ
(46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ
صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
(52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ
(53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ
فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ
عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ
مُرْتَقِبُونَ (59)
قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما: «المهل» : دردي الزيت
وعكره. وقال ابن مسعود وابن عباس أيضا: «المهل» ما ذاب من ذهب
أو فضة أو حديد أو رصاص ونحوه. قال الحسن: كان ابن مسعود على
بيت المال لعمر بالكوفة، فأذاب يوما فضة مكسرة، فلما انماعت،
قال: يدخل من بالباب، فدخلوا، فقال لهم: هذا أشبه ما رأينا في
الدنيا بالمهل. والمعنى أن هذه الشجرة إذا طعمها الكافر في
جهنم صارت في جوفه تفعل كما يفعل المهل السخن من الإحراق
والإفساد.
وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر:
«تغلي» بالتاء على معنى: تغلي الشجرة، وهي قراءة عمرو بن ميمون
وأبي رزين والحسن والأعرج وابن محيصن وطلحة. وقرأ ابن كثير
وابن عامر وعاصم في رواية حفص: «يغلي» على معنى: يغلي الطعام،
وهي قراءة مجاهد وقتادة والحسن بخلاف عنه. و: الْحَمِيمِ:
الماء الساخن الذي يتطاير من غليانه.
وقوله تعالى: خُذُوهُ الآية، معناه: يقال يومئذ للملائكة عن
هذا الأثيم خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ.
(5/76)
والعتل: السّوق بعنف وإهانة ودفع قوي متصل،
كما يساق أبدا مرتكب الجرائم، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر:
بضم التاء، والباقون بكسرها، وقد روي الضم عن أبي عمرو، وكذلك
روي الوجهان عن الحسن وقتادة والأعرج.
والسواء: الوسط، وقيل المعظم وذلك متلازم في العظم أبدا من مثل
هذا إنما هو في الوسط، وفي الآية ما يقتضي أن الكافر يصب على
رأسه من حميم جهنم، وهو ما يغلى فيها من ذوب، وهذا كما في قوله
تعالى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ [الحج: 19]
وإلى هذا نظر بعض ولاة المدينة فإنه كان يصب الخمر على رأس
الذي شربها أو توجد عنده عقوبة له وأدبا، ذكر ذلك ابن حبيب في
الواضحة.
وقوله تعالى: ذُقْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ
مخاطبة على معنى هذا التقريع، ويروى عن قتادة أن أبا جهل لما
نزلت: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان:
43- 44] قال أيتهددني محمد وأنا ما بين جبليها أعزمني وأكرم،
فنزلت هذه الآيات، وفي آخرها: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْكَرِيمُ أي على قولك، وهذا كما قال جرير:
ألم يكن في وسوم قد وسمت بها ... من خان موعظة يا زهرة اليمن
يقولها للشاعر الذي سمى نفسه به، وذلك في قوله:
أبلغ كليبا وأبلغ عنك شاعرها ... أني الأعز وأني زهرة اليمن
فجاء بيت جرير على هذا الهزء.
وقرأ الجمهور: «إنك» بكسر الهمزة. وقرأ الكسائي وحده: «أنك»
بفتح الألف، والمعنى واحد في المقصد وإن اختلف المأخذ إليه،
وبالفتح قرأها على المنبر الحسين بن علي بن أبي طالب أسنده
إليه الكسائي وأتبعه فيها.
وقوله تعالى: إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ عبارة عن
قول يقال للكفرة عند عذابهم، أي هذه الآخرة وجهنم التي كنتم
تشكون فيها. ثم ذكر تعالى حالة المتقين بعقب ذكر حالة الكافر
ليبين الفرق.
وقرأ نافع وابن عامر: «في مقام» بضم الميم، وهي قراءة أبي جعفر
وشيبة وقتادة وعبد الله بن عمر بن الخطاب والحسن والأعرج. وقرأ
الباقون: «في مقام» بفتحها، وهي قراءة أبي رجاء وعيسى ويحيى
والأعمش.
و: أَمِينٍ يؤمن فيه الغير، فكأنه فعيل بمعنى مفعول، أي مأمون
فيه. وكسر عاصم العين من «عيون» . قال أبو حاتم: وذلك مردود
عند العلماء، ومثله شيوخ وبيوت، بكسر الشين والباء. والسندس:
رقيق الحرير. والإستبرق: خشينه.
وقرأ ابن محيصن: «وإستبرق» بالوصل وفتح القاف.
(5/77)
وقوله: مُتَقابِلِينَ وصف لمجالس أهل
الجنة، لأن بعضهم لا يستدبر بعضا في المجالس، وقوله:
كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ تقديره: والأمر كذلك.
وقرأ الجمهور: «عين» وهو جمع عيناء. وقرأ ابن مسعود: «عيس» ،
وهو جمع عيساء، وهي أيضا البيضاء، وكذلك هي من النوق. وقرأ
عكرمة: «بحور عين» على ترك التنوين في «حور» وأضافها إلى «عين»
. قال أبو الفتح: الإضافة هنا تفيد ما تفيد الصفة، وروى أبو
قرصافة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إخراج القمامة من
المسجد من مهور الحور العين.
وقوله تعالى: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ
معناه: يدعون الخدمة والمتصرفين.
