تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)

بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة التّين
قوله عز وجل:

[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
اختلف الناس في معنى التِّينِ وَالزَّيْتُونِ اللذين أقسم الله تعالى بهما، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم وعطاء وجابر بن زيد ومقاتل: هو التِّينِ الذي يؤكل وَالزَّيْتُونِ الذي يعصر، وأكل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه تينا أهدي إليه، فقال: «لو قلت إن فاكهة أنزلت من الجنة لقلت هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم، فكلوا فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس» ، وقال عليه السلام: «نعم السواك سواك الزيتون ومن الشجرة المباركة هي سواكي وسواك الأنبياء قبلي» ، وقال كعب وعكرمة: القسم بمنابتها، وذلك أن التِّينِ ينبت بدمشق، وَالزَّيْتُونِ ينبت بإيلياء فأقسم الله تعالى بالأرضين، وقال قتادة: هما جبلان بالشام، على أحدهما دمشق، وعلى الآخر بيت المقدس، وقال ابن زيد: التِّينِ مسجد دمشق، وَالزَّيْتُونِ مسجد إلياء، وقال ابن عباس وغيره: التِّينِ مسجد نوح وَالزَّيْتُونِ مسجد إبراهيم، وقيل التِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ، ثلاثة مساجد بالشام، وقال محمد بن كعب القرظي: التِّينِ مسجد أصحاب الكهف، وَالزَّيْتُونِ مسجد إيلياء، وأما طُورِ سِينِينَ، فلم يختلف أنه جبل بالشام كلم الله عليه موسى، ومنه نودي، وفيه مسجد موسى فهو الطور، واختلف في قوله سِينِينَ، فقال مجاهد وعكرمة: معناه حسن مبارك، وقيل معناه ذو الشجر، وقرأ الجمهور بكسر السين «سينين» ، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو رجاء بفتح السين وهي لغة بكر وتميم «سينين» ، وقرأ عمر بن الخطاب وطلحة والحسن وابن مسعود: «سيناء» بكسر السين، وقرأ أيضا عمر بن الخطاب: «سيناء» بالفتح، والْبَلَدِ الْأَمِينِ مكة بلا خلاف، وقيل معنى سِينِينَ: المبارك، وقيل معنى سِينِينَ: شجر واحدتها سينية، قاله الأخفش سعيد بن مسعدة و «أمين» : فعيل من الأمن بمعنى آمن أي آمن من فيه ومن دخله وما فيه من طير وحيوان، والقسم واقع على قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ينبغي له، ولا يدفع هذا أن يكون غيره من المخلوقات كالشمس وغيرها أحسن تقويما منه بالمناسبة، وقال بعض العلماء بالعموم أي «الإنسان» أحسن المخلوقات تقويما، ولم ير قوم الحنث على من حلف بالطلاق أن زوجته

(5/499)


أحسن من الشمس، واحتجوا بهذه الآية، واختلف الناس في تقويم الإنسان ما هو؟ فقال النخعي ومجاهد وقتادة: حسن صورته وحواسه، وقال بعضهم: هو انتصاب قامته، وقال أبو بكر بن طاهر في كتاب الثعلبي:
هو عقله وإدراكه اللذان زيناه بالتمييز، وقال عكرمة: هو الشباب والقوة، والصواب أن جميع هذا هو حسن التقويم إلا قول عكرمة، إذ قوله يفضل فيه بعض الحيوان، والْإِنْسانَ هنا اسم الجنس. وتقدير الكلام في تقويم أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، لأن أَحْسَنِ صفة لا بد أن تجري على موصوف، واختلف الناس في معنى قوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، فقال عكرمة وقتادة والضحاك والنخعي: معناه بالهرم وذهول العقل وتفلت الفكر حتى يصير لا يعلم شيئا، أما إن المؤمن مرفوع عنه القلم، والاستثناء على هذا منقطع، وهذا قول حسن وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا بل في الجنس من يعتريه ذلك وهذه عبرة منصوبة، وقرأ ابن مسعود: «السافلين» بالألف واللام، ثم أخبر أن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وإن نال بعضهم هذا في الدنيا فَلَهُمْ في الآخرة أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، وقال الحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وأبو العالية: المعنى رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ في النار على كفره ثم استثنى الَّذِينَ آمَنُوا استثناء منفصلا، فهم على هذا ليس فيهم من يرد أسفل سافلين في النار على كفره، وفي حديث عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بلغ المؤمن خمسين سنة خفف الله تعالى حسابه، فإذا بلغ ستين رزقه الإنابة، فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانين كتبت حسناته وتجاوز الله عن سيئاته، فإذا بلغ تسعين غفرت ذنوبه وشفع في أهل بيته وكان أسير الله في أرضه، فإذا بلغ مائة ولم يعمل شيئا كتب الله له ما كان يعمل في صحته ولم تكتب عليه سيئة» . وفي حديث «إن المؤمن إذا رد إلى أرذل العمر كتب الله له خير ما كان يعمله في قوته، وذلك أجر غير ممنون» . ومَمْنُونٍ معناه: محسوب مصرّد يمن عليهم، قاله مجاهد وغيره، وقال كثير من المفسرين معناه مقطوع من قولهم حبل منين، أي ضعيف منقطع، واختلف في المخاطب بقوله تعالى: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ فقال قتادة والفراء والأخفش: هو محمد عليه السلام، قال الله له: فماذا الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث وهو الدين بعد هذه العبر التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت، ويحتمل أن يكون «الدين» على هذا التأويل جميع دينه وشرعه، وقال جمهور من المتأولين: المخاطب الإنسان الكافر، أي ما الذي يجعلك كذابا بالدين، تجعل له أندادا، وتزعم أن لا بعث بعد هذه الدلائل، وقال منصور قلت لمجاهد: قوله تعالى: فَما يُكَذِّبُكَ يريد به النبي صلى الله عليه وسلم قال معاذ الله يعني به الشاك، ثم وقف تعالى جميع خلقه على أنه أحكم الْحاكِمِينَ على جهة التقرير، وروي عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه السورة قال: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.

