تفسير ابن عطية
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ
كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا
أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الفيل
وهي مكية بإجماع الرواة.
قوله عز وجل:
[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1)
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ
عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ
سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
كَيْفَ نصب بفعل والجمهور على أنه فيل واحد، وقال الضحاك:
ثمانية، فهو اسم الجنس وقوله مردود، وحكى النقاش: ثلاثة عشر،
وهذه السورة تنبيه على الاعتبار في أخذ الله تعالى لأبرهة ملك
الحبشة ولجيشه حين أم به الكعبة ليهدمها، وكان صاحب فيل يركبه،
وقصته مشروحة في السير الطويلة، واختصاره أنه بنى في اليمن
بيتا وأراد أن يرد إليه حج العرب، فذهب أعرابي فأحدث في البيت
الذي بنى أبرهة فغضب لذلك واحتفل في جموعه وركب الفيل وقصد
مكة، وغلب من تعرضه في طريقه من قبائل العرب، فلما وصل ظاهر
مكة وفر عبد المطلب وقريش إلى الجبال والشعاب، وأسلموا له
البلد، وغلب طغيانه، ولم يكن للبيت من البشر من يعصمه ويقوم
دونه، جاءت قدرة الواحد القهار وأخذ العزيز المقتدر، فأصبح
أبرهة ليدخل مكة ويهدم الكعبة فبرك فيله بذي الغميس ولم يتوجه
قبل مكة فبضعوه بالحديد فلم يمش إلى ناحية مكة وكان إذا وجهوه
إلى غيرها هرول، فبينا هم كذلك في أمر الفيل بعث الله
عَلَيْهِمْ طَيْراً جماعات جماعات سودا من البحر وقيل خضرا،
عند كل طائر ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه وكل حجر فوق العدسة
ودون الحمصة فرمتهم بتلك الحجارة، فكان الحجر منها يقتل المرمي
وتتهرى لحومهم جذريا، وأسقاما، فانصرف أبرهة بمن معه يريد
اليمن فماتوا في طريقهم متفرقين في كل مرحلة، وتقطع أبرهة
أنملة أنملة حتى مات وحمى الله بيته المرفع، فنزلت الآية منبهة
على الاعتبار بهذه القصة، ليعلم الكل أن الأمر كله لله،
ويستسلموا للإله الذي ظهرت في ذلك قدرته، حين لم تغن الأصنام
شيئا ف «أصحاب الْفِيلِ» : أبرهة الملك ورجاله، وقرأ أبو عبد
الرحمن: «ألم تر» بسكون الراء، و «التضليل» الخسار والتلف، و
«الأبابيل» :
جماعات تجيء شيئا بعد شيء، قال أبو عبيدة: لا واحد له من لفظه
وهذا هو الصحيح لا ما تكلفه بعض النحاة وقال [معبد بن أبي معبد
الخزاعي] : [البسيط]
كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سارت الأرض بالجرد الأبابيل
(5/523)
وقد تقدم تفسير «حجارة السجيل» غير مرة،
وهي من سنج وكل أي ماء وطين، كأنها الآجر ونحوه مما طبخ، وهي
المسومة عند الله تعالى للكفرة الظالمين، و «العصف» : ورق
الحنطة وتبنه ومنه قول علقمة بن عبدة: [البسيط]
تسقى مذانب قد مالت عصيفتها ... حدورها من أتيّ الماء مطموم
والمعنى صاروا طينا ذاهبا كورق حنطة أكلته الدواب وراثته فجمع
المهانة والخسة وأتلف، وقرأ أبو الخليج الهذلي «فتركتهم كعصف»
، قال أبو حاتم، وقرأ بعضهم: «فجعلتهم» يعنون الطير بفتح اللام
وتاء ساكنة، وقال عكرمة: العصف حب البر إذا أكل فصار أجوف،
وقال الفراء: هو أطراف الزرع قبل أن يسنبل، وهذه السورة متصلة
في مصحف أبي بن كعب بسورة لِإِيلافِ قُرَيْشٍ لا فصل بينهما،
وقال سفيان بن عيينة: كان لنا إمام يقرأ بهما متصلة سورة
واحدة.
(5/524)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ
(1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي
أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة قريش
وهي مكية بلا خلاف.
