تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)

بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة التّحريم
وهي مدنية بإجماع من أهل العلم بلا خلاف.
قوله عز وجل:

[سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
روي في الحديث عن زيد بن أسلم والشعبي وغيرهما ما معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أهدى المقوقس مارية القبطية اتخذها سرية، فلما كان في بعض الأيام وهو يوم حفصة بنت عمر، وقيل بل كان في يوم عائشة، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت حفصة فوجدها قد مرت إلى زيارة أبيها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في جاريته فقال معها، فجاءت حفصة فوجدتهما فأقامت خارج البيت حتى أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مارية وذهبت، فدخلت حفصة غيرى متغيرة اللون فقالت: يا رسول الله أما كان في نسائك أهون عليك مني؟ أفي بيتي وعلى فراشي؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مترضيا لها: أيرضيك أن أحرمها قالت: نعم، فقال: إني قد حرمتها. قال ابن عباس، وقال مع ذلك والله لا أطؤها أبدا، ثم قال لها: لا تخبري بهذا أحدا، فمن قال إن ذلك كان في يوم عائشة، قال استكتمها خوفا من غضب عائشة وحسن عشرتها، ومن قال: كان في يوم حفصة، قال استكتمتها لنفس الأمر، ثم إن حفصة رضي الله عنها قرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة، وأخبرتها لتسرها بالأمر، ولم ترض إفشاءه إليها حرجا واستكتمتها، فأوحى الله بذلك إلى نبيه، ونزلت الآية. وروي عن عكرمة أن هذا نزل بسبب شريك التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر النقاش نحوه عن ابن عباس، وروى عبد بن عمير عن عائشة أن هذا التحريم المذكور في الآية، إنما هو بسبب شراب العسل الذي شربه صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش، فتمالأت عائشة وحفصة وسودة على أن تقول له: من دنا منها، أكلت مغافير، والمغافير صمغ العرفط، وهو حلو ثقيل الريح، ففعلن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولكني شربت عسلا» ، فقلن: جرست نحله العرفط، فقال

(5/329)


رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أشربه أبدا» وكان يكره أن توجد منه رائحة ثقيلة، فدخل بعد ذلك على زينب، فقالت: ألا نسقيك من ذلك العسل؟ قال: «لا حاجة لي به» ، قالت عائشة: تقول سودة حين بلغها امتناعه والله لقد حرمتاه. قلت لها: اسكتي.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول إن الآية نزلت بسبب مارية أصح وأوضح، وعليه تفقه الناس في الآية، ومتى حرم رجل مالا أو جارية دون أن يعتق أو يشترط عتقا أو نحو ذلك، فليس تحريمه بشيء، واختلف العلماء إذ حرم زوجته بأن يقول لها: أنت علي حرام، والحلال علي حرام، ولا يستثني زوجته، فقال مالك رحمه الله: هي ثلاث في المدخول بها، وينوي في غير المدخول بها فهو ما أراد من الواحدة أو الاثنين أو الثلاث، وقال عبد الملك بن الماجشون: هي ثلاث في الوجهين ولا ينوي في شيء. وقال أبو المصعب وغيره.
وروى ابن خويز منداد عن مالك: أنها واحدة بائنة في المدخول بها وغير المدخول بها، وروي عن عبد العزيز بن الماجشون، أنه كان يحملها على واحدة رجعية، وقال غير واحد من أهل العلم: التحريم لا شيء، وإنما عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم فيه ودله على تحلة اليمين المبينة في المائدة لقوله:
«قد حرمتها والله لا أطؤها أبدا» ، وقال مسروق: ما أبالي أحرمتها أو قصعة من ثريد. وكذلك قال الشعبي ليس التحريم بشيء، قال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ [النحل: 116] وقال: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 87] ، ومحرم زوجته مسم حراما ما جعله حلالا، ومحرم ما أحل الله له، وقال أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وابن مسعود وابن عباس وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة وأبو ثور والأوزاعي والحسن وجماعة:
«التحريم» يلزم فيه تكفير يمين بالله، والتحلة إنما هي من جهة التحريم ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لا أطؤها» ، وقال أبو قلابة: التحريم ظهار، وقال أبو حنيفة وسفيان والكوفيون: هو ما أراد من الطلاق، فإن لم يرد بذلك طلاقا فهو لا شيء. وقال: هو ما أراد من الطلاق، فإن لم يرد طلاقا فهو يمين، فدعا الله تعالى نبيه باسم النبوة الذي هو دال على شرف منزلته وعلى فضيلته التي خصه بها دون البشر، وقرره كالمعاتب على سبب تحريمه على نفسه ما أحل الله له، وقوله: تَبْتَغِي جملة في موضع الحال من الضمير الذي في تُحَرِّمُ، و «المرضاة» مصدر كالرضى، ثم غفر له تعالى ما عاتبه فيه ورحمه، وقوله: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ أي بين وأثبت، وقال قوم من أهل العلم: هذه إشارة إلى تكفير التحريم، وقال آخرون: هي إشارة إلى تكفير اليمين المقترنة بالتحريم. والتحلة: مصدر ووزنها تفعلة وأدغم لاجتماع المثلين، وأحال في هذه الآية على الآية التي فسر فيها الإطعام في كفارة اليمين بالله والمولى الموالي الناصر العاضد، وقوله تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ الآية معناه اذكر يا محمد ذلك، على وجه التأنيب والعتب لهن، وقال الجمهور الحديث هو قوله في أمر مارية، وقال آخرون: بل هو قوله: «إنما شربت عسلا» ، وبعض أزواجه هي حفصة، ونَبَّأَتْ معناه: أخبرت، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ طلحة: «أنبأت» وكان إخبارها لعائشة، وهذا ونحوه هو التظاهر الذي عوتبتا فيه، وقال ميمون بن مهران: الحديث الذي أسر إلى حفصة، أنه قال لها: «وأبشري بأن أبا بكر وعمر يملكان أمر أمتي بعدي خلافة» ، وتعدت «نبأ» في هذه

(5/330)


إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)

الآية مرة إلى مفعولين ومرة إلى مفعول واحد، لأن ذلك يجوز في أنبأ ونبأ إذا كان دخولها على غير الابتداء والخبر، فمتى دخلت على الجملة تعدت إلى ثلاثة مفاعيل، ولا يجوز الاقتصار. وقوله تعالى: وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي أطلعه، وقرأ الكسائي وحده وأبو عبد الرحمن وطلحة وأبو عمرو بخلاف والحسن وقتادة:
«عرف» بتخفيف الراء، وقرأ الباقون وجمهور الناس: «عرّف» بشدها، والمعنى في اللفظة مع التخفيف جازى بالعتب واللوم، كما تقول لإنسان يؤذيك: قد عرفت لك هذا ولأعرفن لك هذا بمعنى لأجازينك عليه، ونحوه في المعنى قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [النساء: 63] ، فعلم الله زعيم بمجازاتهم، وكذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى مع الشد في الراء علم به وأنب عليه، وقوله تعالى: وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ أي تكرما وحياء وحسن عشرة، قال الحسن: ما استقصى كريم قط، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حينئذ حفصة، ثم إن الله تعالى أمره بمراجعتها، وروي أنه عاتبها ولم يطلقها، فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بالخبر، وأنها أفشته إلى عائشة، ظنت أن عائشة فضحتها، فقالت: من أنبأك هذا؟ على جهة التثبت، فلما أخبرها أن الله تعالى أخبره، سكتت وسلمت.
قوله عز وجل:

[سورة التحريم (66) : الآيات 4 الى 5]
إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)
المخاطبة بقوله تعالى: إِنْ تَتُوبا هي لحفصة وعائشة، وفي حديث البخاري وغيره عن ابن عباس قال: قلت لعمر بن الخطاب: من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال حفصة وعائشة، وقوله تعالى: صَغَتْ قُلُوبُكُما معناه مالت أي عن المعدلة والصواب، والصغا: الميل، ومنه صياغة الرجل وهم حواشيه الذين يميلون إليه، ومنه أصغى إليه بسمعه، وأصغى الإناء، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «فقد زاغت قلوبكما» ، والزيغ الميل وعرفه في خلاف الحق، قال مجاهد: كما نرى صغت شيئا هينا حتى سمعنا قراءة ابن مسعود: «زاغت» ، وجمع القلوب من حيث الإنسان جمع ومن حيث لا لبس في اللفظ، وهذا نظير قول الشاعر [حطام المجاشعي] : [الرجز] ظهراهما مثل ظهور الترسين ومعنى الآية، إن تبتما فقد كان منكما ما ينبغي أن يتاب منه، وهذا الجواب الذي للشرط هو متقدم في المعنى، وإنما ترتب جوابا في اللفظ، وَإِنْ تَظاهَرا معناه: تتعاونا، وقرأ جمهور الناس والسبعة «تظاهرا» وأصله تتظاهرا، فأدغمت التاء في الظاء بعد البدل، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس: «إن تتظاهرا» بتاءين على الأصل، وقرأ نافع بخلاف عنه وعاصم وطلحة وأبو رجاء والحسن: «تظهرا» بتخفيف الظاء على

(5/331)