وقوله تعالى: إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى قدر قوم إِلَّا
بسوى، وضعف ذلك الطبري، وقدرها ببعد، وليس تضعيفه بصحيح، بل
يصح المعنى بسوى ويتسق، وأما معنى الآية: فبين أنه نفى عنهم
ذوق الموت، وأنه لا ينالهم من غير ذلك ما تقدم في الدنيا،
والضمير في قوله: يَسَّرْناهُ عائد على القرآن. وقوله:
بِلِسانِكَ معناه بلغة العرب ولم يرد الجارحة.
وقوله: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ معناه:
فَارْتَقِبْ نصرنا لك، إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ فيما يظنون
الدوائر عليك، وفي هذه الآية وعد له، ووعيد لهم، وفيها متاركة،
وهذا وما جرى منسوخ بآية السيف.
(5/78)
حم (1) تَنْزِيلُ
الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي
خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا
عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ
وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الجاثية
هذه السورة مكية لا خلاف في ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ
لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ
دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ
السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
(5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور. و: تَنْزِيلُ
رفع بالابتداء أو على خبر ابتداء مضمر. و: الْعَزِيزِ معناه
عام في شدة أخذه إذا انتقم، ودفاعه إذا حمي ونصر وغير ذلك.
و: الْحَكِيمِ المحكم للأشياء.
وذكر تبارك الآيات التي في السماوات والأرض مجملة غير مفصلة،
فكأنها إحالة على غوامض تثيرها الفكر، ويخبر بكثير منها الشرع،
فلذلك جعلها للمؤمنين، إذ في ضمن الإيمان العقل والتصديق. ثم
ذكر تعالى خلق البشر والحيوان، وكأنه أغمض مما أحال عليه أولا
وأكثر تلخيصا، فجعله للموقنين الذين لهم نظر يؤديهم إلى اليقين
في معتقداتهم. ثم ذكر تعالى اختلاف الليل والنهار والعبرة
بالمطر والرياح، فجعل ذلك لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، إذ كل عاقل
يحصل هذه ويفهم قدرها، وإن كان هذا النظر ليس بلازم ولا بد فإن
اللفظ يعطيه. و: يَبُثُّ معناه: ينشر في الأرض. والدابة: كل
حيوان يدب، أو يمكن فيه أن يدب، يدخل في ذلك الطير والحوت،
وشاهد الطير قول الشاعر: [الطويل] صواعقها لطيرهن دبيب وقول
الآخر: [الطويل] دبيب قطا البطحاء في كل منهل وشاهد الحوت قول
أبي موسى: وقد ألقى البحر دابة مثل الظرب ودواب البحر لفظ
مشهور في اللغة.
(5/79)
وقرأ حمزة والكسائي: «آيات» بالنصب في
الموضعين الآخرين. وقرأ الباقون والجمهور: «آيات» بالرفع
فيهما، فأما من قرأ بالنصب فحمل «آيات» في الموضعين على نصب
إِنَّ في قوله إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ
لِلْمُؤْمِنِينَ ولا يعرض في ذلك العطف على عاملين الذي لا
يجيزه سيبويه وكثير من النحويين، لأنا نقدر فِي معادة في قوله:
وَاخْتِلافِ وكذلك هي في مصحف ابن مسعود: «وفي اختلاف» ، فكأنه
قال على قراءة الجمهور: «وفي اختلاف الليل» ، وذلك أن ذكرها قد
تقدم في قوله:
وَفِي خَلْقِكُمْ فلما تقدم ذكر الجار جاز حذفه من الثاني،
ويقدر مثبتا كما قدر سيبويه في قول الشاعر [أبو دؤاد الأيادي]
: [المتقارب]
أكل امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا
أي وكل نار، وكما قال الآخر: [الرجز]
أوصيت من برة قلبا حرّا ... بالكلب خيرا والحماة شرّا
أي وبالحمأة، وهذا الاعتراض كله إنما هو في آياتٌ الثاني، لأن
الأول قبله حرف الجر ظاهر.
وفي قراءة أبي بن كعب وابن مسعود في الثلاثة المواضع: «لآيات»
. قال أبو علي: وهذا يدل على أن الكلام محمول على أن في قراءة
من أسقط اللامات في الاثنين الآخرين، وأما من رفع «آيات» في
الموضعين فوجهه العطف على موضع إِنَّ وما عملت فيه، لأن موضعها
رفع بالابتداء، ووجه آخر وهو أن يكون قوله: وَفِي خَلْقِكُمْ
وَما يَبُثُّ مستأنفا، ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة،
وقال بعض الناس: يجوز أن يكون جملة في موضع الحال فلا تكون
غريبة على هذا.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إما بالنور والظلام، وإما
بكونهما خلفة. والرزق المنزل من السماء: هو المطر، سماه رزقا
بمآله، لأن جميع ما يرتزق فعن المطر هو. وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ
هو بكونها صبا ودبورا وجنوبا وشمالا، وأيضا فبكونها مرة رحمة
ومرة عذابا، قاله قتادة، وأيضا بلينها وشدتها وبردها وحرها.
وقرأ طلحة وعيسى: «وتصريف الريح» بالإفراد، وكذلك في جميع
القرآن إلا ما كان فيه مبشرات وخالف عيسى في الحجر فقرأ:
الرِّياحَ لَواقِحَ [الحجر: 22] .
وقوله: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ إشارة إلى ما ذكر. وقوله:
نَتْلُوها فيه حذف مضاف، أي يتلو شأنها وتفسيرها وشرح العبرة
لها، ويحتمل أن يريد ب آياتُ اللَّهِ القرآن المنزل في هذه
المعاني فلا يكون في نَتْلُوها حذف مضاف. وقوله: بِالْحَقِّ
معناه: بالصدق والإعلام بحقائق الأمور في أنفسها. وقوله:
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ الآية توبيخ وتقريع، وفيه قوة التهديد.
وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وأبو جعفر والأعرج وشيبة
وقتادة: «يؤمنون» بالياء من تحت.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم أيضا والأعمش «تؤمنون»
بالتاء على مخاطبة الكفار. وقرأ طلحة بن مصرف: «توقنون» بالتاء
من فوق من اليقين.
(5/80)
وَيْلٌ لِكُلِّ
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى
عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا
فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ
آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي
عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)
هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ
عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
قوله عز وجل:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 7 الى 11]
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ
تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ
مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي
عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ
اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ
رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
الويل في كلام العرب: المصائب والحزن والشدة من هذه المعاني،
وهي لفظة تستعمل في الدعاء على الإنسان. وروي في بعض الآثار أن
في جهنم واديا اسمه: وَيْلٌ، وذهب الطبري إلى أنه المراد
بالآية، ومقتضى اللغة أنه الدعاء على أهل الإفك والإثم
بالمعاني المتقدمة. والأفاك: الكذاب الذي يقع منه الإفك مرارا.
والأثيم: بناء مبالغة، اسم فاعل من أثم يأثم.
وروي أن سبب هذه الآية أبو جهل، وقيل النضر بن الحارث، والصواب
أن سببها ما كان المذكوران وغيرهما يفعل، وأنها تعم كل من دخل
تحت الأوصاف المذكورة إلى يوم القيامة: و: يُصِرُّ معناه: يثبت
على عقيدته من الكفر.
وقوله: فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ حسن ذلك لما أفصح عن العذاب، ولو
كانت البشارة غير مقيدة بشيء لما حصلت إلا على المحاب.
وقرأ جمهور الناس: «وإذا علم» بفتح العين وتخفيف اللام،
والمعنى: وإذا أخبر بشيء مِنْ آياتِنا فعلم نفس الخبر لا
المعنى الذي تضمنه الخبر ولو علم المعاني التي تضمنها إخبار
الشرع وعرف حقائقها لكان مؤمنا. وقرأ قتادة ومطر الوراق «علّم»
بضم العين وشد اللام.
وقوله: أُولئِكَ رد على لفظ كل أفاك، لأنه اسم جنس له الصفات
المذكورة بعد قوله: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ قال فيه بعض
المفسرين معناه: من أمامهم، وهذا نحو الخلاف الذي في قوله
تعالى:
وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف: 79] ولحظ قائل هذه المقالة
الأمر من حيث تأول أن الإنسان كأنه من عمره يسير إلى جنة أو
نار، فهما أمامه، وليس لفظ الوراء في اللغة كذلك، وإنما هو ما
يأتي خلف الإنسان، وإذا اعتبر الأمر بالتقدم أو التأخر في
الوجود، على أن الزمان كالطريق للأشياء استقام الأمر، فما يأتي
بعد الشيء في الزمان فهو وراءه، فكأن الملك وأخذه السفينة وراء
ركوب أولئك إياها، وجهنم وإحراقها للكفرة يأتي بعد كفرهم
وأفعالهم، وهذا كما تقول: افعل كذا وأنا من ورائك عضدا، وكما
تقول ذلك على التهديد، أنا من وراء التقصي عليك، ونحو هذا.
وقوله تعالى: وَلا مَا اتَّخَذُوا يعني بذلك الأوثان.
وقوله تعالى: هذا هُدىً إشارة إلى القرآن.
(5/81)
اللَّهُ الَّذِي
سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ
بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ
لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص: «أليم»
على النعت ل عَذابٌ وهي قراءة ابن محيصن وابن مصرف وأهل مكة.
وقرأ الباقون: «أليم» على النعت ل رِجْزٍ وهي قراءة الحسن وأبي
جعفر وشيبة وعيسى والأعمش. والرجز: أشد العذاب.
وقوله: لَهُمْ عَذابٌ بمنزلة قولك: لهم حظ، فمن هذه الجهة ومن
جهة تغاير اللفظتين حسن قوله: عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ إذ الرجز هو
العذاب.
قوله عز وجل:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 14]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ
الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ
لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
هذه آية عبرة في جريان السفينة في البحر، وذلك أن الله تعالى
سخر هذا المخلوق العظيم لهذا المخلوق الحقير الضعيف.
وقوله: بِأَمْرِهِ أقام القدرة والإذن مناب أن يأمر البحر
والناس بذلك. والابتغاء من فضل الله: هو بالتجارة في الأغلب،
وكذلك مقاصد البر من حج أو جهاد هي أيضا ابتغاء فضل، والتصير
فيه هو ابتغاء فضل. وتسخير ما فِي السَّماواتِ: هو تسخير الشمس
والقمر والنجوم والسحاب والرياح والهواء والملائكة الموكلة
بهذا كله، ويروى أن بعض الأحبار نزل به ضيف فقدم إليه رغيفا،
فكأن الضيف احتقره فقال له المضيف: لا تحتقره فإنه لم يستدر
حتى تسخر فيه من المخلوقات والملائكة ثلاثمائة وستون بين ما
ذكرنا من مخلوقات السماء وبين الملائكة وبين صناع بني آدم
الموصلين إلى استدارة الرغيف، وتسخير ما في الأرض هو تسخير
البهائم والمياه والأودية والجبال وغير ذلك. ومعنى قوله:
جَمِيعاً مِنْهُ قال ابن عباس: كل إنعام فهو من الله تعالى.
