تفسير ابن عطية
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ
وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ
ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ
عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا
نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة البروج
وهي مكية بإجماع من المتأولين لا خلاف في ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)
وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6)
وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما
نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
اختلف الناس في الْبُرُوجِ، فقال الضحاك وقتادة: هي القصور،
ومنه قول الأخطل: [البسيط]
كأنها برج رومي يشيّده ... لز بجص وآجر وأحجار
وقال ابن عباس: الْبُرُوجِ النجوم، لأنها تتبرج بنورها،
والتبرج: التظاهر والتبدي، وقال الجمهور وابن عباس أيضا:
الْبُرُوجِ هي المنازل التي عرفتها العرب وهي اثنا عشر على ما
قسمته العرب وهي التي تقطعها الشمس في سنة، والقمر في ثمانية
وعشرين يوما، وقال قتادة معناه: ذات الرمل، والسماء يريد أنها
مبنية في السماء، وهذا قول ضعيف، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ هو
يوم القيامة باتفاق، قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه:
الموعود به، وقوله: وَمَشْهُودٍ، معناه: عليه أو له أو فيه،
وهذا يترتب بحسب الحساب في تعيين المراد ب «شاهد ومشاهد» ، فقد
اختلف الناس في المشار إليه بهما فقال ابن عباس: الشاهد الله
تعالى، والمشهود يوم القيامة، وقال ابن عباس والحسن بن علي
وعكرمة: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود يوم
القيامة، قال الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً
[الأحزاب: 45، الفتح: 8] ، وقال في يوم القيامة وَذلِكَ يَوْمٌ
مَشْهُودٌ [هود: 103] ، وقال مجاهد وعكرمة أيضا: الشاهد آدم
وجميع ذريته، والمشهود يوم القيامة، ف شاهِدٍ اسم جنس على هذا،
وقال بعض من بسط قول مجاهد وعكرمة: شاهِدٍ أراد به رجل مفرد أو
نسمة من النسم، ففي هذا تذكير بحقارة المسكين ابن آدم،
والمشهود يوم القيامة، وقال الحسن بن أبي الحسن وابن عباس
أيضا: الشاهد يوم عرفة، ويوم الجمعة، والمشهود يوم القيامة،
وقال ابن عباس وعلي وأبو هريرة والحسن وابن المسيب وقتادة:
شاهِدٍ يوم الجمعة، وَمَشْهُودٍ يوم عرفة، وقال ابن عمر:
شاهِدٍ يوم الجمعة، وَمَشْهُودٍ يوم النحر، وقال جابر: شاهِدٍ
يوم الجمعة، وَمَشْهُودٍ الناس، وقال محمد بن كعب:
(5/460)
الشاهد أنت يا ابن آدم، والمشهود الله
تعالى، وقال ابن جبير بالعكس، وتلا: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً
[النساء: 79- 166، الفتح: 28] ، وقال أبو مالك: الشاهد عيسى،
والمشهود أمته، قال الله تعالى:
وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [المائدة: 117] قال ابن المسيب:
شاهِدٍ يوم التروية، وَمَشْهُودٍ يوم عرفة، وقال بعض الناس في
كتاب النقاش: الشاهد يوم الاثنين والمشهود يوم الجمعة، وذكره
الثعلبي، وقال علي بن أبي طالب: الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم
النحر، وعنه أيضا: شاهِدٍ يوم القيامة وَمَشْهُودٍ يوم عرفة.
وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: شاهِدٍ يوم
الجمعة وَمَشْهُودٍ يوم عرفة. قاله علي وأبو هريرة والحسن،
وقال إبراهيم النخعي: الشاهد يوم الأضحى والمشهود يوم عرفة.
قال القاضي أبو محمد: ووصف هذه الأيام ب شاهِدٍ لأنها تشهد
لحاضريها بالأعمال، والمشهود فيما مضى من الأقوال بمعنى
المشاهد بفتح الهاء وقال الترمذي: الشاهد الملائكة الحفظة،
والمشهود عليهم الناس، وقال عبد العزيز بن يحيى عند الثعلبي:
الشاهد محمد، والمشهود عليهم أمته نحو قوله تعالى: وَجِئْنا
بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] أي شاهدا، قال:
الشاهد الأنبياء: والمشهود عليهم أممهم، وقال الحسن بن الفضل:
الشاهد أمة محمد، والمشهود عليهم قوم نوح، وسائر الأمم حسب
الحديث المقصود في ذلك، وقال ابن جبير أيضا: الشاهد، الجوارح
التي تنطق يوم القيامة فتشهد على أصحابها، والمشهود عليهم
أصحابها، وقال بعض العلماء: الشاهد الملائكة المتعاقبون في
الأمة، والمشهود قرآن الفجر، وتفسيره قول الله تعالى: إِنَّ
قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء: 87] . وقال بعض
العلماء: الشاهد، النجم، والمشهود عليه الليل والنهار، أي يشهد
النجم بإقبال هذا وتمام هذا، ومنه قول النبي صلى الله عليه
وسلم: حتى يطلع الشاهد، والشاهد النجم، وقال بعض العلماء:
الشاهد الله تعالى والملائكة وأولو العلم، والمشهود به
الوحدانية وأن الدين عند الله الإسلام، وقيل الشاهد: مخلوقات
الله تعالى، والمشهود به وحدانيته، وأنشد الثعلبي في هذا
المعنى قول الشاعر [أبو العتاهية] : [المتقارب]
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد
وقيل المعنى: فعل الله بهم ذلك لأنهم أهل له، فهو على جهة
الدعاء بحسب البشر، لا أن الله يدعو على أحد، وقيل عن ابن عباس
معناه: لعن، وهذا تفسير بالمعنى، وقيل هو إخبار بأن النار
قتلتهم، قاله الربيع بن أنس، وسيأتي بيانه، واختلف الناس في
أَصْحابُ الْأُخْدُودِ، فقيل: هو قوم كانوا على دين كان لهم
ملك فزنى بأخته، ثم حمله بعض نسائه على أن يسن في الناس نكاح
البنات والأخوات، فحمل الناس على ذلك فأطاعه كثير وعصته فرقة
فخذّ لهم أخاديد، وهي حفائر طويلة كالخنادق، وأضرم لهم نارا
وطرحهم فيها، ثم استمرت المجوسية في مطيعيه، وقال علي بن أبي
طالب: الْأُخْدُودِ، ملك حمير، كان بمزارع من اليمن، اقتتل هو
والكفار مع المؤمنين، ثم غلب في آخر الأمر فحرقهم على دينهم إذ
أبوا دينه، وفيهم كانت المرأة ذات الطفل التي تلكأت، فقال لها
الطفل: امضي في النار فإنك على الحق، وحكى النقاش عن علي رضي
الله عنه، أن نبيّ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ كان حبشيا، وأن
الحبشة بقية
(5/461)
إِنَّ الَّذِينَ
فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ
الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ
رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ
(15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)
أَصْحابُ الْأُخْدُودِ، وقيل: أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ ذو نواس في قصة عبد الله بن التامر التي وقعت في
السير، وقيل: كان أَصْحابُ الْأُخْدُودِ في بني إسرائيل.
قال القاضي أبو محمد: ورأيت في بعض الكتب أن أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ هو محرق وآله الذي حرق من بني تميم المائة،
ويعترض هذا القول بقوله تعالى: وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ
بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، فينفصل عن هذا الاعتراض بأن هذا
الكلام من قصة أَصْحابُ الْأُخْدُودِ، وأن المراد بقوله:
وَهُمْ قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات، واختلف
الناس في جواب القسم، فقال بعض النحاة: هو محذوف لعلم السامع
به، وقال آخرون: هو في قوله تعالى: قُتِلَ، والتقدير لقتل،
وقال قتادة: هو في قوله: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ
[البروج: 12] . وقال آخرون: هو في قوله: إِنَّ الَّذِينَ
فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ [البروج: 10] . وقوله تعالى:
النَّارِ، بدل من الْأُخْدُودِ، وهو بدل اشتمال، وهي قراءة
الجمهور:
«النار» بخفض الراء، وقرأ قوم «النار ذات» بالرفع على معنى:
قتلهم النار، و «الوقود» بالضم مصدر من وقدت النار إذا اضطرمت،
و «الوقود» : بفتح الواو، ما توقد به، وقرأ الجمهور: بفتح
الواو، وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة: بضمها، وكان من قصة
هؤلاء أن الكفار قعدوا وضم المؤمنون، وعرض عليهم الكفر، فمن
أبي رمي في أخدود النار فاحترق، فروي أنه أحرق عشرين ألفا،
وقال الربيع بن أنس وأصحابه وابن إسحاق وأبو العالية: بعث الله
تعالى على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم أو نحو هذا، وخرجت
النار فأحرقت الكافرين الذين كانوا على جانبي الأخدود، وعلى
هذا يجيء قُتِلَ خبر الادعاء، وقال قتادة:
إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ، يعني المؤمنين، ونَقَمُوا معناه:
اعتدوا، وقرأ جمهور الناس: «نقموا» ، بفتح القاف، وقرأ أبو
حيوة وابن أبي عبلة: «نقموا» بكسر القاف.
