تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الواقعة
وهي مكية بإجماع ممن يعتد بقوله من المفسرين. وقيل إن فيها آيات مدنية، أو مما نزل في السفر، وهذا كله غير ثابت. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من داوم على سورة الواقعة لم يفتقر أبدا» . ودعا عثمان بن مسعود إلى عطائه، فأبى أن يأخذ. فقيل له: خذ للعليا، فقال: إنهم يقرؤون سورة الواقعة، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأها لم يفتقر أبدا» .
قال القاضي أبو محمد: فيها ذكر القيامة، وحظوظ النفس في الآخرة، وفهم ذلك غنى لا فقر معه، ومن فهمه شغل بالاستعداد.
قوله عز وجل:

[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
الْواقِعَةُ: اسم من أسماء القيامة ك الصَّاعِقَةُ [البقرة: 55، النساء: 153] والْآزِفَةِ [غافر: 18، النجم: 57] والطَّامَّةُ [النازعات: 34] قاله ابن عباس، وهذه كلها أسماء تقتضي تعظيمها وتشنيع أمرها. وقال الضحاك: الْواقِعَةُ: الصيحة وهي النفخة في الصور. وقال بعض المفسرين: الْواقِعَةُ: صخرة بيت المقدس، تقع عند القيامة، فهذه كلها معان لأجل القيامة.
و: كاذِبَةٌ يحتمل أن يكون مصدرا كالعاقبة والعافية وخائنة الأعين. فالمعنى ليس لها تكذيب ولا رد مثنوية، وهذا قول قتادة والحسن ويحتمل أن يكون صفة لمقدر، كأنه قال: لَيْسَ لِوَقْعَتِها حال كاذِبَةٌ، ويحتمل الكلام على هذا معنيين: أحدهما كاذِبَةٌ، أي مكذوب فيما أخبر به عنها فسماها كاذِبَةٌ بهذا، كما تقول هذه قصة كاذبة أي مكذوب فيها، والثاني حالة كاذبة أي لا يمضي وقوعها، كما تقول: فلان إذا حمل لم يكذب.
وقوله: خافِضَةٌ رافِعَةٌ رفع على خبر ابتداء، أي هي خافِضَةٌ رافِعَةٌ.

(5/238)


وقرأ الحسن وعيسى الثقفي وأبو حيوة: «خافضة رافعة» بالنصب على الحال بعد الحال التي هي لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ ولك أن تتابع الأحوال. كما لك أن تتابع أخبار المبتدأ، والقراءة الأولى أشهر وأبرع معنى، وذلك أن موقع الحال من الكلام موقع ما لم يذكر لاستغني عنه وموقع الجمل التي يجزم الخبر بها موقع ما يتهمم به.
واختلف الناس في معنى هذا الخفض والرفع في هذه الآية، فقال قتادة وعثمان بن عبد الله بن سراقة: القيامة تخفض أقواما إلى النار، وترفع أقواما إلى النار، وترفع أقواما إلى الجنة. وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك: الصيحة تخفض قوتها لتسمع الأدنى وترفعها لتسمع الأقصى. وقال جمهور من المتأولين: القيامة بتفطر السماء والأرض والجبال انهدام هذه البنية، ترفع طائفة من الأجرام وتخفض أخرى، فكأنها عبارة عن شدة الهول والاضطراب، والعامل في قوله: إِذا رُجَّتِ، وَقَعَتِ، لأن إِذا هذه بدل من إِذا الأولى، وقد قالوا: إن وَقَعَتِ هو العامل في الأولى، وذلك لأن معنى الشرط فيها قوي، فهي ك «من» و «ما» في الشرط، يعمل فيها ما بعدها من الأفعال، وقد قيل إن إِذا مضافة إلى وَقَعَتِ فلا يصح أن يعمل فيها، وإنما العامل فيها فعل مقدر. ومعنى: رُجَّتِ زلزلت وحركت بعنف، قاله ابن عباس، ومنه ارتج السهم في الغرض إذا اضطرب بعد وقوعه، والرجة في الناس الأمر المحرك.
واختلف اللغويون في معنى: بُسَّتِ فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة معناه: فتتت، كما تبس البسيسة وهي السويق، ويقال بسست الدقيق إذا ثريته بالماء وبقي مفتتا، وأنشد الطبري في هذا: [الرجز] لا تخبزا خبزا وبسّا بسّا وقال هذا قول لص أعجله الخوف عن العجين، فقال لصاحبه هذا. وقال بعض اللغويين: بُسَّتِ معناه سيرت قالوا والخبز سير الشديد وضرب الأرض بالأيدي، والبس: السير الرفيق، وأنشد البيت:
[الرجز]
لا تخبزا خبزا وبسّا بسّا ... وجنباها نهشلا وعبسا
ولا تطيلا بمناخ حبسا ذكر هذا أبو عثمان اللغوي في كتابه في الأفعال.
و «الهباء» : ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة، ولا يكاد يرى إلا في الشمس إذا دخلت من كوة، قاله ابن عباس ومجاهد. وقال قتادة: الهباء: ما تطاير من يبس النبات. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه الهباء: ما تطاير من حوافر الخيل والدواب. وقال ابن عباس أيضا، الهباء: ما تطاير من شرر النار، فإذا طفي لم يوجد شيئا. والمنبث: بالتاء المثلثة، الشائع في جميع الهواء.
وقرأ النخعي: «منبتا» بالتاء بنقطتين، أي متقطعا، ذكر ذلك الثعلبي.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول في هباء أحسن الأقوال.

(5/239)


ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)

والخطاب في قوله: وَكُنْتُمْ لجميع العالم، لأن الموصوفين من أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ليسوا في أمة محمد، والأزواج: الأنواع والضروب. قال قتادة: هذه منازل الناس يوم القيامة.
وقوله تعالى: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ابتداء، و: ما ابتداء ثان. و: أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ خبرها، والجملة خبر الابتداء الأول، وفي الكلام معنى التعظيم، كما تقول زيد ما زيد، ونظير هذا في القرآن كثير، والْمَيْمَنَةِ: أظهر ما في اشتقاقها أنها من ناحية اليمين، وقيل من اليمن، وكذلك الْمَشْئَمَةِ إما أن تكون من اليد الشؤمى، وإما أن تكون من الشؤم، وقد فسرت هذه الآية بهذين المعنيين، إذ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ الميامين على أنفسهم، قاله الحسن والربيع، ويشبه أن اليمن والشؤم إنما اشتقا من اليمنى والشؤمى وذلك على طريقهم في السانح والبارح، وكذلك اليمن والشؤم اشتقا من اليمنى والشؤمى.
وقوله: وَالسَّابِقُونَ ابتداء و: السَّابِقُونَ الثاني. قال بعض النحويين: هو نعت للأول، ومذهب سيبويه أنه خبر الابتداء، وهذا كما تقول العرب: الناس الناس، وأنت أنت، وهذا على معنى تفخيم أمر وتعظيمه، ومعنى الصفة هو أن تقول: وَالسَّابِقُونَ إلى الإيمان السَّابِقُونَ إلى الجنة والرحمة أُولئِكَ، ويتجه هذا المعنى على الابتداء والخبر.
وقوله: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ابتداء وخبر، وهو في موضع الخبر على قول من قال: السَّابِقُونَ الثاني صفة، و: الْمُقَرَّبُونَ معناه من الله في جنة عدن. قال جماعة من أهل العلم: وهذه الآية متضمنة أن العالم يوم القيامة على ثلاثة أصناف: مؤمنون، هم على يمين العرش، وهنالك هي الجنة، وكافرون، هم على شؤمى العرش، وهنالك هي النار. والقول في يمين العرش وشماله نحو من الذي هو في سورة الكهف في اليمين والشمال. وقد قيل في أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ واليمين: إنهم من أخذ كتابه بيمينه، وفي أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ والشمال: إنهم من أخذه بشماله، فعلى هذا ليست نسبة اليمين والشمال إلى العرش. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أصحاب اليمين أطفال المؤمنين، وقيل المراد ميمنة آدم ومشأمته المذكورتان في حديث الإسراء في الأسودة.
و: السَّابِقُونَ معناه: قد سبقت لهم السعادة، وكانت أعمالهم في الدنيا سبقا إلى أعمال البر وإلى ترك المعاصي، فهذا عموم في جميع الناس. وخصص المفسرون في هذا أشياء، فقال عثمان بن أبي سودة: هم السَّابِقُونَ إلى المساجد. وقال ابن سيرين: هم الذين صلوا القبلتين. وقال كعب: هم أهل القرآن، وقيل غير هذا مما هو جزء من الأعمال الصالحة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم وسئل عن السابقين، فقال: «هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوا بذلوه، وحكموا للناس بحكمهم لأنفسهم» .
وقرأ طلحة بن مصرف: «في جنة النعيم» على الإفراد. و: الْمُقَرَّبُونَ عبارة عن أعلى منازل البشر في الآخرة، وقيل لعامر بن عبد قيس في يوم حلبة من سبق فقال الْمُقَرَّبُونَ.
قوله عز وجل:

[سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 26]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22)
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)

(5/240)


الثلة: الجماعة والفرقة، وهو يقع للقليل والكثير، واللفظ في هذا الموضوع يعطي أن الجملة مِنَ الْأَوَّلِينَ أكثر من الجملة مِنَ الْآخِرِينَ، وهي التي عبر عنها بالقليل.
واختلف المتأولون في معنى ذلك، فقال قوم حكى قولهم مكي: المراد بذلك الأنبياء، لأنهم كانوا في صدر الدنيا أكثر عددا، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: المراد السابقون من الأمم والسابقون من الأمة، وذلك إما أن يقترن أصحاب الأنبياء بجموعهم إلى أصحاب محمد، فأولئك أكثر لا محالة، وإما أن يقترن أصحاب الأنبياء ومن سبق في أثناء الأمم إلى السابقين من جميع هذه الأمة فأولئك أكثر. وروي أن الصحابة حزنوا لقلة سابق هذه الأمة على هذا التأويل فنزلت: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة: 39- 40] فرضوا. وروي عن عائشة أنها تأولت أن الفرقتين في أمة كل نبي وهي في الصدر ثُلَّةٌ وفي آخر الأمة قَلِيلٌ. وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: «الفرقتان في أمتي فسابق أول الأمة ثُلَّةٌ وسابق سائرها إلى يوم القيامة قَلِيلٌ» .
وقرأ الجمهور: «سرر» بضم الراء. وقرأ أبو السمال: «سرر» بفتح الراء.
والموضونة: المنسوجة بتركيب بعض أجزائها على بعض كحلف الدرع، فإن الدرع موضونة، ومنه قول الأعشى: [المتقارب]
ومن نسج داود موضونة ... تسير مع الحي عيرا فعيرا
وكذلك سفيفة الخوص ونحوه مَوْضُونَةٍ، ومنه وضين الناقة وهو حزامها، لأنه موضون، فهو كقتيل وجريح، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
إليك تعدو قلقا وضينها ... معترضا في بطنها جنينها
مخالفا دين النصارى دينها قال ابن عباس: هذه السرر الموضونة هي المرمولة بالذهب، وقال عكرمة: هي مشبكة بالدر والياقوت. و: مُتَّكِئِينَ و: مُتَقابِلِينَ حالان فيهما ضمير مرفوع، وفي مصحف عبد الله بن مسعود:
«متكئين عليها ناعمين» . والولدان: صغار الخدم، عبارة عن أنهم صغار الأسنان، ووصفهم بالخلد وإن كان جميع ما في الجنة كذلك إشارة إلى أنهم في حال الولدان مُخَلَّدُونَ لا تكبر بهم سن. وقال مجاهد: لا يموتون. قال الفراء: مُخَلَّدُونَ معناه مقرطون بالخلدات، وهي ضرب من الأقراط، والأول أصوب، لأن العرب تقول للذي كبر ولم يشب: إنه لمخلد. والأكواب: ما كان من أواني الشرب لا أذن له ولا خرطوم، قال ابن عباس: هي جرار من فضة. وقال أبو صالح: مستديرة أفواهها. وقال قتادة والضحاك:

(5/241)