وقرأ جمهور الناس: «منه» وهو وقف جيد. وقرأ مسلمة بن محارب:
«منّه» بفتح الميم وشد النون المضمومة بتقدير: هو منه. وقرأ
ابن عباس: بكسر الميم وفتح النون المشددة ونصب التاء على
المصدر.
قال أبو حاتم: سند هذه القراءة إلى ابن عباس مظلم، وحكاها أبو
الفتح عن ابن عباس وعبد الله بن عمر والجحدري وعبد الله بن
عبيد بن عمير. وقرأ مسلمة بن محارب أيضا: «منة» بكسر الميم
وبالرفع في التاء.
وقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا الآية، آية
نزلت في صدر الإسلام، أمر الله المؤمنين فيها أن يتجاوزوا عن
الكفار وأن لا يعاقبوهم بذنب، بل يأخذون أنفسهم بالصبر، قاله
محمد بن كعب القرظي والسدي. قال أكثر الناس: وهذه آية منسوخة
بآية القتال وقالت فرقة: الآية محكمة، والآية تتضمن الغفران
عموما، فينبغي أن يقال: إن الأمور العظام كالقتل والكفر مجاهرة
ونحو ذلك قد نسخ غفرانه آية السيف
(5/82)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى
رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ
وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ
فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ
بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
والجزية وما أحكمه الشرع لا محالة، وإن
الأمور المحقرة كالجفاء في القول ونحو ذلك يحتمل أن يتقى
محكمه، وأن يكون العفو عنها أقرب إلى التقوى. وقال ابن عباس
لما نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
[البقرة: 245] قال فنحاص اليهودي. احتاج رب محمد، فأخذ عمر
سيفه ومر ليقتله، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إن
ربك يقول: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا» الآية، فهذا احتجاج بها مع
قدم نزولها. وقد ذكر مكي وغيره أنها نزلت بمكة في عمر رضي الله
عنه لما أراد أن يبطش بمشرك شتمه.
وأما الجزم في قوله: يَغْفِرُوا فهو جواب شرط مقدر تقديره: قل
اغفروا فإن يجيبوا يغفروا. وأخصر عندي من هذا أن قُلْ هي
بمثابة: أندب المؤمنين إلى الغفر.
وقوله: أَيَّامَ اللَّهِ قالت فرقة معناه: أيام إنعامه ونصره
وتنعيمه في الجنة وغير ذلك، ف يَرْجُونَ على هذا هو من بابه.
وقال مجاهد: أَيَّامَ اللَّهِ تعالى هي أيام نقمه وعذابه، ف
يَرْجُونَ على هذا هي التي تتنزل منزلة يخافون، وإنما تنزلت
منزلتها من حيث الرجاء والخوف متلازمان لا تجد أحدهما إلا
والآخر معه مقترن، وقد تقدم شرح هذا غير مرة، وقرأ جمهور
القراء «ليجزي» بالياء على معنى: ليجزي الله. وقرأ ابن عامر
وحمزة والكسائي والأعمش وأبو عبد الرحمن وابن وثاب: «لنجزي»
بالنون. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بخلاف عنه «ليجزى» على بناء
الفعل للمفعول «قوما» ، وهذا على أن يكون التقدير:
ليجزي الجزاء قوما، وباقي الآية وعيد.
قوله عز وجل:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 15 الى 17]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي
إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ
وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى
الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ
فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ
بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
لما تقرر في التي قبل هذه أن الله يجزي قوما بكسبهم ويعاقبهم
بذنوبهم واجترامهم، أكد ذلك بقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ.
وقوله: فَلِنَفْسِهِ هي لام الحظ، لأن الحظوظ والمحاب إنما
يستعمل فيها اللام التي هي كلام الملك، تقول الأمور لزيد
متأتية، وتستعمل في ضد ذلك على، فتقول: الأمور على فلان
مستصعبة، وتقول: لزيد مال وعليه دين، وكذلك جاء العمل الصالح
في هذه الآية باللام والإشارة ب «على» .
وقوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ معناه إلى
قضائه وحكمه، والْكِتابَ في قوله: آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ
الْكِتابَ هو التوراة. وَالْحُكْمَ هو السنة والفقه، فيقال إنه
لم يتسع فقه الأحكام على لسان نبي ما اتسع على لسان موسى عليه
السلام: وَالنُّبُوَّةَ هي ما تكرر فيهم من الأنبياء.
وقوله تعالى: وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني المستلذات
الحلال، وبهذين تتم النعمة ويحسن
(5/83)
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ
عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ
يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى
وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ
وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
تعديدها، وهذه إشارة إلى المن والسلوى،
وطيبات الشام بعد، إذ هي الأرض المباركة، وقد تقدم القول في
معنى الطَّيِّباتِ، وتلخيص قول مالك والشافعي في ذلك.
وقوله تعالى: عَلَى الْعالَمِينَ يريد على عالم زمانهم.
والبينات من الأمر: هو الوحي الذي فصلت لهم به الأمور.
ثم أوضح تعالى خطأهم وعظمه بقوله: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا
مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وذلك
أنهم لو اختلفوا اجتهادا في طلب صواب لكان لهم عذر في
الاختلاف، وإنما اختلفوا بغيا وقد تبينوا الحقائق، ثم توعدهم
تعالى بوقف أمرهم على قضائه بينهم يوم القيامة.
