تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة القمر
وهي مكية بإجماع إلا آية واحدة اختلف فيها، فقال جمهور الناس هي مكية، وقال قوم هي مما نزل ببدر، وقيل بالمدينة وهي: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ [القمر: 45] الآية وسيأتي القول في ذلك.
قوله عز وجل:

[سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
اقْتَرَبَتِ معناه: قربت إلا أنه أبلغ، كما أن اقتدر أبلغ من قدر. و: السَّاعَةُ القيامة وأمرها مجهول التحديد لم يعلم، إلا أنها قربت دون تحديد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين» ، وأشار بالسبابة والوسطى. وقال أنس: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كادت الشمس تغيب فقال: «ما بقي من الدنيا فيما مضى إلا كمثل ما بقي من هذا اليوم» .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن يؤخر الله أمتي نصف يوم» ، وهذا منه على جهة الرجاء والظن لم يجزم به خبرا، فأناب الله به على أمله وأخر أمته أكثر من رجائه، وكل ما يروى عن عمر الدنيا من التحديد فضعيف واهن.
وقوله: انْشَقَّ الْقَمَرُ إخبار عما وقع في ذلك، وذكر الثعلبي أنه قيل إن المعنى ينشق القمر يوم القيامة، وهذا ضعيف الأمة على خلافه، وذلك أن قريشا سألت رسول الله آية فقيل مجملة، وهذا قول الجمهور، وقيل بل عاينوا شق القمر، ذكره الثعلبي عن ابن عباس فأراهم الله انشقاق القمر، فرآه رسول الله وجماعة من المسلمين والكفار، فقال رسول الله «اشهدوا» ، وممن قال من الصحابة رأيته: عبد الله بن مسعود وجبير بن مطعم وأخبر به عبد الله بن عمر وأنس وابن عباس وحذيفة بن اليمان، وقال المشركون عند ذلك: سحرنا محمد. وقال بعضهم: سحر القمر وقالت قريش استخبروا المسافرين القادمين عليكم، فما

(5/211)


ورد أحد إلا أخبر بانشقاقه وقال ابن مسعود: رأيته انشق فذهبت فرقة وراء جبل حراء، وقال ابن زيد: كان يرى نصفه على قعيقعان والآخر على أبي قبيس. وقرأ حذيفة: «اقتربت الساعة وقد انشق القمر» ، وذكر الثعلبي عنه أن قراءته: «اقتربت الساعة انشق القمر» دون واو.
وقوله: وَإِنْ يَرَوْا جاء اللفظ مستقبلا لينتظم ما مضى وما يأتي، فهو إخبار بأن حالهم هكذا، واختلفت الناس في معنى: مُسْتَمِرٌّ فقال الزجاج قيل معناه: دائم متماد. وقال قتادة ومجاهد والكسائي والفراء معناه: مار ذاهب عن قريب يزول. وقال أبو العالية والضحاك معناه: مشدود من مرائير الحبل كأنه سحر قد أمر، أي أحكم. ومنه قول الشاعر [لقيط بن زرارة] : [البسيط]
حتى استمرت على شزر مريرته ... صدق العزيمة لا رتّا ولا ضرعا
ثم أخبر تعالى بأنهم كذبوا واتبعوا شهواتهم وما يهوون من الأمور لا بدليل ولا بتثبت، ثم قال على جهة الخبر الجزم، وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ يقول: وكل شيء إلى غاية فالحق يستقر ظاهرا ثابتا، والباطل يستقر زاهقا ذاهبا.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «وكل مستقر» بجر «مستقر» ، يعني بذلك أشراطها. والجمهور على كسر القاف من «مستقر» وقرأ نافع وابن نصاح بفتحها، قال أبو حاتم: لا وجه لفتح القاف.
و: الْأَنْباءِ جمع نبأ، ويدخل في هذا جميع ما جاء به القرآن من المواعظ والقصص ومثلات الأمم الكافرة، و: مُزْدَجَرٌ معناه: موضع زجر وانتهاء، وأصله: مزتجر، قلبت التاء دالا ليناسب مخرجها مخرج الزاي، وكذلك تبدل تاء افتعل من كل فعل أوله زاي كازدلف وازداد ونحوه.
وقوله: حِكْمَةٌ مرتفع إما على البدل من ما في قوله: ما فِيهِ، وإما على خبر ابتداء تقديره:
هذه حكمة و: بالِغَةٌ معناه: يبلغ المقصد بها من وعظ النفوس والبيان لمن له عقل. وقوله: فَما تُغْنِ النُّذُرُ، يحتمل أن تكون «ما» نافية، أي ليس تغني مع عتو هؤلاء الناس، ويحتمل أن تكون «ما» استفهاما بمعنى التقرير، أي فما غناء النذر مع هؤلاء الكفرة، ثم سلى نبيه بقوله: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي لا تذهب نفسك عليهم حسرات، وتم القول في قوله: عَنْهُمْ ثم ابتدأ وعيدهم، والعامل في يَوْمَ قوله:
يَخْرُجُونَ، و: خُشَّعاً حال من الضمير في يَخْرُجُونَ وتصرف الفعل يقتضي تقدم الحال، قال المهدوي: ويجوز أن يكون حالا من الضمير في عَنْهُمْ. قال الرماني المعنى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ واذكر يَوْمَ. وقال الحسن المعنى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ إلى يَوْمَ، وانحذفت الواو من يَدْعُ لأن كتبة المصحف اتبعوا اللفظ لا ما يقتضيه الهجاء، وأما حذف الياء من: الدَّاعِ ونحوه، فقال سيبويه: حذفوه تخفيفا. وقال أبو علي: حذفت مع الألف واللام إذ هي تحذف مع معاقبهما وهو التنوين.
وقرأ جمهور الناس: «نكر» بضم الكاف. وقرأ ابن كثير وشبل والحسن: «نكر» بكسر الكاف، وقرأ مجاهد والجحدري وأبو قلابة: «نكر» بكسر الكاف وفتح الراء على أنه فعل مبني للمفعول، والمعنى في ذلك كله

(5/212)


كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)

أنه منكور غير معروف ولا مرئي مثله. قال الخليل: النكر: نعت للأمر الشديد والرجل الداهية. وقال مالك بن عوف النصري: [الرجز]
أقدم محاج إنه يوم نكر ... مثلي على مثلك يحمى ويكر
ونكر فعل وهو صفة، وذلك قليل في الصفات، ومنه مشية سجح وقال الشاعر [حسان بن ثابت الأنصاري] : [البسيط]
دعوا التخاجؤ وامشوا مشية سجحا ... إن الرجال ذوو عصب وتذكير
ومنه رجل شلل وناقة أجد.
وقرأ جمهور القراء: «خشعا» وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة والحسن وقتادة. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: «خاشعا» ، وهي قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري، وهو إفراد بمعنى الجمع، ونظيره قول الشاعر [الحارث بن أوس الإيادي] : [الرمل]
وشباب حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد
ورجح أبو حاتم هذه القراءة وذكر أن رجلا من المتطوعة قال قبل أن يستشهد: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فسألته عن «خشعا وخاشعا» فقال: «خاشعا» بالألف، وفي مصحف أبيّ بن كعب وعبد الله: «خاشعة» .
وخص الأبصار بالخشوع لأنه فيها أظهر منه في سائر الجوارح، وكذلك سائر ما في نفس الإنسان من حياء أو صلف أو خوف ونحوه إنما يظهر في البصر. و: الْأَجْداثِ جمع جدث وهو القبر، وشبههم بالجراد المنتشر، وقد شبههم في أخرى ب الفراش الْمَبْثُوثِ [القارعة: 4] ، وفيهم من كل هذا شبه، وذهب بعض المفسرين إلى أنهم أولا كالفراش حين يموجون بعض في بعض ثم في رتبة أخرى كالجراد إذا توجهوا نحو المحشر والداعي، وفي الحديث: إن مريم بنت عمران دعت للجراد فقالت: اللهم اعشها بغير رضاع وتابع بينها بغير شباع.
والمهطع: المسرع في مشيه نحو الشيء مع هز ورهق ومد بصر نحو المقصد، إما لخوف أو طمع أو نحوه، ويَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ لما يرون من مخايل هوله وعلامات مشقته.
قوله عز وجل:

[سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 17]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
سوق هذه القصة وعيد لقريش وضرب مثل لهم، وقوله: وَازْدُجِرَ إخبار من الله أنهم زجروا نوحا

(5/213)