قوله عز وجل:
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ
وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3)
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي:
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ على إفعال والهمزة الثانية
ياء، وقرأ ابن عامر «لألآف» على فعال إِيلافِهِمْ على أفعال
بياء في الثانية، وقرأ أبو بكر عن عاصم: بهمزتين فيهما الثانية
ساكنة، قال أبو علي: وتحقيق عاصم هاتين الهمزتين لا وجه له،
وقرأ أبو جعفر: «إلفهم» بلام ساكنة، وقُرَيْشٍ ولد النضر بن
كنانة، والتقرش: التكسب، وتقول ألف الرجل الأمر وآلفه غيره،
فالله عز وجل آلف قريشا أي جعلهم يألفون رحلتين في العام، رحلة
في الشتاء وأخرى في الصيف. ويقال أيضا ألف بمعنى آلف، وأنشد
أبو زيد: [الطويل]
من المؤلفات الرمل أدماء حرة ... شعاع الضحى في جيدها يتوضح
فألف وإلاف مصدر ألف، و «إيلاف» مصدر آلف، قال بعض الناس: كانت
الرحلتان إلى الشام في التجارة، وقيل الأرباح، ومنه قول
الشاعر: [الكامل]
سفرين بينهما له ولغيره ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف
وقال ابن عباس: كانت رِحْلَةَ الشِّتاءِ إلى اليمن، ورحلة
الصيف إلى بصرى من أرض الشام. قال أبو صالح: كانتا جميعا إلى
الشام، وقال ابن عباس أيضا: كانوا يرحلون في الصيف إلى الطائف
حيث الماء والظل، ويرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر
أغراضهم، فهاتان رحلتا الشتاء والصيف، قال الخليل بن أحمد
فمعنى الآية: لأن فعل الله بقريش هذا ومكنهم من الفهم هذه
النعمةلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ.
قال القاضي أبو محمد: وذكر البيت هنا متمكن لتقدم حمد الله في
السورة التي قبل، وقال الأخفش، وغيره: لِإِيلافِ، متعلقة
بقوله: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: 5] ، أي ليفعل
بقريش هذه
(5/525)
الأفاعيل الجميلة، وقال بعض المفسرين معنى
الآية: أعجبوا لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، هذه الأسفار وإعراضهم عن
عبادة الله، ثم أمرهم بالعبادة بعد وأعلمهم أن الله تعالى هو
الذي أَطْعَمَهُمْ وَآمَنَهُمْ لا سفرهم، المعنى: فليعبدوا
الذي أطعمهم بدعوة إبراهيم حيث قال: وارزقهم من الثمرات،
وآمنهم بدعوته حيث قال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً
[إبراهيم: 35] ولا يشتغلوا بالأسفار التي إنما هي طلب كسب وعرض
دنيا، وقال النقاش: كانت لهم أربع رحل، وهذا قول مردود، وقال
عكرمة: معنى الآية كما ألفوا هاتين الرحلتين لدنياهم
لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
لآخرتهم، وقال قتادة: إنما عددت عليهم الرحلتان لأنهم كانوا
يأمنون الناس في سفرتهم، والناس يغير بعضهم على بعض، ولا يمكن
قبيلا من العرب أن يرحل آمنا، كما تفعل قريش، فالمعنى فليعبدوا
الذي خصهم بهذه الحال فأطعمهم وآمنهم، وقوله تعالى: مِنْ جُوعٍ
معناه أن أهل مكة قاطنون بواد غير ذي زرع عرضة للجوع والجدب
لولا لطف الله تعالى، وأن جعلها بدعوة إبراهيم تجبى إليها
ثمرات كل شيء، وقوله تعالى: مِنْ خَوْفٍ أي جعلهم لحرمة البيت
مفضلين عند العرب يأمنون والناس خائفون، ولولا فضل الله تعالى
في ذلك لكانوا بمدارج المخاوف. وقال ابن عباس والضحاك: مِنْ
خَوْفٍ معناه من الجذام فلا ترى بمكة مجذوما.
(5/526)
أَرَأَيْتَ الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ
(2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ
(5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ
(7)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الماعون
وهي مكية بلا خلاف علمته، وقال الثعلبي: هي مدنية.