ليست لها عرى، والإبريق ما له خرطوم، وقال مجاهد وأذن، وهو من أواني الخمر عند العرب، ومنه قول عدي بن زيد: [الخفيف]
وتداعوا إلى الصبوح فقامت ... قينة في يمينها إبريق
والكأس: الآنية المعدة للشرب بها بشريطة أن يكون فيها خمر أو نبيذ أو ما هو سبيل ذلك، ومتى كان فارغا فينسب إلى جنسه زجاجا كان أو غيره، ولا يقال الآنية فيها ماء ولبن كأس.
وقوله: مِنْ مَعِينٍ قال ابن عباس معناه: من خمر سائلة جارية معينة. ولفظة مَعِينٍ يحتمل أن يكون من معن الماء إذا غزر، فوزنها فعيل ويحتمل أن تكون من العين الجارية أو من الباصرة، فوزنها مفعول أصلها معيون، وهذا تأويل قتادة.
وقوله: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها ذهب أكثر المفسرين إلى أن المعنى: لا يلحق رؤوسهم الصداع الذي يلحق من خمر الدنيا، وقال قوم معناه: لا يفرقون عنها، بمعنى لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأسباب كما يفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق، وهذا كما قال: «فتصدع السحاب عن المدينة» الحديث.
وقوله: وَلا يُنْزِفُونَ قال مجاهد وقتادة وابن جبير والضحاك معناه: لا تذهب عقولهم سكرا، والنزيف: السكران، ومنه قول الشاعر: [الكامل] شرب النزيف ببرد ماء الحشرج وقرأ ابن أبي إسحاق: «ولا ينزفون» بكسر الزاي وفتح الياء، من نزف البئر إذا استقى ماءها، فهي بمعنى تم خمرهم ونفدت، هكذا قال أبو الفتح. وحكى أبو حاتم عن ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش وطلحة وابن مسعود وأبي عبد الرحمن وعيسى: بضم الياء وكسر الزاي. قال معناه: لا يفني شرابهم، والعرب تقول: أنزف الرجل عبرته، وتقول أيضا، أنزف: إذا سكر، ومنه قول الأبيرد: [الطويل]
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبيس الندامى أنتم آل أبجرا
وعطف الفاكهة على الكأس والأباريق.
وقوله: مِمَّا يَشْتَهُونَ روي فيه أن العبد يرى الطائر يطير فيشتهيه فينزل له كما اشتهاه، وربما أكل منه ألوانا بحسب تصرف شهوته، إلى كثير مما روي في هذا المعنى.
وقرأ حمزة والكسائي والمفضل عن عاصم: «وحور عين» بالخفض، وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن والأعمش وأبي القعقاع وعمرو بن عبيد. وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود: «وحورا عينا» بالنصب. وقرأ الباقون من السبعة: «وحور عين» بالرفع، وكل هذه القراءات محمولة الإعراب على المعنى لا على اللفظ. كأن المعنى قبل ينعمون بهذا كله وب «حور عين» ، وهذا المعنى في قراءة النصب ويعطون هذا كله «وحورا عينا» ، وكان المعنى في الرفع: لهم هذا كله «وحور عين» ، ويجوز أن يعطف: وَحُورٌ على الضمير في: مُتَّكِئِينَ. قال أبو علي: ولم يؤكد لكون الكلام بدلا من التأكيد، ويجوز أن يعطف

(5/242)


وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)

على الولدان وإن كان طواف الحور يقلق، ويجوز أن يعطف على الضمير المقدر في قوله: عَلى سُرُرٍ وفي هذا كله نظر، وقد تقدم معنى: حُورٌ عِينٌ.
وقرأ إبراهيم النخعي: «وحير عين» .
وخص الْمَكْنُونِ من اللُّؤْلُؤِ لأنه أصفى لونا وأبعد عن الغير، وسألت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التشبيه فقال: «صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لا تمسه الأيدي» .
و: جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي هذه الرتب والنعم هي لهم بحسب أعمالهم، لأنه روي أن المنازل والقسم في الجنة، هي مقتسمة على قدر الأعمال، ونفس دخول الجنة هو برحمة الله وفضله لا بعمل عامل، فأما هذا الفضل الأخير أن دخولها ليس بعمل عامل، ففيه حديث صحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل أحد الجنة بعمله» ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة» .
واللغو: سقط القول من فحش وغيره. والتأثيم: مصدر، بمعنى: لا يؤثم أحد هناك غيره ولا نفسه بقول. فكان يسمع ويتألم بسماعه. و: قِيلًا مستثنى، والاستثناء متصل، وقال قوم: هو منقطع.
و: سَلاماً نعت للقيل، كأنه قال: إلا قِيلًا سالما من هذه العيوب وغيرها. وقال أبو إسحاق الزجاج أيضا: سَلاماً مصدر، وناصبه قِيلًا كأنه يذكر أنهم يقول بعضهم لبعض سَلاماً سَلاماً. وقال بعض النحاة سَلاماً منتصب بفعل مضمر تقديره: أسلموا سلاما.
قوله عز وجل:

[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
السدر: شجر معروف، وهو الذي يقال له شجر أم غيلان، وهو من العضاه، له شوك، وفي الجنة شجر على خلقته، له ثمر كقلال هجر، طيب الطعم والريح، وصفه تعالى بأنه مَخْضُودٍ، أي مقطوع الشوك، لا أذى فيه، وقال أمية بن أبي الصلت:
إن الحدائق في الجنان ظليلة ... فيها الكواعب سدرها مخضود
وعبر بعض المفسرين عن مَخْضُودٍ بأنه الموقر حملا، وقال بعضهم: هو قطع الشوك، وهو الصواب، أما إن وقره هو كرمه، وروي عن الضحاك أن بعض الصحابة أعجبهم سدروج فقالوا: ليتنا في الآخرة في مثل هذا، فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد: ولأهل تحرير النظر هنا إشارة في أن هذا الخضد بإزاء أعمالهم التي سلموا

(5/243)


منها، إذ أهل اليمين توابون لهم سلام وليسوا بسابقين. والطلح كذلك من العضاه شجر عظام كثير الشوك وشبهه في الجنة على صفات مباينة لحال الدنيا. و: مَنْضُودٍ معناه مركب ثمره بعضه على بعض من أرضه إلى أعلاه.
وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجعفر بن محمد وغيره: «طلع منضود» ، فقيل لعلي إنما هو:
طَلْحٍ. فقال: ما للطلح وللجنة؟ فقيل له أنصلحها في المصحف فقال: إن المصحف اليوم لا يهاج ولا يغير. وقال علي بن أبي طالب وابن عباس: الطلح: الموز، وقاله مجاهد وعطاء. وقال الحسن: ليس بالموز، ولكنه شجر ظله بارد رطب. والظل الممدود، معناه: الذي لا تنسخه شمس، وتفسير ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة لا يقطعها، واقرؤوا إن شئتم: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» إلى غير هذا من الأحاديث في هذا المعنى. وقال مجاهد: هذا الظل هو من طلحها وسدرها.
وقوله تعالى: وَماءٍ مَسْكُوبٍ أي جار في غير أخاديد، قاله سفيان وغيره، وقيل المعنى: يناسب.
لا تعب فيه بسانية ولا رشاء.
وقوله تعالى: لا مَقْطُوعَةٍ أي بزوال الإبان، كحال فاكهة الدنيا، وَلا مَمْنُوعَةٍ ببعد التناول ولا بشوك يؤذي في شجراتها ولا بوجه من الوجوه التي تمتنع بها فاكهة الدنيا.
وقرأ جمهور الناس: «وفرش» بضم الراء. وقرأ أبو حيوة: «وفرش» بسكونها، والفرش: الأسرة، وروي من طريف أبي سعيد الخدري: أن في ارتفاع السرير منها خمسمائة سنة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا والله أعلم لا يثبت، وإن قدر فمتأولا خارجا عن ظاهره. وقال أبو عبيدة وغيره: أراد بالفرش النساء.
و: مَرْفُوعَةٍ معناه: في الأقدار والمنازل، ومن هذا المعنى قول الشاعر [عمرو بن الأهتم التميمي] : [البسيط]
ظللت مفترش الهلباء تشتمني ... عند الرسول فلم تصدق ولم تصب
ومنه قول الآخر في تعديد على صهره:
وأفرشتك كريمتي وقوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً قال قتادة: الضمير عائد على الحور العين المذكورات قبل وهذا فيه بعد، لأن تلك القصة قد انقضت جملة. وقال أبو عبيدة معمر: قد ذكرهن في قوله: فُرُشٍ فلذلك رد الضمير وإن لم يتقدم ذكر لدلالة المعنى على المقصد، وهذا كقوله تعالى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] ونحوه: و: أَنْشَأْناهُنَّ معناه: خلقناهن شيئا بعد شيء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية: «عجائز كن في الدنيا عمشا رمصا» ، وقال لعجوز: «إن الجنة لا يدخلها العجز» ، فحزنت، فقال: «إنك إذا دخلت الجنة أنشئت خلقا آخر» .

(5/244)


وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)

وقوله تعالى: فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً قيل معناه: دائمات البكارة متى عاود الواطئ وجدها بكرا.
والعرب جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها بإظهار محبته، قاله ابن عباس والحسن، وعبر عنهم ابن عباس أيضا بالعواشق، ومنه قول لبيد:
وفي الحدوج عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشى دونها البصر
وقال ابن زيد العروب: الحسنة الكلام، وقد تجيء العروب صفة ذم على غير هذا المعنى وهي الفاسدة الأخلاق كأنها عربت ومنه قول الشاعر [ابن الأعرابي] : [الطويل]
وما بدل من أم عثمان سلفع ... من السود ورهاء العنان عروب
وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي: «عربا» بضم الراء. وقرأ حمزة والحسن والأعمش: «عربا» بسكونها وهي لغة بني تميم، واختلف عن نافع وأبي عمرو وعاصم.
وقوله: أَتْراباً معناه في الشكل والقد حتى يقول الرائي هم أتراب، والترب هو الذي مس التراب مع تربه في وقت واحد. قال قتادة: أَتْراباً يعني سنا واحدة، ويروى أن أهل الجنة على قد ابن أربعة عشر عاما في الشباب والنضرة، وقيل على مثال أبناء ثلاث وثلاثين سنة مردا بيضا مكحلين.
واختلف الناس في قوله: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره، الأولون: سالف الأمم، منهم جماعة عظيمة أصحاب يمين، والآخرون: هم هذه الأمة، منهم جماعة عظيمة أهل يمين.
قال القاضي أبو محمد: بل جميعهم إلا من كان من السابقين. وقال قوم من المتأولين: هاتان الفرقتان في أمة محمد، وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الثلثان من أمتي» فعلى هذا التابعون بإحسان ومن جرى مجراهم ثلة أولى، وسائر الأمة ثلة أخرى في آخر الزمان.
وقوله عز وجل:

[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 50]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
إعراب قوله: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ قد تقدم نظيره. وفي الكلام هنا معنى الإنحاء عليهم وتعظيم مصابهم. والسموم: أشد ما يكون من الحر اليابس الذي لا بلل معه. والحميم:
السخن جدا من المائع الذي في جهنم، والعرب تقول للماء السخن حميما. واليحموم: الأسود وهو بناء مبالغة.

