تفسير أبي السعود
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ
بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
{أولئك} إشارة إلى ما أُشير إليه بنظيره
بالاعتبار المذكور خاصة لا مع ما يتلوه من أحوالهم الفظيعةِ إذ
لا دخل لها في الحكم الذي يراد إثباتُه ههنا فإن المقصود
تصويرُ ما باشروه من المعاملة بصورة فبيحة تنفِر منها الطباعُ
ولا يتعاطاها عاقلٌ أصلاً ببيان حقيقةِ ما نبذوه وإظهار كُنهِ
ما أخذوهُ وإبداءِ فظاعة تِبعاتِه وهو مبتدأ خبرُه الموصولُ أي
أولئك المشترون بكتاب الله عز وجل ثمناً قليلاً ليسوا بمشترين
للثمن وإن قل بل هم
{الذين اشتروا} بالنسبة إلى الدنيا
{الضلالة} التي ليست مما يمكن أن يشترى قطعاً
{بالهدى} الذي ليس من قبيل ما يبذل بمقابلة شئ وإن جل
{والعذاب} أي اشتروا إلى الآخرة العذاب الذي لا يُتوَهَّم
كونُه مما يشترى
{بالمغفرة} التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ
{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} تعجيبٌ من حالهم الهائلة
التي هي ملابستُهم بما يوجب النارَ إيجاباً قطعياً كأنه عينها
وما عند سيبويهِ نكرةٌ تامة مفيدة لمعنى التعجب مرفوعة
بالابتداء وتخصصها كتخصص شر في أَهَرَّ ذَا نَابٍ خبرُها ما
بعدها أي شئ ما عظيم جعلهم صابرين على النار وعند الفراء
استفهامية وما بعدها خبرها أي أي شئ أصبرَهم على النار وقيل هي
موصولة وقيل موصوفة بما بعدها والخبر محذوف أي الذي أصبرهم على
النار او شئ أصبرهم على النار أمرٌ عجيب فظيع
(1/192)
ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
{ذلك} العذاب
{بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب} أي جنسَ الكتابِ
{بالحق} أي ملتبساً به فلا جرم يكون من يرفضه بالتكذيب
والكتمان ويركب متنَ الجهل والغَواية مُبتلىً بمثل هذا من
أفانينِ العذاب
{وَإِنَّ الذين اختلفوا فِى الكتاب} أي في جنس الكتابِ الإلهي
بأن آمنوا ببعض كتبِ الله تعالى وكفروا ببعضها أو في التوراة
بأن آمنوا ببعض آياتِها وكفروا ببعضٍ كالآيات المُغيَّرة
المشتملةِ على أمر بعثه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ونعوته
الكريمة فمعنى الاختلافِ التخلفُ عن الطريق الحق أو الاختلافُ
في تأويلها أو في القرآن بأن قال بعضهم أنه سحرٌ وبعضُهم أنه
شعرٌ وبعضهم أساطيرُ الأولين كما حكى عن المفسرين
{لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} عن الحقِّ والصوابِ مستوجب لأشد
العذاب
(1/192)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي
الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ
فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
{لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ
قِبَلَ المشرق والمغرب}
(1/192)
البِرُّ اسمٌ جامع لمراضِي الخصالِ
والخطابُ لأهل الكتابين فإنهم كانوا أكثروا الخوضَ في أمر
القِبلة حين حُوِّلت إلى الكعبة وكان كلُّ فريقٍ يدّعي خيريةَ
التوجُّه إلى قبلته من القُطرين المذكورين وتقديمُ المشرق على
المغرب مع تأخر زمانِ الملّةِ النصرانية إما لرعاية ما بينهما
من الترتيب المتفرِّع على ترتيب الشروق والغروب وإما لأن توجّه
اليهودِ إلى المغرب ليس لكونه مَغرِباً بل لكون بيتِ المقدس من
المدينة المنورة واقعاً في جانب الغرب فقيل لهم ليس البر ما
ذكرتم من التوجه إلى تينك الجهتين على أن البر خبرُ ليس مقدما
على اسمها كما في قوله ... سلي إن جهِلتِ الناس عني وعنهم ...
فليس سواءً عالمٌ وجَهولُ ...
وقوله ... أليس عظيماً أن تُلمَّ مُلِمَّة ... وليس علينا في
الخطوب مقولُ ... وإنما أخر ذلك أن المصدرَ المؤولَ أعرفُ من
المحلَّى باللام لأنه يُشبهُ الضمير من حيثُ إنَّه لا يوصف ولا
يوصف به والأعرفُ أحق بالاسمية ولأن في الاسم طولاً فلو روعيَ
الترتيبُ المعهود لفات تجاوبُ أطرافِ النظم الكريم وقرئ برفع
البرُّ على أنه اسمها وهو أقوى بحسب المعنى لأن كل فريق يدعي
أن البرَّ هذا فيجب أن يكون الردُّ موافقاً لدعواهم وما ذلك
إلا بكَوْن البِرِّ اسماً كما يُفصح عنه جعلُه مُخْبَراً عنه
في الاستدراك بقوله عز وجل
{ولكن البر من آمن بالله} وهو تحقيقٌ للحق بعد بيان بطلان
الباطلِ وتفصيلٌ لخِصال البِر مما لا يختلف باختلاف الشرائعِ
وما يختلف باختلافها أي ولكن البِرَّ المعهود الذي يحِقّ أن
يُهتَمَّ بشأنه ويُجَدَّ في تحصيله بِرُّ مَنْ آمن بالله وحده
إيماناً بريئاً من شائبة الإشراكِ لا كإيمان اليهود والنصارى
والمشركين بقولهم عَزِيزٌ ابن الله وقولِهم المسيحُ ابن الله
{واليوم الآخر} أي على ما هو عليه لا كما يزعُمون من أن النار
لاتمسهم إلا أياما معدودة وأن آباءَهم الأنبياءَ يشفعون لهم
ففيه تعريضٌ بأن إيمانَ أهلِ الكتابين حيث لم يكن كما ذكر من
الوجه الصحيحِ لم يكن إيماناً وفي تعليق البِرِّ بهما من أول
الأمر عَقيبَ نفيه عن التوجُّه إلى المشرق والمغرب من الجزالة
مالا يخفى كأنه قيل ولكن البِر هو التوجُّه إلى المبدأ
والمَعاد اللذيْن هما المشرِقُ والمغرِب في الحقيقة
{والملائكة} أي وآمن بهم وبأنهم عبادٌ مُكْرَمون متوسِّطون
بينه تعالى وبين أنبيائِه بإلقاء الوحي وإنزالِ الكتب
{والكتاب} أي بجنس الكتابِ الذي من أفراده الفرقانُ الذي نبذوه
وراءَ ظهورِهم وفيه تعريضٌ بكِتمانهم نعوتَ النبيِّ صلَّى الله
عليهِ وسلم واشترائِهم بما أنزل الله تعالى ثمناً قليلاً
{والنبيين} جميعاً من غير تفرقةٍ بين أحدٍ منهم كما فعل أهلُ
الكتابَيْن ووجهُ توسيط الكتابِ بين حَمَلةِ الوحي وبين
النبيين واضحٌ وسيأتي في قولِه تعالى كُلُّ آمن بالله وملائكته
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
{وآتى المالَ عَلَى حُبِّه} حالٌ من الضمير في آتى والضميرُ
المجرور للمال أي آتاه كائناً على حب المال في قوله صلى الله
عليه وسلم حين سُئِل أيُّ الصدقةِ افضل لان تؤتيه وأنت صحيح
شحيح وقول ابن مسعود رضي الله عنه أن تؤتيه وأنت صحيح شحيحٌ
تأمُلُ العيشَ وتخشى الفقرَ ولا تُمهِلَ حتى إذا بلغت
الحُلقومَ قلت لفلانٍ كذا ولفلانٍ كذا وقيل الضَّميرُ لله
تعالى أي آتاه كائناً على محبته تعالى لا على قصد الشرِّ
والفساد ففيه نوع تعريض لباذلي الرشي وآخذيها لتغيير التوارة
وقيل للمصدرِ أي كائناً على حب الإيتاء
