تفسير ابن عطية
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز إِذَا جَاءَكَ
الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا
أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ
تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ
لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ
كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ
قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المنافقون
وهي مدنية بإجماع، وذلك أنها نزلت في غزوة بني المصطلق بسبب أن
عبد الله بن أبيّ ابن سلول، كانت منه في تلك الغزوة أقوال،
وكان له أتباع يقولون قوله، فنزلت السورة كلها بسبب ذلك، ذكر
الله تعالى فيها ما تقدم من المنافقين من خلفهم وشهادتهم في
الظاهر بالإيمان وأنهم كذبة، وذكر فيها ما تأخر منهم ووقع في
تلك الغزوة، وسيأتي بيان ذلك فصلا فصلا عند تفسير الآيات إن
شاء الله.
قوله عز وجل:
[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ
اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ
يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا
يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ
وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ
الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى
يُؤْفَكُونَ (4)
فضح الله تعالى بهذه الآية سريرة المنافقين، وذلك أنهم كانوا
يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم نَشْهَدُ إِنَّكَ
لَرَسُولُ اللَّهِ، وهم في إخبارهم هذا كاذبون، لأن حقيقة
الكذب أن يخبر الإنسان بضد ما في قلبه، وكسرت الألف من «إن» في
الثلاثة، لدخول اللام المؤكدة في الخبر، وذلك لا يكون مع
المفتوحة، وقوله: نَشْهَدُ وما جرى مجراها من أفعال اليقين،
والعلم يجاب بما يجاب به القسم، وهي بمنزلة القسم، وقرأ الناس:
«أيمانهم» جميع يمين، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بخلاف «إيمانهم»
، بكسر الألف، أي هذا الذي تظهرون، وهذا على حذف مضاف، تقديره:
إظهار إيمانهم، والجنة: ما يستتر به في الأجرام والمعاني،
وقوله تعالى: فَصَدُّوا يحتمل أن يكون غير متعد تقول: صد زيد،
ويحتمل أن يكون متعديا كما قال:
صددت الكأس عنا أم عمرو والمعنى: صدوا غيرهم ممن كان يريد
الإيمان أو من المؤمنين في أن يقاتلوهم وينكروا عليهم،
(5/311)
وتلك سبيل الله فيهم، وقد تقدم تفسير نظير
هذه الآية، وقوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى فعل الله تعالى في
فضيحتهم وتوبيخهم، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى سوء ما عملوا،
فالمعنى ساء عملهم أن كفروا بعد إيمانهم، وقوله تعالى: آمَنُوا
ثُمَّ كَفَرُوا إما أن يريد به منهم من كان آمن ثم نافق بعد
صحة من إيمانه، وقد كان هذا موجودا، وإما أن يريدهم كلهم،
فالمعنى ذلك أنهم أظهروا الإيمان ثم كفروا في الباطن أمرهم
فسمى ذلك الإظهار إيمانا، وقرأ بعض القراء: «فطبع» على بناء
الفعل للفاعل، وقرأ جمهور القراء:
«فطبع» بضم الطاء على بنائه للمفعول بغير إدغام. وأدغم أبو
عمرو، وقرأ الأعمش: «فطبع الله» ، وعبر بالطبع عما خلق في
قلوبهم من الريب والشك وختم عليهم به من الكفر والمصير إلى
النار، وقوله تعالى:
وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ، وَإِنْ
يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ توبيخ لهم لأنهم كانوا رجالا
أجمل شيء وأفصحه، فكان نظرهم يروق وقولهم يخيب، ولكن الله
تعالى جعلهم «كالخشب المسندة» ، وإنما هي أجرام لا عقول لها،
معتمدة على غيرها، لا تثبت بأنفسها، ومنه قولهم: تساند القوم
إذا اصطفوا وتقابلوا للقتال، وقد يحتمل أن يشبه اصطفافهم في
الأندية باصطفاف الخشب المسندة وخلوهم من الأفهام النافعة خلو
الخشب من ذلك، وقال رجل لابن سيرين: رأيتني في النوم محتضنا
خشبة، فقال ابن سيرين: أظنك من أهل هذه الآية وتلا:
كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ. وقرأ عكرمة وعطية: «يسمع»
مضمومة بالياء، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة وعاصم: «خشب» بضم
الخاء والشين، وقرأ قنبل وأبو عمرو والكسائي: «خشب» بضم الخاء
وإسكان الشين وهي قراءة البراء بن عازب واختيار ابن عبيد. وقرأ
سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب:
«خشب» بفتح الخاء والشين، وذلك كله جمع خشبة بفتح الخاء
والشين، فالقراءتان أولا كما تقول: بدنة وبدن وبدن: قاله
سيبويه، والأخيرة على الباب في تمرة وتمر.
وكان عبد الله بن أبي من أبهى المنافقين وأطولهم، ويدل على ذلك
أنه لم يوجد قميص يكسو العباس غير قميصه، وقد تقدم في سورة
البقرة تحرير أمر المنافقين وكيف سترهم الإسلام.
وقوله تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، فضح أيضا
لما كانوا يسرونه من الخوف، وذلك أنهم كانوا يتوقعون أن يأمر
النبي صلى الله عليه وسلم عن الله بقتلهم، وقال مقاتل: فكانوا
متى سمعوا نشدان ضالة أو صياحا بأي وجه كان أو أخبروا بنزول
وحي طارت عقولهم حتى يسكن ذلك. ويكون في غير شأنهم، وجرى هذا
اللفظ مثلا في الخائف، ونحو قول الشاعر [بشار بن برد العقيلي]
: [الوافر]
يروّعه السرار بكل أرض ... مخافة أن يكون به السرار
وقول جرير: [الكامل]
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلا تكر عليهم ورجالا
ثم أخبر تعالى بأنهم الْعَدُوُّ وحذر منهم، والْعَدُوُّ يقع
للواحد والجمع، وقوله تعالى:
قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء يتضمن الإقصاء والمنابذة، وتمني الشر
لهم، وقوله تعالى: أَنَّى يُؤْفَكُونَ معناه:
كيف يصرفون، ويحتمل أن يكون أَنَّى استفهاما، كأنه قال كيف
يصرفون أو لأي سبب لا يرون
(5/312)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا
رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ
(5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ
الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا
يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى
الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
أنفسهم، ويحتمل أن يكون: أَنَّى ظرفا ل
قاتَلَهُمُ كأنه قال قاتَلَهُمُ اللَّهُ، كيف انصرفوا أو
صرفوا، فلا يكون في القول استفهام على هذا.