حذف التاء الواحدة، وروي عن ابن عمر أنه قرأ: «تظّهّرا» بشد الظاء والهاء دون ألف، والمولى: الناصر المعين، وقوله وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ يحتمل أن يكون عطفا على اسم الله تعالى في قوله: هُوَ، فيكون جِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ في الولاية، ويحتمل أن يكون جِبْرِيلُ رفعا بالابتداء، وما بعده عطف عليه، وظَهِيرٌ الخبر فيكون حينئذ من الظهراء لا في الولاية ويختص بأنه مولى الله تعالى، واختلف الناس في صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، فقال الطبري وغيره من العلماء: ذلك على العموم، ويدخل في ذلك كل صالح، وقال الضحاك وابن جبير وعكرمة: المراد أبو بكر وعمر. ورواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد نحوه، وقال أيضا: وعلي، وروى علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، علي بن أبي طالب ذكره الثعلبي. وقال قتادة والعلاء بن زياد وغيره: هم الأنبياء، وإنما يترتب ذلك بأن تكون مظاهرتهم أنهم قدوة وأسوة فهم عون بهذا، وقوله تعالى: وَصالِحُ يحتمل أن يكون اسم جنس مفردا، ويحتمل أن يريد «وصالحو» فحذفت الواو في خط المصحف، كما حذفوها في قوله: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18] وغير ذلك. ويروى عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لا تكترث بأمر نسائك والله معك وجبريل معك وأبو بكر معك، وأنا معك. فنزلت الآية موافقة نحو أمر قول عمر، قال المهدوي: وهذه الآية نزلت على لسان عمر، وكذا روي أن عمر بن الخطاب قال لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ. فنزلت الآية على نحو قوله، وقال عمر رضي الله عنه: قالت لي أم سلمة: يا ابن الخطاب، أدخلت نفسك في كل شيء حتى دخلت بين رسول الله وبين نسائه، فأخذتني أخذا كسرتني به، وقالت لي زينب بنت جحش: يا عمر، أما يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، وقرأ الجمهور: «طلقكن» بفتح القاف وإظهاره، وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس عنه:
«طلقكّن» بشد الكاف وإدغام القاف فيها، وقال أبو علي: وإدغام القاف في الكاف حسن، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكوفيون والحسن وأبو رجاء وابن محيصن: «أن يبدله» بسكون الباء وتخفيف الدال، وقرأ نافع والأعرج وأبو جعفر: «أن يبدّله» بفتح الباء وشد الدال، وهذه لغة القرآن في هذا الفعل، وكرر الله تعالى الصفات مبالغة، وإن كان بعضها يتضمن بعضا، فالإسلام إشارة إلى التصديق، والعمل والإيمان:
تخصيص للإخلاص وتنبيه على شرف موقعه، وقانِتاتٍ معناه: مطيعات، والسائحات قيل معناه:
صائمات، قاله أبو هريرة وابن عباس وقتادة والضحاك. وذكر الزجاج أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وقيل معناه هاجرات قاله زيد بن أسلم، وقال ابن زيد: ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة، وقيل: معناه ذاهبات في طاعة الله، وشبه الصائم بالسائح من حيث ينهمل السائح ولا ينظر في زاد ولا مطعم، وكذلك الصائم يمسك عن ذلك فيستوي هو والسائح في الامتناع وشظف العيش لفقد الطعام، وقوله تعالى:
ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً تقسيم لكل واحدة من الصفات المتقدمة، وليست هذه الواو مما يمكن أن يقال فيها:
واو الثمانية لأنها هنا ضرورية، ولو سقطت لاختل هذا المعنى.
قوله عز وجل:

(5/332)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)

[سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
قوله تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ معناه: اجعلوا وقاية بينكم وبين النار، وقد تقدم غير مرة تعليل اللفظة، وقوله تعالى: وَأَهْلِيكُمْ معناه: بالوصية لهم والتقويم والحمد على طاعة الله تعالى، وفي حديث: «لا تزن فيزني أهلك» ، وفي حديث آخر: «رحم الله رجلا قال: يا أهلاه، صلاتكم، صيامكم، مسكينكم، يتيمكم» ، وقرأ الجمهور: «وقودها» بفتح الواو، وقرأ مجاهد والحسن وطلحة وعيسى والفياض بن غزوان وأبو حيوة بضمها، وقيل هما بمعنى، وقيل الضم مصدر والفتح اسم، ويروى أن الْحِجارَةُ: هي حجارة الكبريت، وقد تقدم القول في ذلك في سورة البقرة. ويروى أنها جميع أنواع الحجارة، وفي بعض الحديث أن عيسى ابن مريم سمع أنينا في فلاة من الأرض فتبعه حتى بلغ إلى حجر يئن ويحزن، فقال له: ما بالك أيها الحجر؟ فقال: يا روح الله، إني سمعت الله يقول: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ، فخفت أن أكون من تلك الحجارة، فعجب منه عيسى وانصرف، ويشبه أن يكون هذا المعنى في التوراة أو في الإنجيل، فذلك الذي سمع الحجر إذا عبر عنه بالعربية كان هذا اللفظ، ووصف الملائكة بالغلظة معناه في القلوب والبطش الشديد والفظاظة، كما قال تعالى لنبيه: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] والشدة القوة، وقيل المراد شدتهم على الكفار، فهي بمعنى الغلظ، ووصفهم تعالى بالطواعية لربهم، وكرر المعنى تأكيدا بقوله تعالى: وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ، وفي قوله تعالى: وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ما يقتضي أنهم يدخلون الكفار النار بجد واختيار، ويغلظون عليهم، فكأنه قال بعد تقرير هذا المعنى، فيقال للكفار: لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ: أي إن المعذرة لا تنفعكم، وإنما تجزون بأعمالكم فلا تلوموا إلا أنفسكم، ثم أمر عباده بالتوبة، والتوبة فرض على كل مسلم، وتاب معناه:
رجع فتوبة العبد: رجوعه من المعصية إلى الطاعة، وتوبة الله تعالى على العبد إظهار صلاحه ونعمته عليه في الهداية إلى الطاعة، وقبول توبة الكفار يقطع بها على الله إجماعا من الأمة، واختلف الناس في توبة العاصي، فجمهور أهل السنة على أنه لا يقطع بقبولها ولا ذلك على الله بواجب، والدليل على ذلك دعاء كل واحد من المذنبين في قبول التوبة ولو كانت مقطوعا بها لما كان معنى للدعاء في قبولها، وظواهر القرآن في ذلك هي كلها بمعنى المشيئة، وروي عن أبي الحسن الأشعري أنه قال: التوبة إذا توفرت شروطها قطع على الله بقبولها لأنه تعالى أخبر بذلك.

(5/333)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)

قال القاضي أبو محمد: وهذا المسك بظواهر القرآن، وعلى هذا القول أطبقت المعتزلة، والتوبة الندم على فارط المعصية والعزم على ترك مثلها في المستقبل، وهذا من المتمكن، وأما غير المتمكن كالمجبوب في الزنا فالندم وحده يكفيه، والتوبة عبادة كالصلاة ونحوها، فإذا تاب العبد وحصلت توبته بشروطها وقبلت ثم عاود الذنب، فتوبته الأولى لا تفسدها عودة بل هي كسائر ما تحصل من العبادات، والنصوح بناء مبالغة من النصح إلى توبة نصحت صاحبها وأرشدته، وقرأ الجمهور: «نصوحا» بفتح النون، وقرأ أبو بكر عن عاصم وخارجة عن نافع والحسن والأعرج وعيسى: «نصوحا» بضم النون، وهو مصدر، يقال: نصح، ينصح، نصاحة، ونصاحة قاله الزجاج، فوصف التوبة بالمصدر كالعدل والزور وغيره، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: التوبة النصوح، هي أن يتوب ثم لا يعود، وقال أبو بكر الوراق: هي أن تضيق عليك الأرض بما رحبت كتوبة الذين خلفوا، وقوله تعالى: عَسى رَبُّكُمْ الآية، ترجية، وقد روي أن عَسى من الله واجبة، والعامل في يَوْمَ قوله: يُدْخِلَكُمْ، وروي في معنى قوله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ، أن محمدا صلى الله عليه وسلم تضرع في أمر أمته فأوحى الله إليه: إن شئت جعلت حسابهم إليك، فقال: «يا رب أنت أرحم بهم» ، فقال الله تعالى: إذا لا أخزيك فيهم، فهذا معنى قوله:
يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ، والخزي المكروه الذي يترك الإنسان حيران خجلا مهموما بأن يرى نقصه، أو سوء منزلته، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ يحتمل أن يكون معطوفا على النَّبِيَّ فيخرج المؤمنون من الخزي، ويحتمل أن يكون ابتداء، ونُورُهُمْ يَسْعى جملة هي خبره، ويبقى النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا مفضلا بأنه لا يخزى، وقد تقدم القول في نظير قوله: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [التحريم: 8] ، وقرأ سهل بن سعد: «وبإيمانهم» ، بكسر الهمزة، وقوله تعالى: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا، قال الحسن بن أبي الحسن هو عند ما يرون من انطفاء نور المنافقين حسبما تقدم تفسيره، وقيل يقول من أعطي من النور بقدر ما يرى قدميه فقط.
قوله عز وجل:

[سورة التحريم (66) : الآيات 9 الى 10]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
هذه الآية تأكيد لأمر الجهاد وفضله المتقدم، والمعنى دم على جهاد الكافرين بالسيف، وجاهد المنافقين بنجههم وإقامة الحدود عليهم وضربهم في كل جرائمهم، وعند قوة الظن بهم، ولم يعين الله تعالى لرسوله منافقا يقع القطع بنفاقه، لأن التشهد الذي كانوا يظهرون كان ملبسا لأمرهم مشبها لهم بالعصاة من الأمة. والغلظة عليهم هي فظاظة القلب والانتهار وقلة الرفق بهم، وقرأ الضحاك: «وأغلظ»

(5/334)


وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

بكسر اللام وقطع الألف، وهذان المثلان اللذان للكفار والمؤمنين معناهما: أن من كفر لا يغني عنه شيء ولا ينفعه وزر ولو كان متعلقا بأقوى الأسباب، وأن من آمن لا يدفعه دافع عن رضوان الله تعالى ولو كان في أسوأ منشأ وأخسر حال. وقال بعض الناس: إن في المثلين عبرة لزوجات النبي محمد عليه السلام، حين تقدم عتابهن، وفي هذا بعد لأن النص أنه للكفار يبعد هذا.
واختلف الناس في خيانة هاتين المرأتين، فقال ابن عباس وغيره: خانتا في الكفر، وفي أن امرأة نوح كانت تقول للناس: إنه مجنون، وأن امرأة لوط كانت تنم إلى قومه متى ورده ضيف فتخبر به، وقال ابن عباس: وما بغت زوجة نبي قط، ولا ابتلي الأنبياء في نسائهم بهذا، وقال الحسن في كتاب النقاش:
خانتاهما بالكفر والزنا وغيره، وقرأ الجمهور: «يغنيا» بالياء، وقرأ مبشر بن عبيد: «تغنيا» بالتاء من فوق.
قوله عز وجل:

[سورة التحريم (66) : الآيات 11 الى 12]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)
امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ اسمها آسية وقولها: وَعَمَلِهِ معناه وكفره، وما هو عليه من الضلالة، وهذا قول كافة المفسرين، وقال جمهور من المفسرين: معناه من ظلمه وعقابه وتعذيبه لي، وروي في هذا أن فرعون اتصل به إيمانها بموسى، وأنها تحب أن يغلب، فبعث إليها قوما، وقال: إن رأيتم منها ذلك فابطحوها في الأرض ووتدوا يديها ورجليها وألقوا عليها أعظم حجر، وإن لم تروا ذلك فهي امرأتي. قال، فذهب القوم فلما أحست بالشر منهم دعت بهذه الدعوات فقبض الله روحها وصنع أولئك أمر الحجر بشخص لا روح فيه، وروي في قصصها غير هذا مما يطول ذكره، فاختصرة لعدم صحته. وقال آخرون في كتاب النقاش:
وَعَمَلِهِ كناية عن الوطء والمضاجعة. وهذا ضعيف.
واختلف الناس في الفرج الذي أحصنت مريم، فقال الجمهور: هو فرج الدرع الذي كان عليها، وأنها كانت صينة، وأن جبريل عليه السلام: نفخ فيها الروح من جيب الدرع، وقال قوم من المتأولين: هو الفرج الجارحة، فلفظة أَحْصَنَتْ: إذا كان فرج الجارحة متمكنا حقيقة، والإحصان: صونه، وفيه هي مستعملة، وإذا قدرنا فرج الدرع فلفظ أَحْصَنَتْ فيه مستعارة من حيث صانته، ومن حيث صار مسلكا لولدها، وقوله تعالى: فَنَفَخْنا عبارة عن فعل جبريل حقيقة، وإن ذهب ذاهب إلى أن النفخ فعل الله تعالى، فهو عبارة عن خلقه واختراعه الولد في بطنها، وشبه ذلك بالنفخ الذي من شأنه أن يسير في الشيء برفق ولطف. وقوله تعالى: مِنْ رُوحِنا إضافة المخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك كما تقول: بيت الله وناقة الله، وكذلك الروح الجنس كله هو روح الله. وقرأ الجمهور: «وصدّقت» بشد الدال، وقرأ أبو مجلز:

(5/335)


بتخفيفها، وقرأ جمهور الناس: «بكلمات» على الجمع، وقرأ الجحدري: «بكلمة» على الإفراد، فأما الإفراد فيقوي: أن يريد أمر عيسى ويحتمل أن يريد أنه اسم جنس في التوراة، ومن قرأ على الجمع فيقوي أنه يريد التوراة، ويحتمل أن يريد أمر عيسى. وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ونافع: «وكتابه» على الوحيد، وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم، وخارجة عن نافع: «وكتبه» بضم التاء والجمع، وقرأ أبو رجاء بسكون التاء «وكتبه» ، وذلك كله مراد به التوراة والإنجيل، والقانتون: العابدون، والمعنى كانت من القوم الْقانِتِينَ في عبادتها وحال دينها.
(نجز تفسير سورة التحريم والحمد لله كثيرا) .

(5/336)


تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الملك
وهي مكية بإجماع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل ليلة عند أخذ مضجعه. رواه جماعة مرفوعا إلى جابر بن عبد الله، ويروى عنه أنه قال: «إنها لتنجي من عذاب القبر وتجادل عن حافظها حتى لا يعذب» ، ويروى أن في التوراة سورة الملك، من قرأها في ليلة فقد أجاد وطيب، وروي عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وددت أن سورة تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك: 1] في قلب كل مؤمن» .
قوله عز وجل:

[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
تَبارَكَ تفاعل من البركة، وهي التزيد في الخيرات، ولم يستعمل بيتبارك ولا متبارك، وقوله:
بِيَدِهِ عبارة عن تحقيق «الملك» ، وذلك أن اليد في عرف الآدميين هي آلة التملك فهي مستعرة، والْمُلْكُ على الإطلاق هو الذي لا يبيد ولا يختل منه شيء، وذلك هو ملك الله تعالى، وقيل المراد في هذه الآية: ملك الملوك، فهو بمنزلة قوله: اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران: 26] ، عن ابن عباس رضي الله عنه. وقوله تعالى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عموم، والشيء معناه في اللغة الموجود، والْمَوْتَ وَالْحَياةَ معنيان يتعاقبان جسم الحيوان يرتفع أحدهما بحلول الآخر، وما في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح على الصراط» ، فقال أهل العلم: ذلك تمثال كبش يوقع الله عليه العلم الضروري لأهل الدارين، إنه الموت الذي ذاقوه في الدنيا، ويكون ذلك التمثال حاملا للموت على أنه يحل الموت فيه، فتذهب عنه حياة، ثم يقرن الله تعالى بذبح ذلك التمثال إعدام الموت. وقوله تعالى: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أي ليختبركم في حال الحياة ويجازيكم بعد الموت، وقال أبو قتادة نحوه عن ابن عمر: قلت يا رسول الله: ما معنى قوله تعالى:
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فقال: «يقول: أيكم أحسن عقلا، وأشدكم لله خوفا، وأحسنكم في أمره ونهيه، نظرا وإن كانوا أقلكم تطوعا. وقال ابن عباس وسفيان الثوري والحسن بن أبي الحسن: أَيُّكُمْ

(5/337)


وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)

أَحْسَنُ عَمَلًا أزهدكم في الدنيا. وقوله تعالى: «ليبلو» دال على فعل تقديره: فينظر أو فيعلم أيكم، وقال جماعة من المتأولين: الموت والحياة، عبارة عن الدنيا والآخرة، سمى هذه موتا من حيث إن فيها الموت، وسمى تلك الحياة من حيث لا موت فيها، فوصفهما بالمصدرين على تقدير حذف المضاف، كعدل وزور، وقدم الْمَوْتَ في اللفظ، لأنه متقدم في النفس هيبة وغلظة، وطِباقاً قال الزجاج: هو مصدر، وقيل: هو جمع طبقة أو جمع طبق مثل: رحبة ورحاب، أو جمل وجمال، والمعنى بعضها فوق بعض، وقال أبان بن ثعلب: سمعت أعرابيا يذم رجلا، فقال: «شره طباق، خيره غير باق» ، وما ذكر بعض المفسرين في السماوات من أن بعضها من ذهب وفضة وياقوت ونحو هذا ضعيف كله، ولم يثبت بذلك حديث، ولا يعلم أحد من البشر حقيقة لهذا. وقوله تعالى: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ معناه من قلة تناسب، ومن خروج عن إتقان، والأمر المتفاوت، هو الذي يجاوز الحدود التي توجب له زيادة أو نقصانا، وقرأ جمهور القراء: «من تفاوت» ، وقرأ حمزة والكسائي وابن مسعود وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش: «من تفوت» وهما بمعنى واحد، وقال بعض العلماء: فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ يعني به السماوات فقط، وهي التي تتضمن اللفظ، وإياها أراد بقوله: هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ، وإياها أراد بقوله:
يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ الآية، قالوا وإلا ففي الأرض فطور، وقال آخرون: فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ يعني به جميع ما في خلق الله تعالى من الأشياء، فإنها لا تفاوت فيها ولا فطور، جارية على غير إتقان، ومتى كانت فطور لا تفسد الشيء المخلوق من حيث هو ذلك الشيء، بل هي إتقان فيه، فليست تلك المرادة في الآية، وقال منذر بن سعيد: أمر الله تعالى بالنظر إلى السماء وخلقها ثم أمر بالتكرير في النظر، وكذلك جميع المخلوقات متى نظرها ناظر، ليرى فيها خللا أو نقصا، فإن بصره ينقلب خاسِئاً حسيرا، ورجع البصر ترديده في الشيء المبصر. وقوله: كَرَّتَيْنِ معناه مرتين، ونصبه على المصدر، والخاسئ المبعد بذل عن شيء أراده وحرص عليه، ومنه الكلب الخاسئ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد:
«اخسأ فلن تعد وقدرك» ، ومنه قوله تعالى للكفار الحريصين على الخروج من جهنم: اخْسَؤُا فِيها [المؤمنون: 108] ، وكذلك هنا البصر يحرص على روية فطور أو تفاوت فلا يجد ذلك، فينقلب خاسِئاً، والحسير العييّ الكالّ، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
لهن الوجا لم كن عونا على النوى ... ولا زال منها طالح وحسير
قوله عز وجل:

[سورة الملك (67) : الآيات 5 الى 9]
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)
أخبر تعالى أنه زين السماء الدنيا التي تلينا بمصابيح وهي النجوم، فإن كانت جميع النجوم في

(5/338)