قوله عز وجل:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 18 الى 21]
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها
وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18)
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ
ما يَحْكُمُونَ (21)
المعنى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ، فلا محالة أنه
سيختلف عليك كما تقدم لبني إسرائيل فاتبع شريعتك، والشريعة في
كلام العرب: الموضع الذي يرد فيه الناس في الأنهار والمياه
ومنه قول الشاعر:
[البسيط] .
وفي الشرائع من جلان مقتنص ... رث الثياب خفيّ الشخص منسرب
فشريعة الدين هي من ذلك، كأنها من حيث يرد الناس أمر الحدود
ورحمته والقرب منه. وقال قتادة:
الشريعة: الفرائض والحدود والأمر والنهي.
وقوله: مِنَ الْأَمْرِ يحتمل أن يكون واحد الأمور أي من دون
الله ونبواته التي بثها في سالف الزمان، ويحتمل أن يكون مصدرا
من أمر يأمر، أي على شريعة من الأوامر والنواهي، فسمى جميع ذلك
أمرا. والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ هم الكفار الذين كانوا يريدون
صرف محمد صلى الله عليه وسلم إلى إرادتهم. و: يُغْنُوا من
الغناء، أي لن يكون لهم عنك دفاع. ثم حقر تعالى شأن الظالمين
مشيرا بذلك إلى كفار قريش، ووجه التحقير أنه قال: هؤلاء يتولى
بعضهم بعضا، والمتقون يتولاهم الله، فخرجوا عن ولاية الله
وتبرأت منهم، ووكلهم الله بعضهم إلى بعض.
وقوله تعالى: هذا بَصائِرُ يريد القرآن. والبصائر جمع بصيرة،
وهي المعتقد الوثيق في الشيء، كأنه مصدر من إبصار القلب،
فالقرآن فيه بيانات ينبغي أن تكون بصائر. والبصيرة في كلام
العرب:
الطريقة من الدم، ومنه قول الشاعر يصف جده في طلب الثأر وتواني
غيره: [الكامل]
(5/84)
راحوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي
يعدو بها عتد وأى
وفسر الناس هذا البيت بطريقة الدم إذ كانت عادة طالب الدم
عندهم أن يجعل طريقة من دم خلف ظهره ليعلم بذلك أنه لم يدرك
ثأره وأنه يطلبه، ويظهر فيه أنه يريد بصيرة القلب، أي قد اطرح
هؤلاء بصائرهم وراء ظهورهم.
وقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ
الآية قول يقتضي أنه نزل بسبب افتخار كان للكفار على المؤمنين
قالوا لئن كانت آخرة كما تزعمون لنفضلن عليكم فيها كما فضلنا
في الدنيا. و: أَمْ
هذه ليست بمعادلة، وهي بمعنى بل مع ألف الاستفهام. و:
اجْتَرَحُوا
معناه: اكتسبوا، ومنه جوارح الإنسان، ومنه الجوارح في الصيد،
وتقول العرب: فلان جارحة أهله، أي كاسبهم.
وقرأ أكثر القراء: «سواء» بالرفع «محياهم ومماتهم» بالرفع،
وهذا على أن «سواء» رفع بالابتداء «ومحياهم ومماتهم» خبره. و:
كَالَّذِينَ
في موضع المفعول الثاني ل «نجعل» ، وهذا على أحد معنيين:
إما أن يكون الضمير في مَحْياهُمْ
يختص بالكفار المجترحين، فتكون الجملة خبرا عن أن حالهم في
الزمنين حال سوء. والمعنى الثاني: أن يكون الضمير في
مَحْياهُمْ
يعم الفريقين، والمعنى: أن محيا هؤلاء ومماتهم سواء، وهو كريم،
ومحيا الكفار ومماتهم سواء، وهو غير كريم، ويكون اللفظ قد لف
هذا المعنى وذهن السامع يفرقه، إذ تقدم أبعاد أن يجعل الله
هؤلاء كهؤلاء. قال مجاهد: المؤمن يموت مؤمنا ويبعث مؤمنا،
والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: مقتضي هذا الكلام
أن لفظ الآية خبر، ويظهر لي أن قوله: سَواءً مَحْياهُمْ
وَمَماتُهُمْ
داخل في المحسبة المنكرة السيئة، وهذا احتمال، والأول أيضا
جيد.
وقرأ طلحة وعيسى بخلاف عنه: «سواء» بالنصب، «محياهم ومماتهم»
بالرفع، وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون قوله: كَالَّذِينَ
في موضع المفعول الثاني ل «جعل» كما هو في قراءة الرفع، وينصب
قوله: «سواء» على الحال من الضمير في: نَجْعَلَهُمْ
. والوجه الثاني أن يكون قوله: كَالَّذِينَ
في نية التأخير، ويكون قوله: «سواء» مفعولا ثانيا ل «جعل» ،
وعلى كلا الوجهين: «محياهم ومماتهم» مرتفع ب «سواء» على أنه
فاعل. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعمش «سواء» بالنصب
«محياهم ومماتهم» بالنصب وذلك على الظرف أو على أن يكون
«محياهم» بدلا من الضمير في: نَجْعَلَهُمْ
أي نجعل محياهم ومماتهم سواء، وهذه الآية متناولة بلفظها حال
العصاة من حال أهل التقوى، وهي موقف للعارفين فيكون عنده فيه،
وروي عن الربيع بن خيثم أنه كان يرددها ليلة جمعاء، وكذلك عن
الفضيل بن عياض، وكان يقول لنفسه: ليت شعري من أي الفريقين
أنت، وقال الثعلبي: كانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين.
