تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأحقاف
هذه السورة مكية لم يختلف منها إلا في آيتين، وهي قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف: 10] وقوله: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] الآية، فقال بعض المفسرين: هاتان آيتان مدنيتان وضعتا في سورة مكية.
قوله عز وجل:

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)
تقدم القول في الحروف المقطعة التي في أوائل السور. وتَنْزِيلُ رفع بالابتداء أو خبر ابتداء مضمر. و: الْكِتابِ القرآن. والعزة والإحكام: صفتان مقتضيتان أن من هي له غالب كل من حادّه.
وقوله: ما خَلَقْنَا السَّماواتِ الآية موعظة وزجر، أي فانتبهوا أيها الناس وانظروا ما يراد بكم ولم خلقتم. وقوله تعالى: إِلَّا بِالْحَقِّ معناه بالواجب الحسن الذي قد حق أن يكون، وب أَجَلٍ مُسَمًّى:
وقتناه وجعلناه موعدا لفساد هذه البنية وذلك هو يوم القيامة. وقوله تعالى: عَمَّا أُنْذِرُوا «ما» مصدرية، والمعنى عن الإنذار، ويحتمل أن تكون «ما» بمعنى الذي، والتقدير: عن ذكر الذي أنذروا به والتحفظ منه أو نحو هذا.
وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ يحتمل أَرَأَيْتُمْ وجهين: أحدهما أن تكون متعدية، وما مفعولة بها، ويحتمل أن تكون منبهة لا تتعدى، وتكون ما استفهاما على معنى التوبيخ. وتَدْعُونَ معناه:
تعبدون. قال الفراء: وفي قراءة عبد الله بن مسعود: «قل أرأيتم من تدعون» . وقوله: مِنَ الْأَرْضِ، مِنْ، للتبعيض، لأن كل ما على وجه الأرض من حيوان ونحوه فهو من الأرض.

(5/91)


ثم وقفهم على السماوات هل لهم فيها شرك، ثم استدعى منهم كتابا منزلا قبل القرآن يتضمن عبادة صنم.
وقوله: أَوْ أَثارَةٍ معناه: أو بقية قديمة من علم أحد العلماء يقتضي عبادة الأصنام. وقرأ جمهور الناس: «أو أثارة» على المصدر، كالشجاعة والسماحة، وهي البقية من الشيء كأنها أثره.
وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى من علم تستخرجونه فتثيرونه. وقال مجاهد: المعنى هل من أحد يأثر علما في ذلك. وقال القرظي: هو الإسناد، ومن هذا المعنى قول الأعشى: [السريع]
إن الذي فيه تماريتما ... بيّن للسامع والآثر
آثرا أي للسند عن غيره، ومنه قول عمر رضي الله عنه: فما خلفنا بها ذاكرا ولا آثرا. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن وقتادة: المعنى وخاصة من علم، فاشتقاقها من الأثرة، كأنها قد آثر الله بها من هي عنده، وقال عبد الله بن العباس: المراد ب «الأثارة» : الخط في التراب، وذلك شيء كانت العرب تفعله وتتكهن به وتزجر، وهذا من البقية والأثر، وروي أن النبي عليه السلام سئل عن ذلك فقال: «كان نبي من الأنبياء يخطه، فمن وافق خطه فذاك» ، وظاهر الحديث تقوية أمر الخط في التراب، وأنه شيء له وجه إذا وفق أحد إليه، وهكذا تأوله كثير من العلماء. وقالت فرقة: بل معناه الإنكار، أي أنه كان من فعل نبي قد ذهب، وذهب الوحي إليه والإلهام في ذلك، ثم قال: فمن وافق خطه على جهة الإبعاد، أي أن ذلك لا يمكن ممن ليس بنبي ميسر لذلك، وهذا كما يسألك أحد فيقول: أيطير الإنسان؟ فتقول: إنما يطير الطائر، فمن كان له من الناس جناحان طار، أي أن ذلك لا يكون. والأثارة تستعمل في بقية الشرف فيقال: لبني فلان أثارة من شرف، إذا كانت عندهم شواهد قديمة، وتستعمل في غير ذلك، ومنه قول الراعي: [الوافر]
وذات أثارة أكلت عليه ... نباتا في أكمتها قصارى
يريد: الأثارة من الشحم، أي البقية وقرأ عبد الرحمن السلمي فيما حكى الطبري: «أو أثرة» بفتح الهمزة والثاء والراء دون ألف، وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس وقتادة وعكرمة وعمرو بن ميمون والأعمش، وهي واحدة جمعها: أثر كقترة وقتر. وحكى الثعلبي أن عكرمة قرأ: «أو ميراث من علم» . وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي فيما حكى أبو الفتح بسكون الثاء وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر، أي قد قنعت لكم حجة بخبر واحد أو أثر واحد يشهد بصحة قولكم. وقرأت فرقة: «أثرة» بضم الهمزة وسكون الثاء، وهذه كلها بمعنى: هل عندكم شيء خصكم الله به من علم وآثركم به.
وقوله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ الآية توبيخ لعبدة الأصنام، أي لا أحد أضل ممن هذه صبغته، وجاءت الكنايات في هذه الآية عن الأصنام كما تجيء عمن يعقل، وذلك أن الكفار قد أنزلوها منزلة الآلهة وبالمحل الذي دونه البشر، فخوطبوا على نحو معتقدهم فيها، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «ما لا يستجيب» . والضمير في قوله: وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ هو للأصنام في قول جماعة، ووصف الأصنام بالغفلة من حيث عاملهم معاملة من يعقل، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: وَهُمْ وفي:

(5/92)


وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)

غافِلُونَ للكفار، أي ضلالهم بأنهم يدعون من لا يستجيب فلا يتأملون ما عليهم في دعاء من هذه صفته.
وقوله تعالى: كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وصف لما يكون يوم القيامة بين الكفار وأصنامهم من التبري والمناكرة، وقد بين ذلك في غير هذه الآية. وذلك قوله تعالى حكاية عنهم: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص: 63] .
قوله عز وجل:

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 الى 9]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
الآيات المذكورة هي آيات القرآن، بدليل قوله: تُتْلى وبقول الكفار: هذا سِحْرٌ وإنما قالوا ذلك عن القرآن من حيث قالوا: هو يفرق بين المرء وبين ولده، وبينه وبين زوجه، إلى نحو هذا مما يوجد مثله للسحر بالوجه الأخس.
وقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، أَمْ مقطوعة مقدرة ب (بل) وألف الاستفهام. و: افْتَراهُ معناه: اشتقه واختلقه، فأمره الله تعالى أن يقول: إِنِ افْتَرَيْتُهُ فالله حسبي في ذلك، وهو كان يعاقبني ولا يمهلني. ثم رجع القول إلى الاستسلام إلى الله تعالى والاستنصار به عليهم وانتظار ما يقتضيه علمه بِما تُفِيضُونَ فِيهِ من الباطل ومرادة الحق، وذلك يقتضي معاقبتهم، ففي اللفظة تهديد. والضمير في قوله:
فِيهِ يحتمل أن يعود على القرآن، ويحتمل العودة على بِما. والضمير في: بِهِ عائد على الله تعالى. و: بِهِ في موضع رفع، وأفاض الرجل في الحديث والسب ونحوه: إذا خاض فيه واستمر.
وقوله: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ترجية واستدعاء إلى التوبة، لأنه في خلال تهديده إياهم بالله تعالى جاءت هاتان الصفتان. ثم أمره تعالى أن يحتج عليهم بأنه لم يكن بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ، أي قد جاء غيري قبلي، قاله ابن عباس والحسن وقتادة. والبدع والبديع من الأشياء ما لم ير مثله، ومنه قول ترجمة عدي بن زيد: [الطويل]
فما أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالا عرت من بعد بؤسى وأسعد
وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة وأبو حيوة: «بدعا» بفتح الدال. قال أبو الفتح، التقدير: ذا بدع فحذف المضاف كما قال [النابغة الجعدي] : [المقارب]
وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب

(5/93)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)

واختلف الناس في قوله: ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ، فقال ابن عباس وأنس بن مالك والحسن وقتادة وعكرمة: معناه: في الآخرة، وكان هذا في صدر الإسلام، ثم بعد ذلك عرفه الله تعالى بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبأن المؤمنين لهم من الله فضل كبير وهو الجنة، وبأن الكافرين في نار جهنم، والحديث الذي وقع في جنازة عثمان بن مظعون يؤيده هذا وهو قوله: «فو الله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي» ، وفي بعض الرواية: «به» ، ولا حجة في الحديث على رواية «به» ، والمعنى عندي في هذا القول أنه لم تكشف له الخاتمة فقال لا أدري؟ وأما ان من وافى على الإيمان فقد أعلم بنجاته من أول الرسالة وإلا فكان للكفار أن يقولوا: وكيف تدعونا إلى ما لا تدري له عاقبة، وقال الحسن أيضا وجماعة.
معنى الآية: ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ في الدنيا من أن أنصر عليكم أو من أن تمكنوا مني، ونحو هذا من المعنى. وقالت فرقة: معنى الآية: ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ من الأوامر والنواهي وما تلزم الشريعة من أعراضها. وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال: نزلت الآية في أمر كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظره من الله في غير الثواب والعقاب، وروي عن ابن عباس أنه لما تأخر خروج النبي عليه السلام من مكة حين رأى في النوم أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وسبخة، قلق المسلمون لتأخر ذلك، فنزلت هذه الآية.
وقوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ معناه: الاستسلام والتبري من علم المغيبات والوقوف مع النذارة من عذاب الله عز وجل:
قوله عز وجل:

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 10 الى 11]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
هذه الآية توقيف على الخطر العظيم الذي هم بسبيله في أن يكذبوا بأمر نافع لهم منج من العذاب دون حجة ولا دليل لهم على التكذيب، فالمعنى كيف حالكم مع الله، وماذا تنتظرون منه وأنتم قد كفرتم بما جاء من عنده، وجواب هذا التوقيف محذوف تقديره: أليس قد ظلمتم، ودل على هذا المقدر قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ و: أَرَأَيْتُمْ في هذه الآية يحتمل أن تكون منبهة، فهي لفظ موضوع للسؤال لا يقتضي مفعولا، ويحتمل أن تكون الجملة كانَ وما عملت فيه تسد مسد مفعوليها.
واختلف الناس في المراد ب (الشاهد) فقال الحسن ومجاهد وابن سيرين: هذه الآية مدنية، والشاهد عبد الله بن سلام. وقوله: عَلى مِثْلِهِ الضمير فيه عائد على قول محمد عليه السلام في القرآن إنه من عند الله. وقال الشعبي: الشاهد رجل من بني إسرائيل غير عبد الله بن سلام كان بمكة، والآية مكية.
وقال سعد بن أبي وقاص ومجاهد وفرقة: الآية مكية، والشاهد عبد الله بن سلام، وهي من الآيات التي تضمنت غيبا أبرزه الوجود، وقد روي عن عبد الله بن سلام أنه قال: فيّ نزلت. وقال مسروق بن الأجدع والجمهور: الشاهد موسى بن عمران عليه السلام، والآية مكية، ورجحه الطبري.