قوله عز وجل:
[سورة المنافقون (63) : الآيات 5 الى 8]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ
اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ
أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ
الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7)
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا
يَعْلَمُونَ (8)
كان أمر عبد الله بن أبي ابن سلول، أنه خرج مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فبلغ الناس إلى ماء سبق
إليه المهاجرون وكأنهم غلبوا الأنصار عليه بعض الغلبة، فقال
عبد الله بن أبي لأصحابه: قد كنت قلت لكم في هؤلاء الجلابيب ما
قلت فلم تسمعوا مني، وكان المنافقون ومن لا يتحرى يسمي
المهاجرين الجلابيب ومنه قول حسان بن ثابت: [البسيط]
أرى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا ... وابن القريعة أمسى بيضة
البلد
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتحض علينا يا حسان» ، ثم إن
الجهجاه الغفاري كان أجيرا لعمر بن الخطاب ورد الماء بفرس
لعمر، فازدحم هو وسنان بن وبرة الجهني وكان حليفا للأوس فكسع
الجهجاه سنانا، فغضب سنان فتأثروا، ودعا الجهجاه: يا
للمهاجرين، ودعا سنان: يا للأنصار، فخرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية» ، فلما أخبر بالقصة،
قال: «دعوها فإنها منتنة» . واجتمع في الأمر عبد الله بن أبيّ
في قوم من المنافقين، وكان معهم زيد بن أرقم فتى صغيرا لم
يتحفظ منه، فقال عبد الله بن أبي: أوقد تداعوا علينا فو الله
ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، وقال لهم:
لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ
مِنْهَا الْأَذَلَّ، وقال لهم: إنما يقيم هؤلاء المهاجرون مع
محمد بسبب معونتكم وإنفاقكم عليهم، ولو قطعتم ذلك عنهم لفروا،
فذهب زيد بن أرقم إلى عمه وكان في حجره وأخبره، فأتى به إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «يا زيد، غضبت على الرجل أو لعلك وهمت» ،
فأقسم زيد ما كان شيء من ذلك، ولقد سمع من عبد الله بن أبيّ ما
حكى، فعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله بن أبي عند
رجال من الأنصار، فبلغه ذلك، فجاء وحلف ما قال، وكذّب زيدا،
وحلف معه قوم من المنافقين، فكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم
زيدا، وصدق عبد الله بن أبي، فبقي زيد في منزله لا يتصرف حياء
من الناس،
(5/313)
فنزلت هذه السورة عند ذلك، فبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم في زيد وقال له: «لقد صدقك الله يا زيد
ووفت أذنك» ، فخزي عند ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول، ومقته
الناس، ولامه المؤمنون من قومه وقال بعضهم: امض إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم، واعترف بذنبك يستغفر لك، فلوى رأسه إنكارا
لهذا الرأي، وقال لهم: لقد أشرتم عليّ بأن أعطي زكاة من مالي
ففعلت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد.
قال القاضي أبو محمد: فهذا هو قصص هذه السورة موجزا، و «تعال»
نداء يقتضي لفظه أنه دعاء الأعلى للأسفل، ثم استعمل لكل داع
لما فيه من حسن الأدب. وقرأ نافع والمفضل عن عاصم «لووا»
بتخفيف الواو، وهي قراءة الحسن بخلاف ومجاهد، وأهل المدينة،
وقرأ الباقون وأبو جعفر والأعمش:
«لوّوا» بشد الواو على تضعيف المبالغة، وهي قراءة طلحة وعيسى
وأبي رجاء وزر والأعرج، وقرأ بعض القراء هنا: «يصدون» بكسر
الصاد، والجمهور بضمها، وقوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ الآية،
روي أنه لما نزلت: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً
فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: 80] ، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
«لأزيدن على السبعين» ، وفي حديث آخر: «لو علمت أني إن زدت على
السبعين غفر لهم لزدت» ، فكأنه عليه السلام رجا أن هذا الحد
ليس على جهة الحتم جملة، بل على أن ما يجاوزه يخرج عن حكمه،
فلما فعل ابن أبي وأصحابه ما فعلوا شدد الله تعالى عليهم في
هذه السورة، وأعلم أنه لن يغفر لهم دون حد في الاستغفار، وفي
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أعلم أني إن زدت غفر
لهم» نص على رفض دليل الخطاب.
وقرأ جمهور الناس: «أستغفرت» بالقطع وألف الاستفهام، وقرأ أبو
جعفر بن القعقاع: «آستغفرت» بمدّ على الهمزة وهي ألف التسوية،
وقرأ أيضا: بوصل الألف دون همز على الخبر، وفي هذا كله ضعف
لأنه في الأولى: أثبت همزة الوصل، وقد أغنت عنها همزة
الاستفهام، وفي الثانية: حذف همزة الاستفهام وهو يريدها وهذا
مما لا يستعمل إلا في الشعر.
وقوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ أشار عبد الله بن أبي ومن قال
بقوله، قاله علي بن سليمان ثم سفه أحلامهم في أن ظنوا إنفاقهم
هو سبب رزق المهاجرين ونسوا أن جريان الرزق بيد الله تعالى،
إذا انسد باب انفتح غيره، وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي: «حتى
ينفضوا» بضم الياء وتخفيف الفاء، يقال: «أنفض» الرجل إذا فني
طعامه فنفض وعاءه والخزائن موضع الإعداد، ونجد القرآن قد نطق
في غير موضع بالخزائن ونجد في الحديث: «خزنة الربح» وفي
القرآن: مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النور: 43] ، فجائز أن
تكون هذه عبارة عن القدرة وأن هذه الأشياء إيجادها عند ظهورها
جائز. وهو الأظهر. إن منها أشياء مخلوقة موجودة يصرفها الله
تعالى حيث شاء، وظواهر ألفاظ الشريعة تعطي هذا. ومعناه في
التفسير قال عتت على الخزان، وفي الحديث: «ما انفتح من خزائن
الربح على قوم عاد إلا قدر حلقة الخاتم، ولو انفتح مقدار منخر
الثور لهلكت الدنيا» ، وقال رجل لحاتم الأصم: من أين تأكل،
فقرأ: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وقال
الجنيد: خَزائِنُ السماء: الغيوب، وخَزائِنُ الأرض: القلوب:
وقرأ الجمهور:
(5/314)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا
أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا
رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ
يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
«ليخرجن الأعز» بضم الياء وكسر الراء بمعنى
أن العزيز يخرج الذليل ويبعده، وقال أبو حاتم: وقرىء «لنخرجن»
بنون الجماعة مفتوحة، وضم الراء، «الأعزّ» نصبا منها، «الأذلّ»
أيضا نصبا على الحال، وذكرها أبو عمر الداني عن الحسن، ورويت
هذه القراءة: «لنخرجن» بضم النون وكسر الراء، وقرأ قوم فيما
حكى الفراء والكسائي، وذكرها المهدوي: «ليخرجن الأعز منها
الأذلّ» بفتح الياء وضم الراء. ونصب «الأذلّ» على الحال بمعنى:
أن نحن الذين كنا أعزة سنخرج أذلاء، وجاءت هذه الحال معرفة،
وفيها شذوذ، وحكى سيبويه: أدخلوا الأول فالأول، ثم أعلم تعالى
أن العزة لله وللرسول وللمؤمنين، وفي ذلك وعيد، وروي أن عبد
الله بن عبد الله بن أبي، وكان رجلا صالحا لما سمع الآية، جاء
إلى أبيه فقال له: أنت والله يا أبت الذليل، ورسول الله
العزيز، فلما وصل الناس إلى المدينة، وقف عبد الله بن عبد الله
على باب السكة التي يسلكها أبوه، وجرد السيف ومنعه الدخول،
وقال: والله لا دخلت إلى منزلك إلا أن يأذن في ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وعبد الله ابن أبي في أذل الرجال، وبلغ
ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليه أن خلّه يمض إلى
منزله، فقال: أما الآن فنعم، فمضى إلى منزله.
