تفسير ابن عطية
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز الْحَاقَّةُ (1) مَا
الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا
ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ
فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا
عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا
فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ
نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الحاقّة
وهي مكية بالإجماع، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال:
خرجت يوما بمكة متعرضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته
قد سبقني للمسجد الحرام، فجئت فوقفت وراءه، فافتتح سورة
الحاقة، فلما سمعت سرد القرآن، قلت في نفسي إنه لشاعر، كما
تقول قريش حتى بلغ إلى قوله إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ،
وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ، قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ وَلا
بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ
رَبِّ الْعالَمِينَ [الحاقة: 40- 41- 42- 43] . ثم مر حتى
انتهى إلى آخر السورة، فأدخل الله تعالى في قلبي الإسلام.
قوله عز وجل:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا
الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا
عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها
عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً
فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ
خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8)
الْحَاقَّةُ اسم فاعل، من حق الشيء يحق إذا كان صحيح الوجود،
ومنه حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: 71] ، والمراد به
القيامة والبعث، قاله ابن عباس وقتادة، لأنها حقت لكل عامل
عمله. وقال بعض المفسرين: الْحَاقَّةُ مصدر كالعاقبة والعافية،
فكأنه قال: ذات الحق. وقال ابن عباس وغيره: سميت القيامة حاقة،
لأنها تبدي حقائق الأشياء واللفظة رفع بالابتداء، ومَا، رفع
بالابتداء أيضا، والْحَاقَّةُ الثانية: خبر مَا، والجملة خبر
الأول، وهذا كما تقول: زيد ما زيد، على معنى التعظيم له
والإبهام في التعظيم أيضا، ليتخيل السامع أقصى جهده. وقوله
تعالى: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ مبالغة في هذا المعنى:
أي أن فيها ما لم تدره من أهوالها، وتفصيل صفاتها. وَما، تقرير
وتوبيخ. وقوله تعالى: مَا الْحَاقَّةُ ابتداء وخبر في موضع نصب
ب أَدْراكَ، ومَا الأولى، ابتداء وخبرها أَدْراكَ مَا
الْحَاقَّةُ، وفي أَدْراكَ، ضمير عائد على مَا هو ضمير الفاعل.
ثم ذكر تعالى تكذيب «ثمود وعاد» بهذا الأمر الذي هو حق مشيرا
إلى أن من كذب بذلك ينزل عليه مثل ما نزل بأولئك. و «القارعة»
من أسماء القيامة أيضا، لأنها تقرع القلوب بصدمتها، وثَمُودُ
اسم عربي معرفة، فإذا أريد به القبيلة لم ينصرف، وإذا أريد به
الحي انصرف، وأما عادٌ: فكونه على ثلاثة أحرف ساكن الوسط دفع
في صدر كل علة فهو مصروف. و «الطاغية» قال قتادة: معناه الصيحة
التي خرجت عن حد كل صيحة، وقال قوم: المراد
(5/356)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ
وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً
(10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي
الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً
وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي
الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ
وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ
وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ
يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا
وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ
(17)
بسبب الفئة الطاغية، وقال آخرون منهم مجاهد
وابن زيد: المعنى بسبب الفعلة الطاغية التي فعلوها. وقال ابن
زيد: ما معناه: «الطاغية» مصدر كالعاقبة فكأنه قال بطغيانهم،
وقاله أبو عبيدة ويقوي هذا كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها
[الشمس: 11] وأولى الأقوال وأصوبها الأول لأنه مناسب لما ذكر
في عاد، إذ ذكر فيها الوجه الذي وقع به الهلاك، وعلى سائر
الأقوال لا يتناسب الأمران لأن طغيان ثمود سبب والريح لا يناسب
ذلك لأنها ليست سبب الإهلاك، بل هي آلة كما في الصيحة، و:
«الصرصر» يحتمل أن يكون من الصر أي البرد، وهو قول قتادة،
ويحتمل أن يكون من صر الشيء إذا صوت، فقال قوم: صوت الريح
صَرْصَرٍ، كأنه يحكي هذين الحرفين. و «العاتية» معناه: الشديدة
المخالفة، فكانت الريح عتت على الخزان بخلافها وعتت على قوم
عاد بشدتها. وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس أنهما قالا:
إنه لم ينزل من السماء قطرة ماء إلا بمكيال على يد ملك ولا هبت
ريح إلا كذلك إلا ما كان من طوفان نوح وريح عاد، فإن الله أذن
لهما في الخروج دون إذن الخزان. والتسخير: استعمال الشيء
باقتدار عليه. وروي أن الريح بدأت بهم صبح يوم الأربعاء لثمان
بقين لشوال، وتمادت بهم إلى آخر يوم الأربعاء تكملة الشهر.
وحُسُوماً، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وأبو عبيدة
معناه: كاملة تباعا لم يتخللها غير ذلك، وهذه كما تقول العرب
ما لقيته حولا محرما، قال الشاعر [طفيل الغنوي] : [الطويل]
عوازب لم تسمع نبوح مقامة ... ولم تر نارا ثم حول محرم
وقال الخليل: حُسُوماً، أي شؤما ونحسا، وقال ابن زيد: حُسُوماً
جمع حاسم كجالس وقاعد، ومعناه أن تلك الأيتام قطعتهم بالإهلاك،
ومنه حسم العلل ومنه الحسام. والضمير في قوله فِيها صَرْعى
يحتمل أن يعود على دارهم وحلتهم لأن معنى الكلام يقتضيها وإن
لم يلفظ بها. قال الثعلبي، وقيل يعود على الريح، وقد تقدم
القول في التشبيه ب «أعجاز النخل» في سورة (اقتربت الساعة) .
والخاوية: الساقطة التي قد خلت أعجازها بلى وفسادا. ثم وقف
تعالى على أمرهم توقيف اعتبار ووعظ بقوله: هل تَرى لَهُمْ مِنْ
باقِيَةٍ اختلف المتأولون في: باقِيَةٍ، فقال قوم منهم ابن
الأنباري: هي هاء مبالغة كعلامة ونسابة والمعنى من باق. وقال
ابن الأنباري أيضا معناه: من فئة باقية وقال آخرون: باقِيَةٍ
مصدر فالمعنى من بقاء.
قوله عز وجل:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 9 الى 17]
وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ
بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ
أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ
حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ
تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13)
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً
(14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ
السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى
أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ
ثَمانِيَةٌ (17)
وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة وأبو جعفر وشيبة
وأبو عبد الرحمن والناس: «من قبله»
(5/357)
بفتح القاف وسكون الباء أي الأمم الكافرة
التي كانت قبله، ويؤيد ذلك ذكره قصة نوح في طغيان الماء لأن
قوله: مَنْ قَبْلَهُ، قد تضمنه فحسن اقتضاب أمرهم بعد ذلك دون
تصريح. وقال أبو عمرو والكسائي وعاصم في رواية أبان والحسن
بخلاف عنه وأبو رجاء والجحدري وطلحة: «ومن قبله» ، بكسر القاف
وفتح الباء أي أجناده وأهل طاعته ويؤيد ذلك أن في مصحف أبيّ بن
كعب: «وجاء فرعون ومن معه» ، وفي حرف أبي موسى: «ومن تلقاءه» .
وقرأ طلحة بن مصرف: «ومن حوله» . وقبل الإنسان: ما يليه في
المكان وكثر استعمالها حتى صارت بمنزلة عندي وفي ذمتي وما
يليني بأي وجه وليني. و: الْمُؤْتَفِكاتُ قرى قوم لوط، وكانت
أربعا فيما روي، وائتفكت: قلبت وصرفت عاليها سافلها فائتفكت هي
فهي مؤتفكة، وقرأ الحسن هنا: «والمؤتفكة» على الإفراد، و
«الخاطئة» : إما أن تكون صفة لمحذوف كأنه قال بالفعل الخاطئة،
وإما أن يريد المصدر، أي بالخطأ في كفرهم وعصيانهم. وقوله
تعالى: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ يحتمل أن يكون الرسول: اسم
جنس كأنه قال: فعصا هؤلاء الأقوام والفرق أنبياء الله الذين
أرسلهم إليهم، ويحتمل أن يكون الرسول بمعنى: الرسالة، وقال
الكلبي: يعني موسى، وقال غيره في كتاب الثعلبي:
يعني لوطا والرابية: النامية التي قد عظمت جدا، ومنه ربا
المال، ومنه الربا، ومنه اهتزت وربت. ثم عدد تعالى على الناس
نعمته في قوله: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ الآية، والمراد:
طَغَى الْماءُ في وقت الطوفان الذي كان على قوم نوح. والطغيان:
الزيادة على الحدود المتعارفة في الأشياء، ومعناه طغا على
خزانه في خروجه وعلى البشر في أن أغرقهم، قال قتادة: علا على
كل شيء خمسة عشر ذراعا، والْجارِيَةِ:
السفينة، والضمير في لِنَجْعَلَها
عائد على الفعلة أي من يذكرها ازدجر، ويحتمل أن يعود على
الْجارِيَةِ، أي من سمعها اعتبر. والْجارِيَةِ يراد بها سفينة
نوح قاله منذر، وقال المهدوي: المعنى في السفن الجارية، وقال
قتادة: أبقى الله تعالى تلك السفينة حتى رأى بعض عيدانها أوائل
هذه الأمة وغيرها من السفن التي صنعت بعدها قد صارت رمودا.