(5/245)


واختلف الناس في هذا الشيء الأسود الذي يظل أهل النار ما هو فقال ابن عباس ومجاهد وأبو مالك وابن زيد هو الدخان، وهذا قول الجمهور. وقال ابن عباس أيضا: هو سرادق النار المحيط بأهلها، فإنه يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم، وحكى النقاش، أن اليحموم: اسم من أسماء جهنم، وقاله ابن كيسان، وقال ابن بريدة وابن زيد أيضا في كتاب الثعلبي: هو جبل من نار أسود يفزع أهل النار إلى ذراه فيجدونه أشد شيء وأمره.
وقوله: وَلا كَرِيمٍ قال الطبري وغيره معناه: ليس له صفة مدح في الظلال، وهذا كما تقول: ثوب كريم ونسب كريم، يعني بذلك أن له صفات مدح.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يصفه بعدم الكرم على معنى: ألا كرامة لهم، وذلك أن المرء في الدنيا قد يصبر على سوء الموضوع لقرينة إكرام يناله فيه من أحد، فجمع هذا الظل في النار أنه سييء الصفة وهم فيه مهانون. والمترف: المنعم في سرف وتخوض.
ويُصِرُّونَ معناه: يعتقدون اعتقادا لا ينوون عنه إقلاعا، قال ابن زيد: لا يثوبون ولا يستغفرون.
والْحِنْثِ: الإثم ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات له ثلاث من الولد لم يبلغوا الحنث» .
الحديث، أراد: لم يبلغوا الحلم فتتعلق بهم الآثام. وقال الخطابي: الْحِنْثِ في كلام العرب العدل الثقيل، شبه الإثم به.
واختلف المفسرون في المراد بهذا الإثم هنا، فقال قتادة والضحاك وابن زيد: هو الشرك، وهذا هو الظاهر. وقال قوم في ما ذكر مكي: هو الحنث في قسمهم الذي يتضمنه قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ [الأنعام: 109، النحل: 38، النور: 53، فاطر: 42] الآية في التكذيب بالبعث، وهذا أيضا يتضمن الكفر، فالقول به على عمومه أولى. وقال الشعبي: الْحِنْثِ الْعَظِيمِ: اليمين الغموس.
وقد تقدم ذكر اختلاف القراء في قوله: أَإِذا، وإِنَّا، ويختص من ذلك بهذا الموضع أن ابن عامر يخالف فيه أصله فيقرأ هذا: «أئذا» . «أإنا» بتحقيق الهمزتين فيهما على الاستفهام، ورواه أبو بكر عن عاصم في قوله: إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ والعامل في قوله: أَإِذا فعل مضمر يدل عليه قوله: لَمَبْعُوثُونَ تقديره: أنبعث أو نحشر، ولا يعمل فيه ما بعده لأنه مضاف إليه.
وقرأ عيسى الثقفي: «متنا» بضم الميم، وقرأ جمهور الناس: «متنا» بكسرها وهذا على لغة من يقول:
مت أموت على وزن فعل بكسر العين يفعل بضمها، ولم يحك منها عن العرب إلا هذه اللفظة وأخرى هو فضل يفضل.
وقرأ بعض القراء: «أو» بسكون الواو ومعنى الآية استبعاد أن يبعثوا هم وآباؤهم على حد واحد من الاستبعاد وقرأ الجمهور: «أو آباؤنا» بتحريك الواو على أنها واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام، ومعناها: شدة الاستبعاد في الآباء، كأنهم استبعدوا أن يبعثوا، ثم أتوا بذكر من البعث فيهم أبعد وهذا بين لأهل العلم بلسان العرب.

(5/246)


ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)

ثم أمر الله تعالى نبيه أن يعلمهم بأن العالم محشور مبعوث ل يَوْمٍ مَعْلُومٍ موقت ومِيقاتِ:
مفعال من الوقت، كميعاد من الوعد.
وقوله عز وجل:

[سورة الواقعة (56) : الآيات 51 الى 62]
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62)
وقوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ مخاطبة لكفار قريش ومن كان في حالهم، ومِنْ في قوله: مِنْ شَجَرٍ يحتمل أن تكون للتبعيض ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية، ومِنْ في قوله: مِنْ زَقُّومٍ لبيان الجنس، والضمير في: مِنْهَا عائد على الشجر، و «من» للتبعيض أو لابتداء الغاية، والضمير في: عَلَيْهِ عائد على المأكول أو على الأكل. وفي قراءة ابن مسعود «لآكلون من شجر» على الإفراد.
و: الْهِيمِ قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك: هو جمع أهيم، وهو الجمل الذي أصابه الهيام، بضم الهاء، وهو داء معطش يشرب معه الجمل حتى يموت أو يسقهم سقما شديدا، والأنثى:
هيماء. وقال بعضهم: هو جمع هيماء كبيض وعين، وقال قوم آخرون: هو جمع هائم وهائمة، وهذا أيضا من هذا المعنى، لأن الجمل إذا أصابه ذلك الداء هام على وجهه وذهب، وقال سفيان الثوري وابن عباس:
الْهِيمِ هنا الرمال التي لا تروى من الماء، وذلك أن الهيام بفتح الهاء هو الرمل الدق الغمر المتراكم، وقال ثعلب. الهيام: بضم الهاء: الرمل الذي لا يتماسك.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو والكسائي: «شرب» بفتح الشين، وهي قراءة الأعرج وابن المسيب وشعيب بن الحبحاب ومالك بن دينار وابن جريج، ولا خلاف أنه مصدر، وقرأ مجاهد: «شرب» بكسر الشين، ولا خلاف أنه اسم، وقرأ أهل المدينة وباقي السبعة: «شرب» ، بضم الشين، واختلف فيه، فقال قوم وهو مصدر، وقال آخرون هم اسم لما يشرب.
والنزل: أول ما يأكل الضيف. وقرأ عمرو في رواية عباس: «نزلهم» ساكنة الزاي، وقرأ الباقون واليزيدي عن أبي عمرو بضم الزاي وهما لمعنى كالشغل والشغل. و: الدِّينِ الجزاء.
ثم أخبر تعالى أنه الخالق، وحضض على التصديق على وجه التقريع ثم ساق الحجة الموجبة للتصديق، كان معترضا من الكفار قال: ولم أصدق؟ فقيل له: أفرأيت كذا وكذا الآيات، وليس يوجد مفطور يخفى عنه أن المني الذي يخرج منه ليس له فيه عمل ولا إرادة ولا قدرة. وأَمْ في قوله: أَمْ نَحْنُ ليست المعادلة عند سيبويه، لأن الفعل قد تكرر، وإنما المعادلة عنده: أقام زيد أم عمرو، وهذه

(5/247)


أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)

التي في هذه الآية معادلة عند قوم من النحاة، وأما إذا تغاير الفعلان فليست بمعادلة إجماعا.
وقرأ الجمهور: «تمنون» بضم التاء، وقرأ ابن عباس وأبو السمال «تمنون» بفتح التاء، ويقال أمنى الرجل ومنى بمعنى واحد.
وقرأ جمهور القراء: «قدّرنا» بشد الدال. وقرأ كثير وحده: «قدرنا» بتخفيفها. والمعنى فيها يحتمل أن يكون بمعنى قضينا وأثبتنا، ويحتمل أن يكون بمعنى سوينا، وعدلنا التقدم والتأخر، أي جعلنا الموت رتبا، ليس يموت العالم دفعة واحدة، بل بترتيب لا يعدوه أحد.
وقال الطبري معنى الآية: «قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم» أي تموت طائفة ونبدلها بطائفة، هكذا قرنا بعد قرن.
وقوله: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ على تبديلكم إن أردناه وإن ننشئكم بأوصاف لا يصلها عملكم ولا يحيط بها كفركم. قال الحسن: من كونكم قردة وخنازير.
قال القاضي أبو محمد: تأول الحسن هذا، لأن الآية تنحو إلى الوعيد، وجاءت لفظة «السبق» هنا على نحو قوله عليه السلام: «فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا لا تفوتنكم» .
وقرأ جمهور الناس: «النشأة» بسكون الشين. وقرأ قتادة وأبو الأشهب وأبو عمرو بخلاف «النشأة» بفتح الشين والمد. وقال أكثر المفسرين: أشار إلى خلق آدم ووقف عليه، لأنه لا تجد أحدا ينكر أنه من ولد آدم وأنه من طين. وقال بعضهم: أراد ب النَّشْأَةَ الْأُولى نشأة إنسان إنسان في طفوليته فيعلم المرء نشأته كيف كانت بما يرى من نشأة غيره، ثم حضض على التذكر والنظر المؤدي إلى الإيمان.
وقرأ الجمهور: «تذكرون» مشددة الذال. وقرأ طلحة: «تذكرون» بسكون الذال وضم الكاف، وهذه الآية نص في استعمال القياس والحض عليه.
قوله عز وجل:

[سورة الواقعة (56) : الآيات 63 الى 74]
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72)
نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
وقف تعالى الكفار على أمر الزرع الذي هو قوام العيش، وبين لكل مفطور أن الحراث الذي يثير الأرض ويفرق الحب ليس يفعل في نبات الزرع شيء، وقد يسمى الإنسان زارعا، ومنه قوله عز وجل:

(5/248)


يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ [الفتح: 29] لكن معنى هذه الآية: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ زرعا يتم أَمْ نَحْنُ. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقولن زرعت، ولكن قل حرثت» ، ثم تلا أبو هريرة هذه الآية.
والحطام: اليابس المتفتت من النبات الصائر إلى ذهاب، وبه شبه حطام الدنيا. وقيل المعنى: نبتا لا قمح فيه و: تَفَكَّهُونَ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة معناه: تعجبون، وقال عكرمة: تلامون. وقال الحسن معناه: تندمون وقال ابن زيد: تتفجهون، وهذا كله تفسير لا يخص اللفظة، والذي يخص اللفظ، هو: تطرحون الفاكهة عن أنفسكم وهي المسرة والجدل، ورجل فكه إذا كان منبسط النفس غير مكترث بالشيء، وتفكه من أخوات تحرج وتحوب.
وقرأ الجمهور: «فظلتم» بفتح الظاء، وروى سفيان الثوري في قراءة عبد الله كسر الظاء. قال أبو حاتم: طرحت عليها حركة اللام المجزومة، وذلك رديء في القياس، وهي قراءة أبو حيوة. وروى أحمد بن موسى: «فظللتم» بلامين، الأولى مفتوحة عن الجحدري، ورويت عن ابن مسعود، بكسر اللام الأولى.
وقوله: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ قبله حذف تقديره: يقولون.
وقرأ الأعمش وعاصم الجحدري: «أإنا لمغرمون» بهمزتين على الاستفهام، والمعنى يحتمل أن يكون إنا لمعذبون من الغرام وهو أشد العذاب ومنه قوله تعالى: إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً [الفرقان: 65] ومنه قول الأعشى: [الخفيف]
إن يعذّب يكن غراما وإن يع ... ط جزيلا فإنه لا يبالي
ويحتمل أن يكون: إنا لمحملون الغرم أي غرمنا في النفقة وذهب زرعنا، تقول: غرم الرجل وأغرمته فهو مغرم. وقد تقدم تفسير المحروم وأنه المحدود والمحارب. و: الْمُزْنِ السحاب بلا خلاف، ومنه قول الشاعر [السموأل بن عاديا اليهودي] : [الطويل]
ونحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعد بخيل
والأجاج: أشد المياه ملوحة، وهو ماء البحر الأخضر. و: تُورُونَ معناه: تقتدحون من الأزند، تقول أوريت النار من الزناد. وروى الزناد نفسه، والزناد قد يكون من حجرين ومن حجر وحديدة ومن شجر، لا سيما في بلاد العرب، ولا سيما في الشجر الرخو كالمرخ والعفار والكلح وما أشبهه، ولعادة العرب في أزنادهم من شجر، قال تعالى: أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها وقال بعض أهل النظر: أراد بالشجرة نفس النار، وكأنه يقول نوعها أو جنسها فاستعار الشجرة لذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول فيه تكلف.
وقرأ الجمهور: «آنتم» بالمد، وروي عن أبي عمرو وعيسى: «أنتم» بغير مد، وضعفها أبو حاتم.
و: تَذْكِرَةً معناه: تذكر نار جهنم، قاله مجاهد وقتادة. والمتاع: ما ينتفع به. والمقوي في هذه

(5/249)


فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)

الآية: الكائن في الأرض القواء وهي الفيافي، وعبر الناس في تفسير «المقوين» بأشياء ضعيفة، كقول ابن زيد للجائعين ونحوه.
ولا يقوى منها ما ذكرناه، ومن قال معناه: للمسافرين، فهو نحو ما قلناه، وهي عبارة ابن عباس رضي الله عنه تقول: أصبح الرجل، دخل في الصباح. وأصحر دخل في الصحراء، وأقوى دخل في الأرض القواء، ومنه أقوت الدار، وأقوى الطلل: أي صار قواء، ومنه قول النابغة: [البسيط] أقوت وطال عليها سالف الأبد وقول الآخر: [الكامل] أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم والفقير والغني إذا أقوى سواء في الحاجة إلى النار، ولا شيء يغني غناءها في الصرد، ومن قال: إن أقوى من الأضداد من حيث يقال: أقوى الرجل إذا قويت دابته فقد أخطأ وذلك فعل آخر كأترب إذا أترب، ثم أمر نبيه بتنزيه ربه تعالى وتبرئة أسمائه العلى عما يقوله الكفرة الذين حجوا في هذه الآيات.
قوله عز وجل:

[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 87]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87)
اختلف الناس في: «لا» ، من قوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ فقال بعض النحويين: هي زائدة والمعنى فأقسم، وزيادتها في بعض المواضع معروف كقوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: 29] وغير ذلك، وقال سعيد بن جبير وبعض النحويين: هي نافية، كأنه قال: فَلا صحة لما يقوله الكفار، ثم ابتدأ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وقال بعض المتأولين هي مؤكدة تعطي في القسم مبالغة ما، وهي كاستفتاح كلام مشبه في القسم ألا في شائع الكلام القسم وغيره، ومن هذا قول الشاعر:
[الطويل] «فلا وأبي أعدائها لا أخونها» والمعنى: فو أبي اعدائها، ولهذا نظائر.
وقرأ الحسن والثقفي: «فلأقسم» بغير ألف، قال أبو الفتح، التقدير: فلأنا أقسم.
وقرأ الجمهور من القراء «بمواقع» على الجمع، وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وابن مسعود وأهل

