تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)

بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة التّكوير
وهي مكية بإجماع من المتأولين.
قوله عز وجل:

[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
هذه كلها أوصاف يوم القيامة، و «تكوير الشمس» : هو أن تدار ويذهب بها إلى حيث شاء الله كما يدار كور العمامة، وعبر المفسرون عن ذلك بعبارات، فمنهم من قال: ذهب نورها قاله قتادة، ومنهم من قال: رمي بها، قاله الربيع بن خيثم وغير ذلك مما هو أشياء توابع لتكويرها، و «انكدار النجوم» : هو انقضاضها وهبوطها من مواضعها، ومنه قول الراجز [العجاج] : [الرجز]
أبصر خربان فلاة فانكدر ... تقضّي البازي إذا البازي كسر
وقال ابن عباس: انْكَدَرَتْ: تغيرت، من قولهم: ماء كدر، أي متغير اللون، وتسيير الجبال هو قبل نسفها، وإنما ذلك في صدر هول القيامة، و: الْعِشارُ جمع عشراء وهي الناقة التي قد مر لحملها عشرة أشهر، وهي أنفس ما عند العرب وتهممهم بها عظيم للرغبة في نسلها، فإنها تعطل عند أشد الأهوال، وقرأ مضر عن اليزيدي: «عطلت» بتخفيف الطاء، و «حشر الوحوش» : جمعها، واختلف الناس في هذا الجمع ما هو؟ فقال ابن عباس: حُشِرَتْ بالموت لا تبعث في القيامة ولا يحضر في القيامة غير الثقلين، وقال قتادة وجماعة: حُشِرَتْ للجمع يوم القيامة، ويقتص للجماء من القرناء فجعلوا ألفاظ هذا الحديث حقيقة لا مجازا مثالا في العدل. وقال أبيّ بن كعب: حُشِرَتْ في الدنيا في أول هول يوم القيامة فإنها تفر في الأرض وتجتمع إلى بني آدم تأنيسا بهم، وقرأ الحسن: «حشرت» بشد الشين على المبالغة، و «تسجير البحار» ، قال قتادة والضحاك معناه: فرغت من مائها وذهب حيث شاء الله وقال الحسن: يبست، وقال الربيع بن خيثم معناه: ملئت، وفاضت وفجرت من أعاليها، وقال أبي بن كعب وابن عباس وسفيان

(5/441)


ووهب وابن زيد: معناه: أضرمت نارا كما يسجر التنور، وقال ابن عباس: جهنم في البحر الأخضر، ويحتمل أن يكون المعنى ملكت، وقيد اضطرابها حتى لا تخرج على الأرض بسبب الهول فتكون اللفظة مأخوذة من ساجور الكلب، وقيل: هذه مجاز في جهنم، تسجر يوم القيامة وقد تقدم نظير هذه الأقوال منصوصة لأهل العلم في تفسير قوله تعالى: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور: 6] . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «سجرت» بتخفيف الجيم، وقرأ الباقون: بشدها، وهي مترجحة بكون البحار جميعا كما قال كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الإسراء: 13] ، وكما قال: صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر: 52] ، ومثله قَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45] وبُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78] ، لأنها جماعة، وذهب قوم من الملحدين إلى أن هذه الأشياء المذكورة استعارات في كل ابن آدم وأحواله عند موته، والشمس نفسه والنجوم عيناه وحواسه، والعشار ساقاه، وهذا قول سوء وخيم غث ذاهب إلى إثبات الرموز في كتاب الله تعالى، و «تزويج النفوس» : هو تنويعها، لأن الأزواج هي الأنواع والمعنى: جعل الكافر مع الكافر والمؤمن مع المؤمن وكل شكل مع شكله، رواه النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقاله عمر بن الخطاب وابن عباس، وقال: هذا نظير قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الواقعة: 7] وفي الآية على هذا حض على خليل الخبر، فقد قال عليه السلام: «المرء مع من أحب» ، وقال: «فلينظر أحدكم من يخالل» ، وقال الله تعالى:
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] ، وقال مقاتل بن سليمان: زوجت نفوس المؤمنين بزوجاتهم من الحور وغيرهن. وقال عكرمة والضحاك والشعبي: زوجت الأرواح الأجساد، وقرأ عاصم: «زوجت» غير مدغم، والْمَوْؤُدَةُ: اسم معناه المثقل عليها، ومنه: وَلا يَؤُدُهُ [البقرة: 255] ومنه اتأد، أي توقد، وأثقل وعرف هذا الاسم في البنات اللواتي كان قوم من العرب يدفنونهن أحياء يحفر الرجل شبه البر أو القبر ثم يسوق ابنته فيلقيها فيها، وإذا كانت صغيرة جدا خدّ لها في الأرض ودفنها، وبعضهم: كان يفعل ذلك خشية الإملاق وعدم المال، وبعضهم: غيرة وكراهية للبنات وجهالة. وقرأ الجمهور: «الموءودة» بالهمز من وأد في حرف ابن مسعود: «وإذا الماودة» ، وقرأ البزي:
«الموودة» بضم الواو الأولى وتسهيل الهمزة، وقرأ الأعمش: «المودة» بسكون الواو على وزن: الفعلة، وقرأ بعض السلف: «المودّة» بفتح الواو والدال المشددة، جعل البنت مودة، وقرأ جمهور الناس: «سئلت» ، وهذا على جهة التوبيخ للعرب الفاعلين ذلك، لأنها تسأل ليصير الأمر إلى سؤال الفاعل، ويحتمل أن تكون مسؤولة عنها مطلوبا الجواب منهم. كما قال تعالى: إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا [الإسراء: 34] ، وكما يسأل التراث والحقوق.
وقرأ ابن عباس وأبيّ بن كعب وجابر بن زيد وأبو الضحى ومجاهد وجماعة كثيرة منهم ابن مسعود والربيع بن خيثم: «سألت» ، ثم اختلف هؤلاء فقرأ أكثرهم: «قتلت» بفتح التاء وسكون اللام، وقرأ أبو جعفر: «قتّلت» بشد التاء على المبالغة، وقرأ ابن عباس وجابر وأبو الضحى ومجاهد:
«قتلت» بسكون اللام وضم التاء، وقرأ الأعرج والحسن: «سيلت» بكسر السين وفتح اللام دون همز، واستدل ابن عباس بهذه الآية في أن أولاد المشركين في الجنة لأن الله تعالى قد انتصر لهم من ظلمهم، و «الصحف المنشورة» : قيل هي صحف الأعمال تنشر ليقرأ كل امرئ كتابه، وقيل هي

(5/442)


فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

الصحف التي تتطاير بالأيمان، والشمائل بالجزاء، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر وشيبة والأعرج والحسن وأبو رجاء وقتادة: «نشرت» بتخفيف الشين المكسورة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي:
«نشّرت» بشد الشين على المبالغة، و «الكشط» : التقشير، وذلك كما يكشط جلد الشاة حين تسلخ، و «كشط السماء» : هو طيها كطي السجل، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «قشطت» بالقاف وهما بمعنى واحد، وسُعِّرَتْ معناه: أضرمت نارها، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: «سعرت» بشد العين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: بتخفيفها وهي قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال قتادة: سعرها غضب الله تعالى وذنوب بني آدم وأُزْلِفَتْ الجنة معناه: قربت ليدخلها المؤمنون، وقرأ عمر بن الخطاب وجماعة من المفسرين إلى هذين، انتهى الحديث وذلك أن الغرض المقصود بقوله وَإِذَا وَإِذَا في جميع ما ذكر إما تم بقوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ، أي ما أحضرت من شر فدخلت به جهنم أو من خير فدخلت به الجنة، ونَفْسٌ هنا اسم جنس، أي عملت النفوس ووقع الإفراد لتنبيه الذهن على حقارة المرء الواحد وقلة دفاعه عن نفسه.
قوله عز وجل:

[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
قوله تعالى: فَلا إما أم تكون «لا» زائدة، وإما أن يكون رد القول قريش في تكذيبهم بنبوة محمد عليه السلام، وقولهم إنه ساحر وكاهن ونحو ذلك، ثم أقسم الله تعالى بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ فقال جمهور المفسرين: إن ذلك الدراري السبعة: الشمس والقمر وزحل وعطارد والمريخ والزهرة والمشتري، وقال علي بن أبي طالب: المراد الخمسة دون الشمس والقمر. وذلك أن هذه الكواكب تخنس في جريها أي تتقهقر فيما ترى العين، وهو جوار في السماء، وأثبت يعقوب الياء في «الجواري» في الوقف وحذفها الباقون وهي تكنس في أبراجها أي تستتر، وقال علي بن أبي طالب أيضا والحسن وقتادة: المراد النجوم كلها لأنها تخنس بالنهار حين تختفي، وقال عبد الله بن مسعود والنخعي وجابر بن زيد وجماعة من المفسرين: المراد بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ: بقر الوحش لأنها تفعل هذه الأفعال في كناسها وهي المواضع التي تأوي إليها من الشجر والغيران ونحوه، وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك: هي الظباء، وذهب هؤلاء في الخنس إلى أنه من صفة الأنوف لأنها يلزمها الخنس، وكذلك هي بقر الوحش أيضا ومن ذلك قول الشاعر [الطويل]
سوى نار بض أو غزال صريمة ... أغن من الخنس المناخر توأم

(5/443)


«وعسعس الليل» في اللغة: إذا كان غير مستحكم الإظلام، وقال الحسن بن أبي الحسن: ذلك في وقت إقباله وبه وقع القسم، وقال زيد بن أسلم وابن عباس ومجاهد وقتادة: ذلك عند إدباره وبه وقع القسم، ويرجح هذا قوله بعد: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ، فكأنهما حالان متصلتان ويشهد له قول علقمة بن قرط:
[الرجز]
حتى إذا الصبح لها تنفّسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا
وقال المبرد أبو العباس: أقسم بإقباله وإدباره، قال الخليل: يقال عسعس الليل وسعسع إذا أقبل وأدبر، و «تنفس الصبح» : استطار واتسع ضوؤه، وقال علوان بن قس: [الطويل]
وليل دجوجي تنفس فجره ... لهم بعد أن خالوه لن يتنفسا
والضمير في إِنَّهُ للقرآن، و «الرسول الكريم» في قول جمهور المتأولين: جبريل عليه السلام، وقال آخرون: هو محمد عليه السلام في الآية، والقول الأول أصح، وكَرِيمٍ في هذه الآية يقتضي رفع المذام، ثم وصفه بقوة منحه الله إياها، واختلف الناس في تعليق: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ، فذهب بعض المتأولين إلى تعلقه بقوله: ذِي قُوَّةٍ، وذهب آخرون إلى أن الكلام تم في قوله: ذِي قُوَّةٍ وتعلق الظرف: ب مَكِينٍ، ومَكِينٍ معناه: له مكانة ورفعة، وقوله تعالى: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ أي مقبول القول مصدق بقوله مؤتمن على ما يرسل به، ويؤدي من وحي وامتثال أمر، وقرأ أبو جعفر: «ثم أمين» بضم الثاء، وذكر الله تعالى نفسه بالإضافة إلى عرشه تنبيها على عظم ملكوته، وأجمع المفسرون على أن قوله: وَما صاحِبُكُمْ يراد به محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في رَآهُ: جبريل عليه السلام، وهذه الرؤية التي كانت بعد أمر غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض. وقيل هذه الرؤيا التي رآه عند سدرة المنتهى في الإسراء، وسمى ذلك الموضع أفقا مجازا، وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم رؤية ثانية بالمدينة، وليست هذه، ووصف الأفق ب الْمُبِينِ، لأنه كان بالشرق من حيث تطلع الشمس، قاله قتادة، وأيضا فكل أفق فهو في غاية البيان، وقوله تعالى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ بالضاد بمعنى: بخيل أي يشح به، ولا يبلغ ما قيل له، ويبخل كما يفعل الكاهن حتى يعطى حلوانه، وبالضاد هي خطوط المصاحف كلها، فيما قاله الطبري وهي قراءة نافع وعاصم وابن عامر وحمزة وعثمان بن عفان وابن عباس والحسن وأبي رجاء والأعرج وأبي جعفر وشيبة وجماعة وافرة. وقرأ ابن كثير وعمرو والكسائي وابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن جبير وعروة بن الزبير ومسلم وابن جندب ومجاهد وغيرهم: «بظنين» ، بالظاء أي بمتهم، وهذا في المعنى نظير وصفه ب أَمِينٍ، وقيل معناه: بضعف القوة عن التبليغ من قولهم: بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء، ورجح أبو عبيد قراءة: الظاء مشالة لأن قريشا لم تبخل محمدا صلى الله عليه وسلم فيما يأتي به وإنما كذبته، فقيل ما هو بمتهم، ثم نفى تعالى عن القرآن أن يكون كلام شيطان على ما قالت قريش: إن محمدا كاهن، ورَجِيمٍ معناه: مرجوم مبعد بالكواكب واللعنة وغير ذلك، وقوله تعالى: فَأَيْنَ

(5/444)


تَذْهَبُونَ توقيف وتقرير على معنى: أين المذهب لأحد عن هذه الحقائق، و «الذكر» هنا: مصدر بمعنى التذكرة، ثم خصص تعالى من شاء الاستقامة بالذكر تشريفا وتنبيها وذكرا لتكسبهم أفعال الاستقامة، ثم بين تعالى أن تكسب المرء على العموم في استقامة وغيرها إنما يكون مع خلق الله تعالى واختراعه الإيمان في صدر المرء، وروي أنه نزل قوله تعالى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ فقال أبو جهل: هذا أمر قد وكل إلينا، فإن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فنزلت وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يقول الله تعالى: يا ابن آدم:
تريد وأريد فتتعب فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد.