(5/94)


وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)

وقوله: عَلى مِثْلِهِ يريد بالمثل: التوراة، والضمير عائد في هذا التأويل على القرآن، أي جاء شاهد من بني إسرائيل بمثله وشهد أنه من عند الله تعالى.
وقوله: فَآمَنَ على هذا التأويل، يعني به تصديق موسى بأمر محمد وتبشيره به، فذلك إيمان به، وأما من قال: الشاهد عبد الله بن سلام، فإيمان بين، وكذلك إيمان الإسرائيلي الذي كان بمكة في قول من قاله، وحكى بعضهم أن الفاعل ب «آمن» ، هو محمد عليه السلام، وهذا من القائلين بأن الشاهد هو موسى بن عمران عليه السلام، وإنما اضطر إلى هذا لأنه لم ير وجه إيمان موسى عليه السلام، ثم قرر تعالى استكبارهم وكفرهم بإيمان هذا المذكور، فبان ذنبهم وخطؤهم.
وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ قال قتادة: هي مقالة قريش، يريدون عمارا وصهيبا وبلالا ونحوهم ممن أسلم وآمن بالنبي عليه السلام. وقال الزجاج والكلبي وغيره: هي مقالة كنانة وعامر وسائر قبائل العرب المجاورة، قالت ذلك حين أسلمت غفار ومزينة وجهينة.
وقال الثعلبي: هي مقالة اليهود حين أسلم ابن سلام وغيره منهم. والإفك: الكذب، ووصفوه بالقدم، بمعنى أنه في أمور متقادمة، وهذا كما تقول لرجل حدثك عن أخبار كسرى وقيصر، هذا حديث قديم، ويحتمل أن يريدوا أنه إفك قيل قديما.
قوله عز وجل:

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 12 الى 15]
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
الضمير في قوله: وَمِنْ قَبْلِهِ للقرآن، و: كِتابُ مُوسى هو التوراة. وقرأ الكلبي: «كتاب موسى» بنصب الباء على إضمار أنزل الله أو نحو ذلك. والإمام: خيط البناء، وكل ما يهتدى ويقتدى به فهو إمام. ونصب إِماماً على الحال، وَرَحْمَةً عطف على إمام، والإشارة بقوله: وَهذا كِتابٌ إلى القرآن. و: مُصَدِّقٌ معناه للتوراة التي تضمنت خبره وأمر محمد، فجاء هو مصدقا لذلك الإخبار، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «مصدق لما بين يديه لسانا» ، واختلف الناس في نصب قوله: لِساناً فقالت فرقة من النحاة، هو منصوب على الحال، وقالت فرقة: لِساناً توطئة مؤكدة. و: عَرَبِيًّا حال، وقالت فرقة: لِساناً مفعول ب مُصَدِّقٌ، والمراد على هذا القول باللسان: محمد رسول الله ولسانه،

(5/95)


فكان القرآن بإعجازه وأحواله البارعة يصدق الذي جاء به، وهذا قول صحيح المعنى جيد وغيره مما قدمناه متجه.
وقرأ نافع وابن عامر وابن كثير فيما روي عنه، وأبو جعفر والأعرج وشيبة وأبو رجاء والناس: «لتنذر» بالتاء، أي أنت يا محمد، ورجحها أبو حاتم، وقرأ الباقون والأعمش «لينذر» أي القرآن و: الَّذِينَ ظَلَمُوا هم الكفار الذين جعلوا العبادة في غير موضعها في جهة الأصنام والأوثان.
وقوله: وَبُشْرى يجوز أن تكون في موضع رفع عطفا على قوله: مُصَدِّقٌ، ويجوز أن تكون في موضع نصب، واقعة موقع فعل عطفا على لِيُنْذِرَ أي وتبشر المحسنين، ولما عبر عن الكفار ب الَّذِينَ ظَلَمُوا، عبر عن المؤمنين ب «المحسنين» لتناسب لفظ الإحسان في مقابلة الظلم. ثم أخبر تعالى عن حسن حال المسلمين المستقيمين ورفع الظلم. ثم أخبر تعالى عن حسن حال المسلمين المستقيمين ورفع عنهم الخوف والحزن، وذهب كثير من الناس إلى أن معنى الآية: ثُمَّ اسْتَقامُوا بالطاعات والأعمال الصالحات. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه المعنى: ثُمَّ اسْتَقامُوا بالدوام على الإيمان وترك الانحراف عنه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول أعم رجاء وأوسع، وإن كان في الجملة المؤمنة من يعذب وينفذ عليه الوعيد، فهو ممن يخلد في الجنة وينتفي عنه الخوف والحزن الحال بالكفرة، والخوف هو الهم لما يستقبل، والحزن هو الهم بما مضى، وقد يستعمل فيما يستقبل استعارة، لأنه حزن لخوف أمر ما.
وقرأ ابن السميفع: «فلا خوف» دون تنوين.
وقوله: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، «ما» واقعة على الجزء الذي هو اكتساب العبد، وقد جعل الله الأعمال أمارات على صبور العبد، لا أنها توجب على الله شيئا.
وقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ يريد النوع، أي هكذا مضت شرائعي وكتبي لأنبيائي، فهي وصية من الله في عباده.
وقرأ جمهور القراء: «حسنا» بضم الحاء وسكون السين، ونصبه على تقدير وصيناه ليفعل أمرا ذا حسن، فكأن الفعل تسلط عليه مفعولا ثانيا. وقرأ علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن وعيسى: «حسنا» بفتح الحاء والسين، وهذا كالأول ومحتمل كونهما مصدرين كالبخل والبخل، ومحتمل، أن يكون هذا الثاني اسما لا مصدرا، أي ألزمناه بهما فعلا حسنا. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «إحسانا» ، ونصب هذا على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور، والباء متعلقة ب وَصَّيْنَا أو بقوله: «إحسانا» .
وبر الوالدين واجب بهذه الآية وغيرها، وعقوقهما كبيرة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل شيء بينه وبين الله حجاب إلا شهادة أن لا إله إلا الله ودعوة الوالدين.
قال القاضي أبو محمد: ولن يدعوا إلا إذا ظلمهما الولد، فهذا الحديث في عموم قوله عليه السلام:
«اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» .

(5/96)


ثم عدد تعالى على الأبناء منن الأمهات وذكر الأم في هذه الآيات في أربع مراتب، والأب في واحدة، جمعهما الذكر في قوله: بِوالِدَيْهِ، ثم ذكر الحمل للأم ثم الوضع لها ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال، فهذا يناسب ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر، والربع للأب، وذلك إذ قال له رجل: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: ثم أمك، قال ثم من؟
قال: ثم أمك، قال ثم من؟ قال: أباك وقوله: كُرْهاً معناه في ثاني استمرار الحمل حين تتوقع حوادثه، ويحتمل أن يريد في وقت الحمل، إذ لا تدبير لها في حمله ولا تركه، وقال مجاهد والحسن وقتادة: المعنى حملته مشقة ووضعته مشقة.
وقرأ أكثر القراء: «كرها» بضم الكاف. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة والأعرج:
«كرها» بفتح الكاف، وقرأ بهما معا مجاهد وأبو رجاء وعيسى. قال أبو علي وغيره: هما بمعنى، الضم الاسم، والفتح المصدر. وقالت فرقة: الكره بالضم: المشقة، والكره بالفتح هو الغلبة والقهر، وضعفوا على هذا قراءة الفتح. قال بعضهم: لو كان «كرها» لرمت به عن نفسها، إذ الكره القهر والغلبة، والقول الذي قدمناه أصوب.
وقرأ جمهور الناس: «وفصاله» وذلك أنها مفاعلة من اثنين، كأنه فاصل أمه وفاصلته. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري: «وفصله» ، كأن الأم هي التي فصلته.
وقوله: ثَلاثُونَ شَهْراً يقتضي أن مدة الحمل والرضاع هذه المدة، لأن في القول حذف مضاف تقديره: ومدة حمله وفصاله، وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصا، وذلك إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين، وإما بأن تلد لتسعة على العرف وترضع عامين غير ربع العام، فإن زادت مدة الحمل نقصت مدة الرضاع، وبالعكس فيترتب من هذا أن أقل مدة الحمل ستة أشهر. وأقل ما يرضع الطفل عام وتسعة أشهر، وإكمال العامين هو لمن أراد أن يتم الرضاعة، وهذا في أمر الحمل هو مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من الصحابة ومذهب مالك رحمه الله.
واختلف الناس في الأشد: فقال الشعبي وزيد بن أسلم: البلوغ إذا كتبت عليه السيئات وله الحسنات. وقال ابن إسحاق: ثمانية عشر عاما، وقيل عشرون عاما، وقال ابن عباس وقتادة: ثلاثة وثلاثون عاما، وقال الجمهور من النظار: ثلاثة وثلاثون. وقال هلال بن يساف وغيره: أربعون، وأقوى الأقوال ستة وثلاثون، ومن قال بالأربعين قال في الآية إنه أكد وفسر الأشد بقوله: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
قال القاضي أبو محمد: وإنما ذكر تعالى الأربعين، لأنها حد للإنسان في فلاحه ونجابته، وفي الحديث: «إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب فيقول: بأبي وجه لا يفلح» وقال أيمن بن خريم الأسدي: [الطويل]
إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يأتي حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى ... وإن جر أسباب الحياة له العمر
وفي مصحف ابن مسعود: «حتى إذا استوى أشده وبلغ أربعين سنة» وقوله: أَوْزِعْنِي معناه:

(5/97)


أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)

ادفعني عن الموانع وازجرني عن القواطع لأجل أن أشكر نعمتك، ويحتمل أن يكون أَوْزِعْنِي بمعنى اجعل حظي ونصيبي، وهذا من التوزيع والقوم الأوزاع، ومن قوله توزعوا المال، ف «أن» على هذا مفعول صريح. وقال ابن عباس نِعْمَتَكَ في التوحيد. و: صالِحاً تَرْضاهُ الصلوات. والإصلاح في الذرية كونهم أهل طاعة وخيرية، وهذه الآية معناها أن هكذا ينبغي للإنسان أن يفعل، وهذه وصية الله للإنسان في كل الشرائع.
وقال الطبري: وذكر أن هذه الآية من أولها نزلت في شأن أبي بكر الصديق، ثم هي تتناول من بعده، وكان رضي الله عنه قد أسلم أبواه، فلذلك قال: وَعَلى والِدَيَّ، وفي هذا القول اعتراض بأن هذه الآية نزلت بمكة لا خلاف في ذلك، وأبو قحافة أسلم عام الفتح فإنما يتجه هذا التأويل على أن أبا بكر كان يطمع بإيمان أبويه ويرى مخايل ذلك فيهما، فكانت هذه نعمة عليهما أن ليسا ممن عسا في الكفر ولج وحتم عليه ثم ظهر إيمانهما بعد، والقول بأنها عامة في نوع الإنسان لم يقصد بها أبو بكر ولا غيره أصح، وباقي الآية بين إلى قوله: مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
قوله عز وجل:

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 16 الى 19]
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)
قوله تعالى: أُولئِكَ دليل على أن الإشارة بقوله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ [الأحقاف: 15] إنما أراد الجنس.
وقرأ جمهور القراء: «يتقبّل» بالياء على بناء الفعل للمفعول وكذلك «يتجاوز» . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم فيهما بالنون التي للعظمة «نتقبل» «أحسن» بالنصب «ونتجاوز» وهي قراءة طلحة وابن وثاب وابن جبير والأعمش بخلاف عنه. وقرأ الحسن «يتقبل» بياء مفتوحة «ويتجاوز» كذلك، أي الله تعالى وقوله: فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ يريد الذين سبقت لهم رحمة الله. وقوله: وَعْدَ الصِّدْقِ نصب على المصدر المؤكد لما قبله.
وقوله تعالى: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما الآية، الَّذِي يعنى به الجنس على حد العموم الذي في الآية التي قبلها في قوله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ [الأحقاف: 15] هذا قول الحسن وجماعة، ويشبه أن لها سببا من رجل قال ذلك لأبويه. فلما فرغ من ذكر الموفق عقب بذكر هذا العاق. وقال ابن عباس في كتاب الطبري: هذه الآية نزلت في ابن لأبي بكر ولم يسمّه.