(5/500)


اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة العلق
وهي مكية بإجماع. وهي أول ما نزل من كتاب الله تعالى، نزل صدرها في غار حراء حسبما ثبت في صحيح البخاري وغيره، وروي من طريق جابر بن عبد الله أن أول ما نزل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل: أول ما نزل فاتحة الكتاب، والقول الأول أصح، والترتيب في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك.
قوله عز وجل:

[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9)
عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14)
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
في صحيح البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها، قال: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه التحنث في غار حراء، فكان يخلو فيه فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ثم ينصرف حتى جاءه الملك وهو في غار حراء، فقال له: اقْرَأْ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني ثم كذلك ثلاث مرات، فقال له في الثالثة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ إلى قوله ما لَمْ يَعْلَمْ، قال فرجع بها رسول ترجف بوادره الحديث بطوله، ومعنى هذه الآية، اقْرَأْ هذا القرآن بِاسْمِ رَبِّكَ، أي ابدأ فعلك بذكر اسم ربك، كما قال: ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ [هود: 41] هذا وجه. ووجه آخر في كتاب الثعلبي أن المعنى: اقْرَأْ في أول كل سورة، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم ووجه آخر أن يكون المقروء الذي أمر بقراءته هو بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، كأنه قال له: اقْرَأْ هذا اللفظ، ولما ذكر الرب وكانت العرب في الجاهلية تسمي الأصنام أربابا جاءه بالصفة التي لا شركة للأصنام فيها، وهي قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ، ثم مثل لهم من المخلوقات ما لا مدافعة فيه، وما يجده كل مفطور في نفسه، فقال: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ،

(5/501)


وخلقة الإنسان من أعظم العبر حتى أنه ليس في المخلوقات التي لدينا أكثر عبرا منه في عقله وإدراكه ورباطات بدنه وعظامه، والعلق جمع علقة، وهي القطعة اليسيرة من الدم، والْإِنْسانَ هنا:
اسم الجنس، ويمشي الذهن معه إلى جميع الحيوان، وليست الإشارة إلى آدم، لأنه مخلوق من طين، ولم يكن ذلك متقررا عند الكفار المخاطبين بهذه الآية، فلذلك ترك أصل الخلقة وسيق لهم الفرع الذي هم به مقرون تقريبا لأفهامهم، ثم قال تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ على جهة التأنيس، كأنه يقول: امض لما أمرت به وربك ليس كهذه الأرباب، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص، فهو ينصرك ويظهرك، ثم عدد تعالى نعمة الكتاب بِالْقَلَمِ على الناس وهي موضع عبرة وأعظم منفعة في المخاطبات وتخليد المعارف، وقوله تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ قيل: المراد محمد عليه السلام، وقيل: اسم الجنس وهو الأظهر، وعدد نعمته اكتساب المعارف بعد جهله بها، وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى الآية نزلت بعد مدة من شأن أبي جهل بن هشام، وذلك أنه طغى لغناه ولكثرة من يغشى ناديه من الناس، فناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة ونهاه عن الصلاة في المسجد، ويروى أنه قال: لئن رأيت محمدا يسجد عند الكعبة لأطأن على عنقه، فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليه القول وانتهره وتوعده، فقال أبو جهل: أيتوعدني، وما والي بالوادي أعظم نديا مني، ويروى أيضا أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي فهمّ بأن يصل إليه ويمنعه من الصلاة، ثم كع عنه وانصرف، فقيل له: ما هذا؟ فقال:
لقد اعترض بيني وبينه خندق من نار، وهول وأجنحة، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو دنا مني لأخذته الملائكة عيانا» ، فهذه السورة من قوله: كَلَّا إلى آخرها نزلت في أبي جهل، وكَلَّا:
هي رد على أقوال أبي جهل وأفعاله، ويتجه أن تكون بمعنى: حقا، فهي تثبيت لما بعدها من القول والطغيان: تجاوز الحدود الجميلة، والغني: مطغ إلا من عصم الله والضمير في رَآهُ للإنسان المذكور، كأنه قال: أن رأى نفسه غنيا، وهي رؤية قلب تقرب من العلم، ولذلك جاز أن يعمل فعل الفاعل في نفسه، كما تقول: وجدتني وطننتني ولا يجوز أن تقول: ضربتني، وقرأ الجمهور: «أن رآه» ، بالمد على وزن رعاه، واختلفوا في الإمالة وتركها، وقرأ ابن كثير من طريق قنبل: «أن رأه» ، على وزن رعه، على حذف لام الفعل وذلك تخفيف، ثم حقر غنى هذا الإنسان وما له بقوله: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
أي الحشر والبعث يوم القيامة، والرُّجْعى
: مصدر كالرجوع، وهو على وزن: العقبى ونحوه، وفي هذا الخبر: وعيد للطاغين من الناس، ثم صرح بذكر الناهي لمحمد عليه السلام، ولم يختلف أحد من المفسرين في أن الناهي: أبو جهل، وأن العبد المصلي محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى:
أَرَأَيْتَ توقيف وهو فعل لا يتعدى إلى مفعولين على حد الرؤية من العلم بل يقتصر به، وقوله تعالى:
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى إكمال للتوبيخ والوعيد بحسب التوقيفات الثلاث يصلح مع كل واحد منهما فجاء بها في نسق ثم جاء بالوعيد الكافي لجميعها اختصارا واقتضابا، ومع كل تقرير من الثلاثة تكملة مقدرة تتسع العبارات فيها، وقوله: أَلَمْ يَعْلَمْ دال عليها مغن، وقوله تعالى: إِنْ كانَ يعني العبد المصلي، وقوله: إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، يعني الإنسان الذي ينهى، ونسب الرؤية إلى الله تعالى بمعنى يدرك أعمال الجميع بإدراك: سماه رؤية، والله منزه عن الجارحة وغير ذلك من المماثلات المحدثات، ثم توعد تعالى