قال القاضي أبو محمد: وأما لفظها فيعطي أنه اجتراح الكفر بدليل
معادلته بالإيمان، ويحتمل أن تكون المعادلة بين الاجتراح وعمل
الصالحات، ويكون الإيمان في الفريقين، ولهذا ما بكى الخائفون
رضوان الله عليهم، وإما مفعولا حَسِبَ
فقولهم أَنْ نَجْعَلَهُمْ
يسد مسد المفعولين. وقوله: ساءَ ما
(5/85)
وَخَلَقَ اللَّهُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ
نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ
اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ
وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ
بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ
إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا
يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ
عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
يَحْكُمُونَ
، ما
مصدرية، والتقدير: ساء الحكم حكمهم.
قوله عز وجل:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 22 الى 24]
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ
وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ
(22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ
اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ
وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ
اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ
حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ
الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ
يَظُنُّونَ (24)
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ معناه:
بأن خلقها حق واجب متأكد في نفسه لما فيه من فيض الخيرات ولتدل
عليه ولتكون صنعة حاكمة لصانع وقيل لبعض الحكماء: لم خلق الله
السماوات والأرض؟ قال ليظهر جوده. واللام في قوله: لِتُجْزى
يظهر أن تكون لام كي، فكأن الجزاء من أسباب خلق السماوات،
ويحتمل أن تكون لام الصيرورة أي صار الأمر فيها من حيث اهتدى
بها قوم وضل عنها آخرون لأن يجازى كل أحد بعلمه وبما اكتسب من
خير أو شر.
وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ سهل بعض القراء الهمزة وخففها قوم،
وكذلك هي في مصحف ابن مسعود مخففة، وفي مصحف أبي بن كعب:
«أفرأيت» دون همز. وهذه الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم
عن المعرضين عن الإيمان، أي لا تعجل بهم ولا تهتم بأمرهم، فليس
فيهم حيلة لبشر، لأن الله تعالى أضلهم. وقال ابن جبير: قوله:
إِلهَهُ هَواهُ إشارة إلى الأصنام إذ كانوا يعبدون ما يهوون من
الحجارة.
وقال قتادة المعنى: لا يهوى شيئا إلا ركبه، لا يخاف الله، وهذا
كما يقال: الهوى إله معبود.
وقرأ الأعرج وابن جبير: «آلهة هواه» على التأنيث في «آلهة» .
وهذه الآية وإن كانت نزلت في هوى الكفر فهي متناولة جميع هوى
النفس الأمارة، قال ابن عباس:
ما ذكر الله هوى إلا ذمة. وقال الشعبي: سمي هوى لهويه بصاحبه.
وقال النبي عليه السلام: والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على
الله وقال سهل التستري: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك. وقال
سهل: إذا شككت في خير أمرين، فانظر أبعدهما من هواك فأته. ومن
حكمة الشعر في هذا قول القائل:
إذا أنت لم تعص الهوى قادك ال ... هوى إلى كل ما فيه عليك مقال
وقوله تعالى: عَلى عِلْمٍ قال ابن عباس المعنى: على علم من
الله تعالى سابق. وقالت فرقة: أي على علم من هذا الضال بأن
الحق هو الذي يترك ويعرض عنه، فتكون الآية على هذا من آيات
العناد من نحو قوله: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها
أَنْفُسُهُمْ [النمل: 14] وعلى كلا التأويلين: ف عَلى عِلْمٍ،
حال.
وقوله تعالى: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى
بَصَرِهِ غِشاوَةً استعارات كلها، إذ هو الضال لا ينفعه ما
يسمع ولا ما يفهم ولا ما يرى، فكأنه بهذه الأوصاف المذكورة،
وهذه الآية لا حجة للجبرية فيها،
(5/86)
وَإِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا
أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ
أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا
الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا
كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
لأن التكسب فيها منصوص عليه في قوله:
اتَّخَذَ وفي قوله: عَلى عِلْمٍ على التأويل الأخير فيه، ولو
لم ينص على الاكتساب لكان مرادا في المعنى.
وقرأ أكثر القراء «غشاوة» بكسر الغين. وقرأ عبد الله بن مسعود:
«غشاوة» بفتح الغين وهي لغة ربيعة، وحكي عن الحسن وعكرمة:
«غشاوة» بضم الغين وهي لغة عكل، وقرأ حمزة والكسائي: «غشوة»
بفتح الغين وإسكان الشين. وقرأ الأعمش وابن مصرف بكسر الغين
دون ألف.
وقوله: مِنْ بَعْدِ اللَّهِ فيه حذف مضاف تقديره: من بعد إضلال
الله إياه.
وقرأ عاصم وأراه الجحدري: «تذكرون» بتخفيف الذال. وقرأ جمهور
الناس: «تذكرون» على الخطاب أيضا بتشديد الذال. وقرأ الأعمش:
«تتذكرون» بتاءين.
وقوله تعالى: وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا
الآية حكاية مقالة بعض قريش، وهذه صنيفة دهرية من كفار العرب.
ومعنى قولهم: ما في الوجود إلا هذه الحياة التي نحن فيها وليست
ثم آخرة ولا بعث.
واختلف المفسرون في معنى قولهم: نَمُوتُ وَنَحْيا فقالت فرقة
المعنى: نحن موتى قبل أن نوجد، ثم نحيا في وقت وجودنا. وقالت
فرقة: المعنى: نَمُوتُ حين نحن نطف ودم، ثم نَحْيا بالأرواح
فينا، وهذا قول قريب من الأول، ويسقط على القولين ذكر الموت
المعروف الذي هو خروج الروح من الجسد، وهو الأهم في الذكر.
