تفسير ابن فورك

سورة النصر
مسألة: إن سئل عن قوله سبحانه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) }
إلى آخرها فقال:
ما النصر؟ وما الفتح؟ وما الدين؟ وما الفوج؟ وما وجه وجوب الدخول في الدين؟ وما معنى: مجئ النصر؟.
الجواب:
النصر: المعونة على العدو للظهور عليه، وذلك أن المعونة قد تكون
بالمال على نوائب الزمان، وقد تكون على العدو، وهي النصر دون المعونة الأخرى.
والفتح: الفرج الذي يمكن معه الدخول في الأمر بملك العدو.

(3/293)


الناصب للحرب.
الدين: الطاعة التي يستحق بها الجزاء، كما قيل {فِي دِينِ الْمَلِكِ}
. أي: في طاعته.
الفوج: جماعة من جماعة، وإذا قيل أفواج فهو جماعات، وهكذا كان
الناس يدخلون في الدين جماعة بعد جماعة من جملة القبيلة حتى تكامل الإسلام الجميع.
وجه الاستغفار بالنصر والفتح، أن النعمة تقتضي القيام بحق النعمة المنافية
للمعصية، فكأنه قيل: قد حدث أمر يقتضي الاستغفار مما جدّده الله لك فاستغفره.
بالتوبة يقبل ذلك منك، ومخرجه مخرج الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يعلم لجميع أمته.
وقيل: الفتح فتح مكة عن الحسن ومجاهد.
وقيل: أفواجاً زمراً زمراً عن مجاهد.
وقيل: عاش بعد هذه سنتين ثم توفي - صلى الله عليه وسلم -
عن قتادة.
وقيل: وعد الله نبيه بالنصر والفتح قبل وقوع الأمر.

(3/294)


والتوّاب في صفة الله عز وجل الكثير القبول للتوبة، والدخول في الدين
الاعتقاد لصحته مع استشعار العمل به. فيجيء النصر وقوعه التوقع له.
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}
أي: نزهه عما لا يجوز عليه مع شكرك إياه.
وقيل: صل شكراً له ما جدد لك من نعمة.
وفي الاستغفار وجهان:
أحدهما: عند ذكر المعصية بما ينافي الإصرار.
والثاني: ذكر الاستغفار على جهة التسبيح، والانقطاع إلى الله
وإنّما قيل إنه كان توَّاباً: أي: إنه يقبل توبة من بقي كما قبل توبة من مضى.

(3/295)


سورة أبي لهب
مسألة: إن سئل عن قوله سبحانه {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) }
إلى آخرها فقال:
ما التّب؟ ولم قيل {تَبَّتْ يَدَا} ولم يقل تب وهو الهالك في الحقيقة؟
وما المسد؟ وما الجيد؟ وفيمن نزلت؟ وما معنى: حمّالة الحطب؟.
الجواب:
التّب: الخسران المؤدي إلى الهلاك، وذلك إخبار ذم لأبي لهب لعنه الله
وقيل: {تَبَّتْ يَدَا} كما يقال: كسبت يداه، لأن أكثر العمل لما كان باليدين أضيف ذلك إليهما على معنى الخسار الذي أدى إليه العمل بهما.
الأغنى عنه: الدفع عنه، فأما الأغنى بالمال ونحوه فهو دفع وقوع المضارّ به.

(3/296)


المسد: حبل ليف وجمعه أمساد، وإنما وصف بهذه الصفة تخسيساً لها وتحقيراً. الجيد: العنق، وجمعه أجياد
وقيل: في تبت يدا أبي لهب: معنى الدعاء عليه نحو {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} .
{وَتَبَّ} خبر محض كأنه قيل: وقد وَتَبَّ.
وقيل: إنه جواب لقوله تبَّا لهذا من دين.
وقيل: كانت تحمل الشوك فتطرحه في طريق النبي - صلى الله عليه وسلم -
إذا خ رج إلى الصلاة. عن ابن عباس والضحاك وابن زيد.
وقيل: إنما وصفت بحمالة الحطب لأنها كانت تمشي بالنميمة.
عن عكرمة ومجاهد وقتادة.
والمسد: حبل يكون من صوف عن أبي عبيدة.
وقيل: كان أبو لهب أراد أن يرمي النبي - صلى الله عليه وسلم - بحجر فمنعه الله من ذلك.
وقال: تبت يداه للمنع الذي وقع به.

(3/297)


ثم قال وتب بالعذاب الذي ينزل به فيما بعد.
وفي السورة معجزة من جهة الخبر بأنهما يموتان جميعاً على الكفر فكان الأمر كذلك.
وقيل: حمالة الحطب: في النار.
وقرأ عاصم {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} نصباً، وقرأ الباقون {حَمَّالَةُ الْحَطَبِ} بالرفع.
وقرأ ابن كثير {تَبَّتْ يَدَا أَبِي (لَهْبٍ) وَتَبَّ} بإسكان الهاء، وقرأ الباقون {لَهَبٍ} .
وأصل المسد: الفتل، وقيل: المسد الليف لأن من شأنه أن يفتل للحبل.

