تفسير أبي السعود إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)

{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} توبيخ آخرُ لإخلاف بني إسرائيلَ بتذكير بعضِ جناياتٍ صدرت عن أسلافهم أي واذكروا وقت قولِ موسى عليه السلام لأجدادكم
{إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} وسببه أنَّهُ كانَ في بني إسرائيلَ شيخٌ موسر فقتلَه بنو عمِّه طمعاً في ميراثه فطرَحوه على باب المدينة ثم جاءوا يطالبون بديته فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرةً ويضرِبوه ببعضها فيَحْيَا فيُخْبِرَهم بقاتله
{قَالُواْ} استئنافٌ وقع جوابا عما ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنَّه قيل فماذا صنعوا هل سارعوا إلى الامتثال أو لا فقيل قالوا
{أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} بضم الزاء وقلب الهمزة واوا وقرئ بالهمزة مع الضم والسكون أي أتجعلنا مكان هزؤ أو أهل هزؤ أو مهزوء ابنا أو الهزؤ نفسه استبعاداً لما قاله واستخفافاً به
{قَالَ} استئناف كما سبق
{أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} لأن الهُزْؤ في أثناء تبليغ أمر الله سبحانه جهلٌ وسفَهٌ نفى عنه عليه السلام

(1/110)


البقرة (69 - 68) ما توهموه من قبله على أبلغِ وجهٍ وآكدِه بإخراجه مخرج مالا مكروهَ وراءَه بالاستعاذة منه استفظاعاً له واستعظاماً لما أقدَموا عليه من العظيمة التي شافهوه عليه السلام بها

(1/111)


قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)

{قَالُواْ} استئنافٌ كما مر كأنه قيل فماذا قالوا بعد ذلك فقيل توجهوا نحو الامتثال وقالوا
{ادع لَنَا} أي لأجلنا
{رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ} ما مبتدأ وهي خبرُه والجملةُ في حيز النصبِ يبين أي يبين لنا جوابَ هذا السؤال وقد سألوا عن حالها وصفتها لِما قرَعَ أسماعَهم ما لم يعهدوه من بقرةٍ ميتةٍ يضرب ببعضها ميت فيحيا فإنَّ ما وإنْ شاعتْ في طلبِ مفهومِ الاسمِ والحقيقة كما في ما الشارحة والحقيقةِ لكنَّها قد يُطلب بَها الصفةُ والحالُ تقولُ ما زيد فيقال طبيبٌ أو عالم وقيل كان حقُه ان يستفحم بأيَ لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حالة مغايرة لما عليه الجنس أخرجوه عن الحقيقة فجعلوه جنساً على حياله
{قَالَ} أي موسى عليه السلام بعدما دعا ربه عز وجل بالبيان وأتاه الوحْيُ
{أَنَّهُ} تعالى
{يَقُولُ إِنَّهَا} أي البقرةُ المأمورُ بذبحها
{بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ} أي لا مُسنة ولا فتية يقال فرَضَت البقرةُ فروضاً أي أسنت من الفرْض بمعنى القطع كأنها قطعَتْ سنها وبلغت آخرَها وتركيبُ البكر للأولية ومنه البَكرة والباكورة
{عَوَانٌ} أي نصف لا قحم ولا ضَرْع قال
طِوالٌ مثلُ أعناقِ الهوادي ... نواعمْ بين أبكارٍ وعُونِ
{بَيْنَ ذلك} إشارة إلى ما ذكر من الفارض والبِكْر ولذلك أضيف إليه بين لاختصاصه بالإضافة إلى المتعدد
{فافعلوا} أمرٌ من جهة موسى عليه السلام متفرِّع على ما قبله من بيان صفةِ المأمور به
{مَا تُؤْمَرونَ} أي ما تؤمرونه بمعنى تؤمَرون به كما في قوله
أمرتُك الخيرَ فافعلْ ما أمرت بهِ
فإن حذفَ الجار قد شاع في هذا الفعل حتى لَحِق بالأفعال المتعدية إلى مفعولين وهذا الأمرُ منه عليه السلام لحثِّهم على الامتثال وزجرِهم عن المراجعة ومع ذلك لم يقتنعوا به وقوله تعالى

(1/111)


قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)

{قَالُواْ} استئنافٌ كما مر كأنه قيل ماذا صنعوا بعد هذا البيان الشافي والأمرِ المكرَّرِ فقيل قالوا
{ادع لنا ربك يبين لَّنَا مَا لَوْنُهَا} حتى يتبين لنا البقرةُ المأمور بها
{قَالَ} أي موسى عليه السلام بعد المناجاةِ إلى الله تعالى ومجىءِ البيان
{أَنَّهُ} تعالى
{يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} إسنادُ البيان في كل مرةٍ إلى الله عزَّ وجلَّ لإظهار كمالِ المساعدةِ في إجابة مسئولهم بقولهم يبينْ لنا وصيغةُ الاستقبال لاستحضارِ الصورة والفُقوعُ نصوعُ الصُّفرةِ وخلوصُها ولذلك يؤكَّد به ويقال أصفرُ فاقعٌ كما يقال أسودُ حالك واحمر قانئ وفي إسناده إلى اللون مع كونِه من أحوال الملون لملابسته به مالا يخفى من فضل تأكيدٍ كأنه قيل صفراءُ شديدُ الصُفرةِ صُفرتها كما في جَدّ جِدّه وعن الحسنِ رضيَ الله عنه سوداءُ شديدةُ السواد وبه فسر قوله تعالى

(1/111)


البقرة (71 - 70)
{جمالة صُفْرٌ} قيل ولعل التعبير عن السواد بالصفر لما أنها من مقدماته وإما لأن سَواد الإبل يعلوه صُفْرةٌ ويأباه وصفُها بقوله تعالى
{تَسُرُّ الناظرين} كما يأباه وصفُها بفقوع اللون والسرورُ لذةٌ في القلب عند حصول نفعٍ أو توقُّعِه من السر عن عليَ رضيَ الله عنه من لبِسَ نعلاً صفراءَ قل همُّه

(1/112)


قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)

{قَالُواْ} استئنافٌ كنظائره
{ادع لنا ربك يبين لنا مَا هِىَ} زيادةُ استكشافٍ عن حالها كأنهم سألوا بيانَ حقيقتها بحيث تمتاز عن جميع ما عداها مما تشاركها في الأوصاف المذكورة والأحوالِ المشروحة في أثناء البيان ولذلك علّلوه بقولهم
{إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا} يعنُون أن الأوصافَ المعدودةَ يشترك فيها كثير من البقر ولا نهتدي بها إلى تشخيص ما هو المأمور بها بل صادقةً على سائر افراد الجنس وقرئ إنَّ الباقِرَ وهو اسمٌ لجماعة البَقر والأباقر والبواقر ويتشابه بالياء والتاء وَيشّابه بطرح التاء والإدغام على التذكير والتأنيث وتَشَابهت مخففاً ومشدداً وتَشَبَّهُ بمعنى تتشبه وتشبه بالتذكير ومتشابِهٌ ومتشابهةٌ ومُتَشَبِّهٌ ومُتَشَبِّهَةٌ وفيهِ دلالةٌ على أنَّهم ميَّزوها عن بعض ما عداها في الجملة وإنما بقي اشتباهٌ بشرف الزوال كما ينبئ عنه قولهم
{وَإِنَّا إِن شَاء الله لَمُهْتَدُونَ} مؤكداً بوجوه من التوكيد أي لمهتدون بما سألنا من البيان الى الأمور بذبحها وفي الحديث لولم يستثنوا لما بُيِّنَتْ لهم آخرَ الأبد

(1/112)


قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)

{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الارض وَلاَ تَسْقِى الحرث} أي لم تُذلَّلْ للكِراب وسقى الحرث ولا ذلول صفةٌ لبقرةٌ بمعنى غير ذلول ولا الثانية لتأكيد الأولى والفعلان صفتا ذلول كأنه قيل لا ذلولٌ مثيرةٌ وساقية وقرئ لا ذلول بالفتح أي حيث هي كقولك مررت برجل لا بخيلٍ ولا جبان أي حيث هو وقرئ تُسْقي من أسقى
{مُّسَلَّمَةٌ} أي سلَّمها الله تعالى من العيوب أو أهّلها من العمل أو خلص لها لونها من سَلِم له كذا إذا خَلَص له ويؤيده قوله تعالى
{لاَّ شِيَةَ فِيهَا} أي لا لونَ فيها يخالف لونَ جلدِها حتى قَرْنُها وظِلْفُها وهي في الأصل مصدرُ وشاه وشّياً وشِيةً إذا خلَط بلونه لوناً آخر
{قالوا} عند ما سمعوا هذه النعوت
{الآن جئت بالحق} أي بحقيقة وصفِ البقرةِ بحيث ميَّزْتها عن جميع ما عداها ولم يبقَ لنا في شأنها اشتباهٌ أصلاً بخلاف المرتين الأوليين فإن ما جئتَ به فيهما لم يكن في التعيين بهذه المرتبة ولعلهم كانوا قبلَ ذلك قد رأَوْها ووجدوها جامعةً لجميع ما فُصِّل من الأوصاف المشروحةِ في المرات الثلاثِ من غير مشارِكٍ لها فيما عُدَّ في المرَّةِ الأخيرةِ وإلا فمن أين عرَفوا اختصاصَ النعوت الأخيرةِ بها دون غيرها وقرئ الآنَ بالمد على الاستفهام والآنَ بحذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على اللام
{فَذَبَحُوهَا} الفاء فصيحة كما في فانفجَرت أي فحصّلوا البقرةَ فذبحوها
{وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} كاد

(1/112)


البقرة (72)
من أفعال المقاربة وُضع لدنوِّ الخبر من الحصول والجملةُ حالٌ من ضمير ذبحوا أي فذبحوها والحال إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ بمعزل منه أو اعتراضٌ تذييلي ومآلُه استثقالُ استعصائِهم واستبطاءٌ لهم وأنهم لفَرْط تطويلِهم وكثرةِ مراجعاتِهم ما كاد ينتهي خيط اسهابهم فيها قيل مضى من أول الأمرِ إلى الامتثال اربعون سنة وقيل وما كادوا يفعلون ذلك لغلاء ثمنها رُوي أنَّهُ كانَ في بني إسرائيلَ شيخٌ صالح له عجلة فأني بها الغَيْضة وقال اللهم اني استودعتكها لا بني حتى يكبَرَ وكان برّاً بوالدَيه فتُوفِّيَ الشيخُ وشبَّتِ العِجْلة فكانت من أحسن البقرِ وأسمنِها فساوَموها اليتيمَ وأمَّه حتى اشتَرَوْها بملء مَسْكِها ذهباً لمّا كانت وحيدةً بالصفات المذكورة وكانت البقرةُ إذ ذاك بثلاثة دنانيرَ واعلم أنه لا خلافَ في أن مدلولَ ظاهرِ النظمِ الكريم بقرةٌ مطلقةٌ مُبْهمة وأن الامتثالَ في آخرِ الأمرِ إنما وقعَ بذبح بقرةٍ معيّنة حتى لو ذبحوا غيرَها ما خَرَجوا عن عُهدة الأمرِ لكن اختُلفَ في أن المرادَ المأمورُ به إثرَ ذي أثيرٍ هل هي المعينةُ وقد أُخِّر البيانُ عن وقت الخطاب أو المبهمةُ ثم لَحِقها التغييرُ إلى المعيَّنة بسبب تثاقلِهم في الامتثال وتماديهم في التعمق والاستكشاف فذهب بعضُهم إلى الأول تمسكاً بأن الضمائرَ في الأجوبة أعني أنها بقرةٌ إلى آخر للمعيَّنة قطعاً ومن قضيتِه أن يكونَ في السؤال أيضاً كذلك ولا ريبَ في أن السؤالَ إنما هو عن البقرة المأمور بذبحها فتكونُ هي المعينةُ وهو مدفوعٌ بأنهم لما تعجّبوا من بقرة ميتةٍ يضرب ببعضها ميت فيحيا ظنُّوها معيّنةً خارجةً عما عليه الجنسُ من الصفات والخواصِّ فسألوا عنها فرجعت الضمائرُ إلى المعيَّنة في زعمهم واعتقادِهم فعيّنها الله تعالى تشديداً عليهم وإن لم يكن المرادُ من أول الأمرِ هي المعينة والحقُّ أنها كانت في أول الأمر مُبْهمةً بحيث لوذبحوا أيةَ بقرةٍ كانت لحصل الامتثالُ بدِلالة ظاهرِ النظم الكريمِ وتكرير الأمرِ قبل بيان اللون وما بعدَه من كونها مسلّمةً الخ وقد قال صلى الله عليه وسلم لو اعترَضوا أدنى بقرةٍ فذبحوها لكفَتْهم ورُوي مثلُه عن رئيس المفسرين عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ثم رجع الحكمُ الأولُ منسوخاً بالثاني والثاني بالثالث تشديداً عليهم لكنْ لا على وجهِ ارتفاعِ حكمِ المُطْلقِ بالكلية وانتقالِه إلى المعيّن بل على طريقة تقييده وتخصصه به شيئاً فشيئاً كيف لا ولو لم يكُن كذلكَ لما عُدّت مراجعاتُهم المَحْكيةُ من قَبيل الجنايات بل من قبيل العبادة فإن الامتثالَ بالأمر بدون الوقوفِ على المأمورَ به مما لا يكاد يتسنّى فتكونُ سؤالاتُهم من باب الاهتمام بالامتثال

(1/113)


وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)

{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} منصوبٌ بمُضْمر كما مرت نظائرُه والخطابُ لليهود المعاصِرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإسنادُ القتلِ والتدارُؤ إليهم لما مر من نسبة جنايات الأسلاف إلى الأخلاف توبيخاً وتقريعاً وتخصيصُهما بالإسناد دون ما مر من هناتهم لظهور قُبْحِ القتلِ وإسناده إلى الغير أي اذكروا وقت قتلِكم نفساً محرمة {فادارأتم فِيهَا} أي تخاصمتم في شأنها إذ كلُّ واحد من الخصماء يدافع الآخرَ أو تدافعتم بأن طرَح كلُّ واحد قتلها إلى آخر وأصله ئداراتم فأدغمت التاءُ في الدال واجتُلبت لها همزةُ الوصل
{والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي مظهر لما تكتمونه لا محالة والجمعُ

(1/113)


البقرة (73)
بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار وإنما أُعمِلَ مُخرجٌ لأنه حكايةُ حالٍ ماضية

(1/114)


فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

{فَقُلْنَا اضربوه} عطف على فادار اتم وما بينهما اعتراضٌ والالتفاتُ لتربية المهابةِ والضميرُ للنفس والتذكيرُ باعتبار أنها عبارةٌ عن الرجل أو بتأويل الشخصِ أو القتيل
{بِبَعْضِهَا} أيْ ببعض البقرة أيِّ بعضٍ كان وقيل بأصغَرَيها وقيل بلسانها وقيل بفخِذِها اليُمنى وقيل بأذُنها وقيل بعُجبها وقيل بالعظم الذي يلي الغُضْروف وهذا أولُ القصة كما ينبئ عنه الضمير الراجعُ إلى البقرة كأنه قيل وإذ قتلتم نفسا فادار اتم فيها فقلنا اذبحوا بقرةً فاضرِبوه ببعضها وإنما غُيّر الترتيبُ عند الحكاية لتكرير التوبيخِ وتثنيةِ التقريعِ فإن كلَّ واحدٍ من قتل النفس المحرَّمة والاستهزاءِ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم والافتياتِ على أمره وتركِ المسارعةِ إلى الامتثال به جنايةٌ عظيمة حقيقة بأن تنعى عليهم بحيالها ولو حُكيت القصةُ على ترتيب الوقوعِ لما علم استقلالُ كلَ منها بما يُخَصُّ بها من التوبيخ وإنما حُكي الأمر بالذبح عن موسى عليه السلام مع انه من الله عز وجل كالأمر بالضرب لما أن جناياتِهم كانت بمراجعتهم إليه عليه السلام والافتياتِ على رأيه
{كذلك يحيي الله الموتى} على إرادة قولٍ معطوفٍ على مقدَّر ينسحب عليه الكلام أي فضرَبوه فحَيِيَ وقلنا كذلك يُحيي الخ فحذفت الفاءُ الفصيحة في فحِييَ مع ما عطف بها وما عُطف هو عليه لدلالة كذلك على ذلك فالخطابُ في كذلك حينئذ للحاضرين عند حياة القتيل ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ للحاضرين عند نزولِ الآيةِ الكريمة فلا حاجةَ حينئذٍ إلى تقدير القولِ بل تنتهي الحكايةُ عند قوله تعالى ببعضها مع ما قُدّر بعده فالجملة معترضة أي مثلَ ذلك الإحياءِ العجيبِ يُحيي الله الموتى يوم القيامه
{ويريكم آياته} ودلائلَه الدالةَ على أنِه تعالَى على كُلِّ شئ قدير ويجوز أن يُراد بالآياتِ هذا الإحياءُ والتعبيرُ عنه بالجمع لاشتماله على أمورٍ بديعةٍ من ترتّب الحياة على عضو ميتٍ وإخبارِه بقاتله وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادة
{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تكمُلَ عقولُكم وتعلموا أن من قدَرَ على إحياء نفسٍ قدَر على إحياء الأنفس كلها أو تعلم على قضية عقولِكم ولعل الحكمة في اشتراط ما اشتُرط في الإحياء مع ظُهور كمالِ قُدرته على إحيائه ابتداءً بلا واسطة أصلاً اشتمالُه على التقربِ إلى الله تعالى وأداءِ الواجب ونفعِ اليتيم والتنبيهُ على برَكة التوكلِ على الله تعالى والشفقةِ على الأولاد ونفعِ برِّ الوالدين وأن من حق الطالب أن يقدّم قُربة ومن حق المتقرِّب أن يتحرَّى الأحسن ويغاليَ بثمنه كما يُروى عن عمر رضيَ الله عنه أنَّه ضحّى بنَجيبةٍ اشتراها بثلثمائة دينار وأن المؤثرّ هو الله تعالى وإنما الأسبابُ أَماراتٌ لا تأثيرَ لها وأن من رام أن يعرف أعدى عدوِّه الساعي في إماتتِه الموتَ الحقيقيَّ فطريقُه أن يذبَحَ بقرةَ نفسِه التي هي قوتُه الشهويةُ حين زال عنها شَرَهُ الصِّبا ولم يلحَقها ضَعف الكِبَر وكانت معجِبةً رائقةَ المنظرَ غيرَ مذللةٍ في طلب الدنيا مسلَّمةً عن دنسها لا سمة بها من قبائحها بحيث يتَّصلُ أثرُه إلى نفسه فيحيا بها حياةً طيبةً ويُعربَ عما به ينكشف الحالُ ويرتفعُ ما بين العقل والوهم من التدارُؤ والجدال

(1/114)


ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} الخطاب لمعاصري النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم والقسوةُ عبارةٌ عن الغِلَظ والجفاء والصَّلابة كما في الحَجَر استُعيرت لنُبوِّ قلوبهم عن التأثر

(1/114)


البقرة (74)
بالعِظات والقوارعِ التي تميعُ منها الجبالُ وتلينُ بها الصخور وإيرادَ الفعل المفيدِ لحدوث القساوة مع أن قلوبَهم لم تزل قاسيةً لما أن المراد بيان بلوغِهم إلى مرتبةٍ مخصوصةٍ من مراتبِ القساوة حادثةٍ وإما لأن الاستمرارَ على سئ بعد ورود ما يوجب الإقلاعَ عنه أمرٌ جديد وصنع حادث وثم لاستبعاد القسوةِ بعد مشاهدةِ ما يُزيلها كقوله تعالى {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ}
{مِن بَعْدِ ذلك} إشارة إلى ما ذكر من إحياء القتيلِ أو إلى جميع ما عُدِّد من الآيات الموجبة للين القلوب وتوجيهها نحوَ الحقِّ أيْ من بعد سماعِ ذلك وما فيه من معنى البعدِ للإيذان ببُعد منزلتِه وعلوِّ طبقتِه وتوحيدُ حرفِ الخطاب مع تعدُّد المخاطبين إما بتأويل الفريقِ أو لأن المرادَ مجردُ الخطاب لا تعيينُ المخاطَب كما هو المشهور
{فَهِىَ كالحجارة} في القساوة
{أَوْ أَشَدَّ} منها
{قَسْوَةً} أي هي في القسوة مثلُ الحجارة أو زائدةٌ عليها فيها أو أنها مثلُها أو مثلُ ما هو أشدُّ منها قسوة كالحديد وحذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليهِ مُقامه ويعضُده القراءة بالجر عطفاً على الحجارة وإيرادُ الجملة اسميةً مع كون ما سبق فعليةً للدلالة على استمرارِ قساوةِ قلوبهم والفاء إما لتفريع مشابَهتِها لها على ما ذكر من القساوة تفريعَ التشبيه على بيان وجه الشبه في قولك أحمرُ خدُّه فهو كالورد وإما للتعليلِ كَما في قولِكَ اعبُدْ ربَّكَ فالعبادةُ حقٌّ له وإنما لم يقل أو أقسى منها لما في التصريح بالشدة من زيادةِ مبالغةٍ ودلالةٍ ظاهرة على اشتراك القسوتين في الشدة واشتمالِ المفضَّل على زيادة وأو للتخيير أو للترديدِ بمعنى أن مَنْ عرَفَ حالَها شبَّهها بالحجارة أو بما هو أقسى أو من عَرَفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة وترْكُ ضميرِ المفضَّل عليه للأمن من الالتباس
{وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانهار} بيانٌ لأشَدِّية قلوبِهم من الحجارة في القساوة وعدمِ التأثر واستحالةِ صدورِ الخيرِ منها يعني أن الحجارةَ ربما تتأثر حيث يكون منها ما يتفجر منه المياهُ العظيمة
{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ} أي يتشقق
{فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء} أي العيونُ
{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} أي يتردَّى من الأعلى إلى الأسفل بقضية ما أودعه الله عز وجل فيها من الثِقل الداعي إلى المرْكز وهو مجازٌ من الانقياد لأمره تعالى والمعنى أن الحجارةَ ليس منها فردٌ إلا وهو منقادٌ لأمره عز وعلا آتٍ بما خُلق له من غير استعصاء وقلوبُهم ليست كذلك فتكونُ أشدَّ منها قسوةً لا محالة واللام في لَما لامُ الابتداء دخلت على اسم إن لتقدم الخبر وقرئ أن على أنَّها مُخفّفة مِن الثقيلة واللامُ فارقةٌ وقرئ يهبُط بالضم
{وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} عن متعلقة بغافل وما موصلة والعائدُ محذوف أو مصدرية وهو وعيدٌ شديد على ما هم عليه من قساوة القلوب وما يترتبُ عليها من الأعمال السيئة وقرئ بالياء على الالتفات وقوله تعالى

(1/115)


البقرة (75)

(1/116)


أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)

{أَفَتَطْمَعُونَ} تلوينٌ للخطاب وصرْفٌ له عن اليهود إثرَ ما عدت هناتهم ونُعيتْ عليهم جناياتُهم إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ والهمزةُ لإنكار الواقِع واستبعادِه كما في قولك أتضرب أباك لا لإنكار الوقوعِ كما في قوله أأضرِب أبي والفاء للعطف على مقدّرٍ يقتضيه المقامُ ويستدعيه نظامُ الكلام لكن لا على قصد توجيهِ الإنكارِ إلى المعطوفين معاً كما في أفلا تبصرون على تقدير المعطوفِ عليه منفياً أي ألا تنظُرون فلا تبصرونَ فالمُنْكَر كلا الأمرين بل إلى ترتب الثاني على الأول مع وجوب أن يترتبَ عليه نقيضُه كما إذا قُدِّر الأول مُثْبتاً أي أتنظرون فلا تبصرون فالمنْكَر ترتُّبُ الثاني على الأول مع وجوب أن يترتبَ عليه نقيضه أي أتسمعون أخبارَهم وتعلمون أحوالَهم فتطمعون ومآلُ المعنى أبَعْدَ أنْ علِمتم تفاصيلَ شؤونِهم المُؤْيِسةِ عنهم تطمعون
{أَن يُؤْمِنُواْ} فإنهم متماثلون في شدة الشكيمةِ والأخلاقِ الذميمة لا يتأتى من أخلاقهم إلا مثلُ ما أتى من أسلافِهم وأنْ مصدريةٌ حذف عنها الجارُّ والأصلُ في أن يؤمنوا وهيَ مع ما في حيزها في محل النصبِ أو الجرِّ على الخلاف المعروف واللام في لَكُمْ لتضمين معنى الاستجابة كما في قوله عز وجل {فآمن لَهُ لُوطٌ} أي في إيمانهم مستجيبين لكم أو للتعليل أي في أن يُحدثوا الإيمان لأجل دعوتِكم وصلةُ الإيمان محذوفةٌ لظهور أن المرادَ به معناه الشرعيُّ وستقف على ما فيه من المزية بإذن الله تعالى
{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ} الفريقُ اسمُ جمع لا واحد له من لفظه كالرهط والقوم والجار والمجرور في محل الرفعِ أي فريق كائنٌ منهم وقوله تعالى
{يَسْمَعُونَ كلام الله} خبرُ كان وقرئ كلِمَ الله والجملة حاليةٌ مؤكِّدة للإنكار حاسمةٌ لمادة الطمَع مثلُ أحوالِهم الشنيعةِ المحْكيةِ فيما سلف على منهاج قوله {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} بعد قوله تعالى {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى} أي والحالُ أن طائفةً منهم قال ابن عباس رضي الله عنهما هم قومٌ من السبعين المختارين للميقات كانوا يسمعون كلامَه تعالى حين كلَّم مُوسى عليه السلامُ بالطور وما أُمِرَ به ونُهيَ عنه
{ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ} عن مواضعه لا لقصورِ فهمِهم عن الإحاطة بتفاصيله على ما ينبغي لاستيلاء الدهشةِ والمهابةِ حسبما يقتضيه مقامُ الكبرياء بل
{مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أي فهِموه وضبَطوه بعقولهم ولم تبقَ لهم في مضمونه ولا في كونه كلامَ ربِّ العزةِ رِيبةٌ أصلاً فلما رجَعوا إلى قومهم أدّاه الصادقون إليهم كما سمعوا وهؤلاء قالوا سمعنا الله تعالى يقول في آخر كلامه إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياءَ فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس فثُم للتراخِي زماناً أو رتبةً وقال القفال سمِعوا كلامَ الله وعقَلوا مرادَه تعالى منه فأوّلوه تأويلاً فاسداً وقيل هم رؤساءُ أسلافِهم الذين تولَّوْا تحريفَ التوراة بعد ما أحاطوا بما فيها علماً وقيل هم الذين غيروا نعت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في عصره وبدّلوا آيةَ الرجْم ويأباه الجمعُ بينَ صيغتي المَاضِي والمستقبل الدالِّ على وقوع السماعِ والتحريفِ فيما سلف الاأن يُحملَ ذلك على تقدّمه على زمانِ نزولِ الآية الكريمةِ لا على تقدمه على عهدِه عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ هذا والأول هو الأنسبُ بالسماع والكلام إذ

(1/116)


البقرة (76)
التوراةُ وإن كانت كلامَ الله عز وعلا لكنها باسم الكتاب أشهرُ وأثرُ التحريفِ فيه أظهر ووصفُ اليهودِ بتلاوتها أكثر لا سيما رؤساؤُهم المباشرون للتحريف فإن وظيفتهم التلاوةُ دون السماع فكان الأنسبَ حينئذ أن يقالَ يتلون كتابَ الله تعالى فالمعنى أفتطمعون في أن يؤمنَ هؤلاءِ بواسطتكم ويستجيبوا لكم والحالُ أن أسلافَهم الموافقين لهم في خِلال السوءِ كانوا يسمعون كلامَ الله بلا واسطةٍ ثم يحرِّفونه من بعد ما علِموه يقيناً ولا يستجيبون له هيهاتَ ومن ههنا ظهر ما في إيثار لكم على بالله من الفخامة والجزالة وقوله عز وجل
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ يحرّفونه مفيدةٌ لكمال قباحةِ حالِهم مُؤْذِنةٌ بأن تحريفَهم ذلك لم يكن بناءً على نسيان ما عقَلوه أو على الخطأ في بعض مقدِّماته بل كان ذلك حالَ كونهم عالمين مستحضِرين له اووهم يعلمون أنهم كاذبون ومفترون

(1/117)


وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)

{وَإِذَا لَقُواْ} جملةٌ مستأنفة سيقتْ إثرَ بيانِ ما صدر عن أشباههم لبيان ما صدرَ عنهم بالذات من الشنائع المُؤْيسةِ عن إيمانهم من نفاق بعضٍ وعتابِ آخَرين عليهم أو معطوفةٌ على ما سبق من الجلمة الحالية والضميرُ لليهود لما ستقف على سره لالمنافقيهم خاصةً كما قيل تحرّياً لاتحاد الفاعل في فعلي الشرط والجزاءِ حقيقةً
{الذين آمنواْ} من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم
{قالوا} أي الاقون لكن لا بطريق تصدّي الكلِّ للقول حقيقةً بل بمباشرة منافقهم وسكوتِ الباقين كما يقال بنُو فلان قتلُوا فُلاناً والقاتلُ واحدٌ منهم وهذا أدخلُ في تقبيح حال الساكتين أولاً العاتبين ثانياً لما فيهِ منَ الدلالةِ على نفاقهم واخلاف أحوالهم وتناقضِ آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصةً بتقدير المضافِ أي قال منافقوهم
{آمنا} لم يقتصروا على ذلك بل عللوه بأنهم وجدوا نعتَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في التوراة وعلموا أنه النبيُّ المبشَّر به وإنما لم يصرَّحْ به تعويلاً على شهادة التوبيخِ الآتي
{وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ} أي بعض المذكورين وهم الساكتون منهم أي إذا فرَغوا من الاشتغال بالمؤمنين متوجِّهين ومنضمَّين
{إلى بَعْضِ} آخرَ منهم وهم منافقوهم بحيث لم يبقَ معهم غيرُهم وهذا نصٌّ على اشتراك الساكتين في لقاء المؤمنين كما أشير إليه آنفاً إذِ الخلوُّ إنما يكون بعد الاشتغال ولأن عتابَهم معلقٌ بمحض الخلوِّ ولولا أنهم حاضرون عند المقاولة لوجب أن يُجعلَ سماعُهم لها من تمام الشرط ولأن فيه زيادةَ تشنيعٍ لهم على ما أتَوْا من السكوت ثم العتاب
{قَالُواْ} أي الساكتون موبّخين لمنافقيهم على ما صنعوا
{أَتُحَدّثُونَهُم} يعنون المؤمنين
{بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} ما موصولةٌ والعائدُ محذوفٌ أي بيَّنه لكم خاصةً في التوراة من نعْت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم والتعبيرِ عنه بالفتْح للإيذان بأنه سرٌّ مكنونٌ وباب مغلَقٌ لا يقف عليه أحدٌ وتجويزُ كونِ هذا التوبيخ من جهة المنافقين لأعقابهم إراءةً للتصلُّب في دينهم كما ذهب إليه عصابةٌ مما لا يليق بشأن التنزيل الجليلِ واللامُ في قولِه عزَّ وجلَّ
{لِيُحَاجُّوكُم بِهِ} متعلقةٌ بالتحديث دون الفتح والمرادُ تأكيدُ النكير وتشديدُ التوبيخ فإن التحديثَ بذلك وإن كان مُنْكراً في نفسه لكن التحديثَ به لأجل هذا الغرض

(1/117)


البقرة (77)
مِمَّا لا يكادُ يصدُرُ عن العاقل أي أتحدِّثونهم بذلك ليحتجوا عليكم فيُبَكِّتوكم والمحدّثون به وإن لم يحوموا حولَ ذلك الغرضِ لكن فعلَهم ذلك لما كان مستتبِعاً له ألبتة جُعلوا فاعلين للغرض المذكور وإظهارا لكمال سخافةِ عقولِهم وركاكةِ آرائِهم
{عِندَ رَبّكُمْ} أي في حُكمه وكتابه كما يقال هو عند الله كذا إى في يدفعه إذ هم عالمون بأنهم محجوجون يومئذ حدَّثوا به أو لم يحدثوا والاعتذار إلزام المؤمنين كتابه وشرعه وقيل عند ربكم يومَ القيامة ورُدَّ عليه بأن الإخفاءَ لا إياهم وتبكيتَهم بأن يقولوا لهم ألم تحدِّثونا بما في كتابكم في الدنيا من حقّية دينِنا وصدقِ نبيِّنا أفحشُ فيجوز أن يكون المحذورُ عندهم هذا الإلزامَ بإرجاع الضمير في به إلى التحديث دون المحدَّث به ولا ريب في أنه مدفوعٌ بالإخفاء لا تسادعه الآية الكريمة الايتة كما ستقف عليه بإذنِ الله عزَّ وجلَّ
{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} من تمام التوبيخ والعتابِ والفاءُ للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي أَلاَ تلاحظونَ فلا تعقِلون هذا الخطأَ الفاحشَ أو شيئاً من الأشياء التي من جملتها هذا فالمنْكرُ عدمُ التعقُّل ابتداءً أو أتفعلون ذلك فلا تعقلون بُطلانَه مع وضوحة حتى تحتاجون إلى التنبيه عليه فالمنكرُ حينئذ عدمُ التعقل بعد الفعل هذا وأمَّا مَا قيلَ من أنه خطابٌ من جهة الله سبحانه للمؤمنين متصلٌ بقوله تعالى {أَفَتَطْمَعُونَ} والمعنى أفلا تعقلون حالَهم وأن لا مطْمَعَ لكم في إيمانهم فيأباه قولُه تعالى

(1/118)


أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)

{أَوْ لاَ يَعْلَمُونَ} فإنه إلى آخره تجهيلٌ لهم من من جهته تعالى فيما حكى عنهم فيكون إيرادُ خطاب المؤمنين في أثنائه من قبيل الفصل بين الشجرِ ولِحائِه على أن في تخصيص الخطاب بالمؤمنين من التعسف وفي تعميمِه للنبي أيضا صلى الله عليه وسلم كما في أفتطمعون من سوء الأدب مالا يخفى والهمزةُ للإنكار والتوبيخ كما قبلها والواوُ للعطفِ على مقدرٍ ينساق إليه الذهنُ والضميرُ للموبَّخين أي أيلومونهم على التحديث المذكورِ مخافةَ المُحاجَّةِ ولا يَعْلَمُونَ
{أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} أي يُسرُّونه فيما بينهم من المؤمنين أو ما يضمرونه في قلوبهم فيثبتُ الحكمُ في ذلك بالطريق الأولى {وَمَا يُعْلِنُونَ} أي يظهرونه للمؤمنين لأصحابهم حسبما سبق فحينئذ يظهر الله تعالى ما أرادوا إخفاءَه بواسطة الوحى إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فتحصُلُ المحاجَّة ويقعُ التبكيت كما وقع في آية الرجم وتحريمِ بعضِ المحرماتِ عليهم فأيُّ فائدةٍ في اللوم والعتاب ومن ههنا تبين أن المحذور عندهم هو المُحاجّة بما فتحَ الله عليهم وهي حاصلةٌ في الدارَيْن حدَّثوا به أم لا لا بالتحديث به حتى يندفعَ بالإخفاء وقيل الضميرُ للمنافقين فقط أولهم وللموبَّخين أو لآبائهم المحرِّفين أي أيفعلون ما يفعلون ولا يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ جميعَ مَا يُسِرُّون وَمَا يُعْلِنُونَ ومن جملته إسرارُهم الكفرَ وإظهارُهم الإيمانَ وإخفاءُ ما فتح الله عليهم وإظهارُ غيرِه وكتمُ أمرِ الله وإظهارُ ما أظهروه افتراءً وإنما قُدم الإسرارُ على الإعلان للإيذانِ بافتضاحِهِم ووقوعِ ما يحذَرونه من أولِ الأمرِ والمبالغةِ في بيانِ شمولِ علمِه المحيطِ لجميعِ المعلوماتِ كأنَّ علمَه بما يُسرونه أقدمُ منه بما يعلنونه مع كونِهِما في الحقيقةِ على السويةِ فإنَّ علمَه تعالَى بمعلوماتهِ ليسَ بطريقِ حصولِ صُورِها بل وجودُ كلِّ شئ في نفسِه عِلْمٌ بالنِّسبةِ إليه تعالى وفي

(1/118)


البقرة (78)
هذا المعنى لا يختلفُ الحال بين الشياء البارزةِ والكامنةِ ونظيره قولُه عز وعلا {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله} حيث قُدم فيه الإخفاءُ على الإبداء لما ذُكر من السر على عكس ما وقع في قوله تعالى {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} فإن الأصلَ في تعلق المحاسبة به هو الأمورُ الباديةُ دون الخافية ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ باعتبار أن مرتبةَ السرِّ متقدمةٌ على مرتبة العلنِ إذ ما من شئ يُعلَنُ إلا وهُو أو مباديهِ قبل ذلك مضمرٌ في القلبِ يتعلقُ بهِ الإسرارُ غالباً فتعلُقُ علمِه تعالَى بحالتِهِ الأُولى متقدمٌ على تعلقهِ بحالتِهِ الثانية

(1/119)


وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)

{ومنهم أميون} وقرئ بتخفيف الياء جمع أُمِّيّ وهو من لا يقدرُ على الكتابة والقراءة واختُلف في نسبته فقيل إلى الأم بمعنى أنه شبيهٌ بها في الجهل بالكتابة والقراءة فإنهما ليستا من شئوون النساء بل من خِلال الرجال أو بمعنى أنه على الحالة التي ولدتْه أمُه في الخلوِّ عن العلم والكتابة وقيل إلى الأُمّة بمعنى أنه باقٍ على سذاجتها خالٍ عن معرفة الأشياء كقولهم عامّي أي على عادة العامة روي عن عكرمة والضحاك أن المراد بهم نصارى العربِ وقيل هم قومٌ من أهل الكتاب رُفع كتابُهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أمّيين وعَنْ عليَ رضيَ الله تعالى عنه هم المجوسُ والحقُّ الذي لا محيدَ عنه أنهم جَهلةُ اليهودِ والجملةُ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان قبائحِهم إثرَ بيانِ شنائعِ الطوائفِ السالفة وقيل هي معطوفةٌ على الجملة الحالية وما بعدها فإن الجهل بالكتاب في منافاة الإيمان ليس بمثابة تحريفِ كلامِ الله بعد سماعِه والعلمِ بمعانيه كما وقع من الأولين أو النفاق والنهي عن إظهار ما في التوراة كما وقع من الفِرقتين الأخْرَيين أي ومنهم طائفةٌ جهَلةٌ غيرُ قادرين على الكتابة والتلاوة
{لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب} أي لا يعرِفون التوراةَ ليطالعوها ويتحقَّقوا ما في تضاعيفها من دلائل النبوة فيؤمنوا وحَملُ الكتاب على الكتابة يأباه سباقُ النظم الكريم وسياقُه
{إِلاَّ أَمَانِىَّ} بالتشديد وقرئ بالتخفيف جمع أمنية أصلُها أُمنُوية أفعولة من منَّى قدِّر أو بمعنى تلا كَتَمَنَّى في قوله ... تمنَّى كتاب الله أو ليله ...
فأُعلَّت إعلالَ سيِّد وميِّت ومعناها على الأول ما يقدّره الإنسان في نفسه ويتمناه وعلى الثاني ما يتلوه وعلى التقديرين فالاستثناءُ منقطع إذ ليس ما يُتمنَّى وما يُتلى من جنس علم الكتاب أي لا يعلمون الكتابَ لكن يتمنَّوْن أمانيَّ حسبما منَّتْهم أحبارُهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم وأن آباءَهم الأنبياءَ يشفعون لهم وغيرُ ذلك من أمانيهم الفارغةِ المستندة إلى الكتاب على زعم رؤسائِهم أو لا يعلمون الكتابَ لكن يتلقَّوْنه قدْرَ ما يُتلى عليهم فيقْبَلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر فيه وأما حملُ الأمانيَّ على الأكاذيبِ المختلفة على الإطلاق من غير أن يكون لها ملابسةٌ بالكتاب فلا يساعدُه النظمُ الكريمُ
{وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} ما هُم إلا قومٌ قُصارى أمرِهم الظنُّ والتقليدُ من غير أن يصِلوا إلى رتبة العلمِ فأنَّى يرجى منهم الإيمانُ المؤسَّسُ على قواعد اليقينِ ولما بين حالَ هؤلاء في تمسكهم بحبال الأمانيّ واتباعِ الظن عقَّب ببيان حال الذين أو قعوهم في تلك الورطةِ وبكشف كيفية إضلالِهم وتعيين مرجعِ بالآخر فقيل على وجه الدعاء

(1/119)


البقرة (79)
عليهم

(1/120)


فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

{فَوَيْلٌ} هو وأمثالُه من ويحٍ وويسٍ وويبٍ وويهٍ وويكٍ وعوْلٍ من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها لا يجوز إظهارُها البتة فإن أضيف نُصب نحو ويلك وويحك عن الإضافة رُفع نحوُ ويلٌ له ومعنى الويلِ شدةُ الشر قاله الخليل وقال الأصمعيُّ الويلُ التفجُّع والويحُ الترحُّم وقال سيبويه ويلٌ لمن وقع في الهَلَكة وويحٌ زجرٌ لمن أشرف على الهلاك وقيل الويلُ الحزن وهل ويح وويب وويس بذلك المعنى أو بينه وبينها فرق وقيل ويل في الدعاء عليه وويح وما بعده في الترحم عليه وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهما الويلُ العذاب الأليم وعن سفيان الثوري أنه صديدُ أهلِ جهنم ورَوى أبو سعيدٍ الخدريُّ رضيَ الله تعالى عنه عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال الويلُ وادٍ في جهنمَ يهوي فيه الكافرُ أربعينَ خريفاً قبل أنْ يبلُغ قَعْرَه وقال سعيد ابن المسيب إنه وادٍ في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لماعت من شدة حرِّه وقال ابن بريدة جبلُ قيحٍ ودمٍ وقيل صهريج في جهنم وحكى الزهراوي أنه باب من أبواب جهنم وعلى كل حالٍ فهو مبتدأً خبرُه قوله عز وعلا
{لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب} أي المحرَّفَ أو ما كتبوه من التأويلات الزائغة
{بِأَيْدِيهِمْ} تأكيدٌ لدفع توهمِ المجاز كقولك كتبتُه بيميني
{ثُمَّ يَقُولُونَ هذا} أي جميعاً على الأول وبخصوصه على الثاني
{مِنْ عِندِ الله} رُوي أن أحبارَ اليهودِ خافوا ذهابَ مآكلِهم وزوالَ رياستهم حين قدِم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم المدينةَ فاحتالوا في تعويق أسافلِ اليهودِ عن الإيمان فعمَدوا إلى صفة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في التوراة وكانت هي فيها حسنُ الوجهِ حسَنُ الشعر اكحل العينيين رَبْعةٌ فغيّروها وكتبوا مكانها طوُالٌ أزرقُ سِبَطُ الشعر فإذا سألَهم سَفَلتُهم عن ذلك قرءوا عليهم ما كتبوا فيجدونه مخالف لصفته عليه السلام فيكذِّبونه وثم للتراخي الرتبيّ فإن نسبةَ المحرف والتأويل الزايغ إلى الله سبحانه صريحاً أشدُّ شناعةً من نفس التحريفِ والتأويلِ
{لِيَشْتَرُواْ بِهِ} أي يأخذوا لأنفسهم بمقابلته
{ثَمَناً} هو ما أخذوه من الرشى بمقابلة ما فعلوا من التحريف والتأويل وإنما عُبر عن المشتري الذي هو المقصودُ بالذات في عقد المعاوضة بالثمن الذي هو وسيلةٌ فيه إيذاناً بتعكيسهم حيث جعلوا المقصود بالذات وسيلة والوسيلة بالذات
{قَلِيلاً} لا يُعبأ به فإن ذلك وإن جل في نفسه فهو أقلُّ قليلاً عندما استوجبوا به من العذاب الخالد
{فَوَيْلٌ لَّهُمْ} تكريرٌ لما سبق للتأكيد وتصريحٌ بتعليله بما قدمت أيديهم بعد الإشعار به فيما سلف بإيراد بعضِه في حيِّز الصلةِ وبعضِه في معرِضِ الغرض والفاءُ للإيذان بترتُّبه عليه ومن في قولِه عزَّ وجلَّ
{مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} تعليليةٌ متعلقةٌ بويل أو بالاستقرار في الخبر وما موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوف أي كتَبَتْه أو مصدرية والأول أدخَلُ في الزجر عن تعاطي المحرَّفِ والثاني في الزجر عن التحريف
{وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} الكلام فيه كالذي فيما قبله والتكريرُ لما مر من التأكيد والتشديد إلى التعليل بكل من الجانبين وعدم التعرض لقولهم هذا من عند الله لما أنه من مبادي ترويجِ ما كتبت أيديهم فهو