وقوله تعالى: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
عبارة عن الرجل الفهم المنور القلب، الذي يسمع القول فيتلقاه
بفهم وتدبر. قال أبو عمران الجوني: واعِيَةٌ
عقلت عن الله عز وجل. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:
«إني دعوت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي» . قال علي: فما
سمعت بعد ذلك شيئا فنسيته. وقرأ الجمهور: «تعيها» بكسر العين
على وزن تليها. وقرأ ابن كثير في رواية الحلواني وقنبل وابن
مصرف:
«وتعيها» بسكون العين جعل التاء التي هي علامة في المضارع
بمنزلة الكاف من كتف إذ حرف المضارع لا يفارق الفعل فسكن
تخفيفا كما يقال: كتف ونحو هذا قول الشاعر:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا على أن هذا البيت منفصل، فهو أبعد
لكن ضرورة الشعر تسامح به، ثم ذكر تعالى أمر القيامة، و
«الصور» : القرن الذي ينفخ فيه، قال سليمان بن أرقم: بلغني أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصُّورِ فقال: «هو قرن
من نور فمه أوسع من السماوات» ، والنفخة المشار إليها في هذه
الآية، نفخة القيامة التي للفزع ومعها يكون الصعق، ثم نفخة
البعث، وقيل: هي نفخات ثلاثة: نفخة الفزع ونفخة الصعق ثم نفخة
البعث، والإشارة بآياتنا هذه إلى نفخة الفزع، لأن حمل الجبال
هو بعدها. وقرأ
(5/358)
يَوْمَئِذٍ
تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا
مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ
اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ
حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي
جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا
وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ
الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ
(25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا
كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28)
هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
الجمهور: «نفخة» بالرفع، لما نعت صح رفعه،
وقرأ أبو السمال: «نخفة واحدة» بالنصب. وقرأ جمهور القراء:
«وحملت» بتخفيف الميم بمعنى حملتها الرياح والقدرة، وقرأ ابن
عباس فيما روي عنه: «وحمّلت» بشد الميم، وذلك يحتمل معنيين
أحدهما أنها حاملة حملت قدرة وعنفا وشدة نفثها فهي محملة
حاملة.
والآخر أن يكون محمولة حملت ملائكة أو قدرة. وقوله تعالى:
فَدُكَّتا وقد ذكر جمعا ساغ، ذلك لأن المذكور فرقتان وهذا كما
قال الشاعر [القطامي] : [الوافر]
ألم يحزنك أن حبال قومي ... وقومك قد تباينتا انقطاعا
ومنه قوله تعالى: كانَتا رَتْقاً [الأنبياء: 30] و «دكتا»
معناه: سوى جميعها كما يقال: ناقة دكا:
إذا ضعفت فاستوت حدبتها مع ظهرها، والْواقِعَةُ: القيامة
والطامة الكبرى، وقال بعض الناس: هي إشارة إلى صخرة بيت المقدس
وهذا ضعيف، وانشقاق السماء هو تفطيرها وتمييز بعضها عن بعض
وذلك هو الوهي الذي ينالها كما يقال في الجدارات البالية
المتشققة واهية، وَالْمَلَكُ اسم الجنس يريد به الملائكة، وقال
جمهور المفسرين: الضمير في أَرْجائِها عائد على السَّماءُ أي
الملائكة على نواحيها وما لم يه منها والرجا: الجانب من الحائط
والبئر ونحوه ومنه قول الشاعر [المرادي] : [الطويل]
كأن لم تري قبلي أسيرا مقيدا ... ولا رجلا يرعى به الرجوان
أي يلقى في بئر فهو لا يجد ما يتمسك به. وقال الضحاك أيضا وابن
جبير: الضمير في أَرْجائِها عائد على الأرض وإن كان لم يتقدم
لها ذكر قريب لأن القصة واللفظ يقتضي إفهام ذلك، وفسر هذه
الآية بما روي أن الله تعالى يأمر ملائكة سماء الدنيا فيقفون
صفا على حافات الأرض ثم يأمر ملائكة السماء الثانية فيصفون
خلفهم ثم كذلك ملائكة كل سماء، فكلما فر أحد من الجن والإنس
وجد الأرض قد أحيط بها، قالوا فهذا تفسير هذه الآيات، وهو أيضا
معنى قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا
[الفجر: 22] وهو أيضا تفسير قوله يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ
تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ [غافر: 32- 33] على قراءة من شد الدال،
وهو تفسير قوله: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ
اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرحمن: 33] ، واختلف الناس في
الثمانية الحاملين للعرش، فقال ابن عباس: هي ثمانية صفوف من
الملائكة لا يعلم أحد عدتهم. وقال ابن زيد: هم ثمانية أملاك
على هيئة الوعول، وقال جماعة من المفسرين: هم على هيئة الناس،
أرجلهم تحت الأرض السفلى ورؤوسهم وكواهلهم فوق السماء السابعة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هم اليوم أربعة
فإذا كان يوم القيامة قواهم الله بأربعة سواهم» . والضمير في
قوله: فَوْقَهُمْ للملائكة الحملة، وقيل للعالم كله وكل قدرة
كيفما تصورت فإنما هي بحول الله وقوته.
قوله عز وجل:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 18 الى 29]
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ
اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ
حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ
عالِيَةٍ (22)
قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما
أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ
أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا
لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27)
ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ
(29)
(5/359)
الخطاب في قوله تعالى: تُعْرَضُونَ لجميع
العالم، وروي عن أبي موسى الأشعري وابن مسعود أن في القيامة
عرضتين فيهما معاذير وتوقيف وخصومات وجدال، ثم تكون عرضة ثالثة
تتطاير فيها الصحف بالأيمان والشمائل. وقرأ حمزة والكسائي: «لا
يخفى» بالياء وهي قراءة علي بن أبي طالب وابن وثاب وطلحة
والأعمش وعيسى، وقرأ الباقون: بالتاء على مراعاة تأنيث
خافِيَةٌ وهي قراءة الجمهور، وقوله تعالى: خافِيَةٌ معناه ضمير
ولا معتقد، والذين يعطون كتبهم بأيمانهم هم المخلدون في الجنة
أهل الإيمان. واختلف العلماء في الفرقة التي ينفذ فيها الوعيد
من أهل المعاصي متى تأخذ كتبها، فقال بعضهم الأظهر أنها تأخذها
مع الناس، وذلك يؤنسها مدة العذاب، قال الحسن: فإذا أعطى كتابه
بيمينه لم يقرأه حتى يأذن الله تعالى له، فإذا أذن له قال:
هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ، وقال آخرون: الأظهر أنه إذا
أخرجوا من النار والإيمان يؤنسهم وقت العذاب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ظاهر هذه الآية، لأن من يسير إلى
النار فكيف يقول هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ؟ وأما قوله
هاؤُمُ، فقال قوم: أصله هاوموا، ثم نقله التخفيف والاستعمال،
وقرأ آخرون هذه الميم ضمير الجماعة، وفي هذا كله نظر. والمعنى
على كل تعالوا، فهو استدعاء إلى الفعل المأمور به، وقوله
تعالى: اقْرَؤُا كِتابِيَهْ هو استبشار وسرور، وقوله: ظَنَنْتُ
الآية، عبارة عن إيمانه بالبعث وغيره، قال قتادة: ظن هذا ظنا
يقينا فنفعه، وقوم ظنوا ظن الشك فشقوا به، وظَنَنْتُ هنا واقعة
موقع تيقنت وهي في متيقن لم يقع بعد ولا خرج إلى الحس، وهذا هو
باب الظن الذي يوقع موقع اليقين، وقرأ بعض القراء: «كتابيه» و
«حسابيه» و «ماليه» و «سلطانيه» بالهاء في الوصل والوقف اقتداء
بخط المصحف، وهي في الوصل بينة الوقوف لأنها هاء السكت، فلا
معنى لها في الوصل، وطرح الهاءات في الوصل لا في الوقف الأعمش
وابن أبي إسحاق، قال أبو حاتم: قراءتنا إثبات في الوقف وطرح في
الوصل، وبذلك قرأ ابن محيصن وسلام، وقال الزهراوي في إثبات
الهاء في الوصل لحن لا يجوز عنه أحد علمته، وراضِيَةٍ معناه:
ذات رضى فهو بمعنى مرضية، وليست بناء اسم فاعل، وعالِيَةٍ
معناه في المكان والقدر وجميع وجوه العلو، و «القطوف» : جمع
قطف وهو يجتنى من الثمار ويقطف، ودنوها: هو أنها تأتي طوع
المتمنى فيأكلها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها،
وأَسْلَفْتُمْ معناه: قدمتم: و «الأيام» : هي أيام الدنيا
لأنها في الآخرة قد خلت وذهبت. وقال وكيع وابن جبير وعبد
العزيز بن رفيع: المراد بِما أَسْلَفْتُمْ من الصوم وعمومها في
كل الأعمال أولى وأحسن، والذين يؤتون كتابهم بشمائلهم: هم
المخلدون في النار أهل الكفر فيتمنون أن لو كانوا معدومين لا
يجري عليهم شيء، وقوله تعالى: يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ
إشارة إلى موتة الدنيا، أي ليتها لم يكن بعدها رجوع ولا حياة،
وقوله تعالى: ما أَغْنى يحتمل أن يريد الاستفهام على معنى
التقرير لنفسه والتوبيخ، ويحتمل أن يريد النفي المحض، و
«السلطان» في الآية:
الحجة على قول عكرمة ومجاهد، قال بعضهم ونحا إليه ابن زيد ينطق
بذلك ملوك الدنيا الكفرة، والظاهرة
(5/360)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ
(30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ
ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ
لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى
طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا
حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا
يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا
تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
عندي أن سلطان كل أحد حاله في الدنيا من
عدد وعدد، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن الرجل
في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه» .