وقالت فرقة المعنى نحيا ونموت، فوقع في اللفظ تقديم وتأخير.
وقالت فرقة:
الغرض من اللفظ العبارة عن حال النوع، فكأن النوع بجملته يقول:
إنما نحن تموت طائفة وتحيا طائفة دأبا.
وقولهم: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أي طول الزمان هو
المهلك، لأن الآفات تستوي فيه كمالاتها، فنفى الله تعالى علمهم
بهذا وأعلم أنها ظنون وتخرص تفضي بهم إلى الإشراك بالله تعالى.
والدَّهْرُ والزمان تستعمله الغرب بمعنى واحد. وفي قراءة ابن
مسعود: «وما يهلكنا إلا دهر يمر» . وقال مجاهد:
الدَّهْرُ هنا الزمان، وروى أبو هريرة عن النبي عليه السلام
أنه قال: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار،
ويفارق هذا الاستعمال قول النبي عليه السلام: «لا تسبوا الدهر،
فإن الله تعالى هو الدهر» وفي حديث آخر: «قال الله تعالى يسب
ابن آدم الدهر، وأنا الدهر بيدي الليل والنهار» ، ومعنى هذا
الحديث: فإن الله تعالى يفعل ما تنسبونه إلى الدهر وتسبونه
بسبه. وإذا تأملت مثالات هذا في الكلام ظهرت إن شاء الله
تعالى.
قوله عز وجل:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 25 الى 29]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ
حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا
رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى
كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا
الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا
كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
(5/87)
الضمير في: عَلَيْهِمْ عائد على كفار قريش.
والآيات: هي آيات القرآن وحروفه بقرينة قوله:
تُتْلى وعابت هذه الآية سوء مقاولتهم، وأنهم جعلوا بدل الحجة
التمني المتشطط والطلب لما قد حتم الله أن لا يكون إلا إلى أجل
مسمى.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن عامر فيما روى عنه عبد الحميد،
وعاصم فيما روى هارون وحسين عن أبي بكر عنه «حجتهم» بالرفع على
اسم كانَ والخبر في أَنْ. وقرأ جمهور الناس «حجتهم» بالنصب على
مقدم واسم كانَ في أَنْ.
وكان بعض قريش قد قال: أحي لنا قصيا فإنه كان شيخ صدق حتى
نسأله، إلى غير ذلك من هذا النحو، فنزلت الآية في ذلك، وقالوا
لمحمد عليه السلام: ائْتُوا من حيث المخاطبة له، والمراد هو
وإلهه والملك الوسيط الذي ذكر هولهم، فجاء من ذلك جملة قيل لها
ائْتُوا وإِنْ كُنْتُمْ.
ثم أمر تعالى نبيه أن يخبرهم بالحال السالفة في علم الله التي
لا تبدل، وهي أنه يحيي الخلق ويميتهم بعد ذلك ويحشرهم بعد
إماتتهم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.
وقوله: لا رَيْبَ فِيهِ أي في نفسه وذاته. والأكثر الذي لا
يعلم هم الكفار والأكثر هنا على بابه.
وقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ قالت فرقة: العامل
في: يَوْمَ قوله: يَخْسَرُ وجاء قوله:
يَوْمَئِذٍ بدلا مؤكدا. وقالت فرقة: العامل في: يَوْمَ فعل يدل
عليه الملك، وذلك أن يوم القيامة حال ثالثة ليست بالسماء ولا
بالأرض، لأن ذلك يتبدل، فكأنه قال: وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والملك يوم القيامة، وينفرد يَخْسَرُ
بالعمل في قوله: يَوْمَئِذٍ و: الْمُبْطِلُونَ الداخلون في
الباطل.
وقوله تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ وصف
حال القيامة وهولها. والأمة: الجماعة العظيمة من الناس التي قد
جمعها معنى أو وصف شامل لها. وقال مجاهد: الأمة: الواحد من
الناس، وهذا قلق في اللغة، وإن قيل في إبراهيم عليه السلام
أمة، وقالها النبي عليه السلام في قس بن ساعدة فذلك تجوز على
جهة التشريف والتشبيه. و: جاثِيَةً معناه على الركب، قاله
مجاهد والضحاك، وهي هيئة المذنب الخائف المعظم، وفي الحديث:
«فجثا عمر على ركبتيه» . وقال سلمان: في القيامة ساعة قدر عشر
سنين يخر الجميع فيها جثاة على الركب.
وقرأ جمهور الناس: «كل أمة» بالرفع على الابتداء. وقرأ يعقوب
الحضرمي: «كلّ أمة تدعى» بالنصب على البدل من «كل» الأولى، إذ
في «كل» الثانية إيضاح موجب الجثو. وقرأ الأعمش: «وترى كل أمة
جاثية تدعى» بإسقاط كُلَّ أُمَّةٍ الثاني.
واختلف المتأولون في قوله: إِلى كِتابِهَا فقالت فرقة: أراد
إِلى كِتابِهَا المنزل عليها فتحاكم
(5/88)
فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ
فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى
عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ
(31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ
لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ
نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33)
إليه هل وافقته أو خالفته. وقالت فرقة:
أراد إِلى كِتابِهَا الذي كتبته الحفظة على كل واحد من الأمة،
فباجتماع ذلك قيل له كِتابِهَا، وهنا محذوف يدل عليه الظاهر
تقديره: يقال لهم اليوم تجزون.
