تفسير ابن عطية
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ
وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ
نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي
قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ
إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الفتح
هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من
الحديبية، وفي ذلك أحاديث كثيرة عن أنس وابن مسعود وغيرهما
تقتضي صحته وهي بهذا في حكم المدني. وقال الزهراوي عن مجاهد
وعن ابن عباس: إنها نزلت بالمدينة، والأول أصح، ويشبه أن منها
بعضا نزل بالمدينة، وأما صدر السورة ومعظمها فكما قلنا، ويقضي
بذلك قول النبي عليه السلام لعمر وهما في تلك السفرة: «لقد
نزلت عليّ الليلة سورة هي أحب إليّ من الدنيا وما فيها» .
قال القاضي أبو محمد: ذكر مكي هنا أن المعنى بشرط أن تبقى
الدنيا ولا تفنى، وفي هذا نظر.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في تلك الوجهة ليعتمر
بمكة، فصده المشركون، القصة المشهورة سنة ست من الهجرة.
قوله عز وجل:
[سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2)
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ
لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)
قال قوم فيما حكى الزهراوي فَتَحْنا لَكَ يريد به فتح مكة،
وحكاه الثعلبي أيضا، ونسبه النقاش إلى الكلبي. وأخبره تعالى به
على معنى: قضينا به. والفتاح: القاضي بلغة اليمن، وقيل المراد:
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ بأن هديناك إلى الإسلام ليغفر. وقال
جمهور الناس: والصحيح الذي تعضده قصة الحديبية أن قوله: إِنَّا
فَتَحْنا لَكَ إنما معناه: إن ما يسر الله لك في تلك الخرجة
فتح مبين تستقبله، ونزلت السورة مؤنسة للمؤمنين، لأنهم كانوا
استوحشوا من رد قريش لهم ومن تلك المهادنة التي هادنهم النبي
عليه السلام فنزلت السورة مؤنسة لهم في صدهم عن البيت ومذهبه:
ما كان في قلوبهم، ومنه حديث عمر الشهير وما قاله للنبي عليه
السلام ولأبي بكر واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك
السفرة أنه هادن عدوه ريثما يتقوى هو، وظهرت على يديه آية
الماء في بئر الحديبية حيث وضع فيه سهمه وثاب الماء حتى كفى
الجيش، واتفقت بيعة الرضوان وهي الفتح الأعظم، قاله جابر بن
عبد الله والبراء بن عازب. وبلغ هديه محله، قاله الشعبي
واستقبل فتح خيبر، وامتلأت أيدي المؤمنين خيرا، ولم يفتحها إلا
أهل الحديبية ولم يشركهم فيها أحد.
(5/125)
قال القاضي أبو محمد: وفيه نظر، لأن أصحاب
السفينة مع جعفر بن أبي طالب شاركوهم في القسم، فينبغي أن يقال
لم يشاركهم أحد من المتخلفين عن الحديبية، واتفقت في ذلك الوقت
ملحمة عظيمة بين الروم وفارس ظهرت فيها الروم، فكانت من جملة
الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسر بها هو والمؤمنون
لظهور أهل الكتاب على المجوس وانخضاد الشوكة العظمى من الكفر.
ثم عظم الله أمر نبيه بأن نبأه أنه غفر له ما تَقَدَّمَ من
ذنبه وَما تَأَخَّرَ، فقوله: لِيَغْفِرَ هي لام كي، لكنها
تخالفها في المعنى والمراد هنا أن الله فتح لك لكي يجعل ذلك
أمارة وعلامة لغفرانه لك، فكأنها لام صيرورة، ولهذا قال عليه
السلام: «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحب إليّ من الدنيا» .
وقال الطبري وابن كيسان المعنى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فسبح
بحمد ربك واستغفره ليغفر لك، وبنيا هذه الآية مع قوله تعالى:
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1] السورة إلى
آخرها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف من وجهين أحدهما: أن سورة،
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1] إنما نزلت من
آخر مدة النبي عليه السلام ناعية له نفسه حسبما قال ابن عباس
عند ما سأل عمر عن ذلك. والآخر: أن تخصيص النبي عليه السلام
بالتشريف كان يذهب، لأن كل أحد من المؤمنين هو مخاطب بهذا الذي
قال الطبري، أي سبح واستغفر لكي يغفر الله، ولا يتضمن هذا أن
الغفران قد وقع، وما قدمناه أولا يقتضي وقوع الغفران للنبي
عليه السلام، ويدل على ذلك قول الصحابة له حين قام حتى تورمت
قدماه: أتفعل هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من
ذنبك وما تأخر؟ فقال: «أفلا أكون عبدا شكورا» فهذا نص في أن
الغفران قد وقع. وقال منذر بن سعيد المعنى: مجاهدتك بالله
المقترنة بالفتح هي ليغفر. وحكى الثعلبي عن الحسن بن الفضل أن
المعنى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فاستغفر لذنبك وللمؤمنين
والمؤمنات لِيَغْفِرَ لَكَ الآية، وهذا نحو قول الطبري.
وقوله: ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ قال سفيان
الثوري: ما تَقَدَّمَ يريد قبل النبوءة. وَما تَأَخَّرَ كل شيء
لم تعلمه وهذا ضعيف، وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم ولو لم
تكن له ذنوب البتة، وأجمع العلماء على عصمة الأنبياء عليهم
السلام من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل، وجوز بعضهم
الصغائر التي ليست برذائل، واختلفوا هل وقع ذلك من محمد عليه
السلام أو لم يقع، وحكى الثعلبي عن عطاء الخراساني أنه قال: ما
تَقَدَّمَ هو ذنب آدم وحواء، أي ببركتك وَما تَأَخَّرَ هي ذنوب
أمتك بدعائك. قال الثعلبي: الإمامية لا تجوز الصغائر على النبي
ولا على الإمام، والآية ترد عليهم. وقال بعضهم: وما تَقَدَّمَ
هو قوله يوم بدر: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد» . وَما
تَأَخَّرَ هو قوله يوم حنين: «لن نغلب اليوم من قلة» .
قال القاضي أبو محمد: وإتمام النعمة عليه، هو إظهاره وتغلبه
على عدوه والرضوان في الآخرة.
وقوله تعالى: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً معناه: إلى
صراط، فحذف الجار فتعدى الفعل، وقد يتعدى هذا بغير حرف جر،
والنصر العزيز: هو الذي معه غلبة العدو والظهور عليه، والنصر
غير العزيز: هو الذي مضمنه الحماية ودفع العدو فقط. وإنزال
السكينة في قلوب المؤمنين: وهي فعلية من السكون هو
(5/126)
لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ
فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ
وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ
الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ
السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ
لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
(7)
تسكينها لتلك الهدنة مع قريش حتى اطمأنت،
وعلموا أن وعد الله على لسان رسوله حق فازدادوا بذلك إيمانا
إلى إيمانهم الأول وكثر تصديقهم. قال ابن عباس: لما آمنوا
بالتوحيد زادهم العبادات شيئا شيئا.
فكانوا يزيدون إيمانا حتى قال لهم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] فمنحهم أكمل إيمان أهل السماوات
والأرض لا إله إلا الله. وفسر ابن عباس السَّكِينَةَ بالرحمة.
وقوله: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إشارة إلى
تسكين النفوس أيضا وأن تكون مسلمة، لأنه ينصر متى شاء وعلى أي
صورة شاء مما لا يدبره البشر، ومن جنده: السَّكِينَةَ التي
أنزلها في قلوب أصحاب محمد فثبت بصائرهم.
وقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ أي كان ويكون، فهي دالة على
الوجود بهذه الصفة لا معينة وقتا ماضيا.
والعلم والإحكام: صفتان مقتضيتان عزة النصر لمن أراد الموصوف
بهما نصره.
قوله عز وجل:
[سورة الفتح (48) : الآيات 5 الى 7]
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ
عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً
عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ
وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ
ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ
وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)
قوله تعالى: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الفتح:
4] معناه: فازدادوا وتلقوا ذلك. فتمكن بعد ذلك قوله:
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ أي بتكسبهم القبول لما أنزل الله
عليهم. ويروى في معنى هذه الآية أنه لما نزلت: وَما أَدْرِي ما
يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف: 9] تكلم فيها أهل الكتاب
وقالوا: كيف نتبع من لا يدري ما يفعل به وبالناس معه؟ فبين
الله في هذه السورة ما يفعل به بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ
ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] فلما
سمعها المؤمنون، قالوا: هنيئا مريئا، هذا لك يا رسول الله، فما
لنا؟ فنزلت هذه الآية: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
إلى قوله: وَساءَتْ مَصِيراً فعرفه الله تعالى ما يفعل به
وبالمؤمنين والكافرين. وذكر النقاش أن رجلا من عك قال: هذه لك
يا رسول الله، فما لنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هي لي
ولأمتي كهاتين» ، وجمع بين أصبعيه.
وقوله: وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ فيه ترتيب الجمل في
السرد لا ترتيب وقوع معانيها، لأن تكفير السيئات قبل إدخالهم
الجنة.
وقوله: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ قيل معناه من
قولهم: لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ [الفتح: 12] ، فكأنهم ظنوا
بالله ظن السوء في جهة الرسول والمؤمنين، وقيل: ظنوا بالله ظن
سوء، إذ هم يعتقدونه بغير صفاته، فهي ظنون سوء من حيث هي كاذبة
مؤدية إلى عذابهم في نار جهنم.
وقوله تعالى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ كأنه يقوي التأويل
الآخر، أي أصابهم ما أرادوه بكم، وقرأ
(5/127)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ
إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ
وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ
أَجْرًا عَظِيمًا (10)
جمهور القراء: «دائرة السوء» كالأول،
ورجحها الفراء، وقال: قل ما تضم العرب السين. قال أبو علي:
هما متقاربان، والفتح أشد مطابقة في اللفظ. وقرأ ابن كثير وأبو
عمرو: «ظن السوء» بفتح السين.
و: «دائرة السوء» بضم السين، وهو اسم، أي «دائرة السوء» الذي
أرادوه بكم في ظنهم السوء. وقرأ الحسن: بضم السين في الموضعين،
وروى ذلك عن أبي عمرو ومجاهد، وسمى المصيبة التي دعا بها
عليهم: دائِرَةُ، من حيث يقال في الزمان إنه يستدير، ألا ترى
أن السنة والشهر كأنها مستديرات، تذهب على ترتيب، وتجيء من حيث
هي تقديرات للحركة العظمى، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض»
فيقال الأقدار والحوادث التي هي في طي الزمان دائرة، لأنها
تدور بدوران الزمان، كأنك تقول: إن أمرا كذا يكون في يوم كذا
من سنة كذا، فمن حيث يدور ذلك اليوم حتى يبرز إلى الوجود تدور
هي أيضا فيه، وقد قالوا: أربعاء لا تدور، ومن هذا قول الشاعر:
[الرجز] ودائرات الدهر قد تدور ومنه قول الآخر: [الطويل] ويعلم
أن النائبات تدور وهذا كثير ويحسن أن تسمى المصيبة دائرة من
حيث كمالها أن تحيط بصاحبها كما يحيط شكل الدائرة على السواء
من النقطة، وقد أشار النقاش إلى هذا المعنى وَغَضِبَ اللَّهُ
تعالى متى قصد به الإرادة فهو صفة ذات، ومتى قصد به ما يظهر من
الأفعال على المغضوب عليه فهي صفة فعل. وَلَعَنَهُمْ معناه:
أبعدهم من رحمته، وقال تعالى في هذه وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً
حَكِيماً فذكر صفة العزة من حيث تقدم الانتقام من الكفار، وفي
التي قبل قرن بالحكمة والعلم من حيث وعده بمغيبات، وقرن
باللفظتين ذكر جنود الله تعالى التي منها السكينة ومنها نقمة
من المنافقين والمشركين، فلكل لفظ وجه من المعنى، وقال ابن
المبارك في كتاب النقاش: جنود الله في السماء، الملائكة، وفي
الأرض الغزاة في سبيل الله. قال عبد الحق: وهذا بعض من كل.