(1/120)


البقرة (81 - 80)
داخل في التعليل به

(1/121)


وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)

{وَقَالُواْ} بيانٌ لبعضٍ آخرَ من جناياتهم وفصلُه عما قبله مُشعرٌ بكونه من الأكاذيب التي اختلفوها ولم يكتبوها في الكتاب
{لَن تَمَسَّنَا النار} في الآخرة
{إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} قليلةً محصورةً عددَ أيام عبادتِهم العجلَ أربعين يوماً مُدةَ غَيْبةِ موسى عليه السلام عنهم وحَكى الأصمعي عن بعض اليهود أن عدد أيام عبادتهم العجل سبعة ورُوي عن ابن عبَّاسٍ ومجاهدٍ أن اليهودَ قالوا عُمرُ الدنيا سبعةُ آلاف سنة وإنما نعذَّب بكل ألفِ سنةٍ يوماً واحداً ورَوى الضحَّاكُ عنِ ابنِ عباس رضي الله تعالى عنهما أن اليهود زعمت أنهم وجدوا في التوراة أن ما بين طرفي جهنمَ مسيرةُ أربعين سنةً إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم وأنهم يقطعون في كل مسيرةَ سنة فيكملونها
{قُلْ} تبكيتاً لهم وتوبيخاً
{اتخذتم} بإسقاط الهمزةِ المجتَلَبة لوقوعها في الدرج وبإظاهر الذال وقرئ بإدغامها في التاء
{عِندَ الله عَهْدًا} خبَراً أو وعداً بما تزعمون فإن ما تدّعون لا يكون إلا بناءً على وعدٍ قوي ولذلك عَبَّر عنه بالعهد
{فَلَن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ} الفاءُ فصيحة معربة عن شرطٍ محذوفٍ كما في قول مَن قالَ
قالُوا خراسانُ أقْصَى ما يُراد بنا ... ثمَّ القُفولُ فقد جئنا خراسان
أي إن كان الأمر كذلك فلن يُخلِفَه والجملةُ اعتراضيةٌ وإظهارُ الاسمِ الجليل للإشعارِ بعلَّةِ الحُكم فإنَّ عدم الإخلاف من قضية الألوهية وإظهارُ العهدِ مضافاً إلى ضميره عزَّ وجلَّ لكا ذكر أو لأنَّ المرادَ بهِ جميع عهدوه لعمومه بالإضافة فيدخل فيه العهدُ المعهودُ دخولاً أولياً وفيه تجافٍ عن التصريح بتحقق مضمونِ كلامِهم وإن كان معلقاً بما لم يكَدْ يشَمُّ رائحةَ الوجود قطعاً أعني اتخاذَ العهد
{أَمْ تَقُولُونَ} مفترين
{عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وقوعَه وإنما عُلّق التوبيخ بإسنادهم إليه سبحانه مالا يعلمون وقوعَه مع أن ما أسندوه إليه تعالى من قبيل ما يعلمون عدمَ وقوعِه للمبالغة في التوبيخ والتنكير فإن التوبيخَ على الأدنى مستلزِمٌ للتوبيخ على الأعلى بالطريق الأَوْلى وقولُهم المحكيُّ وإن لم يكن تصريحاً بالافتراء عليه سبحانه لكنه مستلزِمٌ له لأن ذلك الجزمَ لا يكون إلا بإسناد سببِه إليه تعالى وام متصلةٌ والاستفهام للتقرير المؤدي إلى التبكيت لتحقق العلمِ بالشق الأخيرِ كأنه قيل أم لم تتخذوه بل تتقوّلون عليه تعالى وإما منقطعةٌ والاستفهام لإنكار الاتخاذِ ونفيِه ومعنى بل فيها الإضرابُ والانتقال من التوبيخ بالإنكار على اتخاذ العهدِ إلى ما تفيد همزتُها من التوبيخ على التقوُّل على الله سبحانه كما في قوله عز وجل {قل آلله أذِنَ لكم أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ}

(1/121)


بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)

{بلى} إلى آخره جوابٌ عن قولهم المحكيِّ وإبطالٌ له من جهته تعالى وبيانٌ لحقيقة الحالِ تفصيلاً في ضمن تشريعٍ كليَ شاملٍ لهم ولسائر الكَفَرة بعد إظهار كذِبِهم إجمالاً وتفويضُ ذلك إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لما أن المُحاجَّةَ والإلزامَ من وظائفه عليه السلام مع ما فيه من الإشعار

(1/121)


البقرة (83 - 82)
بأنه أمر هين لايتوقف على التوقيف وبلى حرفُ إيجابٍ مختصٌّ بجواب النفي خبراً واستفهاماً
{مَن كَسَبَ سَيّئَةً} فاحشةً من السيئات أي كبيرةً من الكبائر كدأب هؤلاء الكَفَرة والكسبُ استجلابُ النفعِ وتعليقُه بالسيئة على طريقة فبشِّرْهم بعذاب أليم
{وأحاطت بِهِ} من جميع جوانبِه بحيثُ لم يبقَ له جانبٌ من قلبه ولسانه وجوارحِه إلا وقد اشتملت واستولت عليه
{خَطِيئَتُهُ} التي كسَبها وصارت خاصةً من خواصّه كما تنبئ عنه الإضافةُ إليه وهذا إنما يتحقق في الكافر ولذلك فسرها السلفُ بالكفر حسبما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم وابنُ جرير عن أبي وائل ومجاهدٌ وقَتادةُ وعطاءٌ والربيعُ وقيل السيئةُ الكفرُ والخطيئةُ الكبيرة وقيل بالعكس وقيل الفرق بينهما أن الأُولى قد تطلق على ما يُقصَد بالذات والثانيةُ تغلِبُ على ما يُقصَدُ بالعَرَض لأنها من الخطأ وقرئ خَطِيَّتُه وخطِيّاتُه على القلب والإدغام فيهما وخطيئاتُه وخَطاياه وفي ذلك إيذانٌ بكثرة فنون كفرهم
{فَأُوْلَئِكَ} مبتدأ
{أصحاب النار} خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ والفاءُ لتضمُّنه معنى الشَّرطِ وإيرادُ اسمِ الإشارة المنبئ عن استحضار المشارِ إليه بماله من الأوصاف للإشعار بعلِّيتها لصاحبيّة النار وما فيه من معنى البُعد للتَّنبيهِ على بُعد منزلتهم في الكفر والخطايا وإنما أشير إليهم بعنوان الجَمْعية مراعاةً لجانب المعنى في كلمة مَنْ بعدَ مراعاة جانبِ اللفظ في الضمائر الثلاثةِ لما أن ذلك هو المناسبُ لما أسند إليهم في تَيْنِك الحالتين فإن كسب السيئة وأحاطت خطيئتِه به في حالة الانفراد وصاحية النارِ في حالة الاجتماع أي أولئك الموصوفون بما ذكر من كسب السيئات وإحاطة خطاياهم بهم أصحابُ النار أيْ مُلازمُوهَا في الآخرة حسب ملازمتهم في الدنيا لما يستوجبُها من الأسباب التي من جملتها ما هم عليه من تكذيبِ آياتِ الله تعالى وتحريفِ كلامِه والافتراءِ عليه وغيرِ ذلك وإنما لم يُخَصَّ الجوابُ بحالهم بأن يقال مثلاً بلى إنهم أصحابُ النار الخ لما في التعميم من التهويل وبيانِ حالِهم بالبرهان والدليل مع مامر من قصد الإشعار بالتعليل
{هُمْ فِيهَا خالدون} دائماً أبداً فأنَّى لهم التفَصِّي عنها بعد سبعة أيام أو أربعين كما زعموا فلا حجةَ في الآيةِ الكريمةِ على خلود صاحبِ الكبيرة لما عرفت من اختصاصها بالكافر ولا حاجة إلى حمل الخلودِ على اللُبْث الطويل على أن فيه تهوينَ الخطب في مقام التهويل

(1/122)


وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)

{والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون} جرت السنةُ الإلهيةُ على شفْع الوعدِ بالوعيد مراعاةً لما تقتضيه الحِكمةُ في إرشاد العبادِ من الترغيب تارةً والترهيبِ أخرى والتبشيرِ مرةً والإنذارِ أخرى

(1/122)


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاق بَنِى إسرائيل} شروع

(1/122)


البقرة (84)
في تَعداد بعضٍ آخرَ من قبائح أسلافِ اليهودِ مما ينادي بعدم إيمانِ أخلافِهم وكلمةُ إذ نُصب بإضمار فعلٍ خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم والمؤمنون ليؤدِّيَهم التأملُ في أحوالهم إلى قطع الطمَع عن إيمانهم أو اليهودُ الموجودون في عهد النبوة توبيخاً لهم بسوء صنيعِ أسلافِهم أي اذكروا إذ أخذنا ميثاقهم
{لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} على إرادةِ القولِ أيْ قلنا أو قائلين لا تعبدون إلخ وهو إخبارٌ في معنى النهي كقوله تعالى {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شهيد} وكما يقول تذهب إلى فلان وتقول كيتَ وكيتْ وهو أبلغُ من صريح النهي لما فيهِ من إيهامِ أن المنهيَّ حقُّه أن يسارعَ إلى الانتهاء عما نُهي عنه فكأنه انتهى عنه فيُخبرُ به الناهيَ ويؤيده قراءةُ لا تعبدوا وعطفُ قولوا عليه وقيل تقديره أن لا تعبدوا إلخ فحُذِف الناصبُ ورُفع الفعلِ كما في قولِه
أَلاَ أيُهذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى ... وأنْ أشهدَ اللذاتِ هل أنت مُخْلِدي
ويعضُدُه قراءةُ أن لا تعبُدوا فيكون بدلاً من الميثاق أو معمولاً له بحذف الجار وقيل إنه جوابُ قسمٍ دل عليه المعنى كأنه قيل وحلّفناهم لا تعبدون إلا الله وقرئ بالياء لأنهم غُيَّبٌ
{وبالوالدين إحسانا} متعلق بمضمر أي وتحسنون او احسنوا
{وَذِى القربى واليتامى والمساكين} عطفٌ على الوالدين ويتامى جمع يتيم كندمي جمع نديم وهو قليل ومسكين مغعيل من السكون كأن الفقرَ أسكنه من الحَراك وأثخنه عن التقلب
{وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} أي قولاً حسناً سماه حسنا مبالغة وقرئ كذلك وحُسُناً بضمتين وهي لغةُ أهلِ الحجازِ وحُسْنى كبُشرى والمراد به ما فيه تخلّقٌ وإرشاد
{وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} هما ما فُرض عليهم في شريعتهم
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} إن جُعل ناصبُ الظرف خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فهذا التفاتٌ إلى خطاب بني إسرائيلَ جميعاً بتغليب أخلافِهم على أسلافهم لجريان ذكرى كلِّهم حينئذ على نهْج الغَيْبة فإن الخطاباتِ السابقةَ لأسلافهم محْكيةٌ داخلةٌ في حيز القول المقدّر قبل لاتعبدون كأنهم استُحضِروا عند ذكرِ جناياتهم منعيت هي عليهم وإنْ جعل خطابا لليهود المعاصرين للرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فهذا تعميمٌ للخطاب بتنزيل الأسلافِ منزلةَ الأخلاف كما أنه تعميمٌ للتولي بتنزيل الأخلافِ منزلةَ الأسلاف للتشديد في التوبيخ أي أعرضتم عن المُضِيِّ على مقتضى الميثاقِ ورفضتموه
{إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ} وهم من الأسلاف مَنْ أقام اليهوديةَ على وجهها قبل النسخِ ومن الأخلاف مَنْ أسلم كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَم وأضرابه
{وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} جملةٌ تذييلية أي وأنتم قوم عادتكم الإعراضُ عن الطاعة ومراعاةِ حقوق الميثاق أصل الإعراض الذهابُ عن المواجهة والإقبالُ إلى جانب العَرْض

(1/123)


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)

{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم} منصوب بفعل مُضمرٍ خوطب به اليهودُ قاطبةً على ما ذكر من التغليب ونُعي عليهم إخلالُهم بمواجب الميثاق المأخوذِ منهم في حقوق العبادِ على طريقة النهي إثرَ بيانِ ما فعلوا بالميثاق المأخوذِ منهم في حقوق الله سبحانه وما يجرى مجراها على سبيل الأمرِ فإن المقصودَ الأصليَّ من النهي عن عبادةَ غيرِ الله تعالى هو الأمرُ بتخصيص العبادةِ به تعالى أي واذكروا وقت أخذِنا ميثاقَكم

(1/123)


البقرة (85)
في التوراة وقوله تعالى
{لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دياركم} كما قبله إخبارٌ في معنى النهي غُيِّر السبكُ إليه لما ذَكر من نُكتة المبالغة والمرادُ به النهيُ الشديدُ عن تعرُّض بعض بنى أسرئيل لبعضٍ بالقتل والإجلاءِ والتعبيرُ عن ذلك بسفك دماءِ أنفسِهم وإخراجِها من ديارهم بناءً على جَرَيان كلِّ واحدٍ منهم مجرى أنفسِهم لما بينهم من الاتصال القويِّ نسَباً وديناً للمبالغة في في الحمل على مراعاة حقوقِ الميثاق بتصوير المنهيِّ عنه بصورةٍ تكرَهها كلُّ نفس وتنفر عنه كلُّ طبيعةٍ فضميرُ أنفسَكم للمخاطبين حتماً إذ به يتحقق تنزيلُ المخْرِجين منزلتَهم كما أن ضميرَ ديارِكم للمخرَجين قطعاً إذ المحذورُ إنما هو إخراجُهم من ديارهم لا من ديار المخاطَبين من حيث إنهم مخاطَبون كما يفصحُ عنه ما سيأتِي من قولِه تعالى {مِن ديارهم} وإنما الخطابُ ههنا باعتبار تنزيلِ ديارِهم منزلةَ ديارِ المخاطَبين بناءً على تنزيل أنفسِهم منزلتَهم لتأكيد المبالغةِ وتشديدِ التشنيع وأما ضميرُ دماءَكم فمحتمل لوجهين مفاد الأول كون كون المسفوك دماء ادعايئة للمخاطَبين حقيقةً ومَفادُ الثاني كونُه دماءً حقيقيةً للمخاطبين ادعاءً وهما متقاربان في إفادة المبالغةِ فتدَّبرْ وأمَّا ما قيل من أنَّ المعنى لا تباشروا ما يؤديّ إلى قتل أنفسِكم قِصاصاً أو ما يبيح سفكَ دمائِكم وإخراجَكم من دياركم أو لا تفعلُوا ما يُرديكم ويصرِفُكم عن الحياة الأبدية فإنه القتلُ في الحقيقة ولا تقترفوا ما تُحْرَمون به عن الجنة التي هي دارُكم فإنه الجلاءُ الحقيقيُّ فممَّا لا يساعده سياقُ النظمِ الكريم بل هو نصٌّ فيما قلناه كما ستقف عليه
{ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} أي بالميثاق وبوجوب المحافظةَ عليه
{وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} توكيدٌ للإقرار كقولك أقرَّ فلانٌ شاهداً على نفسه وأنتم أيها الحاضرون تشهدون اليوم على إقرار أسلافِكم بهذا الميثاق

(1/124)


ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)

{ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء} خطابٌ خاص في الحاضرين فيه توبيخ شديدٌ واستبعادٌ قويٌّ لما ارتكبوه بعد ما كان من الميثاق به والشهداة عليه فأنتم مبتدأ وهؤلاء خبرُه ومَناطُ الإفادةِ اختلافُ الصفات المنزل منزلةَ اختلافِ الذات والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاءِ المشاهِدون الناقضون المتناقضون حسبما تُعربُ عنه الجملُ الآتية فإنَّ قولَه عزَّ وجلَّ
{تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} الخ بيانٌ له وتفصيلٌ لأحوالهم المُنْكَرة المندرجةِ تحت الإشارةِ ضمناً كأنهم قالوا كيف نحن فقيل تقتُلون أنفسَكم أي الجارين مَجرى أنفسِكم كما أسير اليه وقرئ تُقتّلون بالتشديد للتكثير
{وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم} الضمير إما للمخاطبين والمضافُ محذوفٌ أي من أنفسكم وإما للمقتولين والخطابُ باعتبار أنهم جُعلوا أنفُسَ المخاطَبين وإلا فلا يتحقق التكافُؤُ بين المقتولين والمخرجين في ذلك العنوان الذي عليه يدورُ فلَكُ المبالغة في تأكيد الميثاقِ حسبما نُصَّ عليه ولا يظهر كمالُ قباحةِ

(1/124)


جناياتِهم في نقضه
{مِن ديارهم} الضمير للفريق وإيثارُ الغَيْبة مع جواز الخِطاب أيضاً بناءً على اعتبار العنوان المذكورِ كما مرَّ في الميثاق للاحتراز عن توهم كونِ المرادِ إخراجَهم من ديار المخاطَبين من حيث هي ديارُهم لا من حيث هي ديارُ المخرِجين وقيل هؤلاءِ موصولٌ والجملتان في حيّز الصلةِ والمجموعُ هو الخبرُ لأنتم
{تظاهرون علَيْهِم} بحذف إحدى التاءين وقرئ بإثباتهما وبالإدغام وتظّهرون بطرح إحدى التاءين من تتظهرون ومعنى الكل تتعاونون وهي حالٌ من فاعل تَخرجون أوْ منْ مفعولِه أو منهما جميعا مبنية لكيفية الإخراج دافعةٌ لتوهم اختصاصِ الحُرمة بالإخراج بطريق الأصالةِ والاستقلالِ دون المظاهرةِ والمعاونة
{بالإثم} متعلقٌ بتظاهرون حال من فاعله أي ملتبسين بالإثم وهو الفعلُ الذي يستحق فاعلُه الذمَّ واللومَ وقيل هو ما ينفِرُ عنه النفسُ ولا يطمئن إليه القلب
{والعدوان} وهو التجاوزُ في الظلم
{وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى} جمعُ أسير وهو من يؤخذ قهراً فعيل بمعنى مفعول من الأسر أي الشدّ أو جمعُ أسرى وهو جمع أسير كجرحى وجريح وقد قرئ أسْرى ومحلُّه النصبُ عَلى الحاليّةِ
{تفادوهم} أي تخرجوهم من الأسر بإعطاء الفداء وقرئ تَفْدوهم قال السدي إن الله تعالى أخذ عَلى بني إسرائيلَ فِى التوراة الميثاقَ أن لا يقتُلَ بعضُهم بعضاً ولا يُخرجَ بعضُهم بعضاً من ديارهم وأيُّما عبدٍ أو أمةٍ وجدتموه من بني إسرائيلَ فاشترُوه وأعتِقوه وكانت قريظةُ حلفاءَ الأوسِ والنضيرُ حلفاءَ الخزرج حين كان بينهما ما كان من العداوة والشَنَآن فكان كلُّ فريقٍ يقاتل مع حُلفائه فإذا غَلَبوا خرَّبوا ديارَهم وأخرجوهم منها ثم إذا أُسر رجل من الفريقين جمعوا له مالاً فيَفُدونه فعيَّرتهم العربُ وقالت كيف تقاتلونهم ثم تَفْدونهم فيقولون أُمرنا أن نفديَهم وحُرِّم علينا قتالُهم ولكن نستحي أن ندل حلفاء نا فذ مهم الله تعالى على المناقضة
{وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} هو ضميرُ الشأن وقع مبتدأ ومحرمٌ فيه ضمير قائم مقامَ الفاعلِ وقع خبراً من إخراجهم والجملة خبرٌ لضمير الشأن وقيل محرَّمٌ خبرٌ لضمير الشأن وإخراجُهم مرفوع على انه مفعول مالم يُسمَّ فاعلُه وقيل الضميرُ مهم يفسّره إخراجهم أو راجعٌ إلى ما يدل عليه تُخرجون من المصدر وإخراجُهم تأكيدا وبيان والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في تخرجون أو من فريقاً أو منهما كما مر بعد اعتبار القيد بالحال السابقة وتخصيصُ بيان الحرمةِ ههنا بالإخراج مع كونه قريناً للقتل عند أخذ الميثاقِ لكونه مِظنّةً للمساهلة في أمره بسبب قِلة خَطَره بالنسبة إلى القتل ولأن مساقَ الكلام لذمّهم وتوبيخِهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم معاً وذلك مختص بصورة الإجراج حيث لم يُنقلْ عنهم تدارك القتلى بشئ من دِيَةِ أو قِصاصٍ هو السر في تخصيص التظاهرِ به فيما سبق وأما تأخيرُه من الشرطية المعترضةِ مع أن حقه التقديمُ كما ذكره الواحدي فلأن نظْمَ أفاعيلِهم المتناقضةِ في سَمْطٍ واحدٍ من الذكر أدخَلُ في إظهار بطلانها
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب} أي التوراة التي أُخذ فيها الميثاقُ المذكور والهمزةُ للإنكار التوبيخي والفاءُ للعطف على مقدر يستدعيه المقام أي أتفعلون ذلك فتؤمنون ببعض الكتاب وهو المفاداة
{وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} وهو حرمةُ القتالِ والإخراج مع أن مِن قضية الإيمان ببعضه الإيمانُ بالباقي لكون الكلِّ من عند الله تعالى داخلاً في الميثاق فمناطُ التوبيخ كفرُهم بالبعض مع إيمانهم بالبعض حسبما يفيده ترتيبُ النظمِ الكريم فإن التقديمَ يستدعي في المقام الخطابي أصالةَ المقدَّم وتقدُّمَه بوجهٍ من الوجوه حتماً وإذ ليس ذلك ههنا باعتبار الإنكارِ والتوبيخ عليه وهو باعتبار الوقوعِ قطعاً

(1/125)


البقرة (87 - 86)
لا إيمانُهم بالبعض مع كفرهم بالبعض كما هو المفهوم لوقيل أفتكفرون ببعض الكتاب وتؤمنون ببعض ولا مجردُ كفرِهم بالبعض وإيمانِهم بالبعض كما يفيده أن يقال أفتَجْمعون بين الإيمان ببعض الكتابِ والكفرِ ببعضٍ أو بالعكس
{فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذلك} ما نافية ومن إن جُعلت موصولةً فلا محلَّ ليفعلُ من الإعراب وإن جعلت موصوفة فمحله الجر على أنه صفتُها وذلك إشارةٌ إلى الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان ببعضٍ أو إلى ما فعلوا من القتل والإجلاء مع مُفاداةِ الأسارى
{مّنكُمْ} حالٌ من فاعل يفعل
{إِلاَّ خِزْىٌ} استثناءٌ مُفرَّغٌ وقع خبراً للمبتدأ والخزيُ الذلُّ والهوانُ مع الفضيحة والتكير للتفخيم وهو قتلُ بني قريظة وإجلاء بني النضير إلى أذْرِعاتَ وأريحاءَ من الشام وقيل الجزية
{فِي الحياة الدنيا} في حيز الرفعِ على أنه صفةٌ خزيٌ أي خزيٌ كائن في الحياة الدنيا أو في حيزِ النصبِ على أنه ظرف لنفس الخزي ولعل بيانَ جزائِهم بطريق القصر على ما ذكر لقطع أطماعِهم الفارغةِ من ثمرات إيمانهم ببعض الكتاب وإظهارِ أنه لا أثرَ له أصلاً مع الكفر ببعض
{وَيَوْمَ القيامة يردون} وقرئ بالتاء أوثرَ صيغةُ الجمع نظراً إلى معنى مَنْ بعد ما أوثِرَ الإفرادُ نظراً إلى لفظها لما أن الردَّ إنما يكون بالاجتماع
{إلى أَشَدّ العذاب} لما أن معصيتَهم أشدُّ المعاصي وقيل أشدُّ العذاب بالنسبة إلى ما لَهُم في الدُّنيا من الخزي والصَّغار وإنما غُيّر سبكُ النظمِ الكريم حيث لم يقُلْ مثلاً وأشدُّ العذاب يوم القيامة للإيذان بكمال التنافي بين جزاءَي النشأتين وتقديم يوم القيامة على ما ذكر ما يقع فيه لتهويل الخطبِ وتفظيعِ الحال من أول الأمر
{وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} من القبائح التي من جملتها هذا المنكر وقرئ بالياء على نهج يُردّون وهو تأكيد الموعيد

(1/126)


أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

{أولئك} الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحةِ وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى
{الذين اشتروا} أي آثروا
{الحياة الدنيا} واستبدلوها
{بالاخرة} وأعرضوا عنها مع تمكنهم من تحصيلها فإنَّ ما ذُكر من الكفر ببعض أحكامِ الكتاب إنما كان لمراعاة جانبِ حلفائِهم لما يعود إليهم منهم من بعض المنافع الدنية الدنيوية
{فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} دنيويا كان أو أخرويا
{ولا هم ينصرون} بدفعه عنهم شفاعةً أو جبراً والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها عطفَ الاسمية على الفعلية أو ينصرون مفسِّرٌ لمحذوف قبل الضمير فيكونُ من عطف الفعلية على مثلها

(1/126)


وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)

{ولقد آتينا موسى الكتاب} شروعٌ في بيان بعض آخر من جناياتهم وتصديرُه بالجملة القَسَمية لإظهار كمالِ الاعتناءِ به والمراد بالكتاب التوراة عن ابن عباس رضي الله تعالَى عنُهمَا أنَّ التوراة لما نزلت جُملةً واحدة أمر الله تعالى موسى عليه السلام بحملها فلم يطق بذلك فبعث الله بكل حرفٍ منها مَلَكاً فلم يطيقوا بحملها فخففها الله تعالى لموسى عليه السلام فحملها
{وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل} يقال قفّاه به إذا

(1/126)


البقرة (88)
أتبعه إياه أي أرسلناهم على أَثَرِه كقوله تعالى ثُمَّ {أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تترا} وهم يوشَعُ وأشمَويلُ وشمعونُ وداودُ وسليمانُ وشَعْيا وأرميا وعُزيرٌ وحزْقيل وإلياسُ واليسعُ ويونسُ وزكريا ويحيى وغيرُهم عليهم الصلاة والسلام
{وآتينا عيسى ابن مريم البينات} المعجزاتِ الواضحاتِ من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبارِ بالمغيّبات أو الإنجيلَ وعيسى بالسرناية إيشوُعُ ومعناه المبارك ومريم بمعنى الخادم وهو بالعبرية من النساء كالزير من الرجال وبه فُسر قولُ رؤبة
قلتُ لزيرٍ لم تصِلْه مَرْيمُه ... ضليلِ أهواءِ الصِّبا تندّمُهْ
ووزنه مِفْعل إذ لم يثبت فعيل
{وأيدناه} أي قويناه وقرئ وآيدناه
{بِرُوحِ القدس} بضم الدال وقرئ بسكونها أي بالروح المقدسة وهي روحُ عيسى عليه السلام كقولك حاتمُ الجود ورجلُ صدقٍ وإنما وُصِفت بالقدْس لكرامته أو لأنه عليه السلام لم تضمه الأصلابُ ولا أرحامُ الطوامِث وقيل بجبريلَ عليه السلام وقيل بالإنجيل كما قيل في القرآن {رُوحاً من أمرنا} وقيل باسم الله الاعظم الذي كان يُحيي الموتى بذكره وتخصيصُه من بين الرسل عليهم السلام بالذكر ووصفُه بما ذكر من إيتاء البينات والتأييدِ بروح القدسِ لما أن بِعْثتَهم كانت لتنفيذ أحكامِ التوراة وتقريرِها وأما عيسى عليه السلام فقد نُسخ بشرعه كثيرٌ من أحكامها ولحسم مادةِ اعتقادِهم الباطلِ في حقه عليه السلام ببيان حقّيتِه وإظهارِ كمالِ قُبح ما فعلوا به عليه السلام
{أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ} من أولئك الرسل
{بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم} من الحق الذي لا محيدَ عنه أي لا تحبُّه من هِويَ كفرح إذا أحب والتعبيرُ عنه بذلك للإيذان بأن مدارَ الردِّ والقبولِ عندهم هو المخالفةُ لأهواء أنفسِهم والموافقةُ لها لا شيءٍ آخرَ وتوسيطُ الهمزة بين الفاء وما تعلّقت به من الأفعال السابقةِ لتوبيخهم على تعقيبهم ذلك بهذا وللتعجيب من شأنهم ويجوز كونُ الفاءُ للعطف على مقدر يناسب المقام أي ألم تطيعوهم فكلما جاءكم رسولٌ منهم بما لا تهوى أنفسكم
{استكبرتم} عن الاتباع له والإيمانِ بما جآء به من عند الله تعالى
{فَفَرِيقًا} منهم
{كَذَّبْتُمْ} منْ غيرِ أنْ تتعرضُوا لهم بشيء آخر من المضارِّ والفاءُ للسببية أو للتعقيب
{وَفَرِيقًا} آخرَ منهم
{تَقْتُلُونَ} غيرَ مكتفين بتكذيبهم كزكريا ويحيى وغيرهما عليهم السلام وتقديمُ فريقاً في الموضعين للاهتمام وتشويق السامعِ إلى ما فعلوا بهم لا للقصر وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في القتل لاستحضار صورتِه الهائلةِ أو للإيماء إلى أنهم بعْدُ على تلك النية حيث همُّوا مما لم ينالوه من جهته عليه السلام وسحروه وسمموا له الشاةَ حتى قال صلى الله عليه وسلم ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري

(1/127)


وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)

{وَقَالُواْ} بيانٌ لفنٍ آخرَ من قبائحهم على طريق الالتفاتِ إلى الغَيْبة إشعاراً بإبعادهم عن رُتبة الخِطاب لِمَا فُصِّل من مخازيهم الموجبةِ للإعراض عنهم وحكايةِ نظائرِها لكل من يفهم بُطلانها وقباحتَها من أهل الحق والقائلون هم الموجودون في عصر النبي عليه الصلاةَ والسلام
{قلوبنا غلف} جمع أغلف مستعار من الأغلف الذي لم يُختَنْ أي مُغشّاة بأغشية جِبِلِّيةٍ لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم ولا تفقه كقولهم {قلوبُنا فِى أكِنّة مِمَّا تدعونا إليه} وقيل هو تخفيف غلف جمع غِلاف ويؤيده ما رُوي عن أبي عمرو من القراءة بضمتين يعنون أن قلوبنا أوعيةٌ للعلوم فنحن مستغنون بماعندنا عن

(1/127)


البقرة (89)
غيره قاله ابن عباس وعطاء وقال الكلبي يعنون أن قلوبَنا لا يصل إليها حديث إلا وعته ولو كان في حديثك خير لوعته أيضا
{بل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} ردٌّ لما قالوه وتكذيبٌ لهم في ذلك والمعنى على الأول بل أبعدهم الله سبحانه عن رحمته بأن خذلهم وخلاّهم وشأنَهم بسبب كفرهم العارضِ وإبطالِهم لاستعدادهم بسوء اختيارِهم بالمرة وكونِهم بحيث لا تنفعهم الإلطاف أصلاً بعد أن خلقهم على الفطرة والتمكنِ من قبول الحق وعلى الثاني بل أبعدهم من رحمته فأنى لهم ادعاءُ العلمِ الذي هو أجلُّ آثارِها وعلى الثالث بل أبعدهم من رحمته فلذلك لا يقبلون الحق المؤديَ إليها
{فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} ما مزيدة للمبالغة أي فإيماناً قليلاً يؤمنون وهو إيمانُهم ببعض الكتاب وقيل فزماناً قليلاً يؤمنون وهو ما قالوا آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجهَ النهار واكفُروا آخره وكلاهما ليس بإيمان حقيقةً وقيل أريد بالقِلة العدمُ والفاءُ لسببية اللعن لعدم الإيمان

(1/128)


وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)

{وَلَمَّا جَاءهُمْ كتاب} هو القرآن وتنكيرُه للتفخيم ووصفُه بقوله عز وجل
{مِنْ عِندِ الله} أي كائن من عنده تعالى للتشريف
{مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} من التوراة عبر عنها بذلك لما أن المعيةَ من موجبات الوقوفِ على ما في تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكونه مصدقاً لها وقرئ مصدّقاً على أنه حال من كتاب لتخصيصه بالوصف
{وَكَانُواْ مِن قَبْلُ} أي من قبل مجيئِه
{يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} أيْ وقد كانوا قبل مجيئه يستفتحون به على المشركين ويقولون اللهم انصرنا بالنبيِّ المبعوثِ في آخرِ الزمان الذي نجد نعته في التوراة ويقولون لهم قد أظلَّ زمانُ نبيَ يخرجُ بتصديقِ ما قلنَا فنقتلُكُم مَعَهُ قتلَ عادٍ وإرم وقالَ ابنُ عبَّاسٍ وقَتَادةُ والسدي نزلت في بني قُرَيظةَ والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم قبل مبعثِه وقيل معنى يستفتحون يفتتحون عليهم ويُعرِّفونهم بأن نبياً يُبعث منهم قد قرُب أوانُه والسين للمبالغة كما في استعجب أي يسألون من أنفسهم الفتحَ عليهم أو يسأل بعضُهم بعضاً أنْ يَفتحَ عليهم وعلى التقديرين فالجملة حاليةٌ مفيدةٌ لكمال مكابرتِهم وعنادِهم وقولُه عز وعلا
{فَلَمَّا جَاءهُمُ} تكريرٌ للأول لطول العهد بتوسط الجملةِ الحاليةِ وقولُه تعالى
{مَّا عَرَفُواْ} عبارةٌ عما سلف من الكتاب لأن معرفةَ من أنزل هو عليه معرفةٌ له والاستفتاحُ به استفتاح به وإيرادُ الموصولِ دون الاكتفاء بالإضمار لبيان كمالِ مكابرتِهم فإن معرفةَ ما جاءهم من مبادى الإيمان به ودواعيه لا محالةَ والفاء للدلالة على تعقيب مجيئِه للاستفتاح به من غير أن يتخلل بينهما مدةٌ منسيةٌ له وقوله تعالى
{كَفَرُواْ بِهِ} جوابُ لمّا الأولى كما هو رأيُ المبرِّد أو جوابُهما معاً كما قاله أبو البقاء وقيل جوابُ الأولى محذوفٌ لدلالة المذكورِ عليه فيكونُ قولُه تعالَى وكانوا الخ جملةً معطوفةً على الشرطية عطفَ القصة على القصة والمرادُ بما عرفوا النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كما هو المراد بما كانوا يستفتحون به فالمعنى ولما جاءهم كتابٌ مصدقٌ لكتابهم كذّبوه وكانوا من قبل مجيئِه يستفتحون بمن أُنزل عليه ذلك الكتابُ فلما جاءهم النبيُّ الذي عرَفوه كفروا به
{فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} اللامُ للعهد

(1/128)


البقرة (91 - 90)
أي عليهم ووضعُ المظهرِ موضعَ المضمرِ للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرِهم كما أن الفاءَ للإيذان بترتبها عليه أو للجنس وهم داخلون في الحكم دخولا أولياء إذ الكلام فيهم وأياما كان فهو محقِّقٌ لمضمون قوله تعالى بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ

(1/129)


بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)

{بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ} ما نكرة بمعنى شئ منصوبة مفسرة لفاعل بئس واشتروا صفته أي بئس شيئاً باعُوا به أنفسَهم وقيل اشترَوْها به في زعمهم حيث يعتقدون أنهم بما فعلوا خلّصوها من العقاب ويأباه أنه لا بد أن يكون المذمومُ ما كان حاصلاً لهم لا ما كان زائلاً عنهم والمخصوصُ بالذم قولُه تعالى
{أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ الله} أي بالكتاب المصدّقِ لما معهم بعد الوقوف على حقيقته وتبديلُ الإنزال بالمجيء للإيذان به
{بَغِيّاً} حسداً وطلباً لما ليس لهم وهو علةٌ لأن يكفُروا حتماً دون اشتروا لما قيل بما هو أجنبيٌّ بالنسبة إليه وإن لم يكن أجنبياً بالنسبة إلى فعل الذمِّ وفاعلِه ولأن البغيَ مما لا تعلُّقَ له بعنوان البيع قطعا لاسيما وهو معلَّلٌ بما سيأتي من تنزيل الله تعالى من فضله على من يشاؤه وإنما الذي بينه وبينه علاقةٌ هو كفرُهم بما أنزل الله والمعنى بئس شيئاً باعُوا به أنفسَهم كفرُهم المعلَّلُ بالبغي الكائنِ لأجل
{أَن يُنَزّلُ الله مِن فَضْلِهِ} الذي هو الوحى
{على مَن يَشَاء} أي يشاؤه ويصطفيه
{مِنْ عِبَادِهِ} المستأهِلين لتحمُّل أعباءِ الرسالةِ ومآلُه تعليلُ كفرِهم بالمنزل بحسدهم للمنزل عليه وإيثارُ صيغةِ التفعيل ههنا للإيذان بتجدد بغْيهم حسَب تجدُّدِ الإنزالِ وتكثُّره حسب تكثره
{فباؤوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ} أي رجعوا ملتبسين بغضبٍ كائن على غضب مستحقين له حسب ما اقترفوا مِنْ كفر على كفر فإنهم كفروا بنبيّ الحقِّ وبغَوْا عليه وقيل كفروا بمحمَّدٍ عليهِ الصَّلاة والسَّلام بعد عيسى وقيل بعد قولهم عزيزا ابن الله وقولِهم يدُ الله مغلولةٌ وغير ذلك من فنون كفرهم
{وللكافرين} أي لهم والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ للإشعار بعلية كفرهم لما حاق بهم
{عَذَابٌ مُّهِينٌ} يراد به إهانتُهم وإذلالُهم لما أن كفرَهم بما أنزل الله تعالى كان مبنيا على الحسد المبنيّ على طمع المنزولِ عليهم وادعاءِ الفضلِ على الناس والاستهانةِ بمن أنزل عليه عليه السلام

(1/129)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

{وَإِذَا قِيلَ} من جانب المؤمنين
{لهم} أي اليهود وتقديم الجار والمجرور وقد مر وجهة لاسيما في لام التبليغ
{آمنوا بِمَا أَنزَلَ الله} مِن الكتب الإلهية جميعاً والمرادُ به الأمرُ بالإيمان بالقرآن لكن سُلك مسلكُ التعميم إيذاناً بتحتُّم الامتثالِ من حيث مشاركتُه لما آمنوا به فيما في حيِّز الصلةِ وموافقتِه له في المضمون وتنبيهاً على أن الإيمانَ بما عداه من غير إيمانٍ به ليس بإيمان بما أنزل الله
{قَالُواْ نُؤْمِنُ} أي نستمر على الإيمان
{بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} يعنون به التوراةَ وما نزل على

(1/129)


البقرة (92)
أنبياءِ بني إسرائيلَ لتقرير حكمَها ويدسُّون فيه أن ما عدا ذلك غيرُ منزّلٍ عليهم ومرادُهم بضمير المتكلم إما أنفسُهم فمعنى الإنزالِ عليهم تكليفُهم بما في المنزَّل من الأحكام وإما أنبياءُ بني إسرائيلَ وهو الظاهرُ لاشتماله على مزيَّة الإيذانِ بأن عدمَ إيمانِهم بالفُرقان لما مرَّ من بغيهم وحَسَدِهم على نزوله على من ليس منهم ولأن مرادَهم بالموصول وإن كان هو التوراةُ وما في حكمها خاصةً لكنّ إيرادَها بعنوان الإنزالِ عليهم مبنيٌّ على ادعاء أن ما عداها ليس كذلك على وجه التعريضِ كما أشير إليه فلو أريد بالإنزال عليهم ما ذكر من تكليفهم يلزَمُ من مغايرَةَ القرآنِ لما أُنزل عليهم حسبما يُعرب عنه قوله عز وجل
{وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ} عدمُ كونِهم مكلَّفين بما فيه كما يلزَم عدمَ كونِه نازلاً على واحد من بني إسرائيلَ على الوجه الأخير وتجريد الموصول عند الإضمارِ عما عرَّضوا به تعسُّفٌ لا يخفى والوراء في الأصل مصدر جُعل ظرفاً ويضاف إلى الفاعل فيرادُ به ما يتوارى به وهو خلْفُه وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو أمامُه والجملةُ حالٌ من ضمير قالوا بتقدير مبتدأ أي ما قالوا وهم يكفرون بما عداه وليس المرادُ مجردَ بيانِ أن إفرادَ إيمانِهم بما أنزل عليهم بالذكر لنفي إيمانِهم بما وراء بل بيانِ أن ما يدّعون من الإيمان ليس بإيمانٍ بما أنزل عليهم حقيقةً فإن قولَه عز اسمُه
{وَهُوَ الحق} أي المعروف بالحقية الحقيقُ بأن يُخصَّ به اسمُ الحقِ على الإطلاق حال من فاعل يكفُرون وقوله تعالى
{مُصَدّقاً} حالٌ مؤكدة لمضمون الجملةِ صاحبُها إما ضميرُ الحق وعاملَها ما فيه من معنى الفعل قاله أبو البقاء وإما ضميرٌ دل عليه الكلامُ وعاملها فعلٌ مضمرٌ أي أُحِقُّه مصدِّقاً
{لّمَا مَعَهُمْ} من التوراة والمعنى قالوا نؤمن بما أنزل علينا وهم يكفُرون بالقرآن والحال أنه حقٌّ مصدِّق لما آمنوا به فيلزمهم الكفرُ بما آمنوا به ومآله أنهم ادَّعَوا الإيمانَ بالتوراة والحال أنهم يكفُرون بما يلزم من الكفرُ بها
{قُلْ} تبكيتاً لهم من جهةِ الله عزَّ من قائل ببيان التناقض بين أقوالهم
{فَلَمْ} أصلُه لِمَا حُذفت عنه الألفُ فرقاً بين الاستفهامية والخبرية
{تَقْتُلُونَ أنبياء الله من قبل} الخطابُ للحاضرين من اليهود والماضين على طريق التغليب وحيث كانوا مشاركين في العقد والعمل كان الاعتراضُ على أسلافهم اعتراضاً على أخلافِهم وصيغةُ الاستقبال لحكايةَ الحالِ الماضية وهو جوابُ شرطٍ محذوفٍ أيْ قل لهم إن كنتم مؤمنين بالتوراة كما تزعُمون فلأيِّ شيء كنتم تقتلون أنبياءَ الله من قبلُ وهو فيها حرام وقرئ أنبياء الله مهموزاً وقولُه تعالى
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} تكريرٌ للاعتراض لتأكيد الإلزامِ وتشديدِ التهديدِ أي إن كنتم مؤمنين فلم تقتلون وقد حُذف من كل واحدة من الشرطيتين ما حُذف ثقةً بما أُثبتَ في الأخرى وقيل لا حذفَ فيه بل تقديمُ الجواب على الشرط وذلكَ لا يتأتَّى إلا على رأي الكوفيين وأبي زيد وقيل إن نافية ما كنتم مؤمنين وإلا لما قتلتموهم

(1/130)


وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)