(5/445)


إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الانفطار
وهي مكية بإجماع.
قوله عز وجل:

[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12)
هذه أوصاف يوم القيامة، و «انفطار السماء» : تشققها على غير نظام مقصود إنما هو انشقاق لتزول بنيتها وانتثار الكواكب سقوطها من مواضعها التي هي فيها كنظام، و «تفجير البحار» : يحتمل أن يكون من امتلائها فتفجر من أعاليها وتفيض على ما وليها، ويحتمل أن يكون تفجير تفريع، ويحتمل أن يكون فيضانها، فيذهب الله ماءها حيث شاء، وقيل: فجر بعضها إلى بعض فاختلط العذب بالملح وصارت واحدا، وهذا نحو الاختلاف في سُجِّرَتْ [التكوير: 6] في السورة التي قبل، وقرأ مجاهد والربيع بن خيثم: «فجرت» بتخفيف الجيم، و «بعثرة القبور» : نبشها عن الموتى الذين فيها، وقوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ هو جواب إِذَا، ونَفْسٌ هنا اسم الجنس وإفرادها لتبين لذهن السامع حقارتها وقلتها وضعفها عن منفعة ذاتها إلا من رحم الله تعالى، وقال كثير من المفسرين في معنى قوله تعالى: ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ إنها عبارة عن جميع الأعمال لأن هذا التقسيم يعم الطاعات المعمولة والمتروكة وكذلك المعاصي. وقال ابن عباس والقرظي محمد بن كعب: ما قَدَّمَتْ في حياتها وما أَخَّرَتْ مما سنته فعمل به بعد موتها، ثم خاطب تعالى جنس ابن آدم على جهة التوبيخ والتنبيه على أي شيء أوجب أن يغتر بربه الكريم فيعصيه ويجعل له ندا وغير ذلك من أنواع الكفر وهو الخالق الموجد بعد العدم، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: «جهله» وقاله عمر وقرأ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الأحزاب: 72] ، وقال قتادة: عدوه المسلط عليه، وقال بعض العلماء: غره ستر الله عليه، وقال غيره: غره كرم الله، ولفظة

(5/446)


إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

الكريم تلقن هذا الجواب، فهذا من لطف الله تعالى لعباده العصاة من المؤمنين، وقرأ ابن جبير والأعمش:
«ما أغرك» على وزن أفعلك، والمعنى ما دعاك إلى الاغترار أن يكون المعنى تعجبا محضا، وقرأ الجمهور: «فعدّلك» بتشديد الدال، وكان صلى الله عليه وسلم: إذا نظر إلى الهلال، قال: «آمنت بالذي خلقك فسواك فعدلك» لم يختلف الرواة في شد الدال، وقرأ الكوفيون والحسن وأبو جعفر وطلحة والأعمش وأبو رجاء وعيسى بن عبيد: «فعدلك» بتخفيف الدال، والمعنى عدل أعضاءك بعضها ببعض أي وازن بينها، وقوله تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ، ذهب الجمهور إلى أن فِي متعلقة ب رَكَّبَكَ، أي في قبيحة أو حسنة أو مشوهة أو سليمة ونحو هذا، وذهب بعض المتأولين إلى أن المعنى فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ: بمعنى إلى أي صورة حتى قال بعضهم: المعنى: لم يجعلك في صورة خنزير ولا حمار، وذهب بعض المتأولين إلى أن المعنى: الوعيد والتهديد، أي الذي إن شاء ركبك في صورة حمار أو خنزير أو غيره، وما في قوله: ما شاءَ، زائدة فيها معنى التأكيد، والتركيب والتأليف وجمع الشيء إلى شيء، وروى خارجة عن نافع: «ركبك كلا» بإدغام الكاف في الكاف، ثم رد على سائر أقوالهم ورد عنها بقوله: كَلَّا، ثم أثبت لهم تكذيبهم بالدين، وهذا الخطاب عام ومعناه الخصوص في الكفار، وقرأ جمهور الناس: «تكذبون» بالتاء من فوق، وقرأ الحسن وأبو جعفر: «يكذبون» بالياء، و «الدين» هنا يحتمل أن يريد الشرع، ويحتمل أن يريد الجزاء والحساب. و «الحافظون» : هم الملائكة الذين يكتبون أعمال ابن آدم، وقد وصفهم بالكرم الذي هو نفي المذام. ويَعْلَمُونَ ما يفعل ابن آدم لمشاهدتهم حاله، وقد روي حديث ذكره سفيان: يقتضي أن العبد إذا عمل سيئة مما لا ترى ولا تسمع، مثل الخواطر المستصحبة ونحوها أن الملك يجد ريح تلك الخطرة الخفية بإدراك قد خلقه الله لهم.
قوله عز وجل:

[سورة الانفطار (82) : الآيات 13 الى 19]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17)
ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
«الأبرار» : جمع بر وهو الذي قد اطرد بره عموما فيرونه في طاعته إياه، وبر أبويه وبر الناس في دفع ضره عنهم وجلب ما استطاع الخير إليهم، وبر الحيوان وغير ذلك في أن لم يفسد شيئا منها عبثا ولغير منفعة مباحة، و «الفجار» : الكفار، و «يصلون» معناه: يباشرون حرّها بأبدانهم، ويَوْمَ الدِّينِ هو يوم الجزاء، وقوله تعالى: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ قال بعض المتأولين: هذا تأكد في الإخبار عن أنهم يصلونها، وأنهم لا يمكنهم الغيب عنها يومئذ، وقال آخرون: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ في البرزخ، كأنه تعالى لما أخبر عن صليهم إياها يوم الدين وذلك أنهم يرون مقاعدهم من النار غدوة وعشية فهم مشاهدون لها، ثم عظم تعالى قدر هول يوم القيامة بقوله: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ ما أَدْراكَ وقرأ ابن كثير وأبو

(5/447)


عمرو وابن أبي إسحاق وعيسى وابن جندب: «يوم لا تملك» برفع الميم من «يوم» على معنى هو يوم، وقرأ الباقون والحسن وأبو جعفر وشيبة والأعرج: «يوم» بالنصب على الظرف، والمعنى: الجزاء يوم فهو ظرف في معنى خبر الابتداء، ثم أخبر تعالى بضعف الناس يومئذ وأنه لا يغني بعضهم عن بعض وأن الأمر له تبارك وتعالى، وقال قتادة كذلك: هو اليوم ولكنه هنالك لا ينازعه أحد ولا يمكن هو أحدا من شيء منه كما يمكنه في الدنيا.