قوله عز وجل:
[سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 10]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8)
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ
الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ
اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ
عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ
فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)
من جعل الشاهد محصل الشهادة من يوم يحصلها، فقوله: شاهِداً حال
واقعة. ومن جعل الشاهد مؤدي الشهادة، فهي حال مستقبلة. وهي
التي يسميها النحاة المقدرة، المعنى: شاهِداً على الناس
بأعمالهم وأقوالهم حين بلغت إليهم الشرع وَمُبَشِّراً معناه:
أهل الطاعة برحمة الله وَنَذِيراً معناه: أهل الكفر تنذرهم من
عذاب الله.
(5/128)
وقرأ جمهور الناس في كل الأمصار: «لتؤمنوا
بالله» على مخاطبة الناس، على معنى قل لهم، وكذلك الأفعال
الثلاثة بعد، وقرأ أبو عمرو بن العلاء وابن كثير وأبو جعفر:
«ليؤمنوا» بالياء على استمرار خطاب محمد عليه السلام، وكذلك
الأفعال الثلاثة بعد. وقرأ الجحدري: «وتعزروه» بفتح التاء
وسكون العين وضم الزاي. وقرأ محمد بن السميفع اليماني وابن
عباس: «وتعززوه» بزاءين، من العزة. وقرأ جعفر بن محمد:
«وتعزروه» بفتح التاء وسكون العين وكسر الزاي ومعنى:
تُعَزِّرُوهُ تعظموه وتكبروه، قاله ابن عباس: وقال قتادة
معناه: تنصروه بالقتال وقال بعض المتأولين: الضمائر في قوله:
وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ هي كلها لله
تعالى. وقال الجمهور: تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ هما للنبي
عليه السلام، وَتُسَبِّحُوهُ هي لله، وهي صلاة البردين.
وقرأ عمر بن الخطاب: «وتسبحوا الله» ، وفي بعض ما حكى أبو
حاتم: «وتسبحون الله» ، بالنون، وقرأ ابن عباس: «ولتسبحوا
الله» . والبكرة: الغدو. والأصيل: العشي.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يريد في بيعة
الرضوان، وهي بيعة الشجرة حين أخذ رسول الله صلى الله عليه
وسلم الأهبة لقتال قريش لما بلغه قتل عثمان بن عفان رسوله
إليهم، وذلك قبل أن ينصرف من الحديبية، وكان في ألف وأربعمائة
رجل. قال النقاش: وقيل كان في ألف وثمانمائة، وقيل وسبعمائة،
وقيل وستمائة، وقيل ومائتين.
قال القاضي أبو محمد: وبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد، حتى قال
سلمة بن الأكوع وغيره: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
على الموت، وقال عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله: بايعنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفر.
والمبايعة في هذه الآية مفاعلة من البيع، لأن الله تعالى اشترى
منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وبقي اسم البيعة بعد
معاقدة الخلفاء والملوك، وعلى هذا سمت الخوارج أنفسهم الشراة،
أي اشتروا بزعمهم الجنة بأنفسهم. ومعنى: إِنَّما يُبايِعُونَ
اللَّهَ أن صفقتهم إنما يمضيها ويمنح ثمنها الله تعالى.
وقرأ تمام بن العباس بن عبد المطلب: إِنَّما يُبايِعُونَ
اللَّهَ. قال أبو الفتح: ذلك على حذف المفعول لدلالة الأول
عليه وقربه منه.
وقوله تعالى: يَدُ اللَّهِ قال جمهور المتأولين: اليد، بمعنى:
النعمة، أي نعمة الله في نفس هذه المبايعة لما يستقبل من
محاسنها. فَوْقَ أَيْدِيهِمْ التي مدوها لبيعتك. وقال آخرون:
يَدُ اللَّهِ هنا، بمعنى: قوة الله فوق قواهم، أي في نصرك
ونصرهم، فالآية على هذا تعديد نعمة عليهم مستقبلة مخبر بها،
وعلى التأويل الأول تعديد نعمة حاصلة تشرف بها الأمر. قال
النقاش يَدُ اللَّهِ في الثواب.
وقوله: فَمَنْ نَكَثَ أي فمن نقض هذا العهد فإنما يجني على
نفسه وإياها يهلك، فنكثه عليه لا له.
وقرأ جمهور القراء: «بما عاهد عليه الله» بالنصب على التعظيم.
وقرأ ابن أبي إسحاق: «ومن أوفى
(5/129)
سَيَقُولُ لَكَ
الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا
وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ
مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ
اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ
بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
(11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ
وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ
فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ
قَوْمًا بُورًا (12)
بما عاهد عليه الله» بالرفع، على أن الله
هو المعاهد. وقرأ حفص عن عاصم: «عليه» مضمومة الهاء، وروي ذلك
عن ابن أبي إسحاق. والأجر العظيم: الجنة، لا يفنى نعيمها ولا
ينقضي أمرها.
وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي والعامة: «فسيؤتيه»
بالياء. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر:
«فسنؤتيه» بالنون. وفي مصحف ابن مسعود: «فسيؤتيه الله» .
وقوله عز وجل:
[سورة الفتح (48) : الآيات 11 الى 12]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا
أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ
يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ
ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ
يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ
أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ
السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12)
الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ قال مجاهد وغيره: هم جهينة
ومزينة ومن كان حول المدينة من القبائل، فإنهم في خروج رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرته عام الحديبية رأوا أنه
يستقبل عدوا عظيما من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة
لمكة، وهم الأحابيش، ولم يكن تمكن إيمان أولئك الأعراب
المجاورين للمدينة فقعدوا عن النبي عليه السلام وتخلفوا،
وقالوا لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذه السفرة، ففضحهم الله في
هذه الآية، وأعلم محمد بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم،
فكان كذلك، قالوا: شغلتنا الأموال والأهلون فاستغفر لنا، وهذا
منهم خبث وإبطال، فلذلك قال تعالى: يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قال الرماني: لا
يقال أعرابي إلا لأهل البوادي خاصة، ثم قال لنبيه عليه السلام
قُلْ لهم: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي من
يحمي منه أموالكم وأهليكم إن أراد بكم فيها سوءا.
وقرأ جمهور القراء: «إن أراد بكم ضرا» بفتح الضاد. وقرأ حمزة
والكسائي: «ضرا» بالضم، ورجحها أبو علي وهما لغتان. وفي مصحف
ابن مسعود. «إن أراد بكم سوءا» . ثم رد عليهم بقوله: بَلْ كانَ
اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً، ثم فسر لهم العلة التي
تخلفوا من أجلها بقوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ الآية، وفي قراءة عبد
الله: «إلى أهلهم» بغير ياء. و: بُوراً معناه: فاسدين هلكى
بسبب فسادهم. والبوار:
الهلاك. وبارت السلعة، مأخوذ من هذا. وبور: يوصف به الجمع
والإفراد، ومنه قول ابن الزبعرى:
[الخفيف]
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
والبور في لغة أزد عمان: الفاسد، ومنه قول أبي الدرداء: فأصبح
ما جمعوا بورا، أي فاسدا ذاهبا، ومنه قول حسان بن ثابت:
لا ينفع الطول من نوك القلوب وقد ... يهدي الإله سبيل المعشر
البور
وقال الطبري في قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما
لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ يعني به قولهم: فَاسْتَغْفِرْ
(5/130)
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ
إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا
نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ
قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ
فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا
يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
لَنا
لأنهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم، قال وقوله تعالى:
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ الآية، معناه:
وما ينفعكم استغفاري، وهل أملك لكم شيئا والله قد أراد ضركم
بسبب معصيتكم كما لا أملك إن أراد بكم النفع في أموالكم
وأهليكم.
قوله عز وجل:
[سورة الفتح (48) : الآيات 13 الى 15]
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا
أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ
مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ
الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ
لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ
قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا
بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)
لما قال لهم: وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الفتح: 12] توعدهم
بعد ذلك بقوله: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
الآية، وأنتم هكذا فأنتم ممن أعدت لهم السعير، وهي النار
المؤججة. والمسعر: ما يحرك به النار، ومنه قوله عليه السلام:
«ويل من مسعر حرب» . ثم رجى بقوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، الآية: لأن القوم لم يكونوا مجاهرين
بالكفر، فلذلك جاء وعيدهم وتوبيخهم ممزوجا فيه بعض الإمهال
والترجية، لأن الله تعالى قد كان علم منهم أنهم سيؤمنون، ثم إن
الله تعالى أمر نبيه على ما روي بغزو خيبر ووعده بفتحها،
وأعلمه أن المخلفين إذا رأوا مسير رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى يهود وهم عدو مستضعف، طلبوا الكون معه رغبة في عرض
الدنيا والغنيمة فكان كذلك.
وقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ
معناه: يريدون أن يغيروا وعده لأهل الحديبية بغنيمة خيبر. وقال
عبد الله بن زيد بن أسلم كَلامَ اللَّهِ قوله تعالى: فَقُلْ
لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ
عَدُوًّا [التوبة: 83] وهذا قول ضعيف، لأن هذه الآية نزلت في
رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك، وهذا في آخر عمره،
وآية هذه السورة نزلت سنة الحديبية، وأيضا فقد غزت جهينة
ومزينة بعد هذه المدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد
فضلهم رسول الله بعد ذلك على تميم وغطفان وغيرهم من العرب،
الحديث المشهور فأمره الله تعالى أن يقول لهم في هذه الغزوة
إلى خيبر: لَنْ تَتَّبِعُونا وخص الله بها أهل الحديبية.
وقوله تعالى: كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ يريد وعده
قبل باختصاصهم بها، وقول الأعراب: بَلْ تَحْسُدُونَنا معناه:
بل يعز عليكم أن نصيب مغنما ومالا، فرد الله على هذه المقالة
بقوله: بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي لا
يفقهون من الأمور مواضع الرشد، وذلك هو الذي خلفهم عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ذلك سببا إلى منعهم من غزوة
خيبر.
وقرأ أبو حيوة: «تحسدوننا» بكسر السين. وقرأ الجمهور من
القراء: «كلام» قال أبو علي: هو أخص بما كان مفيدا حديثا. وقرأ
الكسائي وحمزة وابن مسعود وطلحة وابن وثاب: «كلم» والمعنى
فيهما متقارب.
(5/131)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ
مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا
يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا
تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
(16)
قوله عز وجل:
[سورة الفتح (48) : آية 16]
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى
قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ
يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً
حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ
يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16)
أمر الله نبيه عليه السلام بالتقدمة إلى هؤلاء المخلفين بأنهم
سيؤمرون بقتال عدو بئيس، وهذا يدل على أنهم كانوا يظهرون
الإسلام، وإلا فلم يكونوا أهلا لهذا الأمر، واختلف الناس من
القوم المشار إليهم في قوله: إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ فقال عكرمة وابن جبير وقتادة: هم هوازن ومن حارب رسول
الله صلى الله عليه وسلم في حنين.
قال القاضي أبو محمد: ويندرج في هذا القول عندي من حورب وغلب
في فتح مكة.
وقال كعب: هم الروم الذين خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم عام تبوك والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة. وقال الزهري
والكلبي: هم أهل الردة وبنو حنيفة باليمامة.