قوله عز وجل:
[سورة البروج (85) : الآيات 10 الى 16]
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ
ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ
عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ
رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16)
فَتَنُوا معناه: أحرقوا، وفتنت الذهب والفضة في النار
أحرقتهما، والفتين حجارة الحرة السود لأن الشمس كأنها أحرقتها،
ومن قال إن هذه الآيات الأواخر في قريش جعل الفتنة الامتحان
والتعذيب، ويقوي هذا التأويل بعض التقوية قوله تعالى: ثُمَّ
لَمْ يَتُوبُوا لأن هذا اللفظ في قريش أحكم منه في أولئك الذين
قد علم أنهم ماتوا على كفرهم، وأما قريش فكان فيهم وقت نزول
الآية من تاب بعد ذلك وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، و «جهنم»
و «الحريق» طبقتان من النار، ومن قال إن النار خرجت وأحرقت
الكافرين القعود، جعل «الحريق» في الدنيا، و «البطش» : الأخذ
بقوة وشرعة، ويُبْدِئُ وَيُعِيدُ، قال الضحاك وابن زيد معناه:
يُبْدِئُ الخلق بالإنشاء وَيُعِيدُ بالحشر، وقال ابن عباس ما
معناه: إن ذلك عام في جميع الأشياء، فهي عبارة عن أنه يفعل كل
شيء إنه يُبْدِئُ وَيُعِيدُ كلما ينعاد، وهذان قسمان
(5/462)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ
مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ
مَحْفُوظٍ (22)
مستوفيان جميع الأشياء، وقال الطبري معناه:
يُبْدِئُ العذاب، ويعيده على الكفار، والْغَفُورُ الْوَدُودُ
صفتا فعل، الأولى ستر على عباده، والثانية لطف بهم وإحسان
إليهم، وخصص «العرش» بإضافة نفسه إليه تشريفا، وتنبيها على أنه
أعظم المخلوقات، وقرأ حمزة والكسائي والمفضل عن عاصم والحسن
وابن وثاب والأعمش وعمرو بن عبيد: «المجيد» بخفض الدال صفة
للعرش، وهذا على أن المجد والتمجيد قد يوصف به كثير من
الجمادات، وقد قالوا مجدت الدابة إذا سمنت، وأمجدتها إذا أحسنت
علفها، وقالوا:
في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار: كثرت نارهما، وقرأ
الباقون والجمهور: «ذو العرش» ، وروى ابن عباس: «ذي العرش» ،
نعتا لقوله إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ.
قوله عز وجل:
[سورة البروج (85) : الآيات 17 الى 22]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ
(18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ
مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
هذا توقيف للنبي صلى الله عليه وسلم وتقرير بمعنى: لجعل هؤلاء
الكفرة الذين يخالفونك وراء ظهرك ولا تهتم بهم، فقد انتقم الله
من أولئك الأقوياء الشداد، فكيف هؤلاء و «الجنود» الجموع
المعدة للقتال، والجري نحو غرض واحد، وناب فِرْعَوْنَ في الذكر
مناب قومه وآله، إذ كان رأسهم، وفِرْعَوْنَ وَثَمُودَ في موضع
حفض على البدل من الْجُنُودِ، ثم ترك القول بحاله، وأضرب عنه
إلى الإخبار بأن هؤلاء الكفار بمحمد عليه السلام وشرعه، لا حجة
لهم عليه ولا برهان بل هو تكذيب مجرد سببه الحسد، ثم توعدهم
بقوله: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ، أي وعذاب الله
ونقمته، وقوله: مِنْ وَرائِهِمْ، معناه: ما يأتي بعد كفرهم
وعصيانهم، ثم أعرض عن تكذيبهم مبطلا له وردا عليه، أنه:
قُرْآنٌ مَجِيدٌ أي مذمة فيه، وهذا مما تقدم من وصف الله تعالى
بالمجد والتمجد، وقرأ ابن السميفع اليماني «قرآن مجيد» على
الإضافة، وأن يكون الله تعالى، هو المجيد، و «اللوح» : هو
اللوح المحفوظ الذي فيه جميع الأشياء، وقرأ خفض القراء: «في
لوح محفوظ» بالخفض صفة ل لَوْحٍ المشهور بهذه الصفة، وقرأ نافع
وحده بخلاف عنه وابن محيصن والأعرج: «محفوظ» بالرفع صفة القرآن
على نحو قوله تعالى:
وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] ، أي هو محفوظ في
القلوب، لا يدركه الخطأ والتعديل، وقال أنس: إن اللوح المحفوظ
هو في جبهة إسرافيل، وقيل: هو من درة بيضاء قاله ابن عباس،
وهذا كله مما قصرت به الأسانيد، وقرأ ابن السميفع: «في لوح»
بضم اللام.
نجز تفسير سورة الْبُرُوجِ والحمد لله رب العالمين.
(5/463)
وَالسَّمَاءِ
وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)
النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا
حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)
خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ
وَلَا نَاصِرٍ (10)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الطّارق
وهي مكية لا خلاف بين المفسرين في ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ
(2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا
عَلَيْها حافِظٌ (4)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ
دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7)
إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى
السَّرائِرُ (9)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10)
أقسم الله تعالى ب السَّماءِ المعروفة في قول جمهور المتأولين،
وقال قوم: السَّماءِ هنا، المطر، والعرب تسميه سماء، لما كان
من السماء، وتسمي السحاب سماء، ومن ذلك قول الشاعر [جرير] :
[الوافر]
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
وقول النابغة: [الكامل] كالأقحوان غداة غب سمائه وَالطَّارِقِ
الذي يأتي ليلا، وهو اسم جنس لكل ما يظهر ويأتي ليلا، ومنه نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس من أسفارهم أن يأتي الرجل
أهله طروقا، ومنه طروق الخيال، وقال الشاعر:
[البسيط]
يا نائم الليل مغترا بأوله ... إن الحوادث قد تطرقن أسحارا
ثم بين الله تعالى الجنس المذكور بأنه النَّجْمُ الثَّاقِبُ،
وقيل بل معنى الآية: وَالسَّماءِ وجميع ما يطرق فيها من الأمور
والمخلوقات، ثم ذكر تعالى بعد ذلك على جهة التنبيه أجل
الطارقات قدرا وهو النَّجْمُ الثَّاقِبُ، فكأنه قال: وَما
أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ، وحق الطارق، واختلف المتأولون في
النَّجْمُ الثَّاقِبُ، فقال الحسن بن أبي الحسن ما معناه: إنه
اسم للجنس، لأنها كلها ثاقبة، أي ظاهرة الضوء، يقال ثقب النجم
إذا أضاء، وثقبت النار، كذلك، وثقبت الرائحة إذا سطعت، ويقال
للموقد اثقب نارك، أي أضئها، وقال ابن زيد: أراد نجما مخصوصا:
وهو زحل، ووصفه بالثقوب، لأنه مبرز على الكواكب في
(5/464)
ذلك، وقال ابن عباس: أراد الجدي، وقال بعض
هؤلاء يقال: ثقب النجم، إذا ارتفع فإنما وصف زحلا بالثقوب لأنه
أرفع الكواكب مكانا. وقال ابن زيد وغيره: النَّجْمُ
الثَّاقِبُ: الثريا، وهو الذي يطلق عليه اسم النجم معرفا،
وجواب القسم في قوله: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ الآية، وقرأ جمهور
الناس: «لما» ، مخففة الميم، قال الحذاق من النحويين وهم
البصريون: مخففة من الثقيلة، واللام: لام التأكيد الداخلة على
الخبر، وقال الكوفيون: إِنْ، بمعنى: ما النافية، واللام بمعنى:
إلا، فالتقدير ما كان نفس إلا عَلَيْها حافِظٌ، وقرأ عاصم وابن
عامر وحمزة والكسائي والحسن والأعرج وأبو عمرو ونافع بخلاف
عنهما وقتادة:
«لمّا» بتشديد الميم، وقال أبو الحسن الأخفش: «لمّا» بمعنى:
إلا، لغة مشهورة في هذيل وغيرهم، يقال:
أقسمت عليك لمّا فعلت كذا، أي إلا فعلت كذا، ومعنى هذه الآية
فيما قال قتادة وابن سيرين وغيرهما: إن كل نفس مكلفة فعليها
حافظ يحصي أعمالها ويعدها للجزاء عليها، وبهذا الوجه تدخل
الآية في الوعيد الزاجر، وقال الفراء، المعنى: عَلَيْها حافِظٌ
يحفظها حتى يسلمها إلى القدر، وهذا قول فاسد المعنى لأن مدة
الحفظ إنما هي بقدر، وقال أبو أمامة: قال النبي صلى الله عليه
وسلم في تفسير هذه الآية إن لكل نفس حفظة من الله تعالى يذبون
عنها كما يذب عن العسل، ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين
لاختطفته الطير والشياطين، وقوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ، توقيف لمنكري البعث على أصل الخلقة،
أي أن البعث جائز ممكن، ثم بادر اللفظ إلى الجواب اقتضابا
وإسراعا إلى إقامة الحجة، إذ لا جواب لأحد إلا هذا، ودافِقٍ،
قال كثير: هو بمعنى: مدفوق، وقال الخليل وسيبويه: هو على النسب
أي ذي دفق، والدفق: دفق الماء بعضه إلى بعض، تدفق الوادي
والسيل، إذا جاء يركب بعضه بعضا، ويصح أن يكون الماء دافقا،
لأن بعضه يدفع بعضا، فمنه دافِقٍ ومنه مدفوق. وقوله تعالى:
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ، قال قتادة
والحسن وغيره: معناه من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة
وترائبه، وقال سفيان وقتادة أيضا وجماعة: من بين صلب الرجل
وترائب المرأة، والضمير في يَخْرُجُ يحتمل أن يكون للإنسان،
ويحتمل أن يكون للماء، وقرأ الجمهور: «الصلب» ، وقرأ أهل مكة
وعيسى:
«الصلب» بضم اللام على الجميع، والتريبة من الإنسان: ما بين
الترقوة إلى الثدي، وقال أبو عبيدة: معلق الحلي على الصدر،
وجمع ذلك: ترائب ومنه قول الشاعر [المثقب العبدي] : [الوافر]
ومن ذهب يسن على تريب ... كلون العاج ليس بذي غضون
وقال امرؤ القيس: [الطويل] ترائبها مصقولة كالسجنجل فجمع
التريبة وما حولها فجعل ذلك ترائب، وقال مكي عن ابن عباس: إن
الترب أطراف المرء ورجلاه ويداه وعيناه، وقال معمر:
التَّرائِبِ، جمع تريبة، وهي عصارة القلب، ومنها يكون الولد،
وفي هذه الأقوال تحكم على اللغة، وقال ابن عباس: التَّرائِبِ
موضع القلادة، وقال أيضا: هي ما بين ثدي المرأة، وقال ابن
جبير: هي أضلاع الرجل التي أسفل الصلب، وقال مجاهد: هي الصدر،
وقال هي التراقي، وقيل هي ما بين المنكبين والصدر.