قوله عز وجل:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 30 الى 40]
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ
فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32)
إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا
يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ
إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ
(37) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ
(39)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
المعنى يقول الله تعالى: أو الملك بأمره للزبانية، خذوه
واجعلوا على عنقه غلا، قال ابن جرير:
نزلت في أبي جهل، وذَرْعُها معناه مبلغ أذرع كيلها، وقد جعل
الله تعالى السبعمائة والسبعين والسبعة مواقف ونهايات لأشياء
عظام، فذلك مشي البشر: العرب وغيرهم على أن يجعلوها نهايات،
وهذه السلسلة من الأشياء التي جعل فيها السبعين نهاية. وقرأ
السدي: «ذرعها سبعين» بالياء، وهذا على حذف خبر الابتداء،
واختلف الناس في قدر هذا الذرع، فقال محمد بن المنكدر وابن
جرير وابن عباس: هو بذراع الملك، وقال نوف البكالي وغيره:
الذراع سبعون باعا في كل باع كما بين الكوفة ومكة، وهذا يحتاج
إلى سند، وقال حذاق من المفسرين: هي بالذراع المعروفة هنا،
وإنما خوطبنا بما نعرفه ونحصله، وقال الحسن: الله أعلم بأي
ذراع هي: وقال السويد بن نجيح في كتاب الثعلبي: إن جميع أهل
النار في تلك السلسلة، وقال ابن عباس: لو وضع حلقة منها على
جبل لذاب كالرصاص، وقوله تعالى: فَاسْلُكُوهُ معناه: أدخلوه،
ومنه قول أبي وجزة السعدي يصف حمر وحش: [البسيط]
حتى سلكن الشوى منهن في مسك ... من نسل جوابة الآفاق مهداج
وروي أن هذه السلسلة تدخل في فم الكافر وتخرج من دبره فهي في
الحقيقة التي سلك فيها لكن الكلام جرى مجرى قولهم: أدخلت فمي
في الحجر والقلنسوة في رأسي، وروي أن هذه السلسلة تلوى حول
الكافر حتى تغمه وتضغطه، فالكلام على هذا على وجهه وهو
المسلوك، وقوله تعالى: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ
المراد به: وَلا يَحُضُّ عَلى إطعام طَعامِ الْمِسْكِينِ،
وأضاف «الطعام» إلى الْمِسْكِينِ من حيث له إليه نسبة ما وخصت
هذه الخلة من خلال الكافر بالذكر لأنها من أضر الخلال في البشر
إذا كثرت في قوم هلك مساكنهم، واختلف المتأولون في قوله:
حَمِيمٌ، فقال جمهور من المفسرين: هو الصديق اللطيف المودة،
فنفى الله تعالى أن يكون للكافر هنالك من يواليه، ونفى أن يكون
له طعام إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ، وقال محمد بن المستنير:
«الحميم» الماء السخن، فكأنه تعالى أخبر أن الكافر ليس له ماء
ولا شيء مائع وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ، و «الغسلين»
فيما قال اللغويون: ما يجري من الجراح إذا غسلت، وقال ابن
عباس: هو صديد أهل النار. وقال قتادة وابن زيد: الغسلين
والزقوم أخبث شيء وأبشعه، وقال الضحاك والربيع: هو شجر يأكله
أهل النار، وقال بعض المفسرين: هو شيء من ضريع
(5/361)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ
شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ
قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ
لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ
مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ
(50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
النار، لأن الله تعالى قد أخبر أنهم ليس
لهم طعام إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ، وقال في أخرى: مِنْ ضَرِيعٍ
[الغاشية: 6] فهما شيء واحد أو اثنان متداخلان، ويحتمل أن يكون
الإخبار هنا عن طائفة وهناك عن طائفة، ويكون الغسلين والضريع
متباينين على ما يفهم منهما في لسان العرب وخبر ليس في به، قال
المهدوي: ولا يصح أن يكون هاهنا.
قال القاضي أبو محمد: وقد يصح أن يكون هنا ذلك إن شاء الله،
والخاطئ: الذي يفعل ضد الصواب متعمدا والمخطئ الذي يفعله غير
متعمد، وقرأ الحسن والزهري «الخاطيون» بالياء دون همز، وقرأ
طلحة وأبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنه: «الخاطون» بضم الطاء
دون همز، وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ، قال بعض النحاة «لا»
زائدة والمعنى: فأقسم، وقال آخرون منهم: «لا» رد لما تقدم من
أقوال الكفار، والبداءة أُقْسِمُ وقرأ الحسن بن أبي الحسن:
«فلأقسم» ، لام القسم معها ألف أقسم، وقوله تعالى: بِما
تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ. قال قتادة بن دعامة: أراد
الله تعالى أن يعمم في هذا القسم حميع مخلوقاته. وقال غيره:
أراد الأجساد والأرواح. وهذا قول حسن عام، وقال ابن عطاء: «ما
تبصرون» ، من آثار القدرة وَما لا تُبْصِرُونَ من أسرار
القدرة، وقال قوم: أراد بقوله: وَما لا تُبْصِرُونَ الملائكة
والرسول الكريم جبريل في تأويل جماعة من العلماء، ومحمد صلى
الله عليه وسلم في قول آخرين وأضيف القول إليه من حيث تلاه
وبلغه.
قوله عز وجل:
[سورة الحاقة (69) : الآيات 41 الى 52]
وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا
بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ
رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ
الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)
ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ
لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ
مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ
(50)
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ (52)
نفى الله تعالى أن يكون القرآن من «قول شاعر» كما زعمت قريش،
ونصب قَلِيلًا بفعل مضمر يدل عليه تُؤْمِنُونَ، وما يحتمل أن
تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة، ويحتمل أن تكون مصدرية ويتصف
بالقلة، إما الإيمان وإما العدد الذي يؤمنون، فعلى اتصاف
إيمانهم بالقلة فهم الإيمان اللغوي لأنهم قد صدقوا بأشياء
يسيرة لا تغني عنهم شيئا إذ كانوا يصدقون أن الخير والصلة
والعفاف الذي كان يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حق
صواب، ثم نفى تعالى أن يكون «قول كاهن» كما زعم بعضهم، وقرأ
ابن كثير وابن عامر والحسن والجحدري: «قليلا ما يؤمنون وقليلا
ما يذكرون» بالياء جميعا. وقرأ الباقون: بالتاء من فوق، ورجح
أبو عامر قراءة التاء بقوله تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ
وفي مصحف أبيّ بن كعب «ما تتذكرون» بتاءين، وتَنْزِيلٌ رفع
بالابتداء، أي هو تَنْزِيلٌ، ثم أخبر تعالى أن محمدا لو تقول
عليه شيئا لعاقبه بما ذكر، والتقول: أن يقول الإنسان عن آخر
أنه قال شيئا لم يقله. وقرأ ذكوان
(5/362)
وابنه محمد: «ولو يقول» بالياء وضم القاف،
وهذه القراءة معرضة بما صرحت به قراءة الجمهور، ويبين التعريض
قوله عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، وقوله تعالى: لَأَخَذْنا
مِنْهُ بِالْيَمِينِ اختلف في معناه، فقال ابن عباس:
بِالْيَمِينِ، بالقوة ومعناه: لنلنا منه عقابه بقوة منا، أو
يكون المعنى: لنزعنا قوته، وقال آخرون:
هي عبارة عن الهوان، كما يقال لمن يسجن أو يقام لعقوبة قد أخذ
بيده وبيمينه، والْوَتِينَ: نياط القلب، قاله ابن عباس وهو عرق
غليظ تصادفه شفرة الناحر، ومنه قول الشماخ: [الوافر]
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرادة فاشرقي بدم الوتين
فمعنى الآية لأذهبنا حياته معجلا، والحاجز: المانع، وجمع
حاجِزِينَ على معنى أَحَدٍ لأنه يقع على الجميع، ونحوه قوله
عليه السلام: «ولم تحل الغنائم لأحد سوى الرؤوس قبلكم» .
والضمير في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ عائد على
القرآن، وقيل على محمد صلى الله عليه وسلم، وفي قوله تعالى:
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وعيد وكونه
لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ هو من حيث كفروا ويرون من آمن
به ينعم وهم يعذبون، وقوله تعالى: لَحَقُّ الْيَقِينِ ذهب
الكوفيون إلى أنها إضافة الشيء إلى نفسه كدار الآخرة ومسجد
الجامع. وذهب البصريون والحذاق إلى أن الحق مضاف إلى الأبلغ من
وجوهه، وقال المبرد: إنما هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين. ثم
أمر تعالى نبيه بالتسبيح باسمه العظيم. وفي ضمن ذلك الاستمرار
على رسالته والمضي لأدائها وإبلاغها، وروي أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية: «اجعلوها في ركوعكم»
واستحب التزام ذلك جماعة من العلماء، وكره مالك لزوم ذلك لئلا
يعد واجبا فرضا.