وقال منذر بن سعيد: يتركب على هذا القول أن الآية مؤذنة بخلافة
أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، يريد لما كشف
الغيب أنهما دعوا إلى قتال أهل الردة. وحكى الثعلبي عن رافع بن
خديج أنه قال: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم
من هم، حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم
أريدوا. وقال ابن عباس وابن أبي ليلى: هم الفرس. وقال الحسن:
هم فارس والروم. وقال أبو هريرة: هم قوم لم يأتوا بعد،
والقولان الأولان حسنان، لأنهما الذي كشف الغيب وباقيهما ضعيف.
وقال منذر بن سعيد: رفع الله في هذه الجزية، وليس إلا القتال
أو الإسلام، وهذا لا يوجد إلا في أهل الردة.
قال القاضي أبو محمد: وهو من حورب في فتح مكة.
وقرأ الجمهور من القراء: «أو يسلمون» على القطع، أي أو هم
يسلمون دون حرب. وقرأ أبيّ بن كعب فيما حكى الكسائي: «أو
يسلموا» بنصب الفعل على تقدير: أو يكون أن يسلموا، ومثله من
الشعر قول امرئ القيس: [الطويل]
فقلت له لا تبك عيناك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
يروى: «نموت» بالنصب. و «نموت» بالرفع، فالنصب على تقدير: أو
يكون أن نموت، والرفع على القطع، أو نحن نموت.
وقوله: فَإِنْ تُطِيعُوا معناه: فيما تدعون إليه، والعذاب الذي
توعدهم: يحتمل أن يريد به عذاب الدنيا، وأما عذاب الآخرة فبين
فيه.
وقوله عز وجل:
(5/132)
لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى
الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ
رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ
السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ
عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
[سورة الفتح (48) : الآيات 17 الى 19]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ
وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً
(17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ
يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ
فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً
قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ
اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)
لما بالغ عز وجل في عتب هؤلاء المتخلفين من القبائل المجاورة
للمدينة لجهينة ومزينة وغفار وأسلم وأشجع، عقب ذلك بأن عذر أهل
الأعذار من العرج والعمى والمرض جملة ورفع الحرج عنهم والضيق
والمأثم، وهذا حكم هؤلاء المعاذير في كل جهاد إلى يوم القيامة،
إلا أن يحزب حازب في حضرة ما، فالفرض متوجه بحسب الوسع، ومع
ارتفاع الحرج فجائز لهم الغزو وأجرهم فيه مضاعف، لأن الأعرج
أحرى الناس بالصبر وأن لا يفر، وقد غزا ابن أم مكتوم، وكان
يمسك الراية في بعض حروب القادسية، وقد خرج النسائي هذا المعنى
وذكر ابن أم مكتوم رحمه الله.
وقرأ الجمهور من القراء: «يدخله» بالياء. وقرأ ابن عامر ونافع
وأبو جعفر والأعرج والحسن وشيبة وقتادة: «ندخله» بالنون، وكذلك
«نعذبه» و: «يعذبه» .
وقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ
يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ تشريف وإعلام برضاه عنهم حين
البيعة، وبهذا سميت بيعة الرضوان. والرضى بمعنى الإرادة، فهو
صفة ذات. ومن جعل إِذْ مسببة بمعنى لأنهم بايعوا تحت الشجرة،
جاز أن يجعل رَضِيَ بمعنى إظهار النعم عليهم بسبب بيعتهم،
فالرضى على هذا صفة فعل، وقد تقدم القول في المبايعة ومعناها.
وكان سبب هذه المبايعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد
أن يبعث إلى مكة رجلا يبين على قريش أن النبي صلى الله عليه
وسلم لا يريد حربا، وإنما جاء معتمرا، فبعث إليهم خراش بن أمية
الخزاعي وحمله على جمل يقال له الثعلب، فلما كلمهم، عقروا
الجمل، وأرادوا قتل خراش، فمنعه الأحابيش، فبلغ ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأراد بعث عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا
رسول الله أنا قد علمت فظاظتي على قريش وهم يبغضونني، وليس
هناك من بني عدي بن كعب من يحميني، ولكن ابعث عثمان بن عفان،
فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب فلقيه أبان بن سعيد
بن العاصي، فنزل عن دابته فحمله عليها وأجاره، حتى إذا جاء
قريشا فأخبرهم، فقالوا له: إن شئت يا عثمان أن تطوف بالبيت
فطف، وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه، فقال عثمان: ما كنت
لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن بني
سعيد بن العاصي حبسوا عثمان على جهة المبرة، فأبطأ على رسول
الله صلى الله عليه وسلم وكانت الحديبية من مكة على عشرة
أميال، فصرخ صارخ من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمى
رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وقالوا: لا نبرح إن
كان هذا حتى نلقى القوم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى البيعة، ونادى مناديه: أيها الناس، البيعة البيعة، نزل روح
القدس، فما تخلف عن البيعة أحد ممن شهد الحديبية إلا الجد بن
قيس المنافق،
(5/133)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ
مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ
وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ
بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا
الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا
(22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ
تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي
كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ
مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ
اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
وحينئذ جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
يده على يده وقال: هذه يد لعثمان، وهي خير من يد عثمان ثم جاء
عثمان بعد ذلك سالما.
والشَّجَرَةِ سمرة كانت هنالك، ذهبت بعد سنين، فمر عمر بن
الخطاب رضي الله عنه في خلافته فاختلف أصحابه في موضعها، فقال
عمر سيروا هذا التكلف.
وقوله تعالى: فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ قال قوم معناه: من
كراهة البيعة على الموت ونحوه وهذا ضعيف، فيه مذمة للصحابة.
وقال الطبري ومنذر بن سعيد معناه: من الإيمان وصحته والحب في
الدين والحرص عليه، وهذا قول حسن، لكنه من كانت هذه حاله فلا
يحتاج إلى نزول ما يسكنه، أما أنه يحتمل أن يجازى ب
السَّكِينَةَ والفتح القريب والمغانم.
وقال آخرون معناه: من الهم بالانصراف عن المشركين والأنفة في
ذلك على نحو ما خاطب فيه عمر وغيره، وهذا تأويل حسن يترتب معه
نزول السَّكِينَةَ والتعريض بالفتح القريب. والسَّكِينَةَ هنا
تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى والصبر له.
وقرأ الناس: «وأثابهم» قال هارون وقد قرئت: «وأتابهم» بالتاء
بنقطتين والفتح القريب: خيبر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم انصرف بالمؤمنين إلى المدينة وقد وعده الله بخيبر وخرج
إليها لم يلبث، قال أبو جعفر النحاس، وقد قيل: الفتح القريب:
فتح مكة، والمغانم الكثيرة: فتح خيبر.
وقرأ يعقوب في رواية رويس: «تأخذونها» على مخاطبتهم بالتاء من
فوق. وقرأ الجمهور:
«يأخذونها» على الغيبة.
واختلف في عدة المبايعين فقيل: ألف وخمسمائة، قاله قتادة،
وقيل: وأربعمائة قاله جابر بن عبد الله، وقيل: وخمسمائة وخمسة
وعشرون، قاله ابن عباس، وقيل: وثلاثمائة قاله ابن أبي أوفى،
وقيل غير هذا مما ذكرناه من قبل، وأول من بايع في ذلك رجل من
بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب قاله الشعبي.
قوله عز وجل:
[سورة الفتح (48) : الآيات 20 الى 24]
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها
فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ
وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً
مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ
أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا
نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ
عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)
قوله تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ الآية مخاطبة للمؤمنين ووعد
بجميع المغانم التي أخذها المسلمون ويأخذونها إلى يوم القيامة،
قاله مجاهد وغيره.
(5/134)
وقوله: فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يريد خيبر،
وقال زيد بن أسلم وابنه، المغانم الكثيرة: خيبر، و: هذِهِ
إشارة إلى البيعة والتخلص من أمر قريش، وقاله ابن عباس: وقوله
وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ يريد من ولي عورة المدينة
بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين منها، وذلك أنه
كان من أحياء العرب ومن اليهود من يعادي وكانت قد أمكنتهم فرصة
فكفهم الله عن ذراري المسلمين وأموالهم، وهذه للمؤمنين العلامة
على أن الله ينصرهم ويلطف لهم، قاله قتادة. وحكى الثعلبي أنه
قال: كف الله غطفان ومن معها عن النبي صلى الله عليه وسلم حين
جاؤوا لنصر أهل خيبر، وذكره النقاش وقال الثعلبي أيضا عن بعضهم
إنه أراد كف قريش.
وقوله: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قال عبد الله بن
عباس: الإشارة إلى بلاد فارس والروم. وقال الضحاك: الإشارة إلى
خيبر. وقال قتادة والحسن: الإشارة إلى مكة، وهذا هو القول الذي
يتسق معه المعنى ويتأيد.
وقوله: قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها معناه بالقدرة والقهر لأهلها،
أي قد سبق في علمه ذلك وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها.
وقوله: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا
الْأَدْبارَ إشارة إلى قريش ومن والاها في تلك السنة، قاله
قتادة، وفي هذا تقوية لنفوس المؤمنين، وقال بعض المفسرين: أراد
الروم وفارس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وإنما الإشارة إلى العدو
الأحضر.
وقوله: سُنَّةَ اللَّهِ إشارة إلى وقعة بدر، وقيل إشارة إلى
عادة الله من نصر الأنبياء قديما، ونصب سُنَّةَ على المصدر،
ويجوز الرفع ولم يقرأ به.
وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ الآية، روي في
سببها أن قريشا جمعت جماعة من فتيانها وجعلوهم مع عكرمة بن أبي
جهل وخرجوا يطلبون غرة في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم،
واختلف الناس في عدد هؤلاء اختلافا متفاوتا، فلذلك اختصرته
فلما أحس بهم المسلمون بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في
أثرهم خالد بن الوليد وسماه حينئذ سيف الله في جملة من
المسلمين، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة وأسروا منهم
جملة، فسيقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن عليهم
وأطلقهم، فهذا هو أن كف الله أيديهم عن المسلمين بالرعب وكف
أيدي المسلمين عنهم بالنهي في بيوت مكة وغيرها وذلك هو «بطن
مكة» . وقال قتادة: أسر النبي الله صلى الله عليه وسلم هذه
الجملة بالحديبية عند عسكره ومن عليهم، وذلك هو «بطن مكة» .
قال النقاش: الحرام كله مَكَّةَ، والظفر عليهم هو أسر من أسر
منهم، وباقي الآية تحريض على العمل الصالح، لأن من استشعر أن
الله يبصر عمله أصلحه.
وقرأ الجمهور من القراء: «بما تعملون» بالتاء على الخطاب. وقرأ
أبو عمرو وحده: «بما يعملون» بالياء على ذكر الكفار وتهددهم.
(5/135)
هُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا
رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ
أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ
عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ
تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا
أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمًا (26)
قوله عز وجل:
[سورة الفتح (48) : الآيات 25 الى 26]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ
وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ
مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ
مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ
الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ
وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى
وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيماً (26)
يريد بقوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أهل مكة الذين تقدم
ذكرهم. وقوله وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ هو
منعهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من العمرة عام
الحديبية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من
المدينة في ذي القعدة سنة ست من الهجرة يريد العمرة وتعظيم
البيت، وخرج معه بمائة بدنة، قاله النقاش، وقيل بسبعين، قاله
المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، فلما دنا من مكة، قال أهل
مكة هذا محمد الذي قد حاربنا وقتل فينا، يريد أن يدخل مكة
مراغمة لنا، والله لا تركناه حتى نموت دون ذلك، فاجتمعوا
لحربه، واستنجدوا بقبائل من العرب وهم الأحابيش وبعثوا فغوروا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم المياه التي تقرب من مكة، فجاء
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل على بئر الحديبية،
وحينئذ وضع سهمه في الماء فجرى غمرا حتى كفى الجيش، ثم إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مكة عثمان، وبعث أهل مكة إليه
رجالا منهم: عروة بن مسعود، وبديل بن ورقاء، وتوقف رسول الله
صلى الله عليه وسلم هناك أياما حتى سفر سهيل بن عمرو، وبه
انعقد الصلح على أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم
ويعتمر من العام القادم، فهذا كان صدهم إياه وهو مستوعب في كتب
السير، فلذلك اختصرناه.
