تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة العاديات
وهي مكية في قول جماعة من أهل العلم، وقال المهدوي عن أنس بن مالك: وهي مدنية.
قوله عز وجل:

[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
اختلف الناس في المراد: ب الْعادِياتِ، فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة: أراد الخيل لأنها تعدو بالفرسان وتصيح بأصواتها، قال بعضهم: وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلا إلى بني كنانة سرية فأبطأ أمرها عليه حتى أرجف بهم بعض المنافقين، فنزلت الآية معلمة أن خيله عليه السلام قد فعلت جميع ما في الآية، وقال آخرون: القسم هو بالخيل جملة لأنها تعدو ضابحة قديما وحديثا، وهي حاصرة البلاد وهادمة الممالك، وفي نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وإبراهيم وعبيد بن عمير: الْعادِياتِ في هذه الآية: الإبل لأنها تضبح في عدوها، قال علي: والقسم بالإبل العاديات من عرفة ومن مزدلفة إذا وقع الحاج وبإبل غزوة بدر فإنه لم يكن في الغزوة غير فرسين: فرس المقداد وفرس الزبير بن العوام، والضبح: تصويت جهير عند العدو الشديد ليس بصهيل ولا رغاء ولا نباح، بل هو غير المعتاد من صوت الحيوان الذي يضبح. وحكي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ليس يضبح من الحيوان غير الخيل والكلاب، وهذا عندي لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنه، وذلك أن الإبل تضبح والأسود من الحيات والبوم والصدى والأرنب والثعلب، والقوس هذه كلها قد استعملت لها العرب الضبح، وأنشد أبو حنيفة في صفة قوس: [الرجز]
حنانة من نشم أو تالب ... تضبح في الكف ضباح الثعلب
والظاهر في الآية، أن القسم بالخيل أو بالإبل أو بهما، قوله تعالى: فَالْمُورِياتِ قَدْحاً قال علي بن أبي طالب وابن مسعود: هي الإبل، وذلك أنها في عدوها ترجم الحصى بالحصى فيتطاير منه النار فذلك القدح. قال ابن عباس: هي الخيل، وذلك بحوافرها في الحجارة وذلك معروف. وقال عكرمة:

(5/513)