(5/465)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ
لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ
يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ
الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
وقوله تعالى: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ
لَقادِرٌ الضمير في إِنَّهُ لله تعالى، واختلف المفسرون في
الضمير في رَجْعِهِ، فقال قتادة وابن عباس: هو على الْإِنْسانُ
أي على رده حيا بعد موته، وقال الضحاك:
هو عائد على الْإِنْسانُ لكن المعنى يرجعه ماء كما كان أولا،
وقال الضحاك أيضا: يرد من الكبر إلى الشباب، وقال عكرمة
ومجاهد: هو عائد على الماء، أي يرده في الإحليل، وقيل في
الصلب، والعامل في يَوْمَ على هذين القولين الأخيرين فعل مضمر
تقديره اذكر يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ، وعلى القول الأول،
وهو أظهر الأقوال وأبينها، اختلفوا في العامل في يَوْمَ، فقيل:
العامل ناصِرٍ من قوله تعالى: وَلا ناصِرٍ، وقيل العامل الرجع
في قوله تعالى: عَلى رَجْعِهِ، قالوا وفي المصدر من القوة بحيث
يعمل وإن حال خبر ان بينه وبين معموله، وقال الحذاق العامل فعل
مضمر تقديره: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ، فرجعه يَوْمَ
تُبْلَى السَّرائِرُ، وكل هذه الفرق فسرت من أن يكون العامل
«قادر» ، لأن ذلك يظهر منه تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده،
وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب، جاز أن يكون
العامل «قادر» ، وذلك أنه قال: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ
لَقادِرٌ، أي على الإطلاق أولا وآخرا وفي كل وقت، ثم ذكر تعالى
وخصص من الأوقات الوقت الأهم على الكفار لأنه وقت الجزاء
والوصل إلى العذاب ليجتمع الناس إلى حذره والخوف منه، وتُبْلَى
السَّرائِرُ معناه: تختبر وتكشف بواطنها، وروى أبو الدرداء عن
النبي صلى الله عليه وسلم: أن السَّرائِرُ التي يبتليها الله
تعالى من العباد: التوحيد والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة.
قال القاضي أبو محمد: هذه عظم الأمر، وقال قتادة: الوجه في
الآية، العموم في جميع السرائر، وليس يمتنع في الدنيا من
المكاره إلا بأحد الوجهين: إما بقوة في ذات الإنسان، وإما
بناصر خارج عن ذاته، فأخبره الله تعالى عن الإنسان أنه يعدمها
يوم القيامة، فلا يعصمه من أمر الله شيء.
قوله عز وجل:
[سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 17]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ
(12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15)
وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ
رُوَيْداً (17)
السَّماءِ في هذا القسم يحتمل أن تكون المعروفة، ويحتمل أن
تكون السحاب، والرَّجْعِ المطر وماؤه، ومنه قول الهذلي:
[السريع]
أبيض كالرجع رسوب إذا ... ما شاخ من محتفل يختلي
وقال ابن عباس: الرَّجْعِ، السحاب فيه المطر، قال الحسن: لأنه
يرجع بالرزق كل عام، قال غيره لأنه يرجع إلى الأرض، وقال ابن
زيد: الرَّجْعِ مصدر رجوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى
حال، ومنه منزلة تذهب وترجع، والصَّدْعِ: النبات، لأن الأرض
تتصدع عنه، وهذا قول من قال: إن الرَّجْعِ المطر، وقال مجاهد:
الصَّدْعِ: ما في الأرض من شعاب ولصاب وخندق وتشقق
(5/466)
بحرث وغيره، وهي أمور فيها معتبر، وهذا قول
يناسب القول الثاني في الرَّجْعِ، والضمير في إِنَّهُ للقرآن
ولم يتقدم له ذكر، من حيث القول في جزء منه والحال تقتضيه،
وفَصْلٌ: معناه جزم فصل الحقائق من الأباطيل، و «الهزل» :
اللعب الباطل، ثم أخبر تعالى عن قريش إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ في
أفعالهم وأقوالهم وتمرسهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وتدبرهم
رد أمره، ثم قوى ذلك بالمصدر وأكده وأخبر عن أنه يفعل بهم
عقابا سماه كَيْداً على العرف في تسمية العقوبة باسم الذنب، ثم
ظهر من قوله تعالى:
فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أن عقابه لهم الذي سماه: كَيْداً،
متأخر حتى ظهر ببدر وغيره، وقرأ جمهور الناس:
«أمهلهم» ، وقرأ ابن عباس: «مهلهم» ، وفي هذه الآية موادعة
نسختها آية السيف، وقوله تعالى: رُوَيْداً معناه: قليلا، قاله
قتادة، وهذه حال هذه اللفظة إذا تقدمها شيء تصفه كقولك سر
رويدا وتقدمها فعل يعمل فيها كهذه الآية، وأما إذا ابتدأت بها
فقلت: رويدا يا فلان، فهي بمعنى الأمر بالتماهل يجري مجرى
قولهم: صبرا يا زيد، وقليلا يا عمرو.
(5/467)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ
فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ
غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا
مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى
(7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ
الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ
الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الأعلى
وهي مكية في قول الجمهور، وحكى النقاش عن الضحاك أنها مدنية،
وذلك ضعيف، وإنما دعا إليه قول من قال: إن ذكر صلاة العيد
فيها.
قوله عز وجل:
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى
(2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ
الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6)
إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما
يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ
نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى
(11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا
يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)
سَبِّحِ في هذه الآية، بمعنى نزه وقدس وقل سبحانه عن النقائص
والغير جمعا وما يقول المشركون، والاسم الذي هو: ألف، سين،
ميم، يأتي في مواضع من الكلام الفصيح يراد به المسمى، ويأتي في
مواضع يراد به التسمية نحو قوله عليه السلام: «إن لله تسعة
وتسعين اسما» وغير ذلك، ومتى أريد به المسمى فإنما هو صلة
كالزائد كأنه قال في هذه الآية: سبح ربك، أي نزهه، وإذا كان
الاسم واحدا من الأسماء كزيد وعمرو، فيجيء في الكلام على ما
قلت، تقول زيد قائد تريد المسمى، وتقول:
زيد ثلاثة أحرف تريد به التسمية، وهذه الآية تحتمل هذا الوجه
الأول، وتحتمل أن يراد بالاسم التسمية نفسها على معنى نزه اسم
ربك عن أن يسمى به صنم أو وثن، فيقال له إله ورب ونحو ذلك،
والْأَعْلَى يصح أن يكون صفة للاسم، ويحتمل أن يكون صفة للرب،
وذكر الطبري أن ابن عمر وعليا قرآ هذه السورة: «سبحان ربي
الأعلى» قال وهي في مصحف أبيّ بن كعب كذلك، وهي قراءة أبي موسى
الأشعري وابن الزبير ومالك بن أبي دينار، وروى ابن عباس أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال:
«سبحان ربي الأعلى» ، وكان ابن مسعود وابن عامر وابن الزبير
يفعلون ذلك، ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه
وسلم: «اجعلوها في سجودكم» ، وقال قوم: معنى سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ نزه اسم ربك تعالى عن أن تذكره إلا وأنت خاشع، وقال
ابن عباس معنى الآية: صلّ باسم ربك الأعلى كما تقول ابدأ باسم
الله، وحذف حرف الجر، و «سوى» ، معناه عدل وأتقن حتى صارت
الأمور مستوية دالة على قدرته ووحدانيته، وقرأ جمهور القراء
«قدّر» بشد الدال فيحتمل أن يكون من القدر والقضاء، ويحتمل أن
يكون
(5/468)
من التقدير والموازنة، وقوله تعالى: فَهَدى
عام لوجوه الهدايات فقال الفراء: معناه هدى وأضل، واكتفى
بالواحدة لدلالتها على الأخرى، وقال مقاتل والكلبي: هدى
الحيوان إلى وطء الذكور الإناث، وقيل هدى المولود عند وضعه إلى
مص الثدي، وقال مجاهد: هدى الناس للخير والشر، والبهائم
للمراتع..