وقرأ الجمهور: «والهدي» بسكون الدال.. وقرأ الأعرج والحسن بن
أبي الحسن: «والهديّ» بكسر الدال وشد الياء، وهما لغتان، وهو
معطوف على الضمير في قوله: وَصَدُّوكُمْ أي وصدوا الهدي.
و: مَعْكُوفاً حال، ومعناه: محبوسا، تقول: عكفت الرجل عن حاجته
إذا حبسته، وقد قال أبو علي:
إن عكف لا يعرفه متعديا، وحكى ابن سيده وغيره: تعديه، وهذا
العكف الذي وقع للهدي كان من قبل المشركين بصدهم، ومن قبل
المسلمين لرؤيتهم ونظرهم في أمرهم فحبسوا هديهم. وأَنْ في
قوله:
أَنْ يَبْلُغَ يحتمل أن يعمل فيها الصد، كأنه قال: وصدوا الهدي
كراهة أن أو عن أن، ويحتمل أن يعمل فيها العكف فتكون مفعولا من
أجله، أي الهدي المحبوس لأجل أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ،
ومَحِلَّهُ مكة.
وذكر الله تعالى العلة في أن صرف المسلمين ولم يمكنهم من دخول
مكة في تلك الوجهة، وهو أنه كان بمكة مؤمنون من رجال ونساء خفي
إيمانهم، فلو استباح المسلمون بيضتها أهلكوا أولئك المؤمنين.
قال قتادة: فدفع الله عن المشركين ببركة أولئك المؤمنين، وقد
يدفع بالمؤمنين عن الكفار.
(5/136)
وقوله تعالى: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ صفة
للمذكورين. وقوله: أَنْ تَطَؤُهُمْ يحتمل أن تكون أَنْ بدلا من
رِجالٌ، كأنه قال: ولولا قوم مؤمنون أن تطؤوهم، أي لولا وطئكم
قوما مؤمنين، فهو على هذا في موضع رفع، ويحتمل أن تكون في موضع
نصب بدلا من الضمير في قوله: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ كأنه قال:
لم تعلموا وطأهم أنه وطء المؤمنين، والوطء هنا: الإهلاك بالسيف
وغيره على وجه التشبيه، ومنه قول الشاعر [زهير] : [الكامل]
ووطئتنا وطئا على حنق ... وطء المقيد ثابت الهرم
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على
مضر» ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن آخر وطأة الرب
يوم وج بالطائف» لأنها كانت آخر وقعة للنبي صلى الله عليه
وسلم، فيها ذكر هذا المعنى النقاش: و «المعرة» السوء والمكروه
اللاصق، مأخوذ من العر والعرة وهي الجرب الصعب اللازم. واختلف
الناس في تعيين هذه المعرة، فقال ابن زيد: هي المأثم وقال ابن
إسحاق: هي الدية.
قال القاضي أبو محمد: وهذان ضعيفان، لأنه لا إثم ولا دية في
قتل مؤمن مستور الإيمان من أهل الحرب.
وقال الطبري حكاه الثعلبي: هي الكفارة. وقال منذر: المعرة: أن
يعيبهم الكفار ويقولوا قتلوا أهل دينهم. وقال بعض المفسرين: هي
الملام والقول في ذلك، وتألم النفس منه في باقي الزمن.
قال القاضي أبو محمد: وهذه أقوال حسان. وجواب لَوْلا محذوف
تقديره: لمكناكم من دخول مكة وأيدناكم عليهم.
وقرأ الأعمش: «فتنالكم منه معرة» .
واللام في قوله: لِيُدْخِلَ يحتمل أن يتعلق بمحذوف من القول،
تقديره: لولا هؤلاء لدخلتم مكة، لكن شرفنا هؤلاء المؤمنين بأن
رحمناهم ودفعنا بسببهم عن مكة لِيُدْخِلَ اللَّهُ: أي ليبين
للناظر أن الله تعالى يدخل من يشاء في رحمته، أو ليقع دخولهم
في رحمة الله ودفعه عنهم، ويحتمل أن تتعلق بالإيمان المتقدم
الذكر، فكأنه قال: ولولا قوم مؤمنون آمنوا ليدخل الله من يشاء
في رحمته، وهذا مذكور، لكنه ضعيف، لأن قوله: مَنْ يَشاءُ يضعف
هذا التأويل.
ثم قال تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا أي لو ذهبوا عن مكة، تقول:
أزلت زيدا عن موضعه إزالة، أي أذهبته، وليس هذا الفعل من زال
يزول، وقد قيل هو منه.
وقرأ أبو حيوة وقتادة: بألف بعد الزاي، أي «لو تزايلوا» ، أي
ذهب هؤلاء عن هؤلاء وهؤلاء عن هؤلاء.
وقوله: مِنْهُمْ لبيان الجنس إذا كان الضمير في تَزَيَّلُوا
للجميع من المؤمنين والكافرين وقال النحاس: وقد قيل إن قوله:
وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ الآية. يريد من في أصلاب الكافرين
من سيؤمن في غابر الدهر، وحكاه الثعلبي والنقاش عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
(5/137)
مرفوعا. والعامل في قوله: إِذْ جَعَلَ
قوله: لَعَذَّبْنَا ويحتمل أن يكون المعنى: أذكر إذ جعلنا.
و: الْحَمِيَّةَ التي جعلوها هي حمية أهل مكة في الصد، قال
الزهري: وحمية سهيل ومن شاهد عقد الصلح في أن منعوا أن يكتب
بسم الله الرحمن الرحيم، ولجوا حتى كتب باسمك اللهم، وكذلك
منعوا أن يثبت: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. ولجوا حتى
قال صلى الله عليه وسلم لعلي: امح واكتب:
هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله الحديث وجعلها تعالى «حمية
جاهلية» ، لأنها كانت بغير حجة وفي غير موضعها، لأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لو جاءهم محاربا لعذرهم في حميتهم، وإنما
جاء معظما للبيت لا يريد حربا، فكانت حميتهم جاهلية صرفا.
والسكينة هي الطمأنينة إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
والثقة بوعد الله والطاعة وزوال الأنفة التي لحقت عمر وغيره.
و: كَلِمَةَ التَّقْوى قال الجمهور: هي لا إله إلا الله، وروي
ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عطاء بن أبي رباح: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وقال أبو هريرة وعطاء
الخراساني: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقال علي بن
أبي طالب:
هي لا إله إلا الله والله أكبر، وحكاه الثعلبي عن ابن عمر.
قال القاضي أبو محمد: وهذه كلها أقوال متقاربة حسان، لأن هذه
الكلمة تقي النار، فهي كَلِمَةَ التَّقْوى.
وقال الزهري عن المسور ومروان: كَلِمَةَ التَّقْوى المشار
إليها هي بسم الله الرحمن الرحيم وهي التي أباها كفار قريش،
فألزمها الله المؤمنين وجعلهم أَحَقَّ بِها قال القاضي أبو
محمد: ولا إله إلا الله أحق باسم: كَلِمَةَ التَّقْوى. من: بسم
الله الرحمن الرحيم.
وفي مصحف ابن مسعود: «وكانوا أهلها وأحق بها» . والمعنى: كانوا
أهلها على الإطلاق في علم الله وسابق قضائه لهم، وقيل أَحَقَّ
بِها من اليهود والنصارى في الدنيا، وقيل أهلها في الآخرة
بالثواب.
وقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً إشارة
إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن كفار قريش بسببهم وإلى علمه
بوجه المصلحة في صلح الحديبية، فيروى أنه لما انعقد، أمن الناس
في تلك المدة الحرب والفتنة، وامتزجوا، وعلت دعوة الإسلام،
وانقاد إليه كل من كان له فهم من العرب، وزاد عدد الإسلام
أضعاف ما كان قبل ذلك.
قال القاضي أبو محمد: ويقتضي ذلك أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان في عام الحديبية في أربع عشرة مائة، ثم سار إلى مكة
بعد ذلك بعامين في عشرة آلاف فارس صلى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل:
(5/138)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ
رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ
تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ
شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ
رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ
فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ
فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً
وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
[سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 29]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ
آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ
فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ
فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ
فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ
مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ
فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ
الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)
روي في تفسير هذه الآية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى
في منامه عند خروجه إلى العمرة أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه،
بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون. وقال مجاهد: أرى ذلك بالحديبية،
فأخبر الناس بهذه الرُّؤْيا، ووثق الجميع بأن ذلك يكون في
وجهتهم تلك، وقد كان سبق في علم الله تعالى أن ذلك يكون. لكن
ليس في تلك الجهة. وروي أن رؤياه إنما كانت أن ملكا جاءه فقال
له:
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ
آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ، وإنه بهذا
أعلم الناس فلما قضى الله في الحديبية بأمر الصلح، وأخذ رسول
الله صلى الله عليه وسلم في الصد، وقال المنافقون: وأين
الرؤيا؟ ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك، فأنزل الله تعالى:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ. و:
صَدَقَ هذه تتعدى إلى مفعولين، تقول صدقت زيدا الحديث: واللام
في: لَتَدْخُلُنَّ لام القسم الذي تقتضيه صَدَقَ لأنها من قبيل
تبين وتحقق، ونحوها مما يعطي القسم.
واختلف الناس في معنى الاستثناء في هذه الآية، فقال بعض
المتأولين هو استثناء من الملك المخبر للنبي عليه السلام في
نومه، فذكر الله تعالى مقالته كما وقعت، وقال آخرون هو أخذ من
الله تعالى عباده بأدبه في استعماله في كل فعل يوجب وقوعه، كان
ذلك مما يكون ولا بد، أو كان مما قد يكون وقد لا يكون، وقال
بعض العلماء: إنما استثنى من حيث كل واحد من الناس متى رد هذا
الوعد إلى نفسه أمكن أن يتم الوعد فيه وأن لا يتم، إذ قد يموت
الإنسان أو يمرض أو يغيب، وكل واحد في ذاته محتاج إلى
الاستثناء، فلذلك استثنى عز وجل في الجملة، إذ فيهم ولا بد من
يموت أو يمرض. وقال آخرون: استثنى لأجل قوله: آمِنِينَ لأجل
إعلامه بالدخول، فكأن الاستثناء مؤخر عن موضعه، ولا فرق بين
الاستثناء من أجل الأمن أو من أجل الدخول، لأن الله تعالى قد
أخبر بهما ووقت الثقة بالأمرين، فالاستثناء من أيهما كان فهو
استثناء من واجب. وقال قوم: إِنْ بمعنى إذ فكأنه قال: إذ شاء
الله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن في معناه، ولكن كون إِنْ بمعنى
إذ غير موجود في لسان العرب، وللناس بعد في هذا الاستثناء
أقوال مخلطة غير هذه، اختصرت ذكرها، لأنها لا طائل فيها.
وقرأ ابن مسعود: «إن شاء الله لا تخافون» بدل آمِنِينَ.