بالسب والنجه والتخويف، قاله ابن زيد وقرأ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء: 116] ، وذهب مجاهد إلى أن وَازْدُجِرَ من كلام قَوْمُ نُوحٍ، كأنهم قالوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، والمعنى: استطير جنونا واستعر جنونا، وهذا قول فيه تعسف وتحكم.
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم والأعرج والحسن «أني» بفتح الألف، أي «بأنه» كأن دعاءه كان هذا المعنى. وقرأ عاصم أيضا وابن أبي إسحاق وعيسى «إني» بكسر الألف كأن دعاءه كان هذا اللفظ قال سيبويه: المعنى قال إني.
وذهب جمهور المفسرين إلى أن المعنى أني قد غلبني الكفار بتكذيبهم وتخويفهم، انتصر لي منهم بأن تهلكهم، ويحتمل أن يريد: فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك. ويؤيده قول ابن عباس إن المراد بقوله:
لمن كان كفر الله تعالى، فوقعت الإجابة على نحو ما دعا نوح عليه السلام، وذهبت المتصوفة إلى أن المعنى: إني قد غلبتني نفسي في إفراطي في الدعاء على قومي فانتصر مني يا رب بمعاقبة إن شئت.
والقول الأول هو الحق إن شاء الله يدل على ذلك اتصال قوله: فَفَتَحْنا الآية، وذلك هو الانتصار من الكفار.
وقرأ جمهور القراء: «ففتحنا» بتخفيف التاء. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج: «ففتّحنا» بشدها على المبالغة ورجحها أبو حاتم لقوله تعالى: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: 50] ، قال النقاش: يعني بالأبواب المجرة وهي شرج السماء كشرج العبية، وقال قوم من أهل التأويل: الأبواب حقيقة فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء. وقال جمهور المفسرين: بل هو مجاز وتشبيه، لأن المطر كثر كأنه من أبواب. والمنهمر الشديد الوقوع الغزير. قال امرؤ القيس: [الرمل]
راح تمريه الصبا ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منهمر
وقرأ الجمهور: «وفجّرنا» بشد الجيم. وقرأ ابن مسعود وأصحابه وأبو حيوة عن عاصم: «وفجرنا» بتخفيفها. وقرأ الجمهور: «فالتقى الماء» على اسم الجنس الذي يعم ماء السماء وماء العيون. وقرأ الحسن وعلي بن أبي طالب وعاصم الجحدري. «فالتقى الماءان» ويروى عن الحسن: «فالتقى الماوان» .
وقوله: عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ قال فيه الجمهور على رتبة وحالة قد قدرت في الأزل وقضيت. وقال جمهور من المتأولين المعنى: على مقادير قد قدرت ورتبت وقت التقائه، ورووا أن ماء الأرض علا سبعة عشر ذراعا وكان ماء السماء ينزل عليه بقية أربعين ذراعا أو نحو هذا لأنه مما اختلفت فيه الروايات ولا خبر يقطع العذر في شيء من هذا التحرير. وقرأ أبو حيوة: «قدّر» بشد الدال. وذات الألواح والدسر: هي السفينة قيل كانت ألواحها وخشبها من ساج، والدسر: المسامير، واحدها: دسار، وهذا هو قول الجمهور، وهو عندي من الدفع المتتابع، لأن المسمار يدفع أبدا حتى يستوي. وقال الحسن وابن عباس أيضا:
الدسر: مقادم السفينة، لأنها تدسر الماء أي تدفعه. والدسر: الدفع. وقال مجاهد وغيره: نطق السفينة.
وقال أيضا: هو أرض السفينة. وقال أيضا: أضلاع السفينة، وقد تقدم القول في شرح قصة السفينة مستوعبا، وجمهور الناس على أنها كانت على هيئة السفن اليوم كجؤجؤ الطائر، وورد في بعض الكتب أنها

(5/214)


كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)

كانت مربعة، طويلة في السماء، واسعة السفل، ضيقة العلو، وكان أعلاها مفتوحا للهواء والتنفس، قال:
لأن الغرض منها إنما كانت السلامة حتى ينزل الماء، ولم يكن طلب الجري وقصد المواضع المعينة، ومع هذه الهيئة فلها مجرى ومرسى، والله أعلم كيف كانت، والكل محتمل.
وقوله: بِأَعْيُنِنا قال الجمهور معناه: بحفظنا وحفايتنا وتحت نظرنا لأهلها، فسمى هذه الأشياء أعينا تشبيها، إذ الحافظ المتحفي من البشر إنما يكون ذلك الأمر نصب عينه، وقيل المراد من حفظها من الملائكة سماهم عيونا، وقال الرماني وقيل إن قوله: بِأَعْيُنِنا يريد العيون المفجرة من الأرض.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف.
وقرأ أبو السمال: «بأعينا» مدغمة. وقرأ جمهور الناس: «كفر» بضم الكاف وكسر الفاء، واختلفوا في المعنى فقال ابن عباس ومجاهد: «من» ، يراد بها الله تعالى كأنه قال: غضبا وانتصارا لله، أي انتصر لنفسه فأنجى المؤمنين وأغرق الكافرين. وقال مكي وقيل «من» ، يراد بها نوح والمؤمنين، لأنهم كفروا من حيث كفر بهم فجازاهم الله بالنجاة. وقرأ يزيد بن رومان وعيسى وقتادة: «كفر» بفتح الكاف والفاء، والضمير في: تَرَكْناها قال مكي بن أبي طالب هو عائد على هذه الفعلة والقصة. وقال قتادة والنقاش وغيره: هو عائد على هذه السفينة، قالوا وإن الله تعالى أرسلها على الجودي حين تطاولت الجبال وتواضع وهو جبيل بالجزيرة بموضع يقال له باقردى، وأبقى خشبها هنالك حتى رأت بعضه أوائل هذه الأمة. وقال قتادة: وكم من سفينة كانت بعدها صارت رصودا و: مُدَّكِرٍ أصله: مذتكر، أبدلوا من التاء ذالا ليناسب الدال في النطق، ثم أدغموا الدال في الدال، وهي قراءة الناس، قال أبو حاتم: رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح وقرأ قتادة: «مذكر» بالذال على إدغام الثاني في الأول، قال أبو حاتم: وذلك رديء ويلزمه أن يقرأ واذكر بعد أمة وتذخرون في بيوتكم.
وقوله تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ توقيف لقريش وتوبيخ، والنذر: هنا جمع نذير، المصدر بمعنى كان عاقبة إنذاري لمن لم يجعل به كأنتم أيها القوم. و: يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ معناه: سهلناه وقربناه و «الذكر» : الحفظ عن ظهر قلب، قال ابن جبير: لم يستظهر من كتب الله سوى القرآن.
قال القاضي أبو محمد: يسر بما فيه من حسن النظم وشرف المعاني فله لوطة بالقلوب، وامتزاج بالعقول السليمة.
وقوله: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ استدعاء وحض على ذكره وحفظه لتكون زواجره وعلومه وهداياته حاضرة في النفس. قال مطرف في قوله تعالى: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ هل من طالب علم فيعان عليه.
قال القاضي أبو محمد: الآية تعديد نعمة في أن الله يسر الهدى ولا بخل من قبله، فلله در من قبل وهدى. وقد تقدم تعليل: مُدَّكِرٍ.
قوله عز وجل:

[سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 26]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)

(5/215)


عادٌ قبيلة وقد تقدم قصصها. وقوله تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ، «كيف» نصب إما على خبر كانَ وإما على الحال. و: كانَ بمعنى وجد ووقع في هذا الوجه. وَنُذُرِ جمع نذير وهو المصدر. وقرأ ورش وحده: «ونذري» بالياء، وقرأ الباقون «ونذر» بغير ياء على خط المصحف.
و: «الصرصر» قال ابن عباس وقتادة معناه الباردة وهو الصر. وقال جماعة من المفسرين معناه: المصوتة نحو هذين الحرفين مأخوذ من صوت الريح إذا هبت دفعا، كأنها تنطق بهذين الحرفين، الصاد والراء، وضوعف الفعل كما قالوا: كبكب وكفكف من كب وكب، وهذا كثير، ولم يختلف القراء في سكون الحاء من «نحس» وإضافة اليوم إليه إلا ما روي عن الحسن أنه قرأ: «في يوم» بالتنوين و: «نحس» بكسر الحاء.
ومُسْتَمِرٍّ معناه: متتابع، قال قتادة: استمر بهم ذلك النحس حتى بلغهم جهنم. قال الضحاك في كتاب الثعلبي المعنى كان مرا عليهم، وذكره النقاش عن الحسن، وروي أن ذلك اليوم الذي كان لهم فيه نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ كان يوم أربعاء، وورد في بعض الأحاديث في تفسير هذه الآية: يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ:
يوم الأربعاء، قتأول في ذلك بعض الناس أنه يصحب في الزمن كله، وهذا عندي ضعيف وإن كان الدولابي أبو بشر قد ذكر حديثا رواه أبو جعفر المنصور عن أبيه محمد عن أبيه علي عن أبيه عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آخر أربعاء من الشهر يوم نحس مستمر» ، ويوجد نحو هذا في كلام الفرس والأعاجم، وقد وجد ذكر الأربعاء التي لا تدور في شعر لبعض الخراسانيين المولدين، وذكر الثعلبي عن زر بن حبيش في تفسير هذا اليوم لعاد أنه كل يوم أربعاء لا تدور، وذكره النقاش عن جعفر بن محمد وقال: كان القمر منحوسا بزحل وهذه نزعة سوء عياذا بالله أن تصح عن جعفر بن محمد.
وقوله: تَنْزِعُ النَّاسَ معناه: تنقلهم من مواضعهم نزعا فتطرحهم. وروي عن مجاهد: أنها كانت تلقي الرجل على رأسه فيتفتت رأسه وعنقه وما يلي ذلك من بدنه فلذلك حسن التشبيه ب «أعجاز» النخل وذلك أن المنقعر هو الذي ينقلب من قعره. فذلك التشعث والشعب التي لأعجاز النخل، كان يشبهها ما تقطع وتشعث من شخص الإنسان، وقال قوم: إنما شبههم ب «أعجاز النخل» لأنهم كانوا يحفرون حفرا ليمتنعوا فيها من الريح، فكأنه شبه تلك الحفر بعد النزع بحفر أعجاز النخل، والنخل يذكّر ويؤنث فلذلك قال هنا: مُنْقَعِرٍ وفي غير هذه السورة: خاوِيَةٍ [الحاقة: 7] والكاف في قوله: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ في موضع الحال، قاله الزجاج، وما روي من خبر الخلجان وغيره وقوتهم ضعيف كله، وفائدة تكرار قوله:
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ التخويف وهز الأنفس قال الرماني: لما كان الإنذار أنواعا، كرر التذكير والتنبيه، وفائدة تكرار قوله: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ التأكيد والتحريض وتنبيه الأنفس.
وهذا موجود في تكرار الكلام، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا هل بلغت، ألا هل بلغت» . ومثل

(5/216)


إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)