السماء الدنيا فهذا اللفظ عام للكواكب، وإن كان في سائر السماوات كواكب، فإما أن يريد كواكب سماء الدنيا فقط، وإما أن يريد الجميع على أن ما في غيرها لما كانت هي تشق عنه، ويظهر منها، فقد زينت به بوجه ما، ومن تكلف القول بمواضع الكواكب وفي أي سماء هي، فقوله ليس من الشريعة. وقوله تعالى: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ معناه وجعلنا منها، وهذا كما تقول: أكرمت بني فلان وصنعت بهم وأنت إنما فعلت ذلك ببعضهم دون بعض، ويوجب هذا التأويل في الآية أن الكواكب الثابتة والبروج، وكل ما يهتدى به في البر والبحر فليست براجم، وهذا نص في حديث السير، وقال قتادة رحمه الله: خلق الله تعالى النجوم زينة للسماء ورجوما للشياطين وليهتدى بها في البر والبحر، فمن قال غير هذه الخصال الثلاث فقد تكلف وأذهب حظه من الآخرة. وَأَعْتَدْنا معنا: أعددنا والضمير في: لَهُمْ عائد على الشياطين، وقرأ جمهور الناس: «وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم» بالرفع على الابتداء والخبر في المجرور المتقدم، وقرأ الحسن في رواية هارون عنه: «عذاب» بالنصب على معنى «وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم» ، قالوا: وعاطفة فعل على فعل، وتضمنت هذه الآية، أن عذاب جهنم للكافرين المخلدين، وقد جاء في الأثر أنه يمر على جهنم زمن تخفق أبوابها قد أخلتها الشفاعة، فالذي قال في هذا إن جَهَنَّمَ اسم تختص به الطبقة العليا من النار ثم قد تسمى الطبقات كلها جهنم باسم بعضها، وهكذا كما يقال النجم للثريا، ثم يقال ذلك للكواكب اسم جنس فالذي في هذه الآية هي جهنم بأسرها، أي جميع الطبقات، والتي في الأثر هي الطبقة العليا، لأنها مقر العصاة، والشهيق: أقبح ما يكون من صوت الحمار، فاحتدام النار وغليانها بصوت مثل ذلك، قوله تعالى: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ أي يزايل بعضها بعضا لشدة الاضطراب كما قال الشاعر في صفة الكلب المحتدم في جربه: [الرجز] :
يكاد أن يخرج عن إهابه وقرأ الضحاك: «تمايز» بألف، وقرأ طلحة: «تتميز» بتاءين، وقرأ الجمهور: «تكاد تميز» بضم الدال وفتح التاء مخففة، وقرأ البزي: «تكاد» بضم الدال وشد التاء أنها «تتميز» وأدغم إحدى التاءين في الأخرى.
وقرأ أبو عمرو بن العلاء: تَكادُ تَمَيَّزُ بإدغام الدال في التاء، وهذا فيه إدغام الأقوى في الأضعف، وقوله تعالى: مِنَ الْغَيْظِ معناه على الكفرة بالله، وقوله تعالى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ، الفوج: الفريق من الناس، ومنه قوله تعالى: فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً [النصر: 2] الآية، تقتضي أنه لا يلقى فيها أحد إلا سئل على جهة التوبيخ عن النذر فأقر بأنهم جاؤوا وكذبوهم، وقوله: كُلَّما حصر. فإذا الآية تقتضي في الأطفال من أولاد المشركين وغيرهم، وفيمن نقدره صاحب فترة أنهم لا يدخلون النار لأنهم لم يأتهم نذير، واختلف الناس في أمر الأطفال، فأجمعت الأمة على أن أولاد الأنبياء في الجنة، واختلفوا في أولاد المؤمنين، فقال الجمهور: هم في الجنة، وقال قوم هم في المشيئة، واختلفوا في أولاد المشركين، فقالت فرقة: هم في النار، واحتجوا بحديث روي من آبائهم، وتأول مخالف هذا الحديث، أنهم في أحكام الدنيا، وقال: هم في المشيئة، وقال فريق: هم في الجنة، واحتج هذا الفريق بهذه الآية في مساءلة

(5/339)


وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

الخزنة، وبحديث وقع في صحيح البخاري في كتاب التفسير، يتضمن أنهم في الجنة. وبقوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فالأطفال لم يبلغوا أن يصنع بهم شيء من هذا» . وقوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ يحتمل أن يكون من قول الملائكة للكفار حين أخبروا عن أنفسهم أنهم كذبوا النذر، ويحتمل أن يكون من كلام الكفار للنذر.
قوله عز وجل:

[سورة الملك (67) : الآيات 10 الى 15]
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
المعنى وقال الكفار للخزنة في محاورتهم: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ سمعا أو عقلا ينتفع به ويغني شيئا لآمنا ولم نستوجب الخلود في السعير، ثم أخبر تعالى محمدا أنهم اعترفوا بذنبهم في وقت لا ينفع فيه الاعتراف، وقوله تعالى: فَسُحْقاً نصب على جهة الدعاء عليهم وجاز ذلك فيه، وهو من قبل الله تعالى من حيث هذا القول مستقرا فيهم أزلا ووجوده لم يقع ولا يقع إلا في الآخرة، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى فيه، كما تقول: سحقا لزيد وبعدا، والنصب في هذا كله بإضمار فعل، وأما ما وقع وثبت، فالوجه فيه الرفع كما قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1] ، وسَلامٌ عَلَيْكُمْ [الأنعام: 54، الأعراف: 46، الرعد: 24، القصص: 55، الزمر: 73] ، وغير هذا من الأمثلة، وقرأ الجمهور:
«فسحقا» بسكون الحاء، وقرأ الكسائي: «فسحقا» بضم الحاء وهما لغتان، ثم وصف تعالى أهل الإيمان، وهم الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، وقوله تعالى: بِالْغَيْبِ يحتمل معنيين، أحدهما: بِالْغَيْبِ الذي أخبروا به من الحشر والصراط والميزان والجنة والنار، فآمنوا بذلك، وخشوا ربهم فيه، ونحا إلى هذا قتادة والمعنى الثاني: أنهم يخشون ربهم إذا غابوا عن أعين الناس، أي في خلواتهم، ومنه تقول العرب: فلان سالم الغيب، أي لا يضر، فالمعنى يعملون بحسب الخشية في صلاتهم وعباداتهم، وانفرادهم، فالاحتمال الأول: مدح بالإخلاص والإيمان، والثاني: مدح بالأعمال الصالحة في الخلوات، وذلك أحرى أن يعملوها علانية، وقوله تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ مخاطبة لجميع الخلق.
قال ابن عباس: سببها أن المشركين قال بعضهم لبعض: أسروا قولكم لا يسمعكم إله محمد، فالمعنى أن الأمر سواء عند الله لأنه يعلم ما هجس في الصدور دون أن ينطق به، فكيف إذا ينطق به سرا أو جهرا، وذات الصُّدُورِ، ما فيها، وهذا كما قال: الذئب مغبوط بذي بطنه، وقد تقدم تفسيره غير ما مرة.
وقوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ اختلف الناس في إعراب: مَنْ، فقال بعض النحاة: إعرابها رفع، كأنه قال: ألا يعلم الخالق خلقه؟ فالمفعول على هذا محذوف، وقال قوم: إعرابها نصب، كأنه قال: ألا

(5/340)


أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)

يعلم الله من خلق؟ قال مكي: وتعلق أهل الزيغ بهذا التأويل لأنه يعطي أن الذين خلقهم الله هم العباد من حيث قال: مَنْ فتخرج الأعمال عن ذلك، لأن المعتزلة تقول: العباد يخلقون أعمالهم.
قال القاضي أبو محمد: وتعلقهم بهذا التأويل ضعيف، والكلام مع المعتزلة في مسألة خلق الأعمال مأخذه غير هذا، لأن هذه الآية حجة فيها لهم ولا عليهم، والذلول فعول بمعنى مفعول أي مذلول. فهي كركوب وحلوب، يقال: ذلول، بين الذل بضم الذال، واختلف المفسرون في معنى: المناكب، فقال ابن عباس: أطرافها وهي الجبال، وقال الفراء ومنذر بن سعيد: جوانبها، وهي النواحي، وقال مجاهد: هي الطرف والفجاج، وهذا قول جار مع اللغة، لأنها تنكب يمنة ويسرة، وينكب الماشي فيها، في مناكب.
وهذه الآية تعديد نعم في تقريب التصرف للناس، وفي التمتع فقي رزق الله تعالى، والنُّشُورُ: الحياة بعد الموت.
قوله عز وجل:

[سورة الملك (67) : الآيات 16 الى 20]
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)
قرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر: «أأمنتم» بهمزتين مخففتين دون مد، وقرأ أبو عمرو ونافع:
«النشور آمنتم» بمد وهمزة، وقرأ ابن كثير: «النشور وأمنتم» ببدل الهمزة واوا لكونها بعد ضمة وهو بعد الواو. وقوله تعالى: مَنْ فِي السَّماءِ جار على عرف تلقي البشر أوامر الله تعالى، ونزول القدر بحوادثه ونعمه ونقمه وآياته من تلك الجهة، وعلى ذلك صار رفع الأيدي والوجوه في الدعاء إلى تلك الناحية.
وخسف الأرض: أن تذهب سفلا، وتَمُورُ معناه: تذهب وتتموج كما يذهب التراب الموار وكما يذهب الدم الموار. ومنه قول الأعرابي: وغادرت التراب مورا، والحاصب: البرد وما جرى مجراه لأنه في اللغة الريح ترمي بالحصباء، ومنه قول الفرزدق: [البسيط]
مستقبلين شمال الريح ترجمهم ... بحاصب كنديف القطن منشور
وقرأ جمهور السبعة: «فستعلمون» بالتاء، وقرأ الكسائي وحده: «فسيعلمون» بالياء، وقرأ السبعة وغيرهم: «نذير» بغير ياء على طريقهم في الفواصل المشبهة بالقوافي، وقرأ نافع في رواية ورش وحده:
«نذيري» بالياء على الأصل، وكذلك في «نكيري» والنكير: مصدر بمعنى الإنكار، والنذير كذلك. ومنه قول حسان بن ثابت: [الوافر]
فأنذر مثلها نصحا قريشا ... من الرحمن ان قلبت نذيري

(5/341)


أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)

ثم أحال على العبرة في أمر الطَّيْرِ، وما أحكم من خلقتها وذلك بين عجز الأصنام والأوثان عنه، و: صافَّاتٍ جمع صافة، وهي التي تبسط جناحيها وتصفهما حتى كأنها ساكنة، وقبض الجناح: ضمه إلى الجثة ومنه قول أبي خراش: [الطويل] يحث الجناح بالتبسط والقبض وهاتان حالان للطائر يستريح من إحداهما للأخرى. وقوله تعالى: وَيَقْبِضْنَ عطف المضارع على اسم الفاعل وذلك جائز كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر: [الرجز]
بات يغشّيها بعضب باتر ... يقصد في أسوقها وجائر
وقرأ طلحة بن مصرف: «أمن» بتخفيف الميم في هذه، وقرأ التي بعدها مثقلة كالجماعة والجند أعوان الرجل على مذاهبه، وقوله تعالى: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ خطاب لمحمد بعد تقرير، قل لهم يا محمد أَمَّنْ هذَا.
قوله عز وجل:

[سورة الملك (67) : الآيات 21 الى 25]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25)
هذا أيضا توقيف على أمر لا مدخل للأصنام فيه، والإشارة بالرزق إلى المطر، لأنه عظم الأرزاق، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم: لَجُّوا وتمادوا في التمنع عن طاعة الله، وهو العتو في نفور، أي بعد عن الحق بسرعة ومبادرة، يقال: نفر عن الأمر نفورا، وإلى الأمر نفيرا، ونفرت الدابة نفارا.
واختلف أهل التأويل في سبب قوله: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا الآية، فقال جماعة من رواة الأسباب:
نزلت مثلا لأبي جهل بن هشام وحمزة بن عبد المطلب، وقال ابن عباس وابن الكلبي وغيره: نزلت مثلا لأبي جهل بن هشام ومحمد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك: نزلت مثالا للمؤمنين والكافرين على العموم، وقال قتادة: نزلت مخبرة عن حال القيامة، وإن الكفار يمشون فيها على وجوههم، والمؤمنون يمشون على استقامة، وقيل للنبي: كيف يمشي الكافر على وجهه؟ قال: «إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه» .
قال القاضي أبو محمد: فوقف الكفار على هاتين الحالتين حينئذ، ففي الأقوال الثلاثة الأول المشي مجاز يتخيل، وفي القول الرابع هو حقيقة يقع يوم القيامة ويقال: أكب الرجل، إذا رد وجهه إلى الأرض، وكبه: غبره، قال عليه السلام: «وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم» ، فهذا الفعل

(5/342)


قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)

خلاف للباب: أفعل لا يتعدى وفعل يتعدى، ونظيره قشعت الريح فأقشع، وأَهْدى في هذه الآية أفعل من الهدى، وقرأ طلحة: «أمن يمشي» بتخفيف الميم، وإفراد «السمع» لأنه اسم جنس يقع للكثير وقَلِيلًا نصب بفعل مضمر، وما: مصدرية، وهي في موضع رفع، وقوله: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ يقتضي ظاهره أنهم يشكرون قليلا، فهذا إما أن يريد به ما عسى أن يكون للكافر من شكر وهو قليل غير نافع، وإما أن يريد جملة فعبر بالقلة كما تقول العرب: هذه أرض قل ما تنبت كذا، وهي لا تنبته بتة، ومن شكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه النعمة أنه كان يقول في سجوده: «سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره» ، و «ذرأكم» معناه: بثكم والحشر المشار إليه، هو بعث القيامة، وإليه أشار بقوله: هذَا الْوَعْدُ فأخبر تعالى أنهم يستعجلون أمر القيامة، ويوقفون على الصدق، في الإخبار بذلك.
قوله عز وجل:

[سورة الملك (67) : الآيات 26 الى 30]
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
أمر الله تعالى نبيه أن يخبرهم بأن علم القيامة والوعد الصدق هو مما تفرد الله به، وأن محمدا إنما هو نذير يعلم ما علم ويخبر بما أمر أن يخبر به، وقوله: فَلَمَّا رَأَوْهُ الضمير للعذاب الذي تضمنه الوعد، وهذه حكاية حال تأتي المعنى: فإذا رَأَوْهُ و: زُلْفَةً معناه قريبا. قال الحسن: عيانا. وقال ابن زيد:
حاضرا، و: سِيئَتْ معناه: ظهر فيها السوء، وقرأ جمهور الناس: «سيئت» بكسر السين، وقرأ أبو جعفر الحسن ونافع أيضا وابن كثير وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة: بالإشمام بين الضم والكسر. وقرأ جمهور الناس ونافع بخلاف عنه: «تدّعون» بفتح الدال وشدها، على وزن: تفتعلون، أي تتداعون أمره بينكم، وقال الحسن: يدّعون أنه لا جنة ولا نار، وقرأ أبو رجاء والحسن والضحاك وقتادة وابن يسار وسلام:
«يدعون» بسكون الدال على معنى: يستعجلون، كقولهم: عجل لنا قطنا، وأمطر علينا حجارة وغير ذلك، وروي في تأويل قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا الآية، أنهم كانوا يدعون على محمد وأصحابه بالهلاك، وقيل بل كانوا يترامون بينهم بأن يهلكوه بالقتل ونحوه فقال الله تعالى: قل لهم أرأيتم إن كان هذا الذي تريدون بنا وتم ذلك فينا، أو أرأيتم إن رحمنا الله فنصرنا ولم يهلكنا من يجيركم من العذاب الذي يوجبه كفركم على كل حال؟ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص، وعن عاصم: «إن أهلكني الله ومن معي» بنصب الياءين، وأسكن الكسائي وعاصم في رواية أبي بكر الياء في:
«معي» وقرأ حمزة: بإسكان الياءين، وروى المسيب عن نافع أنه أسكن ياء: «أهلكني» ، قال أبو علي التحريك في الياءين حسن وهو الأصل، والإسكان كراهية الحركة في حرف اللين، يتجانس ذلك، وقرأ

(5/343)


الكسائي وحده: «فسيعلمون» بالياء، وقرأ الباقون بالتاء على المخاطبة، ثم وقفهم تعالى على مياههم التي يعيشون منها إن غارت أي ذهبت في الأرض، ومن يجيئهم بماء كثير واف، والغور: مصدر يوصف به على معنى المبالغة، ومنه قول الأعرابي: وغادرت التراب مورا والماء غورا.
والمعين: فعيل من معنى الماء إذا كثر أو مفعول من العين، أي جار كالعين، أصله معيون، وقيل هو من العين، لكن من حيث يرى بعين الإنسان، لا من حيث يشبه بالعين الجارية، وقال ابن عباس:
مَعِينٍ عذب وعنه في كتاب الثعلبي: مَعِينٍ جار، وفي كتاب النقاش: مَعِينٍ ظاهر، وقال بعض المفسرين وابن الكلبي: أشير في هذا الماء إلى بئر زمزم، وبئر ميمون، ويشبه أن تكون هاتان عظم ماء مكة، وإلا فكانت فيها بئار كثيرة كخم والجفر وغيرهما. والله المستعان.

(5/344)


ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة القلم
وهي مكية، ولا خلاف فيها بين أحد من أهل التأويل.
قوله عز وجل:

[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
ن حرف مقطع في قول الجمهور من المفسرين، فيدخله من الخلاف ما يدخل أوائل السور، ويختص هذا الموضع من الأقوال بأن قال مجاهد وابن عباس: نون، اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع فيما يروى. وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك: النون اسم للدواة، فهذا إما أن يكون لغة لبعض العرب، أو تكون لفظة أعجمية عربت، قال الشاعر: [الوافر]
إذا ما الشوق برح بي إليهم ... ألقت النون بالدمع السجوم
فمن قال إنه اسم الحوت جعل «القلم» الذي خلقه الله تعالى وأمره فكتب الكائنات وجعل الضمير في يَسْطُرُونَ للملائكة، ومن قال بأن «نون» اسم للدواة، جعل «القلم» هذا المتعارف بأيدي الناس.
نص ذلك ابن عباس وجعل الضمير في يَسْطُرُونَ للناس، فجاء القسم على هذا بمجموع أم الكتاب الذي هو قوام للعلوم والمعارف وأمور الدنيا والآخرة، فإن القلم أخ اللسان، ومطية الفطنة، ونعمة من الله عامة. وروى معاوية بن قرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ن لوح من نور، وقال ابن عباس وغيره: هو حرف من حروف الرحمن، وقالوا إنه تقطع في القرآن: الر [يونس: 1، هود: 1، يوسف: 1، إبراهيم: 1، الحجر: 1] وحم [غافر: 1، فصلت: 1، الشورى: 1، الزخرف: 1، الدخان: 1، الجاثية: 1، الأحقاف: 1] ، ون، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف «نون» بالنصب، والمعنى: اذكر نون، وهذا يقوى مع أن يكون اسما للسورة، فهو مؤنث سمي به مؤنث، ففيه تأنيث وتعريف، ولذلك لم ينصرف، وانصرف نوح، لأن الخفة بكونه على ثلاثة أحرف غلبت على العجمة، وقرأ

(5/345)


ابن عباس وابن أبي إسحاق والحسن: «نون» بكسر النون، وهذا كما تقول في القسم بالله، وكما تقول:
«جبر» وقيل كسرت لاجتماع الساكنين، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم: «نون» بسكون النون، وهذا على أنه حرف منفصل فحقه الوقوف عليه، وقرأ قوم، منهم الكسائي:
ن وَالْقَلَمِ بالإدغام دون غنة، وقرأ آخرون بالإدغام وبغنة، وقرأ الكسائي ويعقوب عن نافع وأبو بكر عن عاصم بالإخفاء بين الإدغام والإظهار. ويَسْطُرُونَ معناه: يكتبون سطورا، فإن أراد الملائكة فهو كتب الأعمال وما يؤمرون به، وإن أراد بني آدم، فهي الكتب المنزلة والعلوم وما جرى مجراها، وقوله: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ هو جواب القسم وما هنا عاملة لها اسم وخبر، وكذلك هي حيث دخلت الباء في الخبر، وقوله: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ اعتراض، كما يقول الإنسان: أنت بحمد الله فاضل. وسبب هذه الآية، أن قريشا رمت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون، وهو ستر العقول، بمعنى أن كلامه خطأ ككلام المجنون، فنفى الله تعالى ذلك عنه وأخبره بأن له الأجر، وأنه على الخلق العظيم، تشريفا له ومدحا.
واختلف الناس في معنى: مَمْنُونٍ فقال أكثر المفسرين هو الواهن المنقطع، يقال: حبل منين، أي ضعيف. وقال آخرون: معناه غَيْرَ مَمْنُونٍ عليك أي لا يكدره من به. وقال مجاهد: معناه غير مصرد ولا محسوب محصل أي بغير حساب، وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: خلقه القرآن أدبه وأوامره، وقال علي رضي الله عنه: الخلق العظيم أدب القرآن، وعبر ابن عباس عن الخلق بالدين والشرع وذلك لا محالة رأس الخلق ووكيده، أما أن الظاهر من الآية أن الخلق هي التي تضاد مقصد الكفار في قولهم مجنون، أي غير محصل لما يقول، وإنما مدحه تعالى بكرم السجية وبراعة القريحة والملكة الجميلة وجودة الضرائب، ومنه قوله عليه السلام: «بعث لأتمم مكارم الأخلاق» .
وقال جنيد: سمي خلقه عظيما، إذ لم تكن له همة سوى الله تعالى، عاشر الخلق بخلقه وزايلهم بقلبه، فكان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق، وفي وصية بعض الحكماء عليك بالخلق مع الخلق وبالصدق مع الحق، وحسن الخلق خير كله. وقال صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة، قائم الليل وصائم النهار» . وقال: «ما شيء أثقل في الميزان من خلق حسن» ، وقال: «أحبكم إلى الله أحسنكم أخلاقا» ، والعدل والإحسان والعفو والصلة من الخلق. وقوله تعالى: فَسَتُبْصِرُ أي أنت وأمتك، ويُبْصِرُونَ أي هم. واختلف الناس في معنى قوله: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. فقال أبو عثمان المازني:
الكلام تام في قوله: يُبْصِرُونَ، ثم استأنف قوله: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ، وقال الأخفش بل الإبصار عامل في الجملة المستفهم عنها في معناها، وأما الباء فقال أبو عبيدة معمر وقتادة: هي زائدة، والمعنى: أيكم المفتون. وقال الحسن والضحاك: الْمَفْتُونُ بمعنى الفتنة، كما قالوا: ما له معقول، أي عقل، وكما قالوا: اقبل ميسوره ودع معسوره، فالمعنى: بِأَيِّكُمُ هي الفتنة والفساد الذي سموه جنونا، وقال آخرون:
بِأَيِّكُمُ فتن الْمَفْتُونُ وقال الأخفش، المعنى: بِأَيِّكُمُ فتنة الْمَفْتُونُ، ثم حذف المضاف وأقيم ما أضيف إليه مقامه، وقال مجاهد والفراء: الياء بمعنى: في أي، في أي فريق منكم النوع المفتون.