(5/98)


وقال مروان بن الحكم: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقاله قتادة، وذلك أنه كان أكبر ولد أبي بكر وشهد بدرا وأحدا مع الكفار، وقال لأبيه في الحرب:
لم يبق إلا شكة ويعبوب ... وصارم يقتل ضلال الشيب
ودعاه إلى المبارزة فكان بمكة على نحو هذه الخلق، فقيل إن هذه الآية نزلت فيه. وروي أن مروان بن الحكم خطب وهو أمير المدينة فدعا الناس إلى بيعة يزيد، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر:
جعلتموها هرقلية، كلما مات هرقل ولي هرقل، وكلما مات قيصر ولي قيصر، فقال مروان بن الحكم:
خذوه، فدخل عبد الرحمن بيت عائشة أخته أم المؤمنين، فقال مروان: إن هذا هو الذي قال الله فيه:
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما فسمعته عائشة، فأنكرت ذلك عليه، وسبت مروان، وقالت له: والله ما نزل في آل أبي بكر من القرآن غير براءتي، وإني لأعرف فيمن نزلت هذه الآية. وذكر ابن عبد البر أن الذي خطب هو معاوية، وذلك وهم، والأصوب أن تكون عامة في أهل هذه الصفات ولم يقصد بها عبد الرحمن ولا غيره من المؤمنين والدليل القاطع على ذلك قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ وكان عبد الرحمن رحمه الله من أفضل الصحابة ومن الأبطال، وممن له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وطلحة بن مصرف: «أفّ» بكسر الفاء بغير تنوين، وذلك فيها علامة تعريف. وقرأ ابن كثير وابن عامر وابن محيصن وشبل وعمرو بن عبيد: «أفّ» بالفتح، وهي لغة الكسر والفتح. وقرأ نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر وشيبة والحسن والأعرج: «أفّ» بالكسر والتنوين، وذلك علامة تنكير، وهي كصه وغاق، وكما تستطعم رجلا حديثا غير معين فتقول «إيه» منونة، فإن كان حديثا مشارا إليه قلت «إيه» بغير تنوين. وأُفٍّ: أصلها في الأقذار، كانت العرب إذا رأت قذرا قالت: «أف» ثم صيره الاستعمال يقال في كل ما يكره من الأفعال والأقوال.
وقرأ هشام عن ابن عامر وعاصم وأبو عمرو: «أتعداني» ، وقرأ أبو عمرو ونافع وشيبة والأعرج والحسن وأبو جعفر وقتادة وجمهور القراء «أتعدانني» بنونين، والقراءة الأولى هي بإدغام النون في النون.
وقرأ نافع أيضا وجماعة: «أتعداني» بنون واحدة وإظهار الياء.
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة وأبو رجاء وابن وثاب وجمهور الناس:
«أن أخرج» بضم الهمزة وفتح الراء. وقرأ الحسن وابن يعمر والأعمش وابن مصرف والضحاك. «أن أخرج» بفتح الهمزة وضم الراء. والمعنى أن أخرج من القبر للحشر والمعاد، وهذا القول منه استفهام بمعنى الهزء والاستبعاد.
وقوله: وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي معناه: هلكت ومضت ولم يخرج منهم أحد. وقوله:
وَهُما يعني الوالدين، ويقال استغثت الله واستغثت بالله بمعنى واحد. و: وَيْلَكَ دعاء يقال هنا لمن يحفز ويحرك لأمر ما يستعجل إليه.
وقرأ الأعرج «أن وعد الله» بفتح الهمزة، والناس على كسرها.
وقوله: ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ أي ما هذا القول الذي يتضمن البعث من القبور إلا شيء قد سطره

(5/99)


وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)

الأولون في كتبهم، يعني الشرائع، وظاهر ألفاظ هذه الآية أنها نزلت في مشار إليه قال وقيل له، فنعى الله أقواله تحذيرا من الوقوع في مثلها.
وقوله: أُولئِكَ ظاهره أنها إشارة إلى جنس يتضمنه قوله: وَالَّذِي قالَ، ويحتمل إن كانت الآية في مشار إليه أن يكون قوله: أُولئِكَ بمعنى صنف هذا المذكور وجنسهم الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، أي قول الله إنه يعذبهم.
وقوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يقتضي أن الْجِنِّ يموتون كما يموت البشر قرنا بعد قرن، وقد جاء حديث يقتضي ذلك. وقال الحسن بن أبي الحسن في بعض مجالسه: إن الجن لا يموتون، فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت.
وقوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ يعني المحسنين والمسيئين. قال ابن زيد: ودرجات المحسنين تذهب علوا، ودرجات المسيئين تذهب سفلا.
وقرأ أبو عبد الرحمن: «ولتوفيهم» بالتاء من فوق، أي الدرجات. وقرأ جمهور الناس: «وليوفيهم» بالياء. وقرأ نافع بخلاف عنه، وأبو جعفر وشيبة والأعرج وطلحة والأعمش: «ولنوفيهم» بالنون: قال اللؤلؤي في حرف أبي بن كعب وابن مسعود: «ولنوفيّنهم» بنون أولى ونون ثانية مشددة، وكل امرئ يجني ثمرة عمله من خير أو شر ولا يظلم في مجازاته، بل يوضع كل أمر موضعه من ثواب أو عقاب.
قوله عز وجل:

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 20 الى 22]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)
المعنى: واذكر يوم يعرض، وهذا العرض هو بالمباشرة، كما تقول عرضت العود على النار والجاني على السوط، والمعنى: يقال لهم أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ.
وقرأ جمهور القراء: «أذهبتم» على الخبر، حسنت الفاء بعد ذلك. وقرأ ابن كثير والحسن والأعرج وأبو جعفر ومجاهد وابن وثاب. «آذهبتم» بهمزة مطولة على التوبيخ والتقرير الذي هو في لفظ الاستفهام.
وقرأ ابن عامر «أأذهبتم» بهمزتين تقريرا.
والتقرير والتوبيخ إخبار بالمعنى، ولذلك حسنت الفاء وإلا فهي لا تحسن في جواب على حد هذه مع الاستفهام المحض.
والطيبات: الملاذ، وهذه الآية وإن كانت في الكفار فهي رادعة لأولي النهى من المؤمنين عن

(5/100)


قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)

الشهوات واستعمال الطيبات، ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه: أتظنون أنا لا نعرف طيب الطعام، ذلك لباب البر بصغار المعزى، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم أنهم أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، ذكر هذا في كلامه مع الربيع بن زياد. وقال أيضا نحو هذا لخالد بن الوليد حين دخل الشام فقدم إليه طعام طيب، فقال عمر: هذا لنا، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير؟ فقال خالد: لهم الجنة، فبكى عمر وقال: لئن كان حظنا في الحطام وذهبوا بالجنة لقد باينونا بونا بعيدا. وقال جابر بن عبد الله: اشتريت لحما بدرهم فرآني عمر، فقال: أو كلما اشتهى أحدكم شيئا اشتراه فأكله؟ أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية، وتلا: أَذْهَبْتُمْ الآية.
وعَذابَ الْهُونِ: العذاب الذي اقترن به هوان، وهذا هو عذاب العصاة المواقعين ما قد نهوا عنه، وهذا بين في عذاب الدنيا، فعذاب المحدود في معصية كالحرابة ونحوها مقترن بهون، وعذاب المقتول في حرب لا هون معه، فالهون والهوان بمعنى؟!.
ثم أمر تعالى نبيه بذكر هود وقومه عاد على جهة المثال لقريش، وهذه الإخوة هي أخوة القرابة، لأن هودا كان من أشراف القبيلة التي هي عاد.
واختلف الناس في هذه «الأحقاف» أين كانت؟ فقال ابن عباس والضحاك: هي جبل بالشام، وقيل كانت بلاد نخيل، وقيل هي الرمال بين مهرة وعدن. وقال ابن عباس أيضا: بين عمان ومهرة. وقال قتادة:
هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني. وقال ابن إسحاق: هي بين حضر موت وعمان، والصحيح من الأقوال: أن بلاد عاد كانت باليمن ولهم كانت إرم ذات العماد. و «الأحقاف» : جمع حقف، وهو الجبل المستطيل والمعوجّ من الرمل. (قال الخليل: هي الرمال الأحقاف) وكثيرا ما تحدث هذه الأحقاف في بلاد الرمل في الصحارى، لأن الريح تصنع ذلك.
وقوله تعالى: وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ اعتراض مؤكد مقيم للحجة أثناء قصة هود، لأن قوله: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ هو من نذارة هود. و: خَلَتِ معناه: مضت إلى الخلاء ومرت أزمانها. وفي مصحف عبد الله: «وقد خلت النذر من قبله وبعده» . وروي أن فيه: «وقد خلت النذر من بين يديه ومن بعده» . والنُّذُرُ: جمع نذير بناء اسم فاعل. وقولهم: لِتَأْفِكَنا معناه: لتصرفنا. وقولهم:
فَأْتِنا بِما تَعِدُنا تصميم على التكذيب وتعجيز منهم له في زعمهم.
قوله عز وجل:

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 23 الى 26]
قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26)

(5/101)


المعنى قال لهم هود: إن هذا الوعيد ليس من قبلي، وإنما الأمر إلى الله وعلم وقته عنده، وإنما عليّ أن أبلغ فقط.
وقرأ جمهور الناس: «وأبلّغكم» بفتح الباء وشد اللام. قال أبو حاتم: وقرأ أبو عمرو في كل القرآن بسكون الباء وتخفيف اللام.
و: أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ أي مثل هذا من أمر الله تعالى وتجهلون خلق أنفسكم. والضمير في:
رَأَوْهُ يحتمل أن يعود على العذاب، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئي الطارئ عليهم، وهو الذي فسره قوله: عارِضاً، والعارض ما يعرض في الجو من السحاب الممطر، ومنه قول الأعشى:
يا من رأى عارضا قد بتّ أرمقه ... كأنما البرق في حافاته الشعل
وقال أبو عبيدة: العارض الذي في أقطار السماء عشيا ثم يصبح من الغد قد استوى. وروي في معنى قوله: مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ أن هؤلاء القوم كانوا قد قحطوا مدة فطلع هذا العارض على الهيئة والجهة التي يمطرون بها أبدا، جاءهم من قبل واد لهم يسمونه المغيث. قال ابن عباس: ففرحوا به وقالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا، وقد كذب هو فيما أوعد به، فقال لهم هود عليه السلام: ليس الأمر كما رأيتم، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ في قولكم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا [الأحقاف: 22] ثم قال: رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ.
وفي قراءة ابن مسعود: «قال هود بل هو» بإظهار المقدر، لأن قراءة الجمهور هي كقوله تعالى يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: 23] أي يقولون سلام. قال الزجاج وقرأ قوم: «ما استعجلتم» بضم التاء الأولى وكسر الجيم. و: رِيحٌ بدل من المبتدأ في قوله: هُوَ مَا.
و: مُمْطِرُنا هو نعت ل عارِضٌ وهو نكرة إضافته غير محضة، لأن التقدير ممطر لنا في المستقبل، فهو في حكم الانفصال.
وقد مضى في غير هذه السورة قصص الريح التي هبت عليهم، وأنها كانت تحمل الظعينة كجرادة.
و: تُدَمِّرُ معناه: تهلك. والدمار: الهلاك، ومنه قول جرير: [الوافر]
وكان لهم كبكر ثمود لمّا ... رغا دهرا فدمرهم دمارا
وقوله: كُلَّ شَيْءٍ ظاهره العموم ومعناه الخصوص في كل ما أمرت بتدميره، وروي أن هذه الريح رمتهم أجمعين في البحر.
وقرأ جمهور القراء: «لا ترى» أيها المخاطب. وقرأ عاصم وحمزة: «لا يرى» بالياء على بناء الفعل للمفعول «مساكنهم» رفعا. التقدير: لا يرى شيء منهم، وهذه قراءة ابن مسعود وعمرو بن ميمون والحسن بخلاف عنه، ومجاهد وعيسى وطلحة. وقرأ الحسن بن أبي الحسن والجحدري وقتادة وعمرو بن ميمون والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو رجاء ومالك بن دينار بغير خلاف عنهما خاصة ممن ذكر: «لا ترى» بالتاء

(5/102)


وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)