{وَلَقَدْ جَاءكُم موسى بالبينات} من تمام التبكيت والتوبيخِ داخلٌ تحت الأمر لا تكريرٌ لما قُصَّ في تضاعيف تعدادِ النِّعمِ التي من جُملتها العفوُ عن عبادة العجلِ واللامُ للقسم أي وبالله لقد جاءكم موسى ملتبسا بالمعجزات الظاهرةِ التي هي العصا واليدُ والسِّنونَ ونقصُ الثمراتِ والدمُ والطوفانُ والجَرادُ والقُمّلُ والضفادعُ وفلْقُ البحرِ وقد عُدَّ منها التوراةُ وليس بواضح فإن المجيءَ

(1/130)


البقرة (94 - 93)
بها بعد قصةِ العجل
{ثُمَّ اتخذتم العجل} أي إلها
{مِن بَعْدِهِ} أي من بعد مجيئِه بها وقيل من بعد ذهابِه إلى الطور فتكون التورارة حينئذ من جملة البيناتِ وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ والدلالة على نهايةِ قُبْحِ ما صنعوا
{وَأَنتُمْ ظالمون} حالٌ من ضمير اتخذتم بمعنى اتخذتمُ العجلَ ظالمين بعبادته واضعين لها في غير موضعِها أو بإخلال بحقوق آياتِ الله تعالى أو غير اعتراض أي وأنتم قوم عادتُكم الظلمُ

(1/131)


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم} توبيخ من جهة الله تعالى وتكذيبٌ لهم في ادعائهم الإيمان بما أنزل عليهم بتذكير جناياتِهم الناطقةِ بكَذِبهم أي واذكروا حين أخذنا ميثاقَكم
{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} قائلين
{خذوا ما آتيناكم بِقُوَّةٍ واسمعوا} أي خذوا بما أُمرتم به في التوراة واسمعوا ما فيها سمعَ طاعةٍ وقَبول
{قَالُواْ} استئناف مبني على سؤال سائلٍ كأنه قيل فماذا قالوا فقيل قالوا
{سَمِعْنَا} قولَك
{وَعَصَيْنَا} أمرَك فإذا قابل أسلافُهم مثلَ ذلك الخطابِ المؤكدِ مع مشاهدتهم مثلَ تلك المعجزةِ الباهرةِ بمثل هذه العظيمةِ الشنعاءِ وكفروا بما في تضاعيف التوبةِ فكيف يُتصوّر من أخلافِهم الإيمانُ بما فيها
{وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ العجل} على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامُه للمبالغة أي تَداخَلَهم حبُّه ورسَخَ في قلوبهم صورتُه لفَرْط شغَفِهم به وحِرصِهم على عبادته كما يَتداخل الصبغ الثوبَ والشرابُ أعماقَ البدن وفي قلوبهم بيانٌ لمكان الإشرابِ كما في قوله تعالى {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً} والجملةُ حالٌ من ضمير قالوا بتقديم قد
{بِكُفْرِهِمْ} بسبب كفرِهم السابقِ الموجبِ لذلك قيل كانوا مجسِّمة أو حلولية ولم يرَوا جسماً أعجبَ منه فتمكّن في قلوبهم ما سوَّل لهم السامريُّ
{قُلْ} توبيخاً لحاضري اليهود إثرَ ما تبين من أحوال رؤسائِهم الذين بهم يقتدون في كلِّ ما يأتُون وما يذرون
{بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم} بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدّعون والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي ما ذكر من قولهم سمعنا وعصينا وعبادتِهم العجلَ وفي إسناد الأمرِ إلى الإيمان تهكّمٌ بهم وإضافةُ الإيمانِ إليهم للإيذان بأنه ليس بإيمانٍ حقيقة كما ينبئ عنه قوله تعالى
{إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإنه قدْحٌ في دعواهم الإيمانَ بما أنزل عليهم من التزراة وإبطالٌ لها وتقريرُه إن كنتم مؤمنين بها عاملين فيما ذُكر من القول والعملِ بما فيها فبئسما يأمرُكم به إيمانُكم بها وإذ لايسوغ الإيمانَ بها مثلُ تلك القبائحِ فلستم بمؤمنين بها قطعاً وجوابُ الشرط كما ترى محذوفٌ لدلالةِ ما سبق عليه

(1/131)


قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)

{قُلْ} كَرر الأمرَ مع قرب العهد بالأمر السابق لما أنه أمرٌ بتبكيتهم وإظهارِ كذِبهم في فنٍ آخرَ من أباطيلهم لكنه لم يُحْكَ عنهم قبل الأمر بإبطاله بل اكتُفيَ بالإشارة إليه في تضاعيف الكلام حيث قيل
{إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الاخرة} أي الجنةُ أو نعيمُ الدار

(1/131)


البقرة (96 - 95)
الآخرة
{عِندَ الله خَالِصَةً} أي سالمة لكم خاصة بكم كما تدّعون أنه لنْ يدخلَ الجنةَ إلاَّ من كان هودا أو نصارى ونصبُها على الحالية من الدار وعند ظرفٌ للاستقرار في الخبر أعني لكم وقوله تعالى
{مّن دُونِ الناس} في محل النصبِ بخالصة يقال خلَص لي كذا من كذا واللامُ للجنس أي الناس كافة أو للعهد أي المسلمين
{فَتَمَنَّوُاْ الموتَ} فإنَّ مَنْ أيقن بدخول الجنة اشتاقَ إلى التخلص إليها من دار البوار وقرارة الأكدار لاسيما إذا كانت خالصة له كما قال عليٌّ كرم الله وجهه لا أبالي أسقطتُ على الموت أو سقط الموت على وقال عمار بن ياسر بصفين ... الآن ألاقي الأحبة ... محمدا وحزبه ... وقال حذيفة بن اليمان حين احتصر وقد كان يتمنى الموت قبل ... جاء حبيب على فاقة ... فلا أفلح اليوم من قد ندم ... أي على التمنى وقوله تعالى
{إن كنتم صادقين} تكرير للكلام لتشديد الإلزام وللتنبيه على أن ترتب الجواب ليس على تحقق الشرط في نفس الأمر فقط بل في اعتقادهم أيضا وأنهم قدادعوا ذلك والجوابُ محذوفٌ ثقةً بدلالة ما سبقَ عليهِ أيْ إنْ كنتُم صادقين فتمنوه وقوله تعالى

(1/132)


وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)

{ولن يتمنوه أبدا} كلامٌ مستأنفٌ غيرُ داخلٍ تحت الأمر سيق من جهته سبحانه لبيان ما يكون منهم من الإحجام عما دعوا إليه الدال على كذبهم في دعواهم
{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بسببِ ما عملُوا من المعاصي الموجبة لدخول النار كالكفر بالنبي عليه السلام والقرآن وتحريف التوراة ولما كانتِ اليدُ من بينِ جوارحِ الإنسانِ مناطَ عامة صنائعة ومدار أكثر منافعة عبَّرَ بها تارةً عن النفسِ وأُخرى عنِ القدرةِ
{والله عَلِيمٌ بالظالمين} أيْ بهِم وإيثارُ الإظهارِ على الإضمار لذمِّهم والتسجيلِ عليهِم بأنَّهم ظالمون في جميعَ الأمورِ التي من جملتها ادعاء ما ليس لهم ونفيه من عيرهم والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها مقررةٌ لمضمونِهِ أيْ عليمٌ بهِم وبِمَا صدَرَ عَنْهُم من فنونِ الظلمِ والمعَاصِي المفضيةِ إلى أفانينِ العذابِ وبِمَا سيكونُ منهُم منَ الاحترازِ عَمَّا يؤدِّي إلى ذلكَ فوقعَ الأمرُ كما ذكرَ فلم يتمنَّ منهُم موته أحد إذ لو وقع ذلك لنقل واشتهر وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقى يهوديَ على وجه الأرض

(1/132)


وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس} من الوُجدان العقليّ وهو جار مجرى العلم خلا أنه مختصٌّ بما يقع بعد التجربة ونحوهما ومفعولاه الضميرُ وأحرصَ والتنكيرُ في قوله تعالى
{على حياة} للإيذان بأن مرادهم نوعٌ خاص منها وهي الحياة المتطاولة وقرئ بالتعريف
{وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} عطف على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل أحرصَ من الناس ومن الذين أشركوا وإفرادُهم بالذكر مع دخولهم في الناس للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرصِ للمبالغة في توبيخ اليهودِ فإن حرصَهم وهم معترفون بالجزاء لمّا كان أشدَّ من حرص المشركين المنكرين له دلّ ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار ويجوز أن يُحملَ على حذف المعطوف ثقةً بإنباء المعطوفِ عليه عنه أي وأحرصَ من الذين أشركوا فقوله تعالى

(1/132)


البقرة (97)

{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} بيان لزيادة حرصِهم على طريقة الاستئناف ويجوز أن يكون في حيز الرفعِ صفةً لمبتدإٍ محذوفٍ خبرُه الظرفُ المتقدم على أن يكون المرادُ بالمشركين اليهود لقولهم عزيز بنُ الله أي ومنهم طائفة يودُّ أحدُهم أيَّهم كان أي كلُّ واحد منهم
{لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} وهو حكاية لودادتهم كأنه قيل ليتني أُعَمَّرُ وإنما أُجريَ على الغَيبة لقوله تعالى يود كما تقول ليفعلَنّ ومحلُه النصبُ على أنَّه مفعولُ يود إجراءً له مجرى القول لأنه فعل قلبيٌّ
{وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب} ما حجازيةٌ والضميرُ العائد على أحدُهم اسمُها وبمُزَحْزحِه خبرُها والباء زائدة
{أَن يُعَمَّرَ} فاعلُ مزحزحِه أي وما أحدهم بمَنْ يزحزِحُه أي يُبعده وينْجيه من العذاب تعميرُه وقيل الضَّميرُ لما دلَّ عليه يعمر من المصدر وأن يعمر بدلٌ منه وقيل هو مبهم وأن يعمّر مفسرةٌ والجملةُ حال من أحدهم والعامل يود لا يُعمَّر على أنَّها حالٌ من ضميره لفساد المعنى أو اعتراض وأصلُ سنة سَنْوَة لقولهم سنَوَات وسَنْية وقيل سَنْهة كجبهة لقولهم سانهتُه وسُنَيهة وتسنّهت النخلة إذا أتت عليها السنون
{والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} البصيرُ في كلام العرب العالم بكنه الشي الخبيرُ به ومنه قولهم فلان بصيرٌ بالفقه أي عليم بخفيات أعمالهم فهو مجازيهم بها لا محالة وقرئ بتاء الخطاب التفاتاً وفيه تشديد للوعيد

(1/133)


قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)

{قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ} نزل في عبدِ اللَّه بنِ صوريا من اخبار فدَك حاجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عمن نزل عليه الوحى فقال عليه السلام جبريلُ عليه السَّلامُ فقال هو عدوُّنا لو كان غيرُه لآمنّا بك وفي بعض الروايات ورسولنا وميكائيل فلو كان هو الذي يأتيك لآمنا بك وقد عادانا مِراراً وأشدُّها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدِس سيُخْرِبُه بُخْتَ نَصَّرُ فبعثنا من يقتلُه فلقِيه ببابل غلاماً مسكيناً فدفع عنه جبريلُ عليه السلام وقال إن كان ربكم أمره بهلا ككم فإنه لا يسلِّطكم عليه وإلا فبأيِّ حق تقتلونه وقيل أمرَهُ الله تعالى أنْ يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا وروي أنه كان لعمر رضي الله عنه أرض بأعلى المدينة وكان ممرُّه على مدارس اليهود فكان يجلس إليهم ويسمع كلامَهم فقالوا يا عمرُ قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال والله ما أجيئكم ولا سألكم لشكٍ في ديني وإنما أدخُلُ عليكم لأزداد بصيرةً في أمر محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وأرى آثارَه في كتابكم ثم سألهم عن جبريلَ عليه السلام فقالوا ذاك هو عدوُّنا يُطلِعُ محمداً على أسرارنا وهو صاحبُ كلِّ خسفٍ وعذاب وميكائيلُ يجيء بالخِصْب والسلام فقال لهم وما منزلتُهما عند الله تعالى قالوا جبريلُ أقربُ منزلةً هو عن يمينه وميكائيلُ عن يساره وهما متعاديان فقال عمرُ رضي الله عنه إن كانا كما تقولون فما هما بعدوَّيْن ولأنتم أكفرُ من الحمير ومن كان عدو الأحدهما فهو عدوٌّ للآخر ومن كان عدواً لهما كان عدوا لله سبحانه ثم رجع عمرُ فوجد جبرئيل عليه السلام قد سبقه بالوحى فقال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لقد وافقك ربُّك يا عمر فقال عمرُ رضي الله عنه لقد رأيتُني في ديني بعد ذلك أصلبَ من الحجر وقرئ جبرئيل كسلسبيل وجبريل كجَحْمَرِشٍ وجِبريلَ وجِبْرئلَ وجِبرائيل كجبراعيل وجبرائل كجبراعل

(1/133)


البقرة (99 - 98)
ومَنْعُ الصرفِ فيه للتعريف والعُجمة وقيل معناه عبد اللَّه
{فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} تعليل لجواب الشرط قائم مقامه والبارزُ الأولُ لجبريل عليه السلام والثاني للقرآن أُضمر من غير ذكرٍ إيذاناً بفخامة شأنِه واستغنائه عن الذكر لكمالِ شهرتِه ونباهتِه لاسيما عند ذكر شئ من صفاته
{على قَلْبِكَ} زيادةُ تقريرٍ للتنزيل ببيان محلِّ الوحي فإنه القائلُ الأول له ومدارُ الفهم والحفظ وإيثارُ الخطاب على التكلم المبنيّ على حكاية كلام الله تعالى بعينه كما في قوله تعالى {قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} لما في النقل بالعبارة من زيادة تقريرٍ لمضمون المقالةِ
{بِإِذُنِ الله} بأمره وتيسيرِه مستعارٌ من تسهيل الحجاب وفيه تلويحٌ بكمال توجُّه جبريلَ عليه السَّلامُ إِلَىَّ تنزيله وصدقِ عزيمتِه عليه السلام وهو حالٌ من فاعلِ نزّله وقوله تعالى
{مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب الإلهية التي معظمُها التوراةُ حالٌ من مفعوله وكذا قوله تعالى
{وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ} والعاملُ في الكل نزّله والمعنى من عادى جبريلَ من أهل الكتاب فلا وجهَ لمعاداته بل يجب عليه محبتُه فإنه نزل عليك كتاباً مصدِّقاً لكُتُبهم أو فالسبب في عداوته تنزيلُه لكتاب مصدّقٍ لكتابهم موافقٍ له وهم له كارهون ولذلك حرفوا كتابهم وجحَدوا موافقتَه له لأن الاعترافَ بها يوجب الإيمانَ به وذلك يستدعى التكاس أحوالِهم وزوالَ رياستهم وقيل إن الجواب فقد خلَع رِبْقةَ الإنصافِ أو فقد كفر بما معه من الكتب أو فليمُتْ غيظاً أو فهو عدوٌّ لي وأنا عدوٌّ له

(1/134)


مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)

{من كان عدوا لله} أريد بعداوته تعالى مخالفةُ أمرِه عِناداً والخروجُ عن طاعته مكابرة أوعداوة خواصِّه ومقرَّبيه لكنْ صُدّر الكلامُ بذكره الجليل تفخيماً لشأنهم وإيذانا بان عداوتُه عز وعلا كما في قوله عز وجل {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} ثم صرح بالمرام فقيل
{وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} وإنما أفردا بالذكر مع أنهما أولُ من يشمَلُه عنوانُ المَلَكية والرسالة لإظهار فضلِهما كأنهما عليهما السلام من جنسٍ آخَرَ أشرفَ مما ذكر تنزيلاً للتغايُر في الوصف منزلةَ التغايرِ في الجنس وللتنبيه على أن عداوةَ أحدِهما عداوةٌ للآخر حسماً لمادة اعتقادِهم الباطلَ في حقهما حيث زعَموا أنهما متعاديان وللإشارة إلى أن معاداةَ الواحدِ والكلِّ سواءٌ في الكفر واستتباع العدواة من جهة الله سبحانه وأن من عادى أحدَهم فكأنما عادى الجميعَ وقولُه تعالى
{فَإِنَّ الله عَدُوٌّ للكافرين} أي لهم جوابُ الشرط والمعنى من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشدَّ العقاب وإيثارُ الاسميةِ للدلالةِ على التحققِ والثباتِ ووضعُ الكافرين موضعَ المضمرِ للإيذان بأن عداوةَ المذكورين كفر وأن ذلك بيِّنٌ لا يحتاج إلى الإخبار به وأن مدارَ عداوتِه تعالى لهم وسخطِه المستوجبِ لأشدِّ العقوبة والعذاب وهو كفرهم المذكور وقرئ ميكائيل كميكاعِلَ وميكائيلَ كميكاعيلَ وميكئِلَ كميكعِلَ وميكَئيلَ كميكَعيل

(1/134)


وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)

{ولقد أنزلنا إليك آيات بَيّنَاتٍ} واضحاتِ الدِلالة على معانيها وعلى كونِها من عندِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ
{وما يكفر بها إلا الفاسقون} أي المتمردون في الكفر الخارجون عن حدوده فإن من

(1/134)


البقرة (101 - 100)
ليس على تلك الصفة من الكفرة لايجترئ على الكفر بمثل هاتيك البينات قال الحسنُ إذا استُعمل الفسقُ في نوعٍ من المعاصي وقع على أعظمِ أفرادِ ذلك النوع من كفرٍ أو غيره وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قال ابنُ صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما جئتنا بشئ نعرِفُه وما أُنزل عليك من آية فنتّبعَك لها فنزلت واللام للعهد أي الفاسقون المعهودون وهم أهلُ الكتاب المحرِّفون لكتابهم الخارجون عن دينهم أو للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أوليا

(1/135)


أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)

{أَوْ كُلَّمَا عاهدوا عَهْدًا} الهمزةُ للإنكارِ والواوُ للعطفِ على مقدر يقتضيه المقام أي أكفَروا بها وهي غاية الوضوحِ وكلما عاهدوا عهداً ومن جملة ذلك ما أشير إليه في قوله تعالى {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} من قولهم للمشركين قد أظلَّ زمانُ نبيَ يخرجُ بتصديقِ ما قلنَا فنقتلُكُم مَعَهُ قتلَ عادٍ وإرم وقرئ بسكون الواو على أن تقدير النظم الكريم وما يكفر بها إلا الذين فسقوا أو نقضوا عهودَهم مرارا كثيرة وقرئ عوُهِدوا وعهِدوا وقوله تعالى عهداً إما مصدرٌ مؤكد لعاهَدوا من غير لفظِه أو مفعولٌ له على أنه بمعنى أعطَوُا العهدَ
{نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم} أي راموا بالزمام ورفضوه وقرئ نَقَضَه وإسنادُ النبذِ إلى فريق منهم لأن منهم من لم ينبِذْه
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي بالتوراة وهذا دفعٌ لما يُتوَهَّم من أن النابذين هم الأقلون وأن من لم ينبِذْ جِهاراً فهم يؤمنون بها سراً

(1/135)


وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)

{وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ} هو النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ولتنكير للتفخيم
{مِنْ عِندِ الله} متعلق بحاء أو بمحذوف وقع صفة لرسول لإفادة مزيدِ تعظيمِه بتأكيد ما أفاده التنكيرُ من الفخامةِ الذاتية بالفخامة الإضافية
{مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} من التوراة من حيث أنه صلى الله عليه وسلم قرر صِحتها وحقق حَقّيةَ نبوة موسى عليهِ الصلاةُ والسلامُ بمَا أُنزل عليه أو من حيث إنه عليه السلام جاء على وَفق ما نُعت فيها
{نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} أي التوراةَ وهم اليهودُ الذين كانوا في عهد النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ممن كانوا يستفتحون به قبل ذلك لا الذين كانو في عهد سليمانَ عليه السلام كما قيل لأن النبذَ عند مجيءِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لا يتصور منهم وإفراد هذا النبذُ بالذِّكرِ مع اندراجِه تحتَ قوله عز وجل {أَوْ كُلَّمَا عاهدوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم} لأنه معظمُ جناياتِهم ولأنه تمهيدٌ لذكر اتّباعهم لما تتلو الشياطينُ وإيثارِهم له عليه والمرادُ بإيتائها إما إيتاءُ علمِها بالدراسة والحفظ والوقوفِ على ما فيها فالموصولُ عبارة عن علمائهم وإما مجردُ إنزالِها عليهم فهو عبارةٌ عن الكل وعلى التقديرين فوضعُه موضِع الضمير لللإ يذان بكمال التنافي بين ما أُثبت لهم في حيز الصلةِ وبين ما صدرَ عنهُم من النبذ
{كتاب الله} أي الذي أوُتوه قال السدي لما جاءهم محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراةُ والفرقانُ فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصَفَ وسحرِ هاروتَ وماروتَ فلم يوافق القرآنَ فهذا قوله تعالى {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ الله} الخ وإنما عَبَّر عنها بكتاب الله تشريفاً لها وتعظيماً لحقِها عليهم وتهويلا لما اجترؤا عليه من الكفر

(1/135)


البقرة (102)
بها وقيل كتابَ الله القرآنُ نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول لاسيما بعد ما كانوا يستفتحون به من قبل فإن ذلك قَبولٌ له وتمسُّكٌ به فيكون الكفرُ به عند مجيئه نبذاً له كأنه قيل كتابَ الله الذي جاء به فإن مجيءَ الرسول مُعربٌ عن مجيء الكتاب
{وَرَاء ظُهُورِهِمْ} مَثَلٌ لتركهم وإعراضِهم عنه بالكلية مثل بما يرمى به وراء الظهر استغناءً عنه وقلّةَ التفاتٍ إليه
{كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} جملةٌ حاليةٌ أي نبذوه وراء ظهورِهم مُشبَّهين بمن لا يعلمه فإن أريد بهم أحبارُهم فالمعنى كأنهم لايعلمونه على وجه الإيقان ولا يعرفون مَا فيهِ منْ دلائلِ نبوتِه عليه الصلاةُ والسلامُ ففيه إيذانٌ بأن علمَهم به رصينٌ لكنهم يتجاهلون أو كأنهم لا يعلمون أنه كتابُ الله أو لا يعلمونه أصلاً كما إذا أريد بهم الكل وفي هذين الوجهين زيادةُ مبالغةٍ في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة هذا وإن أريد بما نبذوه من كتاب الله القرآنَ فالمرادُ بالعلم النَّفيِ في قوله تعالى {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} هو العلمُ بأنه كتابُ الله ففيه ما في الوجه الأول من الإشعار بأنهم مُتيقِّنون في ذلك وإنما يكفُرون به مكابرةً وعِناداً قيل إن جيل اليهود أربعُ فرقٍ ففِرقةٌ آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهلِ الكتاب وهم الأقلون المشار إليهم بقوله عز وجل {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وفِرقةٌ جاهروا بنبذ العهودِ وتعدّي الحدود تمرُّداً وفسُوقاً وهم المعنيُّون بقوله تعالى {نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم} وفِرقةٌ لم يجاهروا بنبذها ولكن نبذوها لجهلهم بها وهم الأكثرون وفِرقةٌ تمسكوا بها ظاهراً ونبذوها خُفْيةً وهم المتجاهلون

(1/136)


وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

{واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} عطف على جواب لما أي نبذوا كتابَ الله واتبعوا كتبَ السَحَرة التي كانت تقرأها الشياطين وهم المتمرِّدون من الجن وتتلو حكايةُ حالٍ ماضيةٍ والمرادُ بالاتباع التوغلُ والتمحُّض فيه والإقبال عليه بالكلية وإلا فأصل الاتياع كان حاصلا قبل مجئ الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يتسنّى عطفُه على جواب لما ولذلك قيل هو معطوف على الجملة وقيل على أُشربوا
{على مُلْكِ سليمان} أي في عهد مُلكِه قيل كانت الشياطينُ يسترقون السمعَ ويضُمُّون إلى ما سمِعوا أكاذيبَ يُلفِّقونها ويُلْقونها إلى الكهنة وهم يدوِّنونها ويعلّمونها الناسَ وفشا ذلك في عهد سليمانَ عليه السلام حتى قيل إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون هذا عِلمُ سليمان وما تم له مُلكُه إلا بهذا العلم وبه سَخَّر الإنسَ والجنّ والطيرَ والريحَ التي تجري بأمره وقيل أن سليمانَ عليه السلام كان قد دفنَ كثيراً من العلوم التي خصّه الله تعالى بها تحت سريرِ مُلكه فلما مضت على ذلك مدةٌ توصَّل إليها قومٌ من المنافقين فكتبوا في خلال ذلك أشياءَ من فنون السحرِ تناسب تلك

(1/136)


الأشياءَ المدفونةَ من بعض الوجوه ثم بعد موته واطلاعِ الناس على تلك الكتب أو هموهم أنه من عملِ سُليمانَ عليه السلام وأنه ما بلغ هذا المبلغَ إلا بسبب هذه الأشياء
{وَمَا كَفَرَ سليمان} تنزيهٌ لساحته عليه السلام عن السحر وتكذيبٌ لمن افترى عليه بأنه كان يعتقده ويعمل به والتعرُّضُ لكونه كُفراً للمبالغة في إظهار نزاهتِه عليه لسلام وكذِبِ باهِتيهِ بذلك
{ولكن الشياطين} وقرئ بتخفيف لكنّ ورفع الشياطين والواو عاطفةٌ للجملة الاستدراكية على ما قبلها وكونُ المخففة عند الجمهور للعطف إنما هو عند عدم الواو وكون ما بعدها مفرداً
{كَفَرُواْ} باستعمال السحر وتدوينِه
{يُعَلّمُونَ الناس السحر} إغواءً وإضلالاً والجملةُ في محل النصب على الحالية من ضمير كفروا أو من الشياطين فإن ما في لكنّ من رائحة الفعل كافٍ في العمل في الحال أو في محلِ الرفعِ على أنه خبرٌ ثانٍ للكنّ أو بدلٌ من الخبر الأول وصيغةُ الاستقبال للدِلالة على استمرار التعليمِ وتجدُّدِه أو جملةٌ مستأنفة هذا على تقديرِ كونِ الضميرِ للشياطين وأما على تقدير رجوعِه إلى فاعل اتبعوا فهي إما حالٌ منه وإما استئنافيةَ فحسب واعلم أن السحرَ أنواعٌ منها سحْرَ الكَلدانيين الذين كانوا في قديم الدهر وهم قوم يعبُدون الكواكبَ ويزعُمون أنها هي المدبِّرةُ لهذا العالم ومنها تصدرُ الخيراتُ والشرورُ والسعادةُ والنحوسةُ ويستحدثون الخوارقَ بواسطة تمزيج القُوى السماوية بالقوى الأرضية وهم الذين بعث اللَّهُ تعالى إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام لإبطال مقالتهم وهم ثلاثُ فِرقٍ ففِرقةٌ منهم يزعُمون أن الأفلاكَ والنجومَ واجبةُ الوجود لذواتها وهم الصائبة وفرقةٌ يقولون بإلهية الأفلاكِ ويتخذون لكل واحدٍ منها هيكلاً ويشتغلون بخدمتها وهم عبَدَةُ الأوثان وفرقة أثبتوا للأفلاك وللكواكب فاعلاً مختاراً لكنهم قالوا إنه أعطاها قوةً عالية نافذةً في هذا العالم وفَوَّضَ تدبيرَه إليها ومنها سحْرَ أصحابِ الأوهام والنفوسِ القوية فإنهم يزعُمون أن الإنسانَ تبلُغُ روحُه بالتصفية في القوة والتأثير إلى حيث يقدِرُ على الإيجاد والإعدام والإحياءِ وتغييرِ البُنية والشكل ومنها سحرُ من يستعين بالأرواحِ الأرضيةِ وهو المسمّى بالعزائم وتسخيرِ الجن ومنها التخييلاتُ الآخذة بالعيون وتسمَّى الشَّعْوذةَ ولا خلاف بين الأمة في أن من اعتقد الأول فقد كفر وكذا من اعتقد الثانيَ وهو سحر أصحاب الأوهام والنفوس القويةِ وأما من اعتقد أن الإنسان يبلُغ بالتصفية وقراءةِ العزائم والرقى إلى حيث يخلق الله سبحانه وتعالى عَقيبَ ذلك على سبيل جَرَيان العادةِ بعضَ الخوارق فالمعتزلةُ اتفقوا على أنه كافر لأنه لا يمكنه بهذا الاعتقاد معرفةُ صدقِ الأنبياءِ والرسلِ بخلاف غيرهم ولعل التحقيق أن ذلك الإنسانَ إن كان خيرا متشرعا ف يكل مايأتى ويذر وكان من يستعين به من الأرواح الخيِّرة وكانت عزائمُه ورُقاه غيرَ مخالفةٍ لأحكام الشريعة الشريفةِ ولم يكن فيما ظهَرَ في يده من الخوارق ضررٌ شرعيٌّ لأحد فليس ذلك من قبيل السحر وإن كان شرِّيراً غيرَ متمسِّكٍ بالشريعة الشريفة فظاهرٌ أن من يستعين به من الأرواحِ الخبيثةِ الشريرة لا محالة ضرورةَ امتناعِ تحقق التضام والتعاون بينهما من غير اشتراك في الخبث والشرارة فيكون كافراً قطعاً وأما الشعوذةُ وما يجري مجراها من إظهار الأمور العجيبةِ بواسطة ترتيبِ الآلات الهندسيةِ وخفة اليدو الاستعانة بخواصِّ الأدوية والأحجارِ فإطلاقُ السحر عليها بطريق التجوزِ أو لِما فيها

(1/137)


من الدقة لأنه في الأصل عبارةٌ عن كل ما لَطُف مأخذُه وخفيَ سببُه أو من الصرْف عن الجهة المعتادة لما أنه في أصل اللغة الصرفُ على ما حكاه الأزهري عن الفراء ويونس
{وما أنزل على الملكين} عطفٌ على السحر أي ويعلمونهم ما أنزل عليهما والمرادُ بهما واحدٌ والعطفُ لتغايرِ الاعتبارِ أو هو نوعٌ أقوى منه أو على ما تتلو وما بينهما اعتراضٌ أيْ واتَّبعوا ما أنزل الخ وهما ملكانِ أنزلا لتعليم السحر ابتلاءً من الله للناس كما ابتليَ قومُ طالوتَ بالنهر أو تمييزاً بينه وبين المعجزة لئلا يغترَّ به الناسُ أو لأن السحرَة كثُرتْ في ذلك الزمان واستنبطتْ أبواباً غريبةً من السحر وكانوا يدّعون النبوةَ فبعث الله تعالى هذين الملكينِ ليعلّما الناسَ أبوابَ السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الكذابين وإظهارِ أمرِهم على الناس وأما ما يُحكى من أن الملائكةِ عليهم السلام لما رأَوْا ما يصعَد من ذنوب بني آدمَ عيّروهم وقالوا لله سبحانه هؤلاء الذين اخترتَهم لخلافة الأرضِ يعصونك فيها فقال عز وجل لو ركّبتُ فيكم ما ركبتُ فيهم لعصيتموني قالوا سبحانك ما ينبغي لنا أن نعصيَك قال تعالى فاختاروا من خياركم ملكين فاختاروا هاروتَ وماروتَ وكانا من أصلحهم وأعبدِهم فأُهبطا إلى الأرض بعد ما ركب فيهما ما ركب في البشر من الشهوة وغيرها من القوى ليقضيا بين الناس نهاراً ويعرُجا إلى السماء مساءً وقد نُهيا عن الإشراك والقتل بغير الحق وشرب الخمر والزنا وكانا يقضيان بينهم نهاراً فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم فصَعِدا إلى السماء فاختصمت إليهما ذاتَ يوم امرأةٌ من أجمل النساءِ تسمّى زهرةَ وكانت من لَخْم وقيل كانت من أهل فارسَ ملكةً في بلدها وكانت خصومتها مع زوجها فلما رأياها افتُتنا بها فراوداها عن نفسها فأبت فألحا عليها فقالت لا إلا أن تقضيا لي على خصمي ففعلا ثم سألاها ما سألا فقالت لا إلا أن تقتُلاه ففعلا ثم سألاها ما سألا فقالت لا إلا أن تشربا الخمرَ وتسجدا للصَّنم ففعلا كلاً من ذلك بعد اللتيا والتي ثم سألاها ما سألا فقالت لا إلا أن تعلماني ما تصعَدانِ به إلى السماء فعلماها الاسمَ الأعظم فدعَتْ به وصعِدَتْ إلى السماء فمسخها الله سبحانه كوكباً فهمّا بالعروج حسب عادتهما فلم تطِعْهما أجنحتُهما فعلما ما حل بهما وكان في عهد إدريس عليه السلام فالتجآ إليه ليشفَعَ لهما ففعل فخيّرهما الله تعالى بين عذابَ الدنيا وعذابَ الآخرة فاختارا الأول لانقطاعه عما قليل فهما معذبان ببابلَ قيل معلقان بشعورهما وقيل منكوسان يُضربان بسياطِ الحديد إلى قيام الساعة فمما لا تعويلَ عليه لما أن مدارَه روايةُ اليهود مع ما فيه من المخالفة لأدلة العقل والنقلِ ولعله من مقولة الأمثال والرموز التي قصد بها إرشادُ اللبيب الأريبِ بالترغيب والترهيب وقيل هما رجلان سُمِّيا ملكين لصلاحهما ويعضُده قراءة الملِكين بالكسر
{بِبَابِلَ} الباء بمعنى في وهي متعلقة بأنزل أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الملكين أو من الضميرِ في أنزل وهي بابلُ العراق وقالَ ابنُ مسعودٍ رضيَ الله عنه بَابِلُ أرضُ الكوفة وقيل جبلُ دماوند ومَنعَ الصرفَ للعجمة والعَلَمية أو للتأنيث والعلمية
{هاروت وماروت} عطفُ بيان للملكين علمان لهما ومُنِعَ صرفهما للعجمية والعلمية ولو كانا من الهرْت والمرْت بمعنى الكسر لانصرفا وأما من قرأ الملِكين بكسر اللام أو قال كانا رجلين صالحين فقال هما اسمان لهما وقيل هما اسما قبيلتين من الجن هما المرادُ من الملكين بالكسر وقرئ بالرفع على هما هاروت وماروت
{وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} مِنْ مزيدة في المفعول به لإفادة تأكيد الاستغراقِ الذي يفيده أحدٍ لا لإفادة نفس الاستغراق كما في قولك

(1/138)


ما جاءني من رجل وقرئ يُعْلِمانِ من الإعلام
{حتى يقولا إنما نحن فتنة} الفتنةُ الاختبارُ والامتحانُ وإفرادُها مع تعددهما لكونهما مصدراً وحملُها عليهما مواطأةٌ للمبالغة كأنهما نفسُ الفتنة والقصرُ لبيان أنه ليس لهما فيما يتعاطيَانِه شأنٌ سواها لينصرِفَ الناسُ عن تعلّمه أي وما يُعلّمان ما أنزل عليهما من السحر أحداً من طالبيه حتى ينصَحاه قبل التعليم ويقولا له إنما نحن فتنةٌ وابتلاء من الله عز وجل فمن عمِل بما تعلم منا واعتقد حقّيته كفَر ومن تَوقَّى عن العمل به أو اتخذه ذريعةً للاتقاءِ عن الاغترار بمثله بقيَ على الإيمان
6 - {فَلاَ تَكْفُرْ} باعتقاد حقّيتهِ وجوازِ العمل به والظاهرُ أن غاية النفي ليست هذه المقالةَ فقط بل من جملتها التزامُ المخاطب بموجب النهي لكن لم يُذكَرْ لظهُوره وكونِ الكلامِ في بيان اعتناءِ الملكين بشأن النُصح والإرشاد والجملةُ في محل النصب على الحالية من ضمير يعلمون لا معطوفةٌ عليه كما قيل أي ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناسَ السحرَ وما أنزل على الملكين ويحمِلونهم على العمل به إغواءً وإضلالاً والحال أنهما ما يعلمان أحداً حتى ينهيَاهُ عن العمل به والكفرِ بسببه وأما ما قيل من أن ما في قوله تعالى وما أنزل الخ نافيةٌ والجملةُ معطوفةٌ على قولِه تعالى وَمَا كفر سليمان جئ بها لتكذيب اليهودِ في القصة أي لم يُنزَّل على الملكين إباحةُ السحر وأن هاروتَ وماروتَ بدلٌ من الشياطين على أنهما قبيلتان من الجن خُصتا بالذكر لأصالتهما وكونِ باقي الشياطينِ أتباعاً لهما وأن المعنى ما يعلّمان أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفرْ فتكونَ مثلَنا فيأباه أن مقام وصف الشيطان بالكفر وإضلال الناس مما لا يلائمه وصفُ رؤسائهم بما ذكر من النهي عن الكفر مع ما فيه من الإخلال بنظام الكلامِ فإن الإبدالَ في حُكم تنحيةِ المبدَل منه
{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} عطفٌ على الجملةِ المنفيَّةِ فإنها في قوة المثبتة كأنه قيل يعلمانهم بعد قولِهما إنما نحن الخ والضميرُ لأحدٍ حَمْلاً على المَعْنى كَما في قوله تعالى فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين
{مَا يُفَرّقُونَ بِهِ} أي بسببه وباستعماله
{بَيْنَ المرء} وقرئ بضم الميم وكسرِها مع الهمزة وتشديد الراء بلا همزة
{وَزَوْجِهِ} بأن يُحدث الله تعالى بينهما التباغضَ والفرك والنشوز عند ما فعلُوا ما فعلُوا من السحر على حسب جري العادةِ الإلهية من خلق المسببيات عقيب حصول الأسباب العاديةِ ابتلاءً لا أن السحرَ هو المؤثرُ في ذلك وقيل فيتعلمون منهما ما يعملون به فيراه الناسُ ويعتقدون أنه حق فيكفرون فتَبينُ أزواجهم
{وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ} أي بما تعلّموه واستعملوه من السحر
{مّنْ أَحَدٍ} أي أحداً ومن مزيدة لما ذُكر في قوله تعالى وَمَا يعلمان من احد والمعهود وإن كان زيادتها في معمول فعلٍ منفي إلا أنه حُملت الاسميةُ في ذلك على الفعلية كأنه قيل وما يضرون به من أحد
{إِلاَّ بِإِذْنِ الله} لأنه وغيرَه من الأسباب بمعزل من التأثير بالذات وإنما هو بأمره تعالى فقد يُحدِث عند استعمالهم السحرَ فعلاً من أفعاله ابتلاءً وقد لا يُحدِثه والاستثناءُ مفرَّغٌ والباءُ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ضمير ضارِّين أو من مفعوله وإن كان نكرةً لاعتمادها على النفي أو الضمير المجرورِ في به أي وما يُضرون به أحداً إلا مقروناً بإذن الله تعالى وقرئ بضارِّي على الإضافة بجعل الجارِّ جزءاً من المجرور وفصلِ ما بين المُضافين بالظرف
{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ} لأنهم يقصِدون به العمل أو لأن العلم يجرُّ إلى العَمل غالباً
{وَلاَ يَنفَعُهُمْ} صرح بذلك إيذاناً بأنه ليس من الأمور المشوبة بالنفع والضرر بل هو شرٌّ بحتٌ وضررٌ محضٌ لأنهم لا يقصدون به التخلّصَ عن الاغترار بأكاذيبِ من يدّعي النبوةَ

(1/139)


البقرة (103)
مثلاً من السَحَرة أو تخليصَ الناس منه حتى يكون فيه نفعٌ في الجملة وفيه أن الاجتنابَ عما لا يؤمن غوائلُه خيرٌ كتعلم الفلسفةِ التي لا يؤمن أن تجُرَّ إلى الغواية وإن قال من قال ... عرفتُ الشرَّ لا للشر ... رولكن لتوقِّيه ... ومن لا يعرِفِ الشرَّ ... من الناس يقَعْ فيهِ ...