(5/363)
سَأَلَ سَائِلٌ
بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ
وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ
يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ
تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ
كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المعارج
وهي مكية لا خلاف بين الرواة في ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ
دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ
خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً
(6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ
كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10)
قرأ جمهور السبعة: «سأل» بهمزة مخففة، قالوا والمعنى: دعا داع،
والإشارة إلى من قال من قريش:
اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: 32] .
وروي أن قائل ذلك النضر بن الحارث، وإلى من قال: رَبَّنا
عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: 16] ، ونحو هذا، وقال بعضهم المعنى:
بحث باحث، واستفهم مستفهم، قالوا والإشارة إلى قول قريش: متى
هذا الوعد؟ وما جرى مجراه قاله الحسن وقتادة، فأما من قال
استفهم مستفهم فالباء توصل توصيل عن، كأنه قال عن عذاب، وهذا
كقول علقمة بن عبدة: [الطويل]
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب
وقرأ نافع بن عامر: «سال سائل» ساكنة الألف، واختلفت القراءة
بها، فقال بعضهم: هي «سأل» المهموزة، إلا أن الهمزة سهلت كما
قال لا هناك المرتع ونحو ذلك. وقال بعض هي لغة من يقول سلت
أسأل، ويتساولون، وهي بلغة مشهورة حكاها سيبويه، فتجيء الألف
منقلبة من الواو التي هي عين كقال وحاق، وأما قول الشاعر [حسان
بن ثابت] : [البسيط]
سالت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب
فإن سيبويه قال: هو على لغة تسهيل الهمزة. وقال غيره: هو على
لغة من قال: سلت، وقال بعضهم في الآية: هو من سال يسيل: إذا
جرى وليست من معنى السؤال، قال زيد بن ثابت: في جهنم واد يسمى
سايلا، والاخبار هاهنا عنه.
(5/364)
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل إن لم يصح أمر
الوادي أن يكون الإخبار عن نفوذ القدر بذلك العذاب قد استعير
له لفظ السيل لما عهد من نفوذ السيل وتصميمه، وقرأ ابن عباس:
«سال سيل» بسكون الياء، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود: «سال سال»
مثل قال قال، ألقيت الياء من الخط تخفيفا، والمراد «سائل» .
وسؤال الكفار عن العذاب حسب قراءة الجماعة إنما كان على أنه
كذب. فوصفه الله تعالى بأنه واقِعٍ وعيدا لهم. وقوله تعالى:
لِلْكافِرينَ. قال بعض النحويين: اللام توصل المعنى توصيل
«على» . وروي أنه في مصحف أبي بن كعب: «على الكافرين» ، وقال
قتادة والحسن المعنى: كأن قائلا قال لمن هذا العذاب الواقع؟
فقيل لِلْكافِرينَ. والْمَعارِجِ في اللغة الدرج في الأجرام،
وهي هنا مستعارة في الرتب والفواضل والصفات الحميدة، قاله
قتادة وابن عباس. وقال ابن عباس: الْمَعارِجِ السماوات تعرج
فيها الملائكة من سماء إلى سماء. وقال الحسن: هي المراقي إلى
السماء، وقوله:
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ معناه: تصعد على أصل اللفظة في اللغة.
وَالرُّوحُ عند جمهور العلماء: هو جبريل عليه السلام خصصه
بالذكر تشريفا. وقال مجاهد: الرُّوحُ ملائكة حفظة للملائكة
الحافظين لبني آدم لا تراهم الملائكة كما لا نرى نحن الملائكة.
وقال بعض المفسرين: هو اسم الجنس في أرواح الحيوان.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ
خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. فقال منذر بن سعيد وجماعة من الحذاق:
المعنى تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ
من أيامكم هذه مقدار المسافة أن لو عرجها آدمي خمسون ألف سنة،
وقاله ابن إسحاق فمن جعل «الروح» جبريل أو نوعا من الملائكة
قال: المسافة هي من قعر الأرض السابعة إلى العرش، قاله مجاهد.
ومن جعل «الروح» جنس الحيوان قال المسافة من وجه هذه الأرض إلى
منتهى العرش علوا، قاله وهب بن منبه. وقال قوم المعنى:
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ في نفسه خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ من أيامكم، ثم
اختلفوا في تعيين ذلك اليوم، فقال عكرمة والحكم: أراد مدة
الدنيا فإنها خمسون ألف سنة، لا يدري أحد ما مضى منها ولا ما
بقي، فالمعنى تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ في
مدة الدنيا، وبقاء هذه البنية ويتمكن على هذا في «الروح» أن
يكون جنس أرواح الحيوان، وقال ابن عباس وغيره: بل اليوم المشار
إليه يوم القيامة ثم اختلفوا، فقال بعضهم قدره في الطول قدر
خمسين ألف سنة، وهذا هو ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له صفائح من نار يوم
القيامة، تكوى بها جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره ألف
سنة» . وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري: بل قدره في هوله وشدته
ورزاياه للكفار قدر خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وهذا كما تقول في
اليوم العصيب، إنه كسنة ونحو هذا قال أبو سعيد، قيل يا رسول
الله ما أطول يوما مقداره خمسون ألف سنة، فقال: «والذي نفسي
بيده ليخف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة» ،
وقال عكرمة: المعنى كان مقدار ما ينقضي فيه من القضايا والحساب
قدر ما ينقضي بالعدل في خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ من أيام
الدنيا. وقد ورد في يوم القيامة أنه كألف سنة وهذا يشبه أن
يكون في طوائف دون طوائف. والعامل في قوله فِي يَوْمٍ على قول
من قال إنه يوم القيامة قوله دافِعٌ وعلى سائر الأقوال
تَعْرُجُ، وقرأ جمهور القراء: «تعرج» بالتاء من فوق، وقرأ
الكسائي وحده: «يعرج» بالياء لأن التأنيث بالياء غير حقيقي،
وبالياء من تحت قرأ ابن مسعود لأنه كان يذكر الملائكة وهي
قراءة
(5/365)
يُبَصَّرُونَهُمْ
يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ
بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ
الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ
يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً
لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)
وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا
(19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ
الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ
هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
الأعمش، ثم أمر تعالى نبيه بالصبر الجميل،
وهو الذي لا يلحقه عيب من فشل ولا تشكك ولا قلة رضى ولا غير
ذلك. والأمر بالصبر الجميل محكم في كل حالة، وقد نزلت هذه
الآية قبل الأمر بالقتال. وقوله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ
بَعِيداً يعني يوم القيامة لأنهم يكذبون به، فهو في غاية البعد
عندهم، والله تعالى يراه قَرِيباً من حيث هو واقع وآت وكل آت
قريب. وقال بعض المفسرين: الضمير في يَرَوْنَهُ عائد على
العذاب. وقوله تعالى: يَوْمَ تَكُونُ نصب بإضمار فعل أو على
البدل من الضمير المنصوب. و «المهل» :
عكر الزيت قاله ابن عباس وغيره، فهي لسوادها وانكدار أنوارها
تشبه ذلك. والمهل أيضا: ماء أذيب من فضة ونحوها قاله ابن مسعود
وغيره: فيجيء له ألوان وتميع مختلط، والسماء أيضا- للأهوال
التي تدركها- تصير مثل ذلك، و «العهن» : الصوف دون تقييد. وقد
قال بعض اللغويين: هو الصوف المصبوغ ألوانا، وقيل المصبوغ أي
لون كان، وقال الحسن: هو الأحمر، واستدل من قال إنه المصبوغ
ألوانا بقول زهير:
[الطويل]
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم
وحب الفنا هو عنب الثعلب، وكذلك هو عند طيبه، وقبل تحطمه ألوان
بعضه أخضر، وبعضه أصفر، وبعضه أحمر، لاختلافه في النضج، وتشبه
«الجبال» به على هذا القول لأنها جدد بيض وحمر وسود فيجيء
التشبيه من وجهين في الألوان وفي الانتفاش. ومن قال إن العهن:
الصوف دون تقييد، وجعل التشبيه في الانتفاش وتخلخل الأجزاء
فقط. قال الحسن: والجبال يوم القيامة تسير بالرياح ثم يشتد
الأمر فتنهد ثم يشتد الأمر بها فتصير هباء منبثا. وقرأ السبعة
والحسن والمدنيون وطلحة والناس: «ولا يسأل» على بناء الفعل
للفاعل، والحميم في هذا الموضع: القريب والوالي، والمعنى لا
يسأله نصرة ولا منفعة لعلمه أنه لا يجدها عنده، قال قتادة:
المعنى لا يسأله عن حاله لأنها ظاهرة قد بصر كل أحد حالة
الجميع، وشغل بنفسه. وقرأ ابن كثير من طريق البزي وأبو جعفر
وشيبة بخلاف عنهما وأبو حيوة «لا يسأل» على بناء الفعل
للمفعول. فالمعنى: ولا يسأل إحضاره لأن كل مجرم له سيما يعرف
بها، وكذلك كل مؤمن له سيما خير.
وقيل المعنى: لا يسأل عن ذنبه وأعماله ليؤخذ بها وليزر وزره.