(5/250)


الكوفة وحمزة والكسائي: «بموقع» على الإفراد، وهو مراد به الجمع، ونظير هذا كثير، ومنه قوله تعالى:
إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان: 19] جمع من حيث لكل حمار صوت مختص وأفرد من حيث الأصوات كلها نوع.
واختلف الناس في: النُّجُومِ هنا، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم: هي نجوم القرآن التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه روي أن القرآن نزل من عند الله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، وقيل إلى البيت المعمور جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك على محمد نجوما مقطعة في مدة من عشرين سنة.
قال القاضي أبو محمد: ويؤيد هذا القول عود الضمير على القرآن في قوله: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، وذلك أن ذكره لم يتقدم إلا على هذا التأويل، ومن لا يتأول بهذا التأويل يقول: إن الضمير يعود على القرآن وإن لم يتقدم ذكر لشهرة الأمر ووضوح المعنى كقوله تعالى: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] ، وكُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] وغير ذلك. وقال جمهور كثير من المفسرين: النُّجُومِ هنا: الكواكب المعروفة. واختلف في موقعها، فقال مجاهد وأبو عبيدة هي: مواقعها عند غروبها وطلوعها، وقال قتادة:
مواقعها مواضعها من السماء، وقيل: مواقعها عند الانقضاض إثر العفاريت، وقال الحسن: مواقعها عند الانكدار يوم القيامة.
وقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ تأكيد للأمر وتنبيه من المقسم به، وليس هذا باعتراض بين الكلامين، بل هذا معنى قصد التهمم به، وإنما الاعتراض قوله: لَوْ تَعْلَمُونَ وقد قال قوم: إن قوله: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ اعتراض، وإن لَوْ تَعْلَمُونَ اعتراض في اعتراض، والتحرير هو الذي ذكرناه.
وقوله: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ هو الذي وقع القسم عليه، ووصفه بالكرم على معنى إثبات صفات المدح له ودفع صفات الحطيطة عنه.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ بعد اتفاقهم على أن المكنون: المصون، فقال ابن عباس ومجاهد: أراد الكتاب الذي في السماء. وقال عكرمة: أراد التوراة والإنجيل، كأنه قال:
إنه لكتاب كريم، ذكر كرمه وشرفه فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ.
قال القاضي أبو محمد: فمعنى الآية على هذا الاستشهاد بالكتب المنزلة، وهذا كقوله عز وجل:
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ [التوبة: 36] . وقال بعض المتأولين: أراد مصاحف المسلمين، وكانت يوم نزلت الآية لم تكن، فهي على هذا إخبار بغيب، وكذلك هو في كتاب مصون إلى يوم القيامة، ويؤيد هذا لفظة المس، فإنها تشير إلى المصاحف أو هي استعارة في مس الملائكة.
واختلف الناس في معنى قوله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وفي حكمه فقال من قال: إن الكتاب المكنون هو الذي في السماء. الْمُطَهَّرُونَ هنا الملائكة قال قتادة: فأما عندكم فيمسه المشرك المنجس والمنافق قال الطبري: الْمُطَهَّرُونَ: الملائكة والأنبياء ومن لا ذنب له، وليس في الآية على هذا القول

(5/251)


حكم مس المصحف لسائر بني آدم، ومن قال بأنها مصاحف المسلمين، قال إن قوله: لا يَمَسُّهُ إخبار مضمنه النهي، وضمة السين على هذا ضمة إعراب، وقال بعض هذه الفرقة: بل الكلام نهي، وضمة السين ضمة بناء، قال جميعهم: فلا يمس المصحف من جميع بني آدم إلا الطاهر من الكفر والجنابة والحدث الأصغر. قال مالك: لا يحمله غير طاهر بعلاقته ولا على وسادة. وفي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: «ولا يمس المصحف إلا الطاهر» ، وقد رخص أبو حنيفة وقوم بأن يمسه الجنب والحائض على حائل غلاف ونحوه، ورخص بعض العلماء في مسه بالحدث الأصغر، وفي قراءته عن ظهر قلب، منهم ابن عباس وعامر الشعبي، ولا سيما للمعلم والصبيان، وقد رخص بعضهم للجنب في قراءته، وهذا الترخيص كله مبني على القول الذي ذكرناه من أن المطهرين هم الملائكة أو على مراعاة لفظ اللمس فقد قال سليمان: لا أمس المصحف ولكن أقرأ القرآن.
وقرأ جمهور الناس: «المطهّرون» بفتح الطاء والهاء المشددة. وقرأ نافع وأبو عمرو بخلاف عنهما «المطهرون» بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة، وهي قراءة عيسى الثقفي. وقرأ سلمان الفارسي:
«المطهّرون» بفتح الطاء خفيفة وكسر الهاء وشدها على معنى الذين يطهرون أنفسهم، ورويت عنه بشد الطاء والهاء. وقرأ الحسن وعبد الله بن عون وسلمان الفارسي بخلاف عنه: المطّهرون بشد الطاء بمعنى المتطهرون.
قال القاضي أبو محمد: والقول بأن لا يَمَسُّهُ نهي قول فيه ضعف وذلك أنه إذا كان خبرا فهو في موضع الصفة، وقوله بعد ذلك: تَنْزِيلٌ: صفة أيضا، فإذا جعلناه نهيا جاء معنى أجنبيا معترضا بين الصفات، وذلك لا يحسن في رصف الكلام فتدبره. وفي حرف ابن مسعود: «ما يمسه» وهذا يقوي ما رجحته من الخبر الذي معناه: حقه وقدره أن لا يمسه إلا طاهر.
وقوله عز وجل: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ مخاطبة للكفار، والْحَدِيثِ المشار إليه هو القرآن المتضمن البعث، وإن الله تعالى خالق الكل وإن ابن آدم مصرف بقدره وقضائه وغير ذلك و: مُدْهِنُونَ معناه: يلاين بعضكم بعضا ويتبعه في الكفر، مأخوذ من الدهن للينه وإملاسه. وقال أبو قيس بن الأسلت: الحزم والقوة خير من الإدهان والفهة والهاع وقال ابن عباس: هو المهاودة فيما لا يحل.
والمداراة هي المهاودة فيما يحل، وقال ابن عباس: مُدْهِنُونَ مكذبون.
وقوله عز وجل: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر الذي ينزله الله للعباد هذا بنوء كذا وكذا وهذا ب «عثانين» الأسد، وهذا بنوء الجوزاء وغير ذلك. والمعنى:
وتجعلون شكر رزقكم، كما تقول لرجل: جعلت يا فلان إحساني إليك أن تشتمني المعنى: جعلت شكر إحساني. وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنوءة: ما رزق فلان؟ بمعنى ما شكره. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرؤها: «وتجعلون شكركم إنكم تكذبون» ، وكذلك قرأ ابن عباس، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن ابن عباس ضم التاء وفتح الكاف، وعلي رضي الله عنه: فتح التاء وسكن الكاف وخفف الذال، ومن هذا المعنى قول الشاعر: [السريع]

(5/252)


وكان شكر القوم عند المنى ... كي الصحيحات وفقء الأعين
وقد أخبر الله تعالى أنه أنزل من السماء ماء مباركا فأنبت به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد فهذا معنى قوله: أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، أي بهذا الخبر.
وقرأ عاصم في رواية المفضل عنه: «تكذبون» بفتح التاء وسكون الكاف وتخفيف الدال كقراءة علي بن أبي طالب. وكذبهم في مقالتهم بين، لأنهم يقولون هذا بنوء كذا وذلك كذب منهم وتخرص، وذكر الطبري أن النبي عليه السلام سمع رجلا يقول: مطرنا ببعض عثانين الأسد، فقال له: «كذبت، بل هو رزق الله» .
قال القاضي أبو محمد: والنهي عنه المكروه هو أن يعتقد أن للطالع من النجوم تأثيرا في المطر، وأما مراعاة بعض الطوالع على مقتضى العادة، فقد قال عمر للعباس وهما في الاستسقاء: يا عباس، يا عم النبي عليه السلام كم بقي من نوء الثريا، فقال العباس: العلماء يقولون إنها تتعرض في الأفق بعد سقوطها سبعا.
قال ابن المسيب: فما مضت سبع حتى مطروا.
وقوله تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ توقيف على موضع عجز يقتضي النظر فيه أن الله تعالى ملك كل شيء، والضمير في: بَلَغَتِ لنفس الإنسان والمعنى يقتضيها وإن لم يتقدم لها ذكر.
و: الْحُلْقُومَ مجرى الطعام، وهذه الحال هي نزاع المرء للموت.
وقوله: وَأَنْتُمْ إشارة إلى جميع البشر، وهذا من الاقتضاب كقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] .
وقرأ عيسى بن عمر: «حينئذ» بكسر النون. و: تَنْظُرُونَ معناه إلى المنازع في الموت.
وقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ يحتمل أن يريد ملائكته ورسله، ويحتمل أن يريد بقدرتنا وغلبتنا، فعلى الاحتمال الأول يجيء قوله: وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ من البصر بالعين، وعلى التأويل الثاني يجيء من البصر بالقلب. وقال عامر بن عبد قيس: ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله أقرب إليه مني، ثم عاد التوقيف والتقرير ثانية بلفظ التحضيض، والمدين: المملوك هذا أصح ما يقال في معنى اللفظة هنا، ومن عبر عنها بمجازي أو بمحاسب فذلك هنا قلق والمملوك يقلب كيف يشاء المالك، ومن هذا الملك قول الأخطل: [الطويل]
ربت وربا في حجرها ابن مدينة ... تراه على مسحاته يتركّل
أراد ابن أمة مملوكة وهو عبد يخدم الكرم، وقد قيل في معنى هذا البيت: أراد أكارا حضريا لأن الأعراب في البادية لا يعرفون الفلاحة وعمل الكرم، فنسبه إلى المدينة لما كان من أهلها، فبمعنى الآية فلولا ترجعون النفس البالغة الحلقوم إن كنتم غير مملوكين مقهورين ودين الملك حكمه وسلطانه، وقد نحا إلى هذا المعنى الفراء، وذكره مستوعبا النقاش.
وقوله: تَرْجِعُونَها سدت مسد الأجوبة والبيانات التي يقتضيها التحضيضات، وإِذا من قوله:

(5/253)


فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

فَلَوْلا إِذا وإِنْ المتكررة وحمل بعض القول بعضا إيجازا واقتضابا.
قوله عز وجل:

[سورة الواقعة (56) : الآيات 88 الى 96]
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
ذكر الله تعالى في هذه الآية حال الأزواج الثلاثة المذكورين في أول السورة وحال كل امرئ منهم، فأما المرء من السابقين المقربين فيلقى عند موته روحا وريحانا، والروح: الرحمة والسعة والفرح، ومنه رَوْحِ اللَّهِ [يوسف: 87] والريحان وهو دليل النعيم، وقال مجاهد، الريحان: الرزق. وقال أبو العالية وقتادة والحسن، الريحان: هذا الشجر المعروف في الدنيا يلقى المقربين ريحانا من الجنة.
وقرأ الحسن وابن عباس وجماعة كثيرة «فروح» بضم الراء. وقال الحسن ومعناه: روحه يخرج في ريحانه وقال الضحاك، الريحان: الاستراحة.
قال القاضي أبو محمد: الريحان، ما تنبسط إليه النفوس. وقال الخليل: هو طرف كل بقلة طيبة فيها أوائل النور، وقد قال عليه السلام في الحسن والحسين: «هما ريحانتاي من الدنيا» ، وقال النمر بن تولب:
[المتقارب]
سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماء درر
وقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: «فروح» بضم الراء.
وقوله تعالى: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ عبارة تقتضي جملة مدح وصفة تخلص وحصول في عال من المراتب ليس في أمرهم إلا السلام والنجاة من العذاب، وهذا كما تقول في مدح رجل: أما فلان فناهيك به، أو فحسبك أمره، فهذا يقتضي جملة غير مفصلة من مدحه، وقد اضطربت عبارات المتأولين في قوله تعالى: فَسَلامٌ لَكَ فقال قوم: المعنى: فيقال له مسلم لك إنك من أصحاب اليمين، وقال الطبري المعنى: فَسَلامٌ لَكَ أنت مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، وقيل المعنى فَسَلامٌ لَكَ يا محمد، أي لا ترى فيهم إلا المسالمة من العذاب، فهذه الكاف في ذلك إما أن تكون للنبي عليه السلام وهو الأظهر، ثم لكل معشر فيها من أمته وإما أن تكون لمن يخاطب من أصحاب اليمين، وغير هذا مما قيل تكلف.
و «المكذبون الضالون» : هم الكفار أصحاب الشمال والمشأمة، و «النزل» : أول شيء يقدم للضيف، والتصلية: أن يباشر بهم النار وحيث تراكمها، ولما كمل تقسيم أحوالهم وانقضى الخبر بذلك، أكد تعالى الاخبار بأن قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مخاطبة تدخل معه أمته فيها، إن هذا الذي أخبرنا به لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ. وإضافة الحق إلى الْيَقِينِ عبارة فيها مبالغة، لأنهما بمعنى واحد، فذهب بعض الناس إلى أنه من باب دار الآخرة ومسجد الجامع، وذهبت فرقة من الحذاق إلى أنه كما تقول في أمر تؤكده: هذا