{وَلَقَدْ عَلِمُواْ} أي اليهود الذين حُكِيت جناياتُهم
{لَمَنِ اشتراه} أي استبدلَ ما تتلوا الشياطين بكتاب الله عز وجل واللامُ الأولى جوابُ قسمٍ محذوفٍ والثانيةُ لامُ ابتداءٍ عُلِّقَ به علِموا عن العمل ومَنْ موصولة في حيز الرفعِ بالابتداء واشتراه صلتها وَقولُه تعالَى
{مَا لَهُ فِى الأخرة مِن خلاق} أي من نصيبٍ جملةٌ من مبتدإٍ وخبر ومِنْ مزيدة في المبتدأ وفي الآخرة متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً منه ولو أُخِّرَ عنه لكان صفةً له والتقدير ماله خلاقٌ في الآخرة وهذه الجملةُ في محلِّ الرفعِ على أنها خبرٌ للموصول والجملةُ في حيز النصبِ سادَّةٌ مسَدَّ مفعولَيْ علموا إن جعل متعديا إلى اثنين أو مفعولِه الواحدِ إن جعل متعديا إلى واحد فجملة ولقد علموا الخ مُقْسَمٌ عليها دون جملة لمن اشتراه الخ هذا ما عليه الجمهورُ وهو مذهب سيبويه وقال الفرّاءُ وتبعه أبو البقاء إن اللامَ الأخيرة موطئةٌ للقسم ومَنْ شرطية مرفوعةٌ بالابتداء واشتراه خبرُها وماله فى الاخرة من خلاق جوابُ القسم وجوابُ الشرطِ محذوفٌ اكتفاءً عنه بجواب القسم لأنه إذا اجتمع الشرطُ والقسمُ يُجاب سابقُهما غالباً فحينئذ يكون الجملتان مُقْسماً عليهما
{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ} أي باعوها واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي وبالله لبئسما باعوا به أنفسَهم السحرُ أو الكفرُ وفيه إيذانٌ بأنهم حيث نبذوا كتابَ الله وراء ظهورِهم فقد عرَّضوا أنفسهم للهَلكة وباعوها بما لا يزيدهم إلا تَباراً وتجويزُ كونِ الشراء بمعنى الاشتراء مما لا سبيلَ إليه لأن المشترى متعين وهو ما تتلوا الشياطين ولأن متعلَّق الذمِّ هو المأخوذُ لا المنبوذُ كما أشير إليه في تفسيره قوله سبحانه بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ الله
{لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي يعملون بعلمهم جُعلوا غيرَ عالمين لعدم عملِهم بموجب علمِهم أوْ لو كانوا يتفكرون فيه أو يعلمون قبحَه على اليقين أو حقيقةَ ما يتْبعُه من العذاب عليه على أن المُثبَتَ لهم أو لا على التوكيد القسميِّ العقلُ الغريزيُّ أو العلمُ الإجماليُّ بقبح الفعل أو ترتبِ العقاب من غير تحقيق وجوابُ لو محذوفٌ أي لما فعلوا ما فعلوا

(1/140)


وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)

{ولو أنهم آمنوا} أي بالرسول المومى إليه في قوله تعالى وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ الله الخ أو بما أنزل إليه من الآيات المذكورةُ في قولِه تعالى وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيات بينات وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفاسقون أو بالتوراةِ التي أريدتْ بقولِه تعالى نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كتاب الله وَرَاء ظُهُورِهِمْ فإن الكفر بالقرآن والرسول عليه السلام كفرٌ بها
{واتقوا} المعاصيَ المحكيةَ عنهم
{لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ الله خَيْرٌ} جواب لو وأصله لأيثبوا مَثوبةً من عند الله خيراً مما شرَوْا به أنفسَهم فحُذفَ الفعلُ وغُيِّر السبكُ إلى مَا عليهِ النظمُ الكريمُ دلالةً على ثبات المثوبةِ لهم والجزمِ بخيريّتها وحُذف المفضَّلُ عليه إجلا لا للمفضَّل من أن يُنسبَ إليه وتنكيرُ المثوبة للتقليل ومن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً تشريفيةً لِمثوبةٌ أي لشئ ما من المثوبة كائنة من عنده تعالى خير وقيل جواب لو محذوفٌ أي لأثيبوا وما بعده جملة مستأنفة فإن وقوعَ

(1/140)


البقرة (105 - 104
الجملة الابتدائة جوابا للوغير معهود في كلام العرب وقيل لو للتمني ومعناه أنهم من فظاعة الحال بحيث يتمنى العارفُ إيمانَهم واتقاءهم تلهفا عليهم وقرئ لمثوبة وإنما سمي الجزاء ثواباً ومثوبةً لأن المحسن يثوب إليه
{لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أن ثواب الله خيرٌ نُسبوا إلى الجهل لعدم العملِ بموجب العلم

(1/141)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} خطابٌ للمؤمنينً فيه إرشادٌ لهم إلى الخير وإشارةٌ إلى بعض آخر من جنايات اليهود
{لاَ تَقُولُواْ راعنا} المراعاةُ المبالغةُ في الرعى وهو حِفظُ الغير وتدبيرُ أموره وتدارُكُ مصالحِه وكان المسلمون إذا ألقى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من العلم يقولون راعنا يارسول الله أي راقبْنا وانتظِرْنا وتأنَّ بنا حتى نفهمَ كلامَك ونحفظَه وكانت لليهود كلمة عبرانية أو سريانية يتسابُّون بها فيما بينهم وهي راعينا قيل معناها اسمعْ لا سمِعْت فلما سمعوا بقول المؤمنين ذلك افترضوه واتخذوه ذريعةً إلى مقصِدهم فجعلوا يخاطبون به النبيَّ صلَّى الله عليهِ وسلم يعنون به تلك المسبةَ أو نسبته صلى الله عليه وسلم إلى الرَعَن وهو الحمَقُ والهوَج روي أن سعد بن عبادة رضي الله عنه سمعها منهم فقال يا أعداءَ الله عليكم لعنةُ الله والذي نفسي بيدهِ لئن سمعتُها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه قالوا أو لستم تقولونها فنزلت الآية ونُهيَ فيها المؤمنون عن ذلك قطعاً لألسنة اليهود عن التدليس وأُمروا بما في معناها ولا يقبل التلبيس فقيل
{وَقُولُواْ انظرنا} أي انظر إلينا بالحذف والإيصال أو انتظرنا على أنه من نظرة إذا انتظره وقرئ أنظرنا من النظرة أي أمهلنا حتى نحفظ وقرئ راعونا على صيغة الجمع للتوقير وراعنا على صيغةِ الفاعلِ أي قولا ذا رَعَنٍ كدارعٍ ولابنٍ لأنه لما أشبه قولَهم راعينا وكان سببا للسبب بالرَعَن اتَّصفَ به
{واسمعوا} وأحسنوا سماع ما يكلمكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلقى عليكم من لمسائل بآذان واعية وأذهانٍ حاضرةٍ حتى لاتحتاجوا إلى الاستعاذة وطلبِ المراعاة أو واسمعوا ما كُلفتموه من النهي والأمر بجدَ واعتناء حتى لا ترجِعوا إلى ما نهيتم عنه أو واسمعوا سماعَ طاعةٍ وقَبول ولا يكن سماعُكم مثل سماعِ اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا
{وللكافرين} أي اليهود الذين توسلوا بقولكم المذكور إلى كفرياتهم وجعلوه سبباً للتهاون برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وقالوا له ما قالوا
{عَذَابٌ أَلِيمٌ} لما اجترءوا عليه من العظيمة وهو تذييلٌ لما سبق فيه وعيدٌ شديد لهم ونوعُ تحذير للنخاطبين عما نُهُوا عنه

(1/141)


مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

{مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} الود حب الشئ مع تمنيه ولذلك يستعمل في كلَ منهما ونفيُه كنايةٌ عن الكراهة ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ للإشعار بعلية مَا في حيزِ الصلةِ لعدم وُدِّهم ولعل تعلقَه بما قبله من حيث إن القولَ المنهيَّ عنه كثيراً ما كان يقع عند تنزيل الوحْي المعبَّرِ عنه في هذه الآية بالخير فكأنه أُشير إلى أن سببَ تحريفِهم له إلى ما حُكي عنهم لوقوعه في أثناء حصولِ ما يكرهونه من تنزيلِ الخير وقيل كان فريق من اليهود يُظهرون للمؤمنين محبةً ويزعُمون أنهم يَودُّون لهم الخير فنزلت تكذيباً لهم في ذلك ومن في

(1/141)


البقرة (106)
قوله تعالى
{مِنْ أَهْلِ الكتابِ وَلاَ المشركين} للتبيين كما في قوله عز وعلا {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} ولا مزيدةٌ لما ستعرفه
{أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم} في حيز النصبِ على أنه مفعول يود وبناءُ الفعل للمفعول للثقة بتعيُّن الفاعل والتصريحُ الآتي في قوله تعالى
{مّنْ خَيْرٍ} هو القائمُ مقامَ فاعلِه ومن مزيدة للاستغراق والنفيُ وإن لم يباشرْه ظاهراً لكنه منسحبٌ عليه معنىً والخيرُ الوحيُ وحملُه على ما يعمُّه وغيرَهُ من العلم والنُّصرة كما قيل يأباه وصفُه فيما سيأتي بالاختصاص وتقديم الظرف عليه مع أنَّ حقَّهُ التأخيرُ عنه لإظهار كمال العنايةِ به لأنه المدارُ لعدم ودِّهم ومِنْ في قولِه تعالَى
{مّن رَّبّكُمْ} ابتدائية والتعرُّضُ لعنوان الربوبية للإشعار بعليته لتنزيل الخيرِ والإضافة إلى ضمير المخاطبين لتشريفهم وليست كراهتُهم لتنزيله على المخاطبين من حيث تعبُّدُهم بما قبله وتعرضهم بذلك لسعادة الدارين كيف لا وهم من تلك الحيثية من جملة مَنْ نزَلَ عليهم الخيرُ بل من حيث وقوعُ ذلك التنزيل على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وصيغةُ الجمعِ للإيذان بأن مدارَ كراهتهم ليس معنى خاصا بالنبى صلى الله عليه وسلم بل وصفٌ مشترك بين الكل وهو الخلوُّ عن الدراسة عند اليهود وعن الرياسة عند المشركين والمعنى أنهم يرَوْن أنفسَهم أحقَّ بأن يوحى إليهم ويكرهون فيحسُدونكم أن ينْزِل عليكم شئ من الوحي أما اليهودُ فبناءً على أنهم أهلُ الكتاب وأبناءُ الأنبياءِ الناشئون في مهابط الوحي وأنتم أُميِّوّن وأما المشركون فإدلالاً بما كان لهم من الجاه والمال زعماً منهم أن رياسةَ الرسالةِ كسائر الرياساتِ الدنيويةِ منوطةٌ بالأسباب الظاهرة ولذلك قالُوا {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآنُ على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} ولما كانت اليهودُ بهذا الداء أشهر لاسيما في أثناء ذكرِ ابتلائِهم به لم يلزَمْ من نفي ودادتِهم لما ذكِرَ نفيُ ودادةِ المشركين له فزيدت كلمةُ لا لتأكيد النفي
{والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} جملة ابتدائية سيقت لتقرير ما سبق من تنزيل الخيرِ والتنبيه على حكمتِه وإرغامِ الكارهين له والمرادُ برحمته الوحيُ كما في قوله سبحانه {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ} عبّر عنه باعتبار نزولِه على المؤمنين بالخير وباعتبار إضافتِه إليه تعالى بالرحمة قال علي رضي الله عنه بنبوته خَصَّ بها محمداً صلى الله عليه وسلم فالفعل متعد وصيغته الافتعال للإنباء عن الاصطفاء وإيثارُه على التنزيل المناسبِ للسياق الموافقِ لقوله تعالى {أَن يُنَزّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَاء} لزيادة تشريفه صلى الله عليه وسلم وإقناطِهم ممَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ والباءُ داخلةٌ على المقصود أي يؤتي رحمته
{مَن يَشَآء} من عباده ويجعلها مقصورةً عليه لاستحقاقه الذاتي الفائضِ عليه بحسب إرادتِه عز وعلا تفضّلاً لا تتعداه إلى غيره وقيل الفعلُ لازمٌ ومَنْ فاعله والضميرُ العائد إلى مَنْ محذوفٌ على التقديرين وقولُه تعالى
{والله ذُو الفضل العظيم} تذييلٌ لما سبق مقررٌ لمضمونه وفيه إيذان بأن إيتاءَ النبوةِ من فضله العظيم كقوله تعالى {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} وأن حِرمان من حُرم ذلك ليس لضيق ساحةِ فضلِه بل لمشيئته الجاريةِ على سَننِ الحِكْمةِ البالغةِ وتصديرُ الجملتين بالاسم الجليل للإيذان بفخامة مضمونَيْهما وكونِ كلَ منهما مستقلةً بشأنها فإن الإضمارَ في الثانية منبئ عن توقُّفِها على الأولى

(1/142)


مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)

{ما ننسخ من آية أَوْ نُنسِهَا} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيانِ سرِّ النسخِ الذي هو فردٌ من أفراد تنزيلِ الوحي وإبطالِ مقالةِ الطاعنين فيه إثْرَ تحقيق

(1/142)


البقرة (107)
حقيقةِ الوحي وردِّ كلامِ الكارهين له رأساً قيل نزلت حين قال المشركون أو اليهود ألا ترون إلى محمد يأمُر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمُر بخلافه والنسخُ في اللغة الإزالةُ والنقلُ يقال نسخَت الريحُ الأثرَ أي أزالته ونسخْتُ الكتابَ أي نقلتُه ونسخُ الآيةِ بيانُ انتهاءِ التعبّدِ بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أوبهما جميعاً وإنساؤُها إذهابُها من القلوب وما شرطيةٌ جازمة لننسَخْ منتصبةٌ به على المفعولية وقرئ نُنْسِخْ من أنسخ أي نأمرك أو جبريل بنسخها أو نجدها منسوخة ونَنْسأْها من النَّسء أي نؤخّرْها ونُنَسِّها بالتشديد وتَنْسَها وتُنْسِها على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم مبنيا للفاعل وللمفعول وقرئ ما ننسخ من آية أو ننسكها وقرئ ما نُنْسِكَ من آية أو نَنْسَخها والمعنى أن كل آيةٍ نذهب بها على ماتقتضيه الحكمةُ والمصلحة من إزالة لفظِها أو حكمِها أو كليهما معاً إلى بدل أو إلى غير بدل
{نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا} أي نوع آخرَ هو خيرٌ للعباد يحسب الحال في النفع والثوابِ من الذاهبة وقرئ بقلب الهمزة ألفاً
{أَوْ مِثْلِهَا} أي فيما ذكر من النفع والثواب وهذا الحكمُ غيرُ مختصَ بنسخ الآية التامة فما فوقها بل جار في مادونها أيضاً وتخصيصُها بالذكر باعتبار الغالب والنصُّ كما ترى دالٌّ على جواز النسخ كيف لا وتنزيلُ الآيات التي عليها يدورُ فلكُ الأحكام الشرعية إنما هو بحسب ما يقتضيه من الحِكَم والمصالح وذلك يختلف باختلاف الأحوال ويتبدّل حسب تبدل الأشخاص والأعصار كأحوال المعاش فرب حكمٍ تقتضيه الحكمةُ في حال تقتضي في حالٍ أخرى نقيضَه فلو لم يُجزِ النسخُ لاختل ما بين الحِكمة والأحكام من النظام
{أَلَمْ تَعْلَمْ} الهمزة للتقرير كما في قوله سبحانه {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} وقوله تعالى {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} والخطابُ للنبيِّ عليه الصَّلاة والسلام وقوله تعالى
{إن الله على كل شَىْء قَدِيرٌ} سادٌّ مسَدَّ مفعوليْ تعلم عند الجمهور ومسد مفعوله الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش والمرادُ بهذا التقرير الاستشهادُ بعلمه بما ذكر على قدرتِهِ تعالَى على النسخ وعلى الإيتان بما هو خيرٌ من المنسوخ وبما هو مثله لأن ذلك من جملة الأشياء المقهورةِ تحت قدرته سبحانه فمِنْ علم شمولِ قدرتِه تعالى لجميعِ الأشياء علمُ قدرته على ذلك قطعاً والالتفاتُ بوضع الاسمِ الجليلِ موضعَ الضَّميرِ لتربية المهابة والإشعار بمناط الحكم فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من الأحكام الألوهية وكذا الحالُ في قولِه عز سلطانه

(1/143)


أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)

{ألم تعلمَ إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والارض} فإن عنوان الألوهية مدار أحكام ملكوتهما والجار والمجرور خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأٌ والجملةُ خبرٌ لإن إيثاره على أنْ يقالَ إنِ للَّهِ مُلْكُ السموات والأرض للقصد إلى تقوّي الحُكم بتكرر الإسناد وهو إما تكريرٌ للتقرير وإعادةٌ للاستشهادِ على ما ذُكر وإنما لم يعطَفْ أن مع ما في حيزها على ما سبق من مثلها روما لزيادة التأكيد وإشعاراً باستقلال العلم بكلَ منهما وكفايتِه في الوقوف على ما هو المقصودُ وإما تقريرٌ مستقل للاستشهاد على قدرتِهِ تعالَى على جميع الأشياء أي ألم تعلمَ أَنَّ الله له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما إيجاداً وإعداماً وأمراً ونهياً حسبما تقتضيهِ مشيئتُه لا مُعارِضَ لأمره ولا معقِّبَ لحُكمه فَمْن هذا شأنُه كيف يخرُج عن قدرته شئ من الأشياء وقولُه تعالَى
{وَمَا لَكُم من دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نصير}

(1/143)


معطوف على الجملة الواقعةِ خبراً لأن داخل معها تحت تعلقِ العلم المقرِّرِ وفيه إشارة إلى تناول الخطابين السابقين للأمة أيضاً وإنما إفرادُه عليه السلام بهما لما أن علومَهم مستنِدةٌ إلى علمه عليه السلام ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضِعَ الضمير الراجعِ إلى اسم أن لتربية المهابة والإيذانِ بمقارنة الولاية والنصرةِ للقوة والعزة والمرادُ به الاستشهادُ بما تعلق به من العلم على تعلُّق إرادتِه تعالى بما ذُكر من الإتيان بما هو خيرٌ من المنسوخ أو بمثله فإن مجرَّد قدرته تعالى على ذلك لا يستدعي حصولَه اْلبتة وإنما الذي يستدعيه كونُه تعالى مع ذلك ولياً ونصيراً لهم فمن علم أنه تعالى وليُّه ونصيرُه على الاستقلال يعلم قطعاً أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له فيفوِّضُ أمرَه إليه تعالى ولا يخطُر بباله ريبةٌ في أمر النسخ وغيرِه أصلاً والفرق بين الوليِّ والنصيرِ أن الوليَّ قد يضعُفُ عن النُصرة والنصيرُ قد يكون أجنبياً من المنصور وما إما تميمية لاعمل لها ولكم خبرٌ مقدم ومن وليَ مبتدأ مؤخر زيدت فيه كلمة من للاستغراق وإما حجازية ولكم خبرها المنصوب عند من يُجيزُ تقديمَه واسمُها من ولي ومن مزيدة لما ذكر ومن دون الله في حيز النصبِ على الحالية من اسمها لأنَّه في الأصلِ صفةٌ له فلما قدم انتصب حالا ومعناه سوى الله والمعنى أن قضية العلم بما ذكرَ من الأمورِ الثلاثة هو الجزمُ والإيقانُ بأنه تعالى لا يفعل بهم في أمر من أمور دينهم أو دنياهم إلا ما هو خيرٌ لهم والعملُ بموجبه من الثقة به والتوكلِ عليه وتفويضِ الأمر إليه من غير إصغاءٍ إلى أقاويل الكفرةِ وتشكيكاتهم التي من جملتها ماقالوا في أمر النسخ وقوله تعالى

(1/144)


أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)

{أَمْ تُرِيدُونَ} تجريدٌ للخطاب عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم وتخصيصٌ له بالمؤمنين وأمْ منقطعةً ومعنى بل فيها الإضرابُ والانتقال من حملهم على العمل بموجب علمهم بما ذكر عند ظهور بعض مخابل المساهلةِ منهم في ذلك وأمارات التأثر من أقاويل الكفرة إلى التحذير من ذلك ومعنى الهمزةِ إنكارُ وقوعِ الإرادة منهم واستبعادُه لما أن قضية الإيمان وازعةٌ عنها وتوجيهُ الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها للمبالغة في إنكاره واستبعادِه ببيان انه مما لايصدر عن العاقل إرادتُه فضلاً عن صدور نفسِه والمعنى بل أتريدون
{أن تسألوا} وأنتم مؤمنون
{رَسُولَكُمُ} وهو في تلك الرتبة من علو الشأن وتقترحوا عليه ماتشتهون غيرَ واثقين في أموركم بفضل الله تعالى حسبما يوجبه قضية علمكم بشئونه سبحانه قيل لعلهم كانوا يطلبون منه عليه الصلاة والسلام بيانَ تفاصيلِ الحكم الداعية إلى النسخ وقيل سأله عليه السلام قومٌ من المسلمين أن يجعل لهم ذاتَ أنواط كما كانت للمشركين وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلّقون عليها المأكول والمشروب وقوله تعالى
{كَمَا سُئِلَ موسى} مصدرٌ تشبيهيٌّ أي نعتٌ لمصدرٍ مؤكدٍ محذوف وما مصدرية أي سؤال مُشْبَهاً بسؤال موسى عليه السلام حيث قيل له اجعلْ لنا إلها وأرِنا الله جهرةً وغيرَ ذلك ومقتضى الظاهرِ أن يقال كما سألوا موسى لأن المشبَّه هو المصدرُ من المبنى للفاعل أعنى سائلية المخاطبين لا من المبني للمفعول أعنى مسئولية

(1/144)


البقرة (109)
الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يشبه بمسئولية موسى عليه السلام فلعله أريد التشبيهُ فيهما معاً ولكنه أوجز النظم فذكر في جانب المشبه السائليةَ وفي جانب المشبَّه به المسئولية واكتُفي بما ذكر في كل موضع عما تُرك في الموضع الآخر كَما ذُكر في قولِهِ تعالَى {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} وقد جُوِّز أن تكون ما موصولةً على أن العائد محذوفٌ أي كالسؤال الذي سُئِله موسى عليه السلام وقوله تعالى
{من قبل} متعلِّقٌ بسُئِل جيءَ به للتأكيد وقرئ سِيل بالياء وكسر السين وبتسهيل الهمزة بين بين
{وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر} أي يختر ويأخذْه لنفسه
{بالإيمان} بمقابَلتِه بدلا منه وقرئ ومن يُبْدلْ من أَبدل وكان مقتضى الظاهرِ أن يقال وَمَن يفعلْ ذلك أي السؤالَ المذكورَ أو إرادتَه وحاصلُه ومن يترُكِ الثقةَ بالآيات البينةِ المنْزلةِ بحسب المصالحِ التي منْ جُملتها الآياتُ الناسخةُ التي هي خيرٌ محضٌ وحقٌّ بحتٌ واقترح غيرَها
{فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل} أي عدَلَ وجارَ من حيث لا يدري عن الطريق المستقيم الموصِل إلى معالم الحق والهدى وتاه في تيه الهوى وتردى في مهاوي الردى وإنما أوُثر على ذلك مَا عليهِ النظمُ الكريمُ للتصريح من أول الأمرِ بأنه كفرٌ وارتدادٌ وأن كونَه كذلك أمرٌ واضحٌ غنيٌ عن الإخبارية بأن يقال ومن يفعلْ ذلك يكفُرْ حقيقٌ بأن يُعدَّ من المسلّمات ويُجعلَ مقدَّماً للشرْطية رَوْماً للمبالغة في الزجر والإفراط في الردع وسواء السبيل من باب إضافةِ الوصفِ إلى الموصوف لقصد المبالغة في بيان قوة الاتصافِ كأنه نفسُ السواءِ على منهاج حصولِ الصورة في الصورة الحاصلة وقيل الخطابُ لليهود حين سألوا أن يُنزِّل الله عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء وقيل للمشركين حين قالوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارض يَنْبُوعًا الخ فإضافة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم على القولين باعتبار أنهم من أمة الدعوةِ ومعنى تبدّلِ الكفر بالإيمان وهم بمعزل من الإيمان تركُ صَرْفِ قدرتِهم إليه مع تمكنِّهم من ذلك وإيثارُهم للكفر عليه

(1/145)


وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)

{وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب} هم رهطٌ من أحبار اليهود رُوي أن فِنحاصَ بنَ عازوراءَ وزيدَ بنَ قيسٍ ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمارِ بن ياسر رضي الله عنهما بعد وقعة أحُد ألم ترَوْا ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هُزمتم فارجِعوا إلى ديننا فهو خيرٌ لكم وأفضلُ ونحن أهدى منكم سبيلاً فقال عمارٌ كيف نقضُ العهد فيكم قالوا شديد قال فإني عاهدتُ أن لا أكفر بمحمَّدٍ عليهِ الصَّلاة والسَّلام ما عشتُ فقالت اليهود أما هذا فقد صَبَأ وقال حذيفةُ أما أنا فقد رضِيتُ بالله رباً وبمحمد نبياً وبالإسلامِ ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قِبلةً وبالمؤمنين إخواناً ثم أتَيَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال أصبتما خيراً وأفلحتما فنزلت
{لَوْ يَرُدُّونَكُم} حكاية لو دادتهم ولوُ في مَعْنَى التمنِّي وصيغةُ الغَيْبة كما في قوله حلف ليَفعلَن وقيلَ هي بمنزلةِ أَن الناصبةِ فلا يكونُ لها جوابٌ وينْسبكُ منها ومما بعدها مصدرٌ يقع مفعولا لودّوا التقدير ودُّوا ردَّكم وقيل هي على حقيقتها وجوابُها محذوف تقديره لويردونكم كفاراً لسُرُّوا بذلك
و {من بعد إيمانكم}

(1/145)


البقرة (111 - 110)
متعلق بيردّونكم وقوله تعالى
{كَفَّاراً} مفعول ثانٍ له على تضمين الرد معنى التصيير أي يصيِّرونكم كفاراً كما في قوله
رَمَى الحِدْثانُ نِسْوةَ آلِ سَعْد
بمقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُوداً ... فردَّ شعورَهُنَّ السودَ بيضا
ورد وجوهَهن البيضَ سودا

وقيلَ هُو حالٌ من مفعوله والأول أدخلُ لما فيهِ منَ الدلالةِ صريحاً على كون الكفر المفروضِ بطريق القسر وإيراد الظرف مع عدم الحاجة إليه ضرورةَ كونِ المخاطبين مؤمنين واستحالةِ تحققِ الردِّ إلى الكفر بدون سبق الإيمان مع توسيطه بين المفعولين لإظهارِ كمالِ شناعةِ ما أرادوه وغايةِ بُعدِه من الوقوع إما لزيادة قبحه الصارفِ للعاقل عن مباشرته وإما لممانعة الإيمانِ له كأنه قيل من بعد إيمانكم الراسخ وفيه من تثبيت المؤمنين مالا يخفى
{حَسَدًا} علةٌ لودّ أو حال أريد به نعتُ الجمع أي حاسدين لكم والحسَدُ الأسفُ على من له خيرٌ بخيره
{مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} متعلق بود أي ودوا ذلك من أجل تشهّيهم وحظوظِ أنفسِهم لا من قِبَل التدين والميل مع الحق ولو على زعمهم أو بحسد أي حسداً منبعثاً من أصل نفوسهم بالغاً أقصى مراتبه
{مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق} بالمعجزات الساطعةِ وبما عاينوا في التوراة من الدلائل وعلموا أنكم متمسّكون به وهم منهمكون في الباطل
{فاعفوا واصفحوا} العفوُ تركُ المؤاخذة والعقوبةِ والصفحُ تركُ التثريب والتأنيب
{حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} الذي هو قتلُ بني قريظة وإجلاء بني النضير واذ لا لهم بضرب الجزية عليهم أو الإذنُ في القتال وعن ابن عباس رضي الله عنهما إنه منسوخٌ بآية السيف ولا يقدحُ في ذلك ضرب الغاية لأنها لا تُعْلم إلا شرعاً ولا يخرُجُ الواردُ بذلك من أن يكون ناسخاً كأنه قيل فاعفوا واصفحوا إلى ورورد الناسخ
{إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ} فينتقمُ منهم إذا حان حينُه وآن أوانُه فهو تعليلٌ لما دلَّ عليه ما قبله

(1/146)


وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)

{وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} عطفٌ على فاعفوا أُمروا بالصبر والمداراةِ واللَّجَإ إلى الله تعالى بالعبادة البدنية والمالية
{وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ} كصلاة أو صدقةٍ أو غيرِ ذلك أيْ أيُّ شيءٍ من الخيرات تقدّموه لمصلحة أنفسِكم
{تَجِدُوهُ عِندَ الله} أي تجدوا ثوابه وقرئ تُقْدِموا من أقدم
{إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يَضيعُ عنده عملٌ فهو وعد للمؤمنين وقرئ بالياء فهو وعيدٌ للكافرين

(1/146)


وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)

{وَقَالُواْ} عطف على ود والضميرُ لأهل الكتابين جميعاً
{لنْ يدخلَ الجنةَ إلاَّ من كان هودا أو نصارى} أي قالت اليهودُ لنْ يدخلَ الجنةَ إلاَّ من كان هُوداً وقالت النصارى لنْ يدخُلَ الجنةَ إلاَّ من كان نصارى فلفّ بين القولين ثقةً أن السامعَ يردُّ كلاً منهما إلى قائله ونحوُه وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا وليس مرادُهم بأولئك مَنْ أقام اليهوديةَ والنصرانية قبل النسخ

(1/146)


البقرة (112)
والتحريف على وجهها بل أنفسهم على ماهم عليه لأنهم إنما يقولونه لإضلال المؤمنين وردِّهم إلى الكفر والهوُدُ جمعُ هائِدٍ كعوذٍ جمعُ عائذ وبُزْلٍ جمعُ بازل والإفرادُ في كان باعتبار لفظ مَنْ والجمع في خبرِه باعتبار معناه وقرئ إلا من كان يهودياً أو نصرانياً
{تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} الاماني جميع أُمنية وهي ما يُتمنّى كالأُعجوبة والأُضْحوكة والجملةُ معترِضةٌ مبنية لبطلان ما قالوا وتلك إشارةٌ إليه والجمعُ باعتبار صدوره عن الجميع وقيل فيه حذفُ مضافٍ أي أمثالُ تلك الأُمنية أمانيُّهم وقيل تلك إشارةٌ إليه وإلى ما قبله مِن أن لا ينزِلَ على المؤمنين خيرٌ من ربهم وأن يردَّهم كفاراً ويردُّه قوله تعالَى
{قُلْ هَاتُواْ برهانكم إِن كُنتُمْ صادقين} فإنهما ليسا مما يُطلب له البرهانُ ولا مما يَحتملُ الصِّدق والكذِبَ قيل هاتوا أصلُه آتوا قُلبت الهمزةُ هاءً أي أَحضروا حُجتَكم على اختصاصكم بدخول الجنة إِن كُنتُمْ صادقين في دعواكم هذا ما يقتضيه المقامَ بحسب النظرِ الجليلِ والذي يستدعيه إعجازُ التنزيل أن يُحمل الأمرُ التبكيتيُّ على طلب البرهان على أصل الدخولِ الذي يتضمنه دعوى الاختصاص به فإن قوله تعالى

(1/147)


بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)

{بلى} الخ إثباتٌ منْ جهتِه تعالَى لِمَا نفَوْه مستلزمٌ لنفْي ما أثبتوه وإذْ ليس الثابتُ به مجردَ دخولِ غيرِهم الجنةَ ولو معهم ليكون المنفيُّ مجردَ اختصاصِهم به مع بقاءِ أصلِ الدخولِ على حاله بل هو اختصاصُ غيرِهم بالدخول كما ستعرفه بإذن الله تعالى ظهرَ أن المنفيَّ أصلُ دخولِهم ومن ضرورته أن يكون هو الذي كُلِّفوا إقامةَ البُرهانِ عليه لا اختصاصُهم به ليتّحدَ موردُ الإثباتِ والنفي وإنما عدَلَ عن ابطال ما ادَّعَوْه وسَلك هذا المسلكَ إبانةً لغاية حِرمانِهم مما علقوا به أطماعَهم واظهار لكمال عجزِهم عن إثباتِ مُدَّعاهم لأن حِرمانَهم من الاختصاص بالدخول وعجزَهم عن إقامة البرهان عليه لا يقتضيان حرمانَهم من أصل الدخولِ وعجزَهم عن إثباته وأما نفسُ الدخولِ فحيث ثبت حِرمانُهم منه وعجزُهم عن إثباته فهم من الاختصاص به أبعدُ وعن إثباته أعجزُ وإنما الفائزُ به من انتظمه قوله سبحانه
{مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أي أخلص نفسه له تعالى لا يشرك به شيئاً عبّر عنها بالوجه لأنه أشرف الأعضاء ومجمعُ المشاعرِ وموضعُ السجود ومظهَرُ آثارِ الخضوعِ الذي هو من أخص خصائِص الإخلاص أو توجّهُه وقصدُه بحبث لا يلوي عزيمتَه إلى شيءٍ غيره
{وَهُوَ مُحْسِنٌ} حال من ضمير أسلم أي والحالُ أنه مُحسنٌ في جميع أعمالِه التي من جملتها الإسلامُ المذكورُ وحقيقةُ الإحسانِ الإتيانُ بالعمل على الوجه اللائقِ وهو حُسنُه الوصفيُّ التابعُ لحسنه الذاتي وقد فسره صلى الله عليه وسلم بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّه يراكَ
{فله أجره} الذي وعده له على عمله وهو عبارةٌ عن دخول الجنة أو عما يدخُلُ هو فيه دخولاً أوليا واياما كان فتصويرُه بصورة الأجرِ للإيذان بقوة ارتباطِه بالعمل واستحالةِ نيلِه بدونه وقوله تعالى
{عِندَ رَبّهِ} حالٌ من أجره والعاملُ فيه معنى الاستقرارِ في الظرف والعِنديةُ للتشريف ووضعُ اسمِ الربِّ مُضافاً إلى ضمير من أسلم موضعَ ضميرِ الجلالة لإظهار مزيدِ اللُطفِ به وتقريرِ مضمونِ الجملة أي فله أجره

(1/147)


البقرة (113)
عتد مالكِه ومدبِّرِ أموره ومبلِّغِه إلى كماله والجملةُ جوابُ مَنْ إن كانت شرطيةً وخبرُها إن كانت موصولة والفاءُ لتضمنها معنى الشرط فيكون الردُّ بقوله تعالى بلى وحده ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ فاعلاً لفعل مقدرٍ أي بلى يدخلها من أسلم وقوله تعالى فَلَهُ أَجْرُهُ معطوفٌ على ذلك المقدر وأياً ما كان فتعلق ثبوتِ الأجرِ بما ذكر من الإسلام والإحسانِ المختصَّيْن بأهل الإيمان قاضٍ بأن أولئك المدّعين من دخول الجنة بمعزل ومن الاختصاص به بألف معزل
{وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الدارين من لُحوق مكروهٍ
{وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} من فواتِ مطلوب أي لايعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لايخافون ولايحزنون والجمعُ في الضَّمائرِ الثَّلاثةِ باعتبارِ معنى مَنْ كما أن الإفرادَ في الضمائرِ الأُوَلِ باعتبار اللفظ

(1/148)


وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

{وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَىْء} بيانٌ لتضليل كلِّ فريقٍ صاحَبه بخصوصه إثرَ بيانِ تضليله كلَّ من عداه على وجه العموم نزلت لما قدِم وفدُ نجرانَ على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم وأتاهم أحبارُ اليهود فتناظروا فارتفعت أصواتُهم فقالوا لهم لستم على شئ أي أمرٍ يُعتدُّ به من الدين أو على شئ ما منه أصلاً مبالغةً في ذلك كما قالوا أقل من لاشئ وكفروا بعيسى والإنجيل
{وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَىْء} على الوجه المذكورِ وكفروا بموسى والتوراةِ لا أنهم قالوا ذلك بناءً للإمر على منسوخية التوراة
{وهم يتلون الكتاب} الواو للحال واللامُ للجنس أي قالوا ما قالوا والحال أن كلَّ فريقٍ منهم من أهل العلم والكتاب أي كان حقُّ كلَ منهم أن يعترف بحقية دينِ صاحبه حسبما ينطِقُ به كتابُه فإن كتبَ الله تعالى متصادقة
{كذلك} أي مثلَ ذلك الذي سمعت به والكافُ في محل النصب إما على أنها نعتٌ لمصدر محذوف قُدّم على عامله لإفادة القصر أي قولاً مثلَ ذلك القول بعينه لاقولا مغايراً له
{قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} من عبَدَة الأصنام والمعطِّلة ونحوِهم من الجهَلة أي قالوا لأهل كل دين ليسوا على شئ وإما على أنَّها حالٌ من المصدر المضمر المعرف الدال عليه قال أي قال القول الذين لايعلمون حال كونه مثلَ ذلك القولِ الذي سمعْتَ به
{مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} إما بدلٌ من محل الكاف وإما مفعولٌ للفعل المنفيِّ قبله أي مثلَ ذلك القول قال الجاهلون بمثل مقالةِ اليهودِ والنصارى وهذا توبيخٌ عظيم لهم حيث نظَموا أنفسهم مع علمهم في سلك مَنْ لا يعلم أصلاً
{فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي بين اليهود والنصارى فإن مساقَ النظمِ لبيان حالِهم وإنما التعرُّضُ لمقالة غيرِهم لإظهار كمالِ بطلانِ مقالهم ولأن المُحاجَّةَ المُحوِجَةَ إلى الحكم إنما وقعت بينهم
{يَوْمُ القيامة} متعلقٌ بيحكم وكذا ماقبله وما بعده ولاضير فيه لاختلاف المعنى
{فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} بما يقسم لكل فريق مايليق به من العقاب وقيل حكمُه بينهم أن يكذِّبَهم وبدخلهم النارَ والظرفُ الأخير متعلقٌ بيختلفون قُدِّم عليه للمحافظة على رءوس الآى لا بكانوا

(1/148)


البقرة (114)

(1/149)


وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله} إنكارٌ واستبعاد لأن يكون أحدٌ أظلمَ ممن فعل ذلك أومساويا له وإن لم يكن سبكُ التركيب متعرضاً لإنكار المساواة ونفيُها يشهد به العرف الفاشي والاستعمال المطرد فإذا قيل مَنْ أكرمُ من فلان أولا أفضلَ من فلان فالمرادُ به حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضل من كل فاضل وهذا الحكم عامٌ لكل من فعل ذلك في أي مسجد كان وإن كان سببَ النزول فعلُ طائفةٍ معينة في مسجد مخصوص رُوي أن النصارى كانوا يطرَحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناسَ أن يصلوا فيه وأن الرومَ غزَوُا أهلَه فخرَّبوه وأحرقوا التوراة وقتلوا وسبوا وقد نُقلَ عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ طِيطَيُوسَ الروميَّ ملكَ النصارى وأصحابَه غزوا بني إسرئيل وقتلوا مُقاتِلَتَهم وسبَوُا ذرارِيَهم وأحرقوا التوراةَ وخرَّبوا بيتَ المقدس وقذفوا فيه الجيفَ وذبحوا فيه الخنازيرَ ولم يزل خراباً حتى بناه المسلمون في عهد عمرَ رضي الله عنه وإنما أُوقعَ المنعُ على المساجد وإن كان الممنوعُ هو الناسَ لما أن فعلَهم من طرح الأذى والتخريب ونحوِهما متعلقٌ بالمسجد لا بالناس مع كونه على حاله وتعلقُ الآيةِ الكريمة بما قبلها من حيث إنها مبطلةٌ لدعوى النصارى اختصاصَهم بدخول الجنة وقيل هو منعُ المشركين من جُملة الجاهلين القائلين لكل مَنْ عداهم ليسوا على شئ
{أن يذكر فيها اسمه} ثاني مفعولي منع كقوله تعالى {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ} وقوله تعالى {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاولون} ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ بحذف الجارِّ مع أن وأن يكون ذلك مفعولاً له أي يُذكر فيها اسمُه
{وسعى فِى خَرَابِهَا} بالهدم أو التعطيل بانقطاع الذكر
{أولئك} المانعون الظالمون الساعون في خرابها
{مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} أي ما كان ينبغي لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ بخشية وخضوعٍ فضلاً عن الاجتراء على تخريبها أوتعطيلها أوما كان الحق أن يدخلوها إلا على حال التهيُّب وارتعادِ الفرائصِ من جهة المؤمنين أن يبطِشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويَلوُها ويمنعوهم منها أو ما كان لَهُمْ في علم الله تعالى وقضائه بالآخرة إلا ذلك فيكونُ وعداً للمؤمنين بالنُصرة واستخلاص ما استولَوْا عليه منهم وقد أُنجز الوعدُ ولله الحمد روى أنه لايدخل بيتَ المقدس أحدٌ من النصارى إلا متنكراً مسارقةً وقيل معناه النهيُ عن تمكينهم من الدخول في المسجد واختلف الأئمة في ذلك فجوّزه أبو حنيفة مطلقاً ومنعه مالك مطلقاً وفرَّق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره
{ولهم} أي لأولئك المذكورين
{فِى الدنيا خِزْىٌ} أي خزي فظيعٌ لا يوصف بالقتل والسبي والإذلال بضرب الجزية عليهم
{وَلَهُمْ فِى الأخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو عذابُ النار لما أن سببه أيضاً وهو ما حُكي من ظلمهم كذلك في العِظَم وتقديمُ الظَّرفِ في الموضعينِ لتشويق إلى ما يذكر بعدَه من الخزي والعذاب لما مرَّ منْ أنَّ تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ موجبٌ لتوجه النفس إليه فيتمكن فيها عند وروده فضلَ تمكن كما في

(1/149)


البقرة (116 - 115)
قوله تعالى {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعامِ ثمانية أزواج} إلى غير ذلك

(1/150)


وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)

{وَلِلَّهِ المشرق والمغرب} أي له كلُّ الأرض التي هي عبارةٌ عن ناحيتي المشرقِ والمغربِ لا يختصّ به من حيث الملكُ والتصرفُ ومن حيث المحلّيةُ لعبادته مكانٌ منها دون مكان فإن مُنعتم من إقامة العبادةِ في المسجد الأقصى أو المسجد الحرام
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} أي ففي أي مكان فعلتم توليةَ وجوهِكم شطرَ القبلة
{فَثَمَّ وَجْهُ الله} ثَمَّ اسمُ إشارة للمكان البعيد خاصة مبنيٌّ على الفتح ولا يتصرَّف سوى الجر بمن وهو خبر مقدمٌ ووجهُ الله مبتدأ والجملة في محل الجزم على أنها جواب الشرط أي هناك جهتُه التي أمر بها فإن إمكان التوليةِ غيرُ مختصَ بمسجد دون مسجد أو مكان دون آخر أو فثَمَّ ذاتُه بمعنى الحضورِ العلميّ أي فهو عالم بما يُفعل فيه ومثيبٌ لكم على ذلك وقرئ بفتح التاء واللام أي فأينما توجهوا القبلة
{إِنَّ الله واسع} بإحاطته بالأشياء أو برحمته يريد التوسعةَ على عباده
{عَلِيمٌ} بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلِّها والجملة تعليلٌ لمضمون الشرطية وعن ابن عمرَ رضي الله عنهما نزلت في صلاة المسافرين على الراحلة أينما توجّهوا وقيل في قوم عمِيت عليهم القِبلةُ فصلُّوا إلى أنحاءَ مختلفةٍ فلما أصبحوا تبينوا خطأهم وعلى هذا لو أخطأ المجتهدُ ثم تبين له الخطأ لم يلزمه التدارُك وقيل هي توطئة لنسخ القِبلة وتنزيهٌ للمعبود عن أن يكون في جهة

(1/150)


وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)

{وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا} حكاية لطرفٍ آخرَ من مقالاتهم الباطلةِ المحكية فيما سلف معطوفةٌ على ما قبلها من قوله تعالى وَقَالَت الخ لا على صلةِ مَنْ لما بينهما من الجمل الكثيرة الأجنبيةِ والضميرُ لليهود والنصارى ومن شاركهم فيما قالوا من الذين لا يعلمون وقرئ بغير واو على الاستئناف نزلت حين قالت اليهودُ عزيز ابنُ الله والنصارى المسيحُ ابنُ الله ومشركو العربِ الملائكةُ بناتُ الله والاتخاذُ إما بمعنى الصُنع والعمل فلا يتعدَّى إلا إلى واحد وإما بمعنى التصيير والمفعولُ الأول محذوف أي صير بعض مخلوقاته ولداً
{سبحانه} تنزيهٌ وتبرئةٌ له تعالى عما قالوا وسبحانَ عَلَمٌ للتسبيح كعُثمانَ للرجل وانتصابُه على المصدريّةِ ولا يكاد يُذكر ناصبُه أي أُسبِّحُ سبحانَه أي أنزّهُه تنزيهاً لائقاً به وفيه من التنزيه البليغِ من حيث الاشتقاقُ من السبْح الذي هو الذهابُ والإبعادُ في الأرض ومن جهة النقلِ إلى التَّفعيلِ ومن جهة العدولِ إلى المصدر إلى الاسمِ الموضوعِ له خاصة لاسيما العلمُ المشيرُ إلى الحقيقةِ الحاضرةِ في الذِّهنِ ومن جهة إقامتهِ مُقامَ المصدرِ مع الفعل مالا يخفى وقيل هو مصدرٌ كغُفرانٍ بمعنى التنزُّه أي تنَزَّهَ بذاتِه تنزُّهاً حقيقاً به ففيه مبالغةٌ من حيث إسنادُ البراءةِ إلى الذات المقدسة وإن كان التنزيهُ اعتقادَ نزاهتِه تعالى عما لا يليق به لا إثباتَها له تعالى وقولُه تعالى
{بَل لَّهُ ما في السماوات والارض} رد لما زعموا وتنبيهٌ على بطلانه وكلمةُ بل للإضراب عما تقتضيه مقالتُهم الباطلةُ من مجانسته سبحانه وتعالى لشئ من المخلوقات ومن سرعة فَنائِه المَحوِجة إلى اتخاذ ما يقوم مَقامه فإن مجرد الإمكان والفَناء لا يوجب ذلكَ ألا يُرى أن الأجرامَ الفَلَكيةَ مع إمكانها وفَنائِها بالآخرة مستغنيةٌ

(1/150)


البقرة (118 - 117)
بدوامها وطولِ بقائها عما يجري مجرَى الولدِ من الحيوان أي ليس الأمرُ كما زعموا بل هو خالقٌ جميعَ الموجودات التي من جملتها عزيز والمسيحُ والملائكة
{كُلٌّ} التنوين عوضٌ عن المضافِ إليهِ أي كلُّ ما فيهما كائناً ما كانَ منْ أولي العلم وغيرِهم
{لَّهُ قانتون} منقادون لا يستعصي شئ منهم على تكوينه وتقديره ومشيئتِه ومن كان هذا شأنُه لم يُتصوَّرْ مجانستُه لشئ ومن حق الولدِ أن يكون من جنس الوالد وإنما جيءَ بما المختصةِ بغير أولي العلم تحقيراً لشأنهم وإيذانا بكمال بُعدِهم عما نسَبوا إلى بعضٍ منهم وصيغةُ جمعِ العقلاءِ في قانتون للتغليب أو كلُّ مَنْ جعلوه لله تعالى ولداً له قانتون أي مطيعون عابدون له معترفون بربوبيته تعالى كقوله تعالى {أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة}

(1/151)


بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

{بديع السماوات والارض} أي مُبدِعُهما ومخترِعُهما بلا مثالٍ يَحتذيه ولا قانونٍ ينتجه فإن البديعَ كما يُطلقُ على المبتدِع يُطلق على المبدع نصَّ عليه أساطينُ أهل اللغة وقد جاء بَدَعَه كمنعه بمعنى أنشأه كابتدعه كما ذُكر في القاموس وغيرِه ونظيرُه السميعُ بمعنى المسمِع في قوله أَمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعي السميعُ وقيل هو من إضافة الصفةِ المشبّهةِ إلى فاعلها للتخفيف بعد نصبه على تشبيهها باسم الفاعِلِ كما هو المشهورُ أي بديعُ سمواتِه من بَدَع إذا كان على شكل فائقٍ وحُسْنٍ رائق وهو حجة أخرى لإبطال مقالتِهم الشنعاءِ تقريرُها أن الوالدَ عنصرُ الولدِ المنفعل بانفصال مادته عنه والله سبحانه مُبدعُ الأشياء كلِّها على الإطلاق منزَّه عن الانفعال فلا يكون والداً ورفعُه على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف أي هو بديعُ الخ وقرئ بالنصبَ على المدح وبالجرِّ على أنه بدلٌ من الضمير في له على رأي من يجوز الإبدالَ من الضمير المجرور كما في قوله ... على جودِه لَضَنَّ بالماء حاتِمُ ...