قوله عز وجل:
[سورة المعارج (70) : الآيات 11 الى 23]
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ
عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12)
وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15)
نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى
(17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ
هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20)
وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ
(22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)
(5/366)
ويُبَصَّرُونَهُمْ على هذه القراءة قيل
معناه في النار. وقال ابن عباس في المحشر يبصر بالحميم حميمه
ثم يفر عنه لشغله بنفسه. وتقول: بصر فلان بالشيء، وبصرته به
أريته إياه ومنه قول الشاعر: [الوافر]
إذا بصّرتك البيداء فاسري ... وأما الآن فاقتصدي وقيلي
وقرأ قتادة بسكون الباء وكسر الصاد خفيفة، فقال مجاهد:
يُبَصَّرُونَهُمْ معناه يبصر المؤمنون الكفار في النار، وقال
ابن زيد: يبصر الكفار من أضلهم في النار عبرة وانتقاما عليهم
وخزيا لهم.
الْمُجْرِمُ في هذه الآية الكافر بدليل شدة الوعد وذكر لَظى
وقد يدخل مجرم المعاصي فيما ذكر من الافتداء، وقرأ جمهور
الناس: «يومئذ» بكسر الميم، وقرأ الأعرج بفتحها، ومن حيث أضيف
إلى غير متمكن جاز فيه الوجهان. وقرأ أبو حيوة «من عذاب» منونا
«يومئذ» مفتوح الميم، والصاحبة: هنا الزوجة، والفصيلة في هذه
الآية قرابة الرجل الأدنون، مثال ذلك بنو هاشم مع النبي صلى
الله عليه وسلم، والفصيلة في كلام العرب: أيضا الزوجة، ولكن
ذكر الصاحبة في هذه الآية لم يبق في معنى الفصيلة إلا الوجه
الذي ذكرناه. وقوله ثُمَّ يُنْجِيهِ الفاعل هو الفداء الذي
تضمنه قوله لَوْ يَفْتَدِي فهو المتقدم الذكر. وقرأ الزهري
«تؤويه» و «تنجيه» برفع الهاءين، وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّها
لَظى رد لقولهم وما ودوه أي ليس الأمر كذلك، ثم ابتدأ الإخبار
عن لَظى وهي طبقة من طبقات جهنم، وفي هذا اللفظ تعظيم لأمرها
وهولها. وقرأ السبعة والحسن وأبو جعفر والناس: «نزاعة» بالرفع،
وقرأ حفص عن عاصم: «نزاعة» بالنصب، فالرفع على أن تكون لَظى
بدلا من الضمير المنصوب، «ونزاعة» خبر «إن» أو على إضمار
مبتدأ، أي هي نزاعة أو على أن يكون الضمير في إِنَّها للقصة،
ولَظى ابتداء و «نزاعة» خبره، أو على أن تكون لَظى خبر و
«نزاعة» بدل من لَظى، أو على أن تكون لَظى خبرا و «نزاعة» خبرا
بعد خبر. وقال الزجاج: «نزاعة» ، رفع بمعنى المدح.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو القول بأنها خبر ابتداء تقديره
هي نزاعة، لأنه إذا تضمن الكلام معنى المدح أو الذم جاز لك
القطع رفعا بإضمار مبتدأ أو نصبا بإضمار فعل. ومن قرأ بالنصب
فذلك إما على مدح لَظى كما قلنا، وإما على الحال من لَظى لما
فيها من معنى التلظي، كأنه قال: كلا إنها النار التي تتلظى
نزاعة، قال الزجاج: فهي حال مؤكدة و: «الشوى» جلد الإنسان،
وقيل جلد الرأس والهامة، قاله الحسن. ومنه قول الأعشى: [مجزوء
الكامل]
قالت قتيلة ماله ... قد جللت شيبا شواته
ورواه أبو عمرو بن العلاء سراته فلا شاهد في البيت على هذه
الرواية. قال أبو عبيدة: سمعت أعرابيا يقول اقشعرت شواتي، و
«الشوى» أيضا: قوائم الحيوان، ومنه عبل الشوى، و «الشوى» أيضا:
كل عضو ليس بمقتل، ومنه رمى فأشوى إذا لم يصب المقتل، وقال ابن
جرير: «الشوى» العصب والعقب، فنار لظى تذهب هذا من ابن آدم
وتنزعه. وقوله تعالى: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى يريد
الكفار، واختلف الناس في دعائها، فقال ابن عباس وغيره: هو
حقيقة تدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، وقال الخليل بن أحمد هي
عبارة عن حرصها عليهم واستدنائها لهم، وما توقعه من عذابها،
وقال ثعلب: تَدْعُوا، معناه: تهلك، تقول العرب: دعاك الله أي
أهلكك، وحكاه الخليل عن العرب، و «أوعى» معناه: جعلها في
الأوعية تقول: وعيت العلم وأوعيت المال والمتاع، ومنه قول
الشاعر [عبيد بن الأبرص] : [البسيط]
(5/367)
وَالَّذِينَ فِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ
الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ
مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ
(28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا
عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ
ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)
الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر
أخبث ما أوعيت من زاد
وهذه إشارة إلى كفار أغنياء جعلوا جمع المال أوكد أمرهم، ومعنى
حياتهم فجمعوه من غير حل ومنعوه من حقوق الله، وكان عبد الله
بن عليكم لا يربط كيسه، ويقول: سمعت الله تعالى يقول: وَجَمَعَ
فَأَوْعى. وقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ عموم لاسم الجنس،
لكن الإشارة هنا إلى الكفار، لأن الأمر فيهم وكيد كثير، والهلع
جزع واضطراب يعتري الإنسان عند المخاوف وعند المطامع ونحوه
قوله عليه السلام:
«شر ما في الإنسان شح هالع» . وقوله إِذا مَسَّهُ، الآية، مفسر
للهلع، وقوله تعالى: إِلَّا الْمُصَلِّينَ أي إلا المؤمنين
الذين أمر الآخرة أوكد عليهم من أمر الدنيا، والمعنى أن هذا
المعنى فيهم يقل لأنهم يجاهدون بالتقوى، وقرأ الجمهور: «على
صلاتهم» بالإفراد، وقرأ الحسن: «صلواتهم» بالجمع. وقوله تعالى:
دائِمُونَ قال الجمهور المعنى: مواظبون قائمون لا يملون في وقت
من الأوقات فيتركونها وهذا في المكتوب، وأما النافلة فالدوام
عليها الإكثار منها بحسب الطاقة، وقد قال عليه السلام: «أحب
العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه» . وقال ابن مسعود: الدوام
صلاتها لوقتها، وتركها كفر، وقال عقبة بن عامر:
دائِمُونَ يقرؤون في صلاتهم ولا يلتفتون يمينا ولا شمالا. ومنه
الماء الدائم.
قوله عز وجل:
[سورة المعارج (70) : الآيات 24 الى 31]
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ
بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ
رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ
مَأْمُونٍ (28)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى
أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ
غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ
فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31)
قال قتادة والضحاك: «الحق المعلوم» هي الزكاة المفروضة، وقال
الحسن ومجاهد وابن عباس: هذه الآية في الحقوق التي في المال
سوى الزكاة وهي ما ندبت الشريعة إليه من المواساة، وقد قال ابن
عمر ومجاهد والشعبي وكثير من أهل العلم: إن في المال حقا سوى
الزكاة وهذا هو الأصح في هذه الآية لأن السورة مكية، وفرض
الزكاة وبيانها إنما كان بالمدينة. و «السائل» : المتكفف،
«والمحروم» المحارف الذي قد ثبت فقره ولم تنجح سعاياته لدنياه،
قالت عائشة: هو الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه. وقال بعض أهل
العلم، «المحروم» : من احترق زرعه، وقال بعضهم «المحروم» : من
ماتت ماشيته، وهذه أنواع الحرمان لأن الاسم يستلزم هذا خاصة،
وقال عمر بن عبد العزيز «المحروم» : الكلب أراد، والله أعلم أن
يعطي مثالا من الحيوان ذي الكبد الرطبة لما فيه من الأجر حسب
الحديث المأثور، وقال الشعبي: أعياني أن أعلم ما المحروم. وحكى
عنه النقاش أنه قال: وهو ابن سبعين سنة سألت عنه وأنا غلام فما
وجدت شفاء.
قال القاضي أبو محمد: يرحم الله الشعبي فإنه في هذه المسألة
محروم، ولو أخذه اسم جنس فيمن عسرت مطالبه بان له، وإنما كان
يطلبه نوعا مخصوصا كالسائل، ويوم الدِّينِ هو يوم القيامة، سمي
(5/368)
وَالَّذِينَ هُمْ
لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ
بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى
صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ
مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ
مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ
(37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ
نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ
(39)
بذلك لأنه يوم المجازاة، و «الدين» :
الجزاء كما تقول العرب:
كما تدين تدان ومنه قول الفند الزماني: [الهزج]
ولم يبق سوى العدوا ... ن دنّاهم كما دانوا
والإشفاق من أمر يتوقع، لأن نيل عذاب الله للمؤمنين متوقع،
والأكثر ناج بحمد الله، لكن عذاب الله لا يأمنه إلا من لا
بصيرة له، والفروج في هذه الآية: هي الفروج المعروفة، والمعنى
من الزنى، وقال الحسن بن أبي الحسن أراد فروج الثياب وإلى معنى
الوطء يعود. ثم استثنى تعالى الوطء الذي أباحه الشرع في الزوجة
والمملوكات. وقوله تعالى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ وحسن دخول
عَلى في هذا الموضوع قوله: غَيْرُ مَلُومِينَ، فكأنه قال: إلا
أنهم غير ملومين على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم.