{ذَوِى القربى} مفعولٌ أولٌ لآتى قُدِّم عليه مفعولُه الثاني
أعني المالَ للاهتمام به أو لأن في الثاني معَ ما عُطف عليه
طُولاً لو رُوعي الترتيبُ لفات تجاوبُ الأطرافِ
(1/193)
في الكلام وهو الذي اقتضى تقديمَ الحال
أيضاً وقيل هو المفعولُ الثاني
{واليتامى} أي المحاويجَ منهم على ما يدلُّ عليهِ الحال
وتقديمُ ذوي القربى عليهم لما أن إيتاءَهم صدقةٌ وصِلَة
{والمساكين} جمعُ مِسكينٍ وهو الدائمُ السُكون لما أن الخَلّة
أسكنَتْهُ بحيث لا حَراكَ به أو دائمُ السكون إلى الناس
{وابن السبيل} أي المسافرَ سُمي به لملازمته إياه كما سمِّي
القاطِعُ ابنالطريق وقيل الضيف
{والسائلين} الذين أَلْجأتهم الحاجةُ والضرورةُ إلى السؤال قال
عليه الصلاة والسلام أعطوا السائل ولو على فرَسٍ
{وَفِي الرقاب} أي وضَعَه في فكّ الرقابِ بمعاونة المكاتَبين
حتى يفُكّوا رِقابَهم وقيل في فك الأُسارى وقيل في ابتياع
الرقاب وإعتاقها واياما كان فالعدولُ عن ذكرِهم بعنوان مُصححٍ
للمالكية كالذين من قبلهم إما للإيذان بعدم قرارِ مِلكِهم فيما
أوتوا كما في الوجهين الأولين أو بعدم ثبوتِه رأساً كما في
الوجه الأخير وإما للإشعار برسوخهم في الاستحقاق والحاجةِ لما
أن في للظرفية المُنْبئة عن محلِّيتهم لما يؤتى
{وأقامَ الصَّلاَةَ} أي المفروضةَ منها
{وآتَى الزَّكَاةَ} أي المفروضة على أنَّ المرادَ بما مرَّ من
إيتاءِ المالِ التنفّلُ بالصدقات قُدِّم على الفريضة مبالغةٌ
في الحثِّ عليه أو المرادُ بهما المفروضةُ والأول لبيان
المصارفِ والثاني لبيان وجوب الأداءِ
{والموفون بِعَهْدِهِمْ} عطفٌ على مَنْ آمن فإنه في قوَّةِ أنْ
يقالَ ومَنْ أوفَوْا بعهدهم وإيثارُ صيغة الفاعل للدلالة على
وجوب استمرار الوفاءِ والمرادُ بالعهد مالا يحرِّم حلالاً ولا
يُحلِّل حَراماً من العهود الجارية فيما بين الناس وقولُه
تعالى
{إِذَا عاهدوا} للإيذان بعدمِ كونِه من ضروريات الدين
{والصابرين} نُصب على الاختصاص غُيِّر سبكُه عما قبله تنبيهاً
على فضيلة الصبر وميزيته وهو في الحقيقة معطوفٌ على ما قبله
قال أبو علي إذا ذكرت صفات للمدح أو للذم فخولفَ في بعضها
الإعرابُ فقد خولف للافتنان ويسمَّى ذلك قطعاً لأن تغييرَ
المألوفِ يدل على زيادة ترغيبٍ في استماع المذكورِ ومزيدِ
اهتمامٍ بشأنه كما مرَّ في صدرِ السورة وقد قرئ والصابرون كما
قرىء والموفين
{فِى البأساء} أي في الفقر والشدة
{والضراء} أي المرض والزَّمانة
{وَحِينَ البأس} أي وقتَ مجاهدةِ العدوِّ في مواطن الحرب
وزيادةُ الحينِ للإشعار بوقوعه أحياناً وسرعةِ انقضائِه
{أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار اتّصافِهم بالنعوت
الجميلةِ المعدودة وما فيه من معنى البُعد لما مر مرارا من
التنبيه على علوِّ طبقتِهم وسُموِّ رُتبتِهم
{الذين صَدَقُوا} أي في الدين واتباعِ الحقِّ وتحرَّى البِرِّ
حيث لم تغيِّرْهم الأحوالُ ولم تُزلزلهم الأهوال
{وَأُولَئِكَ هُمُ المتقون} عن الكفر وسائرِ الرذائلِ وتكريرُ
الإشارة لزيادة تنويهِ شأنِهم وتوسيطُ الضمير للإشارة إلى
انحصار التقوى فيهم والآيةُ الكريمة كما ترى حاويةٌ لجميع
الكمالات البشرية برُمَّتها تصريحاً أو تلويحاً لما أنها مع
تكثُّر فنونها وتشعُّب شجونِها منحصرةٌ في خِلالِ ثلاث صحةِ
الاعتقاد وحسنِ المعاشرة مع العباد وتهذيبِ النفس وقد أشير إلى
الأولى بالإيمان بما فُصِّل وإلى الثانية بإيتاء المالِ وإلى
الثالثة بإقامة الصلاة الخ ولذلك وُصف الحائزون لها بالصدق
نظراً إلى إيمانهم واعتقادِهم وبالتقوى اعتباراً بمعاشرتهم مع
الخلق ومعاملتهم مع الحق وإليه يشير قوله صلى الله عليه وسلم
من
(1/194)
البقرة (178)
عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان
(1/195)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ
وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ
فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} شروع في
بيان بعض الأحكامِ الشرعية على وجه التلافي لما فرَط من
المُخِلّين بما ذكر من أصول الدين وقواعدِه التي عليها بُنيَ
أساسُ المَعاش والمَعاد
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ} أي فُرض وأُلزم عند مطالبةِ صاحبِ الحق
فلا يقدَحُ فيه قدرةُ الوليِّ على العفو فإن الوجوبَ إنما
اعتُبر بالنسبة إلى الحكّام والقاتلين
{القصاص فِي القتلى} أي بسبب قتلِهم كما في قوله صلى الله عليه
وسلم إن امرأةً دخلت النارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْها أي بسبب
ربطها إياها
{الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والانثى بالانثى} كان في
الجاهلية بين حيَّيْنِ من أَحياء العربِ دماءٌ وكان لأحدهما
طَوْلٌ على الآخر فأقسموا لنقتُلَنَّ الحرَّ منكم بالعبد
والذكرَ بالأنثى فلما جاء الإسلامُ تحاكموا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فنزلت فأمرهم أن يتبوءوا وليس فيها دِلالةٌ على
عدم قتل الحرِّ بالعبد عند الشافعي أيضاً لأن اعتبارَ المفهومِ
حيث لم يظهر للتخصيص بالذكر وجهٌ سوى اختصاصِ الحُكم بالمنطوقِ
وقد رأيتَ الوجهَ ههنا وإنما يتمسك في ذلك هو ومالكٌ رحمهما
الله بما روى علي رضي الله عنه أن رجلاً قتل عبدَه فجلده رسول
الله صلى الله عليه وسلم ونفاه سنةً ولم يُقِدْه وبما روى عنه
رضيَ الله عنه أنَّه قال من السنة أن لايقتل مسلمٌ بذي عهدٍ
ولا حرٌّ بعبد وبأن أبا بكر وعمررضي الله عنهما كانا لا يقتلان
الحر بالعبد بين أظهر الصحابة من غير نكيرٍ وبالقياس على
الأطراف وعندنا يُقتل الحرُّ بالعبد لقوله تعالى أَنَّ النفس
بالنفس فإن شريعة مَنْ قبلَنا إذا قُصَّتْ علينا من غير دلالة
على نسخها فالعملُ بها واجبٌ على أنها شريعةٌ لنا ولأن القصاصَ
يعتمدُ المساواةُ في العصمة وهي بالدين أو بالدار وهما سيان
فيهما وقرئ كتب على البناءِ للفاعلِ ونصْبِ القصاص
{فَمَنْ عُفِىَ له من أخيه شىء} أي شئ من العفو لأن عفا لازمٌ
وفائدتُه الإشعار بأن بعض العفو بمنزلة كلّه في إسقاط القصاصِ
وهو الواقع أيضاً في العادة إذ كثيراً ما يقعُ العفوُ من بعض
الأولياءِ فهو شئ من العفو وقيل معنى عفى ترك وشئ مفعولٌ به
وهو ضعيف إذ لم يثبُتْ عفاه بمعنى تركه بل أعفاه وحُمل العفو
على المحو كما في قول من قال ... ديارٌ عفاها جَوْرُ كل معاندِ
...
وقوله ... عفاها كل حنان ... كثيرِ الوبل هَطّالِ ...