(5/448)


وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)

بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المطفّفين
وهي مكية في قول جماعة من المفسرين، واحتجوا لذكر الأساطير، وهذا على أن هذا تطفيف الكيل والوزن كان بمكة حسبما هو في كل أمة لا سيما مع كفرهم، وقال ابن عباس والسدي والنقاش وغيره:
السورة مدنية، قال السدي: كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة له مكيالان يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص، فنزلت السورة فيه، يقال إنها أول سورة نزلت بالمدينة، وقال ابن عباس أيضا فيما روي عنه: نزل بعضها بمكة ونزل أمر التطفيف بالمدينة، لأنهم كانوا أشد الناس فسادا في هذا المعنى فأصلحهم الله تعالى بهذه السورة، وقال آخرون: نزلت السورة بين مكة والمدينة، وذلك ليصلح الله تعالى أمرهم قبل ورود رسوله عليهم.
قال القاضي أبو محمد: وأمر الكيل والوزن وكيد جدا، وتصرفه في المدن ضروري في الأموال التي هي حرام بغير حق والفساد فيه كبير لا تنفع فيما وقع منه التوبة، ولا يخلص إلا رد المظلمة إلى صاحبها، وقال مالك بن دينار: احتضر جار لي فجعل يقول: جبلان من نار، فقلت له ما هذا؟ فقال لي: يا أخي، كان لي مكيالان، آخذ بالوافي وأعطي بالناقص، وقال عكرمة: أشهد على كل كيال أو وزان أنه في النار، وقال بعض العرب: لا تلتمسوا المروءة ممن مروءته في رؤوس المكاييل وألسنة الموازين.
قوله عز وجل:

[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)
وَيْلٌ معناه: الثبور والحزن والشقاء الأدوم، وقد روي عن ابن مسعود وغيره أن واديا في جهنم يسمى «ويلا» ، ورفع وَيْلٌ على الابتداء، ورفع على معنى ثبت لهم واستقر وما كان في حيز الدعاء والترقب فهو منصوب نحو قولهم: رعيا وسقيا، و «المطفف» : الذي ينقص الناس حقوقهم، والتطفيف:
النقصان أصله في الشيء الطفيف وهو النزر، والمطفف إنما يأخذ بالميزان شيئا طفيفا، وقال سلمان:
الصلاة مكيال، فمن أوفى وفي له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين، وقال بعض العلماء:
يدخل التطفيف في كل قول وعمل، ومنه قول عمر طففت، ومعناه: نقصت الأجر والعمل وكذا قال مالك رحمه الله: يقال لكل شيء وفاء وتطفيف فقد جاء بالنقيضين، وقد ذهب بعض الناس إلى أن التطفيف هو

(5/449)


كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

تجاوز الحد في وفاء ونقصان، والمعنى والقرائن بحسب قول قول تبين المراد وهذا عندي جد صحيح، وقد بين تعالى أن التطفيف إنما أراد به أمر الوزن والكيل، واكْتالُوا عَلَى النَّاسِ معناه: قبضوا منهم وكالُوهُمْ معناه: قبضوهم، يقال: كلت منك واكتلت عليك، ويقال: وكلت لك فلما حذفت اللام تعدى الفعل، قال الفراء والأخفش.
وأنشد أبو زيد: [الكامل]
ولقد جنتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
وعلى هذا المعنى هي قراءة الجمهور، وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين ويقف على «كالوا» و «وزنوا» بمعنى: هم يخسرون إذا كالوا ووزنوا. ورويت عن حمزة، فقوله: «هم» تأكيد للضمير، وظاهر هذه الآية يقتضي أن الكيل والوزن على البائع وليس ذلك بالجلي، وصدر الآية هو في المشترين، فذمهم بأنهم يَسْتَوْفُونَ ويشاحون في ذلك، إذ لا تمكنهم الزيادة على الاستيفاء لأن البائع يحفظ نفسه، فهذا مبلغ قدرتهم في ترك الفضيلة والسماحة المندوب إليها، ثم ذكر أنه إذا باعوا أمكنهم من الظلم والتطفيف أن يخسروا لأنهم يتولون الكيل للمشتري منهم وذلك بحالة من يخسر البائع إن قدر، ويُخْسِرُونَ معدى بالهمزة يقال: خسر الرجل وأخسره غيره، والمفعول ل كالُوهُمْ محذوف، ثم وقفهم تعالى على أمر القيامة وذكرهم بها وهذا مما يؤيد أنها نزلت بالمدينة في قوم من المؤمنين وأريد بها مع ذلك من غبر من الأمة، ويَظُنُّ هنا بمعنى: يعلم ويتحقق، و «اليوم العظيم» : يوم القيامة، ويَوْمَ ظرف عمل فيه فعل مقدر يبعثون ونحوه، وقال الفراء: هو بدل من لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، لكنه بني ويأبى ذلك البصريون، لأنه مضاف إلى معرب، وقام الناس فيه لِرَبِّ الْعالَمِينَ يختلف الناس فيه بحسب منازلهم، فروى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقام فيه خمسين ألف سنة» . وهذا بتقدير شدته، وقيل: ثلاثمائة سنة، قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عمر: مائة سنة وقيل ثمانون سنة، وقال ابن مسعود:
أربعون سنة رافعي رؤوسهم إلى السماء لا يؤمرون ولا يكلمون، وقيل غير هذا، ومن هذا كله آثار مروية ومعناها: إن لكل قوم مدة ما تقتضي حالهم وشدة أمرهم ذلك. وروي أن القيام فيه على المؤمن على قدر ما بين الظهر إلى العصر، وروي عن بعض الناس: على قدر صلاة، وفي هذا القيام هو إلجام العرق للناس، وهو أيضا مختلف، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عقبة بن عامر: «أنه يلجم الكافر إلجاما» ، ويروى أن بعض الناس يكون فيه إلى أنصاف ساقيه وبعضهم إلى فوق، وبعضهم إلى أسفل.
قوله عز وجل:

[سورة المطففين (83) : الآيات 7 الى 17]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16)
ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

(5/450)