قال القاضي أبو محمد: وهذه الأقوال مثالات، والعموم في الآية
أصوب في كل تقدير وفي كل هداية، والْمَرْعى: النبات، وهو أصل
في قيام المعاش إذ هو غذاء الأنعام ومنه ما ينتفع به الناس في
ذواتهم، و «الغثاء» ما يبس وجف وتحطم من النبات، وهو الذي
يحمله السيل، وبه يشبه الناس الذين لا قدر لهم. و «الأحوى» :
قيل هو الأخضر الذي عليه سواد من شدة الخضرة والغضارة، وقيل هو
الأسود سوادا يضرب إلى الخضرة ومنه قول ذي الرمة: [البسيط]
لمياء في شفتيها حوّة لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب
قال قتادة: تقدير هذه الآية أَخْرَجَ الْمَرْعى، أَحْوى أسود
من خضرته ونضارته، فَجَعَلَهُ غُثاءً عند يبسه، ف أَحْوى حال،
وقال ابن عباس: المعنى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى أي أسود، لأن
الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفن فصار أَحْوى بهذه
الصفة. وقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى، قال الحسن
وقتادة ومالك بن أنس: هذه الآية في معنى قوله تعالى: لا
تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
[القيامة: 16] الآية، وعد الله أن يقرئه وأخبره أنه لا ينسى
نسيانا لا يكون بعده ذكر، فتذهب الآية، وذلك أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يحرك شفتيه مبادرة خوفا منه أن ينسى، وفي هذا
التأويل آية النبي صلى الله عليه وسلم في أنه أمي، وحفظ الله
تعالى عليه الوحي، وأمنه من نسيانه. وقال آخرون: ليست هذه
الآية في معنى تلك، وإنما هذه وعد بإقرار الشرع والسور، وأمره
أن لا ينسى على معنى التثبيت والتأكيد، وقد علم أن ترك النسيان
ليس في قدرته، فقد نهي عن إغفال التعاهد، وأثبت الياء في
«تنسى» لتعديل رؤوس الآي، وقال الجنيد: معنى فَلا تَنْسى، لا
تترك العمل بما تضمن من أمر ونهي، وقوله تعالى:
إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ، قال الحسن وقتادة وغيره مما قضى الله
تعالى بنسخه، وأن ترفع تلاوته وحكمه. وقال الفراء وجماعة من
أهل المعاني: هو استثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى في
الاستثناء، وليس ثم شيء أبيح نسيانه، وقال ابن عباس: إِلَّا ما
شاءَ اللَّهُ أن ينسيكه لتسن به على نحو قوله عليه السلام:
«إني لأنسى أو أنسّى لأسنّ» ، وقال بعض المتأولين: إِلَّا ما
شاءَ اللَّهُ أن يغلبك النسيان عليه ثم يذكرك به بعد، ومن هذا
قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع قراءة عباد بن بشر يرحمه
الله: «لقد أذكرني كذا في سورة كذا وكذا» .
قال القاضي أبو محمد: ونسيان النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع
فيما أمر بتبليغه، إذ هو معصوم فإذا بلغه ووعي عنه، فالنسيان
جائز على أن يتذكر بعد ذلك وعلى أن يسنّ، أو على النسخ، ثم
أخبر تعالى إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ من الأشياء، وَما
يَخْفى منها، وذلك لإحاطته بكل شيء علما، وبهذا يصح الخبر بأنه
لا ينسى شيئا إلا ذكره الله تعالى به. وقوله تعالى:
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى معناه: نذهب بك نحو الأمور المستحسنة
في دنياك وأخراك من النصر والظفر وعلو الرسالة والمنزلة يوم
القيامة، والرفعة في الجنة، ثم
(5/469)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ
تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ
وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
أمره تعالى بالتذكير، واختلف الناس في معنى
قوله تعالى: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى فقال الفراء والزهراوي
معناه: وإن لم تنفع، فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على
الثاني، وقال بعض الحذاق: إنما قوله إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى،
اعتراض بين الكلامين على جهة التوبيخ لقريش، أي إِنْ نَفَعَتِ
الذِّكْرى، في هؤلاء الطغاة العتاة، وهذا نحو قول الشاعر:
[الوافر]
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
وهذا كله كما تقول لرجل قل لفلان وأعد له إن سمعك، إنما هو
توبيخ للمشار إليه، ثم أخبر تعالى أنه سَيَذَّكَّرُ مَنْ
يَخْشى الله والدار الآخرة، وهم العلماء والمؤمنون كل بقدر ما
وفق، ويتجنب الذكرى ونفعها من سبقت له الشقاوة، فكفر ووجب له
صلي النار، وقال الحسن: النَّارَ الْكُبْرى نار الآخرة،
والصغرى نار الدنيا، وقال بعض المفسرين: إن نار جميع الآخرة
وإن كانت شديدة فهي تتفاضل، ففيها شيء أكبر من شيء، وقال
الفراء: الْكُبْرى هي السفلى من أطباق النار، وقوله تعالى:
ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى معناه: لا يَمُوتُ فِيها
موتا مريحا، وَلا يَحْيى حياة هنية فهو لا محالة حي، وقد ورد
في خبر: إن العصاة في النار موتى.
قال القاضي أبو محمد: وأراه على التشبيه لأنه كالسبات والركود
والهمول فجعله موتا.
قوله عز وجل:
[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 19]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ
فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16)
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ
الْأُولى (18)
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
أَفْلَحَ في هذه الآية معناه: فاز ببغيته، وتَزَكَّى معناه:
طهر نفسه ونماها إلى الخير. قال ابن عباس: قال لا إله إلا الله
فتطهر من الشرك، وقال الحسن: من كان عمله زاكيا، وقال أبو
الأحوص: من رضخ من ماله وزكاه، وقوله وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ
معناه: وحّده وصلى له الصلوات التي فرضت عليه، وتنفل أيضا بما
أمكنه من صلاة وبرّ، وقال أبو سعيد الخدري وابن عمر وابن
المسيب: هذه الآية في صبيحة يوم الفطر فتزكى، أدى زكاة الفطر،
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ، هو ذكر الله في طريق المصلى إلى أن
يخرج الإمام، والصلاة هي صلاة العيد، وقد روي هذا التفسير عن
النبي صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة وكثير من المتأولين:
تَزَكَّى: أدى زكاة ماله، و «صلى» معناه صلى الخمس، ثم أخبر
تعالى الناس أنهم يؤثرون الْحَياةَ الدُّنْيا، فالكافر يؤثرها
إيثار كفر يرى أن لا آخرة، والمؤمن يؤثرها إيثار معصية وغلبة
نفس إلا من عصم الله، وقرأ أبو عمرو وحده «يؤثرون» بالياء،
وقال: يعني الأشقين، وهي قراءة ابن مسعود والحسن وأبي رجاء
والجحدري، وقرأ الباقون والناس: «تؤثرون» بالتاء على المخاطبة،
وفي حرف أبي بن كعب «بل أنتم تؤثرون» ، وسبب الإيثار حب العاجل
والجهل ببقاء الآخرة، وقال عمر: ما في الدنيا في الآخرة إلا
كنفخة أرنب. وقوله تعالى: إِنَّ هذا قال الضحاك: أراد القرآن،
وروي أن القرآن انتسخ من الصُّحُفِ
(5/470)
الْأُولى
، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: الإشارة إلى معاني السورة،
وقال ابن زيد: الإشارة إلى هذين الخبرين «إفلاح من تزكى»
وإيثار الناس للدنيا مع فضل الآخرة عليها، وهذا هو الأرجح لقرب
المشار إليه بهذا. وقوله تعالى: لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى أي
لم ينسخ هذا قط في شرع من الشرائع فهو في الأولى وفي الأخيرات،
ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن مما أدرك الناس من
كلام النبوة الأولى: «إذا لم تستحي فاصنع ما شئت» أي أنه مما
جاءت به الأولى واستمر في الغي، وقرأ الجمهور «الصحف» مضمومة
الحاء، وروى هارون عن أبي عمرو بسكون الحاء، وهي قراءة الأعمش،
وقرأ أبو رجاء: إِبْراهِيمَ بغير الياء ولا ألف، وقرأ ابن
الزبير «ابراهام» في كل القرآن، وكذلك أبو موسى الأشعري، وقرأ
عبد الرحمن بن أبي بكرة «إبراهم» بكسر الهاء وبغير ياء في جميع
القرآن وروي أن صُحُفِ إِبْراهِيمَ نزلت في أول ليلة من رمضان،
والتوراة في السادسة من رمضان والزبور في اثني عشرة منه
والإنجيل في ثمان عشرة منه والقرآن في أربع عشرة.
نجز تفسير سورة الْأَعْلَى والحمد لله كثيرا.
(5/471)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ
نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ
عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ
(6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي
جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الغاشية
وهي مكية لا خلاف في ذلك بين أهل التأويل.