{وَإِذَا قضى أَمْرًا} أي أرادَ شيئاً كقوله تعالى إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً وأصلُ القضاءِ الإحكام أطلق على الإرادة الإلهية المتعلقة بوجود الشئ لإيجابها إياه البتة وقيل الأمر ومنه قوله تعالى {وقضى رَبُّكَ} الخ
{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيكون} كلاهما من الكون التام أي أحدث فيحدث وليس المرادُ به حقيقةَ الأمرِ والامتثال وإنما هو تمثيلٌ لسهولة تأتّي المقدورات بحسَب تعلّقِ مشيئتِه تعالى وتصويرٌ لسرعة حدوثِها بما هو عَلَمٌ في الباب من طاعة المأمورِ المطيعِ للآمر المطاعِ وفيه تقريرٌ لمعنى الإبداع وتلويحٌ لحجة أخرى لإبطال ما زعموه بأن اتخاذَ الولدِ شأنُ مَن يفتقرُ في تحصيل مرادِه إلى مباد يستدعي ترتيبُها مرورَ زمانٍ وتبدلَ أطوارٍ وفعلُه تعالى متعالٍ عن ذلك

(1/151)


وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

{وَقَالَ الذَين لاَ يَعْلَمُونَ} حكايةٌ لنوعٍ آخرَ من قبائحهم وهو قدحُهم في أمر النبوة بعد حكاية قدحِهم في شأن التوحيد بنسبة الولدِ إليه سبحانَه وتعالى واختُلف في هؤلاء القائلين فقال ابن عباس رضي الله عنهما اليهودُ وقال مجاهد هم النصارى ووصفُهم بعدم العلم لعدم علمِهم بالتوحيد والنبوة كما ينبغي أو لعدم علمِهم بموجب عمَلِهم أو لأن ما يحكى عنهم لا يصدرُ عمن له شائبةُ علمٍ أصلاً وقال قتادة

(1/151)


البقرة (120 - 119)
وأكثرُ أهل التفسير هم مشركو العربِ لقوله تعالى {فليأتنا بآية كَمَا أرسل الأولون} وقالوا {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا}
{لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله} أي هلا يكلمُنا بلا واسطة أمراً أو نهياً كما يكلم الملائكةَ أو هلا يكلمنا نتصيصا على نُبوَّتِك
{أو تأتينا آية} حجةٌ تدل على صدقك بلغوا من العُتوِّ والاستكبارِ إلى حيثُ أمَّلوا نيلَ مرتبةِ المفاوضةِ الإلهيةِ من غير توسط الرسولِ والملَك ومن العنادِ والمكابرة إلى حيث لم يعُدّوا ما آتاهم من البينات الباهرة التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال من قَبيل الآيات قاتلهم الله أنَّي يُؤفكون
{كَذَلِكِ} مثلَ ذلكَ القولِ الشنيعِ الصادرِ عن العِناد والفساد
{قَالَ الذين مِن قَبْلِهِم} من الأمم الماضية
{مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} هذا الباطلِ الشنيعِ فقالوا {أَرِنَا الله جهرة} قالوا {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد} الآية وقالوا هَلْ يستطيع ربك الخ قالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا الخ
{تشابهت قُلُوبُهُمْ} أي قلوبُ هؤلاءِ وأولئك في العمى والعِناد وإلا لما تشابهت أقاويلُهم الباطلة
{قَدْ بَيَّنَّا الآيات} أي نزلناها بينةً بأن جعلناها كذلك في أنفسِها كما في قولِهم سبحانَ من صغر البغوض وكبَّر الفيلَ لا أنا بيناها بعد أن لم تكن بينةً
{لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي يطلُبون اليقين ويوقنون بالحقائق لا يعتريهم شُبهةٌ ولا رِيبة وهذا ردٌّ لطلبهم الآيةَ وفي تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين المُفصِح عن كمال التوضيح مكانَ الإتيان الذي طلبوه ما لا يَخفْى من الجزالة والمعنى أنهم اقترحوا آيةً فذَّةً ونحن قد بينا الآياتِ العظامَ لقوم يطلُبون الحقَّ واليقين وإنما لم يُتعرَّضْ لرد قولِهم لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله إيذانا بأنه من ظهور البطلانِ بحيث لا حاجة إلى الرد والجواب

(1/152)


إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)

{إِنَّا أرسلناك بالحق} أي متلبسا بالقرآن كما في قوله تعالى {كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ} أو بالصدق كما في قوله تعالى {أَحَق هو} وقولُه تعالى
{بَشِيراً وَنَذِيراً} حال من مفعول باعتبار تقييدِه بالحال الأولى أي أرسلناك متلبسا بالقرآن حالَ كونك بشيراً لمن آمن بما أُنزِل عليك وعمِل به ونذيراً لمن كفَر به أو أرسلناك صادقاً حال كونِك بشيراً لمن صدّقك بالثواب ونذيراً لمن كذّبك بالعذاب ليختاروا لأنفسهم ما أحبّوا لا قاسرَ لهم على الإيمان فلا عليك إنْ أصروا وكابروا
{ولا تسأل عَنْ أصحاب الجحيم} ما لهم لم يؤمنوا بعد ما بلّغْتَ ما أُرسلتَ به وقرئ لن تسأل وما تسأل وقرئ لا تَسْألْ على صيغة النهي إيذاناً بكمال شدةِ عقوبةِ الكفار وتهويلاً لها كأنها لغاية فظاعتها لا يقدِرُ المخبِرُ على إجرائها على لسانه أو لا يستطيع السامعُ أن يسمع خبرَها وحملُه على نهي النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم عن السؤال عن حال أبويه مما لايساعده النظمُ الكريمُ والجحيمُ المتأججُ من النار وفي التعبير عنهم بصاحبية الجحيم دون الكفر والتكذيب ونحوهما وعيدٌ شديد لهم وإيذانٌ بأنهم مطبوعٌ عليهم لا يرجى منهم الإيمانُ قطعاً وقوله تعالى

(1/152)


وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)

{وَلَن ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} بيانٌ لكمال شدةِ شكيمةِ هاتين الطائفتين خاصة إثْرَ بيانِ ما يعُمُّهما والمشركين من الإصرار على ما هم عليه إلى الموت وإيراد لا

(1/152)


البقرة (122 - 121)
النافية بين المعطوفَيْن لتأكيد النفي لما مرَّ منْ أنَّ تصلُّبُ اليهودِ في أمثال هذه العظائم أشدُّ من النصارى والإشعارِ بأن رضى كلَ منهما مباينٌ لرضى الأخرى أي لن ترضى عنك اليهودُ ولو خلَّيتَهم وشأنَهم حتى تتبعَ ملّتهم ولا النصارى ولو تركتم ودينَهم حتى تتبع مِلَّتَهم فأُوجِزَ النظمُ ثقةً بظهور المراد وفيهِ من المبالغةِ في إقناطه صلى الله عليه وسلم من إسلامهم ما لا غايةَ وراءَه فإنهم حيث لم يرضَوْا عنه عليه السلام ولو خلاّهم يفعلون ما يفعلون بل أملّوا منه صلى الله عليه وسلم مالا يكاد يدخُل تحت الإمكان من اتِّباعِه عليه السَّلامُ لمِلّتهم فكيف يُتوهم اتباعُهم لملته عليه السلام وهذه حالتُهم في أنفسهم ومقالتُهم فيما بينهم وأما أنهم أظهروها للنبي صلى الله عليه وسلم وشافهوه بذلك وقالوا لن نرضى عنك وإن بالغْتَ في طلب رضانا حتى تتبعَ مِلَّتنا كما قيل فلا يساعدُهُ النظمُ الكريمُ بل فيه ما يدل على خلافه فإنَّ قولَه عزَّ وجلَّ
{قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} صريحٌ في أنَّ ما وقع هذا جواباً عنه ليس عينَ تلك العبارةِ بل ما يستلزم مضمونَها أو يلزمه من الدعوة إلى اليهودية والنصرانية وادعاء أن الاهتداءَ فيهما كقوله عز وجل حكايةً عنهم {كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} أي قل رداً عليهم إِنَّ هُدَى الله الذي هو الإسلامُ هو الهدى بالحق والذي يحِقُّ ويصح أن يُسمَّى هُدىً وهو الهدى كلُّه ليس وراءه هُدىً وما تدْعون إليه ليس بهُدىً بل هو هوىً كما يعرب عنه قوله تعالى
{وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} أي آراءَهم الزائغةَ الصادرةَ عنهم بقضية شهواتِ أنفسِهم وهي التي عُبّر عنها فيما قبلُ بملتهم إذ هي التي ينتمون إليها وأما ما شرعه الله تعالى لهم من الشريعة على لسان الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام وهو المعنى الحقيقيُّ للملة فقد غيّروها تغييراً
{بَعْدَ الذي جَاءكَ مِنَ العلم} أي الوحي أو الدين المعلومِ صحتُه
{مَا لَكَ مِنَ الله} مِن جهته العزيزة
{مِن وَلِىّ} يلي أمرَك عموماً
{وَلاَ نَصِيرٍ} يدفعُ عنك عقابَه وحيث لم يستلزم نفيُ الوليِّ نفيَ النصيرِ وُسِّط لا بين المعطوفين لتأكيد النفي وهذا باب التهييج والإلهابِ وإلا فأنى يُتوهم إمكانُ اتباعِه عليه السلام لمِلّتهم وهو جوابٌ للقسم الذي وطّأه اللامُ واكتُفي به عن جواب الشرط

(1/153)


الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)

{الذين آتيناهم الكتاب} هُم مُؤمنو أهلِ الكتابِ كعبدِ اللَّه بن سلام وأضرابِه
{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} بمراعاة لفظِه عن التحريف وبالتدبّر في معانيه والعمل بما فيه وهو حال مقدرةٌ والخبرُ ما بعدَهُ أو خبرٌ وما بعده مقرِّرٌ له
{أولئك} إشارةٌ إلى الموصوفينَ بإيتاء الكتاب وتلاوتِه كما هو حقُّه وما فيه من معنى البعد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الفضل
{يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي بكتابهم دون المحرِّفين فإنهم بمعزل من الإيمان به فإنه لا يجامِعُ الكفرَ ببعضٍ منه
{وَمن يَكْفُرْ بِهِ} بالتحريف والكفرِ بما يصدِّقه
{فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} حيثُ اشترَوُا الكفرَ بالإيمانِ

(1/153)


يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)

{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عَلَيْكُمْ} ومن جملتها التوراةُ وذكر النعمة إنما

(1/153)


البقرة (124 - 123)
يكون بشكرها وشكرُها الإيمانُ بجميع ما فيها ومن جملته نعت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ومن ضرورة الإيمان بها الإيمان به عليه الصلاة والسلام
{وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} أفرِدَتْ هذه النعمةُ بالذكر مع كونها مندرجةً تحت النعمة السالفةِ لإنافتها فيما بين فنونِ النعم

(1/154)


وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)

{واتقوا} إن لم تؤمنوا
{يَوْمًا لاَّ تَجْزِى} في ذلك اليوم
{نَفْسٌ} من النفوس
{عَن نَّفْسٍ} أخرى
{شَيْئاً} من الأشياءِ أو شيئاً من الجزاء
{وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي فدية
{وَلاَ تَنفَعُهَا شفاعة وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} وتخصيصُهم بتكرير التذكيرِ وإعادةِ التحذير للمبالغة في النُصحِ وللإيذان بأن ذلك فذلكةُ القضية والمقصودُ من القصة لِما أن نعم الله عز وجل عليهم أعظمُ وكفرَهم بها أشدُّ وأقبحُ

(1/154)


وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

{وَإِذِ ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات} شروع في تحقيق إن هُدى الله هو ما عليه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من التوحيد والإسلام الذي هو ملةُ إبراهيمَ عليه السلام وأن ما عليه أهلُ الكتابين أهواءٌ زائغةٌ وأن ما يدّعونه من أنهم على ملَّته عليه الصلاة والسلام فريةٌ بلا مريةٍ ببيان ما صدر عن إبراهيم وأبنائه الأنبياءِ عليهم السلام من الأقاويل والأفاعيل الناطقة بحقية التوحيدِ والإسلام وبُطلان الشركِ وبصحة نبوةِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وبكونه ذلك النبيِّ الذي استدعاه إبراهيم واسمعيل عليهما الصلاة والسلام بقولهما {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ} الآية فإذْ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ مقدمٍ خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم بطريقِ التلوينِ أيْ واذكُر لهم وقت ابتلائِه عليه السلام ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الدَّاعيةِ إلى التوحيد الوازعةِ عن الشرك فيقبلوا الحقَّ ويتركوا ماهم فيه من الباطل وتوجيهُ الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات قد مرَّ وجهُه في أثناء تفسير قولِه عزَّ وجلَّ {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً} وقيل على الظرفية بمُضمر مؤخَّرٍ أي وإذ ابتلاه كان كيتَ وكيت وقيل بما سيجيء من قوله تعالى قَالَ الخ والأول هو اللائق بجزالة التنزيل ولا يبعُد أن ينتصِبَ بمضمرٍ معطوف على اذكُروا خُوطب به بنو إسرائيلَ ليتأملوا فيما يُحْكى عمن ينتمون الى ملته من إبراهيمَ وأبنائه عليهم السلام من الأفعال والأقوال فيقتدوا بهم ويسيروا سيرتَهم والابتلاءُ في الأصل الاختبارُ أي تطلب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشُقُّ عليه غالباً فِعلُه أو تركُه وذلك إنما يتصور حقيقة ممن لا وقوفَ له على عواقب الأمور وأما من العليم الخبير فلا يكون إلا مجازا من تمكينه للعبد من اختيار أحدِ الأمرين قبل أن يرتب عليه شيئا هو من مباديه العادية كمن يختبرُ عبدَه ليتعرَّف حاله من الكِياسة فيأمُره بما يليق بحاله من مَصالحه وإبراهيمُ اسمٌ أعجميٌّ قال السُهيلي كثيراً ما يقع الاتفاقُ أو التقاربُ بين

(1/154)


السرياني والعربي الا يرى أن إبراهيمَ تفسيره أبْ رَاحِم ولذلك جُعل هو وزوجتُه سارةُ كافِلَيْن لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغاراً إلى يوم القيامةِ على ما رَوى البُخاريُّ في حديث الرؤيا أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم رأى في الروضة إبراهيمَ عليه السلام وحوله أولادُ الناس وهو مفعولٌ مقدَّم لإضافة فاعلِه إلى ضميره والتعرُّضُ لعنوان الربوبية تشريفٌ له عليه السلام وإيذانٌ بأن ذلك الابتلاء تربيةٌ له وترشيحٌ لأمر خطير والمعنى عاملَه سبحانه معاملةَ المختبِرَ حيث كلّفه أوامر ونواهي يظهر بحسن قيامِه بحقوقها قُدرتُه على الخروج عن عُهدة الإمامةِ العظمى وتحمّلِ أعباءِ الرسالة وهذه المعاملة وتذكيرها للناس لإرشادهم إلى طريق إتقانِ الأمور ببنائها على التجربة وللإيذان بأن بِعثةَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أيضاً مبنيةٌ على تلك القاعدة الرصينة واقعةٌ بعد ظهور استحقاقِه عليه السلام للنبوة العاملة كيف لا وهي التي أُجيب بها دعوةُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ كما سيأتي واختُلف في الكلمات فقال مجاهد هي المذكورة بعدَها ورُدَّ بأنه يأباه الفاء في فأتمهن ثم الاستئناف وقال طاوسُ عن ابن عباس رضي الله عنهما هي عشرُ خصال كانت فرضاً في شرعه وهُن سنةٌ في شرعنا خمسٌ في الرأس المضمضةُ والاستنشاقُ وفرقُ الرأس وقصُّ الشارب والسواكُ وخمس في البدن الخِتانُ وحلقُ العانة ونتفُ الإبْطِ وتقليمُ الأظفار والاستنجاءُ بالماء وفي الخبر أن إبراهيمَ عليه السلام أولُ من قص الشاربَ وأولُ من اختَتَن وأولُ من قلم الأظفار وقال عكرمة عن ابن عباس لم يُبْتلَ أحدٌ بهذا الدين فأقامه كلَّه إلا إبراهيم ابتلاه الله تعالى بثلاثين خَصلةً من خصال الإسلام عشرٌ منها في سورة براءة التائبون الخ وعشر في الأحزاب إن المسلمين والمسلمات الخ وعشر في المؤمنون وسأل سائل الى قوله عز وجل وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ وقيل ابتلاه الله سبحانه بسبعة أشياءَ بالشمس والقمرِ والنجوم والاختتان على الكِبَر والنار وذبحِ الولدِ والهِجْرة فوفى بالكل وقيل هن مُحاجَّتُه قومَه والصلاةُ والزكاةُ والصوم والضيافة والصبرُ عليها وقيل هي مناسك كالطواف والسعي والرمي والإحرام والتعريف وغيرِهن وقيل هي قوله عليه السلام {الذي خلقني فهو يهدين} الآيات ثم قيل إنما وقع هذا الابتلاءُ قبل النبوة وهو الظاهرُ وقيل بعدها لأنه يقتضي سابقةَ الوحي وأجيب بأن مطلق الوحي لا يستلزمُ البعثةَ إلى الخلق وقرئ برفع إبراهيمُ ونصبِ ربَّه أي دعاه بكلماتٍ من الدعاء فعل المختبِر هل يجيبه اليهن أولا
{فَأَتَمَّهُنَّ} أي قام بهن حق القيام وأداهن أحسنَ التأديةِ من غير تفريط وتوانٍ كما في قوله تعالى {وإبراهيم الذى وفى} وعلى القراءة الأخيرة فأعطاه الله تعالى ما سأله من غير نقص ويعضدُه ما روي عن مقاتل أنه فسَّر الكلماتِ بما سأل إبراهيمُ ربه بقوله رب اجعل الآيات وقوله عز وجل
{قَالَ} على تقدير انتصاب إذْ بمضمر جملةٌ مستأنفةٌ وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الكلام فإن الابتلاء تمهيدٌ لأمر معظَّم وظهورُ فضيلة المبتلى من دواعي الإحسان إليه فبعد حكايتها تترقب النفسُ إلى ما وقع بعدهما كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك فقيل قال
{إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا} أو بيانٌ لقوله تعالى ابتلي على رأي من جعل الكلماتِ عبارةً عما ذُكر أثرُه من الإمامة وتطهيرِ البيت ورفعِ قواعدِه وغير ذلك وعلى تقدير انتصابِ إذ بقال فالجملة معطوفةٌ على ما قبلها عطفَ القِصة على القصة والواو في المعنى داخلةٌ على قال أي وقال ابتلى الخ والجعلُ بمعنى التصيير أحدُ مفعوليه الضميرُ والثاني إماماً واسم الفاعل بمعنى المضارع وأوكد منه لدلالته على أنه جاعل

(1/155)


البقرة (125)
له اُلبتةَ منْ غيرِ صارفٍ يلويهِ ولا عاطفٍ يثنيهِ وللناس متعلق بحاعلك أي لأجل الناس أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من إماماً إذ لو تأخر عنه لكان صفةً له والإمام اسم لمن يؤتم به وكلُّ نبي إمامٌ لأمته وإمامته عليه السلام عامةٌ مؤبدةٌ إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته مأموراً باتباع ملته
{قَالَ} استئناف مبنيٌّ على سؤال مقدر كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ إبراهيم عليه السلام عنده فقيل قال
{وَمِن ذُرّيَتِى} عطف على الكاف ومن تبعيضيةٌ متعلقة بجاعل أي وجاعل بعضَ ذريتي كما تقول وزيداً لمن يقول سأكرمك أو بمحذوف أي واجعل فريقاً من ذريتي إماماً وتخصيصُ البعض بذلك لبَداهة استحالة إمامةِ الكلِّ وإن كانوا على الحق وقيل التقدير وماذا يكون من ذرتيى والذرية نسلُ الرجل فُعّولة من ذروت أو ذريت والأصل ذرووة أو ذُرّوْية فاجتمع في الأولى واوان زائدة وأصلية فقلبت الأصلية ياء فصارت كالثانية فاجتمعت واوٌ وياء وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون فقُلبت الواوُ ياء وأُدغمت الياءُ في الياء فصارت ذرية أو فعلية منهما والأصل في الولى ذُرِّيوة فقلبت الواو ياء لما سبق من اجتماعهما وسَبْقِ إحداهما بالسكون فصارت ذرّيْيَة كالثانية فأدغمت الياء في مثلها فصارت ذرّية أو فُعيلة من الذرْء يمعنى الخلق والأصل ذُريئة فخففت الهمزةُ بإبدالها ياءً كهمزة خطيئة ثم أُدغمت الياء الزائدةُ في المبدلةِ أو فعيلة من الذرّ بمعنى التفريق والأصل ذُرّيرة قلبت الراء الأخيرة ياء لتوالي الأمثال كما في تسري وتفضى وتظني فأدغمت الياء في الياء كما مر أو فعولة منه والأصل ذُرّورة فقلبت الراء الأخيرة ياءً فجاء الإدغام وقرئ بكسر الذال وهي لغة فيها وقرأ أبو جعفر المدني بالفتح وهي أيضاً لغة فيها
{قَالَ} استئناف مبني على سؤال ينساق إليه الذهنُ كما سبق
{لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} ليس هذا رداً لدعوتِه عليهِ السلامُ بلْ إجابةً خفيةً لها وعِدَةً إجماليةً منه تعالى بتشريف بعضِ ذريتِه عليه السلام بنيل عهدِ الإمامةِ حسبما وقع في استدعائه عليه السلام من غير تعيين لهم بوصفٍ مميزٍ لهم عن جميع مَنْ عداهم فإن التنصيصَ على حرمانِ الظالمين منه بمعزلٍ من ذلك التمييزِ إذ ليس معناه أنه ينالُ كلَّ من ليس بظالم منهم ضرورةَ استحالةِ ذلك كما أشير إليه ولعل إيثارَ هذه الطريقةِ على تعيين الجامعين لمبادئ الإمامة من ذريته إجمالاً أو تفصيلاً وإرسالَ الباقين لئلا ينتظمَ المقتدون بالأئمةِ من الأمةِ في سلك المحرومين وفي تفصيل كل فرقة من الإطناب مالا يخفى مع ما في هذه الطريقة من تخييبِ الكفرةِ الذين كانوا يتمنَّوْن النبوة وقطعِ أطماعهمَ الفارغةِ من نيلها وإنما أوثِرَ النيلُ على الجعلِ إيماءً إلى أن إمامة الأنبياءِ عليهم السلام من ذريته عليه السلام كإسماعيلَ وإسحقَ ويعقوبَ ويوسفَ وموسى وهارونَ وداودَ وسليمانَ وأيوبَ ويونسَ وزكريا ويحيى وعيسى وسيدنا محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم تسليماً كثيراً ليست بجعل مستقل بل هي حاصلة في ضمن إمامة إبراهيمَ عليه السلام تنال كلا منهم في وقت قدر الله عز وجل وقرئ الظالمون على أن عهدي مفعولٌ قُدم على الفاعل اهتماماً ورعايةً للفواصلِ وفيه دليلٌ على عصمةِ الأنبياءِ عليهم السلام من الكبائر على الإطلاق وعدم صلاحية الظالمِ لِلإمامة وقوله تعالى

(1/156)


وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

{وإذ جعلنا البيت} أي الكعبةَ المعظمةَ غلب عليها غلبةَ النجم على الثريا معطوفٌ

(1/156)


على إذِ ابتلى على أن العامل فيه هو العاملُ فيه أو مضمرٌ مستقل معطوف على المضمر الأول والجعلُ إما بمعنى التصييرِ فقوله عز وجل
{مَثَابَةً} أي مرجعاً يثوب إليه الزوار بعد ما تفرقوا عنه أو أمثالُهم أو موضِعَ ثوابٍ يثابون بحجِّه واعتمارِه مفعولُه الثاني وإما بمعنى الإبداع فهو حال من مفعول واللام في قوله تعالى
{لِلنَّاسِ} متعلقةٌ بمحذوف وقعَ صفة لمثابة أي كائنة للناس أو بجعلنا أي جعلناه لأجل الناس وقرئ مثابات باعتبار تعدد الثائبين
{وَأَمْناً} أي آمِنا كما في قوله تعالى حَرَماً آمنا على إيقاع المصدرِ موقعَ اسمِ الفاعلِ للمبالغة أو على تقدير المضافِ أي ذا أمنِ أو على الإسنادِ المجازي أي آمِنا من حجه من عذابِ الآخرةِ من حيث أن الحجَّ يجُبُّ ما قبله أو مَنْ دخله من التعرُّض له بالعقوبة وإن كان جانياً حتى يخرجَ على ما هو رأى أبي حنفية ويجوز أن يُعتبر الأمنُ بالقياس إلى كل شئ كائناً ما كان ويدخل فيه أمنُ الناس دخولاً أولياً وقد اعتيدَ فيه أمنُ الصيد حتى إن الكلبَ كان يهُمُّ بالصيد خارجَ الحرم فيفِرُّ منه وهو يتبعه فإذا دخل الصيد الحرمَ لم يتبعْه الكلبُ
{واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى} على إرادةِ قولٍ هو عطفٌ على جعلنا أو حالٌ من فاعلِه أي وقلنا أو قائلين لهم اتخذوا الخ وقيل هو بنفسهِ معطوفٌ على الأمرِ الذي يتضمنه قوله عز وجل مَثَابَةً لّلنَّاسِ كأنه قيل ثوبوا إليه واتخذوا الخ وقيل على المضمرِ العاملِ في إذ وقيل هي جملةٌ مستأنفةٌ والخطابُ على الوجوه الأخيرةِ له عليه السلام ولأمتهِ والأولُ هو الأليقُ بجزالةِ النظم الكريم والأمرُ صريحاً كان أو مفهوماً من الحكاية للاستحباب ومن تبعيضه والمقام اسمُ مكانٍ وهو الحجَرُ الذي عليه أثر قدمُه عليه السلام والموضعُ الذي كان عليه حين قام ودعا الناسَ إلى الحج أوحين رفع قواعدَ البيت وهو موضعُه اليوم والمراد بالمصلى إما موضعُ الصلاة أو موضعُ الدعاء رُوي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال هذا مقامُ إبراهيم فقال رضي الله عنه أفلا نتخذهُ مصلًّى فقال لم أُومرْ بذلك فلم تغِبْ الشمسُ حتى نزلتْ وقيل المرادُ به الأمرُ بركعتي الطواف لما روى جابرٌ رضيَ الله عْنهُ أنَّه عليهِ السلامُ لما فرَغ من طوافه عمَد إلى مقامِ إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ واتخذوا على صيغة الماضي عطفاً على جعلنا أي واتخذ الناسُ من مكان إبراهيمَ الذي وُسِمَ به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قِبلةً يصلّون إليها
{وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم وإسماعيل} أي أمرناهما أمراً مؤكداً
{أَن طَهّرَا بَيْتِىَ} بأن طهِّراه على أنّ أنْ المصدريةَ حذف عنها الجارُّ حذفاً مطرداً لجوازِ كون صلتِها أمرا ونهياً كما في قوله عزَّ وجل وَإِن أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا لأن مدارَ جوازِ كونِها فعلاً إنما هو دِلالتُه على المصدر وهي متحققةٌ فيهما ووجوبُ كونِها خبريةً في صلةِ الموصولِ الاسميِّ إنَّما هُو لتوصل إلى وصفِ المعارفِ بالجملِ وهي لا يوصف بها إلا إذا كانت خبريةً وأما الموصولُ الحرفيُّ فليس كذلك ولما كان الخبرُ والإنشاءُ في الدلالةِ على المصدرِ سواءً ساغَ وقوعُ الأمرِ والنهي صلةً حسب وقوعِ الفعلِ فيتجرد عند ذلك معنى الأمر والنهي نحوُ تجردِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضيّ والاستقبال أو أي طهراه على أنَّ أنْ مفسرةٌ لتضمين العهدِ معنى القولِ وإضافةُ البيت إلى ضمير الجلالة للتشريف وتوجيهُ الأمر بالتطهيرِ ههنا إليهما عليهما السلام لا ينافي سورةِ الحج من تخصيصِه بإبراهيم

(1/157)


البقرة (126)
عليه السلامُ فإنَّ ذلك واقعٌ قبلَ بناءِ البيتِ كما يفصحُ عنه قولُه تعالى {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت} وكان إسماعيلُ عليه السلام حينئذ بمعزلٍ من مثابةِ الخطابِ وظاهرٌ أنَّ هذا بعدَ بلوغِه مبلغَ الأمرِ والنهي وتمامِ الباء بمباشرته كما ينبئ عنه إيرادُهُ إثرَ حكايةِ جعلهِ مثابةً للناسِ الخ والمرادُ تطهيرُه من الأوثانِ والأنجاسِ وطواف الجنُب والحائضِ وغير ذلك مما لا يليقُ به
{لِلطَّائِفِينَ} حوله
{والعاكفين} المجاورين المقيمين عنده أو المعتكفين أو القائمين في الصلاة كما في قوله عز وعلا {لِلطَّائِفِينَ والقائمين}
{والركع السجود} جمع راكع وساجد أي للطائفين والمصلين لأنَّ القيامَ والركوعَ والسجودَ من هيئاتِ المصلي ولتقاربِ الأخيرين ذاتاً وزماناً ترك العاطف بين موصوفيهما أو أخلِصاه لهؤلاءِ لئلا يغشاهُ غيرُهم وفيه إيماءٌ إلى أن ملابسةَ غيرِهم به وإن كانت مع مقارنةِ أمرٍ مباحٍ مِن قبيلِ تلويثِه وتدنيسِه

(1/158)


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

{وَإِذْ قَالَ إبراهيم} عطفٌ على ما قبله من قولِه وإذ جعلنا الخ إما بالذاتِ أو بعاملِه المضمرِ كما مرَّ
{رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا} ذا أمنٍ كعيشةٍ راضيةٍ أو آمناً أهلُهُ كليلةِ نائم أي اجعل هذا الواديَ من البلادِ الآمنة وكان ذلك أولَ ما قَدِمَ عليه السلام مكةَ كما روى سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه عليه الصلاةُ والسلام لما أسكن إسماعيلَ وهاجَر هناك وعادَ متوجهاً إلى الشام تَبعتْه هاجرُ تقول إلى من تَكِلُنا في هذا البلقَعِ وهو لا يرد عليهما جواباً حتى قالت آلله أمرك بهذا فقال نعمْ قالت إذنْ لا يُضيِّعُنا فرضِيَتْ ومضى حتى إذا استوى على ثَنِيّةِ كَداءٍ أقبل على الوادي فقال رَّبَّنَا إِنَّى أسكنت الآية وتعريفُ البلدِ مع جعلِه صفة لهذا في سورة إبراهيم إن حُمل على تعدد السؤال لما أنه عليه السلام سأَلَ أولاً كلا الأمرين البلديةِ والأمنِ فاسْتُجيبَ له في أحدِهما وتأخرَ الآخرُ إلى وقته المقدر له لما تقتضيه الحكمةُ الباهِرَةُ ثمَّ كرَّرَ السؤالَ حسبما هو المعتادُ في الدعاءِ والابتهالِ أو كان المسئول أولاً البلديةَ ومجردَ الأمنِ المصححِ للسُكنى كما في سائرِ البلاد وقد أجيبَ إلى ذلك وثانياً الأمنُ المعهودُ أو كان هو المسئول أولاً أيضاً وقد أجيب إليه لكنَّ السؤالَ الثانيَ لاستدامتِه والاقتصارُ على سؤالِه مع جعلِ البلدِ صفةً لهذا لأنهُ المقصِدُ الأصليُّ أو لأنَّ المعتادَ في البلدية الاستمرارُ بعد التحقق بخلافِ الأمنِ وإن حمل على وحدةِ السؤالِ وتكرُرِ الحكايةِ كما هو المتبادرُ فالظاهر أن المسئول كِلا الأمرين وقد حُكي ذلك ههنا واقتُصرَ هناك على حكايةِ سؤالِ الأمنِ اكتفاءً عن حكايةِ سؤالِ البلديةِ بحكايةِ سؤال جعل أفئدة الناس تهوي إليه كما سيأتي تفصيلُه هناك بإذنِ الله عزَّ وجلَّ
{وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} من أنواعها بأن تجعلَ بقربٍ منه قرُىً يحصُل فيها ذلك أو يجبى إليه من الأقطارِ الشاسعةِ وقد حصل كلاهما حتى إنه يجتمعُ فيه الفواكهُ الربيعيةُ والصيفيةُ والخريفيةُ في يومٍ واحدٍ روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ الطائفَ كانت من أرض فلِسطينَ فلما دعا إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بهذه الدعوة رفعها الله تعالى فوضعَها حيث وضعها رزقاً للحرَم وعن الزهري أنه تعالى نقل قرية من

(1/158)


البقرة (127)
قرى الشامِ فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ
{من آمن مِنْهُم بالله واليوم الأخر} بدلٌ من أهلِه بدلَ البعض خصهم بالدعاء إظهاراً لشرفِ الإيمان وإبانةً لخطره واهتماماً بشأن أهلِهِ ومراعاةً لحسنِ الأدبِ وفيه ترغيب لقومِه في الإيمان وزجر عن الكفر كما أن في حكايتِه ترغيباً وترهيباً لقريش وغيرهم من أهل الكتاب
{قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال كما مرَّ مِراراً وقولُه تعالى
{وَمَن كَفَرَ} عطفٌ على مفعولِ فعلٍ محذوف تقديره ارزقْ من آمن ومن كفر وقولُه تعالى
{فَأُمَتّعُهُ} معطوفٌ على ذلك الفعل أو في محل رفع بالابتداء قوله تعالى فأمتعه خبرُه أي فأنا أمتعُهُ وإنما دخلته الفاءُ تشبيهاً له بالشرط والكفرُ وإن لم يكنْ سبباً للتمتيعِ المطلقِ لكنه يصلح سبباً لتقليلِه وكونِه موصولاً بعذابِ النار وقيلَ هو عطفٌ على من آمن عطفَ تلقينٍ كأنه قيلَ قلْ وارزقْ من كفرَ فإنه أيضاً مجابٌ كأنَّهُ عليه السلامُ قاسَ الرزقَ على الإمامة فنبههُ تعالى على أنهُ رحمةٌ دنيويةٌ شاملةٌ للبَرِّ والفاجرِ بخلاف الإمامة الحاصلة بالخواص وقرئ فأمتعه من أمتع وقرئ فنمُتِّعُه
{قَلِيلاً} تمتيعاً قليلاً أوزمانا قليلاً
{ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار} أي أَلُزُّهُ إليه لزَّ المضطرِ لكفرِه وتضييعه ما متعه به من النعم وقرئ ثمَّ نضطَرُّه على وفق قراءة فنمتعه وقرئ فأَمتِعْه قليلاً ثم اضْطَرَّهُ بلفظ الأمرِ فيهما على أنهما من دعاء إبراهيمَ عليه السلامُ وفي قال ضميره وإنما فصلُه عما قبله لكونِه دعاءً على الكفرة وتغيير سبكهِ للإيذانِ بأن الكفر سببٌ لاضطرارهم إلى عذابِ النار وأما رزقُ من آمن فإنما هو على طريقة التفضيل والإحسان وقرئ بكسر الهمزةِ على لغةِ من يكسرُ حرفَ المضارعةِ وأَطَّرُّه بإدغام الضادِ في الطاء وهي لغةٌ مرذولةٌ فإنَّ حروفَ ضم شفر يُدغمُ فيها ما يجاورُها بلا عكسِ
{وَبِئْسَ المصير} المخصوص بالذم محذوفٌ أي بئس المصيرُ النارُ أو عذابُها

(1/159)


وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)

{وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت} عطفٌ على ما قبله من قوله عز وجلا وَإِذْ قَالَ إبراهيم على أحد الطريقين المذكورين في وإذ جعلنا وصيغةُ الاستقبال لحكاية الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها العجيبة المنبئة عن المعجزةِ الباهرةِ والقواعدُ جمع قاعدة وهي الأساسُ صفةٌ غالبة من القعود بمعنى الثبات ولعله مجازٌ من مقابل القيام ومنه قعدك الله ورفعها البناءَ عليها لأنه ينقُلها من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاعِ والمرتفعُ حقيقة وإن كان هو الذي بُني عليها لكنهما لمّا التأما صارا شيئاً واحداً فكأنها نمت وارتفعت وقيل المراد بها سافات البناء فإن كل ساف قاعدةٌ لما يبنى عليها وبرفعها بناءَ بعضِها على بعض وقيل المرادُ برفعها رفعُ مكانةِ البيت وإظهارُ شرفِه ودعاءُ الناس إلى حجِّه وفي إبهامها أولاً ثم تبيينِها من تفخيم شأنها مالا يخفى وقيل المعنى وإذ يرفع إبراهيمُ ما قعد من البيت واستوطأ يعني يجعل هيئةَ القاعدةِ المستَوطَأةِ مرتفعةً عالية بالبناء رُوي أن الله عز وجل أنزل البيتَ ياقوتةً من يواقيت الجنة له بابانِ من زمرد شرقي وغربي وقال لآدمَ أهبطتُ لك ما يُطاف به كما يطاف حول عرشي فتوجه آدمُ من أرض الهند إليه ماشياً وتلقَتْه الملائكةُ فقالوا بَرَّ حجَّك يا آدمُ لقد حجَجْنا هذا البيتَ قبلك بألفي عام وحج آدمُ عليه السلام أربعينَ حجةً من أرض الهند إلى مكةَ على رجليه فكان على ذلك إلى أنْ رفعه الله أيامَ الطوفان إلى السماءِ الرابعةِ فهو البيتُ المعمور

(1/159)


وكان موضعُه خالياً إلى زمن إبراهيمَ عليه السلام فأمره سبحانه ببنائه وعرَّفه جبريلُ عليه السلام بمكانه وقيل بعث الله السكينةَ لتدلَّه عليه فتبعها إبراهيم عليه السلام حتى أتيا مكة المعظّمة وقيل بعث الله تعالى سَحابةً على قدْرِ البيت وسار إبراهيمُ في ظلها إلى أن وافت مكةَ المعظمة فوقفت في موضع البيت فنُودي أنِ ابْنِ على ظلّها ولا تزدْ ولا تنقُصْ وقيل بناه من خمسة أجبُل طورِ سَيْناء وطورِ زيتا ولبنانَ والجُوديِّ وأسّسه من حِراءَ وجاء جبريلُ عليه السلام بالحجر السود من السماء وقيل تمخّض أبو قُبَيْس فانشقَّ عنه وقد خبئ فيه في أيام الطوفان وكان ياقوتةً بيضاءَ من يواقيتِ الجنة فلما لمستْه الحُيَّضُ في الجاهلية اسودّ وقال الفاسيّ في مثير الغرام في تاريخ البلد الحرام والذي يتحصل من جملة ما قيل في عدد بناء الكعبة أنها بنيت عشرَ مرات منها بناءُ الملائكة عليهم السلام وذكره النووي في تهذيب الأسماءِ واللغات والأزرقيُّ في تاريخه وذكر أنه كان قبل خلقُ آدم عليه السلام ومنها بناءُ آدمَ عليه السلام ذكره البيهقي في دلائل النبوة وروى فيه عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أن رسول اله صلى الله عليه وسلم قال بعث الله عز وجل حبريل إلى آدمَ عليهما السلام فقال له ولحواءَ ابنِيا لي بيتا فخط جبريلُ وجعل آدمُ يحفِرُ وحواءُ تنقُل الترابَ حتى إذا أصاب الماء نودي من تحته حسبُك آدمُ فلما بنياه أوحى إليه أن يطوفَ به فقيل له أنت أولُ الناس وهذا أولُ بيتٍ وهكذا ذكره الأزرقي في تاريخه وعبدُ الرزاق في مصنفه ومنها بناءُ بني آدم عند ما رُفعت الخيمة التي عزّى الله تعالى بها آدم عليه السلام وكانت ضُربت في موضع البيت فبنى بنوه مكانَها بيتاً من الطين والحجارة فلم يزل معموراً يعمرُونه هم ومن بعدهم إلى أن مسَّه الغرق في عهد نوح عليه السلام ذكره الأزرقيُّ بسنده إلى وهْب بن منبه ومنها بناءُ الخليل عليه السلام وهو منصوصٌ عليه في القرآن مشهور في ما بين قاصٍ ودان ومنها يناء العمالقة ومنها بناء جُرْهُم ذكرهما الأزراقي بسنده إلى عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه ومنها بناءُ قصيِّ بنِ كلاب ذكره الزبيرُ بن بكار في كتاب النَّسَب ومنها بناءُ قريشٍ وهو مشهور ومنها بناءُ عبدِ اللَّه بن الزُّبيرِ رضي اللَّه عنهما ومنها بناءُ الحجاج بنِ يوسُفَ وما كان ذلك بناءً لكلِّها بل لجدار من جدرانها وقال الحافظ السهيلي إن بناءها لم يكن في الدهر إلا خمسَ مرات الأولى حين بناها شيْثُ عليه السلام انتهى والله سبحانه أعلم
{وإسماعيل} عطف على إبراهيمَ ولعل تأخيرَه عن المفعول للإيذان بأن الأصلَ في الرفع هو إبراهيم وإسمعيل تبعٌ له قيل إنه كان يناوله الحجارةَ وهو يبنيها وقيل كانا يبنيانِه من طرفين
{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} على إرادةِ القولِ أيْ يقولان وقد قرئ به على أنه حالٌ منهما عليهما السلام وقيل على أنه هو العاملُ في إذْ والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها والتقديرُ يقولان ربنا تقبلْ منا إذ يرفعان أيْ وقتَ رفعِهما وقيل وإسمعيل مبتدأٌ خبرُه قولٌ محذوفٌ وهو العامل في ربنا تقبل منا فيكون إبراهيمُ هو الرافع وإسمعيل هو الداعيَ والجملةُ في محل النصب على الحالية أي وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيمُ القواعد والحال أن إسمعيل يقولُ ربنا تقبل منا والتعرضُ لوصفِ الربوبيةِ المنبئةِ عن إفاضة ما فيه صلاحُ المربوبِ مع الإضافة إلى ضميرها عليهما السلام لتحريك سلسلةِ الإجابةِ وتركُ مفعول تقبّل مع ذكرُه في قوله تعالى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء وغيره من القُرَب والطاعات التي من جملتها ما هما بصدده من البناء كما يُعرب عنه جعلُ الجملة الدعائية حالية
{إِنَّكَ أَنتَ السميع} لجميع المسموعاتِ التي من جُملتها دعاؤُنا
{العلم} بكل

(1/160)