(5/346)


مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)

قال القاضي أبو محمد: وهذا قول حسن قليل التكلف، ولا نقول إن حرفا بمعنى حرف بل نقول إن هذا المعنى يتوصل إليه ب «في» وبالباء أيضا، وقرأ ابن عبلة «في أيكم المفتون» . وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ الآية، وعيد، والعامل في قوله: بِمَنْ ضَلَّ، أَعْلَمُ وقد قواه حرف الجر فلا يحتاج إلى إضمار فعل. وقوله تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ يريد قريشا، وذلك أنهم قالوا في بعض الأوقات لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو عبدت آلهتنا وعظمتها لعبدنا إلهك وعظمناه، وودوا أن يداهنهم النبي صلى الله عليه وسلم ويميل إلى ما قالوا فيميلوا هم أيضا إلى قوله ودينه، والادهان: الملاينة فيما لا يحل، والمداراة الملاينة فيما يحل وقوله تعالى: فَيُدْهِنُونَ معطوف وليس بجواب، لأنه كان ينصب. والحلاف: المردد لحلفه الذي قد كثر منه، والمهين: الضعيف الرأي والعقل، قاله مجاهد، وهو من مهن إذا ضعف. الميم فاء الفعل، وقال ابن عباس المهين: الكذاب، والهماز: الذي يقع في الناس، وأصل الهمز في اللغة: الضرب طعنا باليد أو بالعصا أو نحوه، ثم استعير للذي ينال بلسانه، قال المنذر بن سعيد: وبعينه وإشارته، وسميت الهمزة، لأن في النطق بها حدة، وعجلة، فأشبهت الهمز باليد. وقيل لبعض العرب: أتهمز الفأرة؟ قال: الهرة تهمزها، وقيل لآخر أتهمز إسرائيل: فقال: إني إذا لرجل سوء.
والنميم: مصدر كالنميمة. وهو نقل ما يسمع مما يسوء ويحرش النفوس. وروى حذيفة أن النبي قال: «لا يدخل الجنة قتات» ، وهو النمام، وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذه الأوصاف هي أجناس لم يرد بها رجل بعينه، وقالت طائفة: بل نزلت في معين، واختلف فيه، فقال بعضها: هو الوليد بن المغيرة، ويؤيد ذلك غناه، وأنه أشهرهم بالمال والبنين، وقال الشعبي وغيره: هو الأخنس بن شريق، ويؤيد ذلك أنه كانت له هنة في حلقه كزنمة الشاة، وأيضا فكان من ثقيف ملصقا في قريش، وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي:
هو أبو جهل، وذكر النقاش: عتبة بن ربيعة، وقال مجاهد: هو الأسود بن عبد يغوث، وظاهر اللفظ عموم من هذه صفته، والمخاطبة بهذا المعنى مستمرة باقي الزمن، لا سيما لولاة الأمور.
قوله عز وجل:

[سورة القلم (68) : الآيات 12 الى 20]
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
قال كثير من المفسرين: الخبر هنا المال، فوصفه بالشح، وقال آخرون: بل هو على عمومه في المال والأفعال الصالحة، ومن يمنع إيمانه وطاعته لله تعالى فقد منع الخير، والمعتدي: المتجاوز لحدود الأشياء. والأثيم: فعيل من الإثم، بمعنى: آثم، وذلك من حيث أعماله قبيحة تكسب الإثم، والعتل:
القوي البنية الغليظ الأعضاء المصحح القاسي القلب، البعيد الفهم، الأكول الشروب، الذي هو بالليل جيفة وبالنهار حمار، فكل ما عبر به المفسرون عنه من خلال النقص فعن هذه التي ذكرت بصدر، وقد ذكر النقاش، أن النبي صلى الله عليه وسلم: فسر العتل بنحو هذا، وهذه الصفات كثيرة التلازم، والعتل:

(5/347)


الدفع بشدة، ومنه العتلة، وقوله: بَعْدَ ذلِكَ معناه، بعد ما وصفناه به، فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصف، لا في حصول تلك الصفات في الموصوف وإلا فكونه عتلا، هو قبل كونه صاحب خير يمنعه، والزنيم: في كلام العرب، الملصق في القوم وليس منهم، وقد فسر به ابن عباس هذه الآية، وقال مرة الهمداني: إنما ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة، يعني الذي نزلت فيه هذه الآية، ومن ذلك قول حسان بن ثابت: [الطويل]
وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
ومنه قول حسان بن ثابت أيضا: [الطويل]
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
فقال كثير من المفسرين: هذا هو المراد في الآية. وذلك أن الأخنس بن شريق كان من ثقيف، حليفا لقريش. وقال ابن عباس: أراد ب «الزنيم» أن له زنمة في عنقه كزنمة الشاة، وهي الهنة التي تعلق في عنقها، وما كنا نعرف المشار إليه، حتى نزلت فعرفناه بزنمته. قال أبو عبيدة: يقال للتيس زنيم إذ له زنمتان، ومنه قول الأعرابي في صفة شاته: كأن زنمتيها نتوا قليسية. وروي أن الأخنس بن شريق كان بهذه الصفة كان له زنمة. وروى ابن عباس أنه قال: لما نزلت هذه الصفة، لم يعرف صاحبها حتى نزلت زَنِيمٍ فعرف بزنمته. وقال بعض المفسرين: الزنيم: المريب، القبيح الأفعال. واختلفت القراءة في قوله: أَنْ كانَ ذا مالٍ. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وحفص عن عاصم وأهل المدينة: «أن كان» على الخبر، وقرأ حمزة: «أأن كان» بهمزتين محققتين على الاستفهام، وقرأ ابن عامر والحسن وابن أبي إسحاق وعاصم وأبو جعفر: «آن كان» على الاستفهام بتسهيل الهمزة الثانية، والعامل في أَنْ كانَ فعل مضمر تقديره: كفر أو جحد أو عند، وتفسير هذا الفعل، قوله: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ الآية، وجاز أن يعمل المعنى وهو متأخر من حيث كان قوله أَنْ كانَ في منزلة الظرف، إذ يقدر باللام، أي لأن كان، وقد قال فيه بعض النحاة: إنه في موضع خفض باللام، كما لو ظهرت، فكما يعمل المعنى في الظرف المتقدم فكذلك يعمل في هذا، ومنه قوله تعالى: يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: 7] . فالعامل في: إِذا [سبأ: 7] ، معنى قوله: إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: 7] ، أي تبعثون، ونحوه من التقدير، ولا يجوز أن يعمل:
تُتْلى في إِذا لأنه مضاف إليه وقد أضيف إِذا إلى الجملة ولا يجوز أن يعمل في أَنْ، قال لأنها جواب إِذا ولا تعمل فيما قبلها. وأجاز أبو علي أن يعمل فيه عُتُلٍّ وإن كان قد وصف، ويصح على هذا النظر أن يعمل فيه زَنِيمٍ لا سيما على قول من يفسره بالقبيح الأفعال، ويصح أن يعمل في أَنْ كانَ، تطيعه التي يقتضيها قوله: وَلا تُطِعْ [القلم: 10] . وهذا على قراءة الاستفهام يبعد وإنما يتجه لا تطعه لأجل كونه كذا، وأَنْ كانَ، على كل وجه، مفعول من أجله وتأمل. وقد تقدم القول في الأساطير في غير ما موضع. وقوله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ معناه على الأنف قاله المبرد، وذلك أن الْخُرْطُومِ يستعار في أنف الإنسان. وحقيقته في مخاطم السباع، ولم يقع التوعد في هذه الآية، بأن

(5/348)


فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)