منقوطة من فوق مضمومة «مساكنهم» رفعا، ورويت عن ابن عامر، وهذا نحو قول ذي الرمة: [البسيط]
كأنه جمل وهم وما بقيت ... إلا النجيزة والألواح والعصب
ونحو قوله: [الطويل] فما بقيت إلا الضلوع الجراشع وفي هذه القراءة استكراه. وقرأ الأعمش وعيسى الهمداني: «إلا مسكنهم» على الإفراد الذي هو اسم الجنس، والجمهور على الجمع في اللفظة، ووجه الإفراد تصغير الشأن وتقريبه كما قال تعالى: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر: 67] .
ثم خاطب تعالى قريشا على جهة الموعظة بقوله: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ف (ما) ، بمعنى الذي، وإِنْ نافية وقعت مكان (ما) ليختلف اللفظ، ولا تتصل (ما) ب (ما) ، لأن الكلام كأنه قال: في الذي ما مكناكم فيه. ومعنى الآية: ولقد أعطيناهم من القوة والغنى والبسيط في الأموال والأجسام ما لم نعطكم، ونالهم بسبب كفرهم هذا العذاب، فأنتم أحرى بذلك إذا كفرتم. وقالت فرقة: إِنْ شرطية، والجواب محذوف تقديره: في الذي إن مكناكم فيه طغيتم، وهذا تنطع في التأويل.
ثم عدد تعالى عليهم نعم الحواس والإدراك، وأخبر أنها لم تغن حين لم تستعمل على ما يجب.
و «ما» : نافية في قوله: فَما أَغْنى عَنْهُمْ ويقوي ذلك دخول مِنْ في قوله: مِنْ شَيْءٍ.
وقالت فرقة: «ما» في قوله: فَما أَغْنى عَنْهُمْ استفهام بمعنى التقرير، ومِنْ شَيْءٍ على هذا تأكيد، وهذا على غير مذهب سيبويه في دخول من في الواجب. وَحاقَ معناه: وجب ولزم، وهو مستعمل في المكاره، والمعنى جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
قوله عز وجل:

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 27 الى 29]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
وقوله: وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مخاطبة لقريش على جهة التمثيل لهم بمأرب وسدوم وحجر ثمود. وقوله: وَصَرَّفْنَا الْآياتِ يعني لهذه القرى المهلكة.
وقوله: فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الآية يعني هلا نصرتهم أصنامهم التي اتخذوها. و: قُرْباناً إما أن يكون المفعول الثاني ب اتَّخَذُوا و: آلِهَةً بدل منه، وإما أن يكون حالا. و: آلِهَةً المفعول الثاني، والمفعول الأول هو الضمير العائد على: الَّذِينَ التقدير: اتخذوهم. وقوله تعالى: بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ

(5/103)


معناه: انتلفوا لهم حتى لم يجدوهم في وقت حاجة.
وقوله: وَذلِكَ الإشارة به تختلف بحسب اختلاف القراءات في قوله: إِفْكُهُمْ فقرأ جمهور القراء «إفكهم» بكسر الهمزة وسكون الفاء وضم الكاف، فالإشارة ب ذلِكَ على هذه القراءة إلى قولهم في الأصنام إنها آلهة، وذلك هو اتخاذهم إياها، وكذلك هي الإشارة في قراءة من قرأ: «أفكهم» بفتح الهمزة، وهي لغة في الإفك، وهما بمعنى الكذب، وكذلك هي الإشارة في قراءة من قرأ: «أفكهم» بفتح الهمزة: والفاء على الفعل الماضي، بمعنى صرفهم، وهي قراءة ابن عباس وأبي عياض وعكرمة وحنظلة بن النعمان. وقرأ أبو عياض أيضا وعكرمة فيما حكى الثعلبي: «أفّكهم» بشد الفاء وفتح الهمزة والكاف، وذلك على تعدية الفعل بالتضعيف. وقرأ عبد الله بن الزبير: «آفكهم» بالمد وفتح الفاء والكاف على التعدية بالهمزة. قال الزجاج: معناه جعلهم يأفكون كما يقال أكفرهم. وقرأ ابن عباس فيما روى قطرب: «آفكهم» بفتح الهمزة والمد وكسر الفاء وضم الكاف على وزن فاعل، بمعنى: صارفهم.
وحكى الفراء أنه يقرأ: «أفكهم» بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف، وهي لغة في الإفك، والإشارة ب ذلِكَ على هذه القراءة التي ليست مصدرا يحتمل أن تكون إلى الأصنام. وقوله: وَما كانُوا يَفْتَرُونَ، ويحتمل أن تكون ما مصدرية فلا يحتاج إلى عائد، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي، فهناك عائد محذوف تقديره: يفترونه.
وقوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ ابتداء قصة الجن ووفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم. و: صَرَفْنا معناه: رددناهم عن حال ما، يحتمل أنها الاستماع في السماء، ويحتمل أن يكون كفرهم قبل الوفادة وهذا بحسب الاختلاف هنا هل هم الوفد أو المتجسسون، وروي أن الجن كانت قبل مبعث النبي عليه السلام تسترق السمع من السماء، فلما بعث محمد عليه السلام حرست بالشهب الراجمة، فضاقت الجن ذرعا بذلك، فاجتمعت وأتى رأي ملئهم على الافتراق في أقطار الأرض وطلب السبب الموجب لهذا الرجم والمنع من استراق السمع ففعلوا ذلك. واختلف الرواة بعد فقالت فرقة:
جاءت طائفة من الجن إلى النبي عليه السلام وهو لا يشعر، فسمعوا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين، ولم يعرف النبي بشيء من ذلك حتى عرفه الله بذلك كله، وكان سماعهم لقرآنه وهو بنخلة عند سوق عكاظ، وهو يقرأ في صلاة الفجر. وقالت فرقة: بل أشعره الله بوفادة الجن عليه واستعد لذلك، ووفد عليه أهل نصيبين منهم.
قال القاضي أبو محمد: والتحرير في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جن دون أن يعرف بهم، وهم المتفرقون من أجل الرجم، وهذا هو قوله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ [الجن: 1] ثم بعد ذلك وفد عليه وفد، وهو المذكور صرفه في هذه الآية. قال قتادة: صرفوا إليه من نينوى، أشعر به قبل وروده.
وقال الحسن: لم يشعر.
واختلف في عددهم اختلافا متباعدا فاختصرته لعدم الصحة في ذلك، أما أن ابن عباس رضي الله عنه قال: كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين وقال زر كانوا تسعة: فيهم زوبعة، وروي في ذلك أحاديث عن

(5/104)


قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)

عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني خارج إلى وفد الجن، فمن شاء يتبعني» ، فسكت أصحابه، فقالها ثانية، فسكتوا، فقال عبد الله أنا أتبعك، قال فخرجت معه حتى جاء شعب الحجون، فأدار لي دائرة وقال لي: لا تخرج منها، ثم ذهب عني، فسمعت لغطا ودويا كدوي النسور الكاسرة. ثم في آخر الليل جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قرأ عليهم القرآن وعلمهم وأعطاهم زادا في كل عظم وروثة، فقال: يا عبد الله، ما رأيت؟ فأخبرته، فقال: لقد كنت أخشى أن تخرج فيتخطفك بعضهم، قلت يا رسول الله، سمعت لهم لغطا، فقال: إنهم تدارأوا في قتيل لهم، فحكمت بالحق. واضطربت الروايات عن عبد الله بن مسعود، وروي عنه ما ذكرنا. وذكر عنه أنه رأى رجالا من الجن وبهم شبه رجال الزط السود الطوال حين رآهم بالكوفة. وروي عنه أنه قال: ما شاهد أحد منا ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختصرت هذه الروايات وتطويلها لعدم صحتها.
وقوله: نَفَراً يقتضي أن المصروفين رجالا لا أنثى فيهم. والنفر والرهط: القوم الذين لا أنثى فيهم.
وقوله تعالى: فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فيه تأدب مع العلم وتعليم كيف يتعلم وقرأ جمهور الناس: «قضي» على بناء الفعل للمفعول.. وقرأ حبيب بن عبد الله بن الزبير وأبو مجلز: «قضى» على بناء الفعل للفاعل، أي قضى محمد القراءة.
وقال ابن عمر وجابر بن عبد الله: قرأ عليهم سورة [الرحمن] فكان إذا قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: 13] قالوا: لا بشيء من آلائك نكذب، ربنا لك الحمد، ولما ولت هذه الجملة تفرقت على البلاد منذرة للجن. قال قتادة: ما أسرع ما عقل القوم.
قال القاضي أبو محمد: فهنالك وقعت قصة سواد وشصار وخنافر وأشباههم صلى الله على محمد عبده ورسوله.
قوله عز وجل:

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 30 الى 33]
قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
المعنى: قال هؤلاء المنذرون لما بلغوا قومهم يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً وهو القرآن العظيم، وخصصوا مُوسى عليه السلام لأحد أمرين: إما لأن هذه الطائفة كانت تدين بدين اليهود، وإما لأنهم

(5/105)


وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)

كانوا يعرفون أن موسى قد ذكر محمدا وبشر به، فأشاروا إلى موسى من حيث كان هذا الأمر مذكورا في توراته. قال ابن عباس في كتاب الثعلبي: لم يكونوا علموا أمر عيسى عليه السلام، فلذلك قالوا مِنْ بَعْدِ مُوسى. وقولهم: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يؤيد هذا. و: ما بَيْنَ يَدَيْهِ هي التوراة والإنجيل.
والْحَقِّ و «الطريق المستقيم» هنا بمعنى يتقارب لكن من حيث اختلف اللفظ، وربما كان الْحَقِّ أعم، وكأن أحدهما قد يقع في مواضع لا يقع فيها الآخر حسن التكرار. و: داعِيَ اللَّهِ هو محمد عليه السلام، والضمير في: بِهِ عائد على الله تعالى.
وقوله: يَغْفِرْ معناه: يغفر الله. وَيُجِرْكُمْ معناه: يمنعكم ويجعل دونكم جوار حفظه حتى لا ينالكم عذاب.
وقوله تعالى: وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ الآية، يحتمل أن يكون من كلام المنذرين، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى لمحمد عليه السلام، والمراد بها إسماع الكفار وتعلق اللفظ إلى هذا المعنى من قول الجن: أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ فلما حكى ذلك قيل ومن لا يفعل هذا فهو بحال كذا، والمعجز الذاهب في الأرض الذي يبدي عجز طالبه ولا يقدر عليه، وروي عن ابن عامر: «وليس لهم من دونه» بزيادة ميم.
وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا الضمير لقريش، وهذه آية مثل واحتجاج، لأنهم قالوا إن الأجساد لا يمكن أن تبعث ولا تعاد، وهم مع ذلك معترفون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض فأقيمت عليهم الحجة من أقوالهم. والرؤية في قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا رؤية القلب.
وقرأ جمهور الناس: «ولم يعي» بسكون العين وفتح الياء الأخيرة. وقرأ الحسن بن أبي الحسن «يع» بكسر العين وسكون الياء وذلك على حذف.
والباء في قوله: بِقادِرٍ زائدة مؤكدة، ومن حيث تقدم نفي في صدر الكلام حسن التأكيد بالباء وإن لم يكن المنفي ما دخلت على عليه كما هي في قولك: ما زيد بقائم كان بدل أَوَلَمْ يَرَوْا أو ليس الذي خلق.
وقرأ ابن عباس وجمهور الناس: «بقادر» وقرأ الجحدري والأعرج وعيسى وعمرو بن عبيد: «يقدر» بالياء على فعل مستقبل، ورجحها أبو حاتم وغلط قراءة الجمهور لقلق الباء عنده. وفي مصحف عبد الله بن مسعود «بخلقهن قادر» .
و: بَلى جواب بعد النفي المتقدم، فهي إيجاب لما نفي، والمعنى: بلى رأوا ذلك أن لو نفعهم ووقع في قلوبهم، ثم استأنف اللفظ الإخبار المؤكد بقوله: إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
قوله عز وجل:

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 34 الى 35]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)

(5/106)