قوله: «ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور» . وكان صلى الله عليه وسلم إذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثا، فهذا كله نحو واحد وإن تنوع، و: ثَمُودُ قبيلة صالح عليه السلام وهم أهل الحجر.
وقرأ الجمهور: «أبشرا منا واحدا» ونصب قوله «بشرا» بإضمار «فهل» يدل عليه قوله: نَتَّبِعُهُ، و: «واحدا» نعت ل «بشر» . وقرأ أبو السمال: «أبشر منا واحدا نتبعه» ورفعه إما على إضمار فعل مبني للمفعول، التقدير: أينبأ بشر، وإما على الابتداء والخبر في قوله نَتَّبِعُهُ و: «واحدا» على هذه القراءة إما من الضمير في: نَتَّبِعُهُ وإما عن المقدر مع: مِنَّا كأنه يقول: أبشر كائن منا واحدا، وفي هذا نظر.
وحكى أبو عمر والداني قراءة أبي السمال: «أبشر منا واحد» بالرفع فيهما.
وهذه المقالة من ثمود حسد منهم واستبعاد منهم أن يكون نوع المبشر يفضل بعضه بعضا هذا الفضل فقالوا: أنكون جمعا ونتبع واحدا، ولم يعلموا أن الفضل بيد الله، يؤتيه من يشاء، ويفيض نور الهدى من رضيه.
وقوله: في ضَلالٍ معناه: في أمر متلف مهلك بالإتلاف، وَسُعُرٍ معناه: في احتراق أنفس واستعارها حنقا وهما باتباعه، وقيل في السعر: العناء، وقاله قتادة. وقيل الجنون، ومنه قولهم ناقة بمعنى مسعورة، إذا كانت تفرط في سيرها، ثم زادوا في التوقي بقولهم: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا، وأُلْقِيَ بمعنى أنزل، وكأنه يتضمن عجلة في الفعل، والعرب تستعمل هذا الفعل، ومنه قوله تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39] ومنه قوله: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] ، والذِّكْرُ هنا:
الرسالة وما يمكن أن جاءهم به من الحكمة والموعظة، ثم قالوا: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي ليس الأمر كما يزعم، والأشر: البطر والمرح، فكأنهم رموه بأنه أَشِرٌ، فأراد العلو عليهم وأن يقتادهم ويتملك طاعتهم فقال الله تعالى لصالح: سَيَعْلَمُونَ غَداً وهذه بالياء من تحت قراءة علي بن أبي طالب وجمهور الناس.
وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم وابن وثاب وطلحة والأعمش «ستعلمون» بالتاء على معنى قل لهم يا صالح.
وقوله: غَداً تقريب يريد به الزمان المستقبل، لا يوما بعينه، ونحو المثل: مع اليوم غد.
وقرأ جمهور الناس: «الأشر» بكسر السين كحذر بكسر الذال. وقرأ مجاهد فيما ذكر عنه الكسائي:
«الأشر» بضم الشين كحذر بضم الذال، وهما بناءان من اسم الفاعل. وقرأ أبو حيوة: «الأشر» بفتح الشين، كأنه وصف بالمصدر. وقرأ أبو قلابة: «الأشرّ» بفتح الشين وشد الراء، وهو الأفعل، ولا يستعمل بالألف واللام وهو كان الأصل لكنه رفض تخفيفا وكثرة استعمال.
قوله عز وجل:

[سورة القمر (54) : الآيات 27 الى 35]
إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)

(5/217)


هذه النَّاقَةِ التي اقترحوها أن تخرج لهم من صخرة صماء من الجبل، وقد تقدم قصصها، فأخبر الله تعالى صالحا على جهة التأنيس أنه يخرج لهم الناقة ابتلاء واختبارا، ثم أمره بارتقاب الفرج وبالصبر.
وَاصْطَبِرْ أصله: اصتبر. افتعل، أبدلت التاء طاء لتناسب الصاد. ثم أمره بأن يخبر ثمود أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ: والْماءَ: هو ماء البئر التي كانت لهم، واختلف المتأولون في معنى هذه القسمة، فقال جمهور منهم قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ: يتواسونه في اليوم الذي لا ترده الناقة وذلك فيما روي أن الناقة كانت ترد البئر غبا، وتحتاج جميع مائه يومها، فنهاهم الله عن أن يستأثر أهل اليوم الذي لا ترد الناقة فيه بيومهم، وأمرهم بالتواسي مع الذين ترد الناقة في يومهم. وقال آخرون معناه: الماء بين جميعهم وبين الناقة قسمة.
و: مُحْتَضَرٌ معناه: محضور مشهود متواسى فيه، وقال مجاهد المعنى: كُلُّ شِرْبٍ أي من الماء يوما ومن لبن الناقة يوما مُحْتَضَرٌ لهم، فكأنه أنبأهم الله عليهم في ذلك. و: صاحِبَهُمْ هو قدار بن سالف، وبسببه سمي الجزار القدار لشبه في الفعل، قال الشاعر [عدي بن ربيعة] : [الكامل]
إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ... ضرب القدار نقيعة القدام
وقد تقدم شرح أمر قدار بن سالف. و: «تعاطى» مطاوع عاطى، فكأن هذه الفعلة تدافعها الناس وأعطاها بعضهم بعضا، فتعاطاها هو وتناول العقر بيده، قاله ابن عباس، ويقال للرجل الذي يدخل نفسه في تحمل الأمور الثقال متعاط على الوجه الذي ذكرناه، والأصل عطا يعطو، إذا تناول، ثم يقال: عاطى، وهو كما تقول: جرى وجارى وتجارى وهذا كثير، ويروى أنه كان مع شرب وهم التسعة الرهط، فاحتاجوا ماء فلم يجدوه بسبب ورد الناقة، فحمله أصحابه على عقرها. ويروى أن ملأ القبيل اجتمع على أن يعقرها، ورويت أسباب غير هذين، وقد تقدم ذلك.
والصيحة: يروى أن جبريل عليه السلام صاحها في طرف من منازلهم فتفتتوا وهمدوا فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ. والهشيم: ما تفتت وتهشم من الأشياء.
وقرأ جمهور الناس: «كهشيم المحتظر» بكسر الظاء، ومعناه: الذي يصنع حظيرة من الرعاء ونحوهم قاله أبو إسحاق السبيعي والضحاك وابن زيد، وهي مأخوذة من الحظر وهو المنع، والعرب وأهل البوادي يصنعونها للمواشي وللسكنى أيضا من الأغصان والشجر المورق والقصب ونحوه، وهذا كله هشيم يتفتت إما في أول الصنعة، وإما عند بلى الحظيرة وتساقط أجزائها. وحكى الطبري عن ابن عباس وقتادة أن «المحتظر» معناه: المحترق. قال قتادة: كهشيم محرق. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء: «المحتظر» بفتح الظاء، ومعناه: الموضع الذي احتظر، فهو مفعل من الحظر، أو الشيء الذي احتظر به. وقد روي عن سعيد بن جبير أنه فسر: كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ بأن قال: هو التراب الذي سقط من الحائط البالي، وهذا متوجه، لأن الحائط حظيرة، والساقط هشيم. وقال أيضا هو وغيره: الْمُحْتَظِرِ، معناه: المحرق بالنار،

(5/218)


وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)

كأنه ما في الموضع المحتظر بالنار، وما ذكرناه عن ابن عباس وقتادة هو على قراءة كسر الظاء، وفي هذا التأويل بعض البعد. وقال قوم: «المحتظر» بالفتح الهشيم نفسه وهو مفتعل، وهو كمسجد الجامع وشبهه.
وقد تقدم قصص قوم لوط. والحاصب: السحاب الرامي بالبرد وغيره، وشبه تلك الحجارة التي رمى بها قوم لوط به بالكثرة والتوالي، وهو مأخوذ من الحصباء، كان السحاب يحصب مقصده، ومنه قول الفرزدق: [البسيط]
مستقبلين شمال الشام تحصبهم ... بحاصب كنديف القطن منثور
وقال ابن المسيب: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأهل المدينة: مصروف، لأنه نكرة لم يرد به يوم بعينه. وقوله: نِعْمَةً نصب على المصدر، أي فعلنا ذلك إنعاما على القوم الذين نجيناهم، وهذا هو جزاؤنا لمن شكر نعمنا وآمن وأطاع.
قوله عز وجل:

[سورة القمر (54) : الآيات 36 الى 44]
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)
المعنى: ولقد أنذر لوط قومه أخذنا إياهم، و: بَطْشَتَنا بهم، أي عذابنا لهم. و: «تماروا» معناه: تشككوا وأهدى بعضهم الشك إلى بعض بتعاطيهم الشبه والضلال. و: «النذر» جمع نذير. وهو المصدر، ويحتمل أن يراد بِالنُّذُرِ هنا وفي قوله: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ [القمر: 33] جمع نذير، الذي هو اسم الفاعل والضيف: يقع للواحد والجميع، وقد تقدم ذكر أضيافه وقصصهم مستوعبا.
وقوله: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ قال قتادة: هي حقيقة، جر جبريل شيئا من جناحه على أعينهم فاستوت مع وجوههم. قال أبو عبيدة: مطموسة بجلد كالوجه. وقال ابن عباس والضحاك: هي استعارة وإنما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئا، فجعل ذلك كالطمس.
وقوله تعالى: بُكْرَةً قيل: كان ذلك عند طلوع الفجر، وأدغم ابن محيصن الدال في الصاد من قوله: وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ والجمهور على غير الإدغام. بُكْرَةً نكرة، فلذلك صرفت. وقوله: فَذُوقُوا عَذابِي يحتمل أن يكون من قول الله تعالى لهم، ويحتمل أن يكون من قول الملائكة، وَنُذُرِ جمع المصدر، أي وعاقبة نذري التي كذبتم بها، وقوله: مُسْتَقِرٌّ في صفة العذاب، لأنه لم يكشف عنهم كاشف، بل اتصل ذلك بموتهم، وهم مدة موتهم تحت الأرض معذبون بانتظار جهنم، ثم يتصل ذلك بعذاب النار، فهو أمر متصل مستقر، وكرر فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ تأكيدا وتوبيخا، وروى ورش عن نافع: «نذري» بياء.