قوله عز وجل:
[سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ
وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ
فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما
رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ
يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ
خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)
الإلهاء الإشغال بملتذ وشهوة، وذكر اللَّهِ هنا عام في الصلاة
والتوحيد والدعاء، وغير ذلك من فرض ومندوب، وهذا قول الحسن
وجماعة من المفسرين، وقال الضحاك وعطاء وأصحابه: المراد
بالذكر:
الصلاة المكتوبة، والأول أظهر، وكذلك قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا
مِنْ ما رَزَقْناكُمْ، قال جمهور من المتأولين:
المراد الزكاة، وقال آخرون: ذلك عام في مفروض ومندوب. وقوله:
يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي علاماته، وأوائل أمره وقوله:
لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، طلب للكرة والإمهال،
وفي مصحف أبي بن كعب:
«آخرتن» بغير ياء، وسماه قريبا لأنه آت، وأيضا فإنما يتمنى ذلك
ليقضي فيه العمل الصالح فقط، وليس يتسع الأمل حينئذ لطلب العيش
ونضرته، وفي مصحف أبي: «فأتصدق» ، وقوله: وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ ظاهره العموم، فقال ابن عباس هو الحج، وروي عنه
أنه قال في مجلسه يوما: ما من رجل لا يؤدي الزكاة ولا يحج إلا
طلب الكرة عند موته فقال له رجل: أما تتقي الله المؤمن بطلب
الكرة؟ فقال له ابن عباس:
نعم، وقرأ الآية، وقرأ جمهور السبعة والناس: «وأكن» بالجزم
عطفا على الموضع، لأن التقدير: «إن تؤخرني أصدق، وأكن» ، هذا
مذهب أبي علي، فأما ما حكاه سيبويه عن الخليل فهو غير هذا وهو
جزم «أكن» على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني، ولا موضع هنا،
لأن الشرط ليس بظاهر، وإنما يعطف
(5/315)
على الوضع حيث يظهر الشرط كقوله تعالى:
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الأعراف: 186] ،
ونذرهم، فمن قرأ بالجزم عطف على موضع فَلا هادِيَ لَهُ
[الأعراف: 186] ، لأنه وقع هنالك فعل كان مجزوما، وكذلك من
قرأ: «ونكفر» بالجزم عطفا على موضع فهو خير لكم، وقرأها أبو
عمرو وأبو رجاء والحسن وابن أبي إسحاق، ومالك بن دينار وابن
محيصن والأعمش وابن جبير وعبيد الله بن الحسن العنبري، قال أبو
حاتم، وكان من العلماء الفصحاء: «وأكون» بالنصب عطفا على
فَأَصَّدَّقَ، وقال أبو حاتم في كتبها في المصحف بغير واو،
وإنهم حذفوا الواو كما حذفوها من «أبجد» وغيره، ورجحها أبو
علي، وفي مصحف أبيّ بن كعب وابن مسعود: «فأتصدق وأكن» وفي قوله
تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها،
حض على المبادرة ومسابقة الأجل بالعمل الصالح، وقرأ السبعة
والجمهور: «تعملون» بالتاء على المخاطبة لجميع الناس، وقرأ
عاصم في رواية أبي بكر: «بما يعملون» بالياء على تخصيص الكفار
بالوعيد.
(5/316)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ
الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة التغابن
قال بعض المفسرين: هي مدنية، وقال آخرون: هي مكية، إلا من قوله
عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ
أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ ... [التغابن: 14] إلى آخر السورة
فإنه مدني. وذكر الثعلبي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: ما من مولود يولد إلا في تشابيك رأسه خمس آيات من
فاتحة سورة التغابن.
قوله عز وجل:
[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ
الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ
مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما
تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
قوله تعالى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عموم معناه
التنبيه، والشيء: الموجود، وقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ
تعديد نعمة، والمعنى فَمِنْكُمْ كافِرٌ لنعمته في الإيجاد حين
لم يوجد كافر لجهله بالله تعالى، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بالله،
والإيمان به شكر لنعمته، فالإشارة في هذا التأويل في الإيمان
والكفر هي إلى اكتساب العبد، هذا قول جماعة من المتأولين،
وحجتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على
الفطرة» ، وقوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30] ، وكأن العبارة في قوله تعالى:
فَمِنْكُمْ تعطي هذا، وكذلك يقويه قوله: وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وقيل: المعنى «خلقكم منكم مؤمن ومنكم
كافر» في أصل الخلق فهي جملة في موضع الحال، فالإشارة على هذا
في الإيمان والكفر هي إلى اختراع الله تعالى وخلقه، وهذا تأويل
ابن مسعود وأبي ذر، ويجري مع هذا المعنى قول النبي صلى الله
عليه وسلم: «إن أحدكم يكون في بطن أمه نطفة أربعين يوما، ثم
علقة أربعين يوما، ثم مضغة أربعين يوما، ثم يجيء الملك فيقول
يا رب: أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق فما الأجل؟
فيكتب ذلك في بطن أمه» فقوله في الحديث: «أشقي أم سعيد» هو في
هذه الآية: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ويجري مع
هذا المعنى قوله في الغلام الذي قتله الخضر: إنه طبع يوم طبع
كافرا، وما روى ابن مسعود أنه عليه السلام قال: «خلق الله
فرعون في البطن كافرا وخلق يحيى بن زكرياء مؤمنا» وقال عطاء بن
(5/317)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ
أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ
كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا
أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى
اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)
أبي رباح: فمعنى الآية: فَمِنْكُمْ كافِرٌ
بالله مُؤْمِنٌ بالكوكب، ومؤمن بالله كافر بالكوكب، وقدم
الكافر لأنه أعرف من جهة الكثرة، وقوله تعالى: بِالْحَقِّ أي
حين كان خلقها محقوقا في نفسه ليست عبثا ولا لغير معنى.