ولما نزلت هذه الآية، علم المسلمون أن تلك الرؤيا فيما
يستأنفون من الزمن، واطمأنت قلوبهم
(5/139)
بذلك وسكنت، وخرجت في العام المقبل، خرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في ذي القعدة سنة سبع،
ودخلها ثلاثة أيام هو وأصحابه، وصدقت رؤياه صلى الله عليه
وسلم.
وقوله: فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا يريد ما قدره من ظهور
الإسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه، وما كان أيضا بمكة من
المؤمنين دفع الله بهم. وقوله تعالى: مِنْ دُونِ ذلِكَ، أي من
قبل ذلك وفيما يدنو إليكم.
واختلف الناس في الفتح القريب، فقال كثير من الصحابة: هو بيعة
الرضوان وروي عن مجاهد وابن إسحاق. أنه الصلح بالحديبية. وقد
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه
وسلم: أو فتح هو يا رسول الله؟ قال: نعم. وقال ابن زيد: الفتح
القريب: خيبر حسبما تقدم من ذكر انصراف رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى فتحها. وقال قوم: الفتح القريب: فتح مكة، وهذا
ضعيف، لأن فتح مكة لم يكن من دون دخول رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابه مكة، بل كان بعد ذلك بعام، لأن الفتح كان سنة
ثمان من الهجرة ويحسن أن يكون الفتح هنا اسم جنس يعم كل ما وقع
مما للنبي صلى الله عليه وسلم فيه ظهور وفتح عليه. وقد حكى مكي
في ترتيب أعوام هذه الأخبار عن قطرب قولا خطأ جعل فيه الفتح
سنة عشر، وجعل حج أبي بكر قبل الفتح، وذلك كله تخليط وخوض فيما
لم يتقنه معرفة.
وقوله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ الآية تعظيم
لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلام بأنه يظهره على جميع
الأديان. ورأى بعض الناس لفظة: لِيُظْهِرَهُ تقتضي محو غيره
به، فلذلك قالوا: إن هذا الخبر يظهر للوجود عند نزول عيسى ابن
مريم عليه السلام، فإنه لا يبقى في وقته غير دين الإسلام وهو
قول الطبري والثعلبي. ورأى قوم أن الإظهار هو الإعلاء وإن بقي
من الدين الآخر أجزاء، وهذا موجود الآن في دين الإسلام، فإنه
قد عم أكثر الأرض وظهر على كل دين.
وقوله تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً معناه: شاهدا، وذلك
يحتمل معنيين: أحدهما شاهدا عندكم بهذا الخبر ومعلما به.
والثاني: شاهدا على هؤلاء الكفار المنكرين أمر محمد الرادين في
صدره ومعاقبا لهم بحكم الشهادة، والآية على هذا وعيد للكفار
الذين شاحوا في أن يكتب محمد رسول الله، فرد عليهم بهذه الآية
كلها.
وقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قال جمهور الناس: هو
ابتداء وخبر استوفي فيه تعظيم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: والَّذِينَ مَعَهُ ابتداء وخبره: أَشِدَّاءُ ورُحَماءُ
خبر ثان. وقال قوم من المتأولين: مُحَمَّدٌ «ابتداء» و:
رَسُولُ اللَّهِ صفة له وَالَّذِينَ عطف عليه. و: أَشِدَّاءُ
خبر عن الجميع. و: رُحَماءُ خبر بعد خبر، ففي القول الأول اختص
النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه وهؤلاء بوصفهم، وفي القول
الثاني اشترك الجميع في الشدة والرحمة.
قال القاضي أبو محمد: والأول عندي أرجح، لأنه خبر مضاد لقول
الكفار لا نكتب محمد رسول الله.
وقوله: وَالَّذِينَ مَعَهُ إشارة إلى جميع الصحابة عند
الجمهور، وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن
(5/140)
الإشارة إلى من شهد الحديبية: ب الَّذِينَ
مَعَهُ. و: أَشِدَّاءُ جمع شديد، أصله: أشدداء، أدغم لاجتماع
المثلين.
وقرأ الجمهور: «أشداء» «رحماء» بالرفع، وروى قرة عن الحسن:
«أشداء» «رحماء» بنصبهما قال أبو حاتم: ذلك على الحال والخبر:
تَراهُمْ. قال أبو الفتح: وإن شئت نصبت «أشداء» على المدح.
وقوله: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً، أي ترى هاتين الحالتين
كثيرا فيهم. و: يَبْتَغُونَ معناه يطلبون. وقرأ عمر وابن عبيد:
«ورضوانا» بضم الراء.
وقوله: سِيماهُمْ معناه: علامتهم. واختلف الناس في تعيين هذه
السيما، فقال مالك بن أنس:
كانت جباههم متربة من كثرة السجود في التراب، كان يبقى على
المسح أثره، وقاله عكرمة. وقال أبو العالية: يسجدون على التراب
لا على الأثواب. وقال ابن عباس وخالد الحنفي وعطية: هو وعد
بحالهم يوم القيامة من أن الله تعالى يجعل لهم نورا مِنْ
أَثَرِ السُّجُودِ.
قال القاضي أبو محمد: كما يجعل غرة من أثر الوضوء الحديث،
ويؤيد هذا التأويل اتصال القول بقوله: فَضْلًا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْواناً كأنه قال: علامتهم في تحصيلهم الرضوان يوم
القيامة: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ.
ويحتمل أن تكون السيما بدلا من قوله: فَضْلًا. وقال ابن عباس:
السمت الحسن: هو السيما، وهو الخشوع خشوع يبدو على الوجه.
قال القاضي أبو محمد: وهذه حالة مكثري الصلاة، لأنها تنهاهم عن
الفحشاء والمنكر، وتقل الضحك وترد النفس بحالة تخشع معها
الأعضاء.
وقال الحسن بن أبي الحسن وشمر بن عطية: السيما: بياض وصفرة
وبهيج يعتري الوجوه من السهر. وقال منصور: سألت مجاهدا: أهذه
السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل؟ فقال: لا، وقد تكون مثل
ركبة البعير، وهو أقسى قلبا من الحجارة. وقال عطاء بن أبي رباح
والربيع بن أنس: السيما: حسن يعتري وجوه المصلين.
قال القاضي أبو محمد: وذلك لأن الله تعالى يجعل لها في عين
الرأي حسنا تابعا للإجلال الذي في نفسه، ومتى أجل الإنسان أمرا
حسن عنده منظره، ومن هذا الحديث الذي في الشهاب: «من كثرت
صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» .
قال القاضي أبو محمد: وهذا حديث غلط فيه ثابت بن موسى الزاهد،
سمع شريك بن عبد الله يقول: حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر
ثم نزع شريك لما رأى ثابت الزاهد فقال: يعنيه من كثرت صلاته
بالليل حسن وجهه بالنهار، فظن ثابت أن هذا الكلام متركب على
السند المذكور فحدث به عن شريك.
وقرأ الأعرج: «من إثر» بسكون الثاء وكسر الهمزة. قال أبو حاتم
هما بمعنى. وقرأ قتادة: «من آثار» ، جمعا.
(5/141)
وقوله تعالى: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي
التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ الآية، المثل هنا
الوصف أو الصفة.
وقال بعض المتأولين: التقدير الأمر ذلِكَ وتم الكلام. ثم قال:
مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ
كَزَرْعٍ. وقال مجاهد وجماعة من المتأولين: المعنى ذلِكَ الوصف
هو مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ
وتم القول، و: كَزَرْعٍ ابتداء تمثيل يختص بالقرآن. وقال
الطبري وحكاه عن الضحاك المعنى: ذلِكَ الوصف هو مَثَلُهُمْ فِي
التَّوْراةِ وتم القول، ثم ابتدأ وَمَثَلُهُمْ فِي
الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ.
وقال آخرون: المثلان جميعا هي في التوراة وهي في الإنجيل.
وقوله تعالى: كَزَرْعٍ، هو على كل الأقوال وفي أي كتاب منزل:
فرض مثل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، في أن النبي صلى
الله عليه وسلم بعث وحده، فكان كالزرع حبة واحدة، ثم كثر
المسلمون فهم كالشطء: وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل،
يقال: أشطأت الشجرة إذا خرجت غصونها، وأشطأ الزرع: إذا خرج
شطأه.
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان عن ابن عامر: «شطأ» بفتح الطاء
والهمز دون مد، وقرأ الباقون بسكون الطاء، وقرأ عيسى بن عمر:
«شطاه» بفتح الطاء دون همز، وقرأ أبو جعفر: «شطه» رمى بالهمزة
وفتح الطاء، ورويت عن نافع وشيبة. وروي عن عيسى: «شطاءه» بالمد
والهمز، وقرأ الجحدري: «شطوه» بالواو. قال أبو الفتح هي لغة أو
بدل من الهمزة، ولا يكون الشطو إلا في البر والشعير، وهذه كلها
لغات.
وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: الزرع: النبي صلى الله عليه
وسلم، فَآزَرَهُ. علي بن أبي طالب رضي الله عنه فَاسْتَغْلَظَ
بأبي بكر، فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ: بعمر بن الخطاب.
وقوله تعالى: فَآزَرَهُ وزنه: أفعله، أبو الحسن ورجحه أبو علي.
وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر:
«فأزره» على وزن: فعله دون مد، ولذلك كله معنيان: أحدهما ساواه
طولا، ومنه قول امرئ القيس:
[الطويل]
بمحنية قد آزر الضال نبتها ... بجر جيوش غانمين وخيب
أي هو موضع لم يزرع فكمل نبته حتى ساوى شجر الضال، فالفاعل على
هذا المعنى: الشطء والمعنى الثاني: إن آزره وأزره بمعنى: أعانه
وقواه، مأخوذ ذلك من الأزر وشده، فيحتمل أن يكون الفاعل الشطء،
ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع، لأن كل واحد منهما يقوي صاحبه
وقال ابن مجاهد وغيره «آزره» وزنه: فاعله، والأول أصوب أن
وزنه: أفعله، ويدلك على ذلك قول الشاعر: [المنسرح]
لا مال إلا العطاف تؤزره ... أم ثلاثين وابنة الجبل
وقرأ ابن كثير: «على سؤقه» بالهمز، وهي لغة ضعيفة، يهمزون
الواو التي قبلها ضمة ومنه قول الشاعر [جرير] :
وجعدة إذا أضاءهما الوقود و: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ جملة في
موضع الحال، وإذا أعجب الزُّرَّاعَ، فهو أحرى أن يعجب غيرهم
(5/142)
لأنه لا عيب فيه، إذ قد أعجب العارفين
بالعيوب ولو كان معيبا لم يعجبهم، وهنا تم المثل.
وقوله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ابتداء كلام قبله
محذوف تقديره: جعلهم الله بهذه الصفة لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ، والْكُفَّارِ هنا المشركون. قال الحسن: من غيظ
الكفار قول عمر بمكة: لا عبد الله سرا بعد اليوم.
وقوله تعالى: مِنْهُمْ هي لبيان الجنس وليست للتبعيض، لأنه وعد
مرجّ للجميع.
(5/143)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ
يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ
الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الحجرات
وهي مدنية بإجماع من أهل التأويل رضي الله عنهم.