البقرة (129 - 128)
المعلومات التي من زمرتها نياتُنا في جميع أعمالِنا والجملة تعليلٌ لاستدعاء التقبّل لا من حيثُ أن كونه تعالى سمعيا لدعائهما عليماً بنياتهما مصححٌ للتقبل في الجملة بل من حيثُ إنَّ علمَه تعالى بصحة نياتهما وإخلاصِهما في أعمالهما مستدعٍ له بموجَب الوعدِ تفضُّلاً وتأكيدُ الجملة لغرض كمالِ قوةِ يقينِهما بمضمونها وقصرُ نعتي السمع والعلم عليه تعالى لإظهار اختصاصِ دعائهما به تعالى وانقطاعِ رجائهما عما سواه بالكلية واعلم أن الظاهر أن أولَ ما جرى من الأمور المحكية هو الابتلاءُ وما يتبعه ثم دعاءُ البلديةِ والأمنِ وما يتعلق به ثم رفعُ قواعدِ البيت وما يتلوه ثم جعلُه مثابةً للناس والأمرُ بتطهيره ولعل تغيير الترتيب الوقوعيِّ في الحكاية لنظم الشئون الصادرةِ عن جنابه تعالى في سلك مستقلٍ ونظمِ الأمور الواقعةِ من جهة إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام من الأفعال والأقوال في سلك آخرَ وأما قولِهِ تَعَالَى وَمَن كَفَرَ الخ فإنما وقع في تضاعيف الأحوال المتعلقةِ بإبراهيم لاقتضاءِ المقام واستيجابِ ما سبق من الكلام ذلك بحيث لم يكن بد منه اصلاكما أن وقوعَ قوله عليه السلام ومن ذريتي في خلال كلامِه سبحانه لذلك

(1/161)


رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)

{رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} مخلِصين لك أو مستسلمين من أَسلم إذا استسلم وانقاد وأياما كان فالمطلوبُ الزيادةُ والثباتُ على ما كان عليه من الإخلاص والإذعان وقرئ مسلِمين على صيغة الجمع بإدخال هاجَرَ معهما في الدعاء أو لأن التثنية من مراتب الجمع
{وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} أب واجعل بعضَ ذريتنا وإنما خصاهم بالدعاء لأنهم أحقُّ بالشفقة ولأنهم إذا صلَحوا صلَح الأتباع وإنما خَصّا به بعضَهم لمّا علما أن منهم ظلمةً وأن الحكمة الإلهية لا تقتضي اتفاقَ لكل على الإخلاص والإقبالَ الكلي على الله عزَّ وجلَّ فإن ذلك مما يُخلُّ بأمر المعاش ولذلك قيل لولا الحمقى لخَرِبَتِ الدنيا وقيل أراد بالأمة المسلمة أمة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وقد جوز أن يكون من مبينة قدّمت على المبين وفُصل بها بين العاطف والمعطوف كما في قوله تعالى {وَمِنَ الارض مِثْلَهُنَّ} والأصلُ وأمةً مسلمةً لك من ذريتنا
{وَأَرِنَا} من الرؤية بمعنى الإبصارِ أو بمعنى التعريفِ أي بصِّرنا أو عرِّفنا
{مَنَاسِكَنَا} أي متعبداتِنا في الحج أو مذابحَنا والنُسُك في الأصل غايةُ العبادة وشاعَ في الحج لما فيه من الكُلفة والبعد عن العادة وقرئ أرنا قياساً على فخذ في فخذ وفيه إحجاف لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطةِ دليل عليهما وقرئ بالاختلاس
{وَتُبْ عَلَيْنَا} استتابة لذريتهما وحكايتُها عنهما لترغيب الكفرةِ في التوبة والإيمانِ أو توبةٌ لهما عما فرط منهما سهوا ولعلمهما قالاه هضماً لأنفسهما وإرشاداً لذريتهما
{إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم} وهو تعليلٌ للدعاء ومزيدُ استدعاء للإجابة قيل إذا أراد العبدُ أن يُستجاب له فليدع الله عز وجل بما يناسبه من أسمائه وصفاتِه

(1/161)


رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

{رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ} أي في الأمة المسلمة

(1/161)


البقرة (130)

{رَسُولاً مّنْهُمْ} أي من أنفسهم فإن البعث فيهم لا يستلزم البعثَ منهم ولم يُبعث من ذريتهما غير النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فهو الذي أُجيب به دعوتُهما عليهما السَّلامُ رُوي أنَّه قيل له قد استُجيب لك وهو في آخر الزمان قال عليه السَّلامُ أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ وبُشرى عيسى ورُؤيا أمي وتخصيصُ إبراهيمَ عليه السلام بالاستجابة له لما أنه الأصلُ في الدعاء وإسمعيل تبعٌ له عليه السلام
{يتلو عليهم آياتك} يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى إليه من البينات
{وَيُعَلّمُهُمُ} بحسب قوتِهم النظرية
{الكتاب} أي القرآن
{والحكمة} وما يُكمل به نفوسَهم من أحكام الشريعة والمعارف الحقة
{وَيُزَكّيهِمْ} بحسب قوتهم العملية أي يطهرها عن دنس الشرك وفنون المعاصي
{إِنَّكَ أَنتَ العزيز} الذي لا يُقهر ولا يغلب على ما يريد
{الحكيم} الذي لا يفعلُ إلا ما تقتضيهِ الحِكمةُ والمصلحةُ والجملة تعليلٌ للدعاء وإجابة المسئول فإن وصفَ الحكمةِ مقتضٍ لإفاضة ما تقتضيه الحِكمةُ من الأمور التي من جملتها بعثُ الرسول ووصفُ العزة مستدعٍ لامتناع وجود المانِع بالمرة

(1/162)


وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)

{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم} إنكارٌ واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغبُ عن ملته التي هي الحقُّ الصريحُ والدين الصحيحُ أي لا يرغب عن ملته الواضحةِ الغراء
{إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} أي أذلّها واستمهَنها واستخَفّ بها وقيل خسِر نفسه وقيل أوبقَ أو أهلكَ أو جهَّلَ نفسَه قال المبرِّدُ وثعلبٌ سفِه بالكسر متعدَ وبالضم لازم ويشهد له ما ورد في الخبر الكبر أن تسفه الحق وتغمض النَّاسَ وقيل معناه ضل من قِبَل نفسِه وقيل أصلُه سفِه نفسُه بالرفع فنصب على التمييز نحو غَبِن رأيُه وألِمَ رأسُه ونحو قوله ... ونأخُذُ بعده بذِناب عيش ... أجبِّ الظهرِ ليس له سَنامُ ...
وقوله ... وما قومي بثعلبةَ بن سعد ... ولا بفزارةَ الشُّعْرَ الرقابا ...
ذلك لأنه إذا رغب عما لا يرغب عنه أحدٌ من العقلاء فقد بالغ في إذلالِ نفسه وإذالتها وإهانتِها حيث خالف بها كلَّ نفس عاقلة رُوِيَ أنَّ عبدَ اللَّه بن سلام دعا ابني أخيه سلمةَ ومُهاجِراً إلى الإسلام فقال لهما قد علمنا أن الله تعالى قال في التوراة إني باعثٌ من ولد اسمعيل نبياً اسمُه أحمدُ فمن آمن به فقد اهتدى ورشَد ومن لم يؤمن به فهو ملعون فأسلم سلمةُ وأبي مهاجر فنزلت
{وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا} أي اخترناه بالنبوة والحكمة من بين سائر الخلق وأصله اتخاذُ صفوة الشيء كما أن أصلَ الاختيارِ اتخاذُ خيره واللام لجواب قسم محذوف والواو اعتراضية والجملة مقررة لمضمون ما قبلها أي وبالله لقد اصطفيناه وقوله تعالى
{وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين} أي من المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح معطوفٌ عليها داخلٌ في حيز القسم مؤكدٌ لمضمونها مقرر لما تقرِّره ولا حاجة إلى جعله اعتراضاً آخرَ أو حالاً مقدرة فإن مَنْ كان صفوةً للعباد في الدنيا مشهوداً له بالصلاح في الآخرة كان حقيقاً بالاتباع لا يَرغبُ عن ملته إلا سفيهٌ أو متسفّهٌ أذل نفسَه بالجهل والإعراض عن النظر والتأمل وإيثارُ الاسمية لما أن انتظامه في زُمرة صالحي أهلِ الآخرة أمرٌ مستمرٌ في الدارين لا أنه

(1/162)


البقرة (132 - 131)
يحدُث في الآخرة والتأكيدُ بإن واللام لما أن الأمورَ الأخروية خفية عند المخاطبين فحاجتُها إلى التأكيد أشدُّ من الأمور التي تُشاهد آثارُها وكلمة في متعلقةٌ بالصالحين على أنَّ اللامَ للتعريفِ وليست بموصولة حتى يلزم تقديمُ بعض الصلة عليها على أنه قد يُغتفر في الظرف مالا يغتفر في غيره كما في قوله ... ربيته حتى إذا تمعددا ... كان جزائي بالعصا أن أُجلَدا ...
أو بمحذوف من لفظه أي وأنه لصالحٌ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين أو من غير لفظِه أي أعني في الآخرة نحو لك بعدَ رَعْياً وقيل هي متعلقةٌ باصطفيناه على أن في النظم الكريم تقديماً وتأخيراً تقديرُه ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين

(1/163)


إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)

{إِذْ قَالَ لَهُ} ظرفٌ لاصطفيناه لما أن المتوسِّط ليس بأجنبي بل هو مقرِّر له لأن اصطفاءه في الدنيا إنما هو للنبوة وما يتعلق بصلاح الآخرة أو تعليل له أو منصوب باذكُرْ كأنه قيل اذكر ذلك الوقتَ لتقف على أنه المصطفى الصالحُ المستحِقُّ للإمامة والتقدم وأنه ما نال إلا بالمبادرة إلى الإذعان والانقياد لما أُمر به وإخلاصِ سرِّه على أحسنِ ما يكون حين قال له
{رَبُّهُ أَسْلِمْ} أي لربك
{قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ العالمين} وليس الأمرُ على حقيقته بل هو تمثيلٌ والمعنى أخطر بباله دلائلَ التوحيد المؤديةَ إلى المعرفة الداعيةَ إلى الإسلام من الكوكب والقمر والشمسِ وقيل أسلم أي أذعِنْ وأطع وقيل اثبُتْ على ما أنت عليه من الإسلام والإخلاصِ أو استقمْ وفوِّضْ أمورك إلى الله تعالى فالأمرُ على حقيقته والالتفاتُ مع التعرض لعنوان الربوبيةِ والإضافةِ إليه عليه السلام لإظهارِ مزيدِ اللطفِ به والاعتناءِ بتربيته وإضافةُ الرب في جوابِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى العالمين للإيذان بكمال قوةِ إسلامِه حيث أيقنَ حين النظر بشمولِ ربوبيتِه للعالمين قاطبةً لا لنفسِه وحده كما هو المأمور به

(1/163)


وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

{ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ} شروعٌ في بيان تكميلِه عليه السلام لغيره إثرَ بيانِ كماله في نفسه وفيه توكيدٌ لوجوب الرغبة في مِلته عليه السلام والتوصيةُ التقدمُ إلى الغير بما فيه خيرٌ وصلاح للمسلمين من فعلٍ أو قولٍ وأصلُها الوَصْلة يقال وصّاه إذا وصَله وفصّاه إذا فَصَله كأن الموصِيَ يصِلُ فعلُه بفعل الوصيّ والضمير في بها للمِلّة أو قولِه أسلمتُ لرب العالمين بتأويل الكلمة كما عبر بها عن قوله تعالى {إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذى فَطَرَنِى} في قولِه عزَّ وجلَّ {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً باقية فِى عقبه} وقرئ أوصى والأول أبلغُ
{وَيَعْقُوبَ} عطفٌ على إبراهيمُ أي وصَّى بها هو أيضاً وقرئ بالنصب عطفاً على بنيه
{يا بَنِى} على إضمار القولِ عند البصريين ومتعلق بوصَّى عند الكوفيين لأنه في معنى القول كما في قوله ... رَجْلانِ من ضَبَّةَ أخبرانا ... إنا رأَيْنا رَجُلاً عُريانا ...
فهو عند الأولين بتقدير القول وعند الآخرين متعلق بالإخبار الذي هو في معنى القول وقرئ أن يا بني وبنو إبراهيمَ عليه السلام كانوا أربعةً إسماعيلُ وإسحاقُ ومدينُ ومدان وقيل ثمانيةٌ وقيل أربعةً وعشرين وكان بنو يعقوبَ اثني عشرَ روبين وشمعون ولاوي ويهوذا ويشسوخور وزبولون وزوانا وتفتونا

(1/163)


البقرة (133)
وكوزا وأوشير وبنيامين ويوسف عليه السلام
{إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين} دينَ الإسلامِ الذي هو صفوةُ الأديان ولا دينَ غيرُه عنده تعالى
{فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} ظاهرُه النهيُ عن الموت على خلاف حال الإسلام والمقصودُ الأمرُ بالثبات على الإسلام إلى حين الموتِ أي فاثبُتوا عليه ولا تفارقوه أبداً كقولك لا تصلِّ إلا وأنت خاشِعٌ وتغييرُ العبارة للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موتٌ لاخير فيه وأن حقه أن لا يِحلَّ بهم وأنه يجب أن يحذَروه غايةَ الحذَر ونظيرُه مُتْ وأنت شهيدٌ رُوي أن اليهودَ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألستَ تعلم أن يعقوبَ أوصى باليهودية يوم مات فنزلت

(1/164)


أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)

{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت} أم منقطعة مقدرة ببل والهمزة والخطابُ لأهل الكتاب الراغبين عن ملة إبراهيمَ وشهداءَ جمع شهيد أو شاهد بمعنى الحاضر وإذ ظرفٌ لشهداءَ والمرادُ بحضور الموت حضورُ أسبابه وتقديمُ يعقوبَ عليه السلام للاهتمام به إذ المراد كيفية وصيته لبنيه بعد ما بين ذلك إجمالاً ومعنى بل الإضرابُ والانتقال عن توبيخهم على رغبتهم عن ملة إبراهيمَ عليه السلام إلى توبيخهم على افترائهم على يعقوبَ عليه السلام باليهودية حسبما حُكي عنهم وأما تعميمُ الافتراء ههنا لسائر الأنبياءِ عليهم السَّلامُ كما قيل فيأباه تخصيصُ يعقوبَ بالذكر وما سيأتي من قولهِ عزَّ وجلَّ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إبراهيم الخ ومعنى الهمزة إنكارُ وقوع الشهود عند اختصاره عليه السلام وتبكيهم وقولُه تعالى
{إِذْ قَالَ} بدلٌ من إذ حَضَر أي ما كنتم حاضرين عند احتضارِه عليه السلام وقولِه
{لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ من بعدي} أبي أي شئ تعبدُونه بعد موتي فمن أين لكم أن تدّعوا عليه السلام ما تدّعون رجماً بالغيب وعند هذا تم التوبيخُ والإنكار والتبكيتُ ثم بَيّن أنَّ الأمرَ قد جرى حينئذ على خلاف ما زعموا وأنه عليه السلام أراد بسؤاله ذلك تقريرَ بنيه على التوحيد والإسلامِ وأخذَ ميثاقِهم على الثبات عليهما إذ به يتِمُّ وصيّتُه بقوله فلا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون وما يُسأل به عن كل شئ ما لم يُعرَّفْ فإذا عرف خص العقلاء بمَنْ إذا سئل عن شئ بعينه وإنْ سُئل عن وصفِه قيل ما زيدٌ أفقيهٌ أم طبيبٌ فقوله تعالى
{قَالُواْ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ عن حكاية سؤال يعقوبَ عليه السلام كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قالوا
{نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} حسبما كان مرادُ أبيهم بالسؤال أي نعبدُ الإله المتفَّقَ على وجوده وإلهيته ووجوبِ عبادته وعَدُّ إسمعيل من آبائه تغليباً للأب والجد لقوله عليه الصلاة والسلام عمُ الرجل صِنْوُ أبيه وقولِه عليه السلام في العباس هذا بقيةُ آبائي وقرىء وقرئ أبيك على أنه جمع بالواو والنون كما في قوله ... فلما تَبَيَّنَّ أصواتَنا ... بكَيْنَ وفَدَّيْننا بالأبينا ...
وقد سقطت النون بالإضافة أو مفردٌ وإبراهيمُ عطفُ بيانٍ له وإسمعيل وإسحق معطوفان على أبيك
{إلها واحدا} بدل من إله آبائك كقوله تعالى بالناصية نَاصِيَةٍ كاذبة وفائدته التصريحُ بالتوحيد ودفع التوهم الناشئ من تكرير المضافِ لتعذر العطفِ على المجرور أو نصب

(1/164)


البقرة (135 - 134)
على الاختصاص
{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} حال من فاعل نعبدُ أو من مفعوله أومنهما معاً ويُحتمل أن يكون اعتراضاً محقّقاً لمضمون ما سبق

(1/165)


تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)

{تِلْكَ أُمَّةٌ} مبتدأٌ وخبرٌ والإشارةُ إلى إبراهيمَ ويعقوبَ وبَنِيهما الموحِّدين والأمةُ هي الجماعة التي تؤمّها فِرقُ الناس أي يقصدونها ويقتدون بها
{قَدْ خَلَتْ} صفة للخبر أي مضت بالموت وانفردت عمن عداها وأصلُه صارت إلى الخلاء وهي الأرضُ التي لا أنيس بها
{لَهَا مَا كَسَبَتْ} جملةٌ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب أو صفة أخرى لأمة أوحال من الضمير في خلت وما موصولةٌ أو موصوفةٌ والعائدُ إليها محذوف أي لها ما كسبَتْه من الأعمال لصالحة المحكية لاتتخطاها إلى غيرها فإن تقديمَ المُسندِ يوجب قصْرَ المُسند إليه كما هو المشهور
{وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم} عطف على نظيرتها على الوجه الأول وجملةٌ مبتدأة على الوجهين الأخيرين إذ لا رابطَ فيها ولا بد منه في الصفة ولا مقارنة في الزمان ولابد منها في الحال أي لكم ما كسبتموه لا ما كسبه غيرُكم فإن تقديمَ المسند قد يُقصد به قصرُه على المسند إليه كما قيل في قوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ أي ولي دينى لادينكم وحملُ الجملة الأولى على هذا القصر على معنى أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا كما قيل مما لا يساعده المقام إذ لا يتوهم متوهِّم انتفاعَهم بكسب هؤلاء حتى يُحتاج إلى بيان امتناعِه وإنما الذي يُتوهم انتفاعُ هؤلاء بكسبهم فبين امتناعَه بأن أعمالَهم الصالحة مخصوصة بهم لاتتخطاهم إلى غيرهم وليس لهؤلاء إلا ما كسبوا فلا ينفعُهم انتسابُهم إليهم وإنما ينفعهم اتباعُهم لهم في الأعمال كما قال عليه السلام يا بني هاشم لا يأتيني الناسُ بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم
{ولا تسألون عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} إن أجريَ السؤالُ على ظاهره فالجملة مقررة لمضمون ما مرَّ من الجملتين تقريراً ظاهراً وأن أريد به مسببه أعني الجزاءَ فهو تتميمٌ لما سبق جارٍ مَجرى النتيجةِ له وأيا ما كان فالمرادُ تخييبُ المخاطَبين وقطعُ أطماعِهم الفارغةِ عن الانتفاع بحسناتِ الأمةِ الخاليةِ وإنما أُطلق العملُ لإثبات الحكم بالطريقِ البرهاني في ضمن قاعدة كليةٍ هذا وقد جعل السؤال عبارةً عن المؤاخذة والموصول عن السيئات فقيل أي لا تؤاخَذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم ولا ريب في أنه مما لا يليق بشأن التنزيلِ كيف لاوهم منزّهون من كسب السيئاتِ فمن أين يُتصوَّر تحميلُها على غيرهم حتى يُتصَدَّى لبيان انتفاعِه

(1/165)


وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

{وَقَالُواْ} شروعٌ في بيان فنٍ آخرَ من فنون كفرِهم وهو إضلالُهم لغيرهم إثرَ بيانِ ضلالِهم في أنفسهم والضمير لأهل الكتابين على طريقة الالتفاتِ المُؤْذن باستيجاب حالِهم لإبعادهم من مقام المخاطبةِ والإعراضِ عنهم وتعديدِ جناياتهم عند غيرهم قالوا للمؤمنين
{كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى} ليس هذا القول مقولا لكلهم أولاى طائفةٍ كانت من الطائفتين بل هو موزَّعٌ عليهما على وجه خاصَ يقتضيه حالُهما اقتضاءً مُغنياً عن التصريح به أي قالت اليهودُ كونوا هوداً والنصارى كونوا نصارى ففَعل بالنظم الكريم ما فَعل بقوله تعالى وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنةَ إلاَّ من كان هُودًا أَوْ نصارى اعتماداً على ظهور المرام
{تهتدوا} جواب

(1/165)


البقرة (136)
للأمر أي إن تكونوا كذلك
{قل} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي قل لهم على سبيل الردِّ عليهم وبيانِ ما هو الحقُّ لديهم وإرشادِهم إليه
{بَلْ مِلَّةَ إبراهيم} أي لا نكون كما تقولون بل نكون أهلَ ملتِه عليه السلام وقيل بل نتبعُ مِلّته عليه السلام وقد جُوِّز أن يكون المعنى بل اتَّبعوا أنتم ملَّتَه عليه السلام أو كونوا أهلَ ملته وقرئ بالرفع أي بل ملتُنا أو أمرُنا مِلّتَه أو نحن مِلَّتُه أي أهلُ ملتِه
{حَنِيفاً} أي مائلاً عن الباطل إلى الحق وهو حالٌ من المضاف إليه كما في رأيتُ وجهَ هندٍ قائمةً أو المضافِ كما في قوله تعالى وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا الخ
{وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} تعريضٌ بهم وإيذانٌ ببُطلان دعواهم اتباعَه عليه السلام مع إشراكهم بقولهم عزيرٌ ابنُ الله والمسيحُ ابن الله

(1/166)


قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

{قُولُواْ} خطابٌ للمؤمنين بعد خِطابه عليه السلام بردِّ مقالتِهم الشنعاءِ على الإجمال وإرشادٌ لهم إلى طريق التوحيد والإيمان على ضربٍ من التفصيل أي قولوا لهم بمقابلة ما قالوا تحقيقا وارشاد ضمنياً لهم إليه
{آمنَّا بالله وما أنزل إلينا} يعني القرآن قُدِّم على سائر الكتب الإلهية مع تأخرُّه عنها نزولاً لاختصاصِه بنا وكونِه سبباً للإيمان بها
{وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والاسباط} الصُحُف وإن كانت نازلةً إلى إبراهيم عليه السلام لكن من بعده حيث كانوا متعبَّدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامِها جُعلت منزلة إليهم كما جعل القرآنُ منزلاً إلينا والأسباطُ جمع سبط وهو الحافد والمراد بهم حفدة يعقوبَ عليه السلام أَوْ أبناؤه الا ثنا عشر وذراريهم فإنهم حفدة ابراهيم واسحق
{وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى} من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الباهرة الظاهرة بأيديهما حسبما فُصّل في التنزيل الجليل وإيرادُ الإيتاء لما أشير إليه من التعميم وتخصيصُهما بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى
{وَمَا أُوتِيَ النبيون} أي جملةُ المذكورين وغيرُهم
{مّن رَّبّهِمُ} من الآيات البيناتِ والمعجزاتِ الباهراتِ
{لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} كدأب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض وإنما اعتبروا عدمُ التفريق بينهم مع أن الكلامَ فيما أوتوه لاستلزام عدم التفريق بينهم بالتصديق والتكذيب لعدم التفريقِ بين ما أوُتوه وهمزةُ أحدٍ إما أصلية فهو اسم موضوع لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المفردُ والمثنى والمجموعُ والمذكرُ والمؤنث ولذلك صح دخولُ بين عليه كما في مثل المال بين الناس ومنه ما في قوله صلى الله عليه وسلم ما أُحِلَّتِ الغنائمُ لأحدٍ سود الرءوس غيرِكم حيثُ وصف بالجمع وإما مبدلة من الواو فهو بمعنى واحد وعمومُه لوقوعه في حيز النفي وصحة دخول بين عليه باعتبار معطوفٍ قد حُذف لظهوره أي بين أحدٍ منهم وبين غيره كما في قول النَّابغةِ ... فمَا كانَ بين الخير لوجاء سالما ... أبُو حَجَرٍ إلاَّ ليالٍ قلائلُ ...
أي بين الخيرِ وبينِي وفيه من الدلالة صريحاً على تحقق عدم التفريق بين كل فردٍ فرد منهم وبين من عداه كائنا من كان ما ليس في أن يقال لا نفرِّق بينهم والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في آمنا وقوله عز وجل
{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي مخلصون له ومُذعنون حالٌ أُخرى منْهُ أو عطفٌ على آمنا

(1/166)


البقرة (137)

(1/167)


فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

{فإن آمنوا} الفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ما تقدم من إيمانِ المخاطَبين على الوجه المحرَّرِ مَظِنَّةٌ لإيمان أهلِ الكتابين لما أنه مشتملٌ على ما هو مقبولٌ عندهم
{بمثل ما آمنتم بِهِ} أي بما آمنتم به على الوجهِ الذي فُصل على أن المِثْلَ مُقحَمٌ كما في قوله تعالى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسرائيل على مِثْلِهِ أي عليه ويعضُده قراءةُ ابنِ مسعود بما آمنتم به وقراءة أُبيّ بالذي آمنتم به ويجوزُ أن تكون الباء للاستعانة على أن المؤمَنَ به محذوف لظهوره بمرووه آنفاً أو على أن الفعلَ مُجرىً مجرى اللازمِ أي فإن آمنوا بما مر مفصلاً أو فإنْ فعلوا الإيمانَ بشهادةٍ مثلِ شهادتكم وأن تكون الأولى زائدةً والثانية صلةً لآمنتم وما مصدرية أي فإن آمنوا إيماناً مثلَ إيمانِكم بما ذُكر مفصَّلاً وأن تكون للملابسة أي فإن آمنوا ملتبسين بمثل ما آمنتم ملتبسين به أو فإن آمنوا إيمانا ملتبسا بمثل ما آمنتم إيماناً ملتبساً به من الإذعان والإخلاص وعدم التفريق بين الأنبياءِ عليهم السلام فإن ما وُجد فيهم وصدَر عنهم من الشهادة والإذعان وغير ذلك مثلُ ما للمؤمنين لاعينة بخلاف المؤمَنِ به فإنه لا يُتصوَّرُ فيه التعدّد
{فَقَدِ اهتدوا} إلى الحق وأصابوه كما اهتديتم وحصل بينكم الاتحادُ والاتفاق وأما ما قيل من أن المعنى فإن تحرَّوُا الإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثلِ طريقِكم فقد اهتدوا فإن وَحدَة المقصِد لا تأبي تعدد الطريق فيأباه أن مقام تعيين طريق الحقِّ وإرشادُهم إليه بعينه لا يلائم تجويزَ أن يكون له طريقٌ آخرُ وراءه
{وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا عن الإيمان على الوجه المذكور بأن أخلّوا بشئ من ذلك كأن آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض كما هو دينُهم ودَيْدَنُهم
{فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ} المُشاقّة والشِقاقُ من الشِق كالمخالفة والخِلاف من الخُلف والمعاداة والعداء من العدوة أي الجانب فإن أحدَ المخالِفين يُعرِض عن الآخر صورةً أو معنى ويُولِيه خَلفَه ويأخُذُ في شِقٍ غيرِ شِقّه وعَدْوةٍ غيرِ عَدْوَتِه والتنوينُ للتفخيم أي هم مستقرون في خلاف عظيمٍ بعيدٍ من الحق وهذا لدفع ما يُتوهم من احتمال الوِفاق بسبب إيمانِهم ببعضِ ما آمن به المؤمنونَ والجملةُ إما جوابُ الشرط كما هي على أن المرادَ مُشاقّتُهم الحادثةُ بعد توليتهم عن الإيمان كجزاب الشرطية الأولى وإنما أُوثرت الجملة الاسمية لدلالة على ثباتِهم واستقرارِهم في ذلك وإما بتأويل فاعلَموا إنما هم في شقاق هَذَا هُو الذي يستدعيه فخامة شان التنزيلِ الجليل وقد قيلَ قولُه تعالى فإن آمنوا الخ من باب التعجيز والتبكيتِ على منهاج قولِه تعالى فَأْتُواْ بِسُورَةٍ من مّثْلِهِ والمعنى فإن حصّلوا ديناً آخرَ مثل دينِكم مماثلاً له في الصِحة والسَّداد فقد اهتَدوا وإذ لا إمكانَ له فلا إمكانَ لاهتدائهم ولا ريب في أنه مما لا يليق بحمل النظمِ الكريم عليه ولمّا دل تنكيرُ الشِقاق على امتناعِ الوفاقِ وأن ذلك مما يؤدي إلى الجدال والقتالِ لا محالة عقَّب ذلك بتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفريحِ المؤمنين بوعد النصر والغلبة وضمان التأييد والإعزاز وعبّر بالسين الدالةِ على تحقق الوقوعِ اْلبتَةَ فقيل
{فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} أي سيكفيك شِقاقَهم فإن الكفاية لا تتعلق بالأعيان بل بالأفعال وقد أنجز عز وجل وعدَه الكريمِ بقتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بنى

(1/167)


البقرة (139 - 138)
النضير وتلوينُ الخطاب بتجريده للنبي صلى الله عليه وسلم مع أن ذلك كفايةٌ منه سبحانه للكلِّ لما أنه الأصلُ والعُمدة في ذلك وللإيذانِ بأن القيامَ بأمورِ الحروب وتحمُّلَ المُؤَن والمشاقِّ ومقاساةَ الشدائد في مناهضة الأعداد من وظائف الرؤساء فنعمته تعالى في الكفاية والنصر في حقه عليه السلام أتم وأكملُ
{وَهُوَ السميع العليم} تذييلٌ لما سبق من الوعد وتأكيدٌ له والمعنى أنه تعالى يسمع ما تدعون به ويعلم ما في نِيَّتك من إظهار الدينِ فيستجيب لك ويوصلك إلى مرادك أو وعيد للكفرة أي يسمع ما ينطِقون به ويعلم ما يضمرونه في قلوبهم مما لا خير فيه وهو معاقبهم عليه ولا يَخْفى ما فيهِ من تأكيد الوعد السابقِ فإن وعيدَ الكفرة وعد للمؤمنين

(1/168)


صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)

{صِبْغَةَ الله} الصِّبغة من الصِّبْغ كالجلسة من الجلوس وهي الحالة التي يقع عليها الصَّبْغُ عبر بها عن الإيمان بما ذكر على الوجه الذي فصل لكونه تطهيراً للمؤمنين من أوضار الكفر وحليةً تُزَيِّنُهم بآثاره الجميلة ومتداخِلاً في قلوبهم كما أن شأن الصَّبْغ بالنسبة إلى الثوب كذلك وقيل للمشاركة التقديرية فإن النصارى كانوا يغمِسون أولادَهم في ماء أصفرَ يسمونه المعمودية ويزعُمون أنه تطهيرٌ لهم وبه يحق نصرانيتهم وإضافته إلى الله عزَّ وجلَّ مع استناده فيما سلف إلى ضمير المتكلمين للتشريفِ والإيذانِ بأنها عطية منه سبحانه لا يستقِلُّ العبدُ بتحصيلها فهى إذن مؤكد لقوله تعالى آمنا داخلٌ معه في حيزِ قولوا منتصبٌ عنه انتصابَ وعد الله عما تقدمه لكونه بمثابة فعلِه كأنه قيل صبغة الله صِبغةً وقيل هي منصوبةٌ بفعل الإغراء أي الزموا صبغةَ الله وإنما وسط بينهما الشرطيتانوما بعدهما اعتناءً ببيان أنه الإيمانُ الحقُّ وبه الاهتداءُ ومسارعة إلى تسليتِه عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله} مبتدأ أو خبر والإستفهام للإنكار والنفي وقولُه تعالى
{صبغة} نصب على تمييز من أحسنُ منقولٌ من المبتدأ والتقديرُ ومن صبغتُه أحسنُ من صبغته تعالى فالتفضيلُ جارٍ بين الصِّبغتين لابين فاعليهما أي لا صبغةَ أحسنُ من صبغته تعالى على معنى أنها أحسنُ من كل صبغة على ما أشيرَ إليهِ في قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ الخ وحيث كان مدارُ التفضيل على تعميم الحسن الحقيقي والفَرَضي المبني على زعم الكفرة لم يلزم منه أن يكون في صبغة غيرِه تعالى حُسْنٌ في الجملة والجملةُ اعتراضية مقرِّرة لما في صبغة الله من معنى التبجّح والابتهاج
{وَنَحْنُ لَهُ} أي لله الذي أولانا تلك النعمةَ الجليلةَ
{عابدون} شكراً لها ولسائر نعمة وتقدير الظرف للاهتمام ورعايةِ الفواصل وهو عطفٌ على آمنا داخلٌ معه تحت الأمرِ وإيثارُ الاسميةِ للإشعار بدوام العبادةِ أو على فعل الإغراء بتقدير القول أي الزمَوا صِبغة الله وقولوا نحن له عابدون فقوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً حينئذ يجري مَجرى التعليل للإغراء

(1/168)


قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} تجريدُ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم عقيب الكلام الداخلِ تحت الأمر الواردِ بالخطاب العام لما أن المأمورَ به من الوظائف الخاصةِ به عليه الصلاة والسلام وقرئ بإدغام النونِ والهمزةُ للإنكار أي أتجادلوننا
{فِى الله} أي في دينه وتدّعون أن دينَه الحقَّ هو اليهودية

(1/168)


البقرة (140)
والنصراينة وتبنون دخولَ الجنة والاهتداءَ عليهما وتقولون تارة لنْ يدخلَ الجنةَ إلاَّ من كان هودا أو نصارى وتارة كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا
{وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} جملة حالية وكذلك ما عطف عليها أي أتجادلوننا والحالُ أنه لا وجه للمجادلة أصلاً لأنه تعالى ربُنا أي مالكُ أمرنا وأمرِكم
{وَلَنَا أعمالنا} الحسنةُ الموافقةُ لأمره
{وَلَكُمْ أعمالكم} السيئةُ المخالفة لحُكمه
{وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} في تلك الأعمال لا نبتغي بها إلا وجهَه فأنّى لكم المُحاجّةُ وادعاء حقية ما أنتم عليه والطمعِ في دخول الجنة بسببه ودعوةِ الناس إليه وكلمةُ أم في قوله تعالى

(1/169)


أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)

{أَمْ تَقُولُونَ} إما معادلة للهمزة في قوله تعالى أَتُحَاجُّونَنَا داخلةٌ في حيز الأمر على معنى أيَّ الأمرين تأتون إقامةَ الحجة وتنويرَ البرهان على حقية ما أنتم عليه والحال ما ذكر أم التشبّثَ بذيل التقليد والافتراءِ على الأنبياء وتقولون
{إِنَّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط كَانُواْ هُودًا أَوْ نصارى} فنحن بهم مقتدون والمرادُ إنكارُ كِلا الأمرين والتوبيخُ عليهما وإما منقطعةٌ مقدرةٌ ببل والهمزة دالةٌ على الإضرابُ والانتقال من التوبيخ على المُحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياءِ عليهم السلامُ وقرئ أم يقولون على صيغة الغَيْبة فهي منقطعةٌ لا غير غيرُ داخلةٍ تحتَ الأمرِ واردةٌ من جهته تعالى توبيخاً لهم وإنكاراً عليهم لا من جهته عليه السلام على نهج الالتفات كما قيل هذا وأما ماقيل من أن المعنى أتحاجوننا في شأن الله واصطفائِه نبياً من العرب دونكم لما رُوي أن أهلَ الكتاب قالوا الأنبياءُ كلُهم منا فلو كنت نبياً لكنت منا فنزلت ومعنى قوله تعالى {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم} أنه لا اختصاصَ له تعالى بقوم دون قومٍ يصيب برحمته من يشآء من عباده فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا كما أكرمَكم بأعمالكم كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحونه إفحاماً وتبكيتاً فإن كرامة البنوة إما تفضلٌ من الله تعالَى على من يشاء فالكل فيه سواء وإما إفاضةُ حقَ على المستحقين لها بالمواظبة على الطاعة والتجلى بالإخلاص فكما أن لكم أعمالاً ربما يعتبرها الله تعالى في إعطائها فلنا أيضاً أعمالٌ ونحن له مخلصون أي لا أنتم فمَعَ عدم ملاءمتِه لسياق النظم الكريم وسياقه لاسيما على تقدير كونِ كلمةِ أم معادلةً للهمزة غيرُ صحيح في نفسه لما أن المرادَ بالأعمال من الطرفين ما أشيرَ إليهِ من الأعمال الصالحة والسيئة ولا ريب في أن أمرَ الصلاحِ والسوءِ يدورُ على موافقة الدين المبنيِّ على البعثة ومخالفته فكيف يتصور اعتبارُ تلك الأعمال في استحقاق النبوة واستعدادِها المتقدم على البعثة بمراتِبَ
{قل أأنتم أَعْلَمُ أَمِ الله} إعادةُ الأمر ليست لمجرد تأكيدِ التوبيخِ وتشديدِ الإنكار عليهم بل للإيذان بأن ما بعده ليس متصلاً بما قبله بل بينهما كلامٌ للمخاطبين مترتب على ما سبق مستتبِعٌ لما لحق قد ضُرب عنه الذكرُ صفحاً لظهوره وهو تصريحُهم بما وُبِّخوا عليه من الافتراء على الأنبياءِ عليهم السلامُ كما في قوله عز وجل قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون وقولِه عز قائلاً قال أأسجد لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أرأيتك هذا الذى كَرَّمْتَ عَلَىَّ فإن تكريرَ قال في الموضعين وتوسيطَه بين قولي قائل واحد

(1/169)


البقرة (142 - 141)
للإيذان بأن بينهما كلاماً لصاحبه متعلقاً بالأول والثاني بالتبعية والاستتباع كما حُرر في محله أي كذِبُهم في ذلك وبكتهم قائلاً إن الله يعلم وأنتم لاتعلمون وقد نَفَى عن إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ كلا الأمرين حيث قال مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا واحتُج عليه بقوله تعالى وَمَا أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ وهؤلاء المعطوفون عليه عليه السلام أتباعُه في الدين وِفاقاً فكيف تقولون ما تقولون سبحان الله عما تصفون
{وَمَنْ أَظْلَمُ} إنكار لأن يكون أحدٌ أظلمَ
{مِمَّنْ كَتَمَ شهادة} ثابتة
{عِندَهُ} كائنة
{مِنَ الله} وهي شهادتُه تعالى له عليه السَّلامُ بالحنيفية والبراءةِ من اليهودية والنصرانية حسبما تلى آنفاً فعنده صفةٌ لشهادة وكذا من الله جيء بهما لتعليل الإنكار وتأكيدِه فإن ثبوتَ الشهادةِ عنده وكونَها من جناب الله عزَّ وجلَّ من أقوى الدواعي إلى إقامتها وأشدِّ الزواجر عن كِتمانها وتقديمُ الأول مع أنه متأخرٌ في الوجود لمراعاة طريقةِ الترقي من الأدنى إلى الأعلى والمعنى أنه لا أحدَ أظلمُ من أهل الكتاب حيث كتموا هذه الشهادةَ وأثبتوا نقيضَها بما ذُكر من الافتراء وتعليقُ الأظلمية بمُطلق الكِتمان للإيماء إلى أن مرتبةَ مَنْ يردُّها ويشهد بخلافها في الظلم خارجةٌ عن دائرة البيان أولا أحدَ أظلمُ منا لو كتمناها فالمرادُ بكتمها عدمُ إقامتها في مقامِ المُحاجة وفيه تعريضٌ بغاية أظلمية أهلِ الكتابِ على نحو ما أشير إليه وفي إطلاق الشهادة مع أن المرادَ بها ما ذكر من الشهادة المعنية تعريض بكتمانهم شهادة الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل
{وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} من فنون السيئاتِ فيدخُل فيها كتمانُهم لشهادته سبحانه وافتراؤهم على الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسلام دُخولاً أولياً أي هو محيطٌ بجميعِ ما تأتونَ وما تذرونَ فيعاقبُكم بذلك أشد عقاب وقرئ عما يعملون على صيغة الغَيْبة فالضميرُ إما لمن كَتَم باعتبار المعنى وإما لأهلِ الكتاب وقولُه تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ إلى آخر الآية مسوقٌ من جهتِه تعالَى لوصفهم بغاية الظلمِ وتهديدِهم بالوعيد

(1/170)


تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم ما كسبتم ولا تسألون عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تكريرٌ للمبالغة في الزجرُ عمَّا هُم عليهِ من الافتخارِ بالآباء والاتكالِ على أعمالهم وقيل الخطابُ السابق لهم وهذا لنا تحذيرٌ عن الاقتداء بهم وقيل المرادُ بالأُمة الأولى الأنبياءُ عليهم السلام وبالثانيةِ أسلافُ اليهود

(1/170)


سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)

{سَيَقُولُ السفهاء} أي الذين خفّت أحلامُهم واستمهنوها بالتقليد والإعراضِ عن التدبر والنظرِ من قولهم ثوبٌ سفيهٌ إذا كان خفيفَ النسج وقيل السفيهُ البهّاتُ الكذابُ المتعمدُ خلافَ ما يَعلم وقيل الظلومُ الجهولُ والمراد بالسفهاء هم اليهودُ على ما رُوي عن ابنُ عباس ومجاهدٌ رضي الله عنهم قالوه إنكاراً للنسخ وكراهةً للتحويل حيث كانوا يأنَسون بموافقته عليه الصلاة والسلام لهم في القبلة وقيل هم المنافقون وهو الأنسب بقوله عز وعلا أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاءُ وإنما قالوه لمجرد الاستهزاء والطعن لا لاعتقادهم حقية القِبلة الأولى وبُطلان الثانية إذ ليس

(1/170)


البقرة (143)
كلُّهم من اليهود وقيل هم المشركون ولم يقولوه كراهة للتحويل إلى مكةَ بل طعناً في الدين فإنهم كانوا يقولون رغِبَ عن قِبلة آبائه ثم رجع ولَيَرْجِعَنّ إلى دينهم أيضاً وقيل هم القادحون في التحويل منهم جميعاً فيكون قوله تعالى
{مِنَ الناس} أي الكفرةِ لبيانِ أن ذلك القول المَحْكيِّ لم يصدُر عن كل فردٍ فردٍ من تلك الطوائف الثلاث بل عن اشيقائهم المعتادين للخوض في فنون الفساد وهو الأظهر إذ لو أريد بهم طائفة مخصوصة منهم لما كان لبيان كونِهم من الناس مزيدُ فائدة وتخصيصُ سفهائهم بالذكر لا يقتضي تسليمَ الباقين للتحويل وارتضاءَهم إياه بل عدم التفوه بالقدح مطلقاً أو بالعبارة المحكية
{مَا ولاهم} أي أيُّ شئ صرفهم والاستفهامُ للإنكار والنفي
{عَن قِبْلَتِهِمُ} القبلة فِعلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة وهي الحال التي يقابل الشئ غيرَه عليها كالجِلسة للحالة التي يقع عليها الجلوسُ يقال لا قِبلة له ولا دِبْرَةَ إذا لم يهتدِ لجهة أمرِه غلَبت على الجهة التي يستقبلها الإنسانُ في الصلاة والمراد بها ههنا بيتُ المقدس وإضافتُها إلى ضمير المسلمين ووصفُها بقوله تعالى
{التى كَانُواْ عَلَيْهَا} أي ثابتين مستمرين على التوجه إليها ومراعاتها واعتقاد حقيقتها لتأكيد الإنكار فإن الاختصاصَ بالشئ والاستمرارَ عليه باعتقاد حقّيتِه مما ينافي الانصرافَ عنه فإن أريد بالقائلين اليهودُ فمدَارُ الإنكارِ كراهتُهم للتحويل عنها وزعمُهم أنه خطأ وإن أريد بهم المشركون فمدارُه مجردُ القصدِ إلى الطعن في الدين والقدحِ في أحكامه وإظهارُ أن كلاً من التوجه إليها والانصرافِ عنها واقعٌ بغير داعٍ إليه لا لكراهتهم الانصرافَ عنها أو التوجهَ إلى مكةَ وتعليقُ الإنكار بما يولّيهم عنها لا بما يوجههم الى غيرهما مع تلازمها في الوجود لما أن تركَ الدين القديمِ أبعدُ عند العقول وإنكارُ سببه أدخلُ لا للإيذان بأن المنكِرين هم اليهودُ بناءً على أن المنكرَ عندهم هو التحويلُ عن خصوصية بيتِ المقدس الذي هو القِبلة الحقَّةُ عندهم لا التوجهُ إلى خصوصية قبلةٍ أخرى أو هم المشركون بناءً على أن المنكرَ عندهم تركُ القبلة القديمةِ على وجه الطعن والقدحِ لا التوجهُ إلى الكعبة لأنه الحقُّ عندهم فإنَّه بمعزلٍ عن ذلك كيف لا والمنافقون من أحد الفريقين لا محالة والإخبارُ بذلك قبل الوقوعِ مع كونه من دلائل النبوة حيث وقع كما أُخبر لتوطين النفوس وإعدادِ ما يُبَكّتُهم فإن مفاجأةَ المكروهِ على النفس أشقُّ وأشدُّ والجوابُ العتيد لشغَب الخصمِ الألدِّ ارد وقوله عز وجل
{قُل لّلَّهِ المشرق والمغرب} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنه قيل فماذا أقول عند ذلك فقيل قل الخ أي لله تعالى ناحيتا الأرضِ أي الجهاتُ كلها ملكا وملكا وتصرفاً فلا اختصاصَ لناحيةٍ منها لذاتها بكونها قبلةً بدون ما عداها بل إنما هو بأمر الله سبحانه ومشيئتِه
{يَهْدِى مَن يَشَآء} أنْ يهديَه مشيئةٌ تابعةٌ للحِكَم الخفية التي لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ
{إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصلٍ إلى سعادة الدارين وقد هدانا إلى ذلك حيث أمرنا بالتوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى حسبَما تقتضيهِ مشيئتُه المقارِنة لحِكَم أبيّةٍ ومصالِحَ خفية