(5/219)


سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

وآلَ فِرْعَوْنَ: قومه وأتباعه ومنه قول الشاعر [أراكة الثقفي] : [الطويل]
فلا تبك ميتا بعد ميت أجنه ... علي وعباس وآل أبي بكر
يريد: المسلمين في مواراة النبي عليه السلام، ويحتمل أن يريد ب آلَ فِرْعَوْنَ: قرابته على عرف الآن، وخصصهم بالذكر، لأنهم عمدة القوم وكبراؤهم.
وقوله: كَذَّبُوا بِآياتِنا يحتمل أن يريد آلَ فِرْعَوْنَ المذكورين. و: (أخذناهم) كذلك يريدهم بالضمير، لأن ذلك الإغراق الذي كان في البحر، كان بالعزة والقدرة، ويكون قوله: بِآياتِنا يريد بها:
التسع، ثم أكد بكلها، ويحتمل أن يكون قوله: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كلاما تاما، ثم يكون قوله:
كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها يعود الضمير في كُلِّها على جميع من ذكر من الأمم المذكورة.
وقوله تعالى: أَكُفَّارُكُمْ الآية خطاب لقريش، وفهم على جهة التوبيخ. أثم خصلة من المال أو قوة أبدان وبسطة أو عقول أو غير ذلك ممنا يقتضي أنكم خير من هؤلاء المعذبين لما كذبوا، فيرجى لكم بذلك الفضل النجاء من العذاب حين كذبتم رسولكم؟ أَمْ لَكُمْ في كتب الله المنزلة بَراءَةٌ من العذاب؟ قاله الضحاك وابن زيد وعكرمة، ثم قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: أَمْ يَقُولُونَ نحن واثقون بجماعتنا منتصرون بقوتنا على جهة الإعجاب والتعاطي؟ سيهزمون، فلا ينفع جمعهم. وقرأ أبو حيوة «أم تقولون» بالتاء من فوق.
قوله عز وجل:

[سورة القمر (54) : الآيات 45 الى 55]
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49)
وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
هذه عدة من الله تعالى لرسوله أن جمع قريش سيهزم نصرة له، والجمهور على أن الآية مكية، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: كنت أقول في نفسي أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت في الدرع ويقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ.
قال القاضي أبو محمد: فإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر مستشهدا بالآية. وقال قوم: إن الآية نزلت يوم بدر.
وقال أبو حاتم: وقرأ بعض القراء: «سيهزم» بفتح الياء وكسر الزاي «الجمع» نصبا، قال أبو عمرو الداني قرأ أبو حيوة: «سنهزم» بالنون وكسر الزاي «الجمع» نصبا. «وتولون» بالتاء من فوق، ثم تركت هذه

(5/220)


الأقوال، وأضرب عنها تهمما بأمر الساعة التي عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتل فقال: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ. و: أَدْهى أفعل من الداهية: وهي الرزية العظمى تنزل بالمرء. وَأَمَرُّ من المرارة، واللفظة ليست هنا مستعارة، لأنها ليست فيما يذاق.
ثم أخبر تعالى عن المجرمين أنهم في الدنيا في حيرة وإتلاف وفقد هدى وفي الآخرة في احتراق وتسعر من حيث هم صائرون إليه، قال ابن عباس المعنى: في خسران وجنون، والسعر الجنون. وأكثر المفسرين على أن الْمُجْرِمِينَ هنا يراد بهم الكفار. وقال قوم المراد ب الْمُجْرِمِينَ: القدرية الذين يقولون إن أفعال العباد ليست بقدر من الله، وهم المتوعدون بالسحب في جهنم، والسحب: الجر. وفي قراءة ابن مسعود: «إلى النار» .
وقوله تعالى: ذُوقُوا مَسَّ استعارات، والمعنى: يقال لهم على جهة التوبيخ.
واختلف الناس في قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ، فقرأ جمهور الناس: «إنا كلّ» بالنصب، والمعنى: خلقنا كل شيء خلقناه بقدر، وليست خَلَقْناهُ في موضع الصفة لشيء، بل هو فعل دال على الفعل المضمر، وهذا المعنى يقتضي أن كل شيء مخلوق، إلا ما قام دليل العقل على أنه ليس بمخلوق كالقرآن والصفات. وقرأ أبو السمال ورجحه أبو الفتح: «إنا كلّ» بالرفع على الابتداء، والخبر: خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ.
قال أبو حاتم: هذا هو الوجه في العربية، وقراءتنا بالنصب مع جماعة، وقرأها قوم من أهل السنة بالرفع، والمعنى عندهم على نحو ما عند الأولى أن كل شيء فهو مخلوق بقدر سابق، و: خَلَقْناهُ على هذا ليست صفة لشيء، وهذا مذهب أهل السنة، ولهم احتجاج قوي بالآية على هذين القولين، وقالت القدرية وهم الذين يقولون: لا قدر، والمرء فاعل وحده أفعاله. القراءة «إنا كلّ شيء خلقناه» برفع «كلّ» :
وخَلَقْناهُ في موضع الصفة ب «كلّ» ، أي أن أمرنا وشأننا كلّ شيء خلقناه فهو بقدر وعلى حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك، فيزيلون بهذا التأويل موضع الحجة عليهم بالآية.
وقال ابن عباس: إني أجد في كتاب الله قوما يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ لأنهم كانوا يكذبون بالقدر، ويقولون: المرء يخلق أفعاله، وإني لا أراهم، فلا أدري أشيء مضى قبلنا أم شيء بقي؟.
وقال أبو هريرة: خاصمت قريش رسول الله في القدر فنزلت هذه الآية، قال أبو عبد الرحمن السلمي: فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل؟ أفي شيء نستأنفه؟ أم في شيء قد فرغ منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، سنيسره لليسرى وسنيسره للعسرى» ، وقال أنس بن مالك:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القدرية يقولون الخير والشر بأيدينا، ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني» .
وقوله: إِلَّا واحِدَةٌ، أي: إلا قولة واحدة وهي: كن. وقوله: كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ تفهيم للناس بأعجل ما يحسون وفي أشياء أمر الله تعالى أوحى من لمح البصر. والأشياع: الفرق المتشابهة في مذهب ودين، ونحوه الأول شيعة للآخر، الآخر شيعة للأول.

(5/221)


ثم أخبر تعالى أن كل أفعال الأمم المهلكة مكتوب محفوظ عليهم إلى يوم الحساب، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد. و: مُسْتَطَرٌ مفتعل من السطر، تقول سطرت واستطرت بمعنى، وروي عن عاصم شد الراء في «مستطرّ» ، قال أبو عمرو: وهذا لا يكون إلا عند الوقف لغة معروفة.
وقرأ جمهور الناس: «ونهر» بفتح الهاء والنون، على أنه اسم الجنس، يريد به الأنهار، أو على أنه بمعنى: وسعة في الأرزاق والمنازل، ومنه قول قيس بن الخطيم: [الطويل]
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
فقوله: «أنهرت» معناه: جعلت فتقها كنهر. وقرأ زهير الفرقبي والأعمش: «ونهر» بضم النون والهاء، على أنه جمع نهار، إذ لا ليل في الجنة، وهذا سائغ في اللفظ قلق في المعنى، ويحتمل أن يكون جمع نهر. وقرأ مجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان: «نهر» ساكنة الهاء على الإفراد.
وقوله تعالى: مَقْعَدِ صِدْقٍ يحتمل أن يريد به الصدق الذي هو ضد الكذب، أي في المقعد الذي صدقوا في الخبر به، ويحتمل أن يكون من قولك: عود صدق، أي جيد، ورجل صدق، أي خبر وخلال حسان.
وقرأ جمهور الناس: «في مقعد» على اسم الجنس. وقرأ عثمان البتي: «في مقاعد» على الجمع.
والمليك المقتدر: الله تعالى.

(5/222)


الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)

بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الرّحمن
وهي مكية فيما قال الجمهور من الصحابة والتابعين. وقال نافع بن أبي نعيم وعطاء وقتادة وكريب وعطاء الخراساني عن ابن عباس: هي مدنية، نزلت عند إباية سهيل بن عمرو وغيره أن يكتب في الصلح بسم الله الرحمن الرحيم، والأول أصح، وإنما نزلت حين قالت قريش بمكة: وما الرحمن؟ أنسجد لما تأمرنا؟ وفي السيرة أن ابن مسعود جهر بقراءتها في المسجد حتى قامت إليه أندية قريش فضربوه، وذلك قبل الهجرة.
قوله عز وجل:

[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
الرَّحْمنُ بناء مبالغة من الرحمة، وهو اسم اختص الله تعالى بالاتصاف به، وحكى ابن فورك عن قوم أنهم يجعلون الرَّحْمنُ آية تامة، كأن التقدير: الرَّحْمنُ ربنا، قاله الرماني أو أن التقدير: الله الرَّحْمنُ. وقال الجمهور إنما الآية: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ فهو جزء آية.
وقوله: عَلَّمَ الْقُرْآنَ تعديد نعمة أي هو من به وعلمه الناس، وخص حفاظه وفهمته بالفضل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» . ومن الدليل على أن القرآن غير مخلوق: أن الله تعالى ذكر الْقُرْآنَ في كتابه في أربعة وخمسين موضعا ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق ولا أشار إليه، وذكر الْإِنْسانَ على الثلث من ذلك في ثمانية عشر موضعا، كلها نصت على خلقه، وقد اقترن ذكرهما في هذه السورة على هذا النحو، و: «الإنسان» اسم الجنس، حكاه الزهراوي وغيره. و: الْبَيانَ النطق والفهم والإبانة عن ذلك بقول قاله ابن زيد والجمهور، وذلك هو الذي فضل الإنسان من سائر الحيوان، وقال قتادة: هو بيان الحلال والحرام والشرائع، وهذا جزء من «البيان» العام، وقال قتادة: الْإِنْسانَ آدم. وقال ابن كيسان: الْإِنْسانَ: محمد صلى الله عليه وسلم.