(5/502)


إن لم ينته بأن يؤخذ بناصيته فيجر إلى جهنم ذليلا، تقول العرب: سفعت بيدي ناصية الفرس، والرجل إذا جذبتها مذللا له، قال عمرو بن معد يكرب: [الكامل]
قوم إذا سمعوا الصياح رأيتهم ... ما بين ملجم مهره أو سافع
فالآية على نحو قوله: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرحمن: 41] وقال بعض العلماء بالتفسير:
لَنَسْفَعاً معناه: لنحرقن من قولهم سفعته النار إذا أحرقته، واكتفى بذكر الناصية لدلالتها على الوجه، وجاء لَنَسْفَعاً في خط المصحف بألف بدل النون، وقرأ أبو عمرو في رواية هارون: «لنسفعن» مثقلة النون، وفي مصحف ابن مسعود: «لأسفعن بالناصية ناصية كاذبة فاجرة» ، وقرأ أبو حيوة: «ناصية كاذبة خاطئة» بالنصب في الثلاثة، وروي عن الكسائي أنه قرأ بالرفع فيها كلها، والناصية مقدم شعر الرأس، ثم أبدل النكرة من المعرفة في قوله: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ ووصفها بالكذب والخطإ من حيث صفة لصاحبها، كما تقول: يد سارقة، وقوله: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ إشارة إلى قول أبي جهل، وما بالوادي أكثر ناديا مني، والنادي والندى المجلس ومنه دار الندوة ومنه قول زهير: [الكامل]
وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
ومنه قول الأعرابية: سيد ناديه، وثمال عافية، والزَّبانِيَةَ ملائكة العذاب واحدهم زبنية، وقال الكسائي زبني، وقال عيسى بن عمر والأخفش: زابن وهم الذين يدفعون الناس في النار، والزبن الدفع، ومنه حرب زبون أي تدفع الناس عن نفسها، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترموم
ومنه قول عتبة بن أبي سفيان: وقد زبتنا الحرب وزبناها فنحن بنوها وهي أمنا، ومنه قول الشاعر:
[الوافر]
عدتني عن زيارتك الأعادي ... وحالت بيننا حرب زبون
وحذف الواو من سَنَدْعُ في خط المصحف اختصارا وتخفيفا، والمعنى: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ لعذاب هذا الذي يدعو ناديه، وقرأ ابن مسعود: «فليدع إلى ناديه» ، ثم قال تعالى لمحمد عليه السلام: كَلَّا ردا على قول هذا الكافر وأفعاله لا تُطِعْهُ أي لا تلتفت إلى نهية وكلامه، واسجد لربك واقترب إليه بسجودك وبالطاعة والأعمال الصالحة، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد، فأكثروا من الدعاء في السجود فقمين أن يستجاب لكم» . وقال مجاهد: ثم قال ألم تسمعوا:
وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ، وروى ابن وهب عن جماعة من أهل العلم أن قوله تعالى: وَاسْجُدْ خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن اقْتَرِبْ خطاب لأبي جهل، أي إن كنت تجترئ حتى ترى كيف تهلك، وهذه السورة فيها سجدة عند جماعة من أهل العلم، منهم في مذهب مالك ابن وهب.