وقوله تعالى: هذا كِتابُنا يحتمل أن تكون الإشارة إلى الكتب
المنزلة أو إلى اللوح المحفوظ، قال مجاهد ومقاتل: يشهد بما سبق
فيه من سعادة أو شقاء، أو تكون الكتب الحفظة وقال ابن قتيبة:
هي إلى القرآن.
واختلف الناس في قوله تعالى: نَسْتَنْسِخُ فقالت فرقة معناه:
نكتب وحقيقة النسخ وإن كانت أن تنقل خط من أصل ينظر فيه، فإن
أعمال العباد هي في هذا التأويل كالأصل، فالمعنى: إنا كنا نقيد
كل ما عملتم. قال الحسن: هو كتب الحفظة على بني آدم. وروى ابن
عباس وغيره حديثا أن الله تعالى يأمر بعرض أعمال العباد كل يوم
خميس فينقل من الصحف التي رفع الحفظة كل ما هو معد أن يكون
عليه ثواب أو عقاب ويلغى الباقي. قالت هذه الفرقة: فهذا هو
النسخ من أصل. وقال ابن عباس أيضا: معنى الآية أن الله تعالى
يجعل الحفظة تنسخ من اللوح المحفوظ كل ما يفعل العباد ثم
يمسكونه عندهم، فتأتي أفعال العباد على نحو ذلك فتقيد أيضا،
فذلك هو الاستنساخ.. وكان ابن عباس يقول: ألستم عربا؟ وهل يكون
الاستنساخ إلا من أصل.
قوله عز وجل:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 30 الى 33]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ
آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ
قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ
حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا
السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ
بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا
وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33)
ذكر الله تعالى حال الطائفتين من المؤمنين والكافرين، وقرن
بينهم في الذكر ليبين الأمر في نفس السامع، فإن الأشياء تتبين
بذكر أضدادها، والْفَوْزُ: هو نيل البغية.
وقوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ فإن
التقدير وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فيقال لهم أَفَلَمْ
تَكُنْ، فحذف يقال اختصارا وبقيت الفاء دالة على الجواب الذي
تطلبه أَمَّا، ثم قدم عليها ألف الاستفهام من حيث له صدر القول
على كل حالة ووقف الله تعالى الكفار على الاستكبار لأنه من شر
الخلال.
وقرأ حمزة وحده: «والساعة» بالنصب عطفا على قوله: وَعْدَ
اللَّهِ ورويت عن أبي عمرو وعيسى والأعمش. وقرأ ابن مسعود: «حق
وأن الساعة لا ريب فيها» ، وكذلك قرأ أيضا الأعمش. وقرأ
الباقون:
«والساعة» رفعا، ولذلك وجهان: أحدهما الابتداء والاستئناف،
والآخر العطف على موضع إِنَّ وما
(5/89)
وَقِيلَ الْيَوْمَ
نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)
ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا
وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا
يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
عملت فيه، لأن التقدير: وعد الله حق، قاله
أبو علي في الحجة. وقال بعض النحاة: لا يعطف على موضع إِنَّ،
إلا إذا كان العامل الذي عطلته إِنَّ باقيا، وكذلك هي على موضع
الباء في قوله: فلسنا بالجبال ولا الحديد، فلما كانت ليس
باقية، جاز العطف على الموضع قبل دخول الباء، ويظهر نحو هذا
النظر من كتاب سيبويه، ولكن قد ذكرنا ما حكى أبو علي وهو
القدوة.
وقولهم: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا معناه: إِنْ نَظُنُّ بعد
قبول خبركم إِلَّا ظَنًّا وليس يعطينا خبرا.
وقوله تعالى: وَبَدا لَهُمْ الآية حكاية حال يوم القيامة.
وَحاقَ معناه: نزل وأحاط وهي مستعملة في المكروه، وفي قوله: ما
كانُوا حذف مضاف تقديره: جزاء ما كانوا، أي عقاب كونهم
يَسْتَهْزِؤُنَ.
قوله عز وجل:
[سورة الجاثية (45) : الآيات 34 الى 37]
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ
يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ
ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ
اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ
(35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ
رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
نَنْساكُمْ معناه: نترككم كما تركتم لقاء يومكم هذا، فلم يقع
منكم استعداد له ولا تأهب، فسميت العقوبة في هذه الآية باسم
الذنب. والمأوى: الموضع الذي يسكنه الإنسان ويكون فيه عامة
أوقاته أو كلها أجمع. و: آياتِ اللَّهِ لفظ جامع لآيات القرآن
وللأدلة التي نصبها الله تعالى لينظر فيها العباد.
وقرأ أكثر القراء: «لا يخرجون» بضم الياء المنقوطة من تحت وفتح
الراء. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش والحسن: «يخرجون»
بإسناد الفعل إليهم بفتح الياء وضم الراء. و: يُسْتَعْتَبُونَ
تطلب منهم مراجعة إلى عمل صالح.
وقوله تعالى: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ إلى آخر السورة، تحميد لله
تعالى وتحقيق لألوهيته، وفي ذلك كسر لأمر الأصنام والأنصاب.
وقراءة الناس: «ربّ» بالخفض في الثلاثة على الصفة. وقرأ ابن
محيصن: بالرفع فيها على معنى هو ربّ.
و: الْكِبْرِياءُ بناء مبالغة، وفي الحديث: يقول الله تعالى:
الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني منهما شيئا قصمته.
(5/90)
|