الموريات قَدْحاً: هي الألسن، فهذا على الاستعارة أي ببيانها تقدح الحجج وتظهرها. وقال مجاهد:
الموريات قَدْحاً، يريد به مكر الرجال، وقال قتادة: «الموريات» ، الخيل تشعل الحرب، فهذا أيضا على الاستعارة البينة، وقال ابن عباس أيضا وجماعة من العلماء: الكلام عام يدخل في القسم كل من يظهر بقدحه نارا، وذلك شائع في الأمم طول الدهر وهو نفع عظيم من الله تعالى، وقد وقف عليه في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ [الواقعة: 71] معناه: تظهرون بالقدح، قال عدي بن زيد:
[الخفيف]
فقدحنا زنادا وورينا ... فوق جرثومة من الأرض نار
وقوله تعالى: فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً قال علي وابن مسعود: هي الإبل من مزدلفة إلى منى أو في بدر، والعرب تقول: أغار إذا عدا جريا ونحوه، وقال ابن عباس وجماعة كثيرة: هي الخيل واللفظة من الغارة في سبيل الله وغير ذلك من سير الأمم، وعرف الغارات أنها مع الصباح لأنها تسري ليلة الغارة والنقع: الغبار الساطع المثار، وقرأ أبو حيوة: «فأثّرن» بشد الثاء، والضمير في: بِهِ ظاهر أنه للصبح المذكور، ويحتمل أن يكون للمكان والموضع الذي يقتضيه المعنى وإن كان لم يجر له ذكر، ولهذا أمثلة كثيرة، ومشهورة إثارة النقع هو للخيل ومنه قول الشاعر [البسيط]
يخرجن من مستطير النقع دامية ... كأن آذانها أطراف أقلام
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو هنا الإبل تثير النقع بأخفافها، وقوله تعالى: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً قال ابن عباس وعلي: هي الإبل، وجَمْعاً: هي المزدلفة، وقال ابن عباس: هي الخيل، والمراد جمع من الناس هم المغيرون، وقرأ علي بن أبي طالب وقتادة وابن أبي ليلى: «فوسّطن» بشد السين. وقال بشر بن أبي حازم: [الكامل]
فوسطن جمعهم وأفلت حاجب ... تحت العجاجة في الغبار الأقتم
وذكر الطبري عن زيد بن أسلم: أنه كان يكره تفسير هذه الألفاظ، ويقول: هو قسم أقسم الله به، وجمهور الأمة وعلماؤها مفسرون لها كما ذكرنا، والقسم واقع على قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتدرون ما الكنود؟ قالوا لا يا رسول الله، قال: هو الكفور الذي يأكل وحده ويمنع رفده، ويضرب عبده» . وقد يكون من المؤمنين الكفور بالنعمة، فتقدير الآية: إن الإنسان لنعمة ربه لكنود، وأرض كنود لا تنبت شيئا، وقال الحسن بن أبي الحسن: الكنود اللائم لربه الذي يعد السيئات وينسى الحسنات، والكنود العاصي بلغة كندة، ويقال للخيل كنود، وقال أبو زبيد: [الخفيف]
إن تفتني فلم أطب بك نفسا ... غير أني أمنى بدهر كنود
وقال الفضيل: الكنود الذي تنسيه سيئة واحدة حسنات كثيرة ويعامل الله على عقد عوض، وقوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ يحتمل الضمير أن يعود على الله تعالى، وقاله قتادة: أي وربه شاهد عليه، وتفسير هذا الخبر يقتضي الشهادة بذلك، ويحتمل أن يعود على «الإنسان» أي أفعاله وأقواله وحاله

(5/514)


المعلومة من هذه الأخلاق تشهد عليه، فهو شاهد على نفسه بذلك، وهذا قول الحسن ومجاهد، والضمير في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ عائد على «الإنسان» لا غير، والمعنى من أجل حب الخير إنه لَشَدِيدٌ، أي بخيل بالمال ضابط له، ومنه قول الشاعر [طرفة بن العبد] : [الطويل]
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد
والْخَيْرُ المال على عرف ذلك في كتاب الله تعالى، قال عكرمة: الْخَيْرُ حيث وقع في القرآن فهو المال، ويحتمل أن يراد هنا الخير الدنياوي من مال وصحة وجاه عند الملوك ونحوه، لأن الكفار والجهال لا يعرفون غير ذلك، فأما المحب في خير الآخرة فممدوح له مرجو له الفوز وقوله تعالى: أَفَلا يَعْلَمُ، توقيف على المال والمصير أي أفلا يعلم مآله فيستعد له، و «بعثرة ما في القبور» : تقصيه مما يستره والبحث عنه، وهذه عبارة عن البحث، وفي مصحف ابن مسعود: «بحث ما في القبور» ، وفي حرف أبي:
«وبحثرت القبور» ، و «تحصيل ما في الصدور» : تمييزه وكشفه ليقع الجزاء عليه من إيمان وكفر ونية، ويفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يبعث الناس يوم القيامة على نياتهم» ، وقرأ يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم: بفتح الحاء والصاد، ثم استؤنف في الخبر الصادق، الجزم بأن الله تعالى خبير بهم يَوْمَئِذٍ، لكن خصص يَوْمَئِذٍ لأنه يوم المجازاة، فإليه طمحت النفوس، وهذا وعيد مصرح.
نجز تفسير سورة «العاديات» .