وقرأ جمهور الناس: «صوركم» بضم الصاد، وقرأ أبو رزين: «صوركم»
بكسرها، وهذا تعديد النعمة في حسن الخلقة، لأن أعضاء ابن آدم
متصرفة لجميع ما تتصرف به أعضاء الحيوان، وبزيادات كثيرة فضل
بها ثم هو مفضل بحسن الوجه، وجمال الجوارح، وحجة هذا قوله
تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ
[التين: 4] ، وقال بعض العلماء: النعمة المعددة هنا إنما هي
صورة الإنسان من حيث هو إنسان مدرك عاقل، فهذا هو الذي حسن له
حتى لحق ذلك كمالات كثيرة.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أحرى في لغة العرب، لأنها
لا تعرف الصور إلا الشكل، وذكر تعالى علمه بما في السماوات
والأرض، فعم عظام المخلوقات، ثم تدرج القول إلى أخفى من ذلك
وهو جميع ما يقوله الناس في سر وفي علن، ثم تدرج إلى ما هو
أخفى، وهو ما يهجس بالخواطر، وذات الصدور: ما فيها من خطرات
واعتقادات كما يقال: الذئب مغبوط بذي بطنه، كما قال أبو بكر
رضي الله عنه: إنما هو ذو بطن بنت خارجة، و «الصدور» هنا عبارة
عن القلب، إذا القلب في الصدر.
قوله عز وجل:
[سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 7]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ
فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ
بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا
وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)
يَأْتِكُمْ جزم وأصله «يأتيكم» قال سيبويه: واعلم أن الآخر إذا
كان يسكن في الرفع حذف في الجزم، والخطاب في هذه الآية لقريش،
ذكروا بما حل بعاد وثمود وقوم إبراهيم وغيرهم ممن سمعت قريش
أخبارهم، و «وبال الأمر» : مكروهه، وما يسوء منه، وقوله تعالى:
ذلِكَ بِأَنَّهُ إشارة إلى ذوق الوبال، وكون عذاب الآخرة لهم،
ثم ذكر تعالى من مقالة أولئك الماضين ما هو مشبه لقول كفار
قريش من استبعاد بعث الله للبشر، ونبوة أحد من بني آدم، وحسد
الشخص المبعوث، وقوله: أَبَشَرٌ رفع بالابتداء، وجمع الضمير في
قوله: يَهْدُونَنا من حيث كان البشر اسم هذا النوع الآدمي،
كأنهم قالوا أناس هداتنا؟ وقوله تعالى: اسْتَغْنَى اللَّهُ
عبارة عما ظهر من هلاكهم، وأنهم لن يضروا الله شيئا، فبان أنه
كان غنيا أزلا وبسبب ظهور هلاكهم بعد أن لم يكن ظاهرا ساغ
استعمال هذا البناء مسندا إلى اسم الله تعالى، لأن بناء استفعل
إنما هو لطلب الشيء وتحصيله بالطلب، وقوله تعالى: زَعَمَ
الَّذِينَ كَفَرُوا
(5/318)
فَآمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ
الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ
وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
(10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
يريد قريشا ثم هي بعد تعم كل كافر بالبعث،
وقال عبد الله بن عمر: الزعم: كنية الكذب، وقال عليه السلام:
بئس مطية الرجل زعموا، ولا توجد «زعم» مستعملة في فصيح من
الكلام إلا عبارة عن الكذب، أو قول انفرد به قائله فيريد ناقله
أن يبقي عهدته على الزاعم، ففي ذلك ما ينحو إلى تضعيف الزعم،
وقول سيبويه: زعم الخليل إنما يجيء فيما انفرد الخليل به، ثم
أمره تعالى أن يجيب نفيهم يما يقتضي الرد عليه إيجاب البعث وأن
يؤكد ذلك بالقسم، ثم توعدهم تعالى في آخر الآية بأنهم يخبرون
بأعمالهم على جهة التوقيف والتوبيخ، المؤدي إلى العقاب.
قوله عز وجل:
[سورة التغابن (64) : الآيات 8 الى 11]
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي
أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ
يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ
عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
هذا دعاء إلى الله تعالى وتبليغ وتحذير من يوم القيامة، و
«النور» القرآن ومعانيه، والعامل في قوله يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ
يحتمل أن تكون لَتُنَبَّؤُنَّ [التغابن: 7] ، ويحتمل أن تكون
خَبِيرٌ، وهو تعالى خبير في كل يوم، ولكن يخص ذلك اليوم، لأنه
يوم تضرهم فيه خبرة الله تعالى بأمورهم، وقرأ جمهور السبعة:
«يجمعكم» بضم العين، وقرأ أبو عمر بسكونها، وروي عنه أنه أشمها
الضم وهذا على جواز تسكين الحركة وإن كانت لإعراب، كما قال
جرير: ولا تعرفكم العرب، وقرأ سلام ويعقوب: «نجمعكم» بالنون
وضم العين، و: يوم الْجَمْعِ هو يوم القيامة، وهو يَوْمُ
التَّغابُنِ، وذلك أن كل واحد ينبعث من قبره وهو يرجو حظا
ومنزلة، فإذا وقع الجزاء غبن المؤمنون الكافرين لأنهم يحوزون
الجنة ويحصل الكفار في النار، نحا هذا المنحى مجاهد وغيره،
وليس هذا الفعل من التغابن من اثنين، بل كتواضع وتحامل، وقرأ
نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم: «نكفر عنه» بنون وكذلك:
«ندخله» ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة والحسن بخلاف
وطلحة، وقرأ الباقون والأعمش وعيسى والحسن في الموضعين بالياء
على معنى يكفر الله، والأول هو نون العظمة وقوله تعالى: ما
أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ يحتمل أن يريد المصائب التي هي رزايا
وخصها بالذكر بأنها الأهم على الناس والأبين أثرا في أنفسهم،
ويحتمل أن يريد جميع الحوادث من خير وشر، وذلك أن الحكم واحد
في أنها بِإِذْنِ اللَّهِ، والإذن في هذا الموضع عبارة عن
العلم والإرادة وتمكين الوقوع، وقوله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ قال فيه المفسرون المعنى: ومن آمن
وعرف أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وعلمه، هانت عليه مصيبته
وسلم الأمر لله تعالى.