وقوله تعالى: ابْتَغى معناه: طلب، وقوله: وَراءَ ذلِكَ معناه:
سوى ما ذكر، كأنه أمر قد حد فيه حد، فمن طلب بغيته وراء الحد
فهو كمستقبل حد في الأجرام وهو يتعدى، وراءه: أي خلفه،
والعادُونَ:
الذين يتجاوزون حدود الأشياء التي لها حدود كان ذلك في الأجرام
أو في المعنى.
قوله عز وجل:
[سورة المعارج (70) : الآيات 32 الى 39]
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32)
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ
هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ
مُكْرَمُونَ (35) فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ
مُهْطِعِينَ (36)
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ
كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)
كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
الأمانات: جمع أمانة، وجمعها لأنها تكون متنوعة من حيث هي في
الأموال وفي الأسرار فيما بين العبد وربه فيما أمره ونهاه عنه،
قال الحسن: الدين كله أمانة. وقرأ ابن كثير وحده من السبعة:
«لأمانتهم» بالإفراد، والعهد: كل ما تقلده الإنسان من قول أو
فعل أو مودة، إذا كانت هذه الأشياء على طريق البر، فهو عهد
ينبغي رعيه وحفظه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حسن
العهد من الإيمان» و: راعُونَ جمع راع أي حافظ، وقوله تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ معناه في قول جماعة
من المفسرين:
أنهم يحفظون ما يشهدون فيه، ويتيقنونه ويقومون بمعانيه حتى لا
يكون لهم فيه تقصير، وهذا هو وصف من تمثيل قول النبي صلى الله
عليه وسلم: «على مثل الشمس فاشهد» . وقال آخرون معناه الذين
إذا كانت عندهم شهادة ورأوا حقا يدرس أو حرمة لله تنتهك قاموا
بشهادهم، وقال ابن عباس: شهادتهم في هذه الآية: «لا إله إلا
الله وحده لا شريك له» . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» ، واختلف
الناس في معنى هذا الحديث بحسب المعنيين اللذين ذكرت في الآية،
إحداهما: أن يكون يحفظهما متقنة فيأتي بها ولا يحتاج أن يستفهم
عن شيء منها ولا أن يعارض. والثاني: إذا رأى حقا يعمل بخلافه
وعنده في إحياء الحق شهادة. وروي أيضا عن النبي صلى الله
(5/369)
فَلَا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40)
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى
يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ
يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى
نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ
ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
عليه وسلم أنه قال: «سيأتي قوم يخونون ولا
يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السمن» .
واختلف الناس في معنى هذا الحديث، فقال بعض العلماء: هم قوم
مؤمنون يتعرضون ويحرصون على وضع أسمائهم في وثائق الناس،
وينصبون لذلك الحبائل من زي وهيئة وهم غير عدول في أنفسهم
فيغرون بذلك ويضرون.
قال القاضي أبو محمد: فهذا في ابتداء الشهادة لا في أدائها،
ويجيء قوله عليه السلام: «ولا يستشهدون» ، أي وهم غير أهل
لذلك، وقال آخرون من العلماء: هم شهود الزور، لأنهم يؤدونها
والحال لم تشهدهم ولا المشهود عليه، وقرأ حفص عن عاصم:
«بشهاداتهم» على الجمع وهي قراءة عبد الرحمن، والباقون
«بشهادتهم» على الإفراد الذي هو اسم الجنس. والمحافظة على
الصلاة إقامتها في أوقاتها بشروط صحتها وكمالها، وقال ابن
جريج: يدخل في هذه الآية التطوع. وقوله تعالى: فَمالِ
الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ الآية نزلت بأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الكعبة أحيانا ويقرأ
القرآن، فكان كثير من الكفار يقومون من مجالسهم مسرعين إليه
يتسمعون قراءته ويقول بعضهم لبعض:
شاعر وكاهن ومفتر وغير ذلك. وقِبَلَكَ معناه فيما يليك، و:
«المهطع» الذي يمشي مسرعا إلى شيء قد أقبل عليه ببصره. وقال
ابن زيد: لا يطرف، و: عِزِينَ جمع عزة، قال بعض النحاة أصلها
عزوة، وقال آخرون منهم: أصلها عزهة، وجمعت بالواو والنون عوضا
مما انحذف منها نحو سنة وسنون، ومعنى العزة: الجمع اليسير
فكأنهم كانوا ثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ومنه قول الراعي:
[الكامل]
أخليفة الرحمن إن عشيرتي ... أمسى سوامهم عزين فلولا
وقال أبو هريرة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم
حلق متفرقون فقال: «ما لي أراكم عزين» وقوله تعالى: أَيَطْمَعُ
كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ نزلت
لأن بعض الكفار قال: إن كانت ثم آخرة وجنة فنحن أهلها وفيها،
لأن الله تعالى لم ينعم علينا في الدنيا بالمال والبنين وغير
ذلك إلا لرضاه عنا. وقرأ السبعة والحسن وطلحة: «يدخل» بضم
الياء وفتح الخاء على بناء الفعل للمفعول، وقرأ المفضل عن عاصم
وابن يعمر والحسن وأبو رجاء وطلحة: «يدخل» ، بفتحها وضم الخاء
على بناء الفعل للفاعل. وقوله تعالى: كَلَّا رد لقولهم وطمعهم:
أي ليس الأمر كذلك، ثم أخبر عن خلقهم من نطفة قذرة، فأحال في
العبارة عنها إلى علم الناس أي فمن خلق من ذلك فليس بنفس خلقه
يعطى الجنة، بل بالأعمال الصالحة إن كانت. وقال قتادة في
تفسيرها: إنما خلقت من قذر با ابن آدم فاتق الله، وقال أنس كان
أبو بكر إذا خطبنا ذكر مناتي ابن آدم ومروره من مجرى البول
مرتين وكونه نطفة في الرحم ثم علقة ثم مضغة إلى أن يخرج فيتلوث
في نجساته طفلا فلا يقلع أبو بكر حتى يقذر أحدنا نفسه.
قوله عز وجل:
[سورة المعارج (70) : الآيات 40 الى 44]
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا
لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما
نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا
حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ
يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ
يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ
ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)
(5/370)
قرأ الجمهور: «فلا أقسم» وذلك على أن تكون
«لا» زائدة، أو تكون ردا لفعل الكفار وقولهم ثم يقع الابتداء
بالقسم. وقرأ قوم من القراء «فلأقسم» دون ألف مفردة،
والْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ هي مطالع الشمس والقمر وسائر
الكواكب وحيث تغرب، لأنها مختلفة عند التفضيل فلذلك جمع، وقرأ
عبد الله بن مسلم وابن محيصن: «برب المشرق والمغرب» على
الإفراد، ومتى ورد «المشرق والمغرب» ، وهي عبارة عن موضع
الشروق وموضع الغروب بجملته وإن كان يتفصل بالصاد، ومتى ورد
المشرقان والمغربان فهي عبارة عن طرفي مواضع الشروق وطرفي موضع
الغروب. وأقسم الله تعالى في هذه الآية بمخلوقاته على إيجاب
قدرته على أن يبدل خيرا من ذلك العالم، وأنه لا يسبقه شيء إلى
إرادته. وقوله تعالى: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا الآية وعيد وما فيه
من معنى المهادنة فمنسوخ بآية السيف. وروي عن ابن كثير أنه
قرأ: «يلقوا» بغير ألف، وهي قراءة أبي جعفر وابن محيصن.
ويَوْمَ يَخْرُجُونَ بدل من قولهم يَوْمَهُمُ. وقرأ الجمهور:
«يخرجون» بفتح الياء وضم الراء. وروى أبو بكر عن عاصم: ضم
الياء وفتح الراء.
و: الْأَجْداثِ القبور، والنصب: ما نصب للإنسان فهو يقصد مسرعا
إليه من علم أو بناء أو صنم لأهل الأصنام. وقد كثر استعمال هذا
الاسم في الأصنام حتى قيل لها الأنصاب، ويقال لشبكة الصائد
نصب.
وقال أبو العالية إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ معناه: إلى غايات
يستبقون. وقرأ جمهور السبعة وأبو بكر عن عاصم «نصب» بفتح
النون، وهي قراءة أبي جعفر ومجاهد وشيبة وابن وثاب والأعرج،
وقرأ الحسن وقتادة بخلاف عنهما: «نصب» بضم النون. وقرأ ابن
عامر وحفص عن عاصم: «نصب» بضم النون والصاد وهي قراءة الحسن
أيضا وأبي العالية وزيد بن ثابت وأبي رجاء وقرأ مجاهد وأبو
عمران الجوني «إلى نصب» بفتح النون والصاد ويُوفِضُونَ معناه:
يسرعون ومنه قول الراجز: [الرجز]
لأنعتنّ نعامة ميفاضا ... خرجاء ظلت تطلب الاضاضا
وخاشِعَةً نصب على الحال، ومعناه ذليلة منكسرة، وتَرْهَقُهُمْ
معناه: تظهر عليهم وتلح وتضيق نفوسهم، ومن هذه اللفظة المرهق
من السادة بحوائج الناس، والمرهق بالدين، وخلق فيها رهق أي
إسراع إلى الناس وسيف فلان فيه رهق، ومنه مراهقة الاحتلام،
وإرهاق الصلاة أي مزاحمة وقتها.
نجز تفسير «سورة المعارج» والحمد لله كثيرا.
(5/371)
إِنَّا أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ
إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ
وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ
أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (4)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة نوح
وهي مكية بإجماع من المتأولين. قال أبي بن كعب، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين
تدركهم دعوة نوح.