هذه الآية وما بعدها يظهر أنها من نمط المكي، وهذا أحد الأقوال التي ذكرناها قبل، وكَلَّا يجوز أن يكون ردّا لأقوال قريش، ويحتمل أن يكون استفتاحا بمنزلة «ألا» ، وهذا قول أبي حاتم واختياره، و «الفجار» الكفار، وكتابهم يراد فيه الذي فيه تحصيل أمرهم وأفعالهم، ويحتمل عندي أن يكون المعنى وعدادهم وكتاب كونهم هو في سجين، أي هنالك كتبوا في الأزل، وقرأ أبو عمرو والأعرج وعيسى:
الفُجَّارِ بالإمالة والْأَبْرارِ [المطففين: 18] بالفتح قاله أبو حاتم، واختلف الناس في: سِجِّينٍ ما هو؟ فقال الجمهور: هو فعيل من السجن كسكير وشريب أي في موضع ساجن، فجاء بناء مبالغة، قال مجاهد: وذلك في صخرة تحت الأرض السابعة، وقال كعب حاكيا عن التوراة وأبيّ بن كعب: هو في شجرة سوداء هنالك، وقيل عن النبي صلى الله عليه وسلم: في بر: هنالك وقيل تحت خد إبليس، وقال عطاء الخراساني: هي الأرض السفلى، وقاله البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال عكرمة:
سِجِّينٌ، عبارة عن الخسران والهوان، كما نقول: بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول، وقال قوم من اللغويين: سِجِّينٌ نونه بدل من لام هو بدل من «السجيل» . وقوله تعالى: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ تعظيم لأمر هذا السجين وتعجب منه، ويحتمل أن يكون تقرير استفهام، أي هذا مما لم يكن يعرفه قبل الوحي. وقوله تعالى: كِتابٌ مَرْقُومٌ من قال بالقول الأول في سِجِّينٍ ف كِتابٌ مرتفع عنده على خبر إِنَّ، والظرف الذي هو: لَفِي سِجِّينٍ ملغى، ومن قال في سِجِّينٍ بالقول الثاني ف كِتابٌ مرتفع على خبر ابتداء مضمر، والتقدير هو كتاب مرقوم، ويكون هذا الكلام مفسر في السجين ما هو؟ ومَرْقُومٌ معناه: مكتوب، رقم لهم بشر، ثم أثبته تعالى لِلْمُكَذِّبِينَ بيوم الحساب والدين بالويل، وقوله: يَوْمَئِذٍ، إشارة إلى ما يتضمنه المعنى في قوله كِتابٌ مَرْقُومٌ، وذلك أنه يتضمن أنه يرتفع ليوم عرض وجزاء، وبهذا يتم الوعيد ويتجه معناه و «المتعدي» : الذي يتجاوز حدود الأشياء، و «الأثيم» : بناء مبالغة في آثم، وقرأ الجمهور: «تتلى» ، بالتاء، وقرأ أبو حيوة: «يتلى» ، بالياء من تحت، و «الأساطير» : جمع أسطورة وهي الحكايات التي سطرت قديما، وقيل هو جمع: أسطار، وأسطار: جمع سطر، ويروى أن هذه الآية نزلت بمكة في النضر بن الحارث بن كلدة وهو الذي كان يقول: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وكان هو قد كتب بالحيرة أحاديث رستم واسبنذباذ، وكان يحدث بها أهل مكة، ويقول أنا أحسن حديثا من محمد، فإنما يحدثكم ب أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وقوله تعالى: كَلَّا زجر ورد لقولهم: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، ثم أوجب أن ما كسبوا من الكفر والطغيان والعتو، قد رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ، أي غطى عليها وغلب فهم مع ذلك لا يبصرون رشدا ولا يخلص إلى قلوبهم خير، ويقال: رانت الخمر على عقل شاربها وران الغش على قلب المريض، وكذلك الموت، ومنه قول الشاعر: [الخفيف] ثم لما رآه رانت به الخمر وإن لا يرينه باتقاء

(5/451)


كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)

والبيت لأبي زيد، وقال الحسن وقتادة: الرين الذنب على الذنب حتى يموت القلب، ويروى عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل إذا أذنب صارت نقطة سوداء على قلبه ثم كذلك حتى يتغطى» فذلك الرين الذي قال الله تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: بَلْ رانَ بإدغام في الراء، وقرأ نافع: بَلْ رانَ غير مدغمة، وقرأ عاصم: بَلْ ويقف ثم يبتدئ رانَ، وقرأ حمزة والكسائي: بالإدغام وبالإمالة في رانَ، وقرأ نافع أيضا: بالإدغام والإمالة، قال أبو حاتم: القراءة بالفتح والإدغام، وعلق اللوم بهم فيما كسبوه وإن كان ذلك بخلق منه واختراع لأن الثواب والعقاب متعلق بكسب العبد، وكَلَّا في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يصلح فيها الوجهان اللذان تقدم ذكرهما، والضمير في قوله: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ هو للكفار، قال بالرؤية وهو قول أهل السنة، قال إن هؤلاء لا يرون ربهم فهم محجوبون عنه، واحتج بهذه الآية مالك بن أنس عن مسألة الرؤية من جهة دليل الخطاب وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصص، وقال الشافعي: لما حجب قوم بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضى، ومن قال بأن لا رؤية وهو قول المعتزلة، قال في هذه الآية: إنهم محجوبون عن رحمة ربهم وغفرانه، وصلي الجحيم مباشرة حر النار دون حائل، وقوله تعالى: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي، على معنى التوبيخ لهم والتقريع، وقوله تعالى: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، مفعول لم يسم فاعله لأنه قول بني له الفعل الذي يقال، وقوله: هذَا، إشارة إلى تعذيبهم وكونهم في الجحيم.
قوله عز وجل:

[سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 29]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
لما ذكر تعالى أمر كِتابَ الفُجَّارِ [المطففين: 7] ، عقب بذكر كتاب ضدهم ليبين الفرق، و «الأبرار» جمع بر، وقرأ ابن عامر: «الأبرار» بكسر الراء، وقرأ نافع وابن كثير بفتحها، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: بإمالتها، وعِلِّيُّونَ قيل هو جمع على وزن فعل بناء مبالغة يريد بذلك الملائكة، فلذلك أعرب بالواو والنون، وقيل يريد المواضع العلية لأنه علو فوق علو، فلما كان هذا الاسم على هذا الوزن لا واحد له أشبه عشرين فأعرب بإعراب الجموع إذ أشبهها، وهذا أيضا كقنسرين فإنك تقول طابت قنسرين ودخلت قنسرين، واختلف الناس في الموضع المعروف، ب عِلِّيِّينَ ما هو؟ فقال قتادة: قائمة العرش اليمنى، وقال ابن عباس: السماء السابعة تحت العرش، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الضحاك: هو عند سدرة المنتهى، وقال ابن عباس: عِلِّيُّونَ: الجنة، وقال مكي: هو في السماء

(5/452)