(5/254)


يقين اليقين أو صواب الصواب، بمعنى أنه نهاية الصواب، وهذا أحسن ما قيل فيه، وذلك لأن دار الآخرة وما أشبهها يحتمل أن تقدر شيئا أضفت الدار إليه وصفته بالآخرة ثم حذفت وأقمت الصفة مقامه، كأنك قلت: دار الرجعة أو النشأة أو الخلقة، وهنا لا يتجه هذا، وإنما هي عبارة مبالغة وتأكيد معناه أن هذا الخبر هو نفس اليقين وحقيقته.
وقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ عبارة تقتضي الأمر بالإعراض عن أقوال الكفار وسائر أمور الدنيا المختصة بها وبالإقبال على أمور الآخرة وعبادة الله تعالى والدعاء إليه. وروى عقبة بن عامر أنه لما نزل فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] قال: اجعلوها في سجودكم. ويحتمل أن يكون المعنى: سبح لله بذكر أسمائه العلى، والاسم هنا بمعنى الجنس، أي بأسماء ربك. و: الْعَظِيمِ صفة للرب، وقد يحتمل أن يكون الاسم هنا واحدا مقصودا، ويكون «العظيم» صفة له، فكأنه أمره أن يسبحه باسمه الأعظم وإن كان لم ينص عليه، ويؤيد هذا ويشير إليه إيصال سورة الحديد أولها ففيه التسبيح وجملة من أسماء الله تعالى، وقد قال ابن عباس: اسم الله الأعظم موجود في ست آيات من أول سورة الحديد، فتأمل هذا فإنه من دقيق النظر، ولله تعالى في كتابه العزيز غوامض لا تكاد الأذهان تدركها.
كمل تفسير سورة الواقعة والحمد لله رب العالمين.

(5/255)


سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الحديد
وهي مدنية فيما قال النقاش وغيره بإجماع من المفسرين، وقال غيره مكية.
قال القاضي أبو محمد: ولا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا، لكن يشبه صدرها أن يكون مكيا والله أعلم، وقد ذكرنا قول ابن عباس إن اسم الله الأعظم هو في ست آيات من أول سورة الحديد، وروي أن الدعاء مستجاب بعد قراءتها.
قوله عز وجل:

[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
قال أكثر المفسرين: التسبيح هنا هو التنزيه المعروف في قولهم: سبحان الله، وهذا عندهم إخبار بصيغة الماضي مضمنه الدوام أن التسبيح مما ذكر دائم مستمر، واختلفوا هل هذا التسبيح حقيقة أو مجاز على معنى أن أثر الصنعة فيها تنبه الرائي على التسبيح، فقال الزجاج وغيره: والقول بالحقيقة أحسن، وقد تقدم القول فيه غير مرة، وهذا كله في الجمادات، وأما ما يمكن التسبيح منه فقول واحد إن تسبيحهم حقيقة، وقال قوم من المفسرين: التسبيح في هذه السورة: الصلاة، وهذا قول متكلف، فأما فيمن يمكن منه ذلك فسائغ، وأما سجود ظلال الكفار هي صلاتهم، وأما في الجمادات فيقلق، وذلك أن خضوعها وخشوع هيئاتها قد يسمى في اللغة سجودا أو استعارة كما قال الشاعر [زيد الخيل] : [الطويل] ترى الأكم فيها سجّدا للحوافر ويبعد أن تسمى تلك صلاة الأعلى تحامل.
وقوله: ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عام في جميع المخلوقات، وقال بعض النحاة، التقدير: ما في السماوات وما في الأرض، ف «ما» نكرة موصوفة حذفها وأقام الصفة مقامها، وَهُوَ الْعَزِيزُ بقدرته وسلطانه، الْحَكِيمُ بلطفه وتدبيره وحكمته. ومُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هو سلطانها الحقيقي الدائم، لأن ملك البشر مجاز فان.

(5/256)


لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)

وقوله تعالى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي على كل شيء مقدور، هُوَ الْأَوَّلُ الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة. وَالْآخِرُ الدائم الذي ليس له نهاية منقضية. قال أبو بكر الوراق هُوَ الْأَوَّلُ بالأزلية، وَالْآخِرُ بالأبدية، وهُوَ الْأَوَّلُ بالوجود، إذ كل موجود فبعده وبه. وَالْآخِرُ إذا ترقى العقل في الموجودات حتى يكون إليه منتهاها، قال عز وجل: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42] .
وَالظَّاهِرُ معناه بالأدلة ونظر العقول في صنعته. وَالْباطِنُ بلطفه وغوامض حكمته وباهر صفاته التي لا يصل إلى معرفتها على ما هي عليه الأوهام.
ويحتمل أن يريد بقوله: الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ أي الذي بهر وملك فيما ظهر للعقول وفيما خفي عنها فليس في الظاهر غيره حسب قيام الأدلة، وليس في باطن الأمر وفيما خفي عن النظرة مما عسى أن يتوهم غيره.
وقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ عام في الأشياء عموما تاما. وقد تقدم القول في خلق السماوات والأرض. وأكثر الناس على أن بدأة الخلق هي في يوم الأحد، ووقع في مسلم: أن البدأة في يوم السبت، وقال بعض المفسرين: الأيام الستة من أيام القيامة. وقال الجمهور: بل من أيام الدنيا.
قال القاضي أبو محمد: وهو الأصوب.
والاستواء على العرش هو بالغلبة والقهر المستمرين بالقدرة، وليس في ذلك ما في قهر العباد من المحاولة والتعب. وقد تقدم القول في مسألة الاستواء مستوعبا في: «طه» وغيرها.
و: ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ هو المطر والأموات وغير ذلك، وَما يَخْرُجُ مِنْها النبات والمعادن وغير ذلك. وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ الملائكة والرحمة والعذاب وغير ذلك. وَما يَعْرُجُ الأعمال صالحها وسيئها والملائكة وغير ذلك.
وقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ معناه بقدرته وعلمه وإحاطته. وهذه آية أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها، وأنها مخرجة عن معنى لفظها المعهود، ودخل في الإجماع من يقول بأن المشتبه كله ينبغي أن يمر ويؤمن به ولا يفسر فقد أجمعوا على تأويل هذه لبيان وجوب إخراجها عن ظاهرها. قال سفيان الثوري معناه: علمه معكم، وتأولهم هذه حجة عليهم في غيرها.
وقوله عز وجل:

[سورة الحديد (57) : الآيات 5 الى 9]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9)
قوله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ خبر يعم جميع الموجودات، والْأُمُورُ هنا ليست جمع

(5/257)


المصدر بل هي جميع الموجودات، لأن الأمر والشيء والوجود أسماء شائعة في جميع الموجودات أعراضها وجوهرها.
وقرأ الجمهور: «ترجع» بضم التاء، وقرأ الأعرج والحسن وابن أبي إسحاق: «ترجع» بفتح التاء.
وقوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ الآية تنبيه على العبرة فيما يتجاذبه الليل والنهار من الطول والقصر، وذلك متشعب مختلف حسب اختلاف الأقطار والأزمان الأربعة، وذلك بحر من بحار الفكرة لمن تأمله.
وَيُولِجُ معناه: يدخل. و: ذات الصُّدُورِ ما فيها من الأسرار والمعتقدات، وذلك أغمض ما يكون.
وهذا كما قالوا: الذئب مغبوط بذي بطنه، وكما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إنما هو ذو بطن بنت خارجة.
قوله تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية أمر للمؤمنين بالثبوت على الإيمان والنفقة في سبيل الله، ويروى أن هذه الآية نزلت في غزوة العسرة وهي غزوة تبوك، قاله الضحاك، وقال: الإشارة بقوله: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، وحكمها باق يندب إلى هذه الأفعال بقية الدهر.
وقوله: مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ تزهيد وتنبيه على أن الأموال إنما تصير إلى الإنسان من غيره ويتركها لغيره، وليس له من ذلك إلا ما تضمنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» ويروى أن رجلا مر بأعرابي له إبل، فقال له: يا أعرابي، لمن هذه الإبل؟ فقال: هي لله عندي. فهذا موقف مصيب إن كان ممن صحب قوله عمله.
وقوله تعالى: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الآية توطئة لدعائهم وإيجاب لأنهم أهل هذه الرتب الرفيعة فإذا تقرر ذلك فلا مانع من الإيمان، وهذا كما تريد أن تندب رجلا إلى عطاء فتقول له: أنت يا فلان من قوم أجواد فينبغي أن تكرم، وهذا مطرد في جميع الأمور إذا أردت من أحد فعلا خلقته بخلق أهل ذلك الفعل وجعلت له رتبتهم، فإذا تقرر في هؤلاء أن الرسول يدعو وأنهم ممن أخذ الله ميثاقهم فكيف يمتنعون من الإيمان.
وقرأ جمهور القراء: «وقد أخذ» على بناء الفعل للفاعل. وقرأ أبو عمرو: «قد أخذ» على بناء الفعل للمفعول والآخذ على كل قول هو الله تعالى، وهو الآخذ حين الإخراج من ظهر آدم على ما مضى في غير هذه السورة، والمخاطبة ببناء الفعل للمفعول أشد غلظة على المخاطب، ونحوه قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] وكما تقول لامرىء: افعل كما قيل لك، فهو أبلغ من قولك: افعل ما قلت لك.
وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قال الطبري المعنى: إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فالآن.
قال القاضي أبو محمد: وهذا معنى ليس في ألفاظ الآية وفيه إضمار كثير، وإنما المعنى عندي أن قوله: وإن الرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، يقتضي أن يقدر بأثره:
فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة إن كنتم مؤمنين، أي إن دمتم على ما بدأتم به.