وقرأ سعيد بن جبير وطلحة بن مصرف: «نهد» بالنون، وقرأ الضحاك:
«يهد قلبه» برفع الياء. وقرأ عكرمة
(5/319)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى
رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
(13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ
وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ
تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ
وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
وعمرو بن دينار: «يهدأ» برفع القلب، وروي
عن عكرمة أنه سكن بدل الهمزة ألفا، على معنى أن صاحب المصيبة
يسلم فتسكن نفسه، ويرشد الله المؤمن به إلى الصواب في الأمور.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ عموم مطلق على
ظاهره.
قوله عز وجل:
[سورة التغابن (64) : الآيات 12 الى 15]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ
(12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا
لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا
وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما
أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
قوله تعالى: وَأَطِيعُوا عطف على فَآمِنُوا [التغابن: 8] ،
وقوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ... إلى إلى آخر الآية.
وعيد وتربية لمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بلغ، وفي قوله
تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ تحريض
للمؤمنين على مكافحة الكفار والصبر على دين الله، وقوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ ...
إلى آخر السورة قرآن مدني، اختلف الناس في سببه، فقال عطاء بن
أبي رباح: إنه نزل في عوف بن مالك الأشجعي، وذلك أنه أراد غزوا
مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتمع أهله وأولاده فثبطوه
وتشكوا إليه فراقه، فرق ولم يغز، ثم إنه ندم وهم بمعاقبتهم،
فنزلت الآية بسببه محذرة من الأزواج والأولاد وفتنتهم، ثم صرفه
تعالى عن معاقبتهم بقوله: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وقال
بعض المفسرين سبب الآية: إن قوما آمنوا بالله وثبطهم أزواجهم
وأولادهم عن الهجرة فلم يهاجروا إلا بعد مدة، فوجدوا غيرهم قد
تفقه في الدين، فندموا وأسفوا وهموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم،
ثم أخبر تعالى أن الأموال والأولادتْنَةٌ
تشغل المرء عن مراشده وتحمله من الرغبة في الدنيا على ما لا
يحمده في آخرته، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الولد مجبنة»
(مبخلة) ، وخرج أبو داود حديثا في مصنفه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، كان يخطب يوم الجمعة على المنبر حتى جاء الحسن
والحسين عليهما قميصان أحمران يجرانهما يعثران ويقومان، فنزل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر حتى أخذهما وصعد بهما،
ثم قرأ: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
الآية، وقال إني رأيت هذين فلم أصبر، ثم أخذ في خطبته.
قال القاضي أبو محمد: وهذه ونحوها هي فتنة الفضلاء، فأما فتنة
الجهال والفسقة، فمؤدية إلى كل فعل مهلك، وقال ابن مسعود: لا
يقول أحدكم اللهم اعصمني عن الفتنة فإنه ليس يرجع أحد إلى أهل
ومال إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من
مضلات الفتن. وقال عمر لحذيفة: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت أحب
الفتنة وأكره الحق، فقال عمر: ما هذا؟ فقال: أحب ولدي وأكره
الموت.
وقوله تعالى: اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة.
(5/320)
فَاتَّقُوا اللَّهَ
مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا
خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
قوله عز وجل:
[سورة التغابن (64) : الآيات 16 الى 18]
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا
وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا
اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
قال قتادة وفريق من الناس: إن قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ ناسخ لقوله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ
[آل عمران: 102] ، وروي أن الأمر بحق التقاة نزل، فشق ذلك على
الناس حتى نزل: مَا اسْتَطَعْتُمْ، وذهبت فرقة منهم أبو جعفر
النحاس إلى أنه لا نسخ في الآيتين، وأن قوله: حَقَّ تُقاتِهِ
[آل عمران: 102] مقصده «فيما استطعتم» ، ولا يعقل أن يطيع أحد
فوق طاقته واستطاعته، فهذه على هذا التأويل مبينة لتلك، وتحتمل
هذه الآية أن يكون: فَاتَّقُوا اللَّهَ مدة استطاعتكم التقوى،
وتكون: مَا ظرفا للزمان كله كأنه يقول: حياتكم وما دام العمل
ممكنا، وقوله: خَيْراً ذهب بعض النحاة إلى أنه نصب على الحال
وفي ذلك ضعف، وذهب آخرون منهم إلى أنه نصب بقوله: وَأَنْفِقُوا
قالوا والخبر هنا: المال، وذهب فريق منهم إلى أنه نعت لمصدر
محذوف، تقديره: إنفاقا خَيْراً، ومذهب سيبويه:
أنه نصب بإضمار فعل يدل عليه أَنْفِقُوا.
وقرأ أبو حيوة: «يوقّ» بفتح الواو وشد القاف، وقرأ أبو عمرو
«شح» بكسر الشين، وقد تقدم القول في: «شح» النفس ما هو في سورة
الحشر. وقال الحسن: نظرك لامرأة لا تملكها شح، وقيل: يا رسول
الله: ما يدخل العبد النار؟ قال: «شح مطاع، وهوى متبع، وجبن
هالع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك» .
وقرأ جمهور السبعة: «تضاعفه» وقرأ ابن كثير وابن عامر:
«يضاعفه» ، وذهب بعض العلماء إلى أن هذا الحض هو على أداء
الزكاة المفروضة، وذهب آخرون منهم إلى أن الآية، في المندوب
إليه وهو الأصح إن شاء الله.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ شَكُورٌ إخبار بمجرد شكره تعالى على
الشيء اليسير، وأنه قد يحط به عن من يشاء الحوب العظيم لا رب
غيره.
(5/321)
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ
رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا
يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ
بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ
لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ
بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا
(3)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الطّلاق
وهي مدنية بإجماع أهل التفسير.
قوله عز وجل:
[سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ
وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي
لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ
وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ
كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ
لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ
لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)
الطلاق على الجملة مكروه، لأنه تبديد شمل في الإسلام، وروى أبو
موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطلقوا
النساء إلا من ريبة، فإن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات» .
وروى أنس أنه عليه السلام قال: «ما حلف بالطلاق ولا استحلف به
إلا منافق» . واختلف في ندائه النبي. ثم قوله تعالى بعد ذلك:
طَلَّقْتُمُ، فقال بعض النحويين حكاه الزهراوي، في ذلك خروج من
مخاطبة أفراد إلى مخاطبة جماعة، وهذا موجود، وقال آخرون منهم
في نداء النبي صلى الله عليه وسلم: أريدت أمته معه، فلذلك قال:
إِذا طَلَّقْتُمُ، وقال آخرون منهم إن المعنى: يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قل لهم إِذا طَلَّقْتُمُ، وقال آخرون إنه من حيث
يقول الرجل العظيم فعلنا وصنعنا خوطب النبي صلى الله عليه وسلم
ب طَلَّقْتُمُ إظهارا لتعظيمه، وهذا على نحو قوله تعالى في عبد
الله بن أبي: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ [المنافقون: 7] إذا
كان قوله مما يقوله جماعة، فكذلك النبي في هذه ما يخاطب به فهو
خطاب الجماعة.