المعنى: واذكر يوم، وهذا وعيد للكفار من قريش وسواهم. والعرض في هذه الآية، عرض مباشرة، كما تقولون عرضت الجاني على السوط. والمعنى يقال لهم أليس هذا العذاب حقا وقد كنتم تكذبون به؟
فيجيبون: بَلى وَرَبِّنا، وذلك تصديق حيث لا ينفع، وروي عن الحسن أنه قال: إنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون أنه العدل، فيقول لهم المحاور من الملائكة عند ذلك فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم.
وقوله تعالى: فَاصْبِرْ الفاء عاطفة هذه الجملة من الوصاة على هذه الجملة من الإخبار عن حال الكفرة في الآخرة، والمعنى بينهما مرتبط، أي هذه حالهم مع الله، فلا تستعجل أنت فيما حملته واصبر له ولا تخف في الله أحدا.
وقوله: مِنَ الرُّسُلِ مِنَ للتبعيض، والمراد من حفظت له مع قومه شدة ومجاهدة كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم صلى الله عليهم، هذا قول عطاء الخراساني وغيره. وقال ابن زيد ما معناه: إن مِنَ لبيان الجنس. قال: والرسل كلهم أُولُوا الْعَزْمِ، ولكن قوله: كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ يتضمن رسلا وغيرهم، فبين بعد ذلك جنس الرسل خاصة تعظيما لهم، ولتكون القدوة المضروبة لمحمد عليه السلام أشرف، وذكر الثعلبي هذا القول عن علي بن مهدي الطبري. وحكي عن أبي القاسم الحكيم أنه قال: الرسل كلهم أولو عزم إلا يونس عليه السلام وقال الحسن بن الفضل: هم الثمانية عشر المذكورين في سورة الأنعام، لأنه قال بعقب ذكرهم أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] . وقال مقاتل هم ستة: نوح صبر على أذى قومه طويلا، وإبراهيم صبر للناس، وإسحاق صبر نفسه للذبح، ويعقوب صبر على الفقد لولده وعمي بصره وقال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف: 83] ، ويوسف على السجن وفي البئر، وأيوب صبر على البلاء.
قال القاضي أبو محمد: وانظر أن النبي عليه السلام قال في موسى: «يرحم الله موسى، أوذي بأكثر من هذا فصبر» ، ولا محالة أن لكل نبي ورسول عزما وصبرا.
وقوله: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ معناه لا تستعجل لهم عذابا، فإنهم إليه صائرون، ولا تستطل تعميرهم في هذه النعمة، فإنهم يوم يرون العذاب كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة لاحتقارهم ذلك، لأن المنقضي من الزمان إنما يصير عدما، فكثيره الذي ساءت عاقبته كالقليل.
وقرأ أبي بن كعب «ساعة من النهار» . وقرأ جمهور القراء والناس: «بلاغ» وذلك يحتمل معاني، أحدها: أن يكون خبر ابتداء، المعنى: هذا بلاغ، وتكون الإشارة بهذا إلى القرآن والشرع، أي هذا إنذار وتبليغ، وإما إلى المدة التي تكون كساعة كأنه قال: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً كانت بلاغهم، وهذا كما تقول: متاع قليل ونحوه من المعنى. والثاني: أن يكون ابتداء والخبر محذوف. والثالث: ما قاله أبو مجلز

(5/107)


فإنه كان يقف على قوله: وَلا تَسْتَعْجِلْ ويقول: «بلاغ» ابتداء وخبره متقدم في قوله: لَهُمْ وقدح الناس في هذا القول بكثيرة الحائل. وقرأ الحسن بن أبي الحسن، وعيسى: «بلاغا» ، وهي قراءة تحتمل المعنيين اللذين في قراءة الرفع، وليس يدخلها قول أبي مجلز ونصبها بفعل مضمر. وقرأ أبو مجلز وأبو سراج الهذلي: «بلّغ» ، على الأمر. وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «بلاغ» بالخفض نعتا ل نَهارٍ.
وقرأ جمهور الناس:
«فهل يهلك» على بناء الفعل للمفعول. وقرأ بعضهم فيما حكى هارون: «فهل يهلك» ببناء الفعل للفاعل وكسر اللام، وحكاها أبو عمرو عن الحسن وابن محيصن: «يهلك» بفتح الياء واللام. قال أبو الفتح: وهي مرغوب عنها. وروى زيد بن ثابت عن النبي عليه السلام: «فهل يهلك» بضم الياء وكسر اللام «إلا القوم الفاسقين» بالنصب.
وفي هذه الألفاظ وعيد محض وإنذار بين، وذلك أن الله تعالى جعل الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، وأمر بالطاعة ووعد عليها بالجنة، ونهى عن الكفر وأوعد عليه بالنار، فلن يهلك على الله إلا هالك كما قال صلى الله عليه وسلم. قال الثعلبي: يقال إن قوله: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أرجى آية في كتاب الله تعالى للمؤمنين.

(5/108)


الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)

بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة محمّد
هذه السورة مدنية بإجماع، غير أن بعض الناس قال في قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد: 13] إنها نزلت بمكة في وقت دخول النبي فيها عام الفتح أو سنة الحديبية، وما كان مثل هذا فهو معدود في المدني، لأن المراعى في ذلك إنما هو ما كان قبل الهجرة أو بعدها.
قوله عز وجل:

[سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)
قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا الآية، إشارة إلى أهل مكة الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية إشارة إلى الأنصار أهل المدينة الذين آووه، وفي الطائفتين نزلت الآيتان، قاله ابن عباس ومجاهد، ثم هي بعد تعم كل من دخل تحت ألفاظها. وقوله: وَصَدُّوا يحتمل أن يريد الفعل المجاوز، فيكون المعنى: وَصَدُّوا غيرهم، ويحتمل أن يكون الفعل غير متعد، فيكون المعنى: وَصَدُّوا أنفسهم. و: سَبِيلِ اللَّهِ شرعه وطريقه الذي دعا إليه.
وقوله: أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي أتلفها، ولم يجعل لها غاية خير ولا نفعا، وروي أن هذه الآية نزلت بعد بدر، وأن الإشارة بقوله: أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ هي إلى الإنفاق الذي أنفقوه في سفرتهم إلى بدر، وقيل المراد بالأعمال: أعمالهم البرة في الجاهلية من صلة رحم ونحوه، واللفظ يعم ذلك.
وقرأ الناس: «نزّل» بضم النون وشد الزاي. وقرأ الأعمش: «أنزل» معدى بالهمزة وقوله تعالى:
وَأَصْلَحَ بالَهُمْ قال قتادة معناه: وأصلح حالهم. وقرأ ابن عباس «أمرهم» . وقال مجاهد: شأنهم.
وتحرير التفسير في اللفظة أنها بمعنى الفكر والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب، فإذا صلح ذلك صلحت حاله، فكأن اللفظة مشيرة إلى صلاح عقيدتهم وغير ذلك من الحال تابع، فقولك: خطر في

(5/109)


فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)

بالي كذا، وقولك: أصلح الله بالك: المراد بهما واحد، ذكره المبرد. والبال: مصدر كالحال والشأن، ولا يستعمل منها فعل، وكذلك عرفه أن لا يثنى ولا يجمع، وقد جاء مجموعا لكنه شاذ، فإنهم قالوا بآلات.
وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الإشارة إلى هذه الأفعال التي ذكر الله أنه فعلها بالكفار وبالمؤمنين. و: الْباطِلَ الشيطان وكل ما يأمر به، قاله مجاهد. و: الْحَقَّ هنا هو الشرع ومحمد عليه السلام.
وقوله: كَذلِكَ يبين أمر كل فرقة ويجعل لها ضربها من القول وصنفها. وضرب المثل مأخوذ من الضريب والضرب الذي هو بمعنى النوع.
قوله عز وجل:

[سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 9]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)
قال ابن عباس وقتادة وابن جريج والسدي: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف التي في براءة:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] وإن الأسر والمن والفداء مرتفع، فمتى وقع أسر فإنما معه القتل ولا بد، وروي نحوه عن أبي بكر الصديق. وقال ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعطاء ما معناه:
إن هذه الآية محكمة مبينة لتلك، والمن والفداء ثابت، وقد منّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال، وفادى أسرى بدر، وقاله الحسن، وقال: لا يقتل الأسير إلا في الحرب، يهيب بذلك على العدو. وكان عمر بن عبد العزيز يفادي رجلا برجل، ومنع الحسن أن يفادوا بالمال. وقد أمر عمر بن عبد العزيز بقتل أسير من الترك ذكر له أنه قتل مسلمين. وقالت فرقة: هذه الآية خصصت من الأخرى أهل الكتاب فقط، ففيهم المن والفداء، وعباد الأوثان ليس فيهم إلا القتل. وعلى قول أكثر العلماء الآيتان محكمتان. وقوله هنا: فَضَرْبَ الرِّقابِ بمثابة قوله هناك: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] وصرح هنا بذكر المن والفداء، ولم يصرح به هناك، وهو مراد متقرر، وهذا هو القول القوي.
وقوله: فَضَرْبَ الرِّقابِ مصدر بمعنى الفعل، أي فاضربوا رقابهم وعين من أنواع القتل أشهره وأعرفه فذكره، والمراد: اقتلوهم بأي وجه أمكن، وقد زادت آية: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الأنفال: 12] وهي من أنكى ضربات الحرب، لأنها تعطل من المضروب جميع جسده، إذ البنان أعظم آلة المقاتل وأصلها. و: أَثْخَنْتُمُوهُمْ معناه: بالقتل. والإثخان في القوم: أن يكثر فيهم القتلى والجرحى، والمعنى: فشدوا الوثاق بمن لم يقتل ولم يترتب عليه إلا الأسر. و: مَنًّا و: فِداءً

(5/110)


مصدران منصوبان بفعلين مضمرين. وقرأ جمهور الناس: «فداء» . وقرأ شبل عن ابن كثير: «فدى» مقصورا.
وإمام المسلمين مخير في أسراه في خمسة أوجه: القتل، أو الاسترقاق، أو ضرب الجزية، أو الفداء، أو المن. ويترجح النظر في أسير أسر بحسب حاله من إذاية المسلمين أو ضد ذلك.
وقوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها معناه: حتى تذهب وتزول أثقالها. والأوزار: الأثقال فيها والآلات لها، ومنه قول الشاعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي: [المتقارب]
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا
وقال الثعلبي: وقيل الأوزار في هذه الآية: الآثام، جمع وزر، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين.
واختلف المتأولون في الغاية التي عندها تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها، فقال قتادة: حتى يسلم الجميع فتضع الحرب أوزارها. وقال حذاق أهل النظر: حتى تغلبوهم وتقتلوهم.
وقال مجاهد حتى ينزل عيسى ابن مريم.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر الآية أنها استعارة يراد لها التزام الأمر أبدا، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها، فجاء هذا كما تقول: أنا أفعل كذا إلى يوم القيامة، فإنما تريد: إنك تفعله دائما.
وقوله تعالى: ذلِكَ تقديره: الأمر ذلك. ثم قال: وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ أي بعذاب من عنده يهلكهم به في حين واحد، ولكنه تعالى أراد اختبار المؤمنين وأن يبلو بعض الناس ببعض.
وقرأ جمهور الناس: «قاتلوا» وقرأ عاصم الجحدري بخلاف عنه: «قتلوا» بفتح القاف والتاء. وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم والأعرج وقتادة والأعمش: «قتلوا» بضم القاف وكسر التاء. وقرأ زيد بن ثابت والحسن والجحدري وأبو رجاء: «قتّلوا» بضم القاف وكسر التاء وشدها، والقراءة الأولى أعمها وأوضحها معنى. وقال قتادة: نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم أحد من المؤمنين.
وقوله تعالى: سَيَهْدِيهِمْ أي إلى طريق الجنة، وقد تقدم القول في إصلاح البال. وروى عباس بن المفضل عن أبي عمرو: «ويدخلهم» بسكون اللام. وفي سورة [التغابن] يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ [التغابن: 9] وفي سورة [الإنسان] إِنَّما نُطْعِمُكُمْ [الإنسان: 9] بسكون العين والميم.
وقوله تعالى: عَرَّفَها لَهُمْ قال أبو سعيد الخدري وقتادة ومجاهد معناه: بينها لهم، أي جعلهم يعرفون منازلهم منها، وفي نحو هذا المعنى هو قول النبي عليه السلام: لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا. وقالت فرقة معناه: سماها لهم ورسمها، كل منزل باسم صاحبه، فهذا نحو من التعريف.
وقالت فرقة معناه: شرفها لهم ورفعها وعلاها، وهذا من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها، ومنه أعراف

(5/111)


أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)