قوله عز وجل:
[سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا
أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ
يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ
الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
كانت عادة العرب وهي إلى الآن الاشتراك في الآراء وأن يتكلم كل
بما شاء ويفعل ما أحب، فمشى بعض الناس ممن لم تتمرن نفسه مع
النبي صلى الله عليه وسلم على بعض ذلك، قال قتادة: فربما قال
قوم: لو نزل كذا وكذا في معنى كذا وكذا وينبغي أن يكون كذا،
وأيضا فإن قوما ذبحوا ضحاياهم قبل النبي صلى الله عليه وسلم،
حكاه الحسن بن أبي الحسن، وقوما فعلوا في بعض حروبه وغزواته
أشياء بآرائهم، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك، وحكى
الثعلبي عن مسروق أنه قال: دخلت على عائشة في يوم الشك فقالت
للجارية: اسقه عسلا، فقلت: إني صائم، فقالت: نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن صيام هذا اليوم، وفيه نزلت: لا تُقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وقال ابن زيد: معنى لا
تُقَدِّمُوا لا تمشوا بَيْنَ يَدَيِ رسول الله، وكذلك بين يدي
العلماء فإنهم ورثة الأنبياء. وتقول العرب: تقدمت في كذا وكذا
وتقدمت فيه: إذا قلت فيه.
وقرأ الجمهور من القراء: «تقدموا» بضم التاء وكسر الدال. وقرأ
ابن عباس والضحاك ويعقوب بفتح التاء والدال على معنى: لا
تتقدموا، وعلى هذا يجيء تأويل ابن زيد في المشي. والمعنى على
ضم التاء بَيْنَ يَدَيِ قول الله ورسوله.
وروي أن سبب هذه الآية هو أن وفد بني تميم لما قدم قال أبو بكر
الصديق: يا رسول الله لو أمرت الأقرع بن حابس. وقال عمر بن
الخطاب: لا يا رسول الله، بل أمر القعقاع بن معبد، فقال له أبو
بكر: ما أردت إلى خلافي، ويروى إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت
خلافك، وارتفعت أصواتها فنزلت الآية في ذلك. وذهب بعض قائلي
هذه المقالة إلى أن قوله: لا تُقَدِّمُوا معناه: لا
تُقَدِّمُوا ولاة، فهو من تقديم
(5/144)
الأمراء، وعموم اللفظ أحسن، أي اجعلوه مبدأ
في الأقوال والأفعال. و: سَمِيعٌ معناه: لأقوالكم.
عَلِيمٌ معناه: بأفعالكم ومقتضى أقوالكم.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا
الآية هي أيضا في ذلك الفن المتقدم، وروى حيح أنها نزلت بسبب
عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت والعنجهية، وكان ثابت بن
قيس بن شماس رضي الله عنه في صوته جهارة، فلما نزلت هذه الآية
اهتم وخاف على نفسه وجلس في بيته لم يخرج، وهو كئيب حزين حتى
عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره فبعث فيه فأنسه وقال
له: «امش في الأرض بسطا فإنك من أهل الجنة» . وقال له مرة:
«أما ترضى أن تعيش حميدا وتموت شهيدا» ، فعاش كذلك، ثم قتل
باليمامة يوم مسيلمة. وفي قراءة ابن مسعود: «لا ترفعوا
بأصواتكم» بزيادة الباء.
وقوله: كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي كحال جهركم في جفائه
وكونه مخاطبة بالأسماء والألقاب، وكانوا يدعون النبي صلى الله
عليه وسلم. با محمد يا محمد، قاله ابن عباس وغيره، فأمرهم الله
بتوقيره، وأن يدعوه بالرسالة والنبوءة والكلام اللين، فتلك
حالة الموقر، وكره العلماء رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله
عليه وسلم. وبحضرة العالم وفي المساجد، وفي هذه كلها آثار.
وقوله تعالى: أَنْ تَحْبَطَ مفعول من أجله، أي مخافة أَنْ
تَحْبَطَ، والحبط: إفساد العمل بعد تقرره، يقال حبط بكسر الباء
وأحبطه الله، وهذا الحبط إن كانت الآية معرضة بمن يفعل ذلك
استخفافا واستحقارا وجرأة فذلك كفر. والحبط معه على حقيقته،
وإن كان التعريض للمؤمن الفاضل الذي يفعل ذلك غفلة وجريا على
طبعه، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم
وغض الصوت عنده أن لو فعل ذلك، فكأنه قال: أن تحبط الأعمال
التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها. ويحتمل أن يكون
المعنى: أن تأثموا ويكون ذلك سببا إلى الوحشة في نفوسكم، فلا
تزال معتقداتكم تتجرد القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فتحبط
الأعمال حقيقة. وظاهر الآية أنها مخاطبة لفضلاء المؤمنين الذين
لا يفعلون ذلك احتقارا، وذلك أنه لا يقال لمنافق يعمل ذلك جرأة
وأنت لا تشعر، لأنه ليس له عمل يعتقده هو عملا. وفي قراءة عبد
الله بن مسعود: «فتحبط أعمالكم» .
ثم مدح الصنف المخالف لمن تقدم ذكره، وهم الَّذِينَ يَغُضُّونَ
أَصْواتَهُمْ عند النبي صلى الله عليه وسلم. وغض الصوت: خفضه
وكسره، وكذلك البصر، ومنه قول جرير: [الوافر] فغض الطرف إنك من
نمير وروي أن أبا بكر وعمر كانا بعد ذلك لا يكلمان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار، وأن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يحتاج مع عمر بعد ذلك إلى استعادة اللفظ، لأنه كان لا
يسمعه من إخفائه إياه. و: امْتَحَنَ اللَّهُ معناه اختبر وظهر
كما يمتحن الذهب بالنار فيسرها وهيأها للتقوى. وقال عمر بن
الخطاب: امتحن للتقوى أذهب عنها الشهوات.
قال القاضي أبو محمد: من غلب شهوته وغضبه، فذلك الذي امْتَحَنَ
اللَّهُ قلبه للتقوى، وبذلك تكون الاستقامة.
(5/145)
إِنَّ الَّذِينَ
يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ
إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا
أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ
مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ
إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ
إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ
هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
قوله عز وجل:
[سورة الحجرات (49) : الآيات 4 الى 8]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا
حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ
(6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ
يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ
اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي
قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ
وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ
اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ إلى قوله رَحِيمٌ
نزلت في وفد بني تميم حيث كان الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر
وعمرو بن الأهتم وغيرهم، وذلك أنهم وفدوا على رسول الله صلى
الله عليه وسلم فدخلوا المسجد ودنوا من حجر أزواج النبي صلى
الله عليه وسلم وهي تسعة، فجعلوا ولم ينتظروا، فنادوا بجملتهم:
يا محمد اخرج إلينا يا محمد اخرج إلينا فكان في فعلهم ذلك جفاء
وبداوة وقلة توقير، فتربص رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج
إليهم، فقال له الأقرع بن حابس: يا محمد إن مدحي زين وذمي شين،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلك، ذلك الله تعالى»
واجتمع الناس في المسجد، فقام خطيبهم وفخر، فأمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس فخطب وذكر الله والإسلام،
فأربى على خطيبهم، ثم قام شاعرهم فأنشد مفتخرا، فقام حسان بن
ثابت ففخر بالله وبالرسول وبالبسالة، فكان أشعر من شاعرهم،
فقال بعضهم لبعض: والله إن هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من
خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ثم نزلت فيهم هذه الآية.
هذا تلخيص ما تظاهرت به الروايات في هذه الآية، وقد رواه موسى
بن عقبة عن أبي سلمة عن الأقرع بن حابس، وفي مصحف ابن مسعود:
«أكثرهم بنو تميم لا يعقلون» ، و: الْحُجُراتِ: جمع حجرة.
وقرأ جمهور القراء: «الحجرات» بضم الحاء والجيم، وقرأ أبو جعفر
القاري وحده: «الحجرات» بضم الحاء وفتح الجيم.
وقوله تعالى: لَكانَ خَيْراً لَهُمْ يعني في الثواب عند الله
وفي انبساط نفس النبي صلى الله عليه وسلم وقضائه لحوائجهم ووده
لهم، وذلك كله خير، لا محالة أن بعضه انزوى بسبب جفائهم.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ترجية لهم وإعلام
بقبوله توبة التائب وغفرانه ورحمته لمن أناب ورجع.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ
فاسِقٌ بِنَبَإٍ سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد
بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق مصدقا، فروي أنه كان
معاديا لهم فأراد إذايتهم، فرجع من
(5/146)
بعض طريقه وكذب عليهم، قاله الضحاك، وقال
للنبي صلى الله عليه وسلم: إنهم منعوني الصدقة وطردوني
وارتدوا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بغزوهم، ونظر
في ذلك، وبعث خالد بن الوليد إليهم، فورده وفدهم منكرين لذلك،
وروي عن أم سلمة وابن عباس أن الوليد بن عقبة لما قرب منهم
خرجوا إليه متلقين له، فرآهم على بعد، ففزع منهم، وظن بهم الشر
وانصرف، فقال ما ذكرناه، وروي أنه لما قرب منهم بلغه عنهم أنهم
قالوا: لا نعطيه الصدقة ولا نعطيه، فعمل على صحة هذا الخبر
وانصرف، فقال ما ذكرناه فنزلت الآية بهذا السبب، والوليد على
ما ذكر مجاهد هو المشار إليه بالفاسق وحكى الزهراوي قالت أم
سلمة: هو الوليد بن عقبة.
قال القاضي أبو محمد: ثم هي باقية فيمن اتصف بهذه الصفة غابر
الدهر.
والفسق: الخروج عن نهج الحق، وهو مراتب متباينة، كلها مظنة
للكذب وموضع تثبت وتبين، وتأنس القائلون بقبول خبر الواحد بما
يقتضيه دليل خطاب هذه الآية، لأنه يقتضي أن غير الفاسق إذا جاء
بنبإ أن يعمل بحسبه، وهذا ليس باستدلال قوي وليس هذا موضع
الكلام على مسألة خبر الواحد.
وقرأ الجمهور من القراء: «فتبينوا» من التبين. وقرأ الحسن وابن
وثاب وطلحة والأعمش وعيسى:
«فتثبتوا» .
وإِنْ في قوله: أَنْ تُصِيبُوا مفعول من أجله، كأنه قال: مخافة
أَنْ تُصِيبُوا. قال قتادة: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
عند ما نزلت هذه الآية: التثبت من الله والعجلة من الشيطان.
قال منذر بن سعيد هذه الآية ترد على من قال: إن المسلمين كلهم
عدول حتى تثبت الجرحة، لأن الله تعالى أمر بالتبين قبل القبول.
قال القاضي أبو محمد: فالمجهول الحال يخشى أن يكون فاسقا
والاحتياط لازم. قال النقاش «تبينوا» أبلغ، لأنه قد يتثبت من
لا يتبين.
وقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ توبيخ
للكذبة ووعيد للفضيحة، أي فليفكر الكاذب في أن الله عز وجل
يفضحه على لسان رسوله ثم قال: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ
مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أي لشقيتم وهلكتم، والعنت: المشقة،
أي لو يطيعكم أيها المؤمنون في كثير مما ترونه باجتهادكم
وتقدمكم بين يديه.
وقوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الآية، كأنه
قال: ولكن الله أنعم بكذا وكذا، وفي ذلك كفاية وأمر لا تقومون
بشكره فلا تتقدموا في الأمور، واقنعوا بإنعام الله عليكم، وحبب
الله تعالى الإيمان وزينه بأن خلق في قلوب المؤمنين حبه وحسنه،
وكذلك تكريه الكفر والفسق والعصيان، وحكى الرماني عن الحسن أنه
قال: حبب الإيمان بما وصف من الثواب عليه وكره الثلاثة
المقابلة للإيمان بما وصف من العقاب عليها.
وقوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ رجوع من الخطاب إلى
ذكر الغيب، كأنه قال: ومن فعل هذا وقبله وشكر عليه فأولئك هم
الراشدون.