(3/298)


سورة الإخلاص

(3/299)


مسألة: إن سئل عن قوله سبحانه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) }
إلى آخرها فقال:
ما الأحد؟ وما حقيقة الواحد؟ ومن أين دل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} على إبطال مذهب المجسم؟ وما الصمد؟ وما الكفو؟.
الجواب:
الأحد: معناه واحد، والأحد وحد إلاّ أن الواو قلبت همزة كما قيل: وناه وأناه، لأن الواو مكروهة أولا، فقلبت إلى حرف مناسب لها بأنه أول
المخارج كما هي كذلك وإنها حرف علة مع قوة الهمزة أولا وقد جاء وحد قال النابغة:
كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... يوم الجليل على مستأنس وحده
حقيقة الوحد شيء لا ينقسم في نفسه أو معنى صفته، فإذا أطلق أحد من
غير تقدم موصوف، فهو واحد في نفسه، فإذا حوى على موصوف، فهو أحد

(3/300)


في معنى صفته، فإذا قيل: الجزء لا يتجزأ واحد، فهو واحد في نفسه، وإذا قيل: هذا الرجل إنسان واحد في معنى صفته.
دلَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
على إبطال التجسيم لأن الجسم ليس بأحد إذ هو أجزاء كثيرة، وقد دلَّ الله بهذا القول على أنه واحد فصح أنه ليس بجسم.
الصّمد: فيه أقوال:
الأول: السيّد المعظّم.
كما قال الأسدي:
ألا بَكَّرَ النَّاعي بخَيْرِ بني أسدْ ... بعَمْرِو بن مسعودٍ وبالسَّيِّد الصَّمَدْ
وقال الزبرقان ولا رهينة إلاّ سيد صمد

(3/301)


وقيل: الذي يُصْمَد إليه في الحوائج ليس فوقه أحد، صمدت إليه أصمد إذا قصدت إليه، وفي الصمد معنى التعظيم كيف تصرفت الحال.
وقولنا {اللَّهُ الصَّمَدُ}
ابتداء وخبر في قول الكسائي.
وقيل: هو كناية عن اسم الرّب جل وعز لأنهم قالوا: ما ربّك؟ قال: هو الله أحد
وقيل: الصمد السّيد المعظم. عن ابن عباس.
الكفوُ والكفاء والكفي واحد وهو المثل والنظير
ومن زعم أن الصّمد بمعنى المصمت فقد جهل الله لأن المصمت هو المتضاغط الأجزاء وهذا تشبيه وكفر بالله.
قرأ أبو عمرو {أَحَدُ اللَّهُ الصَّمَدُ}
بغير تنوين في الوصل فيما رواه هارون عنه، وقرأ بالتنوين في الوصل فيما رواه نضر.

(3/302)


عن أبيه وأحمد بن موسى، وقرأ الباقون {أَحَدٌ اللَّهُ} بالتنوين، ووجه ترك
التنوين أنه ينوي به الوقف لأنه رأس آية مع أنه قد حذف التنوين لالتقاء السّاكنين والوجه تحريكه
كما قال الشاعر:

(3/303)


فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلاّ قليلاً
قرأ {كفْئًا}
بسكون الفاء مهموزاً حمزة ونافع باختلاف عن نافع، وقرأ الباقون {كُفُؤاً أحد} بضم الفاء مهموزاً.
ولا يجوز أن يكون {أَحَدٌ}
هذه هي التي تقع في النفي، لأنها أعمّ العام على الجملة أحد، والتفصيل، فلا يصلح ذلك إلاّ في الإيجاب، كقولك: ما في الدّار أحد أي: ما فيها واحد فقط ولا أكثر، ويستحيل هذا في الإيجاب ولا
شيء إلا وله إلا الله سبحانه.

(3/304)


سورة الفلق
مسألة: إن سئل عن قوله سبحانه {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) }
إلى آخرها فقال:
ما الفلق؟ وما الغاسق؟ وما معنى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}

(3/305)


الجواب:
الفلق: الصبح، وأصله الفرق الواسع من قولهم: فلق رأسه بالسّيف
يفلقه فلقاً إذا فرقه فرقاً واسعاً عظيماً.
ويقال: أبين من فلق الصّبح وفرق الصّبح، وذلك لأن عموده ينفلق بالضّياء عن الظلام، وقيل: له فجر لانفجاره بذهاب ظلامه
وقيل: الفلق الخلق لأنه مفلوق.
ومنه {فالق الإصباح} و {فالق الحب والنوى}
وقيل: للداهية فلقة، لأنها تفلق الظّهر.
الغاسق: الهاجم بضرره.
وقيل: هنا اللّيل، لأنه يخرج السّباع من آجامها والهوام من مكامنها.
وأصله الجريان بالضرر من قولهم: غسقت الجرحة إذا جرى صديدها.
والغسّاق: صديد أهل النار لسيلانه بالعذاب.
واللّيل غاسق لجريانه بالضرر في إخراج السّباع والهوام.