(5/503)


إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة القدر
اختلف الناس في موضع نزول هذه السورة، فقال قتادة: هي مكية، وقال ابن عباس وغيره: هي مدنية.
قوله عز وجل:

[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
الضمير في أَنْزَلْناهُ للقرآن وإن لم يتقدم ذكره لدلالة المعنى عليه، فقال ابن عباس وغيره: أنزله الله تعالى ليلة الْقَدْرِ إلى السماء الدنيا جملة، ثم نجمه على محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وقال الشعبي وغيره: إِنَّا ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وقد روي أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان، فيستقيم هذا التأويل وقد روي أنه قد نزل في الرابع عشر من رمضان، فلا يستقيم هذا التأويل إلا على قول من يقول إن ليلة القدر تستدير الشهر كله ولا تختص بالعشر الأواخر، وهو قول ضعيف، حديث النبي صلى الله عليه وسلم يرده في قوله: «فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان» وقال جماعة من المتأولين معنى قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، إنا أنزلنا هذه السورة في شأن ليلة القدر وفي فضلها. وإذا كانت السورة من القرآن جاء الضمير للقرآن تفخيما وتحسينا، فقوله تعالى: فِي لَيْلَةِ هو قول عمر بن الخطاب: لقد خشيت أن ينزل في قرآن ليلة نزول سورة الفتح، ونحو قول عائشة في حديث الإفك: لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل في قرآن، ولَيْلَةُ الْقَدْرِ: هي ليلة خصها الله تعالى بفضل عظيم وجعلها أفضل مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، لا ليلة قدر فيها، قاله مجاهد وغيره، وخصت هذه الأمة بهذه الفضيلة لما رأى محمد عليه السلام أعمال أمته فتقاصرها، وقوله تعالى: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ليلة القدر عبارة عن تفخيم لها، ثم أداره تعالى بعد قوله: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ، قال ابن عيينة في صحيح البخاري ما كان في القرآن: وَما أَدْراكَ فقد أعلمه، وما قال: «وما يدريك» فإنه لم يعلم، وذكر ابن عباس وقتادة وغيره: أنها سميت ليلة القدر، لأن الله تعالى يقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها ويدفع ذلك إلى الملائكة لتمتثله، وقد روي مثل هذا في ليلة النصف من شعبان، ولهذا ظواهر من كتاب الله عز وجل على نحو قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: 4] ، وأما

(5/504)


الصحة المقطوع بها فغير موجودة، وقال الزهري معناه: ليلة القدر العظيم والشرف الشأن من قولك: رجل له قدر، وقال أبو بكر الوراق: سميت ليلة القدر لأنها تكسب من أحياها قدرا عظيما لم يكن من قبل، وترده عظيما عند الله تعالى، وقيل سميت بذلك لأن كل العمل فيها له قدر خطير، وليلة القدر مستديرة في أوتار العشر الأواخر من رمضان، هذا هو الصحيح المعول عليه، وهي في الأوتار بحسب الكمال والنقصان في الشهر، فينبغي لمرتقبها أن يرتقبها من ليلة عشرين في كل ليلة إلى آخر الشهر، لأن الأوتار مع كمال الشهر، ليست الأوتار مع نقصانه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الثالثة تبقى لخامسة تبقى، لسابعة تبقى» ، وقال: «التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة» ، وقال مالك: يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين، وقال ابن حبيب: يريد مالك إذا كان الشهر ناقصا، فظاهر هذا أنه عليه السلام احتاط في كمال شهر ونقصانه، وهذا لا تتحصل معه الليلة إلا بعمارة العشر كله، وروي عن أبي حنيفة وقوم: أن ليلة القدر رفعت، وهذا قول مردود، وإنما رفع تعيينها، وقال ابن مسعود: من يقم السنة كلها يصبها، وقال أبو رزين هي أول ليلة من شهر رمضان، وقال الحسن: هي ليلة سبع عشرة، وهي التي كانت في صبيحتها وقعة بدر، وقال كثير من العلماء: هي ليلة ثلاث وعشرين، وهي رواية عبد الله بن أنيس الجهني، وقاله ابن عباس، وقال أيضا هو وجماعة من الصحابة: هي ليلة سبع وعشرين، واستدل ابن عباس على قوله بأن الإنسان خلق من سبع وجعل رزقه في سبع، واستحسن ذلك عمر رضي الله عنه، وقال زيد بن ثابت وبلال: هي ليلة أربع وعشرين، وقال بعض العلماء: أخفاها الله تعالى عن عباده ليجدوا في العمل ولا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها، ثم عظم تعالى أمر ليلة القدر على نحو قوله: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 2] وغير ذلك، ثم أخبر أنها أفضل لمن عمل فيها عملا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وهي ثمانون سنة وثلاثة أعوام وثلث عام. وروي عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه
قال حين عوتب في تسليمه الأمر لمعاوية: إن الله تعالى أرى نبيه في المنام بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، فاهتم لذلك فأعطاه الله ليلة القدر، وهي خير من مدة ملك بني أمية، وأعلمه أنهم يملكون الناس هذا القدر من الزمان.
قال القاضي أبو محمد: ثم كشف الغيب أن كان من سنة الجماعة إلى قتل مروان الجعدي هذا القدر من الزمان بعينه مع أن القول يعارضه أنه قد ملك بنو أمية في غرب الأرض مدة غير هذه، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» . والرُّوحُ هو جبريل وقيل: هم صنف حفظة الملائكة وقوله تعالى: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ اختلف الناس في معناه، فمن قال إن في هذه الليلة تقدر الأمور للملائكة قال: إن هذا التنزل لذلك، ومِنْ لابتداء الغاية أي نزولهم من أجل هذه الأمور المقدرة وسببها، ويجيء سَلامٌ خبرا بنداء مستأنفا أي سلام هذه الليلة إلى أول يومها، وهذا قول نافع المقرئ والفراء وأبي العالية، وقال بعضهم مِنْ بمعنى الباء أي بكل أمر، ومن لم يقل بقدر الأمور في تلك الليلة قال معنى الآية تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بالرحمة والغفران والفواضل، ثم جعل قوله مِنْ كُلِّ أَمْرٍ متعلقا بقوله: سَلامٌ هِيَ أي من كل أمر مخوف ينبغي أن يسلم منه فهي سلام، وقال مجاهد: لا يصيب أحدا فيها داء. وقال الشعبي ومنصور: سَلامٌ بمعنى