(5/258)


وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)

وقرأ بعض السبعة: «ينزّل» مثقلة. وقرأ بعضهم: «ينزل» مخففة. وقرأ الحسن وعيسى بالوجهين.
وقرأ الأعمش: «أنزل» . والعبد في قوله: عَلى عَبْدِهِ محمد رسوله. والآيات: آيات القرآن.
والظُّلُماتِ: الكفر والنُّورِ: الإيمان، وباقي الآية وعد وتأنيس مؤكد.
قوله عز وجل:

[سورة الحديد (57) : الآيات 10 الى 11]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
والمعنى: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وأنتم تموتون وتتركون أموالكم، فناب مناب هذا القول قوله: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وفيه زيادة تذكير بالله وعبرة، وعنه يلزم القول الذي قدرناه.
وقوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ الآية، روي أنها نزلت بسبب أن جماعة من الصحابة أنفقت نفقات كثيرة حتى قال ناس: هؤلاء أعظم أجرا من كل من أنفق قديما، فنزلت الآية مبينة أن النفقة قبل الفتح أعظم أجرا.
وهذا التأويل على أن الآية نزلت بعد الفتح، وقد قيل إنها نزلت قبل الفتح تحريضا على الإنفاق، والأول أشهر وحكى الثعلبي أنها نزلت في أبي بكر الصديق ونفقاته، وفي معناه قول النبي عليه السلام لخالد بن الوليد: «اتركوا لي أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» .
واختلف الناس في الْفَتْحِ المشار إليه في هذه الآية. فقال أبو سعيد الخدري والشعبي: هو فتح الحديبية. وقد تقدم في سورة «الفتح» تقرير كونه فتحا، ورفعه أبو سعيد الخدري إلى النبي عليه السلام أن أفضل ما بين الهجرتين فتح الحديبية. وقال قتادة ومجاهد وزيد بن أسلم: هو فتح مكة الذي أزال الهجرة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو المشهور الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية. وقال له رجل بعد فتح مكة: أبايعك على الهجرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الهجرة قد ذهبت بما فيها» . وإن الهجرة شأنها شديد، ولكن أبايعك على الجهاد وحكم الآية باق غابر الدهر من أنفق في وقت حاجة السبيل أعظم أجرا ممن أنفق مع استغناء السبيل.
وأكثر المفسرين على أن قوله: يَسْتَوِي مسند إلى مَنْ، وترك ذكر المعادل الذي لا يستوي معه، لأن قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ قد فسره وبينه. ويحتمل أن يكون فاعل يَسْتَوِي محذوفا تقديره: لا يستوي منكم الإنفاق، ويؤيد ذلك أن ذكره قد تقدم في قوله: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا ويكون قوله: مَنْ ابتداء وخبره الجملة الآتية بعد.
وقرأ جمهور السبعة: «وكلا وعد الله الحسنى» وهي الوجه، لأن وعد الله ليس يعوقه عائق على أن ينصب المفعول المقدم. وقرأ ابن عامر: «وكل وعد الله الحسنى» ، فأما سيبويه رحمه الله فقدر الفعل خبر

(5/259)


يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)

الابتداء، وفيه ضمير عائد وحذفه عنده قبيح لا يجري إلا في شعر ونحوه، ومنه قول الشاعر [جرير بن عطية] : [الرجز]
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... عليّ ذنبا كله لم أصنع
قال: ولكن حملوا الخبر على الصفات كقول جرير: [الوافر] وما شيء حميت بمستباح وعلى الصلات كقوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: 41] وذهب غير سيبويه إلى أن وَعَدَ في موضع الصفة، كأنه قال: «أولئك كل وعد الله الحسنى» ، وصاحب هذا المذهب حصل في هذا التعسف في المعنى فرارا من حذف الضمير في خبر المبتدأ. و: الْحُسْنى الجنة، قاله مجاهد وقتادة، والوعد يتضمن ما قبل الجنة من نصر وغنيمة.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قول فيه وعد ووعيد.
وقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً الآية، قال بعض النحويين: مَنْ ابتداء و: ذَا خبر، والَّذِي صفة، وقال آخرون منهم: مَنْ ابتداء و: ذَا زائد مع الذي، والَّذِي خبر الابتداء، وقال الحسن: نزلت هذه الآية في التطوع في جميع أمر الذين. والقرض: السلف ونحوه أن يعطي الإنسان شيئا وينتظر جزاءه، والتضعيف من الله هو في الحسنات، يضاعف الله لمن يشاء من عشرة إلى سبعمائة، وقد ورد أن التضعيف يربى على سبعمائة، وقد مر ذكر ذلك في سورة البقرة بوجوهه من التأويل.
وقرأ أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي: «فيضاعفه» بالرفع على العطف أو على القطع والاستئناف.
وقرأ عاصم: «فيضاعفه» بالنصب في الفاء في جواب الاستفهام، وفي ذلك قلق. قال أبو علي: لأن السؤال لم يقع عن القرض، وإنما يقع السؤال عن فاعل القرض، وإنما تنصب الفاء فعلا مردودا على فعل مستفهم عنه، لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى، كأن قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ بمنزلة أن لو قال:
أيقرض الله أحدا فيضاعفه؟ وقرأ ابن كثير «فيضعّفه» مشددة العين مضمومة الفاء. وقرأ ذلك ابن عامر، إلا أنه فتح الفاء.
والأجر الكريم الذي يقرض به رضى وإقبال، وهذا معنى الدعاء: يا كريم العفو، أي أن مع عفوه رضى وتنعيما وعفو البشر ليس كذلك.
وقوله عز وجل:

[سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 14]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)

(5/260)


العامل في: يَوْمَ قوله وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: 11] . والرؤية في هذه الآية رؤية عين.
والنور: قال الضحاك بن مزاحم: هي استعارة، عبارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه. وقال الجمهور:
بل هو نور حقيقة، وروي في هذا عن ابن عباس وغيره آثار مضمنها: أن كل مؤمن ومظهر للإيمان يعطى يوم القيامة نورا فيطفأ نور كل منافق ويبقى نور المؤمنين. حتى أن منهم من نوره يضيء كما بين مكة وصنعاء، رفعه قتادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من نوره كالنخلة السحوق. ومنهم من نوره يضيء ما بين قرب من قدميه، قال ابن مسعود: ومنهم من يهم بالانطفاء مرة ويتبين مرة على قدر المنازل في الطاعة والمعصية. وخص تعالى بين الأيدي بالذكر لأنه موضع حاجة الإنسان إلى النور.
واختلف الناس في قوله: وَبِأَيْمانِهِمْ فقال بعض المتأولين المعنى: وعن أيمانهم، فكأنه خص ذكر جهة اليمين تشريفا، وناب ذلك مناب أن يقول: وفي جميع جهاتهم، وقال آخرون منهم، المعنى:
وَبِأَيْمانِهِمْ كتبهم بالرحمة. وقال جمهور المفسرين، المعنى: يسعى نورهم بين أيديهم، يريد الضوء المنبسط من أصل النور. وَبِأَيْمانِهِمْ أصله، والشيء الذي هو متقد فيه.
قال القاضي أبو محمد: فضمن هذا القول أنهم يحملون الأنوار، وكونهم غير حاملين أكرم، ألا ترى أن فضيلة عباد بن بشر وأسيد بن حضير إنما كانت بنور لا يحملانه. هذا في الدنيا فكيف في الآخرة، ومن هذه الآية انتزع حمل المعتق للشمعة.
وقرأ الناس: «بأيمانهم» جمع يمين. وقرأ سهل بن سعد وأبو حيوة: «بإيمانهم» بكسر الألف، وهو معطوف على قوله: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كأنه قال: كائنا بين أيديهم، وكائنا بسبب إيمانهم.
وقوله تعالى: بُشْراكُمُ معناه، يقال لهم: بشراكم جنات، أي دخول جنات، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
وقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها إلى آخر الآية، مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن مسعود:
«ذلك الفوز العظيم» بغير هو.
وقوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ قال بعض النحاة: يَوْمَ بدل من الأول وقال آخرون منهم العامل فيه فعل مضمر تقديره: اذكر.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر لي أن العامل فيه قوله تعالى: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ويجيء معنى الْفَوْزُ أفخم، كأنه يقول: إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا، لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم، وقول المنافقين هذه المقالة الممكنة هو عند انطفاء أنوارهم كما ذكرنا قبل.

(5/261)


وقولهم: انْظُرُونا معناه: انتظرونا، ومنه قول الحطيئة: [البسيط]
وقد نظرتكم أبناء عائشة ... للخمس طال بها حبسي وتبساسي
وقرأ حمزة وحده وابن وثاب وطلحة والأعمش: «أنظرونا» بقطع الألف وكسر الظاء على وزن أكرم.
ومنه قول عمرو بن كلثوم: [الوافر]
أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبّرك اليقينا
ومعناه: أخرونا، ومنه النظرة إلى الميسرة، وقول النبي عليه السلام: «من أنظر معسرا» الحديث، ومعنى قولهم: أخرونا، أخروا مشيكم لنا حتى نلحق ف نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ، واقتبس الرجل واستقبس أخذ من نور غيره قبسا. وقوله تعالى: قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ يحتمل أن يكون من قول المؤمنين، ويحتمل أن يكون من قول الملائكة.
وقوله: وَراءَكُمْ حكى المهدوي وغيره من المفسرين أنه لا موضع له من الإعراب، وأنه كما لو قال ارجعوا ارجعوا، وأنه على نحو قول أبي الأسود الدؤلي للسائل: وراءك أوسع لك.
قال القاضي أبو محمد: ولست أعرف مانعا يمنع من أن يكون العامل فيه ارْجِعُوا، والقول لهم:
فَالْتَمِسُوا نُوراً هو على معنى التوبيخ لهم، أي أنكم لا تجدونه.
ثم أعلم عز وجل أنه يضرب بينهم في هذه الحال بِسُورٍ حاجز، فيبقى المنافقون في ظلمة ويأخذهم العذاب من الله، وحكي عن ابن زيد أن هذا السور هو الأعراف المذكور في سورة «الأعراف» وقد حكاه المهدوي، وقيل هو حاجز آخر غير ذلك، وقال عبد الله بن عمر وكعب الأحبار وعبادة بن الصامت وابن عباس: هو الجدار الشرقي في مسجد بيت المقدس. وقال زياد بن أبي سوادة: قام عبادة على السور الشرقي من بيت المقدس فبكى وقال: من هاهنا أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم.
قال القاضي أبو محمد: وفيه باب يسمى باب الرحمة، سماه في تفسير هذه الآية عبادة وكعب. وفي الشرق من الجدار المذكور واد يقال له: وادي جهنم، سماه في تفسير هذه الآية عبد الله بن عمر وابن عباس، وهذا القول في السور بعيد، والله أعلم وقال قتادة وابن زيد، الرَّحْمَةُ: الجنة. والْعَذابُ:
جهنم.
والسور في اللغة الحجي الذي للمدن وهو مذكور. والسور أيضا جمع سورة، وهي القطعة من البناء ينضاف بعضها إلى بعض حتى يتم الجدار، فهذا اسم جمع يسوغ تذكيره وتأنيثه، وهذا الجمع هو الذي أراد جرير في قوله: [الكامل]
لما أتى خبر الزبير تضعضعت ... سور المدينة والجبال الخشع
وذلك أن المدينة لم يكن لها قط حجي، وأيضا فإن وصفه أن جميع ما في المدينة من بناء تواضع

(5/262)


فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)

أبلغ، ومن رأى أنه قصد قصد السور الذي هو الحجي، قال: إن ذلك إذا تواضع فغيره من المباني أحرى بالتواضع.
قال القاضي أبو محمد: فإذا كان السور في البيت محتملا للوجهين فليس هو في قوة مر الرياح وصدر القناة وغير ذلك مما هو مذكر محض استفاد التأنيث مما أضيف إليه.
وقوله تعالى: باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أي جهة المؤمنين، وَظاهِرُهُ جهة المنافقين، والظاهر هنا البادي، ومنه قول: من ظاهر مدينة كذا، وقوله تعالى: يُنادُونَهُمْ معناه: ينادي المنافقون المؤمنين أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في الدنيا؟ فيرد المؤمنون عليهم: بَلى كنتم معنا، ولكنكم عرضتم أنفسكم للفتنة، وهو حب العاجل والقتال عليه، قال مجاهد: فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بالنفاق. وَتَرَبَّصْتُمْ معناه هنا: بأمانكم «فأبطأتم» به حتى متم. وقال قتادة معناه: تربصتم بنا وبمحمد عليه السلام الدوائر وشككتم في أمر الله.
والارتياب: التشكك. و: الْأَمانِيُّ التي غرتهم هي قولهم: سيهلك محمد هذا العام ستهزمه قريش، ستأخذه الأحزاب، إلى غير ذلك من أمانيهم، وطول الأمل غرار لكل أحد، وأَمْرُ اللَّهِ الذي جاءَ هو الفتح وظهور الإسلام، وقيل هو موت المنافقين وموافاتهم على هذه الحال الموجبة للعذاب و: الْغَرُورُ الشيطان بإجماع من المتأولين.
وقرأ سماك بن حرب بضم الغين، وأبو حيوة. وينبغي لكل مؤمن أن يعتبر هذه الآية في نفسه وتسويفه في توبته.
قوله عز وجل:

[سورة الحديد (57) : الآيات 15 الى 17]
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
قوله تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ استمرار في مخاطبة المنافقين. قاله قتادة وغيره: وروي في معنى قوله: وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا حديث، وهو أن الله تعالى يقرر الكافرين فيقول له: أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار؟ فيقول: نعم يا رب، فيقول الله تعالى: قد سألتك ما هو أيسر من هذا وأنت في صلب أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك.
وقرأ جمهور القراء والناس: «يؤخذ» بالياء من تحت. وقرأ أبو جعفر القارئ: «تؤخذ» بالتاء من فوق، وهي قراءة ابن عامر في رواية هشام عنه، وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وقوله: هِيَ مَوْلاكُمْ قال المفسرون معناه: هي أولى بكم، وهذا تفسير بالمعنى، وإنما هي

(5/263)