قوله عز وجل:
[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ
قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1)
قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ
لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (4)
«نوح» عليه السلام هو نوح بن لامك، وقد مر ذكره وذكر عمره صلى
الله عليه وسلم، وصرف نوح مع عجمته وتعريفه لخفته وسكون الوسط
من حروفه، وقوله: أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ يحتمل أن تكون أَنْ:
مفسرة لا موضع لها من الإعراب، ويحتمل أن يكون التقدير «بأن
أنذر قومك» وهي على هذا في موضع نصب عند قوم من النحاة، وفي
موضع خفض عند آخرين، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «إلى قومه
أنذر قومك» دون أَنْ، والعذاب الذي توعدوا به: يحتمل أن يكون
عذاب الدنيا وهو الأظهر والأليق بما يأتي بعد، ويحتمل أن يكون
عذاب الآخرة. وقرأ جمهور السبعة: «أن اعبدوا» ، بضم النون من
«أن» اتباعا لضمة الباء وتركا لمراعاة الحائل لخفة السكون، فهو
كأن ليس ثم حائل. وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو، وفي رواية عبد
الوارث «أن اعبدوا» ، بكسر النون وهذا هو الأصل في التقاء
الساكنين من كلمتين.
ويَغْفِرْ جواب الأمر وقوله تعالى: مِنْ ذُنُوبِكُمْ قال قوم
مِنْ زائدة، وهذا نحو كوفي، وأما الخليل وسيبويه فلا يجوز
عندهم زيادتها في الواجب، وقال قوم: هي لبيان الجنس، وهذا ضعيف
لأنه ليس هنا جنس يبين، وقال آخرون هي بمعنى «عن» . وهذا غير
معروف في أحكام «من» ، وقال آخرون: هي لابتداء الغاية وهذا قول
يتجه كأنه يقول يبتدئ الغفران من هذه الذنوب العظام التي لهم.
وقال آخرون: هي للتبعيض، وهذا عندي أبين الأقوال، وذلك أنه لو
قال: «يغفر لكم ذنوبكم» لعم هذا اللفظ ما تقدم من الذنوب وما
تأخر عن إيمانهم، والإسلام إنما يجبّ ما قبله، فهي بعض من
ذنوبهم، فالمعنى يغفر لكم ذنوبكم، وقال بعض المفسرين: أراد
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ المهم الموبق الكبير لأنه
أهم عليهم، وبه ربما كان اليأس عن الله قد وقع لهم وهذا قول
مضمنه أن مِنْ للتبعيض والله تعالى الموفق. وقرأ أبو
(5/372)
قَالَ رَبِّ إِنِّي
دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ
دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ
لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ
وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا
اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ
إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ
كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ
مِدْرَارًا (11)
عمرو: يَغْفِرْ لَكُمْ بالإدغام، ولا يجيز
ذلك الخليل وسيبويه، لأن الراء حرف مكرر، فإذا أدغم في اللام
ذهب التكرير واختل المسموع. وقوله تعالى: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى
أَجَلٍ مُسَمًّى مما تعلق المعتزلة به في قولهم: إن للإنسان
أجلين، وذلك أنهم قالوا: لو كان واحدا محدودا لما صح التأخير،
إن كان الحد قد بلغ ولا المعاجلة إن كان الحد لم يبلغ.
قال القاضي أبو محمد: وليس لهم في الآية تعلق، لأن المعنى أن
نوحا عليه السلام، لم يعلم هل هم ممن يؤخر أو ممن يعاجل؟ ولا
قال لهم: إنكم تؤخرون عن أجل قد حان لكم، لكن قد سبق في الأزل
أنهم إما ممن قضى لهم بالإيمان والتأخير وإما ممن قضي عليه
بالكفر والمعاجلة، فكأن نوحا عليه السلام قال لهم: آمنوا يبين
لكم أنكم ممن قضي لهم بالإيمان والتأخير، وإن بقيتم فسيبين لكم
أنكم ممن قضي عليه بالكفر والمعاجلة ثم تشدد هذا المعنى ولاح
بقوله: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ. وقد حكى
مكي القول بالأجلين ولم يقدره قدره، وجواب لَوْ، مقدر يقتضيه
اللفظ كأنه قال: فما كان أحزمكم أو أسرعكم إلى التوبة لَوْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
قوله عز وجل:
[سورة نوح (71) : الآيات 5 الى 11]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5)
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي
كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ
فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا
وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ
جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ
لَهُمْ إِسْراراً (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10)
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11)
هذه المقالة قالها نوح عليه السلام بعد أن طال عمره وتحقق
اليأس عن قومه، وقوله: لَيْلًا وَنَهاراً عبارة عن استمرار
دعائه، وأنه لم ين فيه قط، ويروى عن قتادة أن نوحا عليه السلام
كان يجيئه الرجل من قومه بابنه فيقول: احذر هذا الرجل فإن أبي
حذرني إياه، ويقول له إنه مجنون. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو
عمرو وابن عامر: «دعائي إلا» بالهمز وفتح الياء، وقرأ عاصم
وحمزة والكسائي: «دعاي» بسكون الياء دون همز، وروى شبل عن ابن
كثير: بنصب الياء دون همز مثل هداي، وقرأ عاصم أيضا وسلام
ويعقوب: بهمز وياء ساكنة. وقوله: وَإِنِّي كُلَّما
دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ معناه: ليؤمنوا فيكون ذلك سبب
الغفران. وقوله تعالى: جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ
يحتمل أن يكون حقيقة، ويحتمل أن يكون عبارة عن إعراضهم، وشدة
رفضهم لأقواله، وكذلك قوله: اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ معناه:
جعلوها أغشية على رؤوسهم، والإصرار الثبوت على معتقد ما، وأكثر
استعماله في الذنوب، ثم كرر عليه السلام صفة دعائه لهم بيانا
وتأكيدا وجهارا يريد علانية في المحافل، والإسرار ما كان من
دعاء الأفراد بينه وبينهم على انفراد، وهذا غاية الجد. وقوله
تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ يُرْسِلِ السَّماءَ يقتضي أن
الاستغفار سبب لنزول المطر في كل أمة. وروي عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أنه استسقى بالناس فلم يزد على أن استغفر ساعة ثم
(5/373)
وَيُمْدِدْكُمْ
بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ
وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ
تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا
(15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ
سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا
(17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا
مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
انصرف فقال له قوم: ما رأيناك استسقيت يا
أمير المؤمنين، فقال: والله لقد استنزلت المطر بمجادح السماء،
ثم قرأ الآية، وسقى رضي الله عنه، وشكى رجل إلى الحسن الجرب
فقال له: استغفر الله، وشكى إليه آخر الفقر، فقال: استغفر
إليه، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولدا، فقال له استغفر
الله، فقيل له في ذلك، فنزع بهذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: والاستغفار الذي أحال عليه الحسن ليس هو
عندي لفظ الاستغفار فقط، بل الإخلاص والصدق في الأعمال
والأقوال، فكذلك كان استغفار عمر رضي الله عنه، وروي أن قوم
نوح كانوا قد أصابهم قحوط وأزمة، فلذلك بدأهم في وعده بأمر
المطر ثم ثنى بالأموال والبنين. قال قتادة:
لأنهم كانوا أهل حب للدنيا وتعظيم لأمرها فاستدعاهم إلى الآخرة
من الطريق التي يحبونها، و «مدرار» :
مفعال من الدر، كمذكار ومئناث، وهذا البناء لا تلحقه التأنيث.
قوله عز وجل:
[سورة نوح (71) : الآيات 12 الى 20]
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ
جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً
(14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ
طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ
الشَّمْسَ سِراجاً (16)
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ
يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها
سُبُلاً فِجاجاً (20)
وعدهم بالأموال والبنين والجنات والأنهار لمكان حبهم للدنيا،
واختلف الناس في معنى قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: ما
لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً فقال أبو عبيدة وغيره:
تَرْجُونَ معناه تخافون، ومنه قول الشاعر [أبو ذؤيب الهذلي] :
[الطويل]
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عواسل
قالوا والوقار: العظمة والسلطان، فكأن الكلام على هذا وعيد
وتخويف، وقال بعض العلماء تَرْجُونَ على بابها في الرجاء وكأنه
قال: ما لكم لا تجعلون رجاءكم لله وتلقاءه وقارا، ويكون على
هذا التأويل منهم كأنه يقول: تؤدة منكم وتمكنا في النظر لأن
الكفر مضمنه الخفة والطيش وركوب الرأس، وقوله تعالى: وَقَدْ
خَلَقَكُمْ أَطْواراً قال ابن عباس ومجاهد: هي إشارة إلى
التدريج الذي للإنسان في بطن أمه من النطفة والعلقة والمضغة،
وقال جماعة من أهل التأويل هي إشارة إلى العبرة في اختلاف
ألوان الناس وخلقهم وخلقهم ومللهم، والأطوار: الأحوال
المختلفة. ومنه قول النابغة: [البسيط]
فإن أفاق فقد طارت عمايته ... والمرء يخلق طورا بعد أطوار
وقرأ أَلَمْ تَرَوْا وقرأ «ألم يروا» على فعل الغائب وطِباقاً
قيل هو مصدر أي مطابقة أي جعل كل واحدة طبقا للأخرى ونحو قول
امرئ القيس: [الرمل] طبق الأرض تجري وتدر
(5/374)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ
إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ
وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا
(22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ
وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا
ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا
نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا
(25)
وقيل هو جمع طبق، وهو نعت لسبع، وقرأ ابن
أبي عبلة، «طباق» بالخفض على النعت ل سَماواتٍ، وقوله تعالى:
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ ساغ ذلك لأن القمر من حيث هو في
إحداها فهو في الجميع، ويروى أن القمر في السماء الدنيا، وقال
عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن العباس: إن الشمس
والقمر أقفارهما إلى الأرض وإقبال نورهما وارتفاعه في السماء،
وهو الذي تقتضيه لفظة السراج، وقيل إن الشمس في السماء
الخامسة، وقيل في الرابعة، وقال عبد الله بن عمر: هي في الشتاء
في الرابعة وفي الصيف في السابعة. وقوله تعالى: أَنْبَتَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً استعارة من حيث أخذ آدم عليه السلام من
الأرض ثم صار الجميع نَباتاً منه، وقوله تعالى: نَباتاً مصدر
جار على غير المصدر، التقدير فنبتم نَباتاً، والإعادة فيها: هي
بالدفن فيها الذي هو عرف البشر، والإخراج: هو البعث يوم
القيامة لموقف العرض والجزاء، وقوله تعالى: بِساطاً يقتضي
ظاهره أن الأرض بسيطة كروية واعتقاد أحد الأمرين غير قادح في
نفسه اللهم إلا أن يتركب على القول بالكروية نظر فاسد، وأما
اعتقاد كونها بسيطة فهو ظاهر كتاب الله تعالى، وهو الذي لا
يلحق عنه فساد البتة. واستدل ابن مجاهد على صحة ذلك بماء البحر
المحيط بالمعمور، فقال: لو كانت الأرض كروية لما استقر الماء
عليها.