(5/505)


التحية أي تسلم الملائكة على المؤمنين، وقرأ ابن عباس وعكرمة والكلبي: «من كل امرئ» أي يسلم فيها من كل امرئ سوء، فهذا على أن سلاما بمعنى سلامة، وروي عنه أن سلاما بمعنى تحية، «وكل امرئ» يراد بهم الملائكة أي من كل ملك تحية على المؤمنين، وهذا للعاملين فيها بالعبادة. وذهب من يقول بانتهاء الكلام في قوله: سَلامٌ إلى أن قوله هِيَ إنما هذا إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين من الشهر، إذ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات السورة، وذكر هذا الغرض ابن بكير وأبو بكر الوراق والنقاش عن ابن عباس، وقرأ جمهور السبعة: «حتى مطلع الفجر» بفتح اللام، وقرأ الكسائي والأعمش وأبو رجاء وابن محيصن وطلحة: «حتى مطلع» بكسر اللام، فقيل هما بمعنى مصدران في لغة بني تميم، وقيل الفتح المصدر والكسر موضع الطلوع عند أهل الحجاز، والقراءة بالفتح أوجه على هذا القول، والأخرى تتخرج على تجوز كان الوقت ينحصر في ذلك الموضع ويتم فيه، ويتجه الكسر على وجه آخر، وهو أنه قد شذ من هذه المصادر ما كسر كالمعجزة، وقولهم علاه المكبر بفتح الميم وكسر الباء، ومنه المحيض فيجري المطلع مصدرا مجرى ما شذ، وفي حرف أبيّ بن كعب رضي الله عنه: «سلام هي إلى مطلع الفجر» .

(5/506)


لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)

بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة البيّنة
وهي مكية في قول جمهور المفسرين، وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار إنها مدنية والأول أشهر.
قوله عز وجل:

[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
وفي حرف أبي بن كعب: «ما كان الذين» ، وفي حرف ابن مسعود: «لم يكن المشركين وأهل الكتاب منفكين» . وقوله تعالى: مُنْفَكِّينَ معناه منفصلين متفرقين، تقول انفك الشيء عن الشيء إذا انفصل عنه، وما انفك التي هي من أخوات كان لا مدخل بها في هذه الآية، ونفى في هذه الآية أن تكون هذه الصنيعة منفكة، واختلف الناس عماذا، فقال مجاهد وغيره: لم يكونوا مُنْفَكِّينَ عن الكفر والضلال حتى جاءتهم البينة، وأوقع المستقبل موضع الماضي في تَأْتِيَهُمُ، لأن باقي الآية وعظمها لم يرده بعد، وقال الفراء وغيره: لم يكونوا مُنْفَكِّينَ عن معرفة صحة نبوة محمد عليه السلام، والتوكف لأمره حتى جاءتهم البينة تفرقوا عند ذلك، وذهب بعض النحويين إلى هذا النفي المتقدم مع مُنْفَكِّينَ يجعلها تلك التي هي مع كان، ويرى التقدير في خبرها عارفين أمر محمد أو نحو هذا، ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى، وذلك أن يكون المراد لم يكن هؤلاء القوم مُنْفَكِّينَ من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم حتى يبعث إليهم رسولا منذرا تقوم عليهم به الحجة، وتتم على من آمن النعمة، فكأنه قال: ما كانوا ليتركوا سدى وبهذا المعنى نظائر في كتاب الله تعالى، وقرأ بعض الناس: «والمشركون» بالرفع، وقرأ الجمهور:
«والمشركين» بالخفض ومعناهما بين، والْبَيِّنَةُ معناه: القصة البينة والجلية، والمراد محمد عليه السلام، وقرأ الجمهور: «رسول الله» بالرفع وقرأ أبي: «رسولا» بالنصب على الحال، والصحف المطهرة: القرآن في صحفه، قاله الضحاك وقتادة، وقال الحسن الصحف المطهرة في السماء، وقوله عز وجل: فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ فيه حذف مضاف تقديره فيها أحكام كتب وقيمة: معناه قائمة معتدلة آخذة للناس