فيكونُ المعنى فمن مُحيَ له من أخيه شئ صرف للعبارة المتداولة
في الكتاب والسنةِ عن معناها المشهور المعهودِ إلى ما ليس
بمعهود فيهما وفي استعمال الناس فإنهم لا يستعملون العفوَ في
باب الجنايات إلا فيما ذكرَ من قبلُ وعفا يُعدَّى بعن إلى
الجاني والذنب قال تعالى عفا الله عنك وقال عَفَا الله عَنْهَا
فإذا تعدَّى إلى الذنب قيل عفوْتُ لفلان عما جنى كأنه قيل فمن
عُفي له عن جنايته من جهة أخيه يعني وليَّ الدم وإيرادُه
بعنوان الأخوّة الثابتةِ بينهما بحكم كونِهما من بني آدمَ عليه
السلام لتحريك سلسلة الرقةِ والعطف عليه
{فاتباع} بالمعروف فالأمرُ اتباعٌ أو فليكن اتباع والمراد
(1/195)
البقرة (180 - 179)
وصية العافي بالمسامحة ومطالبة الدية بالمعروف من غير تعسفٍ
وقوله عزوجل
{وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان} حثٌّ المعفو عنه على أن يؤدِّيَها
بإحسان من غير مما طلة وبخس
{ذلك} أي ما ذكر من الحُكم
{تَخْفِيفٌ مّن ربكم ورحمة} لمافيه من التسهيل والنفعِ وقيل
كُتب على اليهود القصاصُ وحده وحرِّم عليهم العفوُ والدية وعلى
النصارى العفوُ على الإطلاق وحرِّم عليهم القصاص والدية وخبرات
هذه الأمةُ بين الثلاث تيسيراً عليهم وتنزيلاً للحُكم على حسَب
المنازل
{فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك} بأن قتلَ غيرَ القاتل بعد ورود هذا
الحُكم أو قتلَ القاتلَ بعد العفو أو أخذِ الدية
{فَلَهُ} باعتدائه
{عَذَابٌ أَلِيمٌ} أما في الدنيا فبا لاقتصاص بما قتله بغير
حقَ وأما في الآخرة فبالنار
(1/196)
وَلَكُمْ فِي
الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ (179)
{وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} بيانٌ لمحاسِنِ
الحُكم المذكور على وجهٍ بديعٍ لا تناله غايته حيث جعل الشئ
محلاً لضِدِّه وعُرِّف القصاص ونُكِّر الحياةُ ليدل على أن في
هذا الجنس نوعاً من الحياة عظيماً لا يبلُغه الوصفُ وذلك لأن
العلمَ به يردَعُ القاتلَ عن القتل فيتسبَّب لحياةِ نفسَيْن
ولأنهم كانوا يقتُلون غيرَ القاتل والجماعةَ بالواحد فتثورُ
الفتنةُ بينهم فإذا اقتُصَّ من القاتل سلِم الباقون فيكون ذلك
سبباً لحياتهم وعلى الأول فيه إضمارٌ وعلى الثاني تخصيصٌ وقيل
المرادُ بالحياة هي الأُخروية فإن القاتلَ إذا اقتُصَّ منه في
الدنيا لم يؤاخذ به في الآخرة والظَّرْفان إما خبرانِ لحياةٌ
أو أحدُهما خبرٌ والآخَرُ صِلةٌ له أو حالٌ من المستكنِّ فيه
وقرئ في القَصَصِ أي فيما قُصَّ عليكم من حُكم القتل حياة أو
القرآن حياة للقلوب
{يا أولي الالباب} أي ذوي العقولِ الخالصةِ عن شَوْب الأوهام
خوطبوا بذلك بعد ما خُوطبوا بعنوان الإيمان تنشيطاً لهم إلى
التأمل في حِكمة القصاص
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي تقون أنفسَكم من المساهلة في أمره
والإهمالِ في المحافظة عليه والحُكمِ به والإذعانِ أو في
القصاص فتكُفّوا عن القتل المؤدِّي إليه
(1/196)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ} بيانٌ لحكمٍ آخَرَ من
الأحكام المذكورة
{إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} أي حضر أسبابُه وظهرَ
أماراتُه أو دنا نفسُه من الحضور وتقديمُ المفعول لإفادة كمال
تمكن الفاعل عند النفس وقت وروده عليها
{إِن تَرَكَ خَيْرًا} أي مالاً وقيل مالاً كثيراً لما رُوي عن
عليَ رضيَ الله عنه أن مولىً له أراد أن يوصِيَ وله سبعُمائة
درهمٍ فمنعه وقال قال الله تعالَى إنْ تركَ خيراً وإن هذا لشئ
يسيرٌ فاترُكْه لعيالك وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها أن رجلاً
أراد الوصيةَ وله عيالٌ وأربعُمائة دينارٍ فقالت ما أرى فيه
فضلاً وأراد آخرُ أن يوصِيَ فسألته كم مالُك فقال ثلاثةُ آلافِ
درهم قالت كم عيالُك قال أربعة قالت إنما قال الله تعالَى إنْ
تركَ خيراً وإن هذا لشئ يسيرٌ فاترُكْه لعيالك
{الوصية للوالدين والاقربين} مرفوعٌ بكُتِبَ أُخِّر عما بينهما
لما مر مرار وإيثارُ تذكيرِ الفعلِ مع جواز تأنيثه أيضا للفعل
أو على تأويل أن يوصى أو الإبصار ولذلك ذُكّر الضميرُ في قولِه
تعالى فَمَن بَدَّلَهُ بعد ما سَمِعَهُ وإذا ظرفٌ محضٌ
والعاملُ فيه كُتب لكن لامن حيث
(1/196)
البقرة (181)
صدورُ الكتْب عنه تعالى بل من حيث تعلُّقُه بهم تعلقاً فِعلياً
مستتبِعاً لوجوب الأداء كما ينبئ عنه البناءُ للمفعول وكلمةُ
الإيجاب ولا مساغَ لجعل العامل هو الوصيةُ لتقدّمه عليها وقيلَ
هو مبتدأٌ خبرُه للوالدين والجملةُ جوابُ الشرط بإضمار الفاءِ
كما في قوله ... من يفعل الحسناتِ الله يشكُرُها ...
ورد بانه إن صحّ فمن ضرورةِ الشعر ومعنى كُتب فُرض وكان هذا
الحكمُ في بدءِ الإسلامِ ثم نسخ عند نزول آيةِ المواريثِ بقوله
عليه السَّلامُ أنْ الله قد أعطى كلَّ ذي حقه ألا لاوصية
لوارثٍ فإنه وإن كان من أخبار الآحادِ لكن حيثُ تلقته الأمةُ
بالقَبول انتظم في سلك المتواتِر في صلاحيته للنسخ عند ائمتنا
على أن التحقيقَ أن الناسخَ حقيقةً هي آيةُ المواريث وإنما
الحديثُ مُبيّنٌ لجهة نسخِها ببيانِ أنه تعالى كان قد كتب
عليكم أن تؤدوا إلى الوالدين والأقربين حقوقَهم بحسب استحقاقهم
من غير تبيين لمراتب استحقاقِهم ولا تعيين لمقادير أنصبائِهم
بل فوض ذلك إلى آرائكم حيث قال
{بالمعروف} أي بالعدْل فالآن قد رَفَعَ ذلك الحُكمَ عنكم
لتبيين طبقاتِ استحقاقِ كلِّ واحدٍ منهم وتعيينِ مقاديرِ
حقوقِهم بالذات وأعطى كلَّ ذي حق منهم حقه الذي يستحقه بحكم
القرابة من غير نقصٍ ولا زيادة ولم يدَعْ ثمةَ شيئاً فيه مدخلٌ
لرأيكم أصلاً حسبما يعرب عنه الجملةُ المنفيَّةُ بلا النافية
للجنس وتصويرها بكلمة التنبيه إذا تحققتَ هذا ظهر لك أن ما قيل
من أن آيةَ المواريثِ لا تعارضُه بل تحقِّقه وتؤكّدُه من حيث
إنها تدلُ على تقديمِ الوصيةِ مطلقاً والحديثُ من الآحاد
وتلقّي الأمةِ إياه بالقَبول لا يُلحِقُه بالمتواتر ولعله
احترَز عنه مَنْ فسَّر الوصيةَ بما أوصى به الله عزَّ وجلَّ من
توريث الوالدين والقربين بقوله تعالى يُوصِيكُمُ الله أو
بإيصاءِ المُحتَضَرِ لهم بتوفير ما أوصى به الله تعالى عليهم
بمعزلٍ من التحقيق وكذا ماقيل من أن الوصيةَ للوارث كانت
واجبةً بهذه الآية من غير تعيينٍ لأنصبائهم فلما نزلت آيةُ
المواريثِ بيانا للانصباء فُهم منها بتنبيه النبيِّ صلَّى الله
عليهِ وسلم أن المراد هذه الوصيةُ التي كانت واجبة كأنَّه قيل
إنَّ الله تعالى أوصى بنفسه تلك الوصيةَ ولم يُفَوِّضْها إليكم
فقام الميراثُ مقامَ الوصيةِ فكان هذا معنى للنسخ لا أن فيها
دلالةً على رفع ذلك الحُكمِ فإن مدلولَ آيةِ الوصيةِ حيث كان
تفويضاً للأمر إلى آراء المكلَّفين على الإطلاق وتسنّي الخروجِ
عن عُهدة التكليف بأداءِ ما أدَّى إليه آراؤُهم بالمعروف فتكون
آيةُ المواريثِ الناطقةِ بمراتب الاستحقاقِ وتفاصيل مقاديرِ
الحقوقِ القاطعةِ بامتناعِ الزيادةِ والنقصِ بقوله تعالى
فَرِيضَةً مّنَ الله ناسخةً لها رافعةً لحُكمها مما لا يَشتبهُ
