تفسير ابن فورك

سورة ألم تر
مسألة: إن سئل عن قوله سبحانه {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) }
إلى آخرها فقال:
ما الأبابيل؟ وما سجّيل؟ وما العصف؟ وما معنى: تضليل؟.
الجواب:
الأبابيل: جماعات في تفرقة زمرة وزمرة لا واحد لها في قول أبي
عبيدة والفراء، كما لا واحد للعبابيد والشماطيط، وزعم بعضهم أنه سمع واحدها إبالة، وقال بعضهم: واحدها إبول مثل عجول.
سجيل: كل شديد.
وقيل: حجارة من الجحيم فهو سجين ثم أبدلت النون لاماً كما قيل: في أصيلان أصيلا.

(3/275)


العصف: ورق الزرع، وذلك أن الريح تعصفه أي: تذهب به يميناً وشمالاً.
معنى {كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}
أي مأكول الثمرة كما يقال: فلان حسن أي حسن
الوجه، فأجرى مأكول على العصف من أجل أكل ثمرته، لأن المعنى معلوم للإيجاز.
وقيل: أبابيل مع بعضها بعضاً.
عن ابن عباس.
وقيل: أبابيل كثيرة متتابعة عن قتادة.
وقيل: كانت سوداً بحرية تحمل في مناقيرها وأكفها الحجارة.
عن عبيد بن عمير.
وقيل: في تضليل: عما قصدوا له من تخريب الكعبة، وهم خلق من الحبشة رئيسهم أبرهة.
وقيل: كانت الحجارة أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة.
عن موسى ابن أبي عائشة.
وقيل: كان مع كل طير ثلاثة أحجار اثنان في رجليه وواحد في منقاره.
وقيل: كان سبب قصد أبرهة لتخريب الكعبة أنه بنى كنيسة عظيمة أراد أن تُحَجَّ بدل الكعبة.
وقيل: العصف التبن. عن قتادة.

(3/276)


وقيل: مأكول قد أكلت بعضه المواشي وكسرت بعضه.
وقيل: كان ذلك معجزة لنبي كان في ذلك الزّمان، يجوز أن يكون خالد بن
سنان.
وقيل: أنه إرهاص لنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -
وكان ولد في عام الفيل.
وقيل: كان سبب قصد أبرهة لتخريب البيت الحرام أن العرب هدموا كنيسة الحبشة وهم نصارى. عن الحسن.
وقيل: كان الفيل إذا وجهوه إلى جهة غيرها سار إنذاراً من الله - عز وجل - لهم وموعظة.
وقيل: مأكول وقع فيه الأكال.
وقيل: كان الحجر يقع في رأس الرجل فتخرج من دبره
وقيل: سجيل: من طين مطبوخ كالآجر.

(3/277)


سورة لإيلاف قريش
مسألة: إن سئل عن قوله سبحانه {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) }
إلى آخرها فقال:
ما الإيلاف؟ وما الرحلة؟ وما الشتاء؟ وما العامل في لإيلاف؟
وما معنى {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} ؟
الجواب:
الإيلاف: أصحاب الألف بالتدبير الذي فيه لطف، وهو نقيض الإيحاش ونظيره الإيناس.
الرحلة: حال السير على الراحلة، وهي الناقة القوية ومنه الحديث
"الناس كإبل مائة لا يجد فيها راحلة"
الرحل: متاع السّفر.
الارتحال: احتمال الرحل للمسير في السّفر.

(3/278)


الشتاء: أوان شدة البرد.
العامل في إيلاف {فليعبدوا} كأنه قيل كذلك الإنعام {فليعبدوا}
في تقديم القول فيه في قوله {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) }
وقيل: العامل فيه (اعجبوا لإيلاف قريش، وهذا لا يجوز لأنه من سورة أخرى.
وقيل: إلف الشيء لزومه على عادة في سكون النفس إليه.
وقيل: كانت لهم رحلتان:
رحلة الصيف إلى الشّام ورحلة الشتاء إلى اليمن في البحار عن ابن زيد والكلبي.
وقيل {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}
الغارة بالحرم الذي جبل قلوب العرب على تعظيمه. عن قتادة.
والله تعالى {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} بما أعطاهم من الأموال وسبّب لهم من الأرزاق.
وقيل: كانوا إذا قيل في سفرهم نحن أهل حرم الله لم يُتَعَرض لهم.

(3/279)


قرأ ابن عامر {لِإِلَافِ قُرَيْشٍ} قريش بقصرها ولا يجعل بعد الهمز ياء إيلافهم
بياءٍ بعد الهمز بخلاف لفظ الأول، وقرأ الباقون {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ}
جميعاً بهمزة.