(5/507)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

بالعدل وهو بناء مبالغة، فإلى قَيِّمَةٌ هو ذكر من آمن من الطائفتين، ثم ذكر تعالى مذمة من لم يؤمن من أهل الكتاب من بني إسرائيل من أنهم لم يتفرقوا في أمر محمد إلا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة، وكانوا من قبل مصفقين على نبوته وصفته، فلما جاء من العرب حسدوه، وقرأ جمهور الناس: «مخلصين» بكسر اللام، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «مخلصين» بفتح اللام، وكأن الدِّينَ على هذه القراءة منصوب ب بَعْدِ أو بمعنى يدل عليه على أنه كالظرف أو الحال، وفي هذا نظر، وقيل لعيسى عليه السلام: من المخلص لله؟ قال الذي يعمل العمل لله ولا يحب أن يحمده الناس عليه، وحُنَفاءَ: جمع حنيف وهو المستقيم المائل إلى طرق الخير، قال ابن جبير: لا تسمي العرب حنيفا إلا من حج واختتن، وقال ابن عباس: حُنَفاءَ: حجاجا مسلمين، وحُنَفاءَ نصب على الحال، وكون «الصلاة» مع «الزكاة» في هذه الآية مع ذكر بني إسرائيل فيها يقوي من قول السورة مدنية، لأن الزَّكاةَ فرضت بالمدينة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دفع لمناقضة أهل الكتاب بالمدينة، وقرأ الجمهور: «وذلك دين القيمة» على معنى الجماعة القيمة أو الفرقة القيمة، وقال محمد بن الأشعث الطالقاني: هنا الكتب التي جرى ذكرها، وقرأ بعض الناس: «وذلك الدين القيمة» ، فالهاء في «القيمة» على هذه القراءة كعلامة ونسابة، ويتجه ذلك أيضا على أن يجعل الدِّينَ بمنزلة الملة.
قوله عز وجل:

[سورة البينة (98) : الآيات 6 الى 8]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
حكم الله في هذه الآية بتخليد الكافرين من أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ وهم عبدة الأوثان في النار وبأنهم شَرُّ الْبَرِيَّةِ، و «البرية» جميع الخلق لأن الله تعالى برأهم أو أوجدهم بعد العدم، وقرأ نافع وابن عامر والأعرج: «البريئة» بالهمز من برأ، وقرأ الباقون والجمهور: «البريّة» بشد الياء بغير همز على التسهيل، والقياس الهمز إلا أن هذا مما ترك همزه كالنبي والذرية، وقرأ بعض النحويين: «البرية» مأخوذ من البراء وهو التراب، وهذا الاشتقاق يجعل الهمز خطأ وغلطا وهو اشتقاق غير مرضي، والَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ شروط جميع أمة محمد، ومن آمن بنبيه من الأمم الماضية، وقرأ بعض الناس «خير» .
وقرأ بعض قراء مكة: «خيار» بالألف، وروي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية: «أولئك هم خير البريئة» .
ثم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه «أنت يا علي وشيعتك من خير البرية» ، ذكره الطبري، وفي الحديث: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا خير البرية» ، فقال له: ذلك إبراهيم عليه السلام، وقوله تعالى: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فيه حذف مضاف تقديره سكنى

(5/508)


جَنَّاتُ عَدْنٍ أو دخول جَنَّاتُ عَدْنٍ، والعدن الإقامة والدوام، عدن بالموضع أقام فيه، ومنه المعدن لأنه رأس ثابت، وقال ابن مسعود: جَنَّاتُ عَدْنٍ بطنان الجنة أي سوطها، وقوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ قيل ذلك في الدنيا، فرضاه عنهم هو ما أظهره عليهم من أمارات رحمته وغفرانه، ورضاهم عنه: هو رضاهم بجميع ما قسم لهم من جميع الأرزاق والأقدار. قال بعض الصالحين: رضى العباد عن الله رضاهم بما يرد من أحكامه، ورضاه عنهم أن يوفقهم للرضى عنه، وقال أبو بكر بن طاهر: الرضى عن الله خروج الكراهية عن القلب حتى لا يكون إلا فرح وسرور، وقال السري السقطي: إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تطلب منه الرضا عنك؟ وقيل ذلك في الآخرة، فرضاهم عنه رضاهم بما من به عليهم من النعم، ورضاهم عنه هو ما روي أن الله تعالى يقول لأهل الجنة: هل رضيتم بما أعطيتكم؟ فيقولون: نعم ربنا وكيف لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من كل ما أعطيتكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا، وخص الله بالذكر أهل الخشية لأنها رأس كل بركة الناهية عن المعاصي الآمرة بالمعروف.