على أحد وقولُه تعالى
{حَقّا عَلَى المتقين} مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا
(1/197)
فَمَنْ بَدَّلَهُ
بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ
يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
{فَمَن بَدَّلَهُ} أي غيَّره من الأوصياء
والشهود
{بَعْدِ مَا سَمِعَهُ} أي بعد ما وصل إليه وتحقّق لديه
{فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} أي إثم الإيصار المُغيِّر أو إثمُ
التبديل
{عَلَى الذين يُبَدّلُونَهُ} لأنهم خانوا وخالفوا حكمَ الشرعِ
ووضعُ الموصولِ في موضع الضميرِ الراجعِ إلى مَنْ لتأكيد
الإيذان بعِلّية مَا في حيزِ الصِّلةِ الأولى وإيثار الجمع
للإشعار بتعداد المبدّلين أنواعاً أو كثرتِهم أفراداً
والإيذانِ بشمول الإثمِ لجميع الأفراد
{إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وعيدٌ شديد للمبدلين
(1/197)
البقرة (184 - 182)
(1/198)
فَمَنْ خَافَ مِنْ
مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا
إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ} أي توقعَ وعلِم
من قولهم أخاف أن يُرسِلَ السماء وقرئ من مُوَصَ
{جَنَفًا} أي ميلاً بالخطأ في الوصية
{أَوْ إِثْماً} أي تعمداً للجنف
{فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} أي بين الموصى لهم بإجرائهم على منهاج
الشريعةِ الشريفةِ
{فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي في هذا التبديل لأنه تبديلُ باطلٍ
إلى حق بخلاف الأول
{إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وعدٌ للمُصْلِح وذكرُ المغفرة
لمطابقة ذكرِ الإثم وكونِ الفعل من جنس ما يؤثم
(1/198)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصيام} بيان لحكم آخر من الأحكام الشرعية وتكريرُ
النداء لإظهارِ مزيدِ الاعتناءِ والصيامُ والصومُ في اللغة
الإمساك عما تنزع إليه النفسُ ومنه قوله تعالى إِنّى نَذَرْتُ
للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الآية وقيل هو الإمساك عن الشئ
مطلقاً ومنه صامت الريحُ إذا أمسكت عن الهبوب والفرسُ إذا
أمسكت عن العدْو قال ... خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمة ... تحت
العَجاجِ وأُخرى تعلِكُ اللُّجُما ... وفي الشريعة هو الإمساكُ
نهاراً مع النية عن المفطِرات المعهودة التي هي معظمُ ما
تشتهيه الأنفس
{كَمَا كُتِبَ} في حيِّز النصبِ على أنه نعت للمصدر المؤكَّد
أي كتاباً كائناً كما كُتب أو على أنه حالٌ من المصدر
المعْرِفة أي كتب عليكم الصيامُ الكَتْبَ مُشْبَهاً بما كُتب
فما على الوجهين مصدرية أوعلى أنه نعتٌ لمصدر من لفظ الصيام أي
صوماً مماثلاً للصوم المكتوبِ على مَنْ قبلَكم فما موصولةٌ أو
على أنه حالٌ من الصيام أي حالَ كونِه مماثلاً لما كتِب
{عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} من الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام والأممِ من لدُنْ آدمَ عليهِ السلام وفيه تأكيدٌ للحكم
وترغيبٌ فيه وتطييبٌ لأنفس المخاطبين به فإن الشاقَّ إذا عمّ
سهُل عملُه والمرادُ بالمماثلة إما المماثلةُ في أصل الوجوب
وإما في الوقت والمقدار كما يروى أن صومَ رمضانَ كان مكتوباً
على اليهود والنصارى أما اليهودُ فقد تركتْه وصامَتْ يوماً من
السنة زعَموا أنه يومَ غرِقَ فرعونُ وكذبوا في ذلك فإنه كان
يوم عاشوراء وأما النصارى فإنهم صاموا رمضانَ حتى صادفوا حرّاً
شديداً فاجتمعت آراءُ علمائهم على تعيين فصلٍ واحدٍ بين الصيف
والشتاء فجعلوه في الربيع وزادوا عليه عشَرةَ أيامِ كفارةً لما
صنعوا فصار أربعين ثم مرِضَ ملكُهم أو وقع فيهم موتان فزادوا
عشرةَ أيامٍ فصار خمسين
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي المعاصيَ فإن الصومَ يكسِرُ
الشهوةَ الداعيةَ إليها كَما قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسلام
فعليه بالصوم فإن الصوم لَهُ وِجاءٌ أو تتقون الإخلالَ بأدائه
لأصالته أو تصِلون بذلك إلى رتبة التقوى
(1/198)
أَيَّامًا
مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
{أياما معدودات} موقتات بعدد معلومٍ أو
قلائلَ فإن القليلَ من المال يُعدّ عداً والكثير يُهال هَيْلاً
والمرادُ بها إما رمضانُ أو ما وجب في بدءِ الإسلامِ ثم نُسخ
به من صوم عاشوراءَ وثلاثةِ أيامٍ من كل شهر وانتصابه
(1/198)
البقرة (185)
ليس بالصيام كما قيل لوقوع الفصلِ بينهما بأجنبي بل بمضمرٍ دل
هو عليه أعني صوموا إما على الظرفية أو المفعولية اتساعاً وقيل
بقوله تعالى كتب على أحد الوجهين وفيه أن الأيامَ ليست محلاً
له بل للمكتوب فلا تتحققُ الظرفيةُ ولا المفعولية المتفرِّعةُ
عليها اتساعاً
{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} أي مرَضاً يضُره الصومُ أو
يعسُر معه
{أَوْ على سَفَرٍ} مستمرّين عليه وفيه تلويحٌ ورمزٌ إلى أن من
سافر في أثناء اليوم لم يُفطر
{فَعِدَّةٌ} أي عليه صومُ عدةِ أيامِ المرضِ والسفر
{مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} إن أفطر فحُذِفَ الشرطُ والمضاف ثقة
بالظهور وقرئ بالنصب أي فليصُم عِدةً وهذا على سبيل الرخصة
وقيل على الوجوب وإليه ذهب الظاهرية وبه قال أبو هريرةَ رضيَ
الله عنه
{وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} أي وعلى المطيقين للصيام وإن
أفطروا
{فِدْيَةٌ} أي إعطاءَ فدية وهي
{طعام مسكين} وهو نصفُ صاعٍ منْ بُرَ أو من غيره عند أهل
العراق ومُدٌّ عند أهل الحجاز وكان ذلك في بدء الإسلامِ لما
أنَّه قد فُرض عليهم الصومُ وما كانوا متعوِّدين له فاشتد
عليهم فرُخِّص لهم في الإفطار والفدية وقرئ يطيقونه أي
يكلَّفونه أو يُقلَّدونه ويتطوَّقونه ويطَّوَقونه بإدغام التاء
في الطاء ويطيقونه بمعنى يتطيقونه وأصلهما يطوقونه ويتطوقونه
من فعيل وتفعيل من الطوْق فأُدغمت الياء في الواو وبعد قلبها
ياء كقولهم تدبّر المكان وما بها ديّار وفيه وجهان أحدُهما
نحوُ معنى يُطيقونه والثاني يكلَّفونه أو يَتَكلفونه على جهدٍ
منهم وعسورهم الشيوخُ والعجائزُ وحكمُ هؤلاءِ الإفطارُ
والفديةُ وهو حينئذ غيرُ منسوخٍ ويجوز أن يكون هذا معنى
يطيقونه أي يصومونه جهدَهم وطاقتَهم ومبلغَ وسعهم
{فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} فزاد في الفدية
{فَهُوَ} أي التطوُّعُ أو الخيرُ الذي تطوَّعه
{خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ} أيها المُطيقون أو
المُطوِّقون وتحمِلوا على أنفسكم وتجهَدوا طاقتَكم أو
المرَخَّصون في الإفطار من المرضى والمسافرين
{خيرا لَّكُمْ} من الفدية أو من تطوُّعَ الخير أو منهما أو من
التأخير إلى أيام أُخَرَ والالتفاتُ إلى الخطاب للهز والتنشيط
{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي ما في صومِكم مع تحقّق المبيحِ
للإفطار من الفضيلة والجوابُ محذوفٌ ثقةٍ بظهورِه أي اخترتموه
أو سارعتم إليه وقيل معناه إنْ كنتُم من أهلِ العلم والتدبير