قوله عز وجل:
[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ
مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11)
قال بعض المفسرين: هَلْ بمعنى قد، وقال الحذاق: هي على بابها
توقيف، فائدته تحريك نفس السامع إلى تلقي الخبر، وقيل المعنى
هل كان هذا من علمك لولا ما علمناك، ففي هذا التأويل تعديد
النعمة. والْغاشِيَةِ: القيامة لأنها تغشى العالم كله بهولها
وتغييرها لبنيته، قاله سفيان وجمهور من المتأولين، وقال ابن
جبير ومحمد بن كعب: الْغاشِيَةِ، النار، وقد قال تعالى:
وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم: 50] ، وقال: وَمِنْ
فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف: 41] فهي تغشى سكانها والقول الأول
يؤيده قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ، والوجوه الخاشعة، وجوه
الكفار وخشوعها ذلها وتغيرها بالعذاب، واختلف الناس في قوله
تعالى: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ فيها والنصب، التعب، لأنها تكبرت عن
العمل لله في الدنيا فأعملها في الآخرة في ناره. وقال عكرمة
والسدي: المعنى: عامِلَةٌ في الدنيا ناصِبَةٌ يوم القيامة،
فالعمل على هذا هو مساعي الدنيا. وقال ابن عباس وزيد بن أسلم
وابن جبير: المعنى: هي عامِلَةٌ في الدنيا ناصِبَةٌ فيها لأنها
على غير هدى، فلا ثمرة لعملها إلا النصب وخاتمته النار. قالوا:
والآية في القسيسين وعبدة الأوثان وكل مجتهد في كفر، وقد ذهب
هذا المذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تأويل الآية، وبكى
رحمة لراهب نصراني رآه مجتهدا، وفي الحديث أن النبي صلى الله
عليه وسلم ذكر القدرية فبكى، وقال إن فيهم المجتهد. وقرأ ابن
كثير في رواية شبل وابن محيصن: «عاملة ناصبة» بالنصب على الذم،
والناصب فعل مضمر تقديره أذم أو أعني ونحو هذا، وقرأ الستة
وحفص عن عاصم والأعرج وطلحة وأبو جعفر والحسن: «تصلى» بفتح
التاء وسكون الصاد على بناء الفعل للفاعل، أي الوجوه، وقرأ أبو
بكر عن عاصم وأبو عمرو بخلاف عنه وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن
وابن محيصن، واختلف عن نافع وعن الأعرج «تصلى» بضم التاء وسكون
الصاد، وذلك يحتمل أن يكون من صليته النار على معنى أصليته،
(5/472)
فيكون كتضرب، ويحتمل أن يكون من أصليت،
فتكون كتكرم، وقرأ بعض الناس: «تصلّى» بضم التاء وفتح الصاد
وشد اللام على التعدية بالتضعيف، حكاها أبو عمرو بن العلاء، و
«الحامية» ، المتوقدة المتوهجة، و «الآنية» : التي قد انتهى
حرها كما قال تعالى: وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 44] ، قاله
ابن عباس والحسن ومجاهد، وقال ابن زيد: معنى آنِيَةٍ: حاضرة
لهم من قولك آن الشيء إذا حضر، واختلف الناس في «الضريع» ،
فقال الحسن وجماعة من المفسرين: هو الزقوم، لأن الله تعالى قد
أخبر في هذه الآية أن الكفار لا طعام لهم إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ،
وقد أخبر أن الزقوم طعام الأثيم، فذلك يقتضي أن الضريع الزقوم،
وقال سعيد بن جبير «الضريع» : الحجارة. وقال مجاهد وابن عباس
وقتادة وعكرمة:
«الضريع» شبرق النار، وقال أبو حنيفة: «الضريع» الشبرق وهو
مرعى سوء لا تعقد السائمة عليه شحما ولا لحما، ومنه قول أبي
عيزارة الهذلي: [الطويل]
وحبسن في هزم الضريع فكلها ... جرباء دامية اليدين حرود
وقال أبو ذؤيب:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وعاد ضريعا بان منه الخائض
وقيل «الضريع» : العشرق. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«الضريع» : شوك في النار، وقال بعض اللغويين: «الضريع» يبيس
العرفج إذا تحطم، وقال آخرون: هو رطب العرفج، وقال الزجاج: هو
نبت كالعوسج، وقال بعض المفسرين: «الضريع» نبت في البحر أخضر
منتن مجوف مستطيل له بورقية كثيرة، وقال ابن عباس: «الضريع» :
شجر من نار. وكل من ذكر شيئا مما ذكرناه فإنما يعني أن ذلك من
نار ولا بد، وكل ما في النار فهو نار. وقال قوم: ضَرِيعٍ واد
في جهنم، وقال جماعة من المتأولين:
«الضريع» طعام أهل النار ولم يرد أن يخصص شيئا مما ذكرناه،
وقال بعض اللغويين: وهذا لا تعرفه العرب، وقيل: «الضريع» :
الجلدة التي على العظم تحت اللحم، ولا أعرف من تأول الآية
بهذا، وأهل هذه الأقاويل يقولون الزقوم لطائفة، والضريع لطائفة
والغسلين لطائفة، واختلف في المعنى الذي سمي ضريعا فقيل هو
ضريع بمعنى مضرع أي مضعف للبدن مهزل. ومنه قول النبي صلى الله
عليه وسلم في ولد جعفر بن أبي طالب: «ما لي أراهما ضارعين» ؟
يريد هزيلين، ومن فعيل بمعنى مفعل قول عمرو بن معد يكرب:
[الوافر]
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
يريد السمع، وقيل ضَرِيعٍ فعيل من المضارعة، أي الاشتباه لأنه
يشبه المرعى الجيد ويضارعه في الظاهر وليس به. ولما ذكر تعالى
وجوه أهل النار، عقب ذلك بذكره وجوه أهل الجنة ليبين الفرق،
وقوله تعالى: لِسَعْيِها يريد لعملها في الدنيا وطاعتها،
والمعنى لثواب سعيها والتنعيم عليه، ووصف الجنة بالعلو وذلك
يصح من جهة المسافة والمكان ومن جهة المكانة والمنزلة أيضا،
وقرأ نافع وحده وابن كثير وأبو عمرو بخلاف عنهما والأعرج وأهل
مكة والمدينة «لا تسمع فيها لاغية» أي ذات لغو، فهي على النسب،
وفسره بعضهم على معنى لا تسمع فيها فئة أو جماعة لاغية ناطقة
بسوء. قال أبو عبيدة:
(5/473)
فِيهَا عَيْنٌ
جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ
مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ
مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ
خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ
كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ
(21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ
تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ
الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ
إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
لاغِيَةً مصدر كالعاقبة والخائنة، وقرأ
الجحدري «لا تسمع» بضم التاء، «لاغية» بالنصب، وقرأ ابن كثير
وأبو عمرو: «لا يسمع» بالياء من تحت مضمومة «لاغية» بالرفع،
وهي قراءة ابن محيصن وعيسى والجحدري أيضا. إلا أنه قرأ «لاغية»
بالنصب على معنى لا يسمع أحد كلمة لاغية من قولك أسمعت زيدا.
وقرأ الباقون ونافع في رواية خارجة والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر
وقتادة وابن سيرين وأبو عمرو بخلاف عنه «لا تسمع» بفتح التاء
ونصب «لاغية» ، والمعنى إما على الكلمة وإما على الفئة،
والفاعل ب «تسمع» إما الوجوه وإما محمد صلى الله عليه وسلم
قاله الحسن وإنما أنت أيها المخاطب عموما، واللغو سقط القول،
فذلك يجمع الفحش وسائر الكلام السفساف الناقص وليس في الجنة
نقصان ولا عيب في فعل ولا قول، والحمد لله ولي النعمة.