(3/280)


سورة أريت
مسالة: إن سئل عن قوله سبحانه {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) }
إلى آخرها فقال:
ما معنى يدع اليتيم؟ وما الدين؟ وما حقيقة الدّع بأنه لا يحض على طعام المسكين؟ ولم أطلق فويل للمصلين مع أنه رأس آية يقتضي تمام الجملة.
وقيل: ذم بال سهو في الصلاة وليس من فعله؟ وما الماعون؟
وما معنى: ساهون؟.
الجواب:
معنى {يَدُعُّ الْيَتِيمَ} : يدفعه عنفاً به، وذلك لأنه لا يؤمن بالجزاء عليه.
فليس له رادع عنه، كما لمن يقر بأنه يكافئ عليه، دعّه يدعّه دعّاً إذا دفعه دفعاً شديداً.
الدِّين: ها هنا الجزاء فالتكذيب بالجزاء من أضر شيء على صاحبه، لأنه
يعدم به أكثر الدواعي إلى الخير، والصوارف عن الشر، فهو يتهالك في الإسراع إلى الشر الذي يدعوا إليه طبعه لا يخاف عاقبة الضرر فيه.
حقيقة الذم بأنه لا يحث على طعام المسكين أنه لا يحض عليه بخلاً به لا لعجزه.
أطلق {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} لأنه معرف بما يدل على أنه على جهة الرياء والنفاق.

(3/281)


المزيل الأناس وهو في حكم المحذوف للقرينة التي صححت الكلام.
ذم السهو في الصلاة، والذم في الحقيقة على التعرض للسهو بدخوله فيها على الرياء وقلبه مشغول بغيرها
وقيل: يدع اليتيم يدفعه عن حقه.
عن ابن عباس ومجاهد.
وقيل {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}
يؤخرونها عن وقتها. عن ابن عباس ومسروق.
وقيل: غافلون. عن قتادة.
وقيل: لاهون كأنهم يسهون للهوهم عنه.
الماعون: كل ما فيه منفعة عن أبي عبيدة، وأصله القلة من قولهم:
المعن القليل والماعون القليل القيمة بما فيه منفعة من آلة البيت من نحو الفأس
والقدحة والإبرة، ومنه معن الوادي إذا جرت مياهه قليلاً قليلاً، والماء المعين الجاري قليلاً.
وقيل: الماعون: الزكاة عن علي بخلاف عنه.
وقيل: الماعون ما يتداوله الناس بينهم من الفأس والقدر والدلو.

(3/282)


سورة الكوثر
مسألة: إن سئل عن قوله سبحانه {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) }
إلى آخرها فقال:
ما الإعطاء؟ وما الكوثر؟ وما معنى: وانحر؟ وما الشانئ؟ وما الأبتر؟ وكيف وجه الإعجاز بهذه السورة مع قصرها؟.
الجواب:
الإعطاء: إخراج الشيء إلى آخذ له، وهو على وجهين:
إعطاء تمليك وغير تمليك
وإعطاء كوثر إعطاء تمليك كإعطاء الآجر
وأصله التناول من عطى يعطو إذا تناول، والكوثر الذي من شأنه الكثرة
والكوثر: الخير الكثير وهو فوعل من الكثرة، وقيل: هو حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يكثر الناس عليه يوم القيامة عن عطاء.
وقيل: الخير الكثير. عن ابن عباس.

(3/283)


وقيل: نهر في الجنة حافتاه قباب الدر والياقوت عن عائشة رضوان الله عليها، وقيل: يجري على الدر والياقوت عن ابن عمر رحمة الله عليهما
معنى وانحر: ضع اليد اليمنى على اليسرى، هذا النحر فيما يروى عن
عليٍّ، وقيل: وانحر البُدْنَ لربّك خلافاً لمن نحر الأوثان.
الثاني: المبغض شَنَئته أَشْنؤه شناء إذا أبغضته.
وقيل: شانئك: عدوك. عن ابن عباس.
وقيل: هو العاص بن وائل.
الأبتر: المنقطع عن الخير
وقيل: الذي لا عقب له عن مجاهد.
وقيل: هو جواب لقول العاص بن وائل محمد أبتر لا عقب له.
وقيل: هو الأقل الأذل لانقطاعه عن الخير. عن قتادة.
وقيل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} الصلاة المكتوبة.
وقيل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} صلاة العيد {وانحر} البُدْن والأضاحي.
وقيل {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}
جواب لقول قريش إنه أبتر لا ولد له.
ذكر إذا مات قام مقامه فيما يدعوا إليه، وقد انقطع أمره.
فقيل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} .