(1/171)


وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)

{وكذلك جعلناكم} توجيه للخطاب إلى المؤمنين

(1/171)


بين الخطابين المختصين بالرسول صلى الله عليه وسلم لتأييد ما في مضمون الكلامِ من التشريف وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ جعلناكم لا إلى جعل آخرَ مفهوم مما سبق كما قيل وتوحيدُ الكاف مع القصد إلى المؤمنين لِما أن المرادَ مجردُ الفَرْق بين الحاضرِ والمنقضِي دون تعيين المخاطبين وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الفضل وكمال تميزه وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهَدة والكافُ لتأكيدِ ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلُها في الأصلِ النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصل التقدير جعلناكم أمة وسَطاً جَعْلاً كائناً مثل ذلك الجعلِ فقُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً للنكتة المذكورة فصار نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتاً له أي ذلك الجعلَ البديعَ جعلناكم
{أُمَّةً وَسَطًا} لا جعلاً آخرَ أدنى منه والوسَطُ في الأصل اسمٌ لما يستوي نِسبةُ الجوانبِ إليه كمركز الدائرة ثم استُعير للخصال المحمودةِ البشرية لكن لا لأن الأطرافَ يتسارع إليها الخللُ والإعوازُ والأوساطُ محميّةٌ مَحوطَةٌ كما قيل واستُشهد عليه بقول ابن أوسٍ الطائي ... كانت هي الوسَطَ المَحْمِيَّ فاكتَنَفَت ... بها الحوادثُ حتى أصبحت طَرَفا ...
فإن تلك العلاقةَ بمعزل من الاعتبار في هذا المقام إذ لا ملابَسةَ بينها وبين أهليةِ الشهادة التي جُعلت غايةً للجعل المذكور بل لكون تلك الخصالِ أوساطاً للخصال الذميمةِ المكتنفة بها من طرفي الإفراطِ والتفريطِ كالعِفة التي طرفاها الفجورُ والخمودُ وكالشجاعة التي طرفاها الظهور والجُبن وكالحِكمة التي طرفاها الجربزة والبَلادةُ وكالعدالة التي هي كيفية متشابهةٌ حاصلةٌ من اجتماع تلك الأوساط المحفوفة بأطرافها ثم أطلقَ على المتصِّف بها مبالغةً كأنه نفسُها وسُوّي فيه بين المفرد والجمعِ والمذكرِ والمؤنث رعايةً لجانب الأصلِ كدأب سائر الأسماءِ التي يوصف بها وقد روُعيت ههنا نُكتةٌ رائقةٌ هي أن الجعلَ المشارَ إليه عبارةٌ عما تقدم ذكرُه من هدايته تعالى إلى الحق الذي عبَّر عنه بالصراط المستقيم الذي هو الطريقُ السويُ الواقعُ في وسط الطرُق الجائرةِ عن القصد الى الجوانب فإنا إذا فرضنا خطوطاً كثيرةً واصلةً بين نُقطتين متقابلتين فالخطُ المستقيم إنما هو الخطُ الواقعُ في وسط تلك الخطوطِ المنحنية ومن ضرورة كونِه وسطاً بين الطرُق الجائرةِ كونُ الأمةِ المَهْديّة إليه أمةً وسطاً بين الأمم السالكة إلى تلك الطرق الزائغة أي متصفةً بالخصال الحميدةِ خياراً وعدُولاً مُزَكَّيْنَ بالعلم والعمل
{لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس} بان الله عز وجل قد أوضح السبُل وأرسل الرُسل فبلّغوا ونصَحوا وذكّروا فهل من مُدَكِّرٍ وهي غاية للجعل المذكور مترتبةٌ عليه فإن العدالة كما أشير إليه حيث كانت هي الكيفيةُ المتشابهةُ المتألّفةُ من العفة التي هي فضيلةُ القوة الشَّهْوية البهيمية والشجاعة التي هي فضيلةُ القوةِ الغضبيةِ السَّبُعية والحكمة التي هي فضيلةُ القوةِ العقلية المَلَكية المشارِ إلى رتبتها بقوله عز وعلا وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا كان المتّصِفُ بها واقفاً على الحقائقِ المودَعةِ في الكتاب المبين المنطوي على أحكام الدين وأحوالِ الأممِ أجمعين حاويا لشرائط الشهادةَ عليهم رُوي أن الأممَ يوم القيامة يجحدون تبليغَ الأنبياءِ عليهم السلام فيطالبهم الله تعالى بالبينة وهو أعلم إقامةً للحجة على المنكرين وزيادةً لخِزْيهم بأن كذَّبهم مَنْ بعدهم من الأمم فيؤتى بأمةِ محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم فيشهدون فيقول الأممُ من أين عرفتم فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله تعالَى في كتابِه الناطقِ على لسان نبيِّه الصادقِ فيؤتى عند ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم ويُسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قولُه عز قائلاً
{وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وكلمةُ

(1/172)


الاستعلاءِ لما في الشهيد من معنى الرقيب والمهيمِن وقيل لتكونوا شهداءَ على الناس في الدنيا فيما لا يُقبل فيه الشهادةُ إلا من العدول الأخيار وتقديم الظرف لدلالة على اختصاص شهادتِه عليه السلام بهم
{وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا} جرد الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم رمزاً إلى أن مضمونَ الكلام من الأسرار الحقيقةِ بأن يخص معرفته به عليه السلام وليس الموصولُ صفةً للقِبلة بل هو مفعولٌ ثانٍ للجعل وما قيل من أن الجعلَ تحويل الشئ من حالة إلى أخرى فالملتبسُ بالحالة الثانية هو المفعول الثاني كما في قولك جعلتُ الطينَ خَزَفاً فينبغي أن يكون المفعولُ الأول هو الموصولَ والثاني هو القبلة فكلام صناعي ينساق إليه الذهن بحسب النظرِ الجليلِ ولكنَّ التأملَ اللائقَ يهدي إلى العكس فإن المقصودَ إفادتُه ليس جعلَ الجهة قبلةً لا غيرُ كما يفيده ما ذُكر بل هو جعلُ القبلةِ المحققةِ الوجود هذه الجهةَ دون غيرِها والمرادُ بالموصولِ هي الكعبةُ فإنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان يصلي إليها أولاً ثم لما هاجرَ أُمِر بالصلاة إلى الصخرة تألّفاً لليهود أو هي الصخرةُ لِما روي عن ابن عباس رضيَ الله عنُهمَا مَنْ أن قِبلته عليه السلام بمكة كانت بيتَ المقدس إلا أنه كان يجعلُ الكعبةَ بينه وبينه وعلى هذه الرواية لا يمكن أن يرادَ بالقبلة الأولى الكعبةُ وأما الصخرةُ فيتأتى إرادتُها على الروايتين والمعنى على الأول وما جعلنا القِبلة الجهةَ التي كنت عليها آثر ذي أثير وهي الكعبة وعلى الثاني وما جعلناها التي كنت عليها قبل هذا الوقت وهي الصخرة
{إلا لنعلم} استثاء مفرغٌ من أعم العلل أي وما جعلنا ذلك لشئ من الأشياء إلا لنمتحنَ الناسَ أي نعاملهم معاملةَ من يمتحنُهم ونعلم حينئذ
{مَن يَتَّبِعُ الرسول} في التوجّه إلى مَا أُمر بهِ من الدين أو القبلة والالتفات إلى الغيبة مع إيراده عليه السلام بعنوان الرسالة للإشعار بعلة الاتباعِ
{مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ} يرتدُّ عن دين الإسلامِ أو لايتوجه إلى القِبلة الجديدة أو لنعلمَ الآن مَن يتبعُ الرسول مِمَّن لايتبعه وما كان لعارضٍ يزول بزواله وعلى الأول مارددناك إلى ما كنت عليه إلا لنعلم الثابتَ على الإسلام والناكصَ على عَقِبيه لقلقه وضعفِ إيمانِه والمرادُ بالعلم ما يدور عليه فلَكُ الجزاءِ من العلم الحالي أي ليتعلّق علمُنا به موجوداً بالفعلِ وقيل المرادُ علمُ الرسولِ عليه السلام والمؤمنين وإسنادُه إليه سبحانه لما أنهم خواصه وليتميز الثابت عن المتزلزل كقوله تعالى {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} فوضَع العلمَ موضِعَ التمييزِ الذي هو مسبَّبٌ عنه ويشهد له قراءةُ ليُعْلَمَ على بناء المجهول من صيغة الغَيبة والعلمُ إما بمعنى المعرفة أو متعلقٌ بما في مَنْ من معنى الاستفهام أو مفعوله الثاني ممن ينقلب الخ أي لِنَعْلَمَ مَن يتبعُ الرسولَ متميِّزاً مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ
{وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} أي شاقة ثقيلة وإنْ هيَ المخففةُ منَ الثقيلةِ دخَلتْ على ناسخ المبتدأ والخبر واللامُ هي الفارقةُ بينها وبين النافية كما في قوله تعالى إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً وزعم الكوفيون أنها نافيةٌ واللامُ بمعنى إلا أي ما كانت إلا كبيرة والضميرُ الذي هو اسم كان راجعٌ إلى ما دل عليه قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا من الجعلة أو التولية أو التحويلة أو الردة أوالقبلة وقرئ لكبيرةٌ بالرفعِ على أنَّ كانَ مزيدةٌ كما في قولِه ... وإخوانٍ لنا كانوا كرامِ ...
وأصله وإنْ هي لكبيرةٌ كقوله إن زيدٌ لمنطلقٌ
{إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} أي إلى سرِّ الأحكام الشرعية المبنيةِ على الحِكمَ والمصالحِ إجمالاً وتفصيلاً وهم المهديّون إلى الصراط المستقيم الثابتون على الإيمان واتباعِ الرسول عليه السلام
{وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم} أي ما صحَّ وما استقام له

(1/173)


البقرة (144)
أن يُضيعَ ثباتَكم على الإيمان بل شكرَ صنيعَكم وأعدَّ لكم الثوابَ العظيمَ وقيل أيمانَكم بالقِبلة المنسوخةِ وصلاتَكم إليها لما رُوي أنه عليه السلام لما توجّه إلى الكعبة قالوا كيف حالُ إخوانِنا الذين مضَوْا وهم يصلون إلي بيت المقدس فنزلت واللام في ليُضيعَ إما متعلقةٌ بالخبر المقدر لكان كما هو رأي البصرية وانتصاب الفعل بعدها بأن المقدرة أي ما كان الله مريداً أو متصدياً لأن يُضيعَ الخ ففي توجيه النفي إلى إادة الفعل تأكيدٌ ومبالغةٌ ليس في توجهه إلى نفسه وإما مزيدةٌ للتأكيد ناصبةٌ للفعل بنفسها كما هو رأيُ الكوفية ولا يقدحُ في ذلك زيادتُها كما لا يقدح زيادة حروف الجر في عملها وقوله تعالى
{إِنَّ الله بالناس لرؤوف رَّحِيمٌ} تحقيقٌ وتقريرٌ للحُكم وتعليلٌ له فإن اتصافَه عز وجل بهما يقتضي لا محالة أن لا يُضيعَ أجورَهم ولا يدَعَ ما فيه صلاحهم والباء متعلقة برءوف وتقديمُه على رحيم مع كونه أبلغَ منه لما مر في وجه تقديمِ الرحمن على الرحيم وقيل أكثرُ من الرأفة في الكمية والرأفةُ أقوى منها في الكيفية لأنها عبارة عن إيصال النعم الصافية عن الآلام والرحمةُ إيصالُ النعمة مطلقاً وقد يكون مع الألم كقطعِ العضوِ المتأكّل وقرئ رءوف بغير مد كندس

(1/174)


قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

{قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء} أي تردُّدَه وتصرُّفَ نظرِك في جهتها تطلعاً للوحي وذلكَ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يقع في رَوْعة ويتوقع من ربه عز وجل أن يحوله إلى الكعبة لأنها قِبلةُ إبراهيمَ وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتُهم ومزارُهم ومَطافُهم ولمخالفة اليهود فكان يُراعي نزولَ جبريلَ بالوحي بالتحويل
{فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً} الفاء للدلالة على سببية ما قبلَها لما بعدَها وهي في الحقيقة داخلةٌ على قسمٍ محذوف يدل عليه اللام أي فو الله لنولِّينَّك أي لنُعطِينَّكها ولنُمَكِّنَنَّك من استقبالها من قولك ولتيه كذا أي صيّرته والياً له أو لنَجْعَلَنك تلي جِهتَها أو لنُحَوِّلنَّك على أن نَصْبَ قبلةً بحذف الجار أي إلى قبلة وقيل هو متعدٍ إلى مفعولين
{تَرْضَاهَا} تحبها وتشتاق إليها لمقاصدَ دينيةٍ وافقتْ مشيئتَه تعالى وحِكْمتَه
{فَوَلّ وَجْهَكَ} الفاء لتفريع الأمرِ بالتولية على الوعد الكريمِ وتخصيصُ التوليةِ بالوجه لما أنه مدارُ التوجه ومعيارُه وقيل المرادُ به كلُّ البدنِ أي فاصرِفْه
{شَطْرَ المسجد الحرام} أي نحوَه وهو نصبٌ على الظرفية من ول أو على نزع الخافض أو على مفعول ثانٍ له وقيل الشطرُ في الأصل اسمٌ لما انفصل من الشئ ودارٌ شَطورٌ إذا كانت منفصلةً عن الدور ثم استعمل لجانبه وإن لم ينفصِلْ كالقُطر والحرامُ المُحرَّم أي محرم فيه القتالُ أو ممنوعٌ من الظَلَمة أن يتعرضوا له وفي ذكر المسجد الحرامِ دون الكعبة إيذانٌ بكفاية مراعاةِ الجهةِ لأن في مراعاةِ العينِ من البعيد حرجاً عظيماً بخلاف القريب رُوي عن البراء بن عازبٍ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قدِم المدينةَ فصلَّى نحوَ بيت المقدس ستة عشرة شهراً ثم وُجِّه إلى الكعبة وقيل كان ذلك في رجبٍ بعد زوال الشمس قبيل قتال بدر بشهرين ورسوله الله صلى الله عليه وسلم في

(1/174)


البقرة (145)
مسجد بني سَلَمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحوَّل في الصلاة واستقبل الميزاب وحوّل الرجالَ مكانَ النساء والنساءَ مكانَ الرجال فسُمِّيَ المسجدُ مسجد القبلتين
{وحيث ما كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} خص الرسول صلى الله عليه وسلم بالخطاب تعظيما لجنابه وإيذان بإسعاف مرامِه ثم عُمّم الخطابُ للمؤمنين مع التعرُّض لاختلاف أماكنِهم تأكيداً للحُكم وتصريحاً بعُمومه لكافة العباد من كل حاضر باد وحثاً للأمة على المتابعة وحيثما شرطية وكنتم في محل الجزم بها وقوله تعالى فَوَلُّواْ جوابُها وتكون هي منصوبةً على الظرفية بكنتم نحوُ قوله تعالى أياما تَدْعُواْ فَلَهُ الأسماء الحسنى
{وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب} من فريقي اليهود والنصارى
{لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} أي التحويل أو التوجهَ المفهومَ من التولية
{الحق} لاغير لعلمهم بأن عادتَه سبحانه وتعالى جاريةٌ على تخصيص كلِّ شريعةٍ بقِبلة ومعاينتِهم لما هو مسطورٌ في كتبهم من أنه عليه الصلاةُ والسلام يصلِّي إلى القِبلتين كما يُشعر بذلك التعبيرُ عنهم بالاسم الموصول بإيتاء الكتاب وأن مع اسمها وخبرِها سادٌ مسدَّ مفعولي يعلمون أو مسدَّ مفعولِه الواحد على أن العلم بمعنى المعرفة وقولُه تعالى
{مّن رَّبّهِمُ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الحق أي كائنا من ربهم أوصفة له على رأي من يجوِّز حذفَ الموصول مع بعض صلتِه أي الكائنَ من ربهم
{وَمَا الله بغافل عما تعملون} وعد ووعيد للفريقين والخطابُ للكل تغليبا وقرئ على صيغة الغيبة فهو وعيدٌ لأهل الكتاب

(1/175)


وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب} وضْعُ الموصولِ موضِعَ المضمرِ للإيذان بكمالِ سوءِ حالِهم من العناد مع تحقق ما يُرْغِمُهم منه من الكتاب الناطق بحقِّية ما كابروا في قبوله
{بِكُلّ آية} أي حجةٍ قطعيةٍ دالةٍ على حقيقة التحويل واللامُ موطئةٌ للقسمِ وقولُه تعالى
{مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} جوابٌ للقسم المضمَر سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط والمعنى أنهم ماتركوا قبلَتك لشُبهةٍ تُزيلها الحجةُ وإنما خالفوك مكابرةً وعِناداً وتجريد الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بعد تعميمِه للأمة لما أن المُحاجةَ والإتيانَ بالآية من الوظائف الخاصةُ به عليه السلام وقوله تعالى
{وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} جملةٌ معطوفةٌ على الجملة الشرطية لا على جوابها مسوقةٌ لقطع أطماعِهم الفارغةِ حيث قالت اليهودُ لو ثبتَّ على قبلتنا لكنا نرجوا أن تكون صاحبَنا الذي ننتظره تغريرا له عليه الصلاة والسلام وطمعاً في رجوعه وإيثارُ الجملة الاسمية للدلالة على دوامِ مضمونِها واستمرارِه وإفراد قبلتَهم مع تعدُّدِها باعتبار اتحادِها في البُطلان ومخالفةِ الحق ولئلا يُتوَهّم أن مدارَ النفي هو التعدُّدُ وقرئ يتابع قبلتِهم على الإضافة
{وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} فإن اليهودَ تستقبلُ الصخرةَ والنصارى مطلع الشمس لا يرجى توافقُهم كما لا يرجى موافقتُهم لك لتصلُّب كلِّ فريقٍ فيما هو فيه
{وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} الزائغةَ المتخالفة
{مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} ببطلانها وحقّيةِ ما أنت عليه وهذه الشرطيةُ الفرَضية واردةٌ على منهاج التهييج والإلهابِ للثبات على الحق أي ولئن اتبعت أهواءَهم فرضاً
{إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظالمين} وفيه لطفٌ للسامعين وتحذير لهم عن

(1/175)


البقرة (147 - 146)
متابعة الهوى فإن مَنْ ليس من شأنه ذلك إذا نُهيَ عنه ورُتِّبَ على فرض وقوعِه ما رُتِّبَ من الانتظام في سِلكِ الراسخين في الظلم فما ظنُّ من ليس كذلك وإذن حرفُ جوابٍ وجزاءٍ توسطت بين اسمِ إنَّ وخبرِها لتقرير ما بينهما من النسبة إذ كان حقهاأن تتقدمَ أو تتأخر فلم تتقدمْ لئلا يُتوَهَّم أنها لتقرير النسبةِ التي بين الشرط وجوابِه المحذوفِ لأن المذكورَ جوابُ القسم ولم تتأخرْ لرعاية الفواصل ولقد بولغ في التأكيد من وجوهٍ تعظيماً للحق المعلومِ وتحريضاً على اقتفائه وتحذيراً عن متابعة الهوى واستعظاماً لصدورِ الذنبِ من الأنبياءِ عليهم السلام

(1/176)


الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)

{الذين آتيناهم الكتاب} أي علماءهم إذهم العمدةُ في إيتائه ووضعُ الموصول موضعَ المضمرِ مع قرب العهد للإشعار بعلية مَا في حيزِ الصِّلةِ للحكم والضميرُ المنصوبُ في قوله تعالى
{يَعْرِفُونَهُ} للرسول صلى الله عليه وسلم والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذانِ بأن المراد ليس معرفتَهم له عليهِ السلامُ منْ حيثُ ذاتُه ونسبُه الزاهرُ بل من حيث كونُه مسطوراً في الكتاب منعوتاً فيه بالنعوت التي من جملتها أنه عليه السلام يصلي إلى القبلتين كأنه قيل الذين آتيناهم الكتابَ يعرِفون مَنْ وصفناه فيه وبهذا يظهر جزالةُ النظمِ الكريم وقيل هو إضمارٌ قبل الذكر للإشعار بفخامة شأنِه عليه الصلاةُ والسلام أنه عِلْمٌ معلوم بغير إعلامٍ فتأمل وقيل الضميرُ للعلم أو سببِه الذي هو الوحيُ أو القرآنُ أو التحويل ويؤيد الأولَ قوله عز وجل
{كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ} أي يعرفونه عليه الصلاة والسلام بأوصافه الشريفة المكتوبة في كتابهم ولا يشتبه علهيم كما لا يشتبه أبناؤُهم وتخصيصُهم بالذكر دون ما يعم البناتِ لكونهم أعرفَ عندهم منهن بسبب كونِهم أحبَّ إليهم عن عمرَ رضيَ الله عنه أنَّه سأل عبدُ اللَّه بنَ سلامٍ رضيَ الله عنْهُ عنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنا أعلم به مني بابني قال ولِمَ قال لأني لست أشكُّ فيه أنه نبي فأما ولدي فلعل والدتَه خانت فقبل عمر رأسه رضي الله عنهما
{وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} هم الذين كابروا وعاندوا الحقَّ والباقون هم الذين آمنوا منهم فإنهم يُظهرون الحقَّ ولا يكتُمونه وأما الجهلةُ منهم فليست لهم معرفةٌ بالكتاب ولا بما في تضاعيفه فما هم بصدد الإظهارِ ولا بصدد الكَتْم وإنما كفرُهم على وجه التقليد

(1/176)


الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

{الحقُّ} بالرفع على أنه مبتدأ وقولُه تعالى
{مِن رَبّكَ} خبرُه واللامُ للعهد والإشارةِ إلى ما عليه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أو إلى الحقِّ الذي يكتُمونه أو للجنس والمعنى أن الحقَّ ما ثبت أنَّه من اللَّهِ تعالى كالذي أنت عليه لاغيره كالذي عليه أهلُ الكتاب أو على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هُو الحقُّ وقولُه تعالى مِن رَبّكَ إما حالٌ أو خبرٌ بعد خبر وقرئ بالنَّصبِ على أنَّه بدلٌ من الأول أو مفعولٌ ليعلمون وفي التعرُّض لوصفِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام من إظهار اللطفِ به عليه السلام ما لا يخفى
{فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي الشاكّين في كتمانهم الحقَّ عالمين به وقيل في أنه من ربك وليس المراد به نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشك فيه لأنه غير متوقع

(1/176)


البقرة (150 - 148)
منه عليه السلام وليس بقصد واختيار بل إما تحقيقُ الأمر وأنه بحيث لا يشك فيه ناظر أو أمرُ الأمةِ باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ

(1/177)


وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)

{وَلِكُلّ} أي ولكل أمةٍ من الأمم على أن التنوين عوضٌ من المضاف إليه
{وِجْهَةٌ} أي قِبلة وقد قرئ كذلك أو لكل قومٍ من المسلمين جانبٌ من جوانب الكعبة
{هُوَ مُوَلّيهَا} أحدُ المفعولين محذوفٌ أي موليها وجهَه أو الله موليها إياه وقرئ ولكلِّ وِجهةٍ بالإضافة والمعنى ولكلَ وجهةٌ الله مولِّيها أهلَها واللام مزيدة للتأكيد وجبر ضعف العامل وقرئ مولاها أي مولى تلك الجهةِ قد وَلِيهَا
{فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} أي تسابقوا إليها بنزع الجار كما في قوله ... ثنائي عليكم آلَ حربٍ ومنْ يمِل ... سواكم فإني مهتدٍ غيرُ مائلِ ... وهو أبلغَ من الأمر بالمسارعة لما فيه من الحث على إحراز قصَبِ السبْقِ والمرادُ بالخيرات جميعُ أنواعِها من أمر القِبلة وغيرِه مما يُنال به سعادةُ الدارين أو الفاضلاتُ من الجهات وهي المسامتة للكعبة
{أين ما تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا} أي في أيّ موضعٍ تكونوا من موافِقٍ أو مخالفٍ مجتمعِ الأجزاء أو متفرقِها يحشُرُكم الله تعالى إلى المَحْشَر للجزاء أو أينما تكونوا من أعماق الأرضِ وقُلل الجبال يقبضُ أرواحَكم أو أينما تكونوا من الجهات المختلفةِ المتقابلةِ يجعلُ صلواتِكم كأنها صلاةٌ إلى جهة واحدة
{إِنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدِر على الإماتة والإحياء والجمعِ فهو تعليل للحكم السابق

(1/177)


وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} تأكيدٌ التحويل وتصريحٌ بعدم تفاوت الأمرِ في حالتي السفر والحضَر ومنْ متعلقة بقوله تعالى
{فَوَلّ} أو بمحذوفٍ عُطف هو عليه أي من أي مكان خرجت إليه للسفر فولِّ
{وَجْهَكَ} عند صلاتك
{شَطْرَ المسجد الحرام} أو افعلْ ما أُمرت بِه من أي مكانٍ خرجت إليه فول الخ
{وَأَنَّهُ} أي هذا الأمرَ
{لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ} أي الثابتُ الموافق للحِكمة
{وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} فيجازيكم بذلك أحسنَ جزاءٍ فهو وعدٌ للمؤمنين وقرئ يعملون على صيغة الغيبة فهو وعيد للكافرين

(1/177)


وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} إليه في أسفارك ومغازيك من المنازل القريبةِ والبعيدةِ
{فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} الكلامُ فيه كما مرَّ آنفا
{وحيث ما كُنتُمْ} من أقطار الأرضِ مقيمين أو مسافرين حسبما يعرب عنه إيثار

(1/177)


البقرة (151)
كنتم على خرجتم فإن الخطابَ عامٌ لكافة المؤمنين المنتشرين في الآفاق من الحاضرين والمسافرين فلو قيل وحيثما خرجتم لما تناول الخطابُ المقيمين في الأماكن المختلفة من حيث إقامتُهم فيها
{فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} من مَحالِّكم
{شَطْرَهُ} والتكريرُ لما أن القِبلةَ لها شأنٌ خطير والنسخُ من مظانِّ الشبهةِ والفتنة فبالحَريِّ أن يؤكد أمرها مرة غب أخرى مع أنه قد ذُكر في كل مرة حِكمةٌ مستقلة
{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} متعلقٌ بقوله تعالى فَوَلُّواْ وقيل بمحذوفٍ يدلُّ عليه الكلام كأنه قيل فعلنا ذلك لئلا الخ والمعنى أن التوليةَ عن الصخرة تدفع احتجاجَ اليهود بأن المنعوتَ في التوراة من أوصافه أنه يحوِّلُ إلى الكعبة واحتجاجُ المشركين بأنه يدَّعي ملة إبراهيم يخالف قِبلتَه
{إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} وهم أهلُ مكةَ أي لئلا يكونَ لأحد من الناس حجةٌ إلا المعاندين منهم الذين يقولون ما تحوَّلَ إلى الكعبة إلا مَيْلاً إلى دين قومِه وحباً لبلده أو بَدا لَهُ فرجَع إلى قِبلةِ آبائِه ويوشك أن يرجع إلى دينهم وتسمية هذه الكلمة الشنعاء حجة مع انها أفحش الأباطيل من قبيل ما في قوله تعالى حجتهم داحضة حيث كانوا يسوقونها مساق الحجة وقيل الحجة بمعنى مطلق الاحتجاج وقيل الاستثناء للمبالغة في نفى الحجة رأسا كالذي في قولهِ ... ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم ... بهن فُلولٌ من قراع الكتائبِ ...
ضرورة أن لا حجة للظالم وقرئ ألا الذين بحرف التنبيه على أنه استئناف
{فلا تخشوهم} فإن مطاعنهم لاتضركم شيئا
{واخشوني} فلا تخالفوا أمرى
{ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون} علة لمحذوف يدل عليه النظم الكريم أي وأمرتكم بما مر لإتمام النعمة عليكم لما أنه نعمة جليلة ولإرادتي اهتدائكم لما أنه صراط مستقيم مؤد إلى سعادةِ الدَّارينِ كما أشير إليه في قولِه عزَّ وجلَّ يَهْدِى مَن يَشَاء إلى صراط مستقيم وفي التعبير عن الإرادة بكلمة لعل الموضوعة للترجي على طريقة الاستعارةِ التبعية من الدلالةِ عَلى كمالِ العناية بالهداية مالا يخفى أو عطفٌ على علة مقدرةٍ أي واخشوني لأحفظكم عنهم واتم الخ أو عَلى قولِه تعالَى لئلا يكون وتوسط قوله تعالى فلا تخشوهم الخ بينهما للمسارعة الى التسلية والتثبيت وفي الخبر تمام النعمة دخول الجنة وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه تمام النعمة الموت على الاسلام

(1/178)


كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ} متصلٌ بما قبله والظرفُ الأول متعلقٌ بالفعل قُدِّم على مفعوله الصريحِ لما في صفاته من الطول والظرفُ الثاني متعلقٌ بمُضمرٍ وقع صفةً لرسولاً مبينةً لتمام النعمةِ أي ولأتمَّ نعمتي عليكم في أمر القِبلة أو في الآخرة إتماماً كائناً كإتمامي لها بإرسال رسولٍ كائنٍ منكم فإن إرسالَ الرسول لاسيما المجانسُ لهم نعمةٌ لا يكافئُها نعمة قطُّ وقيل متصلٌ بما بعده أي كما ذُكِّرْتم بالإرسال فاذكروني الخ وإيثارُ صيغةِ المتكلم مع الغير بعد التوحيد فيما قبله افتنانٌ وجَرَيانٌ على سَنن الكبرياء
{يَتْلُو عليكم آياتنا} صفة ثانيةٌ لرسول كاشفةٌ لكمال النعمة
{وَيُزَكِيكُمْ} عطفٌ على يتلو أي يحمِلُكم على ما تصيرون به أزكياءَ
{وَيُعَلّمُكُمُ الكتاب والحكمة} صفةٌ أُخْرَى مترتبةٌ في الوجودِ عَلَى التِّلاوةِ وإنَّما وَسَّطَ بينَهُما التزكية التي

(1/178)


البقرة (154 - 152)
هيَ عبارةٌ عنْ تكميلِ النفسِ بحسَبِ القوةِ العمليةِ وتهذيبِهَا المتفرعِ عَلَى تكميلِهَا بحسبِ القوةِ النظريةِ الحاصلِ بالتعليمِ المترتبِ على التلاوةِ للإيذانِ بأنَّ كلاً منَ الأمورِ المترتبةِ نعمةٌ جليلةٌ على حيالِهَا مستوجبةٌ للشكرِ فَلَو رُوعِي ترتيبَ الوجودِ كما في قوله تعالى وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يتلو عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم لتبادَر إلى الفهمِ كونُ الكلِّ نعمةً واحدةً كمَا مر نظيرُه في قصة البقرةِ وهُوَ السرُّ في التعبيرِ عن القرآنِ تارةً بالآياتِ وَأُخْرَى بالكتابِ والحِكمة رمزاً إلى أنَّه باعتبارِ كلِّ عنوانٍ نعمةٌ عَلى حدةٍ ولا يقدحُ فيهِ شمولُ الحكمةِ لِمَا في تضاعيف الأحاديثِ الشريفةِ من الشرائع وقولُه عز وجل
{وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} صريحٌ في ذلك فإن الموصولَ مع كونه عبارةً عن الكتاب والحِكمة قطعاً قد عُطف تعليمُه على تعليمهما وما ذلك إلا لتفصيل فنونِ النعم في مقامٍ يقتضيه كما في قوله تعالى وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ عقيب قولِه تعالى نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا والمراد بعدم علمِهم أنه ليس من شأنهم أن يعلموه بالفكر والنظر وغيرِ ذلك من طرق العلم لانحصار الطريقِ في الوحي

(1/179)


فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)

{فاذكرونى} الفاءُ للدلالة على ترتب الأمرِ على ما قبله من موجباته أي فاذكروني بالطاعة
{أَذْكُرْكُمْ} بالثواب وهو تحريضٌ على الذكر مع الإشعار بما يوجبُه
{واشكروا لِي} ما أنعمتُ به عليكم من النعم
{وَلاَ تَكْفُرُونِ} بجَحدها وعِصيان ما أمرتُكم به

(1/179)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} وصفَهم بالإيمان إثرَ تعدادِ ما يوجبه ويقتضيه تنشيطاً لهم وحثاً على مراعاة ما يعقُبه من الأمر
{استعينوا} في كل ما تأتون وما تذرون
{بالصبر} على الأمور الشاقةِ على النفس التي من جملتها معاداةُ الكَفَرة ومقابلتُهم المؤديةُ إلى مقاتلتهم
{والصلاة} التي هي أمُّ العبادات ومِعراجُ المؤمنين ومناجاةُ ربِّ العالمين
{إِنَّ الله مَعَ الصابرين} تعليل للأمر بالاستعانة بالصبر خاصة لما أنه المحتاجُ إلى التعليل وأما الصلاةُ فحيث كانت عند المؤمنين اجل المطالب كما ينبئ عنه قولُه عليه السلام وجُعلت قُرةُ عيني في الصلاة لم يفتقر الأمرُ بالاستعانة بها إلى التعليل ومعنى المعية الولايةُ الدائمةُ المستتبِعة للنُصرة وإجابةِ الدعوة ودخول مع على الصابرين لما أنهم المباشِرون للصبر حقيقةً فهم متبوعون من تلك الحيثية

(1/179)


وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)

{وَلاَ تَقُولُواْ} عطف على استعينوا الخ مَسوقٌ لبيان ان لا غائلة للمأمور به وأن الشهادةُ التي ربما يؤدي إليها الصبرُ حياةٌ أبدية
{لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ} أي هم أموات
{بَلْ أَحْيَاء} أي بل هم أحياءٌ
{وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} بحياتهم وفية رمزٌ إلى أنها ليست مما يُشعِر به بالمشاعر الظاهرةِ من الحياة الجُسمانية وإنما هي أمرٌ روحاني لا يُدرَكُ بالعقل بل بالوحي وعنِ الحسنِ رحمَهُ الله أن الشهداءَ أحياءٌ عند الله تُعرَضُ أرزاقُهم على أرواحِهم فيصلُ إليهم الرَّوْحُ والفَرَحُ كما تُعرض النارُ على آل فِرعونَ غدُوّاً وعشياً فيصلُ إليهم الألمُ والوجَع قلت رأيت في المنام سنة

(1/179)


البقرة (157 - 155)
تسعٍ وثلاثين وتسعمائة أني أزور قبورَ شهداءِ أُحدٍ رضي الله تعالى عنهم اجمعين وانا أتلوا هذه الآيةَ وما في سورة آلِ عمرانَ وأردّدهما متفكراً في أمرهم وفي نفسي أن حياتَهم روحانية لا جسمانية فبينما أنا على ذلك إذ رأيتُ شاباً منهم قاعداً في قبره تامَّ الجسدِ كامِلَ الخِلْقة في أحسنُ ما يكونُ من الهيئة والمنظر ليس عليه شيءٌ من اللباس قد بدا منه ما فوق السُرةِ والباقي في القبر خلا أني أعلم يقيناً أن ذلك أيضاً كما ظهر وإنما لا يظهر لكونه عورةً فنظرت إلى وجهه فرأيته ينظُر إلي مبتسما كأنه ينبِّهُني على أن الأمر بخلاف رأيي فسُبحان من عَلَتْ كلمتُه وجلّت حِكمتُه وقيل الآية نزلت في شهداءِ بدرٍ وكانوا اربعة عشر وفيهَا دلالةً على أنَّ الأرواحَ جواهرُ قائمةٌ بأنفسها مغايرةٌ لما يُحَسُّ به من البدن تبقى بعد الموت دراكة وعليه جمهورُ الصحابة والتابعين رضوانُ الله تعالَى عليهم اجمعين وبه نطقت الآيات والسنن وعلى هذا فتخصيصُ الشهداء بذلك لما يستدعيه مقامُ التحريض على مباشرة مباديَ الشهادةِ ولاختصاصهم بمزيد القُرب من الله عز وعلا

(1/180)


وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)

{وَلَنَبْلُوَنَّكُم} لنُصيبنَّكم إصابةَ من يختبرُ أحوالَكم أتصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء
{بِشَيْء مّنَ الخوف والجوع} أي بقليلٍ من ذلك فإن ما وقاهم عنه أكثرُ بالنسبة إلى ما أصابهم بألف مرة وكذا ما يصيبُ به معانديهم وإنما أَخبرَ به قبل الوقوعِ ليُوطِّنوا عليه نفوسَهم ويزدادَ يقينُهم عند مشاهدتهم له حسبما أَخبرَ به وليعلموا أنه شيءٌ يسير له عاقبةٌ حميدة
{وَنَقْصٍ مّنَ الاموال والانفس والثمرات} عطفٌ على شيءٍ وقيل على الخوف وعن الشافعي رحمه الله الخوفُ خوفُ الله والجوعُ صومُ رمضانَ ونقصٌ من الأموال الزكاةُ والصدقاتُ ومن الأنفس الأمراضُ ومن الثمرات موتُ الأولاد وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إذا مات ولدُ العبد قال الله تعالى للملائكة أقبضتم روح ولد عبدي فيقولون نعم فيقول عز وجل أقبضتم ثمرةَ قلبِه فيقولون نعم فيقول الله تعالى ماذا قال عبدي فيقولون حمِدَك واسترجَع فيقول الله عز وعلا ابنُوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمُّوه بيتَ الحمد
{وَبَشّرِ الصابرين}

(1/180)


الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)

{الذين إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون} الخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكلِّ مَنْ يتأتَّى منْهُ البِشارة والمصيبةُ ما يصيب الإنسانَ من مكروه لقوله عليه السلام كلُّ شيءٍ يؤذي المؤمنَ فهو له مصيبةٌ وليس الصبرُ هو الاسترجاعُ باللسان بل بالقلب بأن يَتصوَّرَ ما خُلق له وأنه راجِعٌ إلى ربه ويتذكرَ نِعمَ الله تعالى عليه ويرى أن ما أبقى عليه اضعاف ما استرده منه فيهونُ ذلك على نفسه ويستسلم والمبشَّرُ به محذوفٌ دلَّ عليه ما بعده

(1/180)


أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

{أولئك} إشارة إلى الصابرين باعتبار اتصافهم بما ذُكِرَ من النعوتِ ومعنى البعد فيه للإيذان بعلوِّ رُتبتِهم
{عَلَيْهِمْ صلوات مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ}

(1/180)


الصلاةُ من الله سبحانه المغفرةُ والرأفةُ وجمعُها للتنبيه على كثرتها وتنوُّعِها والجمعُ بينهما وبين الرحمةِ للمبالغةِ كما في قولِهِ تعالى رَأْفَةً ورحمة رءوف رَّحِيمٌ والتنوين فيهما للتفخيم والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرهم لإظهارِ مزيدِ العناية بهم أي أولئك الموصوفون بما ذكر من النعوت الجليلةِ عليهم فنونُ الرأفةِ الفائضةِ من مالك أمورِهم ومبلِّغِهم إلى كمالاتهم اللائقةِ بهم وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من استرجعَ عند المصيبةِ جَبر الله مصيبَته وأحسن عُقباه وجعل له خَلَفاً صالحاً يرضاه
{وَأُوْلئِكَ} إشارةٌ إليهم إما بالاعتبار السابقِ والتكريرُ لإظهارِ كمالِ العناية بهم وإما باعتبار حيازتِهم لما ذُكر من الصلوات والرحمة المترتبِ على الاعتبار الأول فعلى الأول المرادُ بالاهتداء في قولِه عزَّ وجلَّ
{هُمُ المهتدون} هو الاهتداءُ للحق والصواب مطلقاً لا الاهتداءُ لما ذكر من الاسترجاعِ والاستسلامِ خاصة لما أنه متقدمٌ عليهما فلا بدّ لتأخيره عما هو نتيجةٌ لهما من داعٍ يوجبُه وليس بظاهر والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَهُ كأنَّه قيلَ وأولئك هم المختصون بالاهتداء لكل حقَ وصواب ولذلك استرجعوا واستسلموا لقضاء الله تعالى وعلى الثاني هو الاهتداءُ والفوزُ بالمطالب والمعنى أولئك هم الفائزون بمباغيهم الدينيةِ والدنيويةِ فإن مَنْ نال رأفةَ الله تعالى ورحمتَه لم يفُتْه مَطلبٌ

(1/181)


إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

{إِنَّ الصفا والمروة} علمانِ لجبلين بمكةَ المعظمةِ كالصَّمّان والمُقَطَّم
{مِن شَعَائِرِ الله} من أعلام مناسكِه جمعُ شعيرةٍ وهي العلامة
{فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر} الحجُّ في اللغة القصدُ والاعتمارُ الزيارة غلباً في الشريعة على قصدِ البيت وزيارتِه على الوجهين المعروفين كالبيت والنجم في الأعيان وحيث أُظهر البيتُ وجب تجريدُه عن التعلق به
{فلا جناح عليه أن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أي في أن يطوفَ بهما أصلُه يتطوف قلبت التاءُ طاءً فأدغمت الطاءُ في الطاء وفي إيراد صيغةِ التفعُّل إيذانٌ بأن من حق الطائفِ أن يتكلف في الطواف ويبذُل فيه جُهدَه وهذا الطواف واجبٌ عندنا والشافعي وعن مالك رحمهما الله أنه ركنٌ وإيرادُه بعدم الجُناح المشعرِ بالتخيير لما أنه كان في عهد الجاهلية على الصفا صنمٌ يقال له إساف وعلى المروة آخرُ اسمُه نائلة وكانوا إذا سعَوْا بينهما مسَحوا بهما فلما جاء الإسلامُ وكسَّر الأصنامَ تحرَّج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك فنزلت وقيل هو تطوُّع ويعضُده قراءةُ ابنِ مسعود فلا جُناحَ عليه أن لا يطوفَ بهما
{وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} أي فعلَ طاعةً فرضاً كان أو نفلاً أو زاد على ما فُرض عليه من حج أو عمرةٍ أو طوافٍ وخيراً حينئذ نُصب على أنه صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي تطوعاً خيراً أو على حذفِ الجارِّ وإيصالِ الفعل إليه أو على تضمين معنى فعل وقرئ يَطوَّع وأصلُه يتطوع مثل يطوف وقرئ ومن يَتَطَوَّع بخيرٍ
{فَإِنَّ الله شَاكِرٌ} أي مُجازٍ على الطاعة عُبّر عن ذلك بالشكر مبالغةً في الإحسان إلى العباد
{عَلِيمٌ} مبالغٌ في العلمِ بالأشياء فيعلم مقاديرَ أعمالِهم وكيفياتِها فلا يَنْقُصُ من أجورهم شيئاً وهو علةٌ لجواب الشرطِ قائم مقامَه كأنه قيل ومن تطوعَ خيراً جازاه الله وأثابه فإن الله شاكر عليم