(5/147)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا
الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ
فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
وقوله تعالى: فَضْلًا مِنَ اللَّهِ
وَنِعْمَةً مصدر مؤكد لنفسه، لأن ما قبله هو بمعناه، إن
التحبيب والتزيين هو نفس الفضل، وقد يجيء المصدر مؤكدا لما
قبله إذا لم يكن هو نفس ما قبله، كقولك جاءني زيد حقا ونحوه
وكان قتادة رحمه الله يقول: قد قال الله تعالى لأصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم:
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ
فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ، وأنتم والله أسخف
الناس رأيا، وأطيش أحلاما، فليتهم رجل نفسه، ولينتصح كتاب الله
تعالى.
قوله عز وجل:
[سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 10]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى
الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى
أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما
بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
طائِفَتانِ مرفوع بإضمار فعل. والطائفة: الجماعة. وقد تقع على
الواحد، واحتج لذلك بقوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: 122] . ورأى بعض الناس أن
يشهد حدا لزناة رجل واحد. فهذه الآية الحكم فيها في الأفراد
وفي الجماعات واحد.
واختلف الناس في سبب هذه الآية. فقال أنس بن مالك والجمهور
سببها: ما وقع بين المسلمين والمتحزبين منهم مع عبد الله بن
أبي ابن سلول حين مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه. فقال عبد الله بن أبيّ
لما غشيه حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تغبروا علينا
ولقد آذانا نتن حمارك. فرد عليه عبد الله بن رواحة الحديث
بطوله. فتلاحى الناس حتى وقع بينهم ضرب بالجريد، ويروى
بالحديد. وقال أبو مالك والحسن سببها: أن فرقتين من الأنصار
وقع بينهما قتال. فأصلحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جهد
ونزلت الآية في ذلك وقال السدي: كانت بالمدينة امرأة من
الأنصار يقال لها أم بدر ولها زوج من غيرهم. فوقع بينهما شيء
أوجب أن يأنف لها قومها وله قومه. فوقع قتال نزلت الآية بسببه.
و: بَغَتْ معناه: طلبت العلو بغير الحق، ومدافعة الفئة الباغية
متوجه في كل حال وأما التهيؤ لقتالها فمع الولاة. وقيل لعلي بن
أبي طالب رضي الله عنه: أمشركون أهل صفين والجمل؟ قال: لا. من
الشرك فروا. قيل أفمنافقون؟ قال: لا. لأن المنافقين لا يذكرون
الله إلا قليلا. قيل فما حالهم؟ قال:
إخواننا بغوا علينا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: حكم الله
في الفئة الباغية أن لا يجهز على جريح. ولا يطلب هارب. ولا
يقتل أسير. و: تَفِيءَ معناه: ترجع. والإقساط: الحكم بالعدل.
وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ يريد إخوة
الدين. وقرأ الجمهور من القراء: «بين أخويكم» وذلك رعاية لحال
أقل عدد يقع فيه القتال والتشاجر والجماعة متى فصل الإصلاح
فإنما هو بين رجلين رجلين. وقرأ ابن عامر والحسن بخلاف عنه:
«بين إخوتكم» .
(5/148)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ
يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى
أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ
بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا
فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ
رَحِيمٌ (12)
وقرأ ابن سيرين وزيد بن ثابت وابن مسعود
والحسن وعاصم الجحدري وحماد بن سلمة: «بين إخوانكم» . وهي
حسنة. لأن الأكثر من جمع الأخ في الدين ونحوه من النسب إخوان.
والأكثر في جمعه من النسب إخوة وإخاء. قال الشاعر: [الطويل]
وجدتم أخاكم دوننا إذ نسيتم ... وأي بني الإخاء تنبو مناسبه
وقد تتداخل هذه الجموع في كتاب الله. فمنه: إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ أو بيوت إخوانكم فهذا جاء على الأقل
من الاستعمال.
قوله عز وجل:
[سورة الحجرات (49) : الآيات 11 الى 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ
عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ
عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً
فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ
رَحِيمٌ (12)
هذه الآيات والتي بعدها نزلت في خلق أهل الجاهلية. وذلك لأنهم
كانوا يجرون مع الشهوات نفوسهم لم يقومهم أمر من الله ولا نهي.
فكان الرجل يسطو ويهمز ويلمز وينبز بالألقاب ويظن الظنون.
فيتكلم بها. ويغتاب ويفتخر بنسبه إلى غير ذلك من أخلاق النفوس
البطالة. فنزلت هذه الآية تأديبا لأمة محمد صلى الله عليه
وسلم. وذكر بعض الناس لهذه الآيات أسبابا. فمما قيل: إن هذه
الآية: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل وذلك
أنه كان يمشي بالمدينة مسلما، فقال له قوم: هذا ابن فرعون هذه
الأمة، فعز ذلك عليه وشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال القاضي أبو محمد: والقوي عندي أن هذه الآية نزلت تقويما
كسائر أمر الشرع ولو تتبعت الأسباب لكانت أكثر من أن تحصى.
و: يَسْخَرْ معناه: يستهزىء. والهزء إنما يترتب متى ضعف امرؤ
إما لصغر وإما لعلة حادثة، أو لرزية أو لنقيصة يأتيها، فنهي
المؤمنون عن الاستهزاء في هذه الأمور وغيرها نهيا عاما، فقد
يكون ذلك المستهزأ به خيرا من الساخر، والقوم في كلام العرب:
واقع على الذكران، وهو من أسماء الجمع:
كالرهط والنفر. وقول من قال: إنه من القيام أو جمع قائم ضعيف،
ومنه قول الشاعر وهو زهير: [الوافر]
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وهذه الآية أيضا تقتضي اختصاص القوم بالذكران، وقد يكون مع
الذكران نساء فيقال لهم قوم على تغليب حال الذكور، ثم نهى
تعالى النساء عمّا نهى عنه الرجال من ذلك.
(5/149)
وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود: «عسوا أن
يكونوا» ، «وعسين أن يكن» .
و: تَلْمِزُوا، معناه: يطعن بعضكم على بعض بذكر النقائص ونحوه،
وقد يكون اللمز بالقول وبالإشارة ونحوه مما يفهمه آخر، والهمز
لا يكون إلا باللسان، وهو مشبه بالهمز بالعود ونحوه مما يقتضي
المماسة، قال الشاعر [رؤبة] :
ومن همزنا عزه تبركعا وقيل لأعرابي: أتهمز الفأرة؟ فقال الهر
يهمزها. وحكى الثعلبي أن اللمز ما كان في المشهد والهمز ما كان
في المغيب. وحكى الزهراوي عن علي بن سليمان عكّه من ذلك فقال:
الهمز أن يعيب حضرة واللمز في الغيبة. ومنه قوله تعالى: وَيْلٌ
لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1] ومنه قوله تعالى:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [التوبة: 58] .
وقرأ الجمهور: «تلمزوا» بكسر الميم. وقرأ الأعرج والحسن:
«تلمزوا» بضم الميم. قال أبو عمرو بن العلاء: هي عربية.
قراءتنا بالضم وأحيانا بالكسر.
وقوله تعالى: أَنْفُسَكُمْ معناه: بعضكم بعضا كما قال: وَلا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] كأن المؤمنين كنفس واحدة
إذ هم إخوة. فهم كما قال صلى الله عليه وسلم: «كالجسد إذا
اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى» وهم كما قال أيضا:
«كالبنيان يشد بعضه بعضا» . والتنابز: التلقب والنبز واللقب
واحد. أو اللقب: هو ما يعرف به الإنسان من الأسماء التي يكره
سماعها. وروي أن بني سلمة كانوا قد كثرت فيهم الألقاب، فدعا
رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا منهم فقال له: يا فلان،
فقيل له:
إنه يغضب من هذا الاسم، ثم دعا آخر كذلك. فنزلت الآية في هذا.
وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش. وواصل الأحدب. ونحوه
مما تدعو الضرورة إليه وليس فيه قصد استخفاف وأذى. وقد قال عبد
الله بن مسعود لعلقمة: وتقول أنت ذلك يا أعور. وأسند النقاش
إلى عطاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنوا أولادكم؟ قال
عطاء: مخافة الألقاب. وقال ابن زيد. معنى: وَلا تَنابَزُوا
بِالْأَلْقابِ أي لا يقول أحد لأحد: يا يهودي بعد إسلامه. ولا
يا فاسق بعد توبته. ونحو هذا. وحكى النقاش أن كعب بن مالك وابن
أبي حدرد تلاحيا، فقال له كعب: يا أعرابي. يريد أن يبعده من
الهجرة. فقال له الآخر: يا يهودي. يريد لمخالطة الأنصار اليهود
في يثرب. فنزلت الآية.
وقوله تعالى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ
يحتمل معنيين: أحدهما: بئس اسم تكتسبونه بعصيانكم ونبزكم
بالألقاب فتكونون فساقا بالمعصية بعد إيمانكم. والثاني: بئس ما
يقول الرجل لأخيه: يا فاسق بعد إيمانه. وقال الرماني: هذه
الآية تدل على أنه لا يجتمع الفسق والإيمان.
قال القاضي أبو محمد: وهذه نزعة اعتزالية ثم شدد تعالى عليهم
النهي. بأن حكم بظلم من لم يتب ويقلع عن هذه الأشياء التي نهى
عنها. ثم أمر تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن. وأن لا
يعملوا ولا يتكلموا بحسبه، لما في ذلك وفي التجسس
(5/150)
من التقاطع والتدابر. وحكم على بعضه بأنه
إِثْمٌ: إذ بعضه ليس بإثم.. ولا يلزم اجتنابه وهو ظن الخير
بالناس وحسنه بالله تعالى. والمظنون من شهادات الشهود والمظنون
به من أهل الشر. فإن ذلك سقوط عدالته وغير ذلك هي من حكم الظن
به. وظن الخير بالمؤمن محمود والظن المنهي عنه: هو أن تظن سوءا
برجل ظاهره الصلاح. بل الواجب تنزيل الظن وحكمه وتتأول الخير.
وقال بعض الناس: إِثْمٌ معناه: كذب. ومنه قول النبي صلى الله
عليه وسلم: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث. وقال بعض
الناس. معنى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أي إذا تكلم الظان
أثم. وما لم يتكلم فهو في فسحة. لأنه لا يقدر على دفع الخواطر
التي يبيحها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحزم سوء الظن» .
قال القاضي أبو محمد: وما زال أولو العلم يحترسون من سوء الظن
ويسدون ذرائعه. قال سلمان الفارسي: إني لأعد غراف قدري مخافة
الظن. وذكر النقاش عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: احترسوا من الناس بسوء الظن. وكان أبو العالية يختم
على بقية طعامه مخافة سوء الظن بخادمه.
وقال ابن مسعود: الأمانة خير من الخاتم. والخاتم خير من ظن
السوء.
وقوله: وَلا تَجَسَّسُوا أي لا تبحثوا على مخبآت أمور الناس
وادفعوا بالتي هي أحسن. واجتزوا بالظواهر الحسنة.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين والهذليون: «لا تحسسوا»
بالحاء غير منقوطة. وقال بعض الناس: التجسس بالجيم في الشر.
والتحسس بالحاء في الخير. وهكذا ورد القرآن، ولكن قد يتداخلان
في الاستعمال. وقال أبو عمرو بن العلاء: التجسس: ما كان من
وراء وراء. والتحسس بالحاء: الدخول والاستعلام. وصح عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا
تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» . وذكر الثعلبي حديث حراسة
عمرو بن عوف ووجودهما الشرب في بيت ربيعة بن أمية بن خلف. وذكر
أيضا حديثه في ذلك مع أبي محجن الثقفي. وقال زيد بن وهب. قيل
لابن مسعود:
هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا؟ فقال: إنا نهينا عن
التحسس. فإن يظهر لنا شيء أخذنا به.