علمتم أن الصومَ خيرٌ من ذلك
(1/199)
شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا
هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
{شَهْرُ رَمَضَانَ} مبتدأٌ سيأتي خبرُه أو
خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ أي ذلك شهرُ رمضانَ أو بدلٌ من الصيام على
حذفِ المضافِ أي صيامُ شهرِ رمضانَ وقرئ بالنصب على إضمار
صُوموا أو على أنَّه مفعولٌ تصوموا أو بدلٌ من أياماً معدودات
ورمضانُ مصدرُ رمِضَ أي احترق من الرمضاء فأضيفَ إليه الشهرُ
وجُعل علماً ومُنع الصرفَ للتعريف والألفِ والنون كما قيل ابنُ
دأْيةَ للغراب فقولُه عليه السلام من صام رمضان الحديث وأراد
على حذف المضافِ للأمن من الالتباس وإنما سُمِّي بذلك إما
لارتماضِهم فيه من الجوع والعطش أو لإرتماض الذنوب في الصيام
فيه أو لوقوعه في أيام رَمَضِ الحرِّ عند
(1/199)
البقرة (186)
نَقْل أسماء الشهور عن اللغة القديمة
{الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن} خبرٌ للمبتدأ على الوجه الأول
وصفةٌ لشهر رمضانَ على الوجوه الباقية ومعنى إنزالِه فيه أنه
أبتدى إنزالُه فيه وكان ذلك ليلةَ القدرِ أو أنزل فيه جملةَ
إلى السماءِ الدُّنيا ثم نزل مُنَجَّماً إلى الأرض حسبما
تقتضيه المشيئةُ الربانية أو أُنزل في شأنه القرآنُ وهو قوله
عز وجل كُتِبَ عَلَيْكُمْ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم
نزلتْ صحفُ إبراهيمَ أولَ ليلةٍ من رمضانَ وأُنزلت التوراةُ
لستٍ مضَيْن منه والإنجيلُ لثلاثَ عشرةَ منه والقرآنُ لأربع
وعشرين
{هُدًى لّلنَّاسِ وبينات مِّنَ الهدى والفرقان} حالان من
القرآن أي أُنزل حال كونه هدية للناس بما فيه من الإعجاز
وغيرِه وآياتٍ واضحةٍ مرشدةً إلى الحق فارقةً بينه وبين الباطل
بما فيه من الحُكم والأحكام
{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ} أي حضرَ فيه ولم يكن مسافراً
ووضعُ الظاهر موضعَ الضمير للتعظيم والمبالغة في البيان
والفاءُ للتفريعِ والترتيب أو لتضمُّن المبتدأِ معنى الشَّرطِ
أو زائدةٌ على تقدير كونِ شهرُ رمضانَ مبتدأً والموصولُ صفة له
وهذه الجملةُ خبرٌ له وقيل هي جزائية كأنه قيل لما كُتب عليكم
الصيامُ في ذلك الشهر فمنْ حضَرَ فيه
{فَلْيَصُمْهُ} أي فليصم فيه بجذف الجارِّ وإيصالِ الفعلِ إلى
المجرور اتساعاً وقيل من شهد منكم هلالَ الشهرِ فليصمْه على
أنه مفعولٌ به كقولك شهِدتُ الجمعةَ أي صلاتها فيكونُ ما بعده
مخصِّصاً له كأنه قيل
{وَمَن كَانَ مَرِيضًا} وإن كان مقيماً حاضِراً فيه
{أَوْ على سَفَرٍ} وإن كان صحيحاً
{فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فعليه صيامُ أيامٍ أخَرَ
لأن المريضَ والمسافرَ ممن شهد الشهرَ ولعل التكريرَ لذلك أو
لئلا يُتَوَهم نسخُه كما نُسخ قرينُه
{يُرِيدُ الله} بهذا الترخيص
{بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بكم العسر} لغاية رأفتُه وسعةُ
رحمتِه
{وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا
هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علل لفعلٍ محذوفٌ يدلُّ
عليه ما سبق أي ولهذه الأمورِ شُرِعَ ما مرَّ من أمرِ الشاهد
بصوْمِ الشهر وأمرِ المرخَّص لهم بمراعاة عدةِ ما أَفطر فيه
ومن الترخيص في إباحة الفطر فقوله تعالى لتكلموا علةُ الأمر
بمراعاة العِدة ولتكبروا علةُ ما عَلِمه من كيفية القضاء
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علةُ الترخيص والتيسير وتديه فعل
التكبير بعلى لتضمُّنه معنى الحمد كأنه ولتكبروا الله حامدين
على ما هداكم ويجوز أن يكون معطوفةً على علة مقدرةٍ مثلُ
ليُسهل عليكم أو لتعلموا ما تعلمون ولتكملوا الخ ويجوز عطفُها
على اليُسرَ أي يريد بكم لتكلموا الخ كقوله تعالى يُرِيدُونَ
لِيُطْفِئُواْ الخ والمعنى بالتكبير تعظيمُه تعالى بالحمد
والثناءِ عليه وقيل تكبيرُ يومِ العيد وقيل التكبيرُ عند
الإهلال وما تحتمل المصدرية والموصولة أي على هدايتِه أيَّاكم
أو على الذي هداكم إليه وقرئ ولِتُكَمِّلوا بالتشديد
(1/200)
وَإِذَا سَأَلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي} في
تلوينِ الخطابِ وتوجيهِه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
لا يَخفْى من تشريفِه ورفعِ محله
{فَإِنّي قَرِيبٌ} أي فقل لهم إني قريبٌ وهو تمثيلٌ لكمال
علمِه بأفعال العبادِ وأقوالِهم واطلاعِه على أحوالهم بحال من
قُرب مكانُه رُوي أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه
وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيدٌ فنناديَه فنزلت
{أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ}
(1/200)
تقريرٌ للقُرب وتحقيقٌ له ووعدٌ للداعي
بالإجابة
{فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى} إذا دعوتُهم للإيمان والطاعةِ كما
أجيبهم إذا دعَوْني لمُهمّاتهم
{وَلْيُؤْمِنُواْ بِى} أمرٌ بالثبات على ما هم عليه
{لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} راجين إصابةَ الرُشْد أي الحق وقرئ
بفتح الشين وكسرِها ولمّا أمرهم الله تعالى بصوم الشهر ومرعاة
العِدةِ وحثَّهم على القيام بوظائف التكبير عقّبه بهذه الآيةِ
الكريمةِ الدالة على أنه تعالى خبيرٌ بأحوالهم سميعٌ لأقوالهم
مجيبٌ لدعائهم مجازيهم على أعمالهم تأكيداً له وحثاً عليه ثم
شرَع في بيان أحكام الصيام فقال
(1/201)
أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ
لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ
عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ
وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا
تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى
نِسَائِكُمْ} رُوي أن المسلمين كانوا إذا أمسَوْا حلَّ لهم
الأكلُ والشربُ والجِماعُ إلى أن يُصلّوا العشاءَ الأخيرة أو
يرقُدوا ثم أن عمرَ رضي الله عنه باشر بعد العِشاء فندِم وأتى
النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم واعتذر إليه فقام رجالٌ
فاعترفوا بما صنعوا بعد العِشاء فنزلت وليلةُ الصيام الليلةُ
التي يصبِحُ منها صائماً والرفثُ كنايةٌ عن الجماع لأنه لا
يكاد يخلو من رفث وهو الإفصاحُ بما يجب أن يكنَّى عنه وعُدِّي
بإلى لتضمُّنه معنى الإفضاءِ والإنهاء وإيثارُه ههنا لاستقباح
ما ارتكبوه ولذلك سمِّي خيانةً وقرئ الرُفوث وتقديمُ الظرف على
القائم مَقامَ الفاعلِ لما مرَّ مراراً من التشويق فإنَّ ما
حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبة إليه فيتمكن
عندها وقتَ ورودِه فضلَ تمكِّنٍ
{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} استئنافٌ
مبينٌ لسبب الإحلالِ وهو صعوبةُ الصبر عنهنّ مع شِدة المخالطة
وكَثرةِ الملابَسة بهن وجُعل كلٌّ من الرجل والمرأة لِباساً
للآخرَ لاعتناقهما واشتمال كلَ منهما على الآخر بالليل قال ...
إذا ما الضجيعُ ثَنَى عِطفَها ... تثنَّتْ فكانت عليه لِباساً
...