(5/223)


قال القاضي أبو محمد: وهذا التخصيص لا دليل عليه، وكل المعلومات داخلة في البيان الذي علمه الإنسان، فكأنه قال من ذلك البيان وفيه معتبر كون الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ فحذف هذا كله، ورفع الشَّمْسُ بالابتداء، وهذا ابتداء تعديد نعم.
واختلف الناس في قوله: بِحُسْبانٍ فقال مكي والزهراوي عن قتادة: هو مصدر كالحساب في المعنى وكالغفران والطغيان في الوزن. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى والضحاك: هو جمع حساب، كشهاب وشهبان، والمعنى أن هذين لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروج وغير ذلك حسابات شتى، وهذا مذهب ابن عباس وأبي مالك وقتادة. وقال ابن زيد لولا الليل والنهار لم يدر أحد كيف يحسب شيئا، يريد من مقادير الزمان. وقال مجاهد: «الحسبان» الفلك المستدير، شبه بحسبان الرحى، وهو العود المستدير الذي باستدارته تدور المطحنة.
وقوله: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ قال ابن عباس والسدي وسفيان: النَّجْمُ. النبات الذي لا ساق له، وسمي نجما لأنه نجم، أي ظهر وطلع، وهو مناسب للشجر نسبة بينة. وقال مجاهد وقتادة والحسن: النَّجْمُ اسم الجنس من نجوم السماء، والنسبة التي لها من السماء هي التي للشجر من الأرض، لأنها في ظاهرهما. وسمي الشَّجَرُ من اشتجار غصونه وهو تداخلها.
واختلف الناس في هذا السجود، فقال مجاهد: ذلك في النجم بالغروب ونحوه، وفي الشجر بالظل واستدارته، وكذلك في النجم على القول الآخر. وقال مجاهد أيضا ما معناه: أن السجود في هذا كله تجوز، وهو عبارة عن الخضوع والتذلل، ونحوه قول الشاعر [زيد الخيل] : [الطويل] ترى الأكم فيها سجدا للحوافر وقال: يَسْجُدانِ وهما جمعان، لأنه راعى اللفظ، إذ هو مفرد اسم للنوع وهذا كقول الشاعر [عمير بن شييم القطامي] : [الوافر]
ألم يحزنك أن حبال قومي ... وقومك قد تباينتا انقطاعا
وقرأ الجمهور: «والسماء رفعها» بالنصب عطفا على الجملة الصغيرة وهي يَسْجُدانِ لأن هذه الجملة من فعل وفاعل وهذه كذلك. وقرأ أبو السمال: «والسماء» بالرفع عطفا على الجملة الكبيرة وهي قوله: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ لأن هذه الجملة من ابتداء وخبر، والأخرى كذلك.
وفي مصحف ابن مسعود: «وخفض الميزان» . ومعنى: وَضَعَ أقر وأثبت، والْمِيزانَ: العدل فيما قال الطبري ومجاهد وأكثر الناس. وقال ابن عباس والحسن وقتادة: إنه الميزان المعروف.
قال القاضي أبو محمد: والميزان المعروف جزء من «الميزان» الذي يعبر به عن العدل. ويظهر عندي أن قوله: وَضَعَ الْمِيزانَ يريد به العدل.
وقوله: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وقوله: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ وقوله: وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ يريد به الميزان المعروف، وكل ما قيل محتمل سائغ.

(5/224)


وقوله: أَلَّا تَطْغَوْا نهي عن التعمد الذي هو طغيان بالميزان. وأما ما لا يقدر البشر عليه من التحرير بالميزان فذلك موضوع عن الناس. «وأن لا» هو بتقدير لئلا، أو مفعول من أجله. و: تَطْغَوْا نصب، ويحتمل أن تكون «أن» مفسرة، فيكون تَطْغَوْا جزما بالنهي، وفي مصحف ابن مسعود: «لا تطغوا في الميزان» بغير أن.
وقرأ جمهور الناس: «ولا تخسروا» من أخسر، أي نقص وأفسد، وقال بلال بن أبي بردة «تخسروا» بفتح التاء وكسر السين من خسر، ويقال خسر وأخسر بمعنى: نقص وأفسد، كجبر وأجبر. وقرأ بلال أيضا فيما حكى ابن جني: «تخسروا» ، بفتح التاء والسين من خسر: بكسر السين.
واختلف الناس في: «الأنام» فقال ابن عباس فيما روي عنه هم بنو آدم فقط. وقال الحسن بن أبي الحسن: هم الثقلان: الجن والإنس. وقال ابن عباس أيضا وقتادة وابن زيد والشعبي: هم الحيوان كله.
والْأَكْمامِ في النَّخْلُ موجودة في الموضعين، فجملة فروع النخلة في أكمام من ليفها، وطلع النخل في كم من جفه. وقال قتادة: أكمام النخيل رقابها. والكم من النبات: كل ما التف شيء وستره، ومنه كمائم الزهر وبه شبه كم الثوب. وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ هو البر والشعير وما جرى مجراه من الحب الذي له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه وهي العصيفة إذا يبست، ومنه قول علقمة بن عبدة: [البسيط]
تسقى مذانب قد مالت عصيفتها ... حدورها من أتيّ الماء مطموم
قال ابن عباس الْعَصْفِ التبن، وتقول العرب: خرجنا نتعصف، أي يستعجلون عصيفة الزرع.
وقرأ ابن عامر وأبو البرهسم: «والحبّ» بالنصب عطفا على الْأَرْضَ «ذا العصف والريحان» إلا أن البرهسم خفض النون.
واختلفوا في الرَّيْحانُ، فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك معناه: الرزق، ومنه قول الشاعر وهو النمر بن تولب: [المتقارب]
سلام الإله وريحانه ... وجنته وسماء درر
وقال الحسن: هو ريحانكم هذا. وقال ابن جبير: هو كل ما قام على ساق، وقال ابن زيد وقتادة:
الرَّيْحانُ هو كل مشموم طيب الريح من النبات. وفي هذا النوع نعمة عظيمة. ففيه الأزهار والمندل والعقاقير وغير ذلك. وقال الفراء: الْعَصْفِ فيما يؤكل، والرَّيْحانُ كل ما لا يؤكل.
وقرأ جمهور الناس: «والحبّ» بالرفع «ذو العصف والريحان» وهذه قراءة في المعنى كالأولى في الإعراب حسنة الاتساق عطفا على فاكِهَةٌ. وقرأ حمزة والكسائي وابن محيصن: «والحبّ» بالرفع «ذو العصف والريحان» بخفض «الريحان» عطفا على الْعَصْفِ، كأن الحب هما له على أن الْعَصْفِ منه الورق. وكل ما يعصف باليد وبالريح فهو رزق البهائم، وَالرَّيْحانُ منه الحب فهو رزق الناس، «والريحان» على هذه القراءة: الرزق: لا يدخل فيه المشموم بتكلف.
وَالرَّيْحانُ هو من ذوات الواو. قال أبو علي: إما أن يكون ريحان اسما ووضع موضع المصدر،

(5/225)


خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)

وإما أن يكون مصدرا على وزن فعلان، كالليان وما جرى مجراه أصله: روحان، أبدلت الواو ياء كما بدلوا الواو ياء في أشاوى وإما أن يكون مصدرا شاذا في المعتل كما شذ كينونة وبينونة، فأصله ريوحان، قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، فجاء ريحان، فخفف كما قالوا ميت وميت وهين وهين.
والآلاء: النعم، واحدها إلى مثل معى وألى مثل قفا، حكى هذين أبو عبيدة، وألي مثل أمر وإلي مثل حصن، حكى هذين الزهراوي. والضمير في قوله: رَبِّكُما للجن والإنس، وساغ ذلك ولم يصرح لهما بذكر على أحد وجهين إما أنهما قد ذكرا في قوله: لِلْأَنامِ على ما تقدم من أن المراد به الثقلان، وإما على أن أمرهما مفسر في قوله: خَلَقَ الْإِنْسانَ
[الرحمن: 14] وَخَلَقَ الْجَانَّ [الرحمن: 15] فساغ تقديمهما في الضمير اتساعا. وقال الطبري: يحتمل أن يقال هذا من باب ألقيا في جهنم ويا غلام اضربا عنقه. وقال منذر بن سعيد خوطب من يعقل لأن المخاطبة بالقرآن كله هي للإنس والجن، ويروى أن هذه الآية لما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم سكت أصحابه فقال: «إن جواب الجن خير من سكوتكم، أي لما قرأتها على الجن قالوا: لا، بأيها نكذب يا ربنا» .
قوله عز وجل:

[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 18]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
قال كثير من المفسرين: الْإِنْسانَ آدم. وقال آخرون: أراد اسم الجنس، وساغ ذلك من حيث أبوهم مخلوق من الصلصال.
واختلف الناس في اشتقاق الصلصال، فقال مكي فيما حكى النقاش: هو من صلّ اللحم وغيره إذا نتن، فهي إشارة إلى الحمأة. وقال الطبري وجمهور المفسرين: هو من صلّ إذا صوت، وذلك في الطين لكرمه وجودته، فهي إشارة إلى ما كان من تربة آدم من الطين الحر، وذلك أن الله تعالى خلقه من طيب وخبيث ومختلف اللون، فمرة ذكر في خلقه هذا، ومرة هذا، وكل ما في القرآن في ذلك صفات ترددت على التراب الذي خلق منه. و «الفخار» : الطين الطيب إذا مسه الماء فخر أي ربا وعظم.
و: الْجَانَّ اسم جنس، كالجنة. و: «المارج» اللهب المضطرب من النار. قال ابن عباس: وهو أحسن النار المختلط من ألوان شتى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر: «كيف بك إذا كنت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأمانتهم» .
وكرر قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ تأكيدا أو تنبيها لنفوس وتحريكا لها، وهذه طريقة من الفصاحة معروفة، وهي من كتاب الله في مواضع، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كلام العرب وذهب قوم منهم ابن قتيبة وغيره إلى أن هذا التكرار إنما هو لما اختلفت النعم المذكورة كرر التوقيف مع كل واحدة منها، وهذا حسن. قال الحسين بن الفضل: التكرار لطرد الغفلة ولا تأكيد.