استعارة، لأنها من حيث تضمنهم وتباشرهم هي تواليهم وتكون لهم مكان المولى، وهذا نحو قول الشاعر [عمرو بن معد يكرب] : [الوافر] تحية بينهم ضرب وجميع وقوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ الآية ابتداء معنى مستأنف، وروي أنه كثر المزاح والضحك في بعض تلك المدة في قوم من شبان المسلمين فنزلت هذه الآية. وقال ابن مسعود: مل الصحابة ملة فنزلت الآية.
ومعنى: أَلَمْ يَأْنِ ألم يحن، ويقال: أنى الشيء يأني، إذا حان ومنه قول الشاعر: [الوافر]
تمخضت المنون له بيوم ... أنى ولكل حاملة تمام
وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «ألما يأن» . وروي عنه أنه قرأ «ألم يين» .
وهذه الآية على معنى الحض والتقريع، قال ابن عباس: عوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، وسمع الفضل بن موسى قارئا يقرأ هذه الآية، والفضل يحاول معصية، فكانت الآية سبب توبته. وحكى الثعلبي عن ابن المبارك أنه في صباه حرك العود ليضربه، فإذا به قد نطق بهذه الآية، فتاب ابن المبارك وكسر العود وجاء التوفيق. والخشوع: الإخبات والتطامن، وهي هيئة تظهر في الجوارح متى كانت في القلب، فلذلك خص تعالى القلب بالذكر. وروى شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أول ما يرفع من الناس الخشوع» .
وقوله تعالى: لِذِكْرِ اللَّهِ أي لأجل ذكر الله ووحيه الذي بين أظهرهم، ويحتمل أن يكون المعنى:
لأجل تذكير الله إياهم وأوامره فيهم.
وقرأ عاصم في رواية حفص ونافع: «وما نزل» مخفف الزاي. وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم:
«نزّل» بشد الزاي على معنى: نزّل الله من الحق. وقرأ أبو عمرو في رواية عباس وهي قراءة الجحدري وابن القعقاع: «نزّل» بكسر الزاي وشدها. وقرأ نافع وأبو عمرو والأعرج وأبو جعفر: «ولا يكونوا» بالياء على ذكر الغيب. وقرأ حمزة فيما روى عنه سليم: «ولا تكونوا» بالتاء على مخاطبة الحضور.
والإشارة في قوله: أُوتُوا الْكِتابَ إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام، وذلك قال:
مِنْ قَبْلُ وإنما شبه أهل عصر نبي بأهل عصر نبي. و: الْأَمَدُ قيل معناه: أمد انتظار الفتح، وقيل أمد انتظار القيامة وقيل أمد الحياة. و: (قست) معناه: صلبت وقل خيرها وانفعالها للطاعات وسكنت إلى معاصي الله، ففعلوا من العصيان والمخالفة ما هو مأثور عنهم.
وقوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها الآية مخاطبة لهؤلاء المؤمنين الذين ندبوا إلى الخشوع، وهذا ضرب مثل واستدعاء إلى الخير، رقيق وتقريب بليغ، أي لا يبعد عنكم أيها التاركون للخشوع رجوعكم إليه وتلبسكم به، «فإن الله يحيي الأرض بعد موتها» ، فكذلك يفعل بالقلوب، يردها إلى الخشوع بعد بعدها عنه، وترجع هي إليه إذا وقعت الإنابة والتكسب من العبد بعد نفورها منه كما تحيى الأرض بعد أن كانت ميتة غبراء. وباقي الآية بين جدا.

(5/264)


إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)

قوله عز وجل:

[سورة الحديد (57) : الآيات 18 الى 19]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
قرأ جمهور القراء: «إن المصّدقين» بشد الصاد المفتوحة على معنى المتصدقين، وفي مصحف أبيّ بن كعب: «إن المتصدقين» ، فهذا يؤيد هذه القراءة، وأيضا فيجيء قوله تعالى: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ملائما في الكلام للصدقة. وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم «إن المصدقين» بتخفيف الصاد على معنى: إن الذين صدقوا رسول الله فيما بلغ عن الله وآمنوا به، ويؤيد هذه القراءة أنها أكثر تناولا، لأن كثيرا ممن لا يتصدق يعمه اللفظ في التصديق. ثم إن تقييدهم بقوله: وَأَقْرَضُوا يرد مقصد القراءتين قريبا بعضه من بعض.
وقوله: أَقْرَضُوا معطوف على المعنى، لأن معنى قوله: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ إن الذين تصدقوا، ولا يصح هنا عطف لفظي، قاله أبو علي في الحجة. وقد تقدم معنى القرض، ومعنى المضاعفة التي وعد الله بها هذه الأمة. وقد تقدم معنى وصف الأجر بالكريم، كل ذلك في هذه السورة.
قال القاضي أبو محمد: ويؤيد عندي قراءة من قرأ: «إن المصّدقين» بشد الصاد. إن الله تعالى حض في هذه الآية على الإنفاق وفي سبيل الله تعالى. ثم ذكر في هذه أهل الصدقة ووعدهم، ثم ذكر أهل الإيمان والتصديق في قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وعلى قراءة من قرأ: «إن المصدقين» بتخفيف الصاد فذكر المؤمنين مكرر في اللفظ، وكون الأصناف منفردة بأحكامها من الوعد أبين.
والإيمان بمحمد يقتضي الإيمان بجميع الرسل، فلذلك قال: وَرُسُلِهِ. والصِّدِّيقُونَ بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق على ما ذكر الزجاج، وفعيل لا يكون فيما أحفظ إلا من فعل ثلاثي، وقد أشار بعض الناس إلى أنه يجيء من غير الثلاثي. وقال: مسيك من أمسك، وأقول إنه يقال: مسك الرجل وقد حكى مسك الشيء، وفي هذا نظر.
وقوله تعالى: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ اختلف الناس في تأويل ذلك، فقال ابن مسعود ومجاهد وجماعة: وَالشُّهَداءُ معطوف على قوله: الصِّدِّيقُونَ والكلام متصل. ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاتصال، فقال بعضها: وصف الله المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء، فكل مؤمن شهيد، قاله مجاهد.
وروى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مؤمنو أمتي شهداء» ، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، وإنما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الشهداء السبعة تشريفا، ولأنهم في أعلى رتب الشهادة، ألا ترى أن المقتول في سبيل الله مخصوص أيضا من السبعة بتشريف ينفرد به. وقال بعضها: وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء لكن من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد، وذلك نحو قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] فكأنه قال في هذه الآية: هم أهل

(5/265)


اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)

الصدق والشهادة على الأمم عند ربهم، وقال ابن عباس ومسروق والضحاك: الكلام تام في قوله:
الصِّدِّيقُونَ.
وقوله: وَالشُّهَداءُ ابتداء مستأنف.
ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاستئناف، فقال بعضها معنى الآية: وَالشُّهَداءُ بأنهم صديقون حاضرون عِنْدَ رَبِّهِمْ. وعنى ب «الشهداء» : الأنبياء عليهم السلام، فكأن الأنبياء يشهدون للمؤمنين بأنهم صديقون، وهذا يفسره قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] . وقال بعضها قوله: وَالشُّهَداءُ ابتداء يريد به الشهداء في سبيل الله، واستأنف الخبر عنهم بأنهم: عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ فكأنه جعلهم صنفا مذكورا وحده، وفي الحديث:
«إن أهل الجنة العليا ليراهم من دونهم كما ترون الكوكب الدري، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما» .
وقوله تعالى: لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ خبر عن الشهداء فقط على الأخير من الأقوال، وهو خبر عن المؤمنين المذكورين في أول الآية على الأقوال الثلاثة.
وقوله تعالى: وَنُورُهُمْ قال جمهور المفسرين: هو حقيقة حسبما روي مما تقدم ذكره في هذه السورة. وقال مجاهد وغيره: هو مجاز عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى التي حصلوا فيها.
ولما فرع ذكر المؤمنين وأهل الكرامة، عقب ذكر الكفرة المكذبين ليبين الفرق، فذكرهم تعالى بأنهم أَصْحابُ الْجَحِيمِ وسكانه.
وقوله تعالى:

[سورة الحديد (57) : آية 20]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)
هذه الآية وعظ وتبيين لأمر الدنيا وضعة منزلتها و: أَنَّمَا سادة مسد المفعولين للعلم بأنها تدخل على اثنين وهي وإن كفت عن العمل، فالجملة بعدها باقية. و: الْحَياةُ الدُّنْيا في هذه الآية عبارة عن الأشغال والتصرفات والفكر التي هي مختصة بالحياة الدنيا، وأما ما كان من ذلك في طاعة الله وسبيله وما كان من الضرورات التي تقيم الأود وتعين على الطاعات فلا مدخل له في هذه الآية. وتأمل حال الملوك بعد فقرهم بين لك أن جميع نزوتهم لَعِبٌ وَلَهْوٌ. والزينة: التحسين الذي هو خارج من ذات الشيء، والتفاخر: هو بالأنساب والأموال وغير ذلك والتكاثر: هو الرغبة في الدنيا، وعددها لتكون العزة للكفار على المذهب الجاهلي.
ثم ضرب تعالى مثل الدنيا، فالكاف في قوله: كَمَثَلِ في رفع صفة لما تقدم، وصورة هذا المثال: أن الإنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك فيشب ويقوى ويكسب المال والولد ويغشاه الناس،

(5/266)


سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)

ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط، فيشيب ويضعف ويسقم، وتصيبه النوائب في ماله وذريته، ويموت ويضمحل أمره، وتصير أمواله لغيره، وتغير رسومه، فأمره مثل مطر أصاب أرضا فنبت عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق. ثم هاج: أي يبس واصفر، ثم تحطم، ثم تفرق بالرياح واضمحل.
واختلف المتأولون في لفظة الْكُفَّارَ هنا، فقال بعض أهل التأويل: هو من الكفر بالله، وذلك لأنهم أشد تعظيما للدنيا وأشد إعجابا بمحاسنها. وقال آخرون منهم: هو من كفر الحب، أي ستره في الأرض، فهم الزراع وخصهم بالذكر، لأنهم أهل البصر بالنبات والفلاحة فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة، الذي لا عيب له.
وهاج الزرع: معناه: يبس واصفر، وحطام: بناء مبالغة، يقال حطيم وحطام بمعنى محطوم، أو متحطم، كعجيب وعجاب، بمعنى معجب ومتعجب منه. ثم قال تعالى: وَفِي الْآخِرَةِ كأنه قال:
والحقيقة هاهنا، ثم ذكر العذاب أولا تهمما به من حيث الحذر في الإنسان ينبغي أن يكون أولا، فإذا تحرر من المخاوف مد حينئذ أمله. فذكر الله تعالى ما يحذر قبل ما يطمع فيه وهو المغفرة والرضوان. وروي عن عاصم: ضم الراء من: «رضوان» . و: مَتاعُ الْغُرُورِ معناه: الشيء الذي لا يعظم الاستمتاع به إلا مغتر. وقال عكرمة وغيره: مَتاعُ الْغُرُورِ القوارير، لأن الفساد والآفات تسرع إليها، فالدنيا كذلك أو هي أشد.
قوله عز وجل:

[سورة الحديد (57) : الآيات 21 الى 23]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23)
لما ذكر تعالى المغفرة التي في الآخرة، ندب في هذه الآية إلى المسارعة إليها والمسابقة، وهذه الآية حجة عند جميع العلماء في الندب إلى الطاعات، وقد استدل بها بعضهم على أن أول أوقات الصلوات أفضل، لأنه يقتضي المسارعة والمسابقة، وقد ذكر بعضهم في تفسير هذه الآية أشياء هي على جهة المثال، فقال قوم من العلماء منهم ابن مسعود: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ معناه: كونوا في أول صف في القتال. وقال آخرون، منهم أنس بن مالك معناه: اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام، وقال آخرون منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كن أول داخل في المسجد، وآخر خارج منه، وهذا كله على جهة المثال. وذكر العرض من الجنة، إذ المعهود أنه أقل من الطول، وقال قوم من أهل المعاني: عبر عن الساحة بالعرض ولم يقصد أن طولها أقل ولا أكثر. وقد ورد في الحديث: «إن سقف الجنة العرش» . وورد في الحديث: «إن السماوات السبع في الكرسي كالدرهم في الفلاة، وإن الكرسي في العرش كالدرهم في الفلاة» .