قوله عز وجل:
[سورة الغاشية (88) : الآيات 12 الى 26]
فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)
وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ
كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى
وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ
(24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا
حِسابَهُمْ (26)
عَيْنٌ في هذه الآية اسم جنس، ويحتمل أن تكون عينا مخصوصة ذكرت
على جهة التشريف لها. و «رفع السرر» أشرف لها، و «الأكواب»
أوان كالأباريق لا عرى لها ولا آذان ولا خراطيم، وشكلها عند
العرب معروف. ومَوْضُوعَةٌ معناه بأشربتها معدة و «النمرقة»
الوسادة، ويقال نمرقة بكسر النون والراء وقال زهير: [الطويل]
كهولا وشبانا حسانا وجوههم ... على سرر مصفوفة ونمارق
و «الزرابي» واحدتها زريبة، ويقال بفتح الزاي وهي كالطنافس لها
خمل، قاله الفراء وهي ملونات، ومَبْثُوثَةٌ معناه كثيرة
متفرقة، ثم أقام تعالى الحجة على منكري قدرته على بعث الأجساد
بأن وقفهم على موضع العبرة في مخلوقاته، والْإِبِلِ في هذه
الآية هي الجمال المعروفة، هذا قول جمهور المتأولين، وفي الجمل
آيات وعبر لمن تأمل ليس في الحيوان ما يقوم من البروك بحمله
سواه وهو على قوته غاية في الانقياد. قال الثعلبي في بعض
التفاسير: إن فأرة جرت بزمام ناقة فتبعتها حتى دخلت الجحر
فبركت الناقة وأذنت رأسها من فم الحجر، وكان سريح القاضي يقول
لأصحابة: اخرجوا بنا إلى الكناسة حتى ننظر؟؟؟ إلى الإبل كيف
خلقت، وقال أبو العباس المبرد الْإِبِلِ هنا السحاب، لأن العرب
قد تسميها بذلك إذ تأتيها أرسالا كالإبل وتزجى كما تزجى الإبل
في هيئتها أحيانا تشبه الإبل والنعام، ومنه قول الشاعر:
[المتقارب]
(5/474)
كأن السحاب دوين السما ... نعام تعلق
بالأرجل
وقرأ أبو عمرو بخلاف وعيسى «الإبل» بشد اللام وهي السحاب فيما
ذكر قوم من اللغويين والنقاش، وقرأ الجمهور «خلقت» بفتح القاف
وضم الخاء، وقرأ علي بن أبي طالب «خلقت» بفتح الخاء وسكون
القاف على فعل التكلم، وكذلك رفعت ونصبت «وسطحت» ، وقرأ أبو
حيوة «رفّعت» و «نصّبت» و «سطّحت» بالتشديد فيها، ونُصِبَتْ
معناه: أثبتت قائمة في الهواء لا تنتطح، وقرأ الجمهور «سطحت» ،
وقرأ هارون الرشيد «سطّحت» بشد الطاء على المبالغة، وهي قراءة
الحسن، وظاهر هذه الآية أن الأرض سطح لا كرة، وهو الذي عليه
أهل العلم، والقول بكريتها وإن كان لا ينقص ركنا من أركان
الشرع، فهو قول لا يثبته علماء الشرع، ثم أمر تعالى نبيه
بالتذكير بهذه الآية ونحوها، ثم نفى أن يكون مصيطرا على الناس،
أي قاهرا جاهدا لهم مع تكبر تسلطا عليهم، يقال تسيطر علينا
فلان، وقرأ بعض الناس «بمسيطر» بالسين وبعضهم بالصاد، وقد تقدم
وقرأ هارون «بمصيطر» بفتح الطاء وهي لغة تميم وليس في كلام
العرب على هذا البناء غير مسيطر ومبيطر ومبيقر ومهيمن. وقوله
تعالى: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ قال بعض المتأولين
الاستثناء متصل والمعنى إِلَّا مَنْ تَوَلَّى فإنك مصيطر عليه
فالآية على هذا لا نسخ فيها وقال آخرون منهم:
الاستثناء منفصل، والمعنى لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ وتم
الكلام. وهي آية موادعة منسوخة بالسيف ثم قال إِلَّا مَنْ
تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ، وهذا هو القول
الصحيح لأن السورة مكية، والقتال إنما نزل بالمدينة، ومَنْ
بمعنى الذي. وقرأ ابن عباس وزيد بن أسلم وقتادة وزيد بن على
«ألا من تولى» بفتح الهمزة على معنى: استفتاح الكلام، ومَنْ
على هذه القراءة شرطية، والْعَذابَ الْأَكْبَرَ عذاب الآخرة
لأنهم قد عذبوا في الدنيا بالجوع والقتل وغيره، وقرأ ابن مسعود
«فإنه يعذبه الله» وقرأ الجمهور «إيابهم» مصدر من آب يؤوب إذا
رجع، وهو الحشر، والمراد إلى الله، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع
«إيّابهم» بشد الياء على وزن فعال بكسر الفاء أصله فيعال من
أيب فعل أصله فيعل، ويصح أن يكون أوب فيجيء إيوابا، وسهلت
الهمزة وكان اللازم في الإدغام يردها أوابا، لكن استحسنت فيه
الياء على غير قياس. (انتهى) .
(5/475)
وَالْفَجْرِ (1)
وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ
إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ
الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي
الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ
بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ
طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ
(12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ
رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الفجر
وهي مكية عند جمهور المفسرين، وحكى أبو عمرو الداني في كتابه
المؤلف في تنزيل القرآن عن بعض العلماء أنه قال: هي مدنية،
والأول أشهر وأصح.
قوله عز وجل:
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ
(3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي
لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ
جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي
الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ
عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصادِ (14)
قال جمهور من المتأولين: الْفَجْرِ هنا المشهور الطالع كل يوم،
قال ابن عباس: «الفجر» النهار كله، وقال ابن عباس أيضا وزيد بن
أسلم: «الفجر» الذي أقسم الله به، صلاة الصبح، وقراءتها هو
قرآن الفجر، وقال مجاهد: إنما أراد فجر يوم النحر، وقال
الضحاك: المراد فجر ذي الحجة، وقال مقاتل:
المراد فجر ليلة جمع، وقال ابن عباس: أيضا: المراد فجر أول يوم
من المحرم، لأنه فجر السنة، وقيل المراد فجر العيون من الصخور
وغيرها. وقال عكرمة: المراد فجر يوم الجمعة. واختلف الناس في
«الليالي العشر» فقال بعض الرواة: هي العشر الأولى من رمضان،
وقال الضحاك وابن عباس: هي العشر الأواخر من رمضان، وقال بنان
وجماعة من المتأولين: هي العشر الأولى من المحرم، وفيه يوم
عاشوراء، وقال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي وعطية العوفي وابن
الزبير رضي الله عنه: هي عشر ذي الحجة، وقال مجاهد: هي عشر
موسى التي أتمها الله له، وقرأ الجمهور «وليال» ، وقرأ بعض
القراء «وليالي عشر» بالإضافة وكأن هذا على أن العشر مشار إليه
معين بالعلم به، ثم وقع القسم بلياليه فكأن العشر اسم لزمه حتى
عومل معاملة الفرد، ثم وصف ومن راعى فيه الليالي قال العشر
الوسط، واختلف الناس في الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فقال جابر عن
النبي صلى الله عليه وسلم: الشَّفْعِ يوم النحر وَالْوَتْرِ
يوم عرفة وروى أيوب عنه صلى الله عليه وسلم قال: «الشفع يوم
عرفة ويوم الأضحى، والوتر ليلة النحر» ، وروى عمران بن حصين
عنه عليه السلام أنه قال: «هي الصلوات منها الشفع ومنها الوتر»
، وقال ابن الزبير وغيره:
الشَّفْعِ اليومان من أيام التشريق، وَالْوَتْرِ، اليوم
الثالث، وقال آخرون: الشَّفْعِ، العالم
(5/476)
وَالْوَتْرِ، الله إذ هو الواحد محضا وسواه
ليس كذلك، وقال بعض المتأولين: الشَّفْعِ آدم وحواء،
والْوَتْرِ الله، وقال ابن سيرين ومسروق وأبو صالح: الشَّفْعِ
وَالْوَتْرِ شائعان الخلق كله، الإيمان والكفر والإنس والجن