(5/509)


إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الزّلزلة
وهي مكية، قاله ابن عباس وغيره. وقال قتادة ومقاتل: هي مدنية، لأن آخرها نزل بسبب رجلين كانا بالمدينة.
قوله عز وجل:

[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
العامل في: إِذا على قول جمهور النحاة، وهو الذي يقتضيه القياس فعل مضمر يقتضيه المعنى وتقديره: تحشرون أو تجازون، ونحو هذا، ويمتنع أن يعمل فيه زُلْزِلَتِ لأن إِذا مضافة إلى زُلْزِلَتِ، ومعنى الشرط فيها ضعيف وقال بعض النحويين: يجوز أن يعمل فيها زُلْزِلَتِ، لأن معنى الشرط لا يفارقها، وقد تقدمت نظائرها في غير سورة، وزُلْزِلَتِ معناه: حركت بعنف، ومنه الزلزال، وقوله تعالى: زِلْزالَها أبلغ من قوله: زلزال، دون إضافة إليها، وذلك أن المصدر غير مضاف يقع على كل قدر من الزلزال وإن قل، وإذا أضيفت إليها وجب أن يكون على قدر ما يستحقه ويستوجبه جرمها وعظمها، وهكذا كما تقول: أكرمت زيدا كرامة فذلك يقع على كل كرامة وإن قلت بحسب زيد، فإذا قلت كرامته أوجبت أنك قد وفيت حقه، وقرأ الجمهور: «زلزالها» بكسر الزاي الأولى، وقرأ بفتحها عاصم الجحدري، وهو أيضا مصدر كالوسواس وغيره. و «الأثقال» : الموتى الذين في بطنها قاله ابن عباس، وهذه إشارة إلى البعث، وقال قوم من المفسرين منهم منذر بن سعيد الزجاج والنقاش: أخرجت موتاها وكنوزها.
قال القاضي أبو محمد: وليست القيامة موطنا لإخراج الكنوز، وإنما تخرج كنوزها وقت الدجال.
و «قول الإنسان ما لها» هو قول على معنى التعجب من هول ما يرى، قال جمهور المفسرين: الْإِنْسانُ هنا يراد به الكافر، وهذا متمكن لأنه يرى ما لم يظن به قط ولا صدقه، وقال بعض المتأولين هو عام في المؤمن والكافر، فالكافر على ما قدمناه، والمؤمن وإن كان قد آمن بالبعث فإنه استهول المرأى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الخبر كالمعاينة» . و «أخبار الأرض» قال ابن مسعود والثوري وغيره: هو

(5/510)