أو لأن كلاً منهما يستُر حالَ صاحبِه ويمنعُه من الفجور
{عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ}
استئنافٌ آخرُ مبين لما ذُكر من السبب والاختيانُ أبلغُ من
الخيانة كالاكتساب من الكسْب ومعنى تختانون تظلِمونها بتعريضها
للعقاب وتنقيصِ حظَّها من الثواب
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} عطفٌ على علِم أي تابَ عليكم لما تُبتم
مما اقترفتموه
{وَعَفَا عَنكُمْ} أي محا أثرَه عنكم
{فالآن} لما نُسخ التحريمُ
{باشروهن} المباشرةُ إلزاقُ البَشَرة بالبَشَرة كُنِّي بها عن
الجماع الذي يستلزِمُها وفيه دليلٌ على جواز نسخِ الكتاب للسنة
{وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} أي واطلُبوا ما قدّره الله
لكم وقرَّره في اللوحِ من الوَلدِ وفيه أن المباشِرَ ينبغي أنْ
يكونَ غرضُه الولدَ فإنه الحكمةُ في خلق الشهوة وشرع النكاحِ
لا قضاءِ الشهوة وقيل فيه نهيٌ عن العَزْل وقيل عن غير المأتيّ
والتقديرُ وابتغوا المحلَ الذي كتب
(1/201)
البقرة (188)
الله لكم
{وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الابيض مِنَ
الخيط الاسود مِنَ الفجر} شبه أول مايبدو من الفجر المعترِض في
الأفق وما يمتدّ معه عن غلس الليل بخيطين الأبيض والأسود
واكتُفي ببيان الخيط الأبيض بقوله تعالى مِنَ الفجر عن بيان
الخيطِ الأسودِ لدلالته عليه وبذلك خرجا عن الاستعارة إلى
التمثيل ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ للتبعيض فإن ما يبدوا بعضُ
الفجر وما رُوي من أنَّها نزلت ولم ينزلْ من الفجر فعمَد رجالٌ
إلى خيطين أبيضَ وأسودَ وطفِقوا يأكلون ويشربون حتى يتبيَّنا
لهم فنزلت فلعل ذلك كان قبل دخولِ رمضانَ وتأخيرُ البيان إلى
وقت الحاجة جائز أو اكتفى أو لا باشتهارهما في ذلك ثم صُرِّح
بالبيان لما التَبَس على بعضهم وفي تجويز المباشرةِ إلى الصبح
دلالةٌ على جواز تأخيرِ الغُسل إليه وصحةِ صومِ من أصبح جُنباً
{ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إلى الليل} بيانٌ لآخِرِ وقتِه
{وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد} أي معتكِفون
فيها والمرادُ بالمباشرة الجِماعُ وعن قتادةَ كان الرجلُ
يعتكِفُ فيخرُجُ إلى امرأته فيباشرُها ثم يرجِع فنُهوا عن ذلك
وفيه دليلٌ على أنَّ الاعتكافَ يكون في المسجد غيرَ مختص ببعضٍ
دون بعضٍ وأن الوطءَ فيه حرامٌ ومفسدٌ له لأن النهيَ في
العبادات يوجبُ الفساد
{تِلْكَ حُدُودُ الله} أي الأحكامُ المذكورةُ حدود وضعها اله
تعالى لعباده
{فَلاَ تَقْرَبُوهَا} فضلاً عن تجاوُزها نهْيٌ أن يُقرَبَ
الحدُّ الحاجزُ بين الحقِّ والباطل مبالغةً في النهي عن
تخطِّيها كما قال صلى الله عليه وسلم إن لكل ملكٍ حِمىً وحِمى
الله محارمُه فمن رتَعَ حولَ الحِمى يُوشك أن يقَعَ فيه ويجوز
أن يراد بحدود الله تعالى محارمُه ومناهيه {كذلك} أي مثلَ ذلك
التبيينِ البليغ
{يُبَيّنُ الله آيَاتِهِ} الدالةَ على الأحكام التي شرعها
{لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} مخالفةَ أوامرِه ونواهيه
(1/202)
وَلَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى
الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ
بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
{وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم
بالباطل} نهيٌ عن أكل بعضِهم أموالَ بعضٍ على خلاف حُكم الله
تعالى بعد النهيِ عن أكل أموالِ أنفسِهم في نهار رمضان أي
لايأكل بعضكم أموال بعض بالوجه الذي لم يُبِحْه الله تعالى
وبين نصب على الظرفية أو الحالية من أموالكم
{وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام} عطفٌ على المنهيِّ عنه أو
نُصِبَ بإضمار أن والإدلاءُ الإلقاءُ أي ولا تُلقوا حكومتَها
إلى الحكام
{لِتَأْكُلُواْ} بالتحاكم إليهم
{فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم} بما يوجبُ إثماً
كشهادة الزورِ واليمين الفاجرة أو متلبسين بالإثم
{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنكم مُبْطلون فإن ارتكابَ المعاصي مع
العلم بها أقبحُ رُوي أن عبدانَ الحضْرمي ادعى على امرئ القيسِ
الكنديِّ قطعةَ أرضٍ ولم يكن له بينةٌ فحكم رسول الله صلى الله
عليه وسلم بأن يحلِفَ امرُؤُ القيسِ فهم به فقرأ عليه الصلاة
والسلام إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم
ثَمَنًا قَلِيًلا الآية فارتدَعَ عن اليمين فسلّم الأرضَ إلى
عبدان فنزلت ورُوي أنه اختصم إليه خصمان فقال عليه السلام إنما
أنا بشرٌ مثلُكم وأنتم تختصِمون إلي ولعل بعضَكم ألحنُ بحجَّته
من بعضٍ فأقضِيَ له على نحو ما أسمَع منه فمن قضَيْتُ له بشيءٍ
من حقِّ أخيه فإنما أقضي له قطعة من نار فبَكَيا فقال كلُّ
واحدٍ منهما حقي لصاحبي
(1/202)
البقرة (190 - 189)
فقال اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كلُّ واحدٍ منكما صاحبَه
(1/203)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
(189)
{يسألونك عَنِ الأهلة} سألهُ معاذُ بنُ
جبلٍ وثعلبةُ بنُ غنم فقالا ما بالُ الهلالِ يبدو رقيقاً
كالخيط ثم يزيد حتى يستويَ ثم لا يزال ينقُص حتى يعودَ كما بدأ
{قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} كانوا قد سألوه عليه
الصلاة والسلام عن الحِكمة في اختلاف حالِ القمرِ وتبدُّل
أمرِه فأمره الله العزيزُ الحكيمُ أن يُجيبهم بأن الحِكمةَ
الظاهرةَ في ذلك أن تكون معالِمَ للناس في عبادتهم لا سيما
الحجُّ فإن الوقتَ مراعىً فيه أداءً وقضاءً وكذا في معاملاتهم
على حسب ما يتّفقون عليه والمواقيتُ جمع ميقاتٍ من الوقت
والفرقُ بينه وبين المدة والزمان أن المدةَ المطلقةَ امتدادُ
حركةِ الفلك من مبدَئها إلى منتهاها والزمانُ مدةٌ مقسومةٌ إلى
الماضي والحالِ والمستقبل والوقتُ الزمان المفروضُ لأمرٍ
{وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} كانت
الأنصارُ إذا أحْرَموا لم يدخُلوا داراً ولا فُسطاطاً من بابه
وإنما يدخُلون ويخرُجون من نَقْبٍ أو فُرجةٍ وراءَها ويعدّون
ذلك بِرَّاً فبين لهم أنه ليس ببر فقيل
{ولكن البر من اتقى} أي بِرَّ من اتقى المحارمَ والشهواتِ
ووجهُ اتصالِه بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين أو أنه لما ذكر
أنها مواقيتُ للحج ذكر عقيبة ماهو من أفعالهم في الحجِّ
استطراداً أو أنهم لمّا سألوا عما لا يَعنيهم ولا يتعلَّق
بعِلمِ النبوة فإنه عليه الصلاة والسلام مبعوثٌ لبيان الشرائعِ
لا لبيان حقائِقِ الأشياءِ وتركوا السؤال عما يَعنيهم ويختصُّ
بعلم الرسالةِ عقّبَ بذكره جوابَ ما سألوا عنه تنبيهاً على أن
اللائقَ بهم أن يسألوا عن أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها أو
أريد به التنبيهُ على تعكيسهم في السؤال وكونِه من قبيل دخولِ
البيتِ من ورائه والمعنى وليس البرُّ بأن تعكسوا في مسائِلكم
ولكنّ البرَّ من اتقى ذلك ولم يجترئ على مثله
{وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها} إذ ليس في العُدول بِرٌّ أو
باشروا الأمورَ من وجوهها
{واتقوا الله} في تغيير أحكامِه أو في جميع أموركم أمرَ بذلك
صريحاً بعد بيان أن البِرَّ برٌّ من اتقى إظهاراً لزيادة
الاعتناءِ بشأن التقوى وتمهيداً لقوله تعالى
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لكي تظفَروا بالبرِّ والهدى
(1/203)
وَقَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
{وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله} أي جاهِدوا
لإعزاز دينِه وإعلاءِ كلمتِه وتقديمُ الظرفِ على المفعولِ
الصريحِ لإبراز كمالِ العنايةِ بشأن المقدّم
{الذين يقاتلونكم} قيل كان ذلك قبل ما أُمِروا بقتال المشركين
كافةَ المقاتلين منهم والمحاجزين وقيل معناه الذين يناصبونكم
القتالَ ويُتوقعُ منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ والصبيان
والرهابنة والنساء أو الكفَرَةُ جميعاً فإن الكلَّ بصدد قتالِ
المسلمين ويؤيد الأولَ ما رُوي أن المشركين صدُّوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم عامَ الحُديبية وصالحوه على أن يرجِع من
قابل فيُخَلّوا له مكةَ شرَّفها الله تعَالَى ثلاثةَ أيامٍ
فرجَع لعمُرة القضاء فخاف المسلمون أن لا يفوا لهم ويقاتلوهم
في الحَرم والشهرِ الحرام وكرِهوا ذلك فنزلت ويعضُده إيرادُه
في أثناء بيان أحكامِ الحج
{وَلاَ تَعْتَدُواْ} بابتداء
(1/203)
البقرة (194 - 191)
القتالِ أو بقتال المعاهَد والمفاجأة به من غير دعوةٍ أو
بالمُثلة وقتلِ من نُهيتم عن قتلِه من النساء والصِّبيان ومن
يجري مَجراهم
{إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} أي لا يريد بهم الخير وهو
تعليل للنهي
(1/204)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ
فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ
الْكَافِرِينَ (191)
{واقتلوهم حيث ثقفتموهم} أي حَيْثُ
وجدتمُوهم من حِلَ أو حَرَم وأصلُ الثقَفِ الحذَقُ في إدراك
الشيء علماً أو عملاً وفيه معنى الغلبة ولذلك استعمل فيها قال
... فإما تَثْقَفوني فاقتُلوني ... فمَنْ أثقَفْ فليس إلى خلود
...
{وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي من مكةَ وقد
فُعل بهم ذلك يوم الفتح بمن لم يُسلم من كفارها
{والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} أي المحنة التي يُفتتن بها
الإنسانُ كالإخراج من الوطن أصعبُ من القتل لدوام تعبها وبقاء
تألم النفس بها وقيل شركُهم في الحرم وصدُّهم لكم عنه أشدُّ من
قتلكم إياهم فيه
{وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام} أي لا تفاتحوهم بالقتل
هناك ولا تهتِكوا حرمةَ المسجد الحرام
{حتى يقاتلوكم فِيهِ فَإِن قاتلوكم} ثمَةَ
{فاقتلوهم} فيه ولا تُبالوا بقتالهم ثمةَ لأنهم الذين هتَكوا
حُرمتَه فاستحقُّوا أشدَّ العذاب وفي العُدول عن صِيغة
المفاعَلة التي بها وردَ النهيُ والشرطُ عِدَةً بالنصر والغلبة
وقرئ ولا تقتُلوهم حتى يقتُلوكم فإن قتلوكم فاقتلوهم والمعنى
حتى يقتُلوا بعضَكم كقولهم قتلتْنا بنو أسدٍ
{كذلك جَزَاء الكافرين} يُفعلُ بهم مثلُ ما فعلوا بغيرهم
(1/204)
فَإِنِ انْتَهَوْا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)
{فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عن القتال والكفر بعد
ما رأَوا قتالَكم
{فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفرُ لَهُمْ مَّا قَدْ
سَلَفَ
(1/204)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى
لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ
انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
{وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي
شِرْكٌ
{وَيَكُونَ الدين للَّهِ} خالصاً ليس للشيطان فيه نصيب
{فَإِنِ انْتَهَوْاْ} بعد مقاتَلتِكم عن الشِّرك
{فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين} أي فلا تعتَدوا عليهم إذ
لا يحسُن الظلمُ إلا لمن ظَلَم فوضعُ العلة موضعَ الحُكم
وتسميةُ الجزاءِ بالعُدوان للمشاكلة كما في قوله عز وجل فَمَنِ
اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ أو إنكم إنْ تعرَّضتم
للمنتهين صِرْتم ظالمين وتنعكس الحالُ عليكم والفاءُ الأولى
للتعقيب والثانيةُ للجزاء
(1/204)
الشَّهْرُ الْحَرَامُ
بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
{الشهر الحرام بالشهر الحرام} قاتلَهم
المشركون عامَ الحُديبية في ذي القَعدة فقيل لهم عند خروجِهم
لعُمرة القضاء في ذي القَعدة أيضاً وكراهتِهم القتالَ فيه هذا
الشهرُ الحرامُ بذلك الشهر الحرامِ وهتكُه بهتكه فلا تبالوا به
{والحرمات قِصَاصٌ} أي كلُّ حرمةٍ وهي ما يجب المحافظةُ عليه
يجري فيها القصاصُ فلما هتكوا حُرمة شهرِكم بالصَّد فافعلوا
بهم مثلَه وادخُلوا عليهم عُنوةً فاقتُلوهم إن قاتلوكم كما قال
تعالى
{فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى
عليكم}
(1/204)
وهو فذلَكةٌ مقرِّرة لما قبلها
{واتقوا الله} في شأن الانتصار واحذروا أن تعتدوا الى مالم
يُرَخَّصْ لكم
{واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} فيحرُسُهم ويصلح شئونهم
بالنصر والتمكين
(1/205)
وَأَنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (195)
{وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله} أمرٌ
بالجهاد بالمال بعد الأمرِ به بالأنفس أي ولا تُمسِكوا كلَّ
الإمساك
{وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} بالإسراف
وتضييعِ وجهِ المعاش أو بالكفِّ عن الغزو والإنفاق فيه فإن ذلك
مما يقوِّي العدوَّ ويسلطهم عليكم ويؤيدُه ما رُوي عن أبي أيوب
الأنصاري رضيَ الله عنه أنَّه قال لما أعزَّ الله الإسلامَ
وكثُر أهلُه رجعنا إلى أهالينا وأموالنا نُقيمُ فيها ونُصلِحها
فنزلت أو بالإمساك وحبِّ المال فإنه يؤدّي إلى الهلاك المؤبَّد
ولذلك سُمي البخلُ هلاكاً وهو في الأصل انتهاءُ الشيء في
الفساد والإلقاءُ طرحُ الشيء وتعديتُه بإلى لتضمُّنه معنى
الانتهاء والباءُ مزيدةٌ والمرادُ بالأيدي الأنفسُ والتهلُكة
مصدر كالتنصُرَة والتسترة وهي والهلك والهلاك واحدٌ أي لا
توقِعوا انفسكم في الهلاك وقيل معناه لا تجعلوها آخذة بأيديكم
أولا تلقوا بأيديكم أنفسَكم إليها فحُذِف المفعول
{وَأَحْسِنُواْ} أي أعمالَكم وأخلاقَكم أو تفضّلوا على الفقراء
{إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} أي يريد بهم الخيرَ وقوله تعالى
(1/205)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ
أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ
أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ
كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
{وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ} بيانٌ
لوجوب إتمامِ أفعالهما عند التصدي لأدائهما وإرشادٍ للناس إلى
تدارُك ما عسى يعتريهم من العوارض المُخِلَّة بذلك من الإحصار
ونحوه من غير تعرُّضٍ لحالها في أنفسهما من الوجوب وعدمِه كما
في قوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام الى الليل فإنه بيانٌ
لوجوب مدِّ الصيام إلى الليل من غيرِ تعرُّضٍ لوجوبِ أصلِه
وإنما هو بقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام الآية كما أن
وجوبَ الحج بقوله تعالى وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت
الآية فإن الأمرَ بإتمام فعلٍ من الأفعال ليس أمراً بأصله ولا
مستلزماً له أصلاً فليس فيه دليل على وجوب العُمرة قطعاً
وادعاءُ أن الأمرَ بإتمامهما أمرٌ بإنشائهما تامين كاملين
حسبما تقتضيه قراءةُ وَأَقِيمُواْ الحج والعمرة وأن الأمرَ
للوجوب مالم يدلَّ على خلافه دليل مما لا سَدادَ له ضرورةَ أنْ
ليس البيانُ مقصوراً على أفعال الحجِّ المفروضِ حتى يُتصوَّرَ
ذلك بل الحقُّ أن تلك القراءةُ أيضاً محمولةٌ على المشهورة
ناطقةٌ بوجوب إقامةِ أفعالهما كما ينبغي من غير تعرُّضٍ
لحالهما في أنفسهما فالمعنى أكمِلوا أركانَهما وشرائطَهما
وسائرَ أفعالِهما المعروفةِ شرعاً لوجهِ الله تعالى من غير
إخلالٍ منكم بشيء منها هذا وقد قيل إتمامُهما أن تحرِمَ
(1/205)
بهما من دُوَيرَة أهلِك رُوي ذلكَ عن عليَ
وابن عباسٍ وابنِ مسعودٍ رضيَ الله عنهم وقيل أن تُفرِدَ لكل
واحدٍ منها سَفَراً كما قال محمد حَجةٌ كوفية وعُمرةٌ كوفية
أفضلُ وقيل هو جعلُ نفقتِهما حلالاً وقيل أن تُخلِصوهما
للعبادة ولا تشوبوهما بشئ من الأعراض الدنيوية وأياً ما كانَ
فلا تعرُّضَ في الآية الكريمة لوجوب العُمرة أصلاً وأما ما
رُوي أن ابن عباس رضي الله عنهما قال إن العمرةَ لقرينةُ الحج
وقول عمر رضي الله عنه هُديتَ لسنة نبيِّك حين قال له رجلٌ
وجدتُ الحج العمرة مكتوبين على أهللت بهما وفي رواية فأهللتُ
بهما جميعاً فبمعزلٍ من إفادة الوجوب مع كونه معارَضاً بما
رُوي عن جابرٍ أنه قالَ يا رسولَ الله العمرةُ واجبةٌ مثلَ
الحجِّ قال لا ولكن أن تعتمِرَ خيرٌ لك وبقوله عليه السلام
الحجُّ جهاد والعُمرةُ تطوُّعٌ فتدبر
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أي مُنعتم من الحج يقال حصره العدو
وأحصره إذا حبَسه ومنعه من المُضيِّ لوجهه مثلُ صَدَّه وأصدّه
والمرادُ منعُ العدو عند مالك والشافعي رضي الله عنهما لقوله