(5/226)


مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)

وخص ذكر الْمَشْرِقَيْنِ والْمَغْرِبَيْنِ بالتشريف في إضافة الرب إليهما لعظمهما في المخلوقات وأنهما طرفا آية عظيمة وعبرة وهي الشمس وجريها. وحكى النقاش أن الْمَشْرِقَيْنِ مشرقا الشمس والقمر، والْمَغْرِبَيْنِ كذلك على ما في ذلك من العبر، وكل متجه، ومتى وقع ذكر المشرق والمغرب فهي إشارة إلى الناحيتين بجملتهما، ومتى وقع ذكر المشارق والمغارب فهي إشارة إلى تفصيل مشرق كل يوم ومغربه، ومتى ذكر المشرقان والمغربان، فهي إشارة إلى نهايتي المشارق والمغارب، لأن ذكر نهايتي الشيء ذكر لجميعه. قال مجاهد: هو مشرق الصيف ومغربه، ومشرق الشتاء ومغربه.
قوله عز وجل:

[سورة الرحمن (55) : الآيات 19 الى 28]
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ معناه: أرسلهما إرسالا غير منحاز بعضهما من بعض، ومنه مرجت الدابة، ومنه الأمر المريج، أي المختلط الذي لم يتحصل منه شيء، ومنه من مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن: 15] .
واختلف الناس في الْبَحْرَيْنِ فقال الحسن وقتادة: بحر فارس وبحر الروم. وقال الحسن أيضا:
بحر القلزم واليمن وبحر الشام. وقال ابن عباس وابن جبير: هو بحر في السماء وبحر في الأرض. وقال ابن عباس أيضا هو مطر السماء سماه بحرا وبحر الأرض. والظاهر عندي أن قوله تعالى: الْبَحْرَيْنِ يريد بهما نوعي الماء العذب. والأجاج: أي خلطهما في الأرض وأرسلهما متداخلين في وضعهما في الأرض قريب بعضهما من بعض ولا بغي، والعبرة في هذا التأويل منيرة، وأنشد منذر بن سعيد: [الطويل]
وممزوجة الأمواه لا العذب غالب ... على الملح طيبا لا ولا الملح يعذب
أما قوله: يَلْتَقِيانِ فعلى التأويلين الأولين معناه: هما معدان للالتقاء، وحقهما أن يلتقيا لولا البرزخ، وعلى القول الثالث روي أنهما يلتقيان كل سنة مرة، فمن ذهب إلى أنه بحر يجتمع في السماء فهو قول ضعيف وإنما يتوجه الالتقاء فيه. وفي القول الرابع بنزول المطر، وفي القول الخامس بالأنهار في البحر وبالعيون قرب البحر. والبرزخ: الحاجز في كل شيء، فهو في بعض هذه الأقوال أجرام الأرض، قاله قتادة. وفي بعضها القدرة والبرزخ أيضا: المدة التي بين الدنيا والآخرة للموتى، فهي حاجز، وقد قال بعض الناس: إن ماء الأنهار لا يختلط بالماء الملح، بل هو بذاته باق فيه، وهذا يحتاج إلى دليل أو حديث صحيح، وإلا فالعيان لا يقتضيه. وذكر الثعلبي في: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ألغازا وأقوالا باطنة لا يجب أن يلتفت إلى شيء منها.
واختلف الناس في قوله: لا يَبْغِيانِ فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة معناه: لا يبغي واحد منهما

(5/227)


على الآخر. وقال قتادة أيضا والحسن: لا يَبْغِيانِ على الناس والعمران. وهذان القولان على أن اللفظة من البغي. وقال بعض المتأولين هي من قولك: بغي إذا طلب، فمعناه: لا يَبْغِيانِ حالا غير حالهما التي خلقا وسخرا لها. وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: اللُّؤْلُؤُ: كبار الجوهر وَالْمَرْجانُ: صغاره.
وقال ابن عباس أيضا ومرة الهمداني عكس هذا، والوصف بالصغر وهو الصواب في اللُّؤْلُؤُ. وقال ابن مسعود وغيره الْمَرْجانُ: حجر أحمر، وهذا هو الصواب في الْمَرْجانُ. واللُّؤْلُؤُ: بناء غريب لا يحفظ منه في كلام العرب أكثر من خمسة: اللؤلؤ والجؤجؤ والدؤدؤ واليؤيؤ وهو طائر، والبؤبؤ وهو الأصل.
واختلف الناس في قوله: مِنْهُمَا فقال أبو الحسن الأخفش في كتابه الحجة، وزعم قوم أنه قد ينفرج اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ من الملح ومن العذب.
قال القاضي أبو محمد: ورد الناس على هذا القول، لأن الحس يخالفه ولا يخرج ذلك إلا من الملح وقد رد الناس على الشاعر في قوله: [الطويل]
فجاء بها ما شيت من لطمية ... على وجهها ماء الفرات يموج
وقال جمهور من المتأولين: إنما يخرج ذلك من الأجاج في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة، فلذلك قال: مِنْهُمَا وهذا مشهور عند الغواصين. وقال ابن عباس وعكرمة: إنما تتكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر، لأن الصدف وغيرها تفتح أجوافها للمطر، فلذلك قال: مِنْهُمَا وقال أبو عبيدة ما معناه: إن خروج هذه الأشياء إنما هي من الملح، لكنه قال: مِنْهُمَا تجوزا كما قال الشاعر [عبد الله بن الزبعرى] : [مجزوء الكامل مرفّل] متقلدا سيفا ورمحا وكما قال الآخر:
علفتها تبنا وماء باردا.
فمن حيث هما نوع واحد، فخروج هذه الأشياء إنما هي منهما وإن كانت تختص عند التفصيل المبالغ بأحدهما، وهذا كما قال تعالى: سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ [نوح: 15- 16] ، وإنما هو في إحداهن وهي الدنيا إلى الأرض. قال الرماني: العذب فيهما كاللقاح للملح فهو كما يقال:
الولد يخرج من الذكر والأنثى.
وقرأ نافع وأبو عمرو وأهل المدينة: «يخرج» بضم الياء وفتح الراء. «اللؤلؤ» رفعا. وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: «يخرج» بفتح الياء وضم الراء على بناء الفعل للفاعل، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر. وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي عنه: «يخرج» بضم الياء وكسر الراء على إسناده إلى الله تعالى، أي بتمكينه وقدرته، «اللؤلؤ» نصبا، ورواها أيضا عنه بالنون مضمومة وكسر الراء.
و: الْجَوارِ جمع جارية، وهي السفن. وقرأ الحسن والنخعي بإثبات الياء. وقرأ الجمهور وأبو جعفر وشيبة بحذفها.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: «المنشآت» بفتح الشين أي أنشأها الله والناس.

(5/228)


يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)

وقرأ حمزة وأبو بكر بخلاف: «المنشئات» بكسر الشين، أي تنشئ هي السير إقبالا وإدبارا، و «الأعلام» الجبال وما جرى مجراها من الظراب والآكام. وقال مجاهد: ما له شراع فهو من الْمُنْشَآتُ، وما لم برفع له شراع فليس من الْمُنْشَآتُ وقوله: كَالْأَعْلامِ هو الذي يقتضي هذا الفرق، وأما لفظة الْمُنْشَآتُ فيعم الكبير والصغير، والضمير في قوله كُلُّ مَنْ عَلَيْها للأرض، وكنى عنها، ولم يتقدم لها ذكر لوضوح المعنى كما قال تعالى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] إلى غير ذلك من الشواهد، والإشارة بالفناء إلى جميع الموجودات على الأرض من حيوان وغيره، فغلب عبارة من يعقل، فلذلك قال: مَنْ. والوجه عبارة عن الذات. لأن الجارحة منفية في حق الله تعالى: وهذا كما تقول: هذا وجه القول والأمر، أي حقيقته وذاته.
وقرأ جمهور الناس: «ذو الجلال» على صفة لفظة الوجه. وقرأ عبد الله بن مسعود وأبيّ: «ذي الجلال» على صفات الرب.
قوله عز وجل:

[سورة الرحمن (55) : الآيات 29 الى 36]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)
قوله: يَسْئَلُهُ يحتمل أن يكون في موضع الحال من الوجه، والعامل فيه يَبْقى [الرحمن: 27] أي هو دائم في هذه الحال، ويحتمل أن يكون فعلا مستأنفا إخبارا مجردا. والمعنى أن كل مخلوق من الأشياء فهو في قوامه وتماسكه ورزقه إن كان مما يرزق بحال حاجة إلى الله تعالى، فمن كان يسأل بنطق فالأمر فيه بين، ومن كان من غير ذلك فحاله تقتضي السؤال، فأسند فعل السؤال إليه.
وقوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أي يظهر شأن من قدرته التي قد سبقت في الأزل في ميقاته من الزمن من إحياء وإماتة ورفعة وخفض، وغير ذلك من الأمور التي لا يعلم نهايتها إلا هو تعالى. والشأن: اسم جنس للأمور. قال الحسين بن الفضل: معنى الآية، سوق المقادير إلى المواقيت. وورد في بعض الأحاديث، «إن الله تعالى له كل يوم في اللوح المحفوظ ثلاثمائة وستون نظرة، يعز فيها ويذل، ويحيي ويميت، ويغني ويعدم إلى غير ذلك من الأشياء، لا إله إلا هو» . وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقيل له ما هذا الشأن يا رسول الله؟ قال: يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع ويضع.
وذكر النقاش أن سبب هذه الآية قول اليهود: إن الله استراح يوم السبت، فلا ينفذ فيه شيئا.
وقوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ عبارة عن إتيان الوقت الذي قدر فيه وقضى أن ينظر في أمور عباده وذلك يوم القيامة، وليس المعنى: أن ثم شغلا يتفرغ منه، وإنما هي إشارة وعيد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأزب العقبة لأفرغن لك يا خبيث» والتفرغ من كل آدمي حقيقة.