الرابعة، وقال الفراء عن بعض العلماء: في السماء الدنيا، والمعنى أن كتابهم الذي فيه أعمالهم هنالك تهمما بها وترفيعا لها، وأعمال الفجار في سجين في أسفل سافلين، لأنه روي عن أبيّ بن كعب وابن عباس: أن أعمالهم يصعد بها إلى السماء فتأباها، ثم ترد إلى الأرض فتأباها أرض بعد أرض حتى تستقر في سجن تحت الأرض السابعة، وكِتابٌ مَرْقُومٌ في هذه الآية خبر إِنَّ والظرف ملغى، والْمُقَرَّبُونَ في هذه الآية: الملائكة المقربون عند الله تعالى أهل كل سماء، قاله ابن عباس وغيره، والْأَرائِكِ: جمع أريكة وهي السرر في الحجال، ويَنْظُرُونَ معناه إلى ما عندهم من النعيم، ويحتمل أن يريد ينظر بعضهم إلى بعض، وقيل عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ينظرون إلى أعدائهم في النار كيف يعذبون» ، وقرأ جمهور الناس «تعرف» على مخاطبة محمد صلى الله عليه وسلم بفتح التاء وكسر الراء، «نضرة» نصبا. وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة ويعقوب: «تعرف» بضم التاء وفتح الراء، «نضرة» رفعا، وقرأ «يعرف» بالياء، لأن تأنيث النضرة ليس بحقيقي والنضرة النعمة والرونق و «الرحيق» :
الخمر الصافية، ومنه قول حسان: [الكامل]
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
ومَخْتُومٍ، يحتمل أن يختم على كؤوسه التي يشرب بها تهمما وتنظيفا، والأظهر أنه مختوم شرابه بالرائحة المسكية حسبما فسر قوله تعالى: خِتامُهُ مِسْكٌ، واختلف المتأولون في قوله: خِتامُهُ مِسْكٌ فقال علقمة وابن مسعود معناه: خلطه ومزاجه، فقال ابن عباس والحسن وابن جبير معناه: خاتمته أن يجد الرائحة عند خاتمته. الشرب رائحة المسك، وقال أبو علي: المراد لذاذة المقطع وذكاء الرائحة مع طيب الطعم، وكذلك قوله: كانَ مِزاجُها كافُوراً [الإنسان: 5] ، وقوله تعالى: زَنْجَبِيلًا [الإنسان: 17] أي يحذي اللسان، وقد قال ابن مقبل: [البسيط]
مما يفتق في الحانوت ناطقها ... بالفلفل الجوز والرمان مختوم
قال مجاهد معناه: طينه الذي يختم به مسك بدل الطين الذي في الدنيا، وهذا إنما يكون في الكؤوس لأن خمر الآخرة ليست في دنان إنما هي في أنهار، وقرأ الجمهور: «ختامه» ، وقرأ الكسائي وعلي بن أبي طالب والضحاك والنخعي: «خاتمه» ، وهذه بينة المعنى: أنه يراد بها الطبع على الرحيق، وروي عنهم أيضا كسر التاء، ثم حرض تعالى على الجنة بقوله: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ، والتنافس في الشيء المغالاة فيه وأن يتبعه كل واحد نفسه، فكأن نفسيهما يتباريان فيه، وقيل هو من قولك شيء نفسي، فكان هذا يعظمه ثم يعظمه الآخر ويستبقان إليه، و «المزاج» : الخلط، والضمير عائد على الرحيق، واختلف الناس في تَسْنِيمٍ، فقال ابن عباس وابن مسعود: تَسْنِيمٍ أشرف شراب في الجنة وهو اسم مذكر لماء عين في الجنة وهي عين يشربها المقربون صرفا. ويمزج رحيق الأبرار بها، قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح وغيرهم، وقال مجاهد ما معناه: إن تسنيما مصدر من سنمت إذا عليت ومنه السنام، فكأنها عين قد عليت على أهل الجنة فهي تنحدر،

(5/453)


وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

وذهب قوم إلى أن الْأَبْرارَ و «المقربين» في هذه الآية لمعنى واحد، يقال: لكل من نعم في الجنة، وذهب الجمهور من المتأولين إلى أن منزلة الأبرار دون المقربين، وأن الْأَبْرارَ: هم أصحاب اليمين وأن المقربين هم السابقون، وعَيْناً منصوب إما على المدح، وإما أن يعمل فيه تَسْنِيمٍ على رأي من رآه مصدرا، أو ينتصب على الحال من تَسْنِيمٍ أو يُسْقَوْنَ، قاله الأخفش وفيه بعد، وقوله تعالى:
يَشْرَبُ بِهَا معناه: يشربها كقول الشاعر [أبو ذؤيب الهذلي] : [الطويل]
شربن بماء البحر ثم تصعدت ... متى لجج خضر لهن نئيج
ثم ذكر تعالى أن الأمر الذي أَجْرَمُوا بالكفر أي كسبوه كانوا في دنياهم يَضْحَكُونَ من المؤمنين ويستخفون بهم ويتخذونهم هزؤا، وروي أن هذه الآية نزلت في صناديد قريش وضعفة المؤمنين، وروي أنها نزلت بسبب أن علي بن أبي طالب وجمعا معه مروا بجمع من كفار مكة، فضحكوا منهم واستخفوا بهم عبثا ونقصان عقل، فنزلت الآية في ذلك.
قوله عز وجل:

[سورة المطففين (83) : الآيات 30 الى 36]
وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
الضمير في مَرُّوا
للمؤمنين، ويحتمل أن يكون للكفار، وأما الضمير في يَتَغامَزُونَ
فهو للكفار لا يحتمل غير ذلك، وكذلك في قوله: انقلبوا فاكهين معناه: أصحاب فاكهة ومزج ونشاط وسرور باستخفافهم بالمؤمنين يقال: رجل فاكه كلابن وتامر هكذا بألف، وهي قراءة الجمهور، ويقال: رجل فكه من هذا المعنى. وقرأ عاصم في رواية حفص: «فكهين» بغير ألف، وهي قراءة أبي جعفر وأبي رجاء والحسن وعكرمة، وأما الضمير في: «رأوا» وفي قالُوا: قال الطبري وغيره: هو للكفار، والمعنى أنهم يرمون المؤمنين بالضلال، والكفار لم يرسلوا على المؤمنين حفظة لهم، وقال بعض علماء التأويل: بل المعنى بالعكس، وإن معنى الآية: وإذا رأى المؤمنون الكفار قالوا إنهم لضالون وهو الحق فيهم، ولكن ذلك يثير الكلام بينهم، فكأن في الآية حضا على الموادعة، أي أن المؤمنين لم يرسلوا حافظين على الكفار، وهذا كله منسوخ على هذا التأويل بآية السيف، ولما كانت الآيات المتقدمة قد نطقت بيوم القيامة، وأن الويل يومئذ للمكذبين ساغ أن يقول: فَالْيَوْمَ على حكاية ما يقال يومئذ وما يكون، والَّذِينَ رفع بالابتداء، وقوله تعالى: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ معناه: إلى عذابهم في النار، قال كعب: لأهل الجنة كوى ينظرون منها، وقال غيره بينهم جسم عظيم شفاف يرون معه حالهم، وهَلْ