الخيل. وقال مؤرج وغيره معناه: طيبها مأخوذ من العرف، ومنه طعام معرف، أي مطيب. وعرفت القدر:
طيبتها بالملح والتابل.
وقوله تعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ فيه حذف مضاف، أي دين الله ورسوله، والمعنى: تنصروه بجدكم واتباعكم وإيمانكم يَنْصُرْكُمْ بخلق القوة لكم والجرأة وغير ذلك من المعاون.
وقرأ جمهور الناس: «ويثبّت» بفتح التاء المثلثة وشد الباء. وقرأ المفضل عن عاصم: «ويثبت» بسكون الثاء وتخفيف الباء، وهذا التثبيت هو في مواطن الحرب على الإسلام، وقيل على الصراط في القيامة.
وقوله تعالى: فَتَعْساً لَهُمْ معناه: عثارا وهلاكا فيه، وهي لفظة تقال للعاثر إذا أريد به الشر، ومنه قول الشاعر: [المنسرح]
يا سيدي إن عثرت خذ بيدي ... ولا تقل: لا، ولا تقل تعسا
وقال الأعشى: [البسيط]
بذات لوت عفرناة إذا عثرت ... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا
ومنه قول أم مسطح لما عثرت في مرطها: تعس مسطح. قال ابن السكيت: التعس أن يخر على وجهه. و: «تعسا» مصدر نصبه فعل مضمر.
وقوله تعالى: كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ يريد القرآن. وقوله: فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ يقتضي أن أعمالهم في كفرهم التي هي بر مقيدة محفوظة، ولا خلاف أن الكافر له حفظة يكتبون سيئاته. واختلف الناس في حسناتهم، فقالت فرقة: هي ملغاة يثابون عليها بنعم الدنيا فقط. وقالت فرقة: هي محصاة من أجل ثواب الدنيا، ومن أجل أنه قد يسلم فينضاف ذلك إلى حسناته في الإسلام، وهذا أحد التأويلين في قول النبي عليه السلام لحكيم بن حزام: «أسلمت على ما سلف لك من خير» . فقوم قالوا تأويله: أسلمت على أن يعد لك ما سلف من خير، وهذا هو التأويل الذي أشرنا إليه. وقالت فرقة معناه: أسلمت على إسقاط ما سلف لك من خير، إذ قد ثوبت عليه بنعم دنياك. وذكر الطبري أن أعمالهم التي أخبر في هذه الآية بحبطها:
عبادتهم الأصنام وكفرهم. ومعنى: (أحبط) جعلها من العمل الذي لا يزكو ولا يعتد به، فهي لذلك كالذي أحبط.
قوله عز وجل:

[سورة محمد (47) : الآيات 10 الى 13]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13)

(5/112)


أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)

قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا توقيف لقريش وتوبيخ. و: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يريد: ثمود وقوم لوط وقوم شعيب وأهل السد وغيرهم. والدمار: الإفساد وهدم البناء وإذهاب العمران.
وقوله: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ من ذلك. والضمير في قوله: أَمْثالُها يصح أن يعود على العاقبة المذكورة، ويصح أن يعود على الفعلة التي يتضمنها قوله: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وقولهم: ذلِكَ بِأَنَّ ابتداء وخبر في «أن» وما عملت فيه. والمولى: الناصر الموالي، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا» . وقال قتادة: إن هذه الآية نزلت يوم أحد ومنها انتزع رسول الله صلى الله عليه وسلم رده على أبي سفيان حين قال له: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم» .
وقوله تعالى: وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ أي أكلا مجردا من فكرة ونظر، فالتشبيه بالمعنى إنما وقع فيما عدا الأكل من قلة الفكر وعدم النظر، فقوله: كَما في موضع الحال، وهذا كما تقول لجاهل:
يعيش كما تعيش البهيمة، فأما بمقتضى اللفظ فالجاهل والعالم والبهيمة من حيث لهم عيش فهم سواء، ولكن معنى كلامك يعيش عديم النظر والفهم كما تعيش البهيمة. والمثوى: موضع الإقامة، وقد تقدم القول غير مرة في قوله: وَكَأَيِّنْ. وضرب الله تعالى لمكة مثلا بالقرى المهلكة على عظمها، كقرية قوم عاد وغيرها. و: أَخْرَجَتْكَ معناه: وقت الهجرة. ونسب الإخراج إلى القرية حملا على اللفظ. وقال:
أَهْلَكْناهُمْ حملا على المعنى. ويقال: إن هذه الآية نزلت إثر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة في طريق المدينة. وقيل: نزلت بالمدينة. وقيل: نزلت بمكة عام دخلها رسول الله صلى عليه وسلم بعد الحديبية. وقيل نزلت: عام الفتح وهو مقبل إليها. وهذا كله حكمه حكم المدني.
قوله عز وجل:

[سورة محمد (47) : الآيات 14 الى 16]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16)
قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ الآية توقيف وتقرير على شيء متفق عليه وهي معادلة بين هذين الفريقين.
وقال قتادة: الإشارة بهذه الآية إلى محمد عليه السلام في أنه الذي هو على بينة وإلى كفار قريش في أنهم الذين زين لهم سوء أعمالهم.
قال القاضي أبو محمد: وبقي اللفظ عاما لأهل هاتين الصفتين غابر الدهر وقوله: عَلى بَيِّنَةٍ معناه

(5/113)


على قصة واضحة وعقيدة نيرة بينة، ويحتمل أن يكون المعنى على أمر بين ودين بين، وألحق الهاء للمبالغة: كعلامة ونسابة. والذي يسند إليه قوله: زُيِّنَ الشيطان. واتباع الأهواء: طاعتها كأنها تذهب إلى ناحية والمرء يذهب معها.
واختلف الناس في قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الآية، فقال النضر بن شميل وغيره: مَثَلُ معناه صفة، كأنه قال صفة الجنة ما تسمعون فيها كذا وكذا، وقال سيبويه: المعنى فيما يتلى عليكم مثل الجنة.
ثم فسر ذلك الذي يتلى بقوله: فيها كذا وكذا.
قال القاضي أبو محمد: والذي ساق أن يجعل مَثَلُ بمثابة صفة هو أن الممثل به ليس في الآية، ويظهر أن القصد في التمثيل هو إلى الشيء الذي يتخيله المرء عند سماعه فيها كذا وكذا فإنه يتصور عند ذلك بقاعا على هذه الصورة وذلك هي مَثَلُ الْجَنَّةِ ومثالها، وفي الكلام حذف يقتضيه الظاهر، كأنه يقول: مَثَلُ الْجَنَّةِ ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف. وقرأ علي بن أبي طالب: «مثال الجنة» .
وقرأ علي بن أبي طالب أيضا وابن عباس: «أمثال الجنة» . وعلى هذه التأويلات كلها ففي قوله: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ حذف تقديره: أساكن هذه، أو تقديره: أهؤلاء إشارة إلى المتقين، ويحتمل عندي أيضا أن يكون الحذف في صدر الآية. كأنه قال: أمثل أهل الجنة كَمَنْ هُوَ خالِدٌ، ويكون قوله: مَثَلُ مستفهما عنه بغير ألف الاستفهام، فالمعنى: أمثل أهل الجنة، وهي بهذه الأوصاف كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ فتكون الكاف في قوله: كَمَنْ مؤكدة في التشبيه، ويجيء قوله: فِيها أَنْهارٌ في موضع الحال على هذا التأويل. وماءٍ غَيْرِ آسِنٍ معناه غير متغير، قاله ابن عباس وقتادة، وسواء أنتن أو لم ينتن، يقال: أسن الماء: بفتح السين، وأسن بكسرها.
وقرأ جمهور القراء: «آسن» على وزن فاعل. وقرأ ابن كثير: «أسن» ، على وزن فعل، وهي قراءة أهل مكة، والأسن أيضا هو الذي يخشى عليه من ريح منتنة من ماء، ومنه قول الشاعر:
التارك القرن مصرا أنامله ... يميل في الرمح ميل المائح الأسن
وقال الأخفش: آسِنٍ لغة: والمعنى الإخبار به عن الحال، ومن قال: «آسن» على وزن فاعل، فهو يريد به أن يكون كذلك في المستقبل فنفى ذلك في الآية. وقرأت فرقة: «غير يسن» ، بالياء. قال أبو علي: وذلك على تخفيف الهمزة، قال أبو حاتم عن عوف: كذلك كانت في المصحف: «يسن» ، فغيرها الحجاج.
وقوله: في اللبن لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ نفي لجميع وجوه الفساد في اللبن وقوله: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ جمعت طيب المطعم وزوال الآفات من الصداع وغيره ولَذَّةٍ نعت على النسب، أي ذات لذة. وتصفية العسل مذهبة لمومه وضرره. وقوله: مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي من هذه الأنواع، لكنها بعيدة الشبه، إذ تلك لا عيب فيها ولا تعب بوجه. وقوله: وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ معناه: وتنعيم أعطته المغفرة وسببته، فالمغفرة إنما هي قبل الجنة، وقوله: وَسُقُوا الضمير عائد على «من» لأن المراد به جمع.
وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يعني بذلك المنافقين من أهل المدينة، وذلك أنهم كانوا

(5/114)


وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)

يحضرون عند النبي عليه السلام فيسمعون كلامه وتلاوته، فإذا خرجوا قال بعضهم لمن شاء من المؤمنين الذين عملوا وانتفعوا ماذا قالَ آنِفاً فكان منهم من يقول هذا استخفافا، أي ما معنى ما قال وما نفعه وما قدره؟ ومنهم من كان يقول ذلك جهالة ونسيانا، لأنه كان في وقت الكلام مقبلا على فكرته في أمر دنياه وفي كفره، فكان القول يمر صفحا، فإذا خرج قال: ماذا قالَ آنِفاً، وهذا أيضا فيه ضرب من الاستخفاف، لأنه كان يصرح أنه كان يقصد الإعراض وقت الكلام، ولو لم يكن ذلك بقصد لم يبعد أن يجري على بعض المؤمنين. وروي أن عبد الله بن مسعود وابن عباس ممن سئل هذا السؤال، حكاه الطبري عن ابن عباس.
وقرأ الجمهور: «آنفا» على وزن فاعل، وقرأ ابن كثير وحده: «أنفا» على وزن فعل، وهما اسما فاعل من ائتنف، وجريا على غير فعلهما، وهذا كما جرى فقير على افتقر ولم يستعمل فقر، وهذا كثير، والمفسرون يقولون: «أنفا» معناه: الساعة الماضية القريبة منا، وهذا تفسير بالمعنى.
ثم أخبر تعالى أنه طَبَعَ على قلوب هؤلاء المنافقين الفاعلين لهذا، وهذا الطبع يحتمل أن يكون حقيقة، ويحتمل أن يكون استعارة وقد تقدم القول فيه.
قوله عز وجل:

[سورة محمد (47) : الآيات 17 الى 19]
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)
لما ذكر تعالى المنافقين بما هم أهله من قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ [محمد: 16] عقب ذلك بذكر المؤمنين ليبين الفرق، وشرفهم بإسناد فعل الاهتداء إليهم وهي إشارة إلى تكسبهم.
وقوله تعالى: زادَهُمْ هُدىً يحتمل أن يكون الفاعل في زادَهُمْ الله تعالى، والزيادة في هذا المعنى تكون إما بزيادة التفهيم والأدلة، وإما بورود الشرائع والنواهي والأخبار فيزيد الاهتداء لتزيد علم ذلك كله والإيمان به وذلك بفضل الله تعالى، ويحتمل أن يكون الفاعل في: زادَهُمْ قول المنافقين واضطرابهم، لأن ذلك مما يتعجب المؤمن منه ويحمد الله على إيمانه، ويتزيد بصيرة في دينه، فكأنه قال:
المهتدون والمؤمنون زادهم فعل هؤلاء المنافقين هدى، أي كانت الزيادة بسببه، فأسند الفعل إليه، وقالت فرقة: إن هذه الآية نزلت في قوم من النصارى، آمنوا بمحمد فالفاعل في: زادَهُمْ محمد عليه السلام كان سبب الزيادة فأسند الفعل إليه. وقوله على هذا القول: اهْتَدَوْا يريد في إيمانهم بعيسى عليه السلام ثم زادَهُمْ محمد هُدىً حين آمنوا به. والفاعل في آتاهُمْ يتصرف بحسب التأويلات المذكورة، وأقواها أن الفاعل الله تعالى. وَآتاهُمْ معناه: أعطاهم، أي جعلهم متقين له، فالتقدير: تقواهم إياه.