(5/267)


الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)

وقوله تعالى: أُعِدَّتْ ظاهرة أنها مخلوقة الآن معدة، ونص عليه الحسن في كتاب النقاش.
وقوله تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ قال ابن زيد وغيره المعنى: ما حدث من حادث خير وشر، فهذا على معنى لفظ: أَصابَ لا على عرف المصيبة، فإن عرفها في الشر. وقال ابن عباس ما معناه:
أنه أراد عرف المصيبة وخصها بالذكر، لأنها أهم على البشر، وهي بعض من الحوادث تدل على أن جميع الحوادث خيرها وشرها كذلك.
وقوله تعالى: فِي الْأَرْضِ يعني بالقحوط والزلازل وغير ذلك. وقوله: فِي أَنْفُسِكُمْ يريد بالموت والأمراض وغير ذلك.
وقوله تعالى: إِلَّا فِي كِتابٍ معناه: إلا والمصيبة في كتاب. و: نَبْرَأَها معناه: نخلقها، يقال:
برأ الله الخلق: أي خلقهم، والضمير عائد على المصيبة، وقيل: على الْأَرْضِ، وقيل: على الأنفس، قاله ابن عباس وقتادة وجماعة وذكر المهدوي جواز عود الضمير على جميع ما ذكر، وهي كلها معان صحاح، لأن الكتاب السابق أزلي قبل هذه كلها.
وقوله تعالى: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يريد تحصيل الأشياء كلها في الكتاب. وقوله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا معناه: فعل الله ذلك كله وأعلمكم به ليكون سبب تسليمكم وقلة اكتراثكم بأمر الدنيا، فلا تحزنوا على ما فات، ولا تفرحوا الفرح المبطر بما آتاكم منها. قال ابن عباس: ليس أحد إلا يفرح ويحزن، ولكن من أصابته مصيبة يجعلها صبرا، من أصاب خيرا يجعله شكرا.
وقرأ أبو عمرو وحده: «أتاكم» على وزن مضى، وهذا ملائم لقوله: فاتَكُمْ. وقرأ الباقون من السبعة: «آتاكم» ، على وزن أعطاكم، بمعنى آتاكم الله تعالى، وهي قراءة الحسن والأعرج وأهل مكة.
وقرأ ابن مسعود: «أوتيتم» ، وهي تؤيد قراءة الجمهور.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ يدل على أن الفرح المنهي عنه إنما هو ما أدى إلى الاختيال، والفخر بنعم الله المقترن بالشكر والتواضع فأمر لا يستطيع أحد دفعه عن نفسه ولا حرج فيه.
قوله عز وجل:

[سورة الحديد (57) : الآيات 24 الى 26]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26)
اختلف النحاة في إعراب: الَّذِينَ فقال بعضهم: هم في موضع رفع على الابتداء، والخبر عنهم

(5/268)


محذوف معناه الوعيد والذم، وحذفه على جهة الإبهام كنحو حذف الجواب في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ [الرعد: 32] الآية، وقال بعضهم هم رفع على خبر الابتداء تقديره هم الذين يَبْخَلُونَ. وقال بعضهم في موضع نصب صفة ل كُلَّ [الحديد: 23] ، لأن كلّا وإن كان نكرة فهو يخصص نوعا ما فيسوغ لذلك وصفه بالمعرفة، وهذا مذهب الأخفش. و: يَبْخَلُونَ معناه:
بأموالهم وأفعالهم الحسنة من إيمانهم وغير ذلك.
وقوله تعالى: وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ يحتمل أن يصفهم بحقيقة الأمر بألسنتهم، ويحتمل أن يريد أنهم يقتدى بهم في البخل فهم لذلك كأنهم يأمرون.
وقرأ الحسن: «بالبخل» بفتح الباء والخاء. وقرأ جمهور القراء وأهل العراق: «فإن الله هو الغني الحميد» بإثبات: «هو» ، وكذلك في «إمامهم» . وقرأ نافع وابن عامر: «فإن الله الغني الحميد» بترك «هو» ، وهي قراءة أهل المدينة، وكذلك في «إمامهم» ، وهذا لم يثبت قراءة إلا وقد قرئ على النبي صلى الله عليه وسلم بالوجهين. قال أبو علي، ف «هو» في القراءة التي ثبت فيها يحسن أن يكون ابتداء، لأن حذف الابتداء غير سائغ. و: الْكِتابَ اسم جنس لجميع الكتب المنزلة. وَالْمِيزانَ: العدل في تأويل أكثر المتأولين. وقال ابن زيد وغيره من المتأولين: أراد الموازين المصرفة بين الناس، وهذا جزء من القول الأول.
وقوله: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ يقوي القول الأول.
وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ عبر عن خلقه وإيجاده بالإنزال كما قال في الثمانية الأزواج من الأنعام، وأيضا فإن الأمر بكون الأشياء لما تلقى من السماء، جعل الكل نزولا منها. وقال جمهور كثير من المفسرين: الْحَدِيدَ هنا: أراد به جنسه من المعادن وغيرها. وقال ابن عباس: نزل آدم من الجنة ومعه السندان والكلبتان والميقعة، قال حذاق من المفسرين: أراد به السلاح، ويترتب معنى الآية بأن الله أخبر أنه أرسل رسله وأنزل كتبا وعدلا مشروعا وسلاحا يحارب به من عند ولم يهتد بهدي الله فلم يبق عذر، وفي الآية على هذا التأويل حض على القتال وترغيب فيه.
وقوله: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ يقوي هذا التأويل، ومعنى قوله: لِيَعْلَمَ أي ليعلمه موجودا فالتغير ليس في علم الله، بل في هذا الحدث الذي خرج من العدم إلى الوجود.
وقوله: بِالْغَيْبِ معناه: بما سمع من الأوصاف الغائبة فآمن بها لقيام الأدلة عليها.
ثم وصف تعالى نفسه بالقوة والعزة ليبين أنه لا حاجة به إلى النصرة، لكنها نافعة من عصم بها نفسه من الناس. ثم ذكر تعالى رسالة «نوح وإبراهيم» تشريفا لهما بالذكر، ولأنهما من أول الرسل. ثم ذكر تعالى نعمه على ذُرِّيَّتِهِمَا. وقوله تعالى: وَالْكِتابَ يعني الكتب الأربعة، فإنها جميعا في ذرية إبراهيم عليه السلام. وذكر أنهم مع ذلك منهم من فسق وعند، فكذلك بل أحرى جميع الناس، ولذلك يسر السلاح للقتال.

(5/269)


ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)

قوله عز وجل:

[سورة الحديد (57) : الآيات 27 الى 28]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
قَفَّيْنا معناه: جئنا بهم بعد الأولين، وهو مأخوذ من القفا، أي جاء بالثاني في قفا الأول، فيجيء الأول بين يدي الثاني، ومنه القوافي التي تأتي أواخر أبيات الشعر، ثم ذكر «عيسى» عليه السلام تشريفا وتخصيصا.
وقرأ الحسين: «الإنجيل» بفتح الهمزة، قال أبو الفتح: هذا مما لا نظير له. و: رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً مفعولات جَعَلْنا. والجعل في هذه الآية بمعنى: الخلق.
وقوله: ابْتَدَعُوها صفة ل رَهْبانِيَّةً وخصها بأنها ابتدعت، لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها، وأما الرهبانية فهي أفعال بدن مع شيء في القلب ففيها موضع للتكسب. قال قتادة:
الرأفة والرحمة من الله تعالى. والرهبانية هم ابتدعوها، والمراد بالرأفة والرحمة: حب بعضهم في بعض وتوادهم، والمراد بالرهبانية: رفض النساء، واتخاذ الصوامع، والمعتزلة تعرب رَهْبانِيَّةً أنها نصب بإضمار فعل يفسره ابْتَدَعُوها وليست بمعطوفة على الرأفة والرحمة ويذهبون في ذلك إلى أن الإنسان يخلق أفعاله فيعربون الآية على مذهبهم، وكذلك أعربها أبو علي. وروي في ابتداعهم الرهبانية أنهم افترقوا ثلاث فرق، ففرقة قاتلت الملوك على الدين، فقتلت وغلبت. وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه، فأخذتها الملوك ونشرتها بالمناشر وقتلوا، وفرقة خرجت إلى الفيافي وبنت الصوامع والديارات، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل فتركت وتسموا بالرهبان، واسمهم مأخوذ من الرهب، وهو الخوف، فهذا هو ابتداعهم ولم يفرض الله ذلك عليهم، لكنهم فعلوا ذلك ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ، هذا تأويل أبي أمامة وجماعة، وقال مجاهد: المعنى كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ. ف «كتب» على هذا بمعنى: قضى، ويحتمل اللفظ أن يكون المعنى: ما كتبناها عليهم إلا في عموم المندوبات، لأن ابتغاء مرضاة الله بالقرب والنوافل مكتوب على كل أمة فالاستثناء على هذا احتمال متصل.
واختلف الناس في الضمير الذي في قوله: فَما رَعَوْها من المراد به؟ فقيل إن الذين ابتدعوا الرهبانية بأنفسهم لم يدوموا على ذلك ولا وفوه حقه، بل غيروا وبدلوا، قاله ابن زيد وغيره، والكلام سائغ وإن كان فيهم من رعى: أي لم يرعوها بأجمعهم، وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل أنه يلزمه أن يرعاه حق رعيه. قال ابن عباس وغيره: الضمير للملوك الذين حاربوهم وأجلوهم وقال الضحاك وغيره: الضمير للأخلاف الذين جاؤوا بعد المبتدعين لها، وباقي الآية بين. وقرأ ابن مسعود: «ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها» .

(5/270)


لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ اختلف الناس في المخاطب بهذا، فقالت فرقة من المتأولين خوطب بهذا أهل الكتاب، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بعيسى اتقوا الله وآمنوا بمحمد، ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتيهم الله أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي» ، الحديث وقال آخرون المخاطبة للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قيل لهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ، أي اثبتوا على ذلك ودوموا عليه، وهذا هو معنى الأمر أبدا لمن هو متلبس بما يؤمر به.
وقوله: كِفْلَيْنِ أي نصيبين بالإضافة إلى ما كان الأمم قبل يعطونه، قال أبو موسى الأشعري:
كِفْلَيْنِ ضعفين بلسان الحبشة، وروي أن عمر بن الخطاب قال لبعض الأحبار: كم كان التضعيف للحسنات فيكم؟ فقال ثلاثمائة وخمسون، فقال عمر: الحمد لله الذي ضاعف لنا إلى سبعمائة، ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح الذي يقتضي أن اليهود عملت إلى نصف النهار على قيراط، والنصارى من الظهر إلى العصر على قيراط، وهذه الأمة من العصر إلى الليل على قيراطين، فلما احتجت اليهود والنصارى على ذلك وقالوا نحن أكثر عملا وأقل أجرا، قال الله تعالى: «هل نقصتم من أجركم شيئا، قالوا: لا، قال: فإنه فضلي أوتيه من أشاء» . والكفل: الحظ والنصيب. والنور: هنا إما أن يكون وعدا بالنور الذي يسعى بين الأيدي يوم القيامة، وإما أن يكون استعارة للهدى الذي يمشي به في طاعة الله.
قوله عز وجل:

[سورة الحديد (57) : آية 29]
لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
روي أنه لما نزل هذا الوعد للمؤمنين حسد أهل الكتاب على ذلك، وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها وتزعم أنها أحباء الله وأهل رضوانه، فنزلت هذه الآية معلمة أن الله تعالى فعل ذلك وأعلم به ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون، و «لا» في قوله: لِئَلَّا زائدة كما هي في قوله تعالى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء: 95] على بعض التأويلات.
وقرأ ابن عباس «ليعلم أهل الكتاب» ، وروى إبراهيم التيمي عن ابن عباس: «كي يعلم» ، وروي عن ابن عباس: «لكي لا يعلم» . وروي عن حطان الرقاشي أنه قرأ: «لأي يعلم» . وقرأ ابن مسعود وابن جبير وعكرمة: «لكي يعلم أهل الكتاب» ، وقرأ الحسن فيما روى ابن مجاهد: «ليلا يعلم» بفتح اللام وسكون الياء. فأما فتح اللام فلغة في لام الجر مشهورة وأصل هذه القراءة «لأن لا» ، استغني عن الهمزة بلام الجر فحذفت فجاء «لأن لا» ، أدغمت النون في اللام للتشابه فجاء «للا» ، اجتمعت أمثلة فقلبت اللام الواحدة ياء. وقرأ الحسن فيما روى قطرب: «ليلا» بكسر اللام وسكون الياء وتعليلها كالتي تقدم.
وقوله تعالى: أَلَّا يَقْدِرُونَ معناه: أنهم لا يملكون فضل الله ويدخل تحت قدرهم، وقرأ ابن مسعود: «ألا يقدروا» بغير نون، وباقي الآية بين.

(5/271)