وما اطرد على نحو هذا فهي أضداد أو كالأضداد، وترها الله تعالى
فرد أحد. وقيل الشَّفْعِ: الصفا والمروة، وَالْوَتْرِ البيت،
وقال الحسن بن الفضل: الشَّفْعِ أبواب الجنة لأنها ثمانية
أبواب، وَالْوَتْرِ أبواب النار لأنها سبعة أبواب، وقال مقاتل:
الشَّفْعِ الأيام والليالي، وَالْوَتْرِ يوم القيامة لأنه لا
ليل بعده، وَالْوَتْرِ اتحاد صفات الله تعالى، عز محض وكرم محض
ونحوه، وقيل:
الشَّفْعِ، قرآن الحج والعمرة، وَالْوَتْرِ الإفراد في الحج،
وقال الحسن: أقسم الله تعالى بالعدد لأنه إما شفع وإما وتر،
وقال بعض المفسرين: الشَّفْعِ حواء وَالْوَتْرِ آدم عليه
السلام. وقال ابن عباس ومجاهد: الْوَتْرِ صلاة المغرب
والشَّفْعِ صلاة الصبح، وقال أبو العالية: الشَّفْعِ الركعتان
من المغرب وَالْوَتْرِ الركعة الأخيرة. وقال بعض العلماء:
الشَّفْعِ تنفل الليل مثنى مثنى وَالْوَتْرِ الركعة الأخيرة
المعروفة. وقرأ جمهور القراء والناس «والوتر» بفتح الواو، وهي
لغة قريش وأهل الحجاز، وقرأ حمزة والكسائي والحسن بخلاف وأبو
رجاء وابن وثاب وطلحة والأعمش وقتادة: «والوتر» بكسر الواو،
وهي لغة تميم وبكر بن وائل، وذكر الزهراوي أن الأغر رواها عن
ابن عباس وهما لغتان في الفرد، وأما الدخل فإنما هو وتر بالكسر
لا غير، وقد ذكر الزهراوي أن الأصمعي حكى فيه اللغتين الفتح
والكسر، وسرى الليل ذهابه وانقراضه، هذا قول الجمهور، وقال ابن
قتيبة والأخفش وغيره: المعنى إذا يسري فيه فيخرج هذا الكلام
مخرج ليل نائم ونهار بطال. وقال مجاهد وعكرمة والكلبي: أراد
بهذا ليلة جمع لأنه يسرى فيها، وقرأ الجمهور: «يسر» دون ياء في
وصل ووقف، وقرأ ابن كثير: «يسري» بالياء في وصل ووقف، وقرأ
نافع وأبو عمرو بخلاف عنه «يسري» بياء في الوصل ودونها في
الوقف وحذفها تخفيف لاعتدال رؤوس الآي إذ هي فواصل كالقوافي،
قال اليزيدي: الوصل في هذا وما أشبهه بالياء، والوقف بغير ياء
على خط المصحف. ووقف تعالى على هذه الأقسام العظام هل فيها
مقنع وحسب لذي عقل. و «الحجر» العقل والنهية، والمعنى فيزدجر
ذو الحجر وينظر في آيات الله تعالى، ثم وقف تعالى على مصانع
الأمم الخالية الكافرة وما فعل ربك من التعذيب والإهلاك،
والمراد بذلك توعد قريش ونصب المثل لها. و «عاد» قبيلة لا خلاف
في ذلك، واختلف الناس في إِرَمَ فقال مجاهد وقتادة: هي القبيلة
بعينها، وهذا على قول ابن الرقيات: [المنسرح]
مجدا تليدا بناه أوله ... أدرك عادا وقبله إرما
وقال زهير: [البسيط]
وآخرين ترى الماذي عدتهم ... من نسج داود أو ما أورثت إرم
قال ابن إسحاق: إِرَمَ هو أبو عاد كلها، وهو عاد بن عوص بن إرم
بن سام بن نوح، وقال: هو أحد أجدادها، وقال جمهور المفسرين:
إِرَمَ مدينة لهم عظيمة كانت على وجه الدهر باليمن، وقال محمد
بن كعب: هي «الإسكندرية» ، وقال سعيد بن المسيب والمقري: هي
دمشق، وهذان القولان
(5/477)
ضعيفان، وقال مجاهد إِرَمَ معناه القديمة،
وقرأ الجمهور «بعاد وإرم» فصرفوا «عادا» على إرادة الحي ونعت ب
إِرَمَ بكسر الهمزة على أنها القبيلة بعينها، ويؤيد هذا قول
اليهود للعرب: سيخرج فينا نبي نتبعه نقتلكم معه قتل عاد وإرم،
فهذا يقتضي أنها قبيلة، وعلى هذه القراءة يتجه أن يكون إِرَمَ
أبا لعاد أو جدا غلب اسمه على القبيل، وقرأ الحسن بن أبي الحسن
«بعاد إرم» بترك الصرف في «عاد» وإضافتها إلى إِرَمَ، وهذا
يتجه على أن يكون إِرَمَ أبا أو جدا وعلى أن تكون مدينة، وقرأ
الضحاك «بعاد أرم» بفتح الدال والهمزة من «أرم» وفتح الراء
والميم على ترك الصرف في «عاد» والإضافة، وقرأ ابن عباس
والضحاك «بعاد إرم» بشد الميم على الفعل الماضي بمعنى بلي وصار
رميما، يقال ارم العظم وأرم وأرمه الله تعدية رم بالهمزة، وقرأ
ابن عباس أيضا: «ارم ذات» بالنصب في التاء على إيقاع الإرمام
عليها، أي أبلاها ربك وجعلها رميما، وقرأ ابن الزبير: «أرم ذات
العماد» بفتح الهمزة وكسر الراء، وهي لغة في المدينة، وقرأ
الضحاك بن مزاحم «أرم» بسكون الراء وفتح الهمزة وهو تخفيف في
«ارم» كفخذة وفخذ، واختلف الناس في قوله تعالى: ذاتِ الْعِمادِ
فمن قال إِرَمَ مدينة، قال العماد أعمدة الحجارة التي بنيت
بها، وقيل القصور العالية والأبراج يقال لها عماد، ومن قال
إِرَمَ قبيلة قال الْعِمادِ إما أعمدة بنيانهم وإما أعمدة
بيوتهم التي يرحلون بها لأنهم كانوا أهل عمود ينتجعون البلاد،
قاله مقاتل وجماعة.
وقال ابن عباس: هي كناية عن طول أبدانهم، وقرأ الجمهور: «يخلق»
بضم الياء وفتح اللام «مثلها» رفعا، وقرأ ابن الزبير «يخلق»
بفتح الياء وضم اللام «ومثلها» نصبا، وذكر أبو عمرو الداني عنه
أنه قرأ «نخلق» بالنون وضم اللام «مثلها» نصبا، وذكر التي قبل
هذه عن عكرمة، والضمير في مِثْلُها يعود إما على المدينة وإما
على القبيلة، وقرأ يحيى بن وثاب «وثمودا» بتنوين الدال،
وجابُوا الصَّخْرَ معناه خرقوه ونحتوه، وكانوا في أوديتهم قد
نحتوا بيوتهم في حجارة، و «الوادي» ما بين الجبلين وإن لم يكن
فيه ماء، هذا قول كثير من المفسرين في معنى جابُوا الصَّخْرَ
بِالْوادِ. وقال الثعلبي: يريد بوادي القرى، وقال قوم:
المعنى جابوا واديهم وجلبوا ماءهم في صخر شقوه، وهذا فعل ذوي
القوة والآمال، وقرأ ابن كثير «بالوادي» بياء، وقرأ أكثر
السبعة «بالواد» دون ياء واختلف في ذلك نافع، وقد تقدم هذا،
وَفِرْعَوْنَ هو فرعون موسى، واختلف الناس في أوتاده فقيل
أبنيته العالية العظيمة، قاله محمد بن كعب، وقيل جنوده الذين
بهم يثبت ملكه وقيل المراد أوتاد أخبية عساكره وذكرت لكثرتها
ودلالتها على غزواته وطوفه في البلاد، قاله ابن عباس ومنه قول
الأسود بن يعفر:
في ظل ملك ثابت الأوتاد وقال قتادة: كان له أوتاد يلعب عليها
الرجال بين يديه وهو مشرف عليهم، وقال مجاهد: كان يوتد الناس
بأوتاد الحديد يقتلهم بذلك يضربها في أبدانهم حتى تنفذ إلى
الأرض، وقيل إنما فعل ذلك بزوجته آسية، وقيل إنما فعل بماشطة
ابنته لأنها كانت آمنت بموسى، والطغيان تجاوز الحدود، والصب
يستعمل في السوط لأنه يقتضي سرعة في النزول، ومنه قول الشاعر
في المحدودين في الإفك:
فصبت عليهم محصرات كأنها ... شآبيب ليست من سحاب ولا قطر
ومن ذلك قول المتأخر في صفة الخيل:
(5/478)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ
إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا
ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)
وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ
الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ
دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا
(22)
صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها
أيد سراع وأرجل
وإنما خص «السوط» بأن يستعار للعذاب لأنه يقتضي من التكرار
والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره، وقال بعض اللغويين:
«السوط» هنا مصدر من ساط يسوط إذا اختلط فكأنه قال خلط عذاب، و
«المرصاد» موضع الرصد، قاله اللغويون، أي أنه عند لسان كل
قائل، ومرصد لكل فاعل، وعلى هذا التأويل في المرصاد جواب عامر
بن عبد قيس لعثمان حين قال له: أين ربك يا أعرابي؟ قال
بالمرصاد، ويحتمل أن يكون «المرصاد» في الآية اسم فاعل كأنه
قال لبالراصد فعبر بالمبالغة، وروي في بعض الحديث أن على جسر
جهنم ثلاث قناطر على إحداهما الأمانة وعلى إحداهما [الرحم]
وعلى الأخيرة الرب تبارك وتعالى، فذلك قوله لَبِالْمِرْصادِ.