يوسم هذا الإنسان على أنفه بسمة حقيقة، بل هذه عبارة عن فعل يشبه الوسم على الأنف. واختلف الناس في ذلك الفعل، فقال ابن عباس: هو الضرب بالسيف أي يضرب في وجهه، وعلى أنفه فيجيء ذلك الوسم على الأنف، وحل ذلك به يوم بدر. وقال محمد بن يزيد المبرد: ذلك في عذاب الآخرة في جهنم، وهو تعذيب بنار على أنوفهم. وقال آخرون ذلك في يوم القيامة، أي يوسم على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره. وقال قتادة وغيره معناه: سنفعل به في الدنيا من الذم له والمقت والإشهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى به فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتا بينا، وهذا المعنى كما تقول: سأطوقك طوق الحمامة، أي أثبت لك الأمر بينا فيك، ونحو هذا أراد جرير بقوله: [الكامل] لما وضعت على الفرزدق ميسمي وفي الوسم على الأنف تشويه، فجاءت استعارته في المذمات بليغة جدا. وإذا تأملت حال أبي جهل ونظرائه وما ثبت لهم في الدنيا من سوء الأحدوثة رأيت أنهم قد وسموا على الخراطيم. وقوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ يريد قريشا، أي امتحناهم، وأَصْحابَ الْجَنَّةِ فيما ذكر قوم إخوة كان لأبيهم جنة وحرث مغل فكان يمسك منه قوته، ويتصدق على المساكين بباقيه، وقيل بل كان يحمل المساكين معه في وقت حصاده وجذه، فيجذيهم منه فمات الشيخ، فقال ولده: نحن جماعة وفعل أبينا كان خطأ، فلنذهب إلى جنتنا ولا يدخلها علينا مسكين، ولا نعطي منها شيئا، قال: فبيتوا أمرهم وعزمهم على هذا، فبعث الله عليها بالليل طائفا من نار أو غير ذلك، فاحترقت، فقيل: أصبحت سوداء، وقيل: بيضاء كالزرع اليابس المحصود، فلما أصبحوا إلى جنتهم لم يروها فحسبوا أنهم قد أخطؤوا الطريق، ثم تبينوها فعلموا أن الله تعالى أصابهم فيها، فتابوا حينئذ وأنابوا وكانوا مؤمنين من أهل الكتاب، فشبه الله تعالى قريشا بهم، في أنهم امتحنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وهداه كما امتحن أولئك بفعل أبيهم وبأوامر شرعهم، فكما حل بأولئك العقاب في جنتهم كذلك يحل بهؤلاء في جميع دنياهم وفي حياتهم، ثم التوبة معرضة لمن بقي منهم كما تاب أولئك. وقال كثير من المفسرين: السنون السبع التي أصابت قريشا هي بمثابة ما أصاب أولئك في جنتهم. وقوله تعالى: لَيَصْرِمُنَّها أي ليجدنها، وصرام النخل: جد ثمره وكذلك في كل شجرة، ومُصْبِحِينَ معناه: إذا دخلوا في الصباح، وقوله تعالى: وَلا يَسْتَثْنُونَ ولا يتوقفون في ذلك، أو ولا ينثنون عن رأي منع المساكين، وقال مجاهد معناه: لا يقولون إن شاء الله، بل عزموا على ذلك عزم من يملك أمره، والطائف: الأمر الذي يأتي بالليل، ذكر هذا التخصيص الفراء، ويرده قوله تعالى: إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ [الأعراف: 201] ، والصريم: قال الفراء ومنذر وجماعة: أراد به الليل من حيث اسودت جنتهم. وقال آخرون: أراد به الصبح من حيث ابيضت كالحصيد، قاله سفيان الثوري: والصريم، يقال لليل والنهار من حيث كل واحد منهما ينصرم من صاحبه، وقال ابن عباس: الصريم، الرماد الأسود بلغة جذيمة، وقال ابن عباس أيضا وغيره: الصريم، رملة باليمن معروفة لا تنبت فشبه جنتهم بها.
قوله عز وجل:

[سورة القلم (68) : الآيات 21 الى 29]
فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25)
فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29)

(5/349)


فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)

«تنادوا» معناه: دعا بعضهم بعضا إلى المضي لميعادهم، وقرأ بعض السبعة: «أن اغدوا» بضم النون وبعضهم بكسرها، وقد تقدم هذا مرارا. وقولهم إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ، يحتمل أن يكون من صرام النخل، ويحتمل أن يريد إن كنتم من أهل عزم وإقدام على آرائكم من قولك سيف صارم، ويَتَخافَتُونَ معناه: يتكلمون كلاما خفيا، ومنه قوله تعالى: وَلا تُخافِتْ بِها [الإسراء: 110] ، وكان هذا التخافت خوفا من أن يشعر بهم المساكين، وكان لفظهم الذي يَتَخافَتُونَ به أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين.
وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة: «لا يدخلنها» بسقوط أن، وقوله تعالى: عَلى حَرْدٍ يحتمل أن يريد على منع من قولهم: حاردت الإبل، إذا قلت ألبانها فمنعتها، وحاردت السنة، إذا كانت شهباء لا غلة لها، ومنه قول الشاعر [الكميت] : [الطويل]
وحاردت النكد الجلاد فلم يكن ... لعقبة قدر المستعيرين معقب
ويحتمل أن يريد بالحرد القصد، وبذلك فسر بعض اللغويين، وأنشد عليه [القرطبي] : [الرجز]
أقبل سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الحبّة المغلة
أي يقصد قصدها، ويحتمل أن يريد بالحرد، الغضب، يقال: حرد الرجل حردا إذا غضب، ومنه قول الأشهب بن رميلة: [الطويل]
أسود شرى لاقت أسودا خفية ... تساقوا على حرد دماء الأساود
وقوله تعالى: قادِرِينَ يحتمل أن يكون من القدرة، أي هم قادرون في زعمهم، ويحتمل أن يكون من التقدير كأنهم قد قدروا على المساكين، أي ضيقوا عليهم، ومنه قوله تعالى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق: 7] ، وقوله: فَلَمَّا رَأَوْها أي محترقة حسبوا أنهم قد ضلوا الطريق، وأنها ليست تلك، فلما تحققوها علموا أنها أصيبت، فقالوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أي قد حرمنا غلتها وبركتها، فقال لهم أعدلهم قولا وخلقا وعقلا وهو الأوسط، ومنه قوله تعالى: أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] أي عدولا خيارا، وتُسَبِّحُونَ، قيل هي عبارة عن طاعة الله وتعظيمه، والعمل بطاعته. وقال مجاهد وأبو صالح: هي كانت لفظة، الاستثناء عندهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يرد عليه قولهم: سُبْحانَ رَبِّنا فبادر القوم عند ذلك وتابوا وسبحوا واعترفوا بظلمهم في اعتقادهم منع الفقراء.
قوله عز وجل:

[سورة القلم (68) : الآيات 30 الى 38]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38)

(5/350)


أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)

يَتَلاوَمُونَ معناه: يجعل كل واحد اللوم في حيز صاحبه، ويبرئ نفسه، ثم أجمعوا على أنهم طغوا، أي تعدوا ما يلزم من مواساة المساكين، ثم انصرفوا إلى رجاء الله تعالى، وانتظار الفرج من لدنه في أن يبدلهم بسبب توبتهم خيرا من تلك الجنة. وقرأ: «يبدلنا» بسكون الباء وتخفيف الدال، جمهور القراء والحسن وابن محيصن والأعمش، وقرأ نافع وأبو عمرو: بالتثقيل وفتح الباء، وقوله تعالى: كَذلِكَ الْعَذابُ ابتداء مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر قريش، والإشارة بذلك إلى العذاب الذي نزل بالجنة، أي ذلك العذاب، هو العذاب الذي ينزل بقريش بغتة، ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أشد عليهم من عذاب الدنيا، وقال كثير من المفسرين: العذاب النازل بقريش المماثل لأمر الجنة هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين، حتى رأوا الدخان وأكلوا الجلود، ثم أخبر تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، فروي أنه لما نزلت هذه قالت قريش: إن كانت ثم جنات نعيم، فلنا فيها أكبر الحظ، فنزلت:
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، وهذا على جهة التوقيف والتوبيخ. وقوله تعالى: ما لَكُمْ توبيخ آخر ابتداء وخبر جملة منحازة، وقوله تعالى: كَيْفَ تَحْكُمُونَ جملة منحازة كذلك، وكَيْفَ في موضع نصب ب تَحْكُمُونَ، وقوله تعالى: أَمْ هي المقدرة ببل وألف الاستفهام، و: كِتابٌ معناه: منزل من عند الله، وقوله تعالى: إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ. قال بعض المتأولين: هذا استئناف قول على معنى: إن كان لكم كتاب، فلكم فيه متخير، وقال آخرون: إِنَّ معمولة ل تَدْرُسُونَ، أي تدرسون في الكتاب إن لكم ما تختارون من النعيم، وكسرت الألف من إِنَّ لدخول اللام في الخبر، وهي في معنى: «أن» بفتح الألف. وقرأ طلحة والضحاك: «أن لكم» بفتح الألف. وقرأ الأعرج «أأن لكم فيه» على الاستفهام.
قوله عز وجل:

[سورة القلم (68) : الآيات 39 الى 45]
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)
قوله تعالى: أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مخاطبة للكفار، كأنه يقول: هل أقسمنا لكم قسما فهو عهد لكم بأنا ننعمكم في يوم القيامة وما بعده؟ وقرأ جمهور الناس بالرفع على الصفة لأيمان،

(5/351)