(3/284)


والأبتر: الذي ينقطع ما هو عليه من كفره بموته، فكان الأمر كما أخبر به
وقيل: للحمار المقطوع الذنب الأبتر فشبه به.
وقيل: {وَانْحَرْ} استقبل القبلة بِنَحْرك.
وجه الإعجاز في السورة تشاكل المقاطع للفواصل وسهولة مخارج
الحروف بحسن التأليف وتقابل المعاني بما هو أولى إذ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} هنا أحسن من صل لنا لأنه يجب أن يذكر في الصلاة بصفة الربوبية، (وانحر) هنا أحسن
من (وانسكه) لأنه على بر يعم بعد بر يخص.
و (الأبتر) أحسن من (الأخس) لأنه أدل على الكناية في النفس، فهذه الحروف القليلة جمعت المحاسن الكثيرة
وما لها في النفس من المنزلة أكثر بالفخامة والجزالة وعظم الفائدة التي يعمل عليها وينتهي إليها.

(3/285)


سورة قل يا أيها الكافرون
مسألة: إن سئل عن قوله سبحانه {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) }
إلى آخرها فقال:
ما معنى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) }
وما معنى تكرير ذكر العبادة؟
ولم امتنع عبادة الأوثان؟ وفيمن نزلت السورة؟ ولم وقع فيها التكرير؟
وما الدليل على أن الكافرين فيها على الخصوص؟ وهلَّا دل على اختلاف باختلاف اللّفظ وهلَّا دل على ذلك من أصول مختلفة أو هو

(3/286)


أظهر للمعنى؟ وما فائدة الكلام ومن أي وجهة يضمن الإيجاز؟ وما معنى: وما الدليل على أن الألف واللام في الكافرين لمعهود؟
الجواب:
معنى {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) }
أي: لا أعبد الأوثان وأنتم تعبدونها ولا أنتم عابدون ما أعبد لجهلكم بوجوب إخلاص العبادة لله.
معنى تكرير ذكر العبادة لتصريفها في الفوائد المختلفة وذلك لنفي عبادة المؤمنين للوثن كيف تصرفت الحال إلى ماضي أو حاضر أو مستقبل.
معنى {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}
لكم جزاؤكم على عبادة الأوثان ولي جزاء على
عبادة ربي فانظروا ما مقتضى كل من الأمرين.
وقيل: إن السورة جواب لقوم من المشركين دعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا هم إلهه سنة وفيهم نزل {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) } .
عن ابن عباس.
وقيل: قالوا له نشركك في أمرنا بأن كان الذي في يدك خيراً كنّا قد أخذنا بحظ منه.

(3/287)


وقيل: الذي قال الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطّلب
وأميّة بن خلف.
وقيل: قالوا نتداول العبادة ليزول ما بيننا من البغضاء والعداوة.
وقرأ {وَلِيْ دِينِ}
أبو عمرو وحمزة والكسائي، وقرأ الباقون {وَلِيَ دِينِ} . بفتح الياء باختلاف عنهم.
التكرير لم يقع ولا تكرير في اللّفظ إلاّ في موضع واحد يستبين وجهه.
وذلك أن قوماً من المشركين سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مناقلة العبادة سنة يعبدون ما يعبد وسنة يعبد هو ما يعبدون لتزول العادة بوقوع العبادة على هذه الجهة فجاء الكلام على طريق الجواب لإنكار ما سألوا فقيل {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) }
وهذا نفي منه لما يعبدون في الاستقبال.
ثم قال {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) }
على نفي العبادة لما عبدوا في الماضي.
وهذا واضح في أنه لا تكرير في لفظه ولا في معناه، وأنه تصريف للعبادة فيه
إنكار لما سألوا على التفصيل الذي ذكروا.
وأما {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) }
فعلى التكرير في اللفظ دون المعنى من قبل أن التقابل يوجب أن معناه ولا أنتم عابدون ما عبدت إلاّ أنه عدل بلفظه إلى أعبد للإشعار أن ما عبدت هو ما أعبد، واستغنى بما يوجه التقابل من معنى

(3/288)