قوله عز وجل:
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي
يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ
(3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ
يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
هذا توقيف وتنبيه لتتذكر نفس السامع كل من يعرفه بهذه الصفة،
وهمز أبو عمرو: «أرأيت» بخلاف عنه ولم يهمزها نافع وغيره، و
«الدين» الجزاء ثوابا وعقابا، والحساب هنا قريب من الجزاء ثم
قال تعالى: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ أي ارقب فيه
هذه الخلال السيئة تجدها، ودع اليتيم: دفعه بعنف، وذلك إما أن
يكون المعنى عن إطعامه والإحسان إليه، وإما أن يكون عن حقه
وماله، فهذا أشد، وقرأ أبو رجاء:
«يدع» ، بفتح الدال خفيف بمعنى لا يحسن إليه، وقوله تعالى:
وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي لا يأمر بصدقة ولا
يرى ذلك صوابا، ويروى أن هذه السورة نزلت في بعض المضطرين في
الإسلام بمكة الذين لم يحققوا فيه وفتنوا فافتتنوا، وكانوا على
هذه الخلق من الغشم وغلظ العشرة والفظاظة على المسلمين، وربما
كان بعضهم يصلي أحيانا مع المسلمين مدافعة وحيرة فقال تعالى
فيهم: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ
ساهُونَ. قال ابن جريج: كان أبو سفيان ينحر كل أسبوع جزورا
فجاءه يتيم، فقرعه بعصا فنزلت السورة فيه، قال سعد بن أبي
وقاص: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الَّذِينَ هُمْ عَنْ
صَلاتِهِمْ ساهُونَ، فقال: هم الذين يؤخرونها عن وقتها، يريد
والله أعلم تأخير ترك وإهمال، وإلى هذا نحا مجاهد، وقال قتادة
ساهُونَ، هو الترك لها وهم الغافلون الذين لا يبالي أحدهم صلى
أو لم يصل، وقال عطاء بن يسار: الحمد لله الذي قال عَنْ
صَلاتِهِمْ ولم يقل في صلاتهم، وفي قراءة ابن مسعود: «لاهون»
بدل ساهُونَ، وقوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ بيان أن
صلاة هؤلاء ليست لله تعالى بينة إيمان، وإنما هي رياء للبشر
فلا قبول لها، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو الأشهب: «يرؤون» مهموزة
مقصورة مشددة الهمزة، وروي عن ابن أبي إسحاق: «يرؤون» بغير شد
في الهمزة، وقوله تعالى:
(5/527)
وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ وصف لهم بقلة
النفع لعباد الله، وتلك شرخلة، وقال علي بن أبي طالب وابن عمر:
الْماعُونَ، الزكاة، وقال الراعي: [الكامل]
قوم على الإسلام لما يمنعوا ... ماعونهم ويضيعوا التهليلا
وقال ابن مسعود: هو ما يتعاطاه الناس بينهم كالفأس والدلو
والآنية والمقص ونحوه، وقاله الحسن وقتادة وابن الحنفية وابن
زيد والضحاك وابن عباس، وقال ابن المسيب: الْماعُونَ بلغة
قريش: المال، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الشيء الذي لا
يحل منعه؟ قال: «الماء والنار والملح» ، روته عائشة رضي الله
عنها، وفي بعض الطرق زيادة الإبرة والخمير، وحكى الفراء عن بعض
العرب أن الْماعُونَ:
الماء: وقال ابن مسعود: كنا نعد الْماعُونَ على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم عارية القدر والدلو ونحوها.
(5/528)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ
الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ
شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الكوثر
وهي مكية قوله عز وجل:
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
قرأ الحسن: «إنا أنطيناك» ، وهي لغة في أعطى، قال النبي صلى
الله عليه وسلم: «واليد المنطية خير من السفلى» ، وقال الأعشى:
[المتقارب]
جيادك خير جياد الملوك ... تصان الجلال وتنطى الشعير
قال أنس وابن عمر وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين:
الْكَوْثَرَ: نهر في الجنة، حافتاه قباب من در مجوف وطينه مسك
وحصباؤه ياقوت، ونحو هذا من صفاته، وإن اختلفت ألفاظ الرواة،
وقال ابن عباس أيضا: الْكَوْثَرَ: الخير الكثير.