وقرأ الحسن بن أبي الحسن «بالغة» بالنصب على الحال وهي حال من النكرة، لأنها نكرة مخصصة بقوله عَلَيْنا، وقرأ الأعرج: «أإن لكم لما تحكمون» وكذلك في التي تقدمت في قوله: «أإن لكم فيه لما تخيرون» ، ثم أمر تعالى نبيه محمدا على وجه إقامة الحجة، أن يسألهم عن الزعيم لهم بذلك من هو؟
والزعيم: الضامن للأمر والقائم به، ثم وقفهم على أمر الشركاء، عسى أن يظنوا أنهم ينفعونهم في شيء من هذا. وقرأ ابن أبي عبلة وابن مسعود: «أم لهم شركاء فليأتوا بشركهم» بكسر الشين دون ألف، والمراد بذلك على القراءتين الأصنام، وقوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ قيل هو استدعاء وتوقيف في الدنيا، أي ليحضروهم حتى يرى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا، وقيل هو استدعاء وتوقيف على أن يأتوا بهم يوم القيامة، يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ. وقوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ، قال مجاهد: هي أول ساعة من يوم القيامة، وهي أفظعها، وتظاهر حديث من النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه ينادي مناد يوم القيامة ليتبع كل أحد ما كان يعبد» ، قال: «فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، وكذلك كل عابد لكل معبود ثم تبقى هذه الأمة وغبرات أهل الكتاب، معهم منافقوهم وكثير من الكفرة، فيقال لهم: ما شأنكم لم تقفون، وقد ذهب الناس فيقولون ننتظر ربنا فيجيئهم الله تعالى في غير الصورة التي عرفوه بها، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، قال فيقول: أتعرفونه بعلامة ترونها فيقولون:
نعم، فيكشف لهم عن ساق، فيقولون: نعم أنت ربنا، ويخرون للسجود فيسجد كل مؤمن وتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظما واحدا، فلا يستطيعون سجودا» .
قال القاضي أبو محمد: هكذا هو الحديث وإن اختلفت منه ألفاظ بزيادة ونقصان، وعلى كل وجه فما ذكر فيه من كشف الساق وما في الآية أيضا من ذلك، فإنما هو عبارة عن شدة الهول وعظم القدرة التي يرى الله تعالى ذلك اليوم حتى يقع العلم أن تلك القدرة إنما هي لله تعالى وحده، ومن هذا المعنى قول الشاعر في صفة الحرب [جد طرفة] : مجزوء الكامل]
كشفت لهم عن ساقها ... وبدا عن الشر البواح
ومنه قول الراجز: [الرجز] وشمرت عن ساقها فشدوا وقول الآخر: [الرجز]
في سنة قد كشفت عن ساقها ... حمراء تبري اللحم عن عراقها
وأصل ذلك أنه من أراد الجد في أمر يحاوله فإنه يكشف عن ساقه تشميرا وجدا، وقد مدح الشعراء بهذا المعنى فمنه قول دريد: [الطويل]
كميش الإزار خارج نصف ساقه ... صبور على الضراء طلاع أنجد
وعلى هذا من إرادة الجد والتشمير في طاعة الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه» . وقرأ جمهور الناس: «يكشف عن ساق» بضم الياء على بناء الفعل للمفعول، وقرأ ابن

(5/352)


أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)

مسعود: «يكشف» بفتح الياء وكسر الشين على معنى يكشف الله، وقرأ ابن عباس: «تكشف» بضم التاء على معنى تكشف القيامة والشدة والحال الحاضرة، وقرأ ابن عباس أيضا: «تكشف» بفتح التاء على أن القيامة هي الكاشفة، وحكى الأخفش عنه أنه قرأ: «نكشف» بالنون مفتوحة وكسر الشين، ورويت عن ابن مسعود. وقوله تعالى: وَيُدْعَوْنَ ظاهره أن ثم دعاء إلى السجود، وهذا يرده ما قد تقرر في الشرع من أن الآخرة ليست بدار عمل وأنها لا تكليف فيها، فإذا كان هذا فإنما الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين فيريدون هم أن يسجدوا عند ذلك فلا يستطيعونه. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنهم يدعون إلى السجود على جهة التوبيخ، وخرج بعض الناس من قوله: فَلا يَسْتَطِيعُونَ أنهم كانوا يستطيعونه قبل ذلك، وذلك غير لازم. وعقيدة الأشعري: أن الاستطاعة إنما تكون مع التلبس بالفعل لما قبله، وهذا القدر كاف من هذه المسألة هاهنا. و: خاشِعَةً نصب على الحال وجوارحهم كلها خاشعة، أي ذليلة ولكنه خص الأبصار بالذكر لأن الخشوع فيها أبين منه في كل جارحة. وقوله تعالى: تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي تزعج نفوسهم وتظهر عليهم ظهورا يخزيهم، وقوله تعالى: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يريد في دار الدنيا وهم سالمون مما نال عظام ظهورهم من الاتصال والعتو، وقال بعض المتأولين: «السجود» هنا عبارة عن جميع الطاعات، وخص «السجود» بالذكر من حيث هو عظم الطاعات، ومن حيث به وقع امتحانهم في الآخرة، وقال إبراهيم التيمي والشعبي: أراد ب السُّجُودِ الصلوات المكتوبة، وقال ابن جبير: المعنى كانوا يسمعون النداء للصلاة: وحي على الفلاح فلا يجيبون، وفلج الربيع بن خيثم: فكان يهادي بين رجلين إلى المسجد، فقيل له: إنك لمعذور، فقال: من سمع حي على الفلاح، فليجب ولو حبوا، وقيل لابن المسيب: إن طارقا يريد قتلك فاجلس في بيتك، فقال: أسمع حي على الفلاح فلا أجيب؟ والله لا فعلت.
وهذا كله قريب بعضه من بعض، وقوله تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ وعيد ولم يكن ثم مانع، ولكنه كما تقول: دعني مع فلان، أي سأعاقبه، وَمَنْ في موضع نصب عطفا على الضمير في:
«ذرني» أو نصبا على المفعول معه، و «الحديث» المشار إليه هو القرآن المخبر بهذه الغيوب، والاستدراج هو: الحمل من رتبة إلى رتبة، حتى يصير المحمول إلى شر وإنما يستعمل الاستدراج في الشر، وهو مأخوذ من الدرج، قال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم، ويمنعون الشكر، وقال غيره: كلما زادوا ذنبا زادوا نعمة، وفي معنى الاستدراج قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» . وقال الحسن: كم من مستدرج بالإحسان إليه ومغرور بالستر عليه. وَأُمْلِي لَهُمْ معناه: أؤخرهم ملاوة من الزمن، وهي البرهة والقطعة، يقال: ملاوة: بضم الميم وبفتحها وبكسرها، والكيد: عبارة عن العقوبة التي تحل بالكفار من حيث هي: على كيد منهم، فسمى العقوبة باسم الذنب، والمتين: القوي الذي له متانة، ومنه المتن الظهر.
قوله عز وجل:

[سورة القلم (68) : الآيات 46 الى 52]
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)

(5/353)


هذه أَمْ التي تتضمن الإضراب عن الكلام الأول لا على جهة الرفض له، لكن على جهة الترك والإقبال على سواه، وهذا التوقيف لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمراد به توبيخ الكفار لأنه لو سألهم أجرا فأثقلهم غرم ذلك لكان لهم بعض العذر في إعراضهم وقرارهم، وقوله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ معناه: هل لهم علم بما يكون فيدعون مع ذلك أن الأمر على اختيارهم جار، ثم أمر تعالى نبيه بالصبر لحكمه، وأن يمضي لما أمر به من التبليغ واحتمال الأذى والمشقة، ونهى عن الضجر والعجلة التي وقع فيها يونس صلى الله عليه وسلم، ثم اقتضبت القصة، وذكر ما وقع في آخرها من ندائه من بطن الحوت وَهُوَ مَكْظُومٌ، أي غيظه في صدره. وحقيقة الكظم: هو الغيظ والحزن والندم فحمل المكظوم عليه تجوزا، وهو في الحقيقة كاظم، ونحو هذا قول ذي الرمة: [البسيط]
وأنت من حب مني مضمر حزنا ... عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم
وقال النقاش: المكظوم، الذي أخذ بكظمه وهو مجاري القلب، ومنه سميت الكاظمة وهي القناة في جوف الأرض. وقرأ جمهور الناس: «لولا أن تداركه» أسند الفعل دون علامة تأنيث، لأن تأنيث النعمة غير حقيقي وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود وابن عباس: «تداركته» على إظهار العلامة، وقرأ ابن هرمز والحسن: «تدّاركه» بشد الدال على معنى: تتداركه وهي حكاية حال تام، فلذلك جاء الفعل مستقبلا بمعنى: لَوْلا أَنْ، يقال فيه تتداركه نعمة من ربه ونحوه، قوله تعالى: فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ فهذا وجه القراءة، ثم أدغمت التاء في الدال، والنعمة: هي الصفح والتوب، والاجتباء: الذي سبق له عنده، والعراء: الأرض الواسعة التي ليس فيها شيء يوارى من بناء ولا نبات ولا غيره من جبل ونحوه، ومنه قول الشاعر [أبو الخراش الهذلي] : [الكامل]
رفعت رجلا لا أخاف عثارها ... ونبذت بالأرض العراء ثيابي
وقد نبذ يونس عليه السلام بِالْعَراءِ ولكن غير مذموم، وفَاجْتَباهُ معناه: اختاره واصطفاه. ثم أخبر تعالى نبيه بحال نظر الكفار إليهم، وأنهم يكادون من الغيظ والعداوة، يزلقونه فيذهبون قدمه من مكانها ويسقطونه. وقرأ جمهور القراء: «يزلقونك» بضم الياء من أزلق، وقرأ نافع وحده: «يزلقونك» . بفتح الياء من زلقت الرجل، يقال: زلق الرجل بكسر اللام وزلقته بفتحها مثل: حزن وحزنته وشترت العين بكسر التاء وشترنها، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «ليزهقونك» بالهاء، وروى النخعي أن في قراءة ابن مسعود:
«لينفدونك» ، وفي هذا المعنى الذي في نظرهم من الغيظ والعداوة قول الشاعر: [الكامل]
يتقارضون إذا التقوا في مجلس ... نظرا يزيل مواطئ الأقدام
وذهب قوم من المفسرين إلى أن المعنى: يأخذونك بالعين، وذكر أن الدفع بالعين كان في بني

(5/354)


أسد، قال ابن الكلبي: كان رجل يتجوع ثلاثة أيام لا يتكلم على شيء إلا أصابه بالعين، فسأله الكفار أن يصيب النبي صلى الله عليه وسلم، فأجابهم إلى ذلك، ولكن عصم الله تعالى نبيه، قال الزجاج: كانت العرب إذا أراد أحدهم أن يعتان شيئا، تجوع ثلاثة أيام، وقال الحسن: دواء من أصابه العين أن يقرأ هذه الآية، و «الذكر» في الآية القرآن، ثم قرر تعالى أن هذا القرآن العزيز ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ من الجن والإنس، ووعظ لهم وحجة عليهم، فالحمد لله الذي أنعم علينا به وجعلنا أهله وحماته لا رب غيره.
نجز تفسير سورة «ن والقلم» بحمد الله تعالى وعونه وصلى الله على محمد وآله وسلم.

(5/355)