عبدت على الإفصاح به، وعدل عن لفظه لتضمين معنى آخر فيه، وكان ذلك أكثر في الفائدة وأولى بالحكمة، لأنه دل على (عبدت) دلالة التضمين من جهة التقابل، وعلى معنى (أعبد) دلالة التصريح باللفظ.
فإن قال قائل: فهلاّ قيل ما عبدت ليتقابل اللفظ كما تقابل المعنى؟
قيل: هو في حكم التقابل في اللفظ من حيث هو دال عليه إلا أنه عدل عن
الإفصاح به للإشعار بأن معبوده واحد كيف تصرفت الحال وكان هذا أبعد من الإيهام أن معبوده فيما مضى غير معبوده فيما يستقبل.
ويجوز في الماضي والم ستقبل أن يقع أحدهما موقع الآخر إذا كان في الكلام
دليلٌ عليه نحو {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} على معنى ينادون.
فإن قال قائل:
مهلاً فهلاّ دل على اختلاف المعنى باختلاف اللفظ إذ هو الأصل في حسن
البيان؟.
قيل له: إن التقابل يقع في ذلك قد صيّر اللفظ في حكم المختلف، لأنه مقيد
به، ودلالة المقيد خلاف دلالة المطلق نحو: زيد قائم بالتدبير على خلاف معنى زيد قائم.
فإن قال قائل: فهلاّ دل ذلك من أصول مختلفة إذ هو أدل على خلاف
المعنى بصريح الجهة؟.
قيل له: إنه لما أريد نفي العبادة على تصريف الأحوال صرف لفظ العبادة
لتصريف المعنى، ولم يصلح فيه أصول مختلفة، لئلا يوهم النفي معنى آخر غير
تصرف عبادة الله على الوجوه والأسباب كلها، وكان تصريف لفظ العبادة

(3/289)


لتصريف معناها أحق وأولى من تصريف معناها في غير لفظها لما فيه من التشاكل المنافي للتنافر.
فإن قال فما الدليل على أن الكافرين فيها على الخصوص؟.
قيل له: خروج الكلام على حال معلومة من دخول الكفار متقاطرين في الإسلام، فدل ذلك أنه في قوم مخصوصين مع تظاهر الأخبار بأنه في قوم من الكفار بأعيانهم دون غيرهم.
فإن قال: ما الدليل على أن الألف واللام للمعهود مع أن المبهم لا يوصف
إلاّ بالجنس؟.
قيل له: هي في مخرج اللفظ على الجنس من حيث هو صفة ل (أي) ولكن
(أيا) للمخاطبين من الكفار بأعيانهم فآل إلى معنى المعهود في أنه يرجع إلى
جماعة بعينها، نحو: يا أيها الرجال ادخلوا الدار، فلم تأمر جميع الرجال، ولكن أمرت الذين أشير إليهم بإقبالك عليهم.
فإن قالوا: فما فائدة الكلام؟.
قيل لهم: الإنكار لما لا يجوز من مناقلة العبادة على ما توهمه قوم من
الكفار لتقوم الحجة به من جهة السمع كما كانت من جهة العقل مع الإعجاز الذي فيه، وذلك من جهة الإخبار بما يكون في مستقبل الأزمان مما لا سبيل إلى علمه إلا بوحي الله تعالى إلى من يشاء من العباد، فوافق المخبر بما تقدم به الخبر، وفي ذلك أوضح الدلالة
فإن قال فما معنى {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ؟

(3/290)


قيل معناه: لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني وحسبك بجزاء دينهم وبالاً وعقاباً، كما حسبك بجزاء دينه نعيماً وثواباً.
فإن قيل: ذكرت الحجة في أن ما دعوا إليه لا يجوز؟.
قيل له: تقبيحاً لها من حيث أخرجت مخرج مقالة يكفي العلم بفسادها، حكايتها مع الاستغناء بما في العقول من الدلالة على بطلانها.
فإن قيل: فهلاّ بيّن ذكرهم بصفة غير منكرة؟.
قيل له: قد بين ذلك بعلم التعريف له إلا أنه بصفات الذم التي فيها معنى الرجز وهي دالة على أحوالهم فيما دعوا إليه من الباطل.
فإن قال فلم قال {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}
مع ما يقتضي ظاهرة التسليم؟
قيل له: مظاهرة في الإنكار، كما قال تعالى {اعملوا ما شئتم}
لما فيه من الدليل على شدة الوعيد بالقبح لأنه إذا خرج الكلام مخرج التسليم للأمر دل على أن الضرر لا يلحق إلا المسلم إليه، فكأنه قيل له: أهلك نفسك إن كان ذلك خيراً لك.
فإن قيل: فلم قيل {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ولم يقل (من أعبد) ؟
قيل له: لأنه مقابل لقوله {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ}
ولا يصلح هنا إلا (ما) دون (من) لأنه يعني {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} من
الأصنام ثم حمل الثاني عليه ليتقابل ولا يتنافر.
فإن قيل: فكيف أنكر عليهم ما لا يجوز في الحكمة بألين النكير مع خروجه
إلى أقبح القبيح؟ .

(3/291)


قيل: ليس ذلك بألين النكير في المعنى وإن خرج لفظه ذلك المخرج، لأنه
إنما عومل تلك المعاملة ليجعل في حيز ما يكفي فيه التنبيه، حتى يظهر أنه أقبح قبيح وهذا ضرب من البلاغة عجيب يفهمه كل عاقل له أدنى فطنة.

(3/292)