قوله عز وجل:
[سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 22]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ
وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا
مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)
وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ
التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ
الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ
صَفًّا صَفًّا (22)
ذكر الله تعالى في هذه الآية: ما كانت قريش تقوله تستدل به على
إكرام الله تعالى وإهانته لعبده، وذلك أنهم كانوا يرون أن من
عنده الغنى والثروة والأولاد فهو المكرم، وبضده المهان، ومن
حيث كان هذا المقطع غالبا على كثيرين من الكفار، جاء التوبيخ
في هذه الآية لاسم الجنس، إذ يقع بعض المؤمنين في شيء من هذا
المنزع، ومن ذلك حديث الأعراب الذين كانوا يقدمون المدينة على
النبي صلى الله عليه وسلم، فمن نال خيرا قال هذا دين حسن، ومن
ناله شر قال هذا دين سوء، وابْتَلاهُ معناه: اختبره،
ونَعَّمَهُ معناه: جعله ذا نعمة، وقرأ ابن كثير «أكرمني»
بالياء في وصل ووقف وحذفها عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في
الوجهين، وقرأ نافع بالياء في الوصل وحذفها في الوقف، وكذلك
«أهانني» ، وخير في الوجهين أبو عمرو، وقرأ جمهور الناس:
«فقدر» بتخفيف الدال، بمعنى ضيق، وقرأ الحسن بخلاف وأبو جعفر
وعيسى «قدر» بمعنى: جعله على قدر، وهما بمعنى واحد في معنى
التضييق لأنه ضعف قدر مبالغة لا تعدية، ويقتضي ذلك قول الإنسان
أَهانَنِ، لأن «قدر» معدى إنما معناه أعطاه ما يكفيه ولا إهانة
مع ذلك. ثم قال تعالى: كَلَّا ردّا على قولهم ومعتقدهم، أي ليس
إكرام الله تعالى وإهانته، في ذلك، وإنما ذلك ابتلاء فحق من
ابتلي بالغنى أن يشكر ويطيع، ومن ابتلي بالفقر أن يشكر ويصبر،
وأما إكرام الله تعالى فهو بالتقوى، وإهانته فبالمعصية، ثم
أخبرهم بأعمالهم من أنهم لا يكرمون اليتيم وهو من بني آدم الذي
فقد أباه وكان غير بالغ. ومن البهائم ما فقد أمه، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم: «أحبّ البيوت إلى الله، بيت فيه يتيم
مكرم» ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «يحضون» بمعنى: يحض
بعضهم بعضا أو
(5/479)
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ
بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى
لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ
لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
(25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ
رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)
وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
تحضون أنفسكم، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي
«تحاضون» بفتح التاء بمعنى تتحاضون، أي يحض قوم قوما، وقرأ أبو
عمرو و «يحضون» بياء من تحت مفتوحة وبغير ألف، وقرأ عبد الله
بن المبارك «تحاضون» بضم التاء على وزن تقاتلون، أي أنفسكم، أي
بعضكم بعضا ورواها الشيرزي عن الكسائي، وقد يجيء فاعلت بمعنى
فعلت وهذا منه، وإلى هذا ذهب أبو علي وأنشد:
تحاسنت به الوشي ... قرات الرياح وخوزها
أي حسنت وأنشد أيضا: [لرجز] إذا تخازرت وما بي من خزر ويحتمل
أن تكون مفاعلة، ويتجه ذلك على زحف ما فتأمله، وقرأ الأعمش
«تتحاضون» بتاءين، وطَعامِ في هذه الآية بمعنى إطعام، وقال
قوم: أراد نفس طعامه الذي يأكل، ففي الكلام حذف تقديره على بدل
طَعامِ الْمِسْكِينِ، وقد تقدم القول في (سورة براءة) في
المسكين والفقير بمعنى يغني عن إعادته، وعدد عليهم جدهم في أكل
التراث لأنهم لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد إنما كان يأخذ
المال من يقاتل ويحمي الحوزة. و «اللّم» : الجمع واللف. قال
الحسن: هو أن يأخذ في الميراث حظه وحظ غيره، وقال أبو عبيدة:
لممت ما على الخوان إذا أكلت جميع ما عليه بأسره، ومنه لم
الشعث، ومنه قول النابغة: [الطويل]
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أي الرجال المهذب
والجم: الكثير الشديد، ومنه قول الشاعر [أبو خراش الهذلي] :
[الرجز]
إن تغفر اللهم تغفر جمّا ... وأي عبد لك لا ألمّا
ومنه «الجم» من الناس، ثم قال تعالى: كَلَّا ردا على أفعالهم
هذه وتوطئة للوعيد، أي سيرون أفعالهم ليس على قوم إِذا دُكَّتِ
الْأَرْضُ، ودك الأرض تسويتها بذهاب جبالها، والناقة الدكاء
التي لا سمن لها، وقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ
معناه: وجاء قدره وسلطانه وقضاؤه، قال منذر بن سعيد:
معناه: ظهوره للخلق هنالك ليس مجيء نقلة وكذلك مجيء الصاخة
ومجيء الطامة، والْمَلَكُ اسم جنس: يريد جميع الملائكة، وروي
أن ملائكة كل سماء تكون صَفًّا حول الأرض في يوم القيامة، وذكر
الطبري في ذلك حديثا طويلا اختصرته، وبهذا المعنى يتفسر قوله
تعالى: يَوْمَ التَّنادِ [غافر: 32] على قراءة من شد الدال.
وقوله تعالى في سورة الرحمن: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ
تَنْفُذُوا [الرحمن: 33] الآية. وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع
وابن عامر وحمزة والكسائي في هذه الآية «تكرمون» بالتاء، وكذلك
سائر الأفعال بعدها على الخطاب، وقرأ أبو عمرو والحسن ومجاهد
وأبو رجاء وقتادة والجحدري «يكرمون» في جميعها على ذكر الغائب
إذ قد تقدم اسم جنس الإنسان.
قوله عز وجل:
[سورة الفجر (89) : الآيات 23 الى 30]
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ
الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا
لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ
عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)
ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي
فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
(5/480)
روي في قوله تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ
بِجَهَنَّمَ أنها تساق إلى الحشر بسبعين ألف زمام، يمسك كل
زمام سبعون ألف ملك فيخرج منها عنق فينتقي الجبابرة من الكفار
في حديث طويل مختلف الألفاظ، و «جهنم» هنا: هي النار بجملتها،
وروي أنه لما نزلت وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ تغير لون
النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: يَتَذَكَّرُ
الْإِنْسانُ معناه: يتذكر عصيانه وطغيانه، وينظر ما فاته من
العمل الصالح. ثم قال تعالى: وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ثم ذكر
عنه أنه يقول: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي، واختلف في
معنى قوله: لِحَياتِي فقال جمهور المتأولين معناه: لِحَياتِي
الباقية يريد في الآخرة، وقال قوم من المتأولين: المعنى
لِحَياتِي في قبري عند بعثي الذي كنت أكذب به وأعتقد أني لن
أعود حيا. وقال آخرون: لِحَياتِي هنا مجاز، أي لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ عملا صالحا لأنعم به اليوم وأحيا حياة طيبة، فهذا
كما يقول الإنسان أحييتني في هذا الأمر، وقال بعض المتأولين
لوقت أو لمدة حياتي الماضية في الدنيا، وهذا كما تقول جئت
لطلوع الشمس ولتاريخ كذا ونحوه. وقرأ جمهور القراء وعلي بن أبي
طالب وابن عباس وأبو عبد الرحمن: «يعذّب» و «يوثق» بكسر الذال
الثاء، وعلى هذه القراءة، فالضمير عائد في عذابه ووثاقه لله
تعالى، والمصدر مضاف إلى الفاعل ولذلك معنيان: أحدهما أن الله
تعالى لا يكل عذاب الكفار يومئذ إلى أحد، والآخر أن عذابه من
الشدة في حيز لم يعذب قط أحد بمثله، ويحتمل أن يكون الضمير
للكافر والمصدر مضاف إلى المفعول، وقرأ الكسائي وابن سيرين
وابن أبي إسحاق وسوار القاضي «يعذّب» و «يوثق» بفتح الذال
والثاء ورويت كثيرا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالضميران
على هذا للكافر الذي هو بمنزلة جنسه كله والمصدر مضاف إلى
المفعول ووضع عذاب موضع تعذيب كما قال [القرطبي] :
[الوافر] وبعض عطائك المائة الرتاعا ويحتمل أن يكون الضميران
في هذه القراءة لله تعالى، كأنه قال: لا يعذب أحد قط في الدنيا
عذاب الله للكفار، فالمصدر مضاف إلى الفاعل، وفي هذا التأويل
تحامل، وقرأ الخليل بن أحمد «وثاقه» بكسر الواو. ولما فرغ ذكر
هؤلاء المعذبين عقب تعالى بذكر نفوس المؤمنين وحالهم فقال: يا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ الآية،
والْمُطْمَئِنَّةُ معناه: الموقنة غاية اليقين، ألا ترى أن
إبراهيم عليه السلام قال: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
[البقرة: 260] ، فهي درجة زائدة على الإيمان، وهي أن لا يبقى
على النفس في يقينها مطلب يحركها إلى تحصيله، واختلف الناس في
هذا النداء متى يقع فقال ابن زيد وغيره: هو عند خروج نفس
المؤمن من جسده في الدنيا. وروي أن أبا بكر الصديق سأل عن ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «إن الملك سيقولها لك
يا أبا بكر عند موتك» ، ومعنى ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ على هذا
التأويل، ارْجِعِي بالموت، وقال: وقوله فِي عِبادِي أي في
أعداد عبادي الصالحين، وهذه قراءة الجمهور
(5/481)
بجمع «عبادي» ، وقال قوم: النداء عند قيام
الأجساد من القبور، فقوله: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ معناه بالبعث
من موتك ارجعي إلى الله. وقيل الرب هنا الإنسان ذو النفس، أي
ادْخُلِي في الأجساد، والنَّفْسُ اسم جنس، وقال بعض العلماء:
هذا النداء هو الآن للمؤمنين لما ذكر حال الكفار قال يا مؤمنون
دوموا وجدوا حتى ترجعوا راضين مرضيين، ف النَّفْسُ على هذا اسم
الجنس، وقرأ ابن عباس وعكرمة وأبو شيخ والضحاك واليماني ومجاهد
وأبو جعفر: «فادخلي في عبدي» ، والنَّفْسُ على هذا ليست باسم
الجنس، وإنما خاطب مفردة. قال أبو شيخ: الروح يدخل في البدن،
وفي مصحف أبي بن كعب: «يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة إيتي
ربك راضية مرضية فارجعي في عبدي» ، وقرأ سالم بن عبد الله
«فادخلي في عبادي ولجي جنتي» ، وتحتمل قراءة «عبدي» أن يكون
العبد اسم جنس جعل عباده كالشيء الواحد دلالة على الالتحام كما
قال عليه السلام وهم يد على من سواهم وقال آخرون: إنما هو في
الموقف عند ما ينطلق بأهل النار إلى النار، فنداء النفوس على
هذا إنما هو نداء أرباب النفوس، ومعنى ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ
على هذا إلى رحمة ربك، والعباد هنا الصالحون المنعمون.
(5/482)
|