(5/229)


وفي قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ جرى على استعمال العرب، ويحتمل أن يكون التوعد بعذاب في الدنيا والأول أبين.
وقرأ نافع وابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر: «سنفرغ» بضم الراء وبالنون. وقرأ الأعرج وقتادة:
ذلك بفتح الراء والنون، ورويت عن عاصم، ويقال فرغ بفتح الراء وفرغ بكسرها. ويصح منهما جميعا أن يقال يفرغ بفتح الراء وقرأ عيسى بفتح النون وكسر الراء. وقال أبو حاتم: هي لغة سفلى مضر، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: بالياء المفتوحة، قرأ حمزة والكسائي: بضم الراء. وقرأ أبو عمرو: بفتحها. وقرأ الأعمش بخلاف، وأبو حيوة: «سيفرغ» بضم الياء وفتح الراء وبناء الفعل للمفعول. وقرأ عيسى بن عمر أيضا: «سنفرغ» ، بفتح النون وكسر الراء. وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «سنفرغ لكم أيها» .
والثَّقَلانِ الإنس والجن، ويقال لكل ما يعظم أمره ثقل، ومنه: أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة: 2] . وقال النبي عليه السلام: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» . ويقال لبيض النعام ثقل. وقال لبيد: [الكامل]
فتذكرا ثقلا رئيدا بعد ما ... ألقت ذكاء يمينها في كافر
وقال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه: سمي الإنس والجن ثقلين، لأنهما ثقلا بالذنوب وهذا بارع ينظر إلى خلقهما من طين ونار.
وقرأ ابن عامر: «أيّه الثقلان» بضم الهاء.
واختلف الناس في معنى قوله: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا الآية، فقال الطبري، قال قوم: في الكلام محذوف وتقديره: يقال لكم يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، قالوا وهذه حكاية عن حال يوم القيامة في يَوْمَ التَّنادِ [غافر: 32] على قراءة من شدد الدال. قال الضحاك: وذلك أنه يفر الناس في أقطار الأرض، والجن كذلك، لما يرون من هول يوم القيامة، فيجدون سبعة صفوف من الملائكة قد أحاطت بالأرض، فيرجعون من حيث جاؤوا، فحينئذ يقال لهم: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وقال بعض المفسرين: بل هي مخاطبة في الدنيا. والمعنى: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ الفرار من الموت ب أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وقال ابن عباس المعنى: إن استطعتم بأذهانكم وفكركم أن تنفذوا فتعلموا علم أقطار السماوات والأرض. والأقطار: الجهات.
وقوله: فَانْفُذُوا صيغة الأمر ومعناه التعجيز، والسلطان هنا القوة على غرض الإنسان، ولا يستعمل إلا في الأعظم من الأمر والحجج أبدا من القوي في الأمور، ولذلك يعبر كثير من المفسرين عن السلطان بأنه الحجة. وقال قتادة: السلطان هنا الملك، وليس لهم ملك، والشواظ: لهب النار. قاله ابن عباس وغيره. وقال أبو عمرو بن العلاء: لا يكون الشواظ إلا من النار وشيء معها، وكذلك النار كلها لا تحس إلا وشيء معها. وقال مجاهد: الشواظ، هو اللهب الأخضر المتقطع، ويؤيد هذا القول. قول حسان بن ثابت يهجو أمية بن أبي الصلت:
هجوتك فاختضعت حليفا ذل ... بقافية تؤجج كالشواظ

(5/230)


فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)

وقال الضحاك: هو الدخان الذي يخرج من اللهب وليس بدخان الحطب.
وقرأ الجمهور: «شواظ» بضم الشين. وقرأ ابن كثير وحده وشبل وعيسى: «شواظ» بكسر الشين وهما لغتان.
وقال ابن عباس وابن جبير: النحاس الدخان، ومنه قول الأعشى: [المتقارب]
تضيء كضوء سراج السليط ... لم يجعل الله فيه نحاسا
السليط دهن السراج. في النسخ التي بأيدينا دهن الشيرج.
وقرأ جمهور القراء: «ونحاس» بالرفع عطفا على شُواظٌ، فمن قال إن النحاس: هو المعروف، وهو قول مجاهد وابن عباس أيضا قال يرسل عليهما نحاس: أي يذاب ويرسل عليهما. ومن قال هو الدخان، قال ويعذبون بدخان يرسل عليهما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والنخعي وابن أبي إسحاق:
«ونحاس» بالخفض عطفا على نارٍ، وهذا مستقيم على ما حكيناه عن أبي عمرو بن العلاء. ومن رأى الشواظ يختص بالنار قدر هنا: وشيء من نحاس. وحكى أبو حاتم عن مجاهد أنه قرأ: «ونحاس» بكسر النون والجر. وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة أنه قرأ: «ونحسّ» بفتح النون وضم الحاء والسين المشددة، كأنه يقول: ونقتل بالعذاب. وعن أبي جندب أنه قرأ: «ونحس» ، كما تقول: يوم نحس، وحكى أبو عمرو مثل قراءة مجاهد عن طلحة بن مصرف، وذلك لغة في نحاس، وقيل هو جمع نحس.
ومعنى الآية: مستمر في تعجيز الجن والإنس، أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا فلا ينتصر.
قوله عز وجل:

[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 45]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)
جواب «إذا» محذوف مقصود به الإبهام، كأنه يقول: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فما أعظم الهول، وانشقاق السماء انفطارها عند القيامة. وقال قتادة: السماء اليوم خضراء وهي يوم القيامة حمراء، فمعنى قوله: وَرْدَةً أي محمرة كالوردة وهي النوار المعروف. وهذا قول الزجاج والرماني. وقال ابن عباس وأبو صالح والضحاك: هي من لون الفرس الورد، فأنث لكون السَّماءُ مؤنثة.
واختلف الناس في قوله: كَالدِّهانِ فقال مجاهد والضحاك: هو جمع دهن، قالوا وذلك أن السماء يعتريها يوم القيامة ذوب وتميع من شدة الهول. وقال بعضهم: شبه لمعانها بلمعان الدهن. وقال جماعة من المتأولين الدهان: الجلد الأحمر، وبه شبهها، وأنشد منذر بن سعيد: [الطويل]

(5/231)


وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)

يبعن الدهان الحمر كل عشية ... بموسم بدر أو بسوق عكاظ
وقوله تعالى: لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ نفي للسؤال. وفي القرآن آيات تقتضي أن في القيامة سؤالا، وآيات تقتضي نفيه كهذه وغيرها، فقال بعض الناس ذلك في مواطن دون مواطن، وهو قول قتادة وعكرمة.
وقال ابن عباس وهو الأظهر في ذلك أن السؤال متى أثبت فهو بمعنى التوبيخ والتقرير، ومتى نفي فهو بمعنى الاستخبار المحض والاستعلام، لأن الله تعالى عليم بكل شيء. وقال الحسن ومجاهد: لا يسأل الملائكة عنهم، لأنهم يعرفونهم بالسيما، والسيما التي يعرف بها الْمُجْرِمُونَ هي سواد الوجوه وزرق العيون في الكفرة، قاله الحسن. ويحتمل أن يكون غير هذا من التشويهات.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ. فقال ابن عباس: يؤخذ كل كافر بناصيته وقدميه فيطوى ويجمع كالحطب ويلقى كذلك في النار. وقال النقاش: روي أن هذا الطي على ناحية الصلب قعسا وقاله الضحاك. وقال آخرون: بل على ناحية الوجه، قالوا فهذا معنى: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ. وقال قوم في كتاب الثعلبي: إنما يسحب الكفرة سحبا، فبعضهم يجر بقدميه، وبعضهم بناصيته، فأخبر في هذه الآية أن الأخذ يكون بِالنَّواصِي ويكون ب الْأَقْدامِ.
وقوله: هذِهِ جَهَنَّمُ قبله محذوف تقديره: يقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ وفي مصحف ابن مسعود: «هذه جهنم التي كنتما بها تكذبان تصليانها لا تموتان فيها ولا تحييان» .
وقرأ جمهور الناس: «يطوفون» بفتح الياء وضم الطاء وسكون الواو. وقرأ طلحة بن مصرف:
«يطوّفون» بضم الياء وفتح الطاء وشد الواو. وقرأ أبو عبد الرحمن: «يطافون» ، وهي قراءة علي بن أبي طالب. والمعنى في هذا كله أنهم يترددون بين نار جهنم وجمرها وَبَيْنَ حَمِيمٍ وهو ما غلي في جهنم من مائع عذابها. والحميم: الماء السخن. وقال قتادة: إن العذاب الذي هو الحميم يغلي منذ خلق الله جهنم. وأنى الشيء: حضر، وأنى اللحم أو ما يطبخ أو يغلى: نضج وتناهى حره والمراد منه. ويحتمل قوله: آنٍ أن يكون من هذا ومن هذا. وكونه من الثاني أبين، ومنه قوله تعالى: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: 53] ومن المعنى الآخر قول الشاعر [عمرو بن حسان الشيباني] : [الوافر] أنى ولكل حاملة تمام ويشبه أن يكون الأمر في المعنيين قريبا بعضه من بعض، والأول أعم من الثاني.
قوله عز وجل:

[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 57]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57)

(5/232)


«من» في قوله تعالى: وَلِمَنْ يحتمل أن تقع على جميع المتصفين بالخوف الزاجر عن معاصي الله تعالى، ويحتمل أن تقع لواحد منهم وبحسب هذا قال بعض الناس في هذه الآية: إن كل خائف له جَنَّتانِ. وقال بعضهم: جميع الخائفين لهم جَنَّتانِ. والمقام هو وقوف العبد بين يدي ربه يفسره:
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: 6] وأضاف المقام إلى الله من حيث هو بين يديه. قال الثعلبي وقيل: مَقامَ رَبِّهِ قيامه على العبد، بيانه: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد: 33] وحكى الزهراوي هذا المعنى عن مجاهد. وفي هذه الإضافة تنبيه على صعوبة الموقف وتحريض على الخوف الذي هو أسرع المطايا إلى الله عز وجل. وقال قوم: أراد جنة واحدة، وثنى على نحو قوله: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق: 24] وقول الحجاج: يا غلام اضربا عنقه.
وقال أبو محمد: هذا ضعيف، لأن معنى التثنية متوجه فلا وجه للفرار إلى هذه الشاذة، ويؤيد التثنية قوله: ذَواتا أَفْنانٍ وهي تثنية ذات على الأصل. لأن أصل ذات: ذوات.
والأفنان يحتمل أن يكون جمع فنن، وهو فنن الغصن، وهذا قول مجاهد، فكأنه مدحها بظلالها وتكائف أغصانها ويحتمل أن يكون جمع فن، وهو قول ابن عباس، فكأنه مدحها بكثرة أنواع فواكهها ونعيمها.
و: زَوْجانِ معناه: نوعان. و: مُتَّكِئِينَ حال إما من محذوف تقديره يتنعمون مُتَّكِئِينَ. وإما من قوله: وَلِمَنْ خافَ. والاتكاء جلسة المتنعم المتمتع.
وقرأ جمهور الناس: «فرش» بضم الراء. وقرأ أبو حيوة: «فرش» بسكون الراء، وروي في الحديث أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه البطائن مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فكيف الظواهر؟ قال: «هي من نور يتلألأ» .
والإستبرق ما خشن وحسن من الديباج. والسندس: ما رق منه. وقد تقدم القول في لفظة الإستبرق. وقرأ ابن محيصن «من إستبرق» على أنه فعل والألف وصل.
والضمير في قوله: فِيهِنَّ للفرش، وقيل للجنات، إذ الجنتان جنات في المعنى. والجنى ما يجتنى من الثمار، ووصفه بالدنو، لأنه فيما روي في الحديث يتناوله المرء على أي حالة كان من قيام أو جلوس أو اضطجاع لأنه يدنو إلى مشتهيه. و: قاصِراتُ الطَّرْفِ هي الحور العين، قصرن ألحاظهن على أزواجهن.
وقرأ أبو عمرو عن الكسائي وحده وطلحة وعيسى وأصحاب علي وابن مسعود: «يطمثهن» بضم الميم. وقرأ جمهور القراء: «يطمثهن» بكسر الميم. والمعنى: لم يفتضهن لأن الطمث دم الفرج، فيقال