(5/515)


الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة القارعة
وهي مكية بلا خلاف.
قوله عز وجل:

[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)
قرأ: «القارعة ما القارعة» بالنصب عيسى، قال جمهور المفسرين: الْقارِعَةُ يوم القيامة نفسها لأنها تقرع القلوب بهولها، وقال قوم من المتأولين: الْقارِعَةُ: صيحة النفخة في الصور، لأنها تقرع الأسماع، وفي ضمن ذلك القلوب، وفي قوله تعالى: وَما أَدْراكَ تعظيم لأمرها، وقد تقدم مثله، ويَوْمَ: ظرف، والعامل فيه الْقارِعَةُ. وأمال أبو عمرو: الْقارِعَةُ، و «الفراش» : طير دقيق يتساقط في النار ويقصدها، ولا يزال يقتحم على المصباح ونحوه حتى يحترق، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب» ، وقال الفراء:
«الفراش» في الآية: غوغاء الجراد وهو صغيره الذي ينتشر في الأرض والهواء، الْمَبْثُوثِ هنا معناه:
المتفرق، جمعه وجملته موجودة متصلة، وقال بعض العلماء: الناس أول قيامهم من القبور كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ، لأنهم يجيئون ويذهبون على غير نظام، يدعوهم الداعي فيتوجهون إلى ناحية المحشر فهم حينئذ كالجراد المنتشر، لأن الجراد إنما توجهه إلى ناحية مقصودة، واختلف اللغويون في: «العهن» ، فقال أكثرهم: هو الصوف عاما، وقال آخرون: وهو الصوف الأحمر، وقال آخرون: هو الصوف الملون ألوانا، واحتج بقول زهير:
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم
والفنا: عنب الثعلب، وحبه قبل التحطم منه الأخضر والأحمر والأصفر، وكذلك الجبال جدد بيض وحمر وسود وصفر، فجاء التشبيه ملائما، وكون الْجِبالُ كَالْعِهْنِ، إنما هو وقت التفتيت قبل النسف

(5/516)


ومصيرها هباء، وهي درجات، والنفش: خلخلة الأجزاء وتفريقها عن تراصها، وفي قراءة ابن مسعود وابن جبير: «كالصوف المنفوش» ، و «الموازين» : هي التي في القيامة، فقال جمهور العلماء والفقهاء والمحدثين: ميزان القيامة بعمود ليبين الله أمر العباد بما عهدوه وتيقنوه، وقال مجاهد: ليس تم ميزان إنما هو العدل مثل ذكره بالميزان إذ هو أعدل ما يدري الناس، وجمعت الموازين للإنسان لما كانت له موزونات كثيرة متغايرة، وثقل هذا الميزان هو بالإيمان والأعمال، وخفته بعدمها وقلتها، ولن يخف خفة موبقة ميزان مؤمن. وعِيشَةٍ راضِيَةٍ معناه: ذات رضى على النسب، وهذا قول الخليل وسيبويه، وقوله تعالى:
فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ قال كثير من المفسرين: المراد بالأم نفس الهاوية، وهي درك من أدراك النار، وهذا كما يقال للأرض: أم الناس لأنها تؤويهم، وكما قال عتبة بن أبي سفيان في الحرب: فنحن بنوها وهي أمنا، فجعل الله الهاوية أم الكافر لما كانت مأواه، وقال آخرون: هو تفاؤل بشر فيه تجوز في أم الولاد، كما قالوا: أمه ثاكل وخوى نجمه وهوى نجمه ونحو هذا، وقال أبو صالح وغيره: المراد أم رأسه لأنهم يهوون على رؤوسهم، وقرأ طلحة: «فإمّه» بكسر الهمزة وضم الميم مشددة، ثم قرر تعالى نبيه على دراية أمرها وتعظيمه ثم أخبره أنها نارٌ حامِيَةٌ، وقرأ: «ما هي» بطرح الهاء في الوصل ابن إسحاق والأعمش، وروى المبرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: لا أم لك، فقال: يا رسول الله، أتدعوني إلى الهدى وتقول: لا أم لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أردت لا نار لك، قال الله تعالى: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ.