(5/454)


ثُوِّبَ الْكُفَّارُ؟ تقرير وتوقيف لمحمد عليه السلام وأمته، ويحتمل أن يريد: يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ، والمعنى هل جوزي، ويحتمل أن يكون المعنى يقول بعضهم لبعض، وقرأ ابن محيصن وأبو عمرو وحمزة والكسائي: «هثوب» بإدغام اللام في الثاء، قال سيبويه: وذلك حسن وإن كان دون إدغام في الراء لتقاربهما في المخرج، وقرأ الباقون: «هل ثوب» لا يدغمون، وفي قوله تعالى: ما كانُوا، حذف تقديره جزاء ما كانوا أو عقاب ما كانوا يفعلون.
نجز تفسير سورة «المطففين» بحمد الله.

(5/455)


إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الانشقاق
وهي مكية بلا خلاف بين المتأولين.
قوله عز وجل:

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)
هذه أوصاف يوم القيامة، و «انشقاق السماء» : هو تفطيرها لهول يوم القيامة، كما قال: وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ [الحاقة: 16] ، وقال الفراء والزجاج وغيره: هو تشققها بالغمام، وقال قوم:
تشققها تفتيحها أبوابا لنزول الملائكة وصعودهم في هول يوم القيامة، وقرأ أبو عمرو: «انشقت» يقف على التاء كأنه يشمها شيئا من الجر، وكذلك في أخواتها، قال أبو حاتم: سمعت إعرابا فصيحا في بلاد قيس بكسر هذه التاءات، وهي لغة، وَأَذِنَتْ معناه: استمتعت، وسمعت، أي أمره ونهيه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن» ، ومنه قول الشاعر [قعنب بن أم صاحب] : [البسيط]
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بشرّ عندهم أذنوا
وقوله تعالى: وَحُقَّتْ، قال ابن عباس وابن جبير معناه: وحق لها أن تسمع وتطيع، ويحتمل أن يريد: وحق لها أن تنشق لشدة الهول وخوف الله تعالى، و «مد الأرض» : هو إزالة جبالها حتى لا يبقى فيها عوج ولا أمت فذلك مدها، وفي الحديث: «إن الله تعالى يمد الأرض يوم القيامة مد الأديم العكاظي» .
وَأَلْقَتْ ما فِيها: يريد الموتى قاله الجمهور، وقال الزجاج: ومن الكنوز، وهذا ضعيف لأن ذلك يكون وقت خروج الدجال، وإنما تلقي يوم القيامة الموتى، وَتَخَلَّتْ معناه: خلت عما كان فيها أي لم تتمسك منهم بشيء، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مخاطبة للجنس، و «الكادح» : العامل بشدة وسرعة واجتهاد

(5/456)


مؤثر، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سأل وله ما يغنيه حاءت مسألته خدوشا أو كدوحا في وجهه يوم القيامة» ، والمعنى أنك عامل خيرا أو شرا وأنت لا محالة في ذلك سائر إلى ربك، لأن الزمن يطير بعمر الإنسان، فإنما هو مدة عمره في سير حثيث إلى ربه، وهذه آية وعظ وتذكير، أي فكر على حذر من هذه الحال واعمل عملا صالحا تجده، وقرأ طلحة: بإدغام كاف كادح ومن هذه اللفظة قول الشاعر: [الوافر]
وما الإنسان إلا ذو اغترار ... طوال الدهر يكدح في سفال
وقال قتادة: من استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل، وقوله تعالى: فَمُلاقِيهِ معناه:
فملاقي عذابه أو تنعيمه، واختلف النحاة في العامل: في إِذَا، فقال بعض النحاة العامل: انْشَقَّتْ، وأبى ذلك كثير من أئمتهم، لأن إِذَا: مضافة إلى انْشَقَّتْ ومن يجز ذلك تضعف عنده الإضافة، ويقوى معنى الجزاء، وقال آخرون منهم: العامل فَمُلاقِيهِ، وقال بعض حذاقهم: العامل فعل مضمر، وكذلك اختلفوا في جواب إِذَا، فقال كثير من النحاة: هو محذوف لعلم السامع به، وقال أبو العباس المبرد والأخفش: هو في قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ، إذا انشقت السماء، انشقت فأنت ملاقي الله، وقيل التقدير فيا أيها الإنسان، وجواب إِذَا في الفاء المقدرة، وقال الفراء عن بعض النحاة: هو أَذِنَتْ على زيادة تقدير الواو، وأما الضمير فَمُلاقِيهِ، فقال جمهور المتأولين هو عائد على الرب، فالفاء على هذا عاطفة ملاق على كادح، وقال بعض الناس: هو عائد على الكدح، فالفاء على هذا عاطفة جملة على التي قبلها، والتقدير فأنت ملاقيه، والمعنى ملاقي جزائه خيرا كان أو شرا، ثم قسم تعالى الناس إلى: المؤمن والكافر، فالمؤمنون يعطون كتبهم بأيمانهم ومن ينفذ عليه الوعيد من عصاتهم فإنه يعطى كتابه عند خروجه والنار، وقد جوز قوم أن يعطاه أولا قبل دخوله النار، وهذه الآية ترد على هذا القول، و «الحساب اليسير» : هو العرض: وأما من نوقش الحساب، فإنه يهلك ويعذب، كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«من حوسب عذب» فقالت عائشة: ألم يقل الله فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما ذلك العرض، وأما من نوقش الحساب فيهلك» وفي الحديث من طريق ابن عمر: «إن الله تعالى يدني العبد حتى يضع عليه كنفه، فيقول: ألم أفعل بك كذا وكذا يعدد عليه نعمه ثم يقول له: فلم فعلت كذا وكذا لمعاصيه، فيقف العبد حزينا فيقول الله تعالى: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم» ، وقالت عائشة: سمعت رسول النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم حاسبني حسابا يسيرا» . قلت يا رسول الله وما هو؟ فقال: «أن يتجاوز عن السيئات» ، وروي عن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حاسب نفسه في الدنيا، هون الله تعالى حسابه يوم القيامة» ، وقوله تعالى: إِلى أَهْلِهِ أي الذين أعد الله له في الجنة، إما من نساء الدنيا، وإما من الحور العين وإما من الجميع، والكافر يؤتى كتابه من ورائه لأن يديه مغلولتان، وروي أن يده تدخل من صدره حتى تخرج من وراء ظهره، فيأخذ كتابه بها، ويقال إن هاتين الآيتين نزلتا في أبي سلمة بن عبد الأسد، وكان أبو سلمة من أفضل المؤمنين، وأخوه من عتاة الكافرين، ويَدْعُوا ثُبُوراً معناه: يصيح منتحبا، وا ثبوراه، وا خزياه، ونحو هذا مما معناه:
هذا وقتك، وزمانك أي احضرني، والثبور، اسم جامع للمكاره كالويل، وقرأ ابن كثير ونافع، وابن عامر