شهادتهما بما عمل عليها من عمل صالح أو فاسد، فالحديث على هذا حقيقة، والكلام بإدراك وحياة يخلقها الله تعالى، وأضاف الأخبار إليها من حيث وعتها وحصلتها، وانتزع بعض العلماء من قوله تعالى:
تُحَدِّثُ أَخْبارَها أن قول المحدث: حدثنا وأخبرنا سواء، وقال الطبري وقوم: التحديث في الآية مجاز، والمعنى أن ما تفعله بأمر الله من إخراج أثقالها وتفتت أجزائها وسائر أحوالها هو بمنزلة التحديث بأنبائها وأخبارها، ويؤيد القول الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» ، وقرأ عبد الله بن مسعود: «تنبئ أخبارها» ، وقرأ سعيد بن جبير: «تبين» وقوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها الباء باء السبب، وقال ابن عباس وابن زيد والقرظي المعنى: أَوْحى لَها، وهذا الوحي على هذا التأويل يحتمل أن يكون وحي إلهام، ويحتمل أن يكون وحيا برسول من الملائكة، وقد قال الشاعر:
أوحى لها القرار فاستقرت ... وشدها بالراسيات الثبت
والوحي في كلام العرب إلقاء المعنى إلقاء خفيا، وقال بعض المتأولين: أَوْحى لَها معناه:
أَوْحى إلى ملائكته المصرفين أن تفعل في الأرض تلك الأفعال، وقوله تعالى: لَها بمعنى: من أجلها ومن حيث الأفعال فيها فهي لها، وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً بمعنى: يتصرفون موضع وردهم مختلفي الأحوال وواحد الأشتات: شت، فقال جمهور الناس:
الورد، هو الكون في الأرض بالموت والدفن، والصدر: هو القيام للبعث، وأَشْتاتاً: معناه: قوم مؤمنون وقوم كافرون، وقوم عصاة مؤمنون، والكل سائر إلى العرض ليرى عمله، ويقف عليه، وقال النقاش: الورد هو ورد المحشر، والصدر أَشْتاتاً: هو صدر قوم إلى الجنة، وقوم إلى النار، وقوله تعالى: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ إما أن يكون معناه جزاء أعمالهم يراه أهل الجنة من نعيم وأهل النار بالعذاب، وإما أن يكون قوله تعالى: لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ متعلقا بقوله: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها، ويكون قوله: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً اعتراضا بين أثناء الكلام، وقرأ جمهور الناس: «ليروا» ، بضم الياء على بناء الفاعل للمفعول، وقرأ الحسن والأعرج وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة: «ليروا» بفتح الياء على بنائه للفاعل، ثم أخبر تعالى أنه من عمل عملا رآه قليلا كان أو كثيرا، فخرجت العبارة عن ذلك بمثال التقليل، وهذا هو الذي يسميه أهل الكلام مفهوم الخطاب، وهو أن يكون المذكور والمسكوت عنه في حكم واحد، ومنه قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء: 23] ، وهذا كثير، وقال ابن عباس وبعض المفسرين: رؤية هذه الأعمال هي في الآخرة، وذلك لازم من لفظ السورة وسردها، فيرى الخير كله من كان مؤمنا، والكافر لا يرى في الآخرة خيرا، لأن خيره قد عجل له في الدنيا، وكذلك المؤمن أيضا تعجل له سيئاته الصغار في دنياه في المصائب والأمراض ونحوها فيجيء من مجموع هذا أن من عمل من المؤمنين مِثْقالَ ذَرَّةٍ من خير أو شر رآه، ويخرج من ذلك أن لا يرى الكافر خيرا في الآخرة. ومنه حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت يا رسول الله: أرأيت ما كان عبد الله بن جدعان يفعله من البر وصلة الرحم وإطعام الطعام، أله في ذلك أجر؟ قال: «لا، لأنه لم يقل قط رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسمي هذه الآية الجامعة الفادة، وقد نص على ذلك حين سئل عن الحمر الحديث، وأعطى

(5/511)


سعد بن أبي وقاص سائلا ثمرتين فقبض السائل يده فقال له سعد: ما هذا؟ إن الله تعالى قبل منا مثاقيل الذر وفعلت نحو هذا عائشة في حبة عنب وسمع هذه الآية صعصعة بن عقال التيمي عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: حسبي لا أبالي أن لا أسمع غيرها، وسمعها رجل عند الحسن، فقال: انتهت الموعظة، فقال الحسن: فقه الرجل، وقرأ هشام عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم: «يره» ، بسكون الهاء في الأولى والأخيرة، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي ونافع فيما روى عنه ورش والحلواني عن قالون عنه في الأولى «يرهو» ، وأما الآخرة فإنه سكون وقف، وأما من أسكن الأولى فهي على لغة من يخفف أمثال هذا ومنه قول الشاعر:
ونضواي مشتاقان له أرقان وهذه على لغة لم يحكها سيبويه، لكن حكاها الأخفش، وقرأ أبو عمرو: «يره» بضم الهاء فيهما مشبعتان، وقرأ أبان عن عاصم وابن عباس وأبو حيوة وحميد بن الربيع عن الكسائي: «يره» ، بضم الياء، وهي رؤية بصره بمعنى: يجعل يدركه ببصره، والمعنى: يرى جزاءه وثوابه، لأن الأعمال الماضية لا ترى بعين أبدا، وهذا الفعل كله هو من رأيت بمعنى أدركت ببصري، فتعديه إنما هو إلى مفعول واحد، وقرأ عكرمة: «خيرا يراه» و «شرا يراه» ، وقال النقاش: ليست برؤية بصر، وإنما المعنى يصيبه ويناله، ويروى أن هذه السورة نزلت وأبو بكر يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فترك أبو بكر الأكل وبكى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك، فقال: يا رسول الله: أو أسأل عن مثاقيل الذر؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر: ما رأيت في الدنيا مما تكره، فمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل ذر الخير إلى الآخرة، و «الذرة» نملة صغيرة حمراء رقيقة لا يرجح لها ميزان، ويقال إنها تجري إذا مضى لها حول، وقد تؤول ذلك في قول امرئ القيس: [الطويل]
من القاصرات الطرف لو دب محول ... من الذر فوق الإتب منها لأثرا
وحكى النقاش أنهم قالوا: كان بالمدينة رجلان، أحدهما لا يبالي عن الصغائر يرتكبها، وكان الآخر: يريد أن يتصدق فلا يجد إلا اليسير فيستحيي من الصدقة، فنزلت الآية فيهما، كأنه يقال لأحدهما:
تصدق باليسير، فإن مثقال ذرة الخير ترى، وقيل للآخر: كف عن الصغائر فإن مقادير ذر الشر ترى.
نجز تفسيرها والحمد لله كثيرا.

(5/512)