(5/517)


أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة التّكاثر
وهي مكية لا أعلم فيها خلافا.
قوله عز وجل:

[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
«ألهى» معناه: شغل بلذاته، ومنه لهو الحديث والأصوات واللهو بالنساء، وهذا خبر فيه تقريع وتوبيخ وتحسر، وقرأ ابن عباس وعمران الجوني وأبو صالح: «أألهاكم» على الاستفهام، والتَّكاثُرُ هي المفاخرة بالأموال والأولاد والعدد جملة، وهذا هجيرى أبناء الدنيا: العرب وغيرهم لا يتخلص منهم إلا العلماء المتقون، وقد قال الأعشى: [السريع]
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» ، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ، فقال قوم: حتى ذكرتم الموت في تفاخركم بالآباء والسلف، وتكثرتم بالعظام الرمام، وقال المعنى: حتى متم وزرتم بأجسادكم مقابرها أي قطعتم بالتكاثر أعماركم، وعلى هذا التأويل روي أن أعرابيا سمع هذه الآية فقال: بعث القوم للقيامة ورب الكعبة، فإن الزائر منصرف لا مقيم، وحكى النقاش هذه النزعة من عمر بن عبد العزيز، وقال آخرون: هذا تأنيب على الإكثار من زيارة القبور أي حتى جعلتم أشغالكم القاطعة بكم عن العبادة والتعلم زيارة القبور تكثرا بمن سلف وإشادة بذكره، وقال ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها ولا تقولوا هجرا» فكان نهيه عليه السلام في معنى الآية، ثم أباح بعد لمعنى الاتعاظ لا لمعنى المباهاة والتفاخر كما يصنع الناس في ملازمتها وتسنيمها بالحجارة والرخام وتلوينها شرفا وبنيان النواويس عليها، وقوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ زجر ووعيد ثم كرر تأكيدا، ويأخذ كل إنسان من الزجر والوعيد المكررين على قدر حظه من التوغل فيما يكره، هذا تأويل

(5/518)