(5/115)


وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)

وقرأ الأعمش: «وأنطاهم تقواهم» ، وهي بمعنى أعطاهم، ورواها محمد بن طلحة عن أبيه. وهي في مصحف عبد الله.
وقوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ يريد المنافقين، والمعنى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي هكذا هو الأمر في نفسه وإن كانوا هم في أنفسهم ينتظرون غير ذلك، فإن ما في أنفسهم غير مراعى، لأنه باطل.
وقرأ جمهور الناس: «أن تأتيهم» ف أَنْ بدل من السَّاعَةَ. وقوله تعالى على هذه القراءة.
فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها إخبار مستأنف والفاء عاطفة جملة من الكلام على جملة. وقرأ أهل مكة فيما روى الرؤاسي «إن تأتهم» بكسر الألف وجزم الفعل على الشرط، والفاء في قوله: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها جواب الشرط وليست بعاطفة على القراءة الأولى فثم نحو من معنى الشرط. و: بَغْتَةً معناه: فجأة، وروي عن أبي عمرو «بغتّة» بفتح الغين وشد التاء. وقوله: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها على القراءتين معناه: فينبغي أن يقع الاستعداد والخوف منها لمن جزم ونظر لنفسه. والذي جاء من أشراط الساعة محمد عليه السلام لأنه آخر الأنبياء، فقد بان من أمر الساعة قدر ما، وفي الحديث عنه عليه السلام أنه قال: «أنا من أشراط الساعة وقد بعثت أنا والساعة كهاتين وكفرسي رهان» . ويقال شرط وشرط: بسكون الراء وتخفيفها، وأشرط الرجل نفسه: ألزمها أمورا. وقال أوس بن حجر: [الطويل]
فأشرط فيها نفسه وهو معصم ... وألقى بأسباب له وتوكلا
وقوله تعالى: فَأَنَّى لَهُمْ الآية، يحتمل أن يكون المعنى: فَأَنَّى لَهُمْ الخلاص أو النجاة إِذْ جاءَتْهُمُ الذكرى بما كانوا يخبرون به في الدنيا فيكذبون به وجاءهم العذاب مع ذلك. ويحتمل أن يكون المعنى: فأنى لهم ذكراهم وعملهم بحسبها إذا جاءتهم الساعة، وهذا تأويل قتادة، نظيره: وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [سبإ: 52] .
وقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ الآية إضراب عن أمر هؤلاء المنافقين وذكر الأهم، والمعنى: دم على علمك، وهذا هو القانون في كل أمر بشيء هو متلبس به، وهذا خطاب للنبي عليه السلام، وكل واحد من الأمة داخل معه فيه. واحتج بهذه الآية من قال من أهل السنة: إن العلم والنظر قبل القول، والإقرار في مسألة أول الواجبات. وبوب البخاري رحمه الله العلم قبل القول والعمل لقوله تعالى:
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ الآية، وواجب على كل مؤمن أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، فإنها صدقة. وقال الطبري وغيره: مُتَقَلَّبَكُمْ تصرفكم في يقظتكم. وَمَثْواكُمْ منامكم. وقال ابن عباس: مُتَقَلَّبَكُمْ تصرفكم في حياتكم الدنيا. وَمَثْواكُمْ في قبوركم وفي آخرتكم.
قوله عز وجل:

[سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 23]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23)

(5/116)


هذا ابتداء وصف حال المؤمنين في جدهم في دين الله وحرصهم على ظهوره وحال المنافقين من الكسل والفشل والحرص على فساد دين الله وأهله، وذلك أن المؤمنين كان حرصهم يبعثهم على تمني الظهور وتمني قتال العدو وفضيحة المنافقين ونحو ذلك مما هو ظهور للإسلام، فكانوا يأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ، والله تعالى قد جعل ذلك بآماد مضروبة وأوقات لا تتعدى، فمدح الله المؤمنين بحرصهم. وقولهم: لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ معناه: تتضمن إظهارنا وأمرنا بمجاهدة العدو ونحوه. ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين عند نزول أمر القتال.
وقوله: مُحْكَمَةٌ معناه: لا يقع فيها نسخ، وبهذا الوجه خصص السورة بالأحكام، وأما الإحكام الذي هو بمعنى الإتقان، فالقرآن فيه كله سواء. وقال قتادة: كل سورة فيها القتال فهي محكمة، وهو أشد القرآن على المنافقين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أمر استقرأه قتادة من القرآن، وليس من تفسير هذه الآية في شيء.
وفي مصحف ابن مسعود: «سورة محدثة» . والمرض الذي في القلوب: استعارة لفساد المعتقد وحقيقة الصحة والمرض في الأجسام، وتستعار للمعاني، ونظر الخائف الموله قريب من نظر الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ، وخسسهم هذا الوصف والتشبيه.
وقوله تعالى: فَأَوْلى لَهُمْ الآية، «أولى» : وزنه أفعل، من وليك الشيء يليك. وقالت فرقة وزنه:
أفلع، وفيه قلب، لأنه مشتق من الويل، والمشهور من استعمال «أولى» : أنك تقول: هذا أولى بك من هذا، أي أحق، وقد تستعمل «أولى» فقط على جهة الحذف والاختصار لما معها من القول، فتقول على جهة الزجر والتوعد: أولى لك يا فلان، وهذه الآية من هذا الباب، ومنه وقوله تعالى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى [القيامة: 34- 35] ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه للحسن: أولى لك. وقالت فرقة من المفسرين: «أولى» رفع بالابتداء. و: طاعَةٌ خبره.
قال القاضي أبو محمد: فهذا هو المشهور من استعمال «أولى» .
وقالت فرقة من المفسرين: أولى لَهُمْ ابتداء وخبر، معناه: الزجر والتوعد. ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى قوله: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فقال بعضها، التقدير: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ أمثل، وهذا هو تأويل مجاهد ومذهب الخليل وسيبويه، وحسن الابتداء بالنكرة لأنها مخصصة، ففيها بعض التعريف.
وقال بعضها التقدير: الأمر طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، أي الأمر المرضي لله تعالى. وقال بعضها التقدير قولهم لك يا محمد على جهة الهزء والخديعة طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فإذا عزم الأمر كرهوه، ونحو هذا من التقدير قاله قتادة. وقال أيضا ما معناه: إن تمام الكلام الذي معناه الزجر والتوعد ب «أولى» . وقوله لَهُمْ

(5/117)


أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)

ابتداء كلام، ف طاعَةٌ على هذا القول: ابتداء، وخبره: لَهُمْ والمعنى أن ذلك منهم على جهة الخديعة، فإذا عزم الأمر ناقضوا وتعاصوا.
وقوله: عَزَمَ الْأَمْرُ استعارة كما قال:
قد جدت الحرب بكم فجدوا ومن هذا الباب: نام ليلك ونحوه.
وقوله: صَدَقُوا اللَّهَ يحتمل أن يكون من الصدق الذي هو ضد الكذب، ويحتمل أن يكون من قولك عود صدق، والمعنى متقارب.
وقوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ مخاطبة لهؤلاء الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي قل لهم يا محمد.
وقرأ نافع وأهل المدينة «عسيتم» بكسر السين. وقرأ أبو عمرو والحسن وعاصم وأبو جعفر وشيبة:
«عسيتم» بفتح السين، والفتح أفصح، لأنه من عسى التي تصحبها «أن» . والمعنى: فهل عسى أن تفعلوا إِنْ تَوَلَّيْتُمْ غير أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ، وكأن الاستفهام الداخل على عسى غير معناها بعض التغيير كما يغير الاستفهام قولك: أو لو كان كذا وكذا. وقوله: إِنْ تَوَلَّيْتُمْ معناه: إن أعرضتم عن الحق. وقال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام وقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن.
وقرأ جمهور القراء: «إن توليتم» والمعنى: إن أعرضتم عن الإسلام. وقال كعب الأحبار ومحمد بن كعب القرظي المعنى: إن توليتم أمور الناس من الولاية، وعلى هذا قيل إنها نزلت في بني هاشم وبني أمية، ذكره الثعلبي. وروى عبد الله بن مغفل عن النبي عليه السلام: «إن وليتم» بواو مضمومة ولام مكسورة. قرأ علي بن أبي طالب: «إن تولّيتم» بضم التاء والواو وكسر اللام المشددة على معنى: إن وليتكم ولاية الجور فملتم إلى دنياهم دون إمام العدل، أو على معنى: إن توليتم بالتعذيب والتنكيل وأفعال العرب في جاهليتها وسيرتها من الغارات والسباء، فإنما كانت ثمرتها الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم، وقيل معناها: إن توليكم الناس ووكلكم الله إليهم.
وقرأ جمهور الناس: «وتقطّعوا» بضم التاء وشد الطاء المكسورة. وقرأ أبو عمرو: «وتقطعوا» بفتح التاء والطاء المخففة، وهي قراءة سلام ويعقوب.
وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ إشارة إلى مرضى القلوب المذكورين. و: لَعَنَهُمُ معناه: أبعدهم. وقوله: فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ استعارة لعدم سمعهم فكأنهم عمي وصم.
قوله عز وجل:

[سورة محمد (47) : الآيات 24 الى 28]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28)

(5/118)


قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ توقيف وتوبيخ، وتدبر القرآن: زعيم بالتبيين والهدى.
و: أَمْ منقطعة وهي المقدرة ببل وألف الاستفهام.
وقوله تعالى: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها استعارة للرين الذي منعهم الإيمان. وروي أن وفد اليمن وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم شاب، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقال الفتى عليها أقفالها حتى يفتحها الله ويفرجها، قال عمر: فعظم في عيني، فما زالت في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي الخلافة فاستعان بذلك الفتى.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ الآية، قال قتادة: إنها نزلت في قوم من اليهود كانوا قد عرفوا من التوراة أمر محمد عليه السلام وتبين لهم الهدى بهذا الوجه، فلما باشروا أمره حسدوه فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى. وقال ابن عباس وغيره: نزلت في منافقين كانوا أسلموا ثم نافقت قلوبهم. والآية تعم كل من دخل في ضمن لفظها غابر الدهر. و: سَوَّلَ معناه: أرجاهم سولهم وأمانيهم، وقال أبو الفتح عن أبي علي أنه بمعنى: دلاهم، مأخوذ من السول: وهو الاسترخاء والتدلي.
وقرأ جمهور القراء: «وأملى لهم» وأمال ابن كثير وشبل وابن مصرف: «أملى» . وفاعل أَمْلى هنا:
قال الحسن: هو الشَّيْطانُ جعل وعده الكاذب بالبقاء كالإملاء، وذلك أن الإملاء هو الإبقاء ملاوة من الدهر، يقال ملاوة وملاوة وملاوة بضم الميم وفتحها وكسرها، وهي القطعة من الزمن، ومنه الملوان الليل والنهار، فإذا أملى الشيطان إملاء لا صحة له إلا بطمعهم الكاذب، ويحتمل أن يكون الفاعل في أَمْلى الله عز وجل، كأنه قال: الشيطان سول لهم وأملى الله لهم. وحقيقة الإملاء إنما هو بيد الله عز وجل، وهذا هو الأرجح. وقرأ الأعرج ومجاهد والجحدري والأعمش: «وأملي لهم» بضم الهمزة وكسر اللام وإرسال ياء المتكلم، ورواها الخفاف عن أبي عمرو «وأملي» بفتح الياء على بناء الفعل للمفعول، وهي قراءة شيبة وابن سيرين والجحدري وعيسى البصري وعيسى الهمذاني، وهذا يحتمل فاعله من الخلاف ما في القراءة الأولى.
وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا الآية، قيل إنها نزلت في بني إسرائيل الذين تقدم ذكرهم في تفسير قوله: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا وروي أن قوما من قريظة والنضير كانوا يعدون المنافقين في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلاف عليه بنصر وموازرة، وذلك قولهم سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ.
وقرأ جمهور القراء «أسرارهم» بفتح الهمزة، وذلك على جمع سر، لأن أسرارهم كانت كثيرة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «إسرارهم» بكسر الهمزة، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والأعمش، وهو مصدر اسم الجنس.