تعالى فَإِذَا أَمِنتُمْ ولنزوله في الحديبية ولقولِ ابنِ
عباسٍ لا حصْرَ إلا حصرُ العدوِّ وكلُّ منعٍ من عدو أو مرضٍ أو
غيرهما عند أبي حنيفة رضى الله عنه لما رُوي عن النبيِّ صلى
الله عليه وسلم من كُسِر أو عَرَج فعليه الحجُّ من قابل
{فَمَا استيسر مِنَ الهدى} أي فعليكم أو فالواجبُ ما استيسر أو
فاهدوا ما استيسر والمعنى أن المُحرِم إذا أُحصر وأراد أن
يتحلّل تحلَّل بذبح هدى تيسر عليه من بدَنة أو بقرةٍ أو شاة
حيث أُحصر عند الأكثر وعندنا يَبعث به إلى الحرَم ويجعلُ
للمبعوث بيده يوم أمارة فإذا جاء اليومُ وظن أنه ذبح تحلّل
لقوله تعالى
{ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يَبْلُغَ الهدى مَحِلَّهُ} أي لا
تُحِلوا حتى تعلموا أن الهديَ المبعوثَ إلى الحرم بلغ مكانه
الذي يجب أن يُنْحَر فيه وحمل الأولون بلوغَ الهدْي مَحِلّه
على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حِلاًّ كان حَرَماً ومرجعُهم في ذلك
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبحَ عامَ الحديبية بها وهي
من الحِل قلنا كان محصرة عليه الصلاة والسلام طرفَ الحديبية
الذي إلى أسفلِ مكةَ وهو من الحَرَم وعن الزُهري أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم نحرَ هديَه في الحَرَم وقال الواقديُّ
الحديبيةُ هي طرفُ الحرم على تسعة أميالٍ من مكةَ والمَحِلُّ
بالكسر يُطلق على المكان والزمان والهدْيُ جمع هَدْية كجدى
وجدية وقرئ من الهَدِيّ جمع هَديّة كمَطِيّ ومطية
{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} مرَضاً مُحوجاً إلى الحَلْق
{أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ} كجراحة أو قُمَّلٍ
{فَفِدْيَةٌ} أي فعليه فديةُ إن حلق
{مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أو نسك} بيان الجنس الفدية وأما
قدرُها فقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لكعب بنِ عُجرةَ
لعلك آذاك هو أمك قال نعم يا رسولَ الله قالَ احلِقْ وصُم
ثلاثةَ أيام أو تصدّقْ بفَرْقٍ على ستةِ مساكينَ أو انسُك شاةً
والفَرْقُ ثلاثة آصُع
{فَإِذَا أَمِنتُمْ} أي الإحصار أو كنتم في حال أمن أو سعة
{فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج} أي فمن انتفع بالتقرُّب
إلى الله تعالى بالعُمرة قبل الانتفاعِ بتقرّبه بالحج في أشهره
وقيل من استمتع بعد التحلُّل من عُمرته باستباحة محظوراتِ
الإحرام إلى أن يُحرِم بالحج
{فَمَا استيسر مِنَ الهدى} أي فعليه دمٌ استيسر عليه بسبب
التمتع وهو دمُ جُبرانٍ يذبحه إذا أحرَمَ بالحج ولا يأكلُ منه
عند الشافعي وعندنا هو كالأضحية
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أيْ الهديَ
{فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج} أي في أشهره بين
الإحرامين وقال الشافعيُّ في أيام الاشتغالِ بأعماله بعد
الإحرام وقبل التحلل والأحب أن يصومَ سابعَ ذي الحِجة وثامنَه
وتاسعَه فلا يصح يومَ النحرِ وأيامَ التشريق
{وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} أي نفَرْتم وفرغتم من
(1/206)
البقرة (197)
أعماله وفي أحدِ قولي الشافعيِّ إذا رجعتم إلى أهليكم وقرئ
وسبعةً بالنَّصبِ عطفاً على محلِّ ثلاثةِ أيام
{تِلْكَ عَشَرَةٌ} فذلكةُ الحسابِ وفائدتُها أن لا يُتَوَهّم
أن الواوَ بمعنى أو كما في قولك جالسِ الحسنَ وابنَ سيرين وأن
يُعلم العددُ جملةً كما عُلم تفصيلاً فإن أكثرَ العرب لا
يعرِفُ الحسابَ وأن المرادَ بالسبعة هو العددُ المخصوصُ دون
الكثرة كما يراد بها ذلك أيضاً
{كَامِلَةٌ} صفةٌ مؤكدةٌ لعشَرة تفيد المبالغةَ في المحافظة
على العدد أو مبيِّنةٌ لكمال العشرة فإنها أولُ عددٍ كاملٍ إذْ
بهِ ينتهي الآحادُ ويتم مراتبُها أو مقيِّدة تفيدُ كمالَ
بَدَليتها من الهدْي
{ذلك} إشارةٌ إلى التمتع عندنا وإلى الحكم المذكورِ عند
الشافعي
{لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المسجد الحرام} وهو
مَنْ كان من الحرَم على مسافة القصْرِ عند الشافعي ومن كان
مسكنُه وراءَ الميقاتِ عندنا وأهلُ الحل عند طاوس وغيرُ أهل
مكةَ عند مالك
{واتقوا الله} في المحافظة على أوامره ونواهيه لا سيما في الحج
{واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} لمن لم يَتَّقْهِ كي
يصُدَّكم العلمُ به عن العِصيان وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في
موضع الإضمار لتربية المهابةِ وإدخالِ الرَّوْعة
(1/207)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ
وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ
الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
(197)
{الْحَجُّ} أي وقته
{أَشْهُرٌ معلومات} معروفاتٌ بين الناس هي شوَّالٌ وذو القَعدة
وعشرُ ذي الحِجة عندنا وتسعةٌ بليلةِ النحر عند الشافعي وكلُّه
عند مالكٍ ومدارُ الخلافِ أن المرادَ بوقته وقتُ إحرامِه أو
وقتُ أعماله ومناسِكهُ أو مالا يحسُن فيه غيرُه من المناسِك
مطلقاً فإن مالِكاً كرِه العُمرةَ في بقية ذي الحِجة وأبو
حنيفةَ وإن صحَّح الإحرامَ به قبل شوالٍ فقد استكرهه وإنما سمى
شهرين وبعضُ شهرٍ أشهراً إقامةً للبعض مقام الكل أوإطلاقا
للجمع على ما فرق الواحدِ وصيغةُ جمعِ المذكر في غير العقلاء
تجئ بالألف والتاء
{فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} أي أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن
أو بالتلبية أو بسَوْق الهدْي
{فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} أي لا جِماعَ أو فلا فحشَ من
الكلام ولا خروجَ من حدود الشرعِ بارتكاب المحظوراتِ وقيل
بالسباب والتنابذ بالألقاب
{وَلاَ جِدَالَ} أي لا مِراءَ مع الخدَم والرِفقة
{فِي الحج} أي في أيامه والإظهارُ في مقامِ الإضمارِ لإظهار
كمالِ الاعتناءِ بشأنه والإشعارِ بعِلة الحُكم فإن زيارةَ
البيت المعظَّم والتقرُّبَ بها إلى الله عزَّ وجلَّ من موجبات
تركِ الأمورِ المذكورة وإيثارُ النفي للمبالغة في النهي
والدَلالة على أن ذلك حقيقٌ بأن لا يكون فإن ما كان مُنْكراً
مستقبَحاً في نفسه ففي تضاعيفِ الحجِّ أقبحُ كلبُس الحريرِ في
الصلاة والتطريبِ بقراءة القرآن لأنه خروجٌ عن مقتضى الطبعِ
والعادةِ إلى محض العبادة وقرئ الأولان بالرفع على معنى لا
يكونن رَفثٌ ولا فسوقٌ والثالثُ بالفتح على معنى الإخبار
بانتفاء الخلافِ في الحج وذلك أن قريشاً كانت تخالف سائرَ
العرب فتقفُ بالمشعَر الحرام فارتفعَ الخلافُ بأن أُمروا بأن
يقفوا أيضاً بعَرَفاتٍ
{وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} فيجزي به
خيرَ جزاءٍ وهو حثٌّ على فعل الخيرِ إِثرَ النهْي عن الشر
{وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} أي تزوّدوا
لمِعَادكم التقوى فإنه خيرُ زادٍ وقيل نزلت في أهل اليمن كانوا
يحُجُّون ولا يتزوّدون ويقولون
(1/207)
198 - 199 البقرة نحن متوكلون فيكونون
كَلاًّ على الناس فأُمروا أن يتزوّدوا ويتقوا الإبرامَ في
السؤال والتثقيل على الناس
{واتقون يا أولي الالباب} فإن قضيةَ اللُبِ استشعار خشية الله
عز وجل وتقواه حثهم على التقوى