جمهور الناس، وقال علي بن أبي طالب: «كلا ستعلمون في القبور ثم كلا ستعلمون في البعث» ، وقال الضحاك: الزجر الأول وعيده هو للكفار والثاني للمؤمنين، وقرأ مالك بن دينار: «كلا ستعلمون» فيهما، وقوله تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ جواب لَوْ محذوف مقدر في القول أي لازدجرتم وبادرتم إنقاذ أنفسكم من الهلكة، و «اليقين» أعلى مراتب العلم، ثم أخبر تعالى الناس أنهم يرون الجحيم، وقرأ ابن عامر والكسائي: «لترون» بضم التاء، وقرأ الباقون بفتحها وهي الأرجح، وكذلك في الثانية، وقرأ علي بن أبي طالب بفتح التاء الأولى وضمها في الثانية، وروي ضمها عن ابن كثير وعاصم، و «ترون» أصله ترأيون نقلت حركة الهمزة إلى الراء وقلبت الياء ألفا لحركتها بعد مفتوح، ثم حذفت الألف لسكونها.
وسكون الواو بعدها ثم جلبت النون المشددة فحركت الواو بالضم لسكونها وسكون النون الأولى من المشددة إذ قد حذفت نون الإعراب للبناء، وقال ابن عباس: هذا خطاب للمشركين، فالمعنى على هذا أنها رؤية دخول. وصلي وهو عَيْنَ الْيَقِينِ، وقال آخرون: الخطاب للناس كلهم، فهي كقوله تعالى:
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] ، فالمعنى أن الجميع يراها، ويجوز الناجي ويتكردس فيها الكافر، وقوله تعالى: ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ تأكيدا في الخبر، وعَيْنَ الْيَقِينِ حقيقته وغايته، وروي عن الحسن وأبي عمرو أنهما همزا «لترؤن» ولترؤنها» بخلاف عنهما، وروى ابن كثير: «ثم لترونها» بضم التاء، ثم أخبر تعالى أن الناس مسؤولون يومئذ عن نعيمهم في الدنيا كيف نالوه ولم آثروه وتتوجه في هذا أسئلة كثيرة بحسب شخص شخص من منقادة لمن أعطي فهما في كتاب الله تعالى، وقال ابن مسعود والشعبي وسفيان ومجاهد: النَّعِيمِ هو الأمن والصحة، وقال ابن عباس: هو البدن والحواس يسأل المرء فيما استعملها، وقال ابن جبير: هو كل ما يتلذذ به من طعام وشراب، وأكل رسول الله عليه السلام هو وبعض أصحابه رطبا وشربوا عليها ماء فقال لهم: «هذا من النعيم الذي تسألون عنه» ومضى يوما عليه السلام هو وأبو بكر وعمر وقد جاؤوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان فذبح لهم شاة وأطعمهم خبزا ورطبا واستعذب لهم ماء وكانوا في ظل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لتسألن عن نعيم هذا اليوم» ، وروي عنه عليه السلام أنه قال: «النعيم المسئول عنه كسرة تقوته والماء يرويه وثوب يواريه» ، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن النعيم المسئول عنه الماء البارد في الصيف» ، وقال عليه السلام: «من أكل خبز البر وشرب الماء البارد فذلك النعيم الذي يسأل عنه» ، وقال عليه السلام: «بيت يكنك وخرقة تواريك وكسرة تشد قلبك، وما سوى ذلك فهو نعيم» . وقال النبي عليه السلام: «كل نعيم فهو مسؤول عنه إلا نعيم في سبيل الله عز وجل» .
نجز تفسير سورة التَّكاثُرُ

(5/519)


وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة العصر
وهي مكية.
قوله عز وجل:

[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
قال ابن عباس: الْعَصْرِ: الدهر، يقال فيه عصر وعصر بضم العين والصاد، وقال امرؤ القيس:
وهل يعمن من كان في العصر الخالي وقال قتادة: الْعَصْرِ العشي، وقال أبي بن كعب: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن العصر فقال: «أقسم ربكم بآخر النهار» ، وقال بعض العلماء: وذكره أبو علي الْعَصْرِ: اليوم، وَالْعَصْرِ:
الليلة ومنه قول حميد: [الطويل]
ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
وقال بعض العلماء: الْعَصْرِ: بكرة والعصر: عشية وهما الأبردان، وقال مقاتل: الْعَصْرِ هي الصلاة الوسطى أقسم بها، و «الإنسان» اسم الجنس، و «الخسر» : النقصان وسوء الحال، وذلك بين غاية البيان في الكافر لأنه خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وأما المؤمن وإن كان في خسر دنياه في هرمه وما يقاسيه من شقاء هذه الدار فذلك معفو عنه في جنب فلاحه في الآخرة وربحه الذي لا يفنى، ومن كان في مدة عمره في التواصي بالحق والصبر والعمل بحسب الوصاة فلا خسر معه، وقد جمع له الخير كله، وقرأ علي بن أبي طالب: «والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان» ، وفي مصحف عبد الله:
«والعصر لقد خلقنا الإنسان في خسر» وروي عن علي بن أبي طالب أنه قرأ «إن الإنسان لفي خسر وإنه فيه إلى آخر الدهر إلا الذين» ، وقرأ عاصم والأعرج: «لفي خسر» بضم السين، وقرأ سلام أبو المنذر:
«والعصر» بكسر الصاد «وبالصبر» بكسر الباء، وهذا لا يجوز إلا في الوقف على نقل الحركة، وروي عن أبي عمرو: «بالصبر» بكسر الباء إشماما، وهذا أيضا لا يكون إلا في الوقف.
نجز تفسير سورة الْعَصْرِ.