(5/233)


كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69)

لدم الحيض طمث، ولدم الافتضاض طمث، فإذا نفي الافتضاض، فقد نفي القرب منهن بجهة الوطء.
قال الفراء: لا يقال طمث إلا إذا افتض. قال غيره: طمث، معناه: جامع بكرا أو غيرها.
واختلف الناس في قوله: وَلا جَانٌّ فقال مجاهد: الجن قد تجامع نساء البشر مع أزواجهن، إذا لم يذكر الزوج الله تعالى، فتنفي هذه الآية جميع المجامعات. وقال ضمرة بن حبيب: الجن لهم قاصِراتُ الطَّرْفِ من الجن نوعهم، فنفي في هذه الآية الافتضاض عن البشريات والجنيات.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل اللفظ أن يكون مبالغة وتأكيدا، كأنه قال: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ شيء، أراد العموم التام، لكنه صرح من ذلك بالذي يعقل منه أن يطمث. وقال أبو عبيدة والطبري: إن من العرب من يقول: ما طمث هذا البعير حبل قط، أي ما مسه.
قال القاضي أبو محمد: فإن كان هذا المعنى ما أدماه حبل، فهو يقرب من الأول. وإلا فهو معنى آخر غير الذي قدمناه.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: «ولا جأن» بالهمز.
وقوله عز وجل:

[سورة الرحمن (55) : الآيات 58 الى 69]
كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67)
فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69)
الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ: هي من الأشياء التي قد برع حسنها واستشعرت النفوس جلالتها، فوقع التشبيه بها لا في جميع الأوصاف لكن فيما يشبه ويحسن بهذه المشبهات، ف الْياقُوتُ في إملاسه وشفوفه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة المرأة من نساء أهل الجنة: «يرى مخ ساقها من وراء العظم» . وَالْمَرْجانُ في إملاسه وجمال منظره، وبهذا النحو من النظر سمت العرب النساء بهذه الأشياء كدرة بنت أبي لهب. ومرجانة أم سعيد وغير ذلك.
وقوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ آية، وعد وبسط لنفوس جميع المؤمنين لأنها عامة. قال ابن المنكدر وابن زيد وجماعة من أهل العلم: هي للبر والفاجر. والمعنى أن جزاء من أحسن بالطاعة أن يحسن إليه بالتنعيم. وحكى النقاش أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية: «هل جزاء التوحيد إلا الجنة» .
وقوله تعالى: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ اختلف الناس في معنى: مِنْ دُونِهِما، فقال ابن زيد وغيره معناه: أن هذين دون تينك في المنزلة والقدرة، والأوليان جنتا السابقين، والأخريان جنتا أصحاب اليمين.

(5/234)


فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)

قال الرماني قال ابن عباس: الجنات الأربع للخائف مَقامَ رَبِّهِ [الرحمن: 46] . وقال الحسن الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين. وقال ابن عباس، المعنى: هما دونهما في القرب إلى المنعمين وهاتان المؤخرتان في الذكر أفضل من الأوليين، يدل على ذلك أنه وصف عيني هذه بالنضخ والأخريين بالجري فقط، وجعل هاتين مدهامتين من شدة النعمة، والأوليين ذواتي أفنان، وكل جنة ذات أفنان وإن لم تكن مدهامة.
قال القاضي أبو محمد: وأكثر الناس على التأويل الأول، وهذه استدلالات ليست بقواطع. وروي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: جنتان للمقربين من ذهب، وجنتان لأهل اليمين من فضة مما دون الأولين.
و: مُدْهامَّتانِ معناه قد علا لونهما دهمة وسواد في النضرة والخضرة، كذا فسره ابن الزبير على المنبر، ومنه قوله تعالى: الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [الأعلى: 5] ، والنضاخة الفوارة التي يهيج ماؤها. وقال ابن جبير المعنى: ضَّاخَتانِ
بأنواع الفواكه، وهذا ضعيف. وكرر النخل والرمان لأنهما ليسا من الفواكه. وقال يونس بن حبيب وغيره: كررهما وهما من أفضل الفاكهة تشريفا لهما وإشادة بهما كما قال تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] .
قوله تعالى:

[سورة الرحمن (55) : الآيات 70 الى 78]
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
خَيْراتٌ جمع خيرة، وهي أفضل النساء، ومنه قول الشاعر [أنشده الطبري] : [الكامل] ربلات هند خيرة الملكات وقالت أم سلمة: قلت يا رسول الله: أخبرني عن قوله تعالى: خَيْراتٌ حِسانٌ قال: «خَيْراتٌ الأخلاق حِسانٌ الوجوه» .
وقرأ أبو بكر بن حبيب السهمي: «خيّرات حسان» بشد الياء المكسورة. وقرأ أبو عمرو بفتح الياء.
وقوله: مَقْصُوراتٌ أي محجوبات. وكانت العرب تمدح النساء بملازمة البيوت، ومنه قول الشاعر [أبو قيس بن الأسلت] : [الطويل] وتعتل في إتيانهن فتعذر يصف أن جارتها يزرنها ولا تزورهن. ويروى أن بيت الأعشى قد ذم وهو قوله: [البسيط]

(5/235)


كأن مشيتها من بين جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل
فقيل في ذمه:
هذه جوالة خراجة ولاجة، ومن مدح القصر قول كثير: [الطويل]
وأنت التي حببت كل قصيرة ... إليّ ولم تشعر بذاك القصائر
أريد قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطى شر النساء البحاتر
قال الحسن: مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ ليس بطوافات في الطرق، والْخِيامِ: البيوت من الخشب والثمام وسائر الحشيش، وهي بيوت المرتحلين من العرب، وخيام الجنة بيوت اللؤلؤ. وقال عمر بن الخطاب: هي در مجوف. ورواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان بيت المسكين عند العرب من شعر فهو بيت، ولا يقال له خيمة، ومن هذا قول جرير: [الوافر]
متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام
ومنه قول امرئ القيس: [المتقارب] أمرخ خيامهم أم عشر يستفهم هل هم منجدون أم غائرون لأن العشر مما لا ينبت إلا في تهامة، والمرخ مما لا ينبت إلا في نجد.
والرفرف: ما تدلى من الأسرة من غالي الثياب والبسيط: وكذلك قال ابن عباس وغيره: إنها فضول المحابيس والبسط، وقال ابن جبير، الرفرف: رياض الجنة.
قال القاضي أبو محمد: والأول أصوب وأبين، ووجه قول ابن جبير: إنه من رف البيت، إذا تنعم وحسن، وما تدلى حول الخباء من الخرقة الهفافة يسمى رفرفا، وكذلك يسميه الناس اليوم. وقال الحسن ابن أبي الحسن، الرفرف: المرافق، والعبقري: بسط حسان فيها صور وغير ذلك، تصنع بعبقر، وهو موضع يعمل فيه الوشي والديباج ونحوه قال ابن عباس: العبقري: الزرابي. وقال ابن زيد: هي الطنافس.
وقال مجاهد: هي الديباج الغليظ.
وقرأ زهير الفرقبي: «رفارف» بالجمع وترك الصرف. وقرأ أبو طمعة المدني: وعاصم في بعض ما روي عنه «رفارف» بالصرف، وكذلك قرأ عثمان بن عفان: «رفارف وعباقر» بالجمع والصرف، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وغلط الزجاج والرماني هذه القراءة. وقرأ أيضا عثمان في بعض ما روي عنه:
«عباقر» : بفتح القاف والباء، وهذا على أن اسم الموضع «عباقر» بفتح القاف، والصحيح في اسم الموضع: «عبقر» ، قال الشاعر [امرؤ القيس] : [الطويل]
كأن صليل المروحين تشذه ... صليل الزيوف بنتقدن بعبقرا
قال الخليل والأصمعي: إذا استحسنت شيئا واستجادته قالت عَبْقَرِيٍّ.

(5/236)


قال القاضي أبو محمد: ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه وقال عبد الله بن عمر: العبقري سيد القوم وعينهم. وقال زهير: [الطويل]
بخيل عليها جنة عبقرية ... جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا
ويقال عبقر: مسكن للجن. وقال ذو الرمة: [البسيط]
حتى كأن رياض القف ألبسها ... من وشي عبقر تجليل وتنجيد
وقرأ الأعرج: «خضر» بضم الضاد. وقرأ جمهور الناس: «ذي الجلال» على اتباع الرب. وقرأ ابن عامر وأهل الشام. «ذو» على اتباع الاسم، وكذلك في الأول، وفي حرف أبيّ وابن مسعود، «ذي الجلال» في الموضعين، وهذا الموضع مما أريد فيه بالاسم مسماه.
والدعاء بهاتين الكلمتين حسن مرجو الإجابة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» .
نجز تفسير سورة الرحمن: وصلى الله على مولانا محمد سيد ولد عدنان.

(5/237)