(5/119)


أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)

وقوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الآية، يحتمل أن يتوعدوا به على معنيين: أحدهما هذا هلعهم وجزعهم لفرض القتال وفراع الأعداء، فَكَيْفَ فزعهم وجزعهم إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ؟ والثاني أن يريد: هذه معاصيهم وعنادهم وكفرهم، فَكَيْفَ تكون حالهم مع الله إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ؟ وقال الطبري: المعنى وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ فَكَيْفَ علمه بها إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ. الْمَلائِكَةُ هنا:
ملك الموت والمصرفون معه. والضمير في يَضْرِبُونَ ل الْمَلائِكَةُ، وفي نحو هذا أحاديث تقتضي صفة الحال ومن قال إن الضمير في: يَضْرِبُونَ للكفار الذين يتوفون، فذلك ضعيف. و: ما أَسْخَطَ اللَّهَ هو الكفر. والرضوان هنا: الشرع والحق المؤدي إلى رضوان، وقد تقدم القول في تفسير قوله:
فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ.
وقرأ الأعمش: «فكيف إذا توفاهم الملائكة» .
قوله عز وجل:

[سورة محمد (47) : الآيات 29 الى 32]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32)
هذه الآية توبيخ للمنافقين وفضح لهم.
وقوله: أَمْ حَسِبَ توقيف وهي أَمْ المنقطعة، وتقدم تفسير مرض القلب. وقوله: أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أي يبديها من مكانها في نفوسهم. والضغن: الحقد. وقوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ مقاربة في شهرتهم، ولكنه تعالى لم يعينهم قط بالأسماء والتعريف التام إبقاء عليهم وعلى قرابتهم، وإن كانوا قد عرفوا ب لَحْنِ الْقَوْلِ وكانوا في الاشتهار على مراتب كعبد الله بن أبيّ والجد بن قيس وغيرهم ممن دونهم في الشهرة. والسيما: العلامة التي كان تعالى يجعل لهم لو أراد التعريف التام بهم. وقال ابن عباس والضحاك: إن الله تعالى قد عرفه بهم في سورة براءة. في قوله: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [التوبة: 84] وفي قوله: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التوبة: 83] .
قال القاضي أبو محمد: وهذا في الحقيقة ليس بتعريف تام، بل هو لفظ يشير إليهم على الإجمال لا أنه سمى أحدا. وأعظم ما روي في اشتهارهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يوما فأخرجت منهم جماعة من المسجد كأنه وسمهم بهذا لكنهم أقاموا على التبري من ذلك وتمسكوا بلا إله إلا الله فحقنت دماؤهم. وروي عن حذيفة ما يقتضي أن النبي عليه السلام عرفه بهم أو ببعضهم، وله في ذلك كلام مع عمر رضي الله عنه. ثم أخبر تعالى أنه سيعرفهم فِي لَحْنِ الْقَوْلِ، ومعناه في مذهب القول ومنحاه

(5/120)


ومقصده، وهذا هو كما يقول لك إنسان معتقده وتفهم أنت من مقاطع كلامه وهيئته وقرائن أمره أنه على خلاف ما يقول، وهذا معنى قوله: فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ومن هذا المعنى قول النبي عليه السلام: «فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض» ، الحديث أي أذهب بها في جهات الكلام، وقد يكون هذا اللحن متفقا عليه: أن يقول الإنسان قولا يفهم السامعون منه معنى، ويفهم الذي اتفق مع المتكلم معنى آخر، ومنه الحديث الذي قال سعد بن معاذ وابن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عضل والقارة وفي هذا المعنى قول الشاعر [مالك بن أسماء] : [الخفيف] وخير الحديث ما كان لحنا أي ما فهمه عنك صاحبك وخفي على غيره، فأخبر الله محمدا رسوله عليه السلام أن أقوالهم المحرقة التي هي على خلاف عقدهم ستتبين له فيعرفهم بها، واحتج بهذه الآية من جعل في التعريض بالقذف.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ مخاطبة للجميع من مؤمن وكافر.
وقرأ جمهور القراء: «ولنبلونكم» بالنون، وكذلك «نعلم» وكذلك «نبلوا» ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: «وليبلونكم الله» ، وكذلك «يعلم» «ويبلو» . وروى رويس عن يعقوب: «ويبلو» بالرفع على القطع والإعلام بأن ابتلاءه دائم. وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال: اللهم لا تبتلنا، فإنك إن ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.
وقوله تعالى: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ أي حتى يعلمهم مجاهدين قد خرج جهادهم إلى الوجود وبان تكسبهم الذي به يتعلق ثوابهم، وعلم الله بالمجاهدين قديم أزلي، وإنما المعنى ما ذكرناه.
وقوله تعالى: وَصَدُّوا يحتمل أن يكون المعنى: وَصَدُّوا غيرهم، ويحتمل أن يكون غير متعد، بمعنى: وصدوهم في أنفسهم.
وقوله: وَشَاقُّوا الرَّسُولَ معناه: خالفوه، فكانوا في شق وهو في شق. وقوله: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى قالت فرقة: نزلت في قوم من بني إسرائيل فعلوا هذه الأفاعيل بعد تبينهم لأمر محمد عليه السلام من التوراة. وقالت فرقة: نزلت في قوم من المنافقين حدث النفاق في نفوسهم بعد ما كان الإيمان داخلها. وقال ابن عباس: نزلت في المطعمين سفرة بدر، و: «تبين الهدى» هو وجوده عند الداعي إليه.
وقالت فرقة: بل هي عامة في كل كافر، وألزمهم أنه قد تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى من حيث كان الهدى بينا في نفسه، وهذا كما تقول لإنسان يخالفك في احتجاج على معنى التوبيخ له: أنت تخالف في شيء لا خفاء به عليك، بمعنى أنه هكذا هو في نفسه. وقوله: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ تحقير لهم.
وقوله: وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ إما على قول من يرى أن أعمالهم الصالحة من صلة رحم ونحوه تكتب فيجيء هذا الإحباط فيها متمكنا، وإما على قول من لا يرى ذلك، فمعنى وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ أنها عبارة عن إعدامه أعمالهم وإفسادها، وأنها لا توجد شيئا منتفعا به، فذلك إحباط على تشبيه واستعارة.

(5/121)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)

قوله عز وجل:

[سورة محمد (47) : الآيات 33 الى 35]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35)
روي أن هذه الآية نزلت في بني أسد من العرب، وذلك أنهم أسلموا وقالوا لرسول الله عليه السلام:
نحن قد آثرناك على كل شيء وجئناك بنفوسنا وأهلنا، كأنهم منوا بذلك، فنزل فيهم: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات: 17] ونزلت فيهم هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: فإن كان هذا فالإبطال الذي نهوا عنه ليس بمعنى الإفساد التام، لأن الإفساد التام لا يكون إلا بالكفر، وإلا فالحسنات لا تبطلها المعاصي، وإن كانت الآية عامة على ظاهرها نهي الناس عن إبطال أعمالهم بالكفر، والإبطال هو الإفساد التام.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ روي أنها نزلت بسبب عدي بن حاتم قال: يا رسول الله إن حاتما كانت له أفعال بر فما حاله؟ فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم «هو في النار» ، فبكى عدي وولى، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أبي وأبوك وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار ونزلت هذه الآية في ذلك، وظاهر الآية العموم في كل ما تناولته الصفة.
وقوله تعالى: فَلا تَهِنُوا معناه: فلا تضعفوا، من وهن الرجل إذا ضعف.
وقرأ جمهور الناس: «وتدعوا» وقرأ أبو عبد الرحمن: «وتدّعوا» بشد الدال. وقرأ جمهور القراء: «إلى السلم» بفتح السين. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم: «إلى السلم» بكسر السين. وهي قراءة الحسن وأبي رجاء والأعمش وعيسى وطلحة وهو بمعنى المسالمة. وقال الحسن بن أبي الحسن وفرقة ممن كسر السين إنه بمعنى إلى الإسلام، أي لا تهنوا وتكونوا داعين إلى الإسلام فقط دون مقاتلين بسببه. وقال قتادة معنى الآية: لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت للأخرى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن ملتئم مع قوله: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال: 61] .
وقوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ يحتمل موضعين أحدهما: أن يكون في موضع الحال، المعنى: لا تهنوا وأنتم في هذه الحال. والمعنى الثاني: أن يكون إخبارا بنصره ومعونته. و «يتر» ، معناه ينقص ويذهب، ومنه قوله عليه السلام: «من ترك صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» أي ذهب بجميع ذلك على جهة التغلب والقهر، والمعنى: لن يتركم ثواب أعمالكم وجزاء أعمالكم. واللفظة مأخوذة من الوتر الذي هو الدحل، وذهب قوم إلى أنه مأخوذ من الوتر الذي هو الفرد، المعنى لن يفردكم من ثواب أعمالكم، والأول أصح، وفسر ابن عباس وأصحابه يَتِرَكُمْ بيظلمكم.

(5/122)


إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)

قوله عز وجل:

[سورة محمد (47) : الآيات 36 الى 38]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)
قوله تعالى: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ تحقير لأمر الدنيا، أي فلا تهنوا في الجهاد بسببها، ووصفها باللعب واللهو هو على أنها وما فيها مما يختص بها لعب، وإلا ففي الدنيا ما ليس بلعب ولا لهو، وهو الطاعة وأمر الآخرة وما جرى مجراه.
وقوله تعالى: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ معناه هذا هو المطلوب منكم لا غيره، لا تسألون أموالكم أن تنفقوها في سبيل الله. وقال سفيان بن عيينة: لا يسألكم كثيرا من أموالكم إحفاء إنما يسألكم غيضا من فيض ربع العشر فطيبوا أنفسكم، ثم قال تعالى منبها على خلق ابن آدم إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا والإحفاء هو أشد السؤال وهو المخجل المخرج ما عند المسئول كرها، ومنه حفاء الرجل.
والتحفي من البحث عن الشيء. وقوله: تَبْخَلُوا جزم على جواب شرط.
وقرأ جمهور القراء: «ويخرج» جزما على تَبْخَلُوا. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو: «ويخرج» بالرفع على القطع، بمعنى هو يخرج، وحكاها أبو حاتم عن عيسى وقرأت فرقة: وَبالنصب على معنى:
يكن بخل وإخراج، فلما جاءت العبارة بفعل دل على أن التي مع الفعل بتأويل المصدر الذي هو الإخراج، والفاعل في قوله: وَيُخْرِجْ على كل الاختلافات يحتمل أن يكون الله، ويحتمل أن يكون البخل الذي تضمنه اللفظ، ويحتمل أن يكون السؤال الذي يتضمنه اللفظ أيضا. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن سيرين وابن محيصن وأيوب: «يخرج» بفتح الياء «أضغانكم» رفعا على أنها فاعلة وروي عنهم: «وتخرج» بضم التاء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله.
وقرأ يعقوب: «ونخرج» بضم النون وكسر الراء «أضغانكم» نصبا. والأضغان كما قلنا معتقدات السوء، وهذا الذي كان يخاف أن يعتري المسلمين هو الذي تقرب به محمد بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف حين قال له: إن هذا الرجل قد أكثر علينا وطلب منا الأموال ثم وقف تعالى عباده المؤمنين على جهة التوبيخ لبعضهم ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ وكرر هاء التنبيه تأكيدا.
وقوله: عَنْ نَفْسِهِ يحتمل معنيين، أحدهما: فإنما يبخل عن شح نفسه، والآخر أن يكون بمنزلة على، لأنك تقول: بخلت عليك وبخلت عنك، بمعنى: أمسكت عنك.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ معنى مطرد في قليل الأشياء وكثيرها.

(5/123)


وقوله تعالى: يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ قيل الخطاب لقريش، والقوم الغير هم أهل المدينة. وقال عبد الرحمن بن جبير وشريح بن عبيد: الخطاب لمن حضر المدينة. والقوم الغير: فارس. وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذا وكان سلمان إلى جنبه فوضع يده على فخذه وقال: قوم هذا، لو كان الدين بالثريا لناله رجال من أهل فارس.
وقوله: أَمْثالَكُمْ معناه في الخلاف والتولي والبخل بالأموال ونحو هذا، وحكى الثعلبي أن القوم الغير: هم الملائكة.
نجز تفسير سورة القتال، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

(5/124)