(5/457)


فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

والكسائي والحسن وعمر بن عبد العزيز والجحدري وأبو السناء والأعرج: «ويصلّى» بشد اللام وضم الياء على المبالغة، وقرأ نافع أيضا وعاصم في رواية أبان: بضم الياء وتخفيف اللام، وهي قراء أبي الأشهب وعيسى وهارون عن أبي عمرو، وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر وقتادة وعيسى وطلحة والأعمش:
بفتح الياء على بناء الفعل للفاعل، وفي مصحف ابن مسعود: «وسيصلى» ، وقوله تعالى: فِي أَهْلِهِ، يريد في الدنيا أي تملكه ذلك لا يدري إلا السرور بأهله دون معرفة الله والمؤمن إن سر بأهله لا حرج عليه، وقوله تعالى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ، معناه: لن يرجع إلى الله تعالى مبعوثا محشورا، قال ابن عباس:
لم أعلم ما معنى يَحُورَ، حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها: حوري، أي ارجعي، والظن هنا على بابه، وأَنْ وما بعدها تسد مسد مفعولي ظن وهي أَنْ المخففة من الثقيلة، والحور: الرجوع على الأدراج، ومنه: اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور. ثم رد تعالى على ظن هذا الكافر بقوله:
بَلى، أي يحور ويرجع، ثم أعلمهم أن الله تعالى لم يزل بَصِيراً بهم لا تخفى عليه أفعال أحد منهم، وفي هذا وعيد.
قوله عز وجل:

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 25]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
«لا» زائدة، والتقدير فأقسم، وقيل: «لا» راد على أقوال الكفار وابتداء القول أُقْسِمُ، وقسم الله تعالى بمخلوقاته هو على جهة التشريف لها، وتعريضها للعبرة، إذ القسم بها منبه منها، و «الشفق» :
الحمرة التي تعقب غيبوبة الشمس مع البياض التابع لها في الأغلب، وقيل «الشفق» هنا النهار كله قاله مجاهد، وهذا قول ضعيف، وقال أبو هريرة وعمر بن عبد العزيز: «الشفق» : البياض الذي تتلوه الحمرة، ووَسَقَ: معناه جمع وضم، ومنه الوسق أي الأصوع المجموعة، والليل يسق الحيوان جملة أي يجمعها في نفسه ويضمها، وكذلك جميع المخلوقات التي في أرض والهواء من البحار والجبال والرياح وغير ذلك، و «اتساق القمر» : كماله وتمامه بدرا، فالمعنى امتلأ من النور، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وابن عباس وعمر بخلاف عنهما، وأبو جعفر والحسن والأعمش وقتادة وابن جبير: «لتركبن» بضم الباء على مخاطبة الناس، والمعنى «لتركبن» الشدائد: الموت والبعث والحساب حالا بعد حال أو تكون من النطفة إلى الهرم كما تقول طبقة بعد طبقة وعَنْ تجيء في معنى بعد كما يقال: ورث المجد كابرا عن كابر وقيل المعنى «لتركبن» هذه الأحوال أمة بعد أمة، ومنه قول العباس بن عبد المطلب عن النبي عليه السلام:

(5/458)


وأنت لما بعثت أشرقت الأ ... رض وضاءت بنورك الطرق
تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى علم بدا طبق
أي قرن من الناس لأنه طبق الأرض، وقال الأقرع بن حابس: [البسيط]
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره ... وساقني طبق منه إلى طبق
أي حال بعد حال، وقيل المعنى: «لتركبن» الآخرة بعد الأولى، وقرأ عمر بن الخطاب أيضا:
«ليركبن» على أنهم غيب، والمعنى على نحو ما تقدم، وقال أبو عبيدة ومكحول: المعنى «لتركبن» سنن من قبلكم.
قال القاضي أبو محمد: كما جاء في الحديث: شبرا بشبر، وذراعا بذراع، فهذا هو طبق عَنْ طَبَقٍ، ويلتئم هذا المعنى مع هذه القراءة التي ذكرنا عن عمر بن الخطاب، ويحسن مع القراءة الأولى، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وعمرو بن مسعود ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وعيسى: «لتركبن» ، بفتح الباء على معنى: أنت يا محمد، وقيل المعنى: حال بعد حال من معالجة الكفار، وقال ابن عباس المعنى: سماء بعد سماء في الإسراء، وقيل هي عدة بالنصر، أي «لتركبن» العرب قبيلا بعد قبيل، وفتحا بعد فتح كما كان ووجد بعد ذلك، قال ابن مسعود: المعنى: «لتركبن» السماء في أهوال القيامة، حالا بعد حال تكون كالمهل وكالدهان وتتفطر وتتشقق، فالسماء هي الفاعلة، وقرأ ابن عباس أيضا وعمر رضي الله عنهما: «ليركبن» بالياء على ذكر الغائب، فإما أن يراد محمد صلى الله عليه وسلم على المعاني المتقدمة، وقاله ابن عباس يعني: نبيكم صلى الله عليه وسلم، وإما ما قال الناس في كتاب النقاش من أن المراد: القمر، لأنه يتغير أحوالا من سرار واستهلال وإبدار، ثم وقف تعالى نبيه، والمراد أولئك الكفار بقوله: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، أي من حجتهم مع هذه البراهين الساطعة، وقرأ الجمهور: «يكذّبون» بضم الياء وشد الذال، وقرأ الضحاك: بفتح الباء وتخفيف الذال وإسكان الكاف، ويُوعُونَ معناه: يجمعون من الأعمال والتكذيب والكفر، كأنهم يجعلونها في أوعية، تقول: وعيت العلم وأوعيت المتاع، وجعل البشارة في العذاب لما صرح له، وإذا جاءت مطلقة، فإنما هي من الخبر، ثم استثنى تعالى من كفار قريش القوم الذين كان سبق لهم الإيمان في قضائه، ومَمْنُونٍ معناه: مقطوع من قولهم: حبل منين أي مقطوع، ومنه قول الحارث بن حلّزة اليشكري: [الخفيف]
فترى خلفهن من شدة الرجع ... منينا كأنني أهباء
يريد غبارا متقطعا، وقال ابن عباس: مَمْنُونٍ، بمعنى: معدود عليهم محسوب منغص بالمن.

(5/459)