قال القاضي أبو محمد: والذي يظهر لي في هذا أنهما خطابان
مفترقان، خوطب النبي على معنى تنبيهه لسماع القول وتلقي الأمر
ثم قيل له: إِذا طَلَّقْتُمُ، أي أنت وأمتك، فقوله: إِذا
طَلَّقْتُمُ، ابتداء كلام لو ابتدأ السورة به، وطلاق النساء:
حل عصمتهن وصورة ذلك وتنويعه مما لا يختص بالتفسير، وقوله
(5/322)
تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي
لاستقبال عدتهن وقوامها وتقريبها عليهن، وقرأ عثمان وابن عباس
وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله ومجاهد وعلي بن الحسين وزيد بن
علي وجعفر بن محمد: «فطلقوهن في قبل عدتهن» ، وروي عن بعضهم
وعن ابن عمر «لقبل طهرهن» ، ومعنى هذه الآية، أن لا يطلق أحد
امرأته إلا في طهر لم يمسها فيه، هذا على مذهب مالك وغيره ممن
قال: بأن الأقراء الاطهار فيطلق عندهم المطلق في طهر لم يمس
فيه وتعتد به المرأة، ثم تحيض حيضتين تعتد بالطهر الذي بينهما،
ثم يقيم في الطهر الثالث معتدة به، فإذا رأت أول الحيضة
الثالثة حلت، ومن قال: بأن الإقراء الحيض وهم العراقيون قال:
لِعِدَّتِهِنَّ، معناه أن تطلق طاهرا، فتستقبل ثلاث حيض كوامل،
فإذا رأت الطهر بعد الثالثة حلت ويخف عند هؤلاء مس في طهر
الطلاق أو لم يمس، وكذلك مالك يقول: إن طلق في طهر قد مس فيه
معنى الطلاق، ولا يجوز طلاق الحائض، لأنها تطول العدة عليها،
وقيل بل ذلك تعبد ولو علل بالتطويل لا ينبغي أن يجوز إذا
رضيته، والأصل في ذلك حديث عبد الله بن عمر قال: طلقت امرأتي
وهي حائض، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر:
«مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلقها
إن شاء، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء» .
وروى حذيفة أنه عليه السلام قال: «طلقوا المرأة في قبل طهرها»
، ثم أمره تعالى بإحصاء العدة لما يلحق ذلك من أحكام الرجعة
والسكنى والميراث وغير ذلك، ثم أخبر تعالى بأنهن أحق بسكنى
بيوتهن التي طلقن فيها، فنهى عن إخراجهن وعن خروجهن، وسنة ذلك
أن لا تبيت المرأة المطلقة عن بيتها ولا تغيب عنه نهارا إلا في
ضرورة، ومما لا خطب له من جائز التصرف وذلك لحفظ النسب والتحرز
بالنساء، فإن كان البيت ملكا للزوج أو بكراء منه فهذا حكمه،
فإن كان لها فعليه الكراء، فإن كان قد أمتعته طول الزوجية ففي
لزوم خروج العدة له قولان في المذهب اللزوم رعاية لانفصال
مكارمة النكاح، والسقوط من أجل العدة من سبب النكاح، واختلف
الناس في معنى قوله: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ فقال قتادة والحسن ومجاهد:
ذلك الزنا فيخرجن للحد، وهذا قول الشعبي وزيد بن أسلم وحماد
والليث، وقال ابن عباس: ذلك النداء على الإحماء، فتخرج ويسقط
حقها من السكنى وتلزم الإقامة في مسكن يتخذه حفظا للنسب. وفي
مصحف أبي بن كعب «إلا أن يفحشن عليكم» ، وقال ابن عباس أيضا
الفاحشة جميع المعاصي، فمن سرقت أو قذفت أو زنت أو أربت في
تجارة وغير ذلك فقد سقط حقها في السكنى، وقال السدي وابن عمر:
الفاحشة الخروج عن البيت، خروج انتقال، فمتى فعلت ذلك، فقد سقط
حقها في السكنى، وقال قتادة أيضا: المعنى أَنْ يَأْتِينَ
بِفاحِشَةٍ في نشوز عن الزوج فيطلق بسبب ذلك، فلا يكون عليه
سكنى. وقال بعض الناس الفاحشة متى وردت معرفة فهي الزنا، ومتى
جاءت منكرة فهي المعاصي يراد بها سوء عشرة الزوج ومرة غير ذلك،
وقرأ عاصم: «مبيّنة» بفتح الياء المشددة تقول: بان الأمر
وبينته أنا على تضعيف التعدية، وقرأ الجمهور: «مبيّنة» بكسر
الياء، تقول بان الشيء وبين بمعنى واحد، إلا أن التضعيف
للمبالغة، ومن ذلك قولهم قد بين الصبح لذي عينين وقوله تعالى:
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى جميع أوامره في هذه الآية،
وقوله تعالى: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ
ذلِكَ أَمْراً، قال قتادة وغيره: يريد به الرجعة، أي أحصوا
العدة وامتثلوا هذه الأوامر المتفقة لنسائكم
(5/323)
الحافظة لأنسابكم، وطلقوا على السنة تجدوا
المخلص إن ندمتم فإنكم لا تدورن لعل الرجعة تكون بعد، والإحداث
في هذه الآية بين التوجه عبارة عما يوجد من التراجع، وجوز قوم
أن يكون المعنى أَمْراً من النسخ، وفي ذلك بعد، وقوله تعالى:
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يريد به آخر القروء، و «الإمساك
بالمعروف» :
هو حسن العشرة في الإنفاق وغير ذلك، و «المفارقة بالمعروف» :
هو أداء المهر والتمتيع ودفع جميع الحقوق والوفاء بالشروط وغير
ذلك حسب نازلة، وقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ
مِنْكُمْ يريد على الرجعة، وذلك شرط في صحة الرجعة، وللمرأة
منع الزوج من نفسها حتى يشهد، وقال ابن عباس المراد على
الرجعة، والطلاق، لأن الإشهاد يرفع من النوازل إشكالات كثيرة،
وتقييد تاريخ الإشهاد من الإشهاد، وقال النخعي: العدل: من لم
تظهر منه ريبة، وهذا قول الفقهاء، والعدل حقيقة الذي لا يخاف
إلا الله، وقوله تعالى: أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أمر
للشهود، وقوله تعالى: ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ إشارة إلى إقامة
الشهادة، وذلك أن جميع فصول الأحكام والأمور فإنما تدور على
إقامة الشهادة، وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ
لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. قال
علي بن أبي طالب وكثير من المتأولين نفي من معنى الطلاق، أي
ومن لا يتعدى في الطلاق السنة إلى طلاق الثلاث وغير ذلك يجعل
الله له مخرجا إن ندم بالرجعة المباحة ويرزقه ما يطعم أهله
ويوسع عليه، ومن لا يتق الله فربما طلق وبت وندم، فلم يكن له
مخرج وزال عليه رزق زوجته. وقد فسر ابن عباس نحو هذا فقال
للمطلق ثلاثا: أنت لم تتق الله فبانت منك امرأتك ولا أرى لك
مخرجا. وقال ابن عباس أيضا معنى: يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً
يخلصه من كرب الدنيا والآخرة، واختلف في ألفاظ رواية هذه
القصة، قال ابن عباس للمطلق، لكن هذا هو المعنى، وقال بعض رواة
الآثار: نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي وذلك أنه أسر
ولده وقدر عليه رزقه، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فأمر بالتقوى، فقيل: لم يلبث أن تفلت ولده وأخذ قطيع غنم
للقوم الذين أسروه، وجاء أباه، فسأل عوف رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أتطيب له تلك الغنم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: نعم. ونزلت الآية في ذلك. وقوله تعالى: وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، الآيات كلها عظة
لجميع الناس، والحسب: الكافي المرضي، وقال ابن مسعود هذه أكثر
الآيات حضّا على التفويض، وروي أن رجلا قال لعمر: ولّني مما
ولاك الله، فقال له عمر: أتقرأ القرآن؟ قال: لا.