قال القاضي أبو محمد: كوثر: بناء مبالغة من الكثرة، ولا مجال
أن الذي أعطى الله محمدا عليه السلام من النبوة والحكمة والعلم
بربه والفوز برضوانه والشرف على عباده هو أكثر الأشياء وأعظمها
كأنه يقول في هذه الآية: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الحظ الأعظم، قال
سعيد بن جبير: النهر الذي في الجنة هو من الخير الذي أعطاه
الله إياه، فنعم ما ذهب إليه ابن عباس، ونعم ما تمم ابن جبير
رضي الله عنهم، وأمر النهر ثابت في الآثار في حديث الإسراء
وغيره صلى الله على محمد ونفعنا بما منحنا من الهداية. قال
الحسن:
الْكَوْثَرَ، القرآن، وقال أبو بكر بن عياش: هو كثرة الأصحاب
والأتباع، وقال جعفر الصادق: نور في قلبه دله عليه وقطعه عما
سواه، وقال أيضا: هو الشفاعة، وقال هلال بن يساف: هو التوحيد،
وقوله تعالى:
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أمر بالصلاة على العموم، ففيه
المكتوبات بشروطها والنوافل على ندبها، والنحر:
نحر البدن والنسك في الضحايا في قول جمهور الناس، فكأنه قال:
ليكن شغلك هذين، ولم يكن في ذلك الوقت جهاد، وقال أنس بن مالك:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينحر يوم الأضحى قبل
الصلاة، فأمر أن يصلي وينحر وقاله قتادة، والقرطبي وغيره في
الآية طعن على كفار مكة، أي إنهم يصلون لغير الله مكاء وتصدية،
وينحرون للأصنام ونحوه، فافعل أنت هذين لربك تكن على صراط
مستقيم، وقال ابن جبير: نزلت هذه الآية يوم الحديبية وقت صلح
قريش قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: صل وانحر الهدي،
(5/529)
وعلى هذا تكون الآية من المدني، وروي عن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: معنى الآية: صل لربك
وضع يمينك على شمالك عند نحرك في الصلاة، فالنحر على هذين ليس
بمصدر نحر بل هو الصدر، وقال آخرون المعنى: ارفع يدك في
استفتاح صلاتك عند نحرك، وقوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ رد على مقالة كان كثير من سفهاء قريش يقولها لما
لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولد فكانوا يقولون: هو
أبتر يموت فنستريح منه ويموت أمره بموته، فقال الله تعالى
وقوله الحق: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ، أي المقطوع
المبتور من رحمة الله تعالى ولو كان له بنون فهم غير نافعيه،
«والشانئ» : المبغض، وقال قتادة الْأَبْتَرُ هنا يراد به
الحقير الذليل، وقال عكرمة: مات ابن للنبي صلى الله عليه وسلم
فخرج أبو جهل يقول: بتر محمد، فنزلت السورة. وقال ابن عباس:
نزلت في العاصي بن وائل سمى النبي صلى الله عليه وسلم حين مات
ابنه عبد الله أبتر.
(5/530)
قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا
أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا
عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الكافرون
وهي مكية إجماعا.
قوله عز وجل:
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ
(2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ
ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ (6)
قرأ أبي بن كعب وابن مسعود: «قل للذين كفروا» ، وروي في سبب
نزول هذه السورة عن ابن عباس وغيره أن جماعة من عتاة قريش
ورجالاتها قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: دع ما أنت فيه ونحن
نمولك ونزوجك من شئت من كرائمنا ونملكك علينا، وإن لم تفعل هذا
فلتعبد آلهتنا ولنعبد إلهك حتى نشترك، فحيث كان الخير نلناه
جميعا، هذا معنى قولهم ولفظهم، لكن للرواة زيادة ونقص، وروي أن
هذه الجماعة المذكورة الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل
والأسود بن المطلب وأمية بن خلف وأبو جهل وابنا الحجاج
ونظراؤهم ممن لم يسلم بعد، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم
معهم في هذه المعاني مقامات نزلت السورة في إحداها بسبب قولهم
هلم نشترك في عبادة إلهك وآلهتنا، وروي أنهم قالوا: اعبد
آلهتنا عاما، ونعبد إلهك عاما، فأخبرهم عن أمره عز وجل أن لا
يعبد ما يعبدون وأنهم غير عابدين ما يعبد، فلما كان قوله: لا
أَعْبُدُ محتملا أن يراد به الآن ويبقى المستأنف منتظرا ما
يكون فيه من عبادته جاء البيان بقوله: وَلا أَنا عابِدٌ ما
عَبَدْتُّمْ، أي أبدا وما حييت، ثم جاء قوله: وَلا أَنْتُمْ
عابِدُونَ ما أَعْبُدُ الثاني حتما عليهم أنهم لا يؤمنون به
أبدا كالذي كشف الغيب، فهذا كما قيل لنوح صلى الله عليه وسلم:
إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، وأما أن هذا في معنيين
وقوم نوح عمموا بذلك، فهذا، معنى الترديد الذي في السورة وهو
بارع الفصاحة وليس بتكرار فقط، بل فيه ما ذكرته مع التأكيد
والإبلاغ، وزاد الأمر بيانا وتبريا منهم، وقوله: لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ وفي هذا المعنى الذي عرضت قريش نزل
أيضا: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ
أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: 64] وقرأ أبو عمر: «ولي ديني»
ساكنة الياء، من لي ونصبها الباقون بخلاف كل واحد منهم،
والقراءتان حسنتان، وقرأ أبو عمرو: «عابد» و «عابدون» ،
والباقون: بفتح العين وهاتان حسنتان أيضا، ولم تختلف السبعة في
حذف الياء من دين، وقرأ سلام ويعقوب: «ديني» بياء في الوصل
والوقف، وقال بعض العلماء في هذه الألفاظ مهادنة ما وهي منسوخة
بآية القتال.
(5/531)
|