(5/520)


وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الهمزة
وهي مكية بلا خلاف.
قوله عز وجل:

[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
وَيْلٌ لفظ يجمع الشر والحزن، وقيل وَيْلٌ: واد في جهنم، و «الهمزة» الذي يهمز الناس بلسانه أي يعيبهم، ويغتابهم، وقال ابن عباس: هو المشاء بالنميم.
قال القاضي أبو محمد: ليس به لكنهما صفتان تتلازم، قال الله تعالى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم: 11] ، وقال مجاهد: «الهمزة» الذي يأكل لحوم الناس، وقيل لأعرابي: أتهمز إسرائيل فقال: إني إذا لرجل سوء، حسب أنه يقال له أتقع في سبه، و «اللمزة» قريب من المعنى في الهمزة، قال الله تعالى:
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] ، وقرأ ابن مسعود والأعمش والحسن: «ويل الهمزة اللمزة» ، وهذا البناء الذي هو فعلة يقتضي المبالغة في معناه، قال أبو العالية والحسن: الهمز بالحضور واللمز بالمغيب، وقال مقاتل ضد هذا، وقال مرة: هما سواء، وقال ابن أبي نجيح: الهمز باليد والعين، واللمز باللسان، وقال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [التوبة: 58] وقيل نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق وقيل في جميل بن عامر الجمحي ثم هي تتناول كل من اتصف بهذه الصفات، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي والحسن وأبو جعفر: «جمّع» بشدة الميم، والباقون بالتخفيف، وقوله وَعَدَّدَهُ معناه: أحصاه وحافظ على عدده وأن لا ينتقص، فمنعه من الخيرات ونفقة البر، وقال مقاتل: المعنى استعده وذخره وقرأ الحسن:
«وعدده» بتخفيف الدالين، فقيل المعنى جمع مالا وعددا من عشرة، وقيل أراد عددا مشددا فحل التضعيف، وهذا قلق، وقوله: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ معناه: يحسب أن ماله هو معنى حياته وقوامها، وأنه حفظه مدة عمره ويحفظه، ثم رد على هذه الحسبة وأخبر إخبارا مؤكدا أنه ينبذ فِي الْحُطَمَةِ أي التي

(5/521)


تحطم ما فيها وتلتهبه، وقرأ: «يحسب» بفتح السين الأعرج وأبو جعفر وشيبة، وقرأ ابن محيصن والحسن بخلاف عنه: «لينبذان» بنون مكسورة مشددة قبلها ألف، يعني هو ماله، وروي عنه ضم الذال على نبذ جماعة هو ماله وعدده، أو يريد جماعة الهمزات ثم عظم شأنها وأخبر أنها نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ التي يبلغ إحراقها القلوب ولا يخمد، والفؤاد القلب، ويحتمل أن يكون المعنى أنها لا يتجاوزها أحد حتى تأخذه بواجب عقيدة قلبه ونيته فكأنها متطلعة على القلوب باطلاع الله تعالى إياها، ثم أخبر بأنها عليهم موصدة ومعناه مطبقة أو مغلقة، قال علي بن أبي طالب: أبواب النار بعضها فوق بعض، وقوله تعالى: فِي عَمَدٍ هو جمع عمود كأديم وأدم، وهي عند سيبويه أسماء جمع لا جموع جارية على الفعل، وقرأ ابن مسعود:
«موصدة بعمد ممدّدة» ، وقال ابن زيد: المعنى في عمد حديد مغلولين بها والكل من نار، وقال أبو صالح:
هذه النار هي في قبورهم، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي: «عمد» بضم العين والميم، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بفتحهما، وقرأ الجمهور: «ممددة» بالخفض على نعت العمد، وقرأ عاصم: «ممددة» بالرفع على اتباع مُؤْصَدَةٌ.
نجز تفسيرها بحمد الله.

(5/522)