وَلا يَغْتَبْ معناه: ولا يذكر أحدكم من أخيه شيئا هو فيه يكره
سماعه. وروي أن عائشة قالت عن امرأة: ما رأيت أجمل منها إلا
أنها قصيرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «اغتبتها،
نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرته» وقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم: «إذا ذكرت ما في أخيك فقد اغتبته. وإذا ذكرت ما ليس فيه
فقد بهته» . وفي حديث آخر: «الغيبة أن تذكر المؤمن بما يكره» .
قيل: وإن كان حقا. قال: إذا قلت باطلا فذلك هو البهتان» . وقال
معاوية بن قرة وأبو إسحاق السبيعي: إذا مر بك رجل أقطع. فقلت:
ذلك الأقطع، كان ذلك غيب. وحكى الزهراوي عن جابر عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: «الغيبة أشد من الزنا، لأن الزاني
يتوب فيتوب الله عليه. والذي يغتاب يتوب فلا يتاب عليه حتى
يستحل» .
قال القاضي أبو محمد: وقد يموت من اغتيب، أو يأبى.
وروي أن رجلا قال لابن سيرين: إني قد اغتبتك فحللني. فقال له
ابن سيرين إني لا أحل ما حرم
(5/151)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ
قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي
قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا
يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (14)
الله. والغيبة مشتقة من غاب يغيب. وهي
القول في الغائب واستعملت في المكروه. ولم يبح في هذا المعنى
إلا ما تدعو الضرورة إليه من تجريح في الشهود وفي التعريف لمن
استنصح في الخطاب ونحوهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أما
معاوية فصعلوك لا مال له» . وما يقال في الفسقة أيضا وفي ولاة
الجور ويقصد به التحذير منه. ومنه قول النبي صلى الله عليه
وسلم: «أعن الفاجر ترعون؟ اذكروا الفاجر بما فيه حتى يعرفه
الناس إذا لم تذكروه» ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «بئس ابن
العشيرة» . ثم مثل تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت،
والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم. فمنه قول الشاعر [سويد بن أبي
كاهل اليشكري] : [الرمل]
فإذا لاقيته عظّمني ... وإذا يخلو له لحمي رتع
ويروى فيحييني إذا لاقيته.
ومنه قول الآخر: [المقنع الكندي] .
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
فوقفهم الله تعالى على جهة التوبيخ بقوله: أَيُحِبُّ
أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فالجواب عن
هذا: لا. وهم في حكم من يقولها. فخوطبوا على أنهم قالوا لا.
فقيل لهم: فَكَرِهْتُمُوهُ وبعد هذا مقدر تقديره: فكذلك
فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك. وعلى هذا المقدر يعطف قوله:
وَاتَّقُوا اللَّهَ قاله أبو علي الفارسي. وقال الرماني:
كراهية هذا اللحم يدعو إليها الطبع. وكراهية الغيبة يدعو إليها
العقل. وهو أحق أن يجاب. لأنه بصير عالم. والطبع أعمى جاهل.
وقرأ الجمهور: «ميتا» بسكون الياء. وقرأ نافع وابن القعقاع
وشيبة ومجاهد: «ميّتا» بكسرها والشد.
وقرأ أبو حيوة: «فكرّهتموه» بضم الكاف وشد الراء.
ورواها أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم أعلم
بأنه تَوَّابٌ رَحِيمٌ إبقاء منه تعالى وإمهالا وتمكينا من
التوبة.
قوله عز وجل:
[سورة الحجرات (49) : الآيات 13 الى 14]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ
تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
قوله تعالى: مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى يحتمل أن يريد آدم وحواء.
فكأنه قال: إنا خلقنا جميعكم من آدم وحواء. ويحتمل أن يريد
الذكر والأنثى اسم الجنس. فكأنه قال: إنا خلقنا كل واحد منكم
من ماء ذكر وماء أنثى. وقصد هذه الآية التسوية بين الناس. ثم
قال تعالى: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا
أي لئلا تفاخروا ويريد بعضكم أن يكون أكرم من بعض. فإن الطريق
إلى الكرم غير هذا: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقاكُمْ وروى أبو بكرة: قيل يا رسول الله: من خير الناس؟
قال: «من طال عمره وحسن عمله» . وفي
(5/152)
حديث آخر من خير الناس؟ قال: «آمرهم
بالمعروف. وأنهاهم عن المنكر. وأوصلهم للرحم وأتقاهم» .
وحكى الزهراوي أن سبب هذه الآية غضب الحارث بن هشام وعتاب بن
أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة، وحكى الثعلبي عن
ابن عباس أن سببها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح عند النبي صلى
الله عليه وسلم: يا ابن فلانة، فوبخه النبي صلى الله عليه
وسلم، وقال له: «إنك لا تفضل أحدا إلا في الدين والتقوى» ،
فنزلت هذه الآية ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضا، والشعوب: جمع
شعب وهو أعظم ما يوجد من جماعات الناس مرتبطا بنسب واحد،
ويتلوه القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الأسرة
والفصيلة: وهما قرابة الرجل الأدنون فمضر وربيعة وحمير شعوب،
وقيس وتميم ومذحج ومراد، قبائل مشبهة بقبائل الرأس، «لأنها قطع
تقابلت» وقريش ومحارب وسليم عمارات، وبنو قصي وبنو مخزوم بطون،
وبنو هاشم وبنو أمية أفخاذ، وبنو عبد المطلب أسرة وفصيلة، وقال
ابن جبير: الشعوب: الأفخاذ.
وروي عن ابن عباس الشعوب: البطون، وهذا غير ما تمالأ عليه
اللغويون. قال الثعلبي، وقيل: الشعوب في العجم والقبائل في
العرب، والأسباط في بني إسرائيل. وأما الشعب الذي هو في همدان
الذي ينسب إليه الشعبي فهو بطن يقال له الشعب.
قال القاضي أبو محمد: وقيل للأمم التي ليست بعرب: شعوبية، نسبة
إلى الشعوب، وذلك أن تفصيل أنسابها خفي فلم يعرف أحد منهم إلا
بأن يقال: فارسي تركي رومي زناتي. فعرفوا بشعوبهم وهي أعم ما
يعبر به عن جماعتهم، ويقال لهم الشعوبية بفتح الشين، وهذا من
تغيير النسب، وقد قيل فيهم غير ما ذكرت، وهذا أولى عندي.
وقرأ الأعمش: «لتتعارفوا» وقرأ عبد الله بن عباس: «لتعرفوا أن»
، على وزن تفعلوا بكسر العين وفتح الألف من «أن» ، وبإعمال
«لتعرفوا» فيها، ويحتمل على هذه القراءة أن تكون اللام في
قوله: «لتعرفوا» لام كي، ويضطرب معنى الآية مع ذلك، ويحتمل أن
تكون لام الأمر، وهو أجود في المعنى، ويحتمل أن يكون المفعول
محذوفا تقديره: الحق، وإذا كانت لام كي فكأنه قال: يا أيها
الناس أنتم سواء من حيث أنتم مخلوقون لأن تتعارفوا ولأن تعرفوا
الحقائق، وأما الشرف والكرم فهو بتقوى الله تعالى وسلامة
القلوب.
وقرأ ابن مسعود: «لتعارفوا بينكم وخيركم عند الله أتقاكم» .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يكون أكرم
الناس، فليتق الله» . ثم نبه تعالى على الحذر بقوله: إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أي بالمتقي الذي يستحق رتبة الكرم في
الإيمان، أي لم تصدقوا بقلوبكم وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا.
والإسلام يقال بمعنيين، أحدهما: الدين يعم الإيمان والأعمال،
وهو الذي في قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ
[آل عمران: 19] والذي في قوله صلى الله عليه وسلم: «بني
الإسلام على خمس» والذي في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم
لجبريل حين قال له: ما الإسلام؟ قال: بأن تعبد الله وحده ولا
تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، والذي
في قوله لسعد بن أبي وقاص: «أو مسلما، إني لأعطي الرجل وغيره
أحب إليّ منه» الحديث، فهذا الإسلام ليس هو في قوله: وَلكِنْ
قُولُوا أَسْلَمْنا والمعنى الثاني للفظ الإسلام: هو الاستسلام
والإظهار الذي يستعصم به ويحقن الدم، وهذا هو الإسلام في قوله:
وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، والْإِيمانُ الذي هو التصديق أخص
من الأول وأعم بوجه، ثم صرح لهم بأن
(5/153)
إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ
أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ
لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
الْإِيمانُ لم يدخل قلوبهم ثم فتح لهم باب
التوبة بقوله: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ الآية، وطاعة الله
ورسوله في ضمنها الإيمان والأعمال.
وقرأ جمهور القراء: «لا يلتكم» من لات يليت إذا نقص، يقال:
لاته حقه إذا نقصه منه، ولت السلطان إذا لم يصدقه فيما سأل
عنه. وقرأ أبو عمرو والأعرج والحسن وعمرو: «لا يألتكم» من ألت
يألت وهو بمعنى: لات، وكذلك يقال: ألت بكسر اللام يألت، ويقال
أيضا في معنى لات، ألت يولت ولم يقرأ بهذه اللغة وباقي الآية
ترجية.
قوله عز وجل:
[سورة الحجرات (49) : الآيات 15 الى 18]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ
اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
(18)
وقوله تعالى: إِنَّمَا في هذه الآية حاصرة يعطي ذلك المعنى.
وقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أي لم يشكوا في إيمانهم
ولم يداخلهم ريب وهُمُ الصَّادِقُونَ، إذ جاء فعلهم مصدقا
لقولهم، ثم أمره تعالى بتوبيخهم بقوله: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ
اللَّهَ بِدِينِكُمْ، أي بقولكم: آمَنَّا [الحجرات: 14] وهو
يعلم منكم خلاف ذلك، لأنه العليم بكل شيء.
وقوله: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا نزلت في بني أسد
أيضا، وذلك أنهم قالوا في بعض الأوقات للنبي صلى الله عليه
وسلم: إنا آمنا بك واتبعناك ولم نحاربك كما فعلت محارب خصفة
وهوازن غطفان وغيرهم، فنزلت هذه الآية، حكاه الطبري وغيره.
وقرأ ابن مسعود: «يمنون عليك إسلامهم» . وقوله يحتمل أن يكون
مفعولا صريحا. ويحتمل أن يكون مفعولا من أجله.
وقوله: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ
لِلْإِيمانِ بزعمكم إذ تقولون آمنا، فقد لزمكم أن الله مان
عليكم، ويدلك على هذا المعنى قوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
فتعلق عليهم الحكمان هم ممنون عليهم على الصدق وأهل أن يقولوا
أسلمنا من حيث هم كذبة.
وقرأ ابن مسعود: «إذ هداكم» .
وقوله تعالى: يَمُنُّ عَلَيْكُمْ يحتمل أن يكون بمعنى: ينعم
كما تقول: من الله عليك، ويحتمل أن يكون بمعنى: يذكر إحسانه
فيجيء معادلا ل يَمُنُّونَ عَلَيْكَ، وقال الناس قديما: إذا
كفرت النعمة حسنت المنة. وإنما المنة المبطلة للصدقة المكروهة
ما وقع دون كفر النعمة.
وقرأ أبو جعفر ونافع وشيبة وقتادة وابن وثاب: «تعملون» بالتاء
على الخطاب. وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبان: «يعملون»
بالياء من تحت على ذكر الغيب.
(5/154)
|