قال: فأنا لا أولي من لا يقرأ القرآن. فتعلم الرجل رجاء
الولاية، فلما حفظ كثيرا من القرآن تخلف عن عمر فلقيه يوما
فقال له عمر ما أبطأ بك؟ قال له تعلمت القرآن، فأغناني الله
تعالى عن عمر وعن بابه. ثم قرأ هذه الآيات من هذه السورة.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ بيان وحض على
التوكل، أي لا بد من نفوذ أمر الله توكلت أيها المرء أو لم
تتوكل قاله مسروق. فإن توكلت كفاك وتعجلت الراحة والبركة، وإن
لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك، وأمره في الوجهين نافذ، وقرأ
داود بن هند ورويت عن أبي عمرو «بالغ أمره» برفع الأمر وحذف
مفعول تقدير: بالغ أمره ما شاء، وقرأ جمهور السبعة: «بالغ
أمره» بنصب الأمر وقرأ حفص والمفضل عن عاصم: «بالغ أمره» على
الإضافة وترك التنوين في: «بالغ» ، ورويت عن أبي عمرو،
والأعمش، وهي قراءة طلحة بن مصرف، وقرأ جمهور الناس: «قدرا»
بسكون الدال، وقرأ بعض القراء: «قدرا» بفتح الدال وهذا كله حض
على التوكل.
(5/324)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ
وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ
أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ
إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ
سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ
لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ
لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ
قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ
اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
قوله عز وجل:
[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 7]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ
ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي
لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ
مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ
إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ
سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ
لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ
أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ
بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)
اللَّائِي: هو جمع ذات في ما حكى أبو عبيدة وهو ضعيف، والذي
عليه الناس أنه: جمع التي، وقد يجيء جمعا للذي، واليائسات من
المحيض على مراتب، فيائسة هو أول يأسها، فهذه ترفع إلى السنة،
ويبقيها الاحتياط على حكم من ليست بيائسة، لأنّا لا ندري لعل
الدم يعود، ويائسة قد انقطع عنها الدم لأنها طعنت في السن ثم
طلقت، وقد مرت عادتها بانقطاع الدم، إلا أنها مما يخاف أن تحمل
نادرا فهذه التي في الآية على أحد التأويلين في قوله: إِنِ
ارْتَبْتُمْ وهو قول من يجعل الارتياب بأمر الحمل وهو الأظهر،
ويائسة قد هرمت حتى تتيقن أنها لا تحمل، فهذه ليست في الآية،
لأنها لا يرتاب بحملها، لكنها في حكم الأشهر الثلاثة إجماعا
فيما علمت، وهي في الآية على تأويل من يرى قوله: إِنِ
ارْتَبْتُمْ معناه في حكم اليائسات، وذلك أنه روى إسماعيل بن
أبي خالد أن قوما منهم أبي بن كعب وخلاد بن النعمان لما سمعوا
قول الله عز وجل: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] قالوا يا رسول
الله: فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزلت الآية، فقال
قائل منهم: فما عدة الحامل؟ فنزلت:
وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ،
وقد تقدم ذكر الخلاف في تأويل: إِنِ ارْتَبْتُمْ، وَأُولاتُ
جمع ذات، وأكثر أهل العلم على أن هذه الآية تعم الحوامل
المطلقات والمعتدات من الوفاة والحجة حديث سبيعة الأسلمية
قالت: كنت تحت سعد بن خولة فتوفي في حجة الوداع، ووضعت حملها
قبل أربعة أشهر، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «قد حللت»
وأمرها أن تتزوج، وقال ابن مسعود:
نزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى، يعني أن قوله تعالى:
وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
نزلت بعد قوله تعالى وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234] ، وقال ابن عباس
وعلي بن أبي طالب: إنما هذه في المطلقات، وأما في الوفاة فعدة
الحامل آخر الأجلين إن وضعت قبل أربعة أشهر وعشر تمادت إلى
آخرها، والقول الأول أشهر، وعليه الفقهاء، وقرأ الضحاك:
«أحمالهن» على الجمع، وأمر الله تعالى بإسكان المطلقات ولا
خلاف في ذلك في التي لم تبت. وأما المبتوتة، فمالك رحمه الله
يرى لها السكنى لمكان حفظ النسب، ولا يرى لها نفقة،
(5/325)
وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ
فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا
نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ
أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا
شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا
(10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ
لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ
وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ
أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
لأن النفقة بإزاء الاستمتاع، وهو قول
الأوزاعي والشافعي وابن أبي ليلى وابن عبيد وابن المسيب والحسن
وعطاء والشعبي وسليمان بن يسار، وقال أصحاب الرأي والثوري: لها
السكنى والنفقة، وقال جماعة من العلماء: ليس لها السكنى ولا
نفقة. والوجد: السعة في المال، وضم الواو وفتحها وكسرها، هي
كلها بمعنى واحد، وقرأ الجمهور: «وجدكم» بضم الواو بمعنى سعة
الحال، وقرأ الأعرج فيما ذكر عصمة «وجدكم» بفتح الواو، وذكرها
أبو عمرو عن الحسن وأبي حيوة، وقرأ الفياض بن غزوان ويعقوب:
بكسر الواو وذكرها المهدوي عن الأعرج وعمرو بن ميمون، وأما
الحامل فلا خلاف في وجوب سكناها ونفقتها بتت أو لم تبت لأنها
مبينة في الآية، واختلفوا في نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها
على قولين لعلماء الأمة، فمنعها قوم وأوجبها في التركة قوم،
وكذلك النفقة على المرضع واجبة وهي الأجر مع الكسوة وسائر
المؤن التي بسطها في كتب الفقه، وقوله تعالى: وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ أي ليأمر كل واحد صاحبه بخير، ولا شك
أن من أمر بخير فهو أسرع إلى فعل ذلك الخير وليقبل كل واحد ما
أمر به من المعروف، والقبول والامتثال هو الائتمار، وقال
الكسائي: أْتَمِرُوا معناه: تشاوروا، ومنه قوله تعالى: إِنَّ
الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص: 20] ،
ومنه قول امرئ القيس:
ويعدو على المرء ما يأتمر وقوله تعالى: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ أي
تشططت المرأة في الحد الذي يكون أجرة على الرضاع، فللزوج أن
يسترضع أخرى بما فيه رفقه إلا أن لا يقبل المولود غير أمه
فتجبر حينئذ على رضاعه بأجرة مثلها ومثل الزوج في حالهما
وغناهما، ثم حض تعالى أهل الجدة على الإنفاق وأهل الإقتار على
التوسط بقدر حاله.