(3/306)


معنى وقب: دخل، يقال: وقب يقب وقوباً إذا دخل
النفّاثات في العقد: السحرة الذين كلما عقدوا عقداً نفثوا فيه، وهو شبيه بالنفخ، فأما التفل فنفخ بريق وهذا هو الفرق بين النفث والتفل.
شرّ النفّاثات: فيه قولان:
إيهامهم أنهم يمرضون ويعافون، ويجوز ذلك مما يخيل رأي الإنسان من
غير حقيقة لما يدّعون من الحيلة بالأطعمة الضّارة والأمور المفسدة.
أنه بضرب من خدمة الجن يمتحن الله لهم بتخليتهم فيه بعض الناس دون بعض
وفي السورة تعليم ما يستدفع به الشرور بإذن الله على تلاوة ذلك بالإخلاص فيه، والاتباع لأمر الله تعالى.
وقيل: الفلق الصبح. عن ابن عباس.
وقيل: بيت في جهنم إذا فتح صاح أهل النار من شدّة حره عن كعب.
وقيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سُحر وإنما طلبت اليهود ذلك فلم يقدروا عليه.

(3/307)


سورة الناس
مسألة: إن سئل عن قوله سبحانه {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) }
إلى آخرها فقال:
ما الوسواس؟ وما الخنّاس؟ وما معنى: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس}
وما الفرق بين مالك
وملك حتى جازى في فاتحة الكتاب ولم يجز إلاّ ملك في سورة الناس؟
وعلى أي حال يوسوس الشّيطان بالإغواء إلى الإنسان؟.
الجواب:
الوسواس: حديث النفس بما هو كالصّوت الخفي، وأصله الصوت
الخفي والوسوسة كالهمهمة ومنه: فلان موسوس إذا غلبت عليه الوسوسة لما يعتريه من المرّة.
الخنّاس: الكثير الاختفاء بعد الظهور يقال: خنس يخنس خنوساً
ومنه {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ}
أي: بالنجوم التي تخفى بعدما تظهر بتصريف الحكيم
الذي أجرها على حق حسن التدبير.

(3/308)


{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ}
فيه ثلاثة أقوال:
الأول: من شر الوسوسة التي يكون من الجنة والنّاس.
الثاني: من شر ذي الوسواس وهو الشيطان، كما جاء في الأثر أنه
يوسوس فإذا ذكر العبد ربه خنس، فيكون {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس} كما قال
{إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ}
فأما {وَالنَّاس} عطف عليه كأنه قيل: من الشيطان الذي هذه صفته والناس.
الثالث: من شر ذي الوسواس الخناس على العموم، ثم يفسر بقوله - عز وجل - {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس}
كما يقال: نعوذ بالله من شر كل مارد من الجن والناس.
الفرق بين مالك وملك حين جازا في فاتحة الكتاب دون هذه السورة.
لأن صفة ملك تدل على تدبير من يشعر بالتدبير، وليس كذلك مالك، لأنه يجوز مالك الثّوب، ولا يجوز ملك الثّوب، ويجوز ملك الرّوم، ولا يجوز مالك الروم، فجرت في فاتحة الكتاب على معنى الملك في يوم الجزاء، ومالك الجزاء، وجرت في سورة النّاس على ملك تدبير من يعقل التدبير، فكأن هذا أحسن وأولى.

(3/309)


يوسوس الشّيطان بالكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى قلبه من غير
سماع الصوت، وهذه حالة معقولة يقع عليها الوسوسة.
وقيل {مَلِكِ النَّاسِ}
وهو جل وعز ملك جميع الخلق لبيان أن مدبر جميع النّاس قادر أن يعيذهم من شر ما استعاذوا منه مع أنه أحق بالتّعظيم من ملوك النّاس.
* * *
تم الكتاب والحمد لله رب العالمين
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم تسليماً كثيراً والحمد لله وحده.

(3/310)


الخاتمة
بعد معايشة طويلة مع تفسير ابن فورك (تفسير القرآن العظيم) أخلص إلى
عدد من النتائج أهمها:
أولاً: الإمام ابن فورك عالم من علماء الأشاعرة الذين ساهموا في تطوير
المذهب الأشعري.
ثانياً: ومن خلال البحث ظهر لي قوة شخصية الإمام ابن فورك التفسيرية
، يفند، ويعقب، ويناقش، وليس كحاطب ليل يجمع الآراء دون تعقيب، هذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على القيمة العلمية لتفسير الإمام ابن فورك.
ثالثاً: ولقد تعرفت من خلال البحث على مصادر كثيرة ومتنوعة، وتعرفت
كذلك على الأئمة الأعلام السابقين وجهودهم ومدى صبرهم على طلب العلم والتأسي بهم، من خلال ترجمة الأعلام.
فالله أسأل أن يكون هذا البحث على الوجه الصحيح، فإن كان كذلك فهذا
من فضل الله وتوفيقه، وإن كان على غير ذلك فمن عادة البشر الخطأ والتقصير، والكمال ليس إلا لله تبارك وتعالى.

(3/311)