والسبل: الطرق والفجاج: الواسعة.
قوله عز وجل:
[سورة نوح (71) : الآيات 21 الى 25]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ
يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا
مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ
وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ
وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ
الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ
أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25)
المعنى فلما لم يطيعوا ويئس نوح من إيمانهم قال نوح: رَبِّ
إِنَّهُمْ عَصَوْنِي واتبعوا أشرافهم وغواتهم، فعبر عنهم بأن
أموالهم وأولادهم زادتهم خَساراً أي خسرانا، وقرأ ابن كثير
وأبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع في رواية خارجة عنه «وولده»
بضم الواو وسكون اللام، وهي قراءة ابن الزبير والحسن والأعرج
والنخعي ومجاهد، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر «وولده» بفتح اللام
والواو وهما يمعنى واحد كبخل وبخل وهي قراءة أبي عبد الرحمن
والحسن وأبي رجاء وابن وثاب وأبي جعفر وشيبة، وقرأ «وولده»
بكسر الواو والجحدري وزر والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق وطلحة،
وقال أبو عمرو: «ولد» بضم الواو وسكون اللام العشيرة والقوم،
وقال أبو حاتم يمكن أن يكون الولد بضم الواو جمع الولد وذلك
كخشب وخشب، وقد قال حسان بن ثابت: [الكامل]
ما بكر آمنة المبارك بكرها ... من ولد محصنة بسعد الأسعد
وقرأ جمهور الناس: «كبارا» بشد الباء وهو بناء مبالغة، نحو
حسان. قال عيسى: وهي لغة يمانية وعليها قول الشاعر [أبو صدقة
الدبيري] : [الكامل]
(5/375)
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ
لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا
إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ
الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
والمرء يلحقه بفتيان الندى ... خلق الكريم
وليس بالوضّاء
بضم الواو، وقرأ ابن محيصن وعيسى ابن عمر «كبار» بتخفيف الباء
وهو بناء مبالغة إلا أنه دون الأول، وقرأ ابن محيصن فيما روى
عنه أبو الأخريط وهب بن واضح بكسر الكاف، وقال ابن الأنباري
جمع كبير فكأنه جعل المكر مكان ذنوب أفاعل ونحوه. وقوله تعالى:
وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ إخبار عن توصيهم بأصنامهم
على العموم، وما كان منها مشهور المكانة، وما كان منها يختص
بواحد واحد من الناس، ثم أخذوا ينصون على المشهور من الأصنام،
وهذه الأصنام روي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الدنيا،
فلما ماتوا صورهم أهل ذلك العصر من الحجر، وقالوا: ننظر إليها
فنذكر أفعالهم فهلك ذلك الجيل وكثر تعظيم الآخر لتلك الحجارة،
ثم كذلك حتى عبدت ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها، وقيل بل
الأسماء فقط إلى قبائل من العرب، فكانت «ودّ» في كلب بدومة
الجندل، وكانت «سواع» في هذيل، وكانت يَغُوثَ في مراد، وكانت
يَعُوقَ في همذان، وكانت «نسر» في ذي الكلاع من حمير. وقرأ
نافع وحده ورويت عن عاصم بضم الواو. وقرأ الباقون والأعمش
والحسن وطلحة وشيبة وأبو جعفر:
بخلاف عن الثلاثة «ودا» بفتح الواو، وقال الشاعر: [البسيط]
حياك ود فإنا لا يحل لنا ... لهو النساء وإن الدين قد عزما
فيقال إنه أراد بذلك الصنم، وقال آخر [الحطيئة] : [الطويل]
فحياك دو ما هداك لفتية ... وخوص بأعلى ذي فضالة هجد
يروى البيتان بضم الواو، وقرأ الأعمش: «ولا يغوثا ويعوقا»
بالصرف، وذلك وهم، لأن التعريف لازم ووزن الفعل. وقوله: وَقَدْ
أَضَلُّوا كَثِيراً هو إخبار نوح عنهم وهو منقطع مما حكاه
عنهم. والمعنى وقد أضل هؤلاء القائلون كثيرا من الناس الأتباع
والعوام، ثم دعا عليهم إلى الله تعالى بأن لا يزيدهم إلا
ضلالا، وذكر الظَّالِمِينَ لتعم الدعوة كل من جرى مجراهم. وقال
الحسن في كتاب النقاش: أراد بقوله وَقَدْ أَضَلُّوا، الأصنام
المذكورة وعبر عنها بضمير من يعقل من حيث يعاملها جمهور أهلها
معاملة من يعقل، ويسند إليها أفعال العقل. وقوله تعالى: مِمَّا
خَطِيئاتِهِمْ ابتداء إخبار من الله تعالى لمحمد عليه السلام،
أي أن دعوة نوح أجيبت فآل أمرهم إلى هذا، و «ما» الظاهرة: في
قوله مِمَّا زائدة فكأنه قال: من خطيئاتهم أغرقوا وهي لابتداء
الغاية، وقرأ «مما خطيئتهم» على الإفراد الجحدري والحسن، وقرأ
أبو عمرو وحده والحسن وعيسى والأعرج وقتادة بخلاف عنهم «مما
خطاياهم» على تكسير الجمع. وقال: فَأُدْخِلُوا ناراً يعني
جهنم، وعير عن ذلك بفعل الماضي من حيث الأمر متحقق. وقيل أراد
عرضهم على النار غدوا وعشيا عبر عنهم بالإدخال. وقوله: فَلَمْ
يَجِدُوا أي لم يجد المغرقون أحدا سوى الله ينصرهم ويصرف عنهم
بأس الله تعالى.
قوله عز وجل:
[سورة نوح (71) : الآيات 26 الى 28]
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ
الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ
يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً
(27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ
بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا
تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)
(5/376)
روى محمد بن كعب والربيع وابن زيد، أن نوحا
عليه السلام لم يدع بهذه الدعوة إلا بعد أخرج الله تعالى كل
مؤمن من أصلابهم وأعقم أرحام النساء قبل العذاب بسبعين سنة،
قال قتادة: وبعد أن أوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك
إلا من قد آمن. وقد كان قبل ذلك طامعا حدبا عليهم. وفي حديث
النبي صلى الله عليه وسلم «أنه ربما ضربه ناس منهم أحيانا حتى
يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»
. ودَيَّاراً أصله ديوارا وهو فيعال من الدوران أي من يجيء
ويذهب يقال منه دوار وزنه فيعال أصله ديوار، وهذا كالقوام
والقيام. وقرأ جمهور الناس: «ولوالدي» وقرأ أبي بن كعب
«ولأبوي» ، وقرأ سعيد بن جبير «ولوالدي» بكسر الدال يخص أباه
بالدعوة. وقال ابن عباس: لم يكفر بنوح ما بينه وبين آدم عليه
السلام، وقرأ يحيى بن يعمر والجحدري: «ولولديّ» بفتح اللام وشد
الياء المفتوحة وهي قراءة النخعي يخص بالدعاء ابنيه، وبيته:
المسجد فيما قال ابن عباس وجمهور المفسرين. وقال ابن عباس
أيضا: بيته: شريعته ودينه استعار لها بيتا كما يقال: قبة
الإسلام، وفسطاط الدين.
وقيل أراد سفينته، وقيل داره. وقوله: لِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ تعميم بالدعاء لمؤمني كل أمة، وقال بعض
العلماء: إن الذي استجاب لنوح عليه السلام فأغرق بدعوته أهل
الأرض الكفار لجدير أن يستجيب له فيرحم بدعوته المؤمنين. و:
«التبار» الهلاك وذهاب الرسم، وقرأ حفص عن عاصم وهشام وأبو قرة
عن نافع: «بيتي» بتحريك الياء، وقرأ الباقون بسكونها.
(5/377)
|