(1/181)


البقرة (160 - 159)

(1/182)


إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)

{إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ} قيل نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا ما في التوراة من نُعوت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وغيرُ ذلك من الأحكام وعن ابن عبَّاسٍ ومُجاهدٍ وقَتادةَ والحسنِ والسُّدي والربيع والأصمِّ أنها نزلت في أَهْلَ الكتاب من اليَّهودِ والنصارى وقيل نزلت في كل من كتم شيئاً من أحكام الدين لعموم الحكمِ للكل والأقربُ هو الأول فإن عمومَ الحُكم لا يأبى خصوصَ السبب والكَتم والكتمان تركُ إظهارِ الشيء قصداً مع مساس الحاجة إليه وتحققِ الداعي الى اظهار وذلك قد يكون بمجرد سَترِه وإخفائِه وقد يكون بإزالته ووضْعِ شيءٍ آخرَ في موضعه وهو الذي فعله هؤلاء
{مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات} من الآيات الواضحة الدالةِ على أمر محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم
{والهدى} أي والآياتِ الهاديةِ إلى كُنه أمرِه ووجوب اتباعِه والإيمانِ به عَبَّر عنها بالمصدر مبالغةً ولم يُجمَعْ مراعاةُ للأصل وهي المرادة بالبينات أيضاً والعطفُ لتغايُر العنوان كما في قوله عز وجل هُدًى لّلنَّاسِ وبينات الخ وقيل المراد بالهدى الأدلةُ العقلية ويأباه الإنزالُ والكتم
{مِن بَعْدِ مَا بيناه لِلنَّاسِ} متعلق بيكتمون والمرادُ بالناس الكلُّ لا الكاتمون فقط واللام متعلقة ببيناه وكذا الظرف في قولِه تعالى
{فِى الكتاب} فإن تعلقَ جارَّيْن بفعلٍ واحدٍ عند اختلافِ المعنى مما لا ريب في جوازه أو الأخيرُ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعوله أي كائناً في الكتاب وتبيينه لهم تلخيصُه وإيضاحُه بحيث يتلقاه كلُّ أحد منهُم منْ غيرِ أنْ يكون له فيه شُبهةٌ وهذا عنوانٌ مغايرٌ لكونه بيناً في نفسه وهدى مؤكد لقبح الكتم أو تفهيمُه لهم بواسطة موسى عليه السلام والأول أنسبُ بقوله تعالى في الكتاب والمرادُ بكتمه إزالتُه ووضعُ غيرِه في موضعه فإنهم محو انعته عليه الصلاة والسلام وكتبوا مكانه ما يخالفه كما ذكرناه في تفسير قولِه عزَّ وعلا فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب الخ
{أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبارِ ما وصفوا به للإشعار بعلِّيته لما حاق بهم وما فيه من معنى البعدُ للإيذان بتَرامي أمرهم وبُعد منزلتِهم في الفساد
{يَلْعَنُهُمُ الله} أي يطرُدهم ويبعدهم من رحمته والالتفاتُ إلى الغَيبة بإظهار اسمِ الذاتِ الجامعِ للصفاتِ لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعةِ والإشعارِ بأن مبدأ صدورِ اللعن عنه سبحانه صفةُ الجلالِ المغايرةِ لما هو مبدأ الإنزال والتبيينِ من وصَفِ الجمالِ والرحمة
{وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} أي الذين يتأتى منهم اللعنُ أي الدعاءُ عليهم باللعن من الملائكة ومؤمني الثقلين والمرادُ بيانُ دوام اللعنِ واستمرارُه وعليه يدور الاستثناءُ المتصلُ في قوله تعالى

(1/182)


إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)

{إلا الذين تابوا} أي عن الكِتمان
{وَأَصْلَحُواْ} أي ما أفسدوا بأن أزالوا الكلام المحرف وكتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التحريف
{وَبَيَّنُواْ} للناس معانيَه فإنه غير الإصلاح المذكور أو بينوا لهم ما وقع منهم أولاً وآخراً فإنه أدخلُ في إرشاد الناس إلى الحق وصرفُهم عن طريق الضلال الذي كانوا أوقعوهم فيه أو بيّنوا توبتَهم ليمحُوا به سِمةَ ما كانوا فيه ويقتديَ بهم أضرابهم

(1/182)


البقرة (163 - 161)
وحيث كانت هذه التوبة المقرونةُ بالإصلاح والتبيين مستلزمةً للتوبة عن الكفر مبنية عليها لم يصرَّحْ بالإيمان وقولُه تعالى
{أولئك} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة للإشعار بعلّيته للحكم والفاءُ لتأكيد ذلك
{أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أي بالقَبول وإفاضةِ المغفرةِ والرحمةِ وقولُه تعالَى
{وَأَنَا التواب الرحيم} أي المبالغُ في قبول التوْب ونشرِ الرحمةِ اعتراضٌ تذييليٌّ محققٌ لمضمون ما قبله والالتفاتُ إلى التكلم للافتيان في النظمِ الكريم مع ما فيه من التلويحِ والرمزِ إلى ما مرَّ من اختلاف المبدأ في فِعليه تعالى السابقِ واللاحِقِ

(1/183)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} جملةٌ مستأنفة سيقت لتحقيق بقاءِ اللعن فيما وراء الاستثناءِ وتأكيدِ دوامِه واستمرارِه على غير التائبين حسبما يفيده الكلام والاقتصارُ على ذكر الكفر في الصلة من غير تعرضٍ لعدم التوبة والإصلاحِ والتبيينِ مبنيٌّ على ما أشيرَ إليهِ فكما أن وجودَ تلك الأمور الثلاثةِ مستلزِمٌ للإيمان الموجبِ لعدم الكفر كذلك وجودُ الكفر مستلزمٌ لعدمها جميعاً أي إن ذلك استمرار على الكفر المستتبِع للكتمان وعدمِ التوبة
{وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} لا يرعوون عن حالتهم الأولى
{أولئك} الكلامُ فيه كما فيما قبله
{عَلَيْهِمْ} أي مستقِرٌّ عليهم
{لعنة الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} ممن يُعتَدُّ بلعنتهم وهذا بيانٌ لدوامها الثبوتي بعد بيان دوامِها التجدّدي وقيل الأولُ لعنتَهم أحياءً وهذا لعنتهم أمواتا وقرئ والملائكةُ والناسُ أجمعون عطفاً على محلِّ اسم الله لأنه فاعلٌ في المعنى كقولك أعجبني ضربُ زيدٍ وعمروٍ تريد مِنْ أنْ ضرب زيد وعمر وكأنه قيل أولئك عليهم أنْ لعنهم الله والملائكةُ الخ وقيل هو فاعل لفعل مقدرٍ أي ويلعنهم الملائكة

(1/183)


خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

{خالدين فِيهَا} أي في اللعنة أو في النار على أنها أُضمرت من غير ذكرٍ تفخيماً لشأنها وتهويلاً لأمرِها
{لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} إما مستأنفٌ لبيان كثرة عذابِهم من حيث الكيفُ إثرَ بيانِ كثرتِه من حيث الكمُّ أو حال من الضمير في خالدين على وجه التداخُل أو من الضميرِ في عليهم على طريقة الترادُف
{وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} عطف على ما قبله جار فيه ما جرى فيه وإيثارُ الجملةِ الاسميةِ لإفادة دوامِ النفي واستمراره أي لا يُمهلون ولا يُؤجّلون أو لا يُنتظرون ليعتذروا أو لا يُنظر إليهم نَظَر رحمة

(1/183)


وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)

{وإلهكم} خطابٌ عام لكافة الناس أي المستحِقُّ منكم للعبادة
{إله واحد} أي فرد في الإلهيه لاصحة لتسمية غيرِه إلها أصلاً
{لاَ إله إِلاَّ هو} خبرٌ ثانٍ للمبتدأ أو صفةٌ أخرى للخبر أو اعتراض وأياما كان فهو مقرِّرٌ للوحدانية ومزيح لما عسى يُتوهّم أن في الوجود إلها لكن لا يستحق العبادة
{الرحمن الرحيم} خبران آخران لمبتدأ محذوفٍ وهو تقريرٌ للتوحيد فإنه تعالى حيث كان مُولياً لجميع النعم أصولِها وفروعِها جليلِها ودقيقِها وكان ما سواه كائناً ما كان مفتقراً إليه في وجوده وما تتفرع عليه من كمالاته تحققتْ وحدانيتُه بلا ريب وانحصر استحقاقُ العبادةِ فيه تعالى قطعاً قيل كان للمشركين

(1/183)


البقرة (164)
حول الكعبة المكرمة ثلثُمائة وستون صنماً فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا أو قالوا إن كنت صادقاً فأتِ بآيةٍ نعرِفْ بها صدقك فنزلت

(1/184)


إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

{إن في خلق السماوات والارض} أي في إبداعهما على ما هما عليه مع ما فيهما من التعاجيب العِبَر وبدائِع صنائعَ يعجِزُ عن فهمها عقولُ البشر وجمعُ السموات لما هو المشهورُ من أنها طبقاتٌ متخالفة الحقائقِ دون الأرض
{واختلاف الليل والنهار} أي اعتقابِهما وكونِ كلَ منهما خلَفاً للآخر كقولِه تعالى وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً أو اختلافُ كل منهما في أنفسهما ازدياداً وانتقاصاً على ما قدّره الله تعالى
{والفلك التى تَجْرِى فِى البحر} عطفٌ على ما قبله وتأنيثُه إما بتأويل السفينة أو بأنه جمعٌ فإن ضمةَ الجمعِ مغايرةٌ لضمة الواحد في التقدير إذا الأُولى كما في حُمُر والثانية كما في قُفْل وقرئ بضم اللام
{بِمَا يَنفَعُ الناس} أي متلبسه بالذي ينفعُهم مما يُحمل فيها من أنواع المنافعِ أو بنفعهم
{وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء مِن مَّاء} عطفٌ على الفلك وتأخيرُه عن ذكرها مع كونه أعمَّ منها نفعاً لما فيه من مزيد تفصيلٍ وقيل المقصودُ الاستدلالُ بالبحر وأحوالِه وتخصيصُ الفلك بالذكر لأنه سببُ الخوض فيه والاطلاعِ على عجائبه ولذلك قدِّم على ذكر المطرِ والسحابِ لأن منشأهما البحرُ في غالب الأمر ومن الأولى ابتدائيةٌ والثانية بيانية أو تبيعضية وأياما كان فتأخيرُها لما مرَّ مرارا من التشويقِ والمرادُ بالسماء الفَلَكُ أو السحابُ أو جهةُ العلوِّ
{فأحيا بِهِ الارض} بأنواع النباتِ والإزهارِ وما عليها من الأشجار
{بَعْدَ مَوْتِهَا} باستيلاء اليُبوسةِ عليها حسبما تقتضيه طبيعتُها كما يوزن به إيرادُ الموت في مقابلة الإحياء
{وَبَثَّ فِيهَا} أي فرَّق ونشر
{مِن كُلّ دَابَّةٍ} من العقلاء وغيرهم والجملة معطوفةٌ على أنزل داخلةٌ تحت حكمِ الصلةِ وقوله تعالى فأحيا الخ متصلٌ بالمعطوف عليه بحيث كانا في حكم شئ واحد كأنه قيل وما أَنزل في الأرض من ماءٍ وبثَّ فيها الخ أو على أحيا بحذف الجارِّ والمجرور العائدِ إلى الموصول وإن لم يتحقق الشرائط المعهودة كما قي قوله ... وإن لساني شَهْدةٌ يشتفى بها ... ولكنْ على مَنْ صَبَّه الله علقمُ ... أي علقمٌ عليه وقولِه ... لعلَّ الذي أصْعَدْتَني أن يرُدَّني ... إلى الأرضِ إن لم يقدِرِ الخيرَ قادِرُهْ ...
على معنى فأحيا بالماء الأرضَ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دابةٍ فإنهم ينمُون بالخصب ويعيشون بالحَيا
{وَتَصْرِيفِ الرياح} عطف على ماأنزل أي تقليبها من مهب إلى آخر أومن حال إلى أخرى وقرئ على الإفراد
{والسحاب} عطفٌ على تصريفِ أو الرياحِ وهو اسمُ جنسٍ واحده سَحابةٌ سمي بذلك لانسحابه في الجو
{المسخر بَيْنَ السماء والارض} صفةٌ للسحاب باعتبار لفظه وقد يُعتبر معناه فيوصف بالجمع كما في قوله تعالى سَحَابًا ثِقَالاً وتسخيرُه تقليبُه في الجو بواسطة الرياحِ حسبما تقتضيه مشيئةُ الله تعالى ولعل تأخيرَ تصريفِ الرياحِ وتسخيرِ السحاب في الذكر عن جريان الفُلك وإنزال الماء مع انعكاس الترتيب الخارجيّ لما مرَّ في قصَّةِ البقرةِ من الإشعار باستقلال كلَ من الأمور المعدودة في

(1/184)


البقرة (165)
كونها آيةً ولو رُوعيَ الترتيبُ الخارجيُّ لربما تُوهُم كونُ المجموعِ المترتبِ بعضُه على بعضٍ آيةً واحدة
{لاَيَاتٍ} اسمُ إن دخلته اللام لتأخره عن خبرها والتنكيرُ للتفخيم كماً وكيفاً أي آياتٍ عظيمةً كثيرةً دالة على القدرة والحِكمة الباهرةِ والرحمةِ الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به سبحانه
{لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي يتفكرون فيها وينظرون إليها بعيون العقول وفيه تعريضٌ بجهل المشركين الذين اقترحوا على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم آيةً تصدِّقه في قوله تعالى وإلهكم إله واحد وتسجيلٌ عليهم بسخافة العقولِ وإلا فمن تأمل في تلك الآيات وجدَ كلاً منها ناطقةً بوجوده تعالى ووحدانيته وسائرِ صفاتِه الكماليةِ الموجبةِ لتخصيصِ العبادةِ بهِ تعالى واستُغني بها عن سائرها فإن كلَّ واحدٍ من الأمور المعدودةِ قد وجد على وجه خاصَ من الوجوه الممكنةِ دون ما عداه مستتبعاً لآثار معينةٍ وأحكامٍ مخصوصةٍ من غير أن تقتضي ذاتُه وجودَه فضلاً عن وجوده على نمطٍ معين مستتبعٍ لحكمٍ مستقل فإذن لا بدله حتماً من موجدٍ قادر حكيمٍ يوجده حسبما تقتضيه حكمتُه وتستدعيه مشيئتُه متعالٍ عن معارضة الغير إذ لو كان معه آخرُ يقدِر على ما يقدرُ عليه لزمَ إما اجتماعُ المؤثِّرَيْن على أثر واحدٍ أو التمانعُ المؤدي إلى فساد العالم

(1/185)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)

{وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله} بيانٌ لكمال ركاكةِ آراءِ المشركين إثرَ تقريرِ وحدانيتِه سبحانه وتحريرِ الآياتِ الباهرةِ المُلجئةِ للعقلاء إلى الاعتراف بها الفائضةِ باستحالة أن يشاركَه شئ من الموجودات في صفة من صفات الكمالِ فضلاً عن المشاركة في صفة الألوهية والكلامُ في إعرابه كما فُصِّل في قولِه تعالى وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله وباليوم الأخر الخ ومن دون الله متعلقٌ بيتخذ أي من الناس من يتخذ من دون ذلك الإله الواحدِ الذي ذكرت شئونه الجليلةُ وإيثارُ الاسمِ الجليل لتعيينه تعالى بالذات غِبَّ تعيينه بالصفات
{أَندَاداً} أي أمثالاً وهم رؤساؤُهم الذين يتبعونهم فيما يأتُون وما يَذَرُون لاسيما في الأوامر والنواهي كما يفصح عنه ماسيأتى من وصفهم بالتبرِّي من المتّبعين وقيل هي الأصنام وإرجاعُ ضميرِ العقلاءِ إليها في قوله عز وعلا
{يُحِبُّونَهُمْ} مبنيٌّ على آرائهم الباطلة في شانها من وصفهم بمالا يوصف به إلا العقلاءُ والمحبةُ ميلُ القلب من الحب استُعير لحبَّة القلبِ ثم اشتُق منه الحبُ لأنه أصابها ورسخ فيها والفعل منها حبَّ على حدمد لكن الاستعمالَ المستفيضَ على أحب حباً ومحبةً فهو مُحِب وذاك محبوبٌ ومُحَبّ قليل وحابّ أقلُ منه ومحبةُ العبد لله سبحانه إرادةُ طاعتِهِ في أوامرِهِ ونواهيهِ والاعتناءُ بتحصيل مراضيه فمعنى يُحبونهم يطيعونهم ويعظمونهم والجملةُ في حيز النصبِ إما صفةٌ لأنداداً أو حالا من فاعل يتخذ وجمعُ الضميرِ باعتبارِ مَعْنى من كما أن إفرادَه باعتبار لفظِها
{كَحُبّ الله} مصدرٌ تشبيهيٌّ أي نعتٌ لمصدر مؤكدٍ للفعل السَّابقِ ومن قضية كونِه مبنياً للفاعل كونُه أيضاً كذلك والظاهرُ اتحادُ فاعلِهما فإنهم كانوا يُقِرّون به تعالى أيضاً ويتقربون إليه فالمعنى يحبونهم حباً كائناً كحبهم لله تعالى أي يسوّون بينه تعالى وبينهم في الطاعة والتعظيم وقيل فاعلُ الحبِّ المذكور هم

(1/185)


البقرة (166)
المؤمنون فالمعنى حباً كائناً كحب المؤمنين له تعالى فلا بُدَّ من اعتبارِ المشابهة بينهما في أصل الحبِّ لا في وصفِه كماً أو كيفاً لما سيأتي من التفاوت البين وقيل هو مصدرٌ من المبنيِّ للمفعولِ أي كما يُحب الله تعالى ويعظم وإنما استُغني عن ذكر مَنْ يحبه لأنه غير ملبس وأنت خبيرٌ بأنه لا مشابهة بين محبيتهم لأندادهم وبين محبوبيتِه تعالى فالمصيرُ حينئذ ما أسلفناه في تفسير قولِه عزَّ قائلاً كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في مقام الإضمار لتربية المهابة وتفخيمِ المضاف وإبانةِ كمال قُبحِ ما ارتكبوه
{والذين آمنوا أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ} جملة مبتدأة جئ بها توطئةً لما يعقُبها من بيان رخاوةِ حبِّهم وكونِه حسرة عليهم والمفضلُ عليه محذوف أي المؤمنين أشدُّ حباً له تعالى منهم لأندادهم ومآلُه أن حبَّ أولئك له تعالى أشدُّ من حب هؤلاءِ لأندادهم فيهِ منَ الدَلالة عَلى كون الحبِّ مصدراً من المبنى للفاعل مالا يخفى وإنما لم يُجعل المفضلُ عليه حبَّهم لله تعالى لما أنَّ المقصودَ بيانُ انقطاعِه وانقلابِه بغضاً وذلك إنما يُتصور في حبهم لأندادهم لكونه منوطاً بمبانٍ فاسدةٍ ومبادٍ موهومةٍ يزول بزوالها قيل ولذلك كانوا يعدلون عنها عند الشدائد إلى الله سبحانه وكانوا يعبُدون صنماً أياماً فإذا وجدوا آخَرَ رفضوه إليه وقد أكلت باهلةُ إلهها عام المجاعةِ وكان من حيس وأنت خبيرٌ بأن مدارَ ذلك اعتبارُ اختلال حبِّهم لها في الدنيا وليس الكلام فيه بل في انقطاعه في الآخرة عند ظهورِ حقيقةِ الحال ومعاينةِ الأهوال كما سيأتي بل اعتبارُه مخِلٌّ بما يقتضيه مقامُ المبالغةِ في بيان كمالِ قبحِ ما ارتكبوه وغايةِ عظم ما اقترفوه وإيثارُ الإظهار في موضعِ الإضمارِ لتفخيمِ الحُبِّ والإشعارِ بعلّته
{وَلَوْ يَرَى الذين ظَلَمُواْ} أي باتخاذ الأنداد ووضعِها موضعَ المعبود
{إِذْ يَرَوْنَ العذابَ} المُعدَّ لهم يومَ القيامة أي لو علِموا إذا عاينوه وإنما أوثر صيغةُ المستقبل لجريانها مجرى الماضي في الدلالة على التحقيق في أخبار علامِ الغيوب
{أَنَّ القوة لِلَّهِ جَمِيعًا} سادّ مسدَّ مفعولي يرى
{وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب} عطفٌ عليه وفائدتُه المبالغةُ في تهويل الخطبِ وتفظيعِ الأمر فإن اختصاصَ القوة به تعالى لا يوجب شدةَ العذاب لجواز تركِه عفواً مع القدرة عليه وجوابُ لو محذوفٌ للإيذان بخروجه عن دائرة البيانِ إما لعدم الإحاطةِ بكنهه وإما لضيق العبارةِ عنه وإما لإيجاب ذكره مالا يستطيعه المعبِّر أو المستمِعُ من الضجر والتفجُّع عليه أي لو علموا إذ رأوُا العذابَ قد حل بهم ولم يُنقِذْهم منه أحدٌ من أندادهم أن القوة لله جميعاً ولا دخل لاحد في شئ أصلاً لوقعوا من الحسرة والندم فيما لا يكاد يوصف وقرئ ولو ترى بالتاء الفوقانية على أن الخطابَ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب فالجوابُ حينئذ لرأيتَ أمراً لا يوصَف من الهول والفظاعة وقرئ إذ يُرَوْن على البناء للمفعول
{وأن الله شديد العذاب} على الاستئناف وإضمارِ القول

(1/186)


إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)

{إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا} بدلٌ من إذ يرون أي إذ تبرأ الرؤساء
{مِنَ الذين اتبعوا} من الأتْباع بأن اعترفوا ببطلان ما كانوا يدّعونه في الدنيا ويدْعونهم إليه من فنون الكفر والضلالِ واعتزلوا عن مخالطتهم وقابلوهم باللعن كقول إبليس إِنّى كَفَرْتُ بما اشر كتموني من قبل وقرئ بالعكس أي تبرأ الأتْباعُ من الرؤساء والواو في قولِه عزَّ وجلَّ
{وَرَأَوُاْ العذاب}

(1/186)


حالية وقد مضمرةٌ وقيل عاطفةٌ على تبرأ والضمير في رأوا للموصوفين جميعاً
{وتقطعت بهم الأسباب} والوصل التي كانت بينهم من التبعية والمتبوعيةِ والاتّفاقِ على الملة الزائغةِ والأغراضِ الداعيةِ إلى ذلك وأصلُ السبب الحبلُ الذي يرتقى به الشجر ونحوه معطوفةٌ على تبرأ وتوسيطُ الحال بينهما للتنبيه على علة التبرّي وقد جُوّز عطفُها على الجملة الحالية

(1/187)


وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

{وَقَالَ الذين اتبعوا} حين عاينوا تبرُؤَ الرؤساءِ منهم وندِموا على ما فعلوا من اتّباعهم لهم في الدنيا
{لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي ليت لنا رجعةً إلى الدنيا
{فَنَتَبَرَّأَ منهم} هناك
{كما تبرؤوا منا} اليوم
{كذلك} إشارةٌ إلى مصدرِ الفعل الذي بعده لا الى شئ آخر مفهوم مما سبق وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه مع كمال تميُّزِه عما عداه وانتظامِه في سلك الأمور المشاهدة والكاف مُقحَمَةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلُّه النصبُ على المصدرية أي ذلك الإراءَ الفظيعَ
{يُرِيهِمُ الله أعمالهم حسرات عَلَيْهِمْ} أي نداماتٍ شديدةً فإن الحسرةَ شدةُ الندم والكمَدِ وهي تألمُ القلبِ وانحسارُه عما يؤلمه واشتقاقها من قولهم بعير حسيرٌ أي منقطعٌ القوة وهي ثالثُ مفاعيلِ يُري إن كان من رؤية القلبِ وإلا فهي حالٌ والمعنى أن أعمالَهم تنقلبُ حسراتٍ عليهم فلا يرَوْن إلا حسراتٍ مكانَ أعمالِهم {وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار} كلامٌ مستأنفٌ لبيان حالِهم بعد دخولِهم النارَ والأصلُ وما يخرجون والعدولُ إلى الاسمية لإفادة دوامِ نفي الخروج والضميرُ للدَلالة على قوةِ أمرِهم فيما أُسند إليهم كما في قوله ... هُمُ يفرُشون اللِّبْدَ كُلَّ طمرة ... واجرد سباق يبذ المغاليا ...

(1/187)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)

{يا أيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِى الارض} أي بعضِ ما فيها من أصناف المأكولات التي من جملتها ما حرّمتموه افتراءً على الله من الحرْثِ والأنعام قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في قوم من ثقيفٍ وبني عامرِ بنِ صَعْصَعةَ وخُزاعةَ وبني مدلج حرَّموا على أنفسهم ما حرموه من الحرْث والبحائرِ والسوائبِ والوصائل والحامِ وقولُه تعالى
{حلالا} حالٌ من الموصولِ أي كلوه حال كونه حلالاً أو مفعولٌ لكلوا على أنّ مِنْ ابتدائيةٌ وقد جُوِّز كونُه صفةً لمصدر مؤكَّدٍ أي أكلاً حلالاً ويؤيد الأولَيْن قولُه تعالى
{طَيّباً} فإنه صفةٌ له ووصفُ الأكل به غيرُ معتاد وقيل نزلت في قوم من المؤمنين حرموا على أنفسهم رفيعَ الأطعمة والملابس ويردّه قوله عز وجل
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} أي لا تقتدوا بها في اتباع الهوى فإنه صريحٌ في أن الخطابَ للكفرة كيف لا وتحريمُ الحلال على نفسه تزهدا ليس من باب اتباع خطواتِ الشيطانِ فضلاً عن كونه تقوُّلاً وافتراءً على الله تعالى وإنما نزل فيهم ما في

(1/187)


البقرة (170 - 169)
سورة المائدة من قوله تعالى بأيها الذين آمنوا لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ الآية وقرئ خُطْواتِ بسكون الطاء وهما لغتان في جمع خُطْوة وهي ما بين قدمي الخاطى وقرئ بضمتين وهمزة جعلت الضمةُ على الطاء كأنها على الواو وبفتحتين على أنها جمعُ خَطْوة وهي المرة من الخَطْو
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} تعليلٌ للنَّهي أيْ ظاهر العدواة عند ذوي البصيرة وإن كان يُظهر الولاية لمن يُغويه ولذلك سُمِّي ولياً في قوله تعالى أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت

(1/188)


إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)

{إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بالسوء والفحشاء} استئنافٌ لبيان كيفيةِ عداوتِه وتفصيلٌ لفنون شرِّه وإفسادِه وانحصارِ معاملتِه معهم في ذلك والسوءُ في الأصل مصدرُ ساءه يسوؤُه سُوءاً ومَساءةً إذا أحزنه يُطلقُ على جميع المعاصي سواءٌ كانت من أعمال الجوارحِ أو أفعالِ القلوب لاشتراك كلِّها في أنها تسوءُ صاحبَها والفحشاءُ أقبحُ أنواعِها وأعظمُها مساءةً
{وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} عطفٌ على الفحشاء أي وبأن تفتروا على الله بأنه حرّم هذا وذاك ومعنى مالا تعلمون مالا تعلمون إنَّ الله تعالَى أمرَ به وتعليقُ أمرِه بتقوُّلِهم على الله تعالى مالا يعلمون وقوعَه منه تعالى لا بتقوُّلهم عليه ما يعلمون عدمَ وقوعِه منه تعالى مع أن حالَهم ذلك للمبالغة في الزجر فإن التحذيرَ من الأول مع كونه في القُبْحِ والشناعةِ دون الثاني تحذيرٌ عن الثاني على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه وللإيذان بأن العاقلَ يجبُ عليهِ أنْ لا يقولَ على الله تعالى مالا يعلم وقوعَه منه تعالى مع الاحتمال فضلاً عن أن يقول عليه ما يعلم عدمَ وقوعِه منه تعالى قالُوا وفيه دليلٌ على المنع من اتباع الظنِّ رأساً وأما اتباعُ المجتهدِ لما أدَّى إليه ظنُّه فمستنِدٌ إلى مَدْرَكٍ شرعيَ فوجوبُه قطعيٌّ والظنُّ في طريقه

(1/188)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله} التفاتٌ إلى الغَيْبة تسجيلاً بكمال ضلالِهم وإيذاناً بإيجاب تعدادِ ما ذكر من جناياتهم لصرف الخطاب عنهم وتوجيهِه إلى العقلاء وتفصيلُ مساوي أحوالِهم لهم على نهج المباثة أي إذا قيل لهم على وجه النصيحةِ والإرشادِ اتبعوا كتاب الله الذي أنزله
{قَالُواْ} لا نتبعه
{بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عليه آباءنا} أي وجدناهم عليه إما على أن الظرفَ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من آباءَنا وألفَيْنا متعدَ إلى واحد وإما على أنه مفعولٌ ثانٍ له مقدمٌ على الأول نزلت في المشركين أُمروا باتباع القرآنِ وسائرِ ما أنزل الله تعالى من الحجج الظاهرةِ والبينات الباهرةِ فجنحوا للتقليد والموصولُ إما عبارةٌ عمَّا سبقَ من اتخاذ الأندادِ وتحريمِ الطيبات ونحوِ ذلك وإما باقٍ على عمومه وما ذكره داخلٌ فيه دخولا أوليا وقيل نزلت في طائفة من اليهود دعاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا بَلْ نتبعُ مَا وجدْنا عليه آباءَنا لأنهم كانوا خيراً منا وأعلم فعلى هذا يعُمّ ما أنزل الله تعالى التوراةَ لأنها أيضاً تدعو إلى الإسلام وقوله عز وجل
{أولو كَانَ آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شيئا ولا يهتدون} استئنافٌ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى رداً لمقالتهم الحمقاءِ وإظهاراً لبطلان آرائِهم والهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه والتعجيب منه لا

(1/188)


لإنكار الوقوعِ كالتي في قولِه تَعالَى أَوْ لَّوْ كُنَّا كارهين وكلمة لو في أمثالِ هذا المقامِ ليست لبيان انتفاء الشئ في الزمان الماضي لانتفاء غيرِه فيه فلا يلاحظ لها جوابٌ قد حُذف ثقةٍ بدلالةِ ما قبلها عليه بل هي لبيان تحققِ ما يفيده الكلامُ السابقُ بالذَّاتِ أو بالواسطةِ من الحُكم الموجَبِ أو المنفي على كل حالٍ مفروض من الأحوال المقارنةِ له على الإجمال بإدخالِها على أبعدِها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهرَ بثبوتهِ أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤه مع ماعداه من الأحوال بطريق الأولية لما أن الشئ متى تحقَّقَ مع المنافي القويَّ فلأنْ يتحقَّقَ مع غيره أولى ولذلك لا يذكر معه شئ من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواوِ العاطفةِ للجُملة على نظيرتها المقابلةِ لها المتناولة لجميع الأحوالِ المغايرة لها وهذا معنى قولِهم أنها لاستقصاء الأحوالِ على سبيلِ الإجمالِ وهذا المعنى ظاهرٌ في الخبر الموجَبِ والمنفيِّ والأمرِ والنهي كما في قولك فلانٌ جوادٌ يُعطي ولو كان فقيراً وبخيلٌ لا يُعطي ولو كان غنياً وقولِك أحسنْ إليه ولو أساءَ إليك ولا تُهِنْه ولو أهانك لبقائه على حاله وأما فيما نحن فيه نوع خفاء ناشئ من ورود الإنكارِ عليه لكن الأصلَ في الكل واحدٌ إلا أن كلمةَ لو في الصور المذكورةِ متعلقةٌ بنفس الفعل المذكورِ قبلها وأن ما يُقصدُ بيانُ تحققِه على كل حالٍ هو نفسُ مدلولِه وأن الجملةَ حالٌ من ضميره أو مما يتعلق به وأن ما في حيِّز لو باقٍ على ما هو عليه من الاستبعاد غالباً بخلاف ما نحن فيه لما أن كلمةَ لو متعلقةٌ فيه بفعل مقدرٍ يقتضيه المذكورُ وأن ما يُقصد بيانُ تحققِه على كل حال مدلولُه لا مدلولُ المذكورِ من حيث هو مدلولُه وأن الجملةَ حالٌ مما يتعلق به لا مما يتعلق بالمذكور من حيث هو متعلِّقٌ به وأن المقصودَ الأصليَّ إنكارُ مدلولِه باعتبار مقارنتُه للحالة المذكورةِ وأما تقديرُ مقارنته لغيرها فلتوسيع الدائرةِ وأن ما في حيز لولا يُقصد استبعادُه في نفسه بل يقصد الإشعارُ بأنه أَمْرٌ محقَّق إلا أنه أُخرج مُخرَجَ الاستبعادِ معاملةً مع المخاطَبين على معتقدَهم لئلا يلبَسوا من التصريح بنسبة آبائهم إلى كمال الجهالةِ والضلالةِ جلدَ النَّمِرِ فيركبوا متنَ العِناد ومبالغةً في الإنكار من جهة اتباعهم لآبائهم حيث كان منكراً مستقبحاً عند احتمالِ كونِ آبائهم كما ذُكر احتمالاً بعيداً فلأَنْ يكونَ مُنْكراً عند تحققِ ذلك أولى والتقديرُ أيتبعون ذلك لو لم يكن آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا من الدين ولا يهتدون للصواب ولو كانوا كذلك فالجملةُ في حيز النصبِ على الحالية من آبائهم على طريقة قوله تعالى أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا كأنه قيل أيتبعون دين آبائهم حالَ كونِهم غافلين وجاهلين ضالّين إنكاراً لما أفاده كلامُهم من الاتّباع على أي حالةٍ كانت من الحالتين غيرَ أنه اكتُفيَ بذكر الحالةِ الثانية تنبيهاً على أنها هي الواقعةُ في نفس الأمر وتعويلاً على اقتضائها للحالة الأولى اقتضاءً بيّناً فإن اتباعهم الذي تعلق به الإنكارُ حيث تحقق مع كونه آبائِهم جاهلين ضالين فلأَنْ يتحقّقَ مع كونهم عاقلين ومُهتدين أوْلى إن قلتَ الإنكارُ المستفادُ من الاستفهام الإنكاريِّ بمنزلة النفي ولا ريب في أن الأولويةَ في صورة النفي معتبرةٌ بالنسبة إلى النفي ألا يُرى أن الأولى بالتحقق فيما ذُكر من مثال النفي عند الحالةِ المسكوتِ عنها أعني عدمَ الغِنى هو عدمُ الإعطاءِ لا نفسُه فكان ينبغي أن يكون الأولى بالتحقق فيما نحن فيه عند الحالةِ المسكوتِ عنها وهي حالة كونِ آبائهم عاقلين ومهتدين إنكار الا تباع لا نفسُه إذ هو الذي يدل عليه أيتبعون االخ فلم اختلفت الحالُ بينهما قلتُ لِما أن مناطَ الأولويةِ هو الحكمُ الذي أريد بيانُ تحققه على كل حال وذلك

(1/189)


البقرة (172 - 171)
في مثال النفي عدمُ الإعطاءِ المستفادِ من الفعل المنفيِّ المذكور وأما فيما نحن فيه فهو نفسُ الاتباعِ المستفادِ من الفعل المقدرِ إذ هو الذي يقتضيه الكلامُ السابقُ أعني قولَهم بل نتبعُ الخ وأما الاستفهامُ فخارجٌ عنه وارد عليه الإنكار ما يُفيدُه واستقباحِ ما يقتضيه لا أنه تمامه كما في الصورة النفي وكذا الحالُ فيما إذا كانت الهمزةُ لإنكار الوقوعِ ونفْيِه مع كونه بمنزلة صريح النفي كما سيأتي تحقيقُه في قوله تعالى أَوَلَوْ كُنَّا كارهين وقيل الواوُ حالية ولكن التحقيقَ أن المعنى يدور على معنى العطفِ في سائر اللغات أيضاً

(1/190)


وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)

{وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ} جملةٌ ابتدائيةٌ واردة لتقرير ما قبلها بطريق التصوير وفيها مضافٌ قد حُذف لدِلالة مَثَلُ عليه ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ الراجع إلى ما يرجع إليه الضمائر السابقةُ لذمِّهم بما في حيزِ الصلة وللإشعار بعِلّة ما أثبت لهم من الحُكم والتقديرُ مثلُ ذلك القائلِ وحالِه الحقيقةِ لغرابتها بأنْ تسمَّى مَثَلاً وتسيرَ في الآفاق فيما ذُكر من دعوته إياهم إلى اتباع الحقِّ وعدمِ رفعِهم إليه رأساً لانهماكهم في التقليد وإخلادِهم إلى ماهم عليه من الضلالة وعدمِ فهمهم من جهة الداعي إلى الدعاء من غير أن يُلقوا أذهانَهم إلى ما يلقى عليهم
{كَمَثَلِ الذى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء} من البهائم فإنها لا تسمع إلا صوتَ الراعي وهَتفَه بها من غير فهم لكلامه أصلاً وقيل إنما حُذف المضافُ من الموصول الثاني لدلالة كلمة ما عليه فإنها عبارةٌ عنه مُشعِرَةٌ مع مَا في حيزِ الصِّلةِ بما هو مدارُ التمثيل أي مَثَلُ الذين كفروا فيما ذُكر من انهماكَهم فيما هم فيه وعدمِ التدبر فيما أُلقيَ إليهم من الآيات كمثل بهائمِ الذي ينعِق بها وهي لا تسمع منه إلا جرسَ النغمة ودويَّ الصوت وقيل المرادُ تمثيلُهم في اتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته وقيل تمثيلُهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه وهو تصويتُه على البهائم وهذا غنيٌّ عن الإضمار لكن لا يساعدُه قولُه إلا دعاءً ونداءً فإن الأصنام بمعزلٍ من ذلك وقد عرفتَ أن حسنَ التمثيل فيما إذا تشابه أفرادُ الطرفين
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} بالرفع على الذم أي هم صمّ الخ
{فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} شيئاً لأن طريقَ التعقل هو التدبّر في مبادي الأمورِ المعقولة والتأمل في ترتيبها وذلك إنما يحصُلُ باستماعِ آياتِ الله ومشاهدةِ حُججِه الواضحةِ والمفاوضة مع من يؤخَذ منه العُلوم فإذا كانوا صماً بكماً عمياً فقد انسدّ عليهم أبوابُ التعقل وطرُقُ الفهم بالكلية

(1/190)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ كلوا مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم} أي مستلَذّاتِه
{واشكروا للَّهِ} الذي رزقَكُموها والالتفاتُ لتربية المهابة
{إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فإن عبادتَه تعالى لاتتم إلا بالشكر له وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يقولُ الله عزَّ وجلَّ إني والإنسُ والجنُ في نبإٍ عظيمٍ أخلُقُ ويُعبد غيري وأرزُقُ ويُشكَر غيري

(1/190)


البقرة (174 - 173)

(1/191)


إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} أي أكلها والانتفاعَ بها وهي التي ماتت على غير ذَكاةٍ والسمكُ والجرادُ خارجان عنها بالعُرف أو استثناء الشرع وخرج الطحال من الدم
{والدم وَلَحْمَ الخنزير} إنما خُصّ لحمُه مع أن سائر أجزائه أيضاً في حكمه لأنه معظمُ ما يؤكل من الحيوان وسائرُ أجزائِه بمنزلة التابع له
{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} أي رافع به الصوتُ عند ذبحه للصنم والإهلالُ أصلُه رؤيةُ الهلالِ لكن لما جرت العادةُ برفع الصوتِ بالتكبير عندها سمِّي ذلك إهلالاً ثم قيل لرفع الصوت وإن كان لغيره
{فَمَنِ اضطر غير باغ} بالاستثناء على مضطر آخرَ
{وَلاَ عَادٍ} سدَّ الرمق والجَوْعة وقيل غير باغ على الوالي ولاعاد بقطع الطريق وعلى هذا لايباح للعاصي بالسفر وهو ظاهرُ مذهب الشافعي وقولُ أحمدَ رحمهما الله
{فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} في تناوله
{إِنَّ الله غَفُورٌ} لِمَا فعل
{رَّحِيمٌ} بالرخصة إن قيل كلمة إنما تفيد قصرَ الحكم على ما ذكروكم من حرام لم يُذكَرْ قلنا المرادُ قصرُ الحرمة على ما ذُكر مما استحلوه لا مطلقاً أو قصرُ حرمتِه على حالة الاختيارِ كأنه قيل إنما حُرِّم عليكم هذه الأشياءُ مالم تضطروا إليها

(1/191)


إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)

{إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله من الكتاب} المشتمل على فنون الأحكامِ التي من جُملتها أحكامُ المحلَّلات والمحرَّمات حسبما ذكر آنفاً وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهما نزلت في رؤساء اليهود حين كتموا نعت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم
{وَيَشْتَرُونَ بِهِ} أي يأخذون بدلَه
{ثَمَناً قَلِيلاً} عِوَضاً حقيراً وقد مر سرُّ التعبير عن ذلك الثمن الذي هو وسيلة في عقود المعاوضة وقولُه تعالى
{أولئك} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الوصفَين الشنيعين المميَّزين لهم عمن عداهم أكملَ تمييز الجاعلَيْن إياهم بحيث كأنهم حُضّارٌ مشاهِدون على ماهم عليه وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بغايةِ بُعدِ منزلتِهم في الشر والفساد وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى
{مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار} والجملةُ خبرٌ لإن أو اسمُ الإشارة مبتدأٌ ثانٍ أو بدلٌ من الأول والخبر ما يأكلون الخ ومعنى أكلِهم النارَ أنهم يأكلون في الحال ما يستتبِعُ النار ويستلزمُها فكأنه عينُ النار وأكلُه أكلُها كقوله ... أكلتُ دماً إن لم أَرُعْكِ بضَرَّة ... بعيدةِ مهوى القُرط طيّبةِ النشْرِ ...
أو يأكلون في المآل يوم القيامة عينَ النار عقوبةً على أكلهم الرِّشا في الدنيا وفي بطونهم متعلقٌ بيأكلون وفائدتُه تأكيدُ الأكلِ وتقريرُه ببيان مقرِّ المأكول وقيل معناه ملءَ بطونهم كما في قولهم أكل في بطنه وأكل في بعض بطنه ومنه كُلوا في بعض بطنِكم تعفّوا فلا بد من الالتجاء إلى تعليقه بمحذوف وقعَ حالاً مقدّرة من النار مع تقديمه على حرف الاستثناء وإلا فتعليقُه بيأكلون يؤدّي إلى قصْر ما يأكلونه إلى الشبع على النار والمقصود قصرُ ما يأكلونه مطلقاً عليها

(1/191)


البقرة (177 - 175)

{وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة} عبارة عن غضبه العظيم عليهم وتعريض بحر مانهم ما أتيح للمؤمنين من فُنُونِ الكراماتِ السنيةِ والزلفى
{ولا يزكيهم} لايثنى عليهم
{وَلَهُمْ} معَ ما ذُكر
{عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم

(1/192)