وهذا هو العدل بينهم لئلا تضيع هي ولا يكلف هو ما لا يطيق.
واختلف العلماء في الذي يعجز عن نفقة امرأته، فقال مالك
والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو هريرة وابن المسيب والحسن: يفرق
بينهما، وقال أصحاب الرأي وعمر بن عبد العزيز وجماعة: لا يفرق
بينهما، ثم رجى تعالى باليسر تسهيلا على النفوس وتطييبا لها،
وقرأ الجمهور: «يعظم» بالياء، وقرأ الأعمش: «نعظم» بالنون
واختلف عنه.
قوله عز وجل:
[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 11]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها
وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها
عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ
أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً
فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا
قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً
يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ
إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً
(11)
كَأَيِّنْ: هي كاف الجر دخلت على أي، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ
ابن كثير وعبيد عن أبي
(5/326)
اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
عمرو: «وكائن» ممدود مهموز، كما قال
الشاعر:
وكائن بالأباطح من صديق وقرأ بعض القراء: وَكَأَيِّنْ بتسهيل
الهمزة، وفي هذين الوجهين قلب لأن الياء قبل الألفات، وقوله
تعالى: فَحاسَبْناها قال بعض المتأولين: الآية في الآخرة، أي
ثم هو الحساب والتعذيب والذوق وخسار العاقبة. وقال آخرون: ذلك
في الدنيا، ومعنى: فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً أي لم نغتفر
لها زلة بل أخذت بالدقائق من الذنوب، وقرأ نافع وابن كثير وابن
ذكران: «نكرا» بضم الكاف، وقرأ الباقون: «نكرا» بسكون الكاف
وهي قراءة عيسى، وقوله تعالى: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً
شَدِيداً يظهر منه أنه بيان لوجه خسران عاقبتهم، فيتأبد بذلك
أن تكون المحاسبة والتعذيب والذوق في الدنيا، ثم ندب تعالى
أُولِي الْأَلْبابِ إلى التقوى تحذيرا، وقوله تعالى: الَّذِينَ
آمَنُوا صفة ل أُولِي الْأَلْبابِ، وقرأ نافع وابن عامر:
«صالحا ندخله» بالنون، وكذلك روى المفضل عن عاصم، وقرأ
الباقون: «يدخله» بالياء، وقوله تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا اختلف الناس في تقدير ذلك، فقال
قوم من المتأولين: المراد بالاسمين القرآن، ف «رسول» يعني
رسالة، وذلك موجود في كلام العرب، وقال آخرون: رَسُولًا نعت أو
كالنعت لذكر، فالمعنى ذكر ذا رسول، وقيل الرسول: ترجمة عن
الذكر كأنه بدل منه، وقال آخرون:
المراد بهما جميعا محمد وأصحابه، المعنى: ذا ذكر رسولا، وقال
بعض حذاق المتأولين الذكر: اسم من أسماء النبي صلى الله عليه
وسلم: واحتج بهذا القاضي ابن الباقلاني في تأويل قوله تعالى:
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ
[الأنبياء: 2] ، وقال بعض النحاة معنى الآية ذِكْراً بعث
رَسُولًا فهو منصوب بإضمار فعل، وقال أبو علي الفارسي: يجوز أن
يكون رَسُولًا معمولا للمصدر الذي هو الذكر.
قال القاضي أبو محمد: وأبين الأقوال عندي معنى أن يكون الذكر
للقرآن والرسول محمد، والمعنى بعث رسولا، لكن الإيجاز اقتضى
اختصار الفعل الناصب للرسول ونحا هذا المنحى السدي، وقرأ نافع
وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر: «مبيّنات» بفتح الياء، وقرأها
بكسر الياء ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي والحسن والأعمش
وعيسى، وسائر الآية بين، والرزق المشار إليه رزق الجنة لدوامه
ودروره.
قوله عز وجل:
[سورة الطلاق (65) : آية 12]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ
أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)
لا خلاف بين العلماء أن السموات سبع، لأن الله تعالى قال: سبعا
طِباقاً [الملك: 3، نوح: 15] وقد فسر رسول الله صلى الله عليه
وسلم أمرهن في حديث الإسراء، وقال لسعد: «حكمت بحكم الملك من
فوق سبع أرقعة» ، ونطقت بذلك الشريعة في غير ما موضع، وأما
«الأرض» فالجمهور
(5/327)
على أنها سبع أرضين، وهو ظاهر هذه الآية،
وأن المماثلة إنما هي في العدد، ويستدل بقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «من غصب شبرا من أرض طوقه من سبع أرضين» ، إلى
غير هذا مما وردت به روايات، وروي عن قوم من العلماء أنهم
قالوا: الأرض واحدة، وهي مماثلة لكل سماء بانفرادها في ارتفاع
جرمها، وقر أن فيها عالما يعبد كما في كل سماء عالم يعبد، وقرأ
الجمهور: «مثلهن» بالنصب، وقرأ عاصم: «مثلهن» برفع اللام،
والْأَمْرُ هنا الوحي وجميع ما يأمر به تعالى من يعقل ومن لا
يعقل، فإن الرياح والسحاب وغير ذلك مأمور كلها، وباقي السورة
وعظ، وحض على توحيد الله عز وجل، وقوله تعالى: عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ عموم معناه الخصوص في المقدورات، وقوله بِكُلِّ
شَيْءٍ عموم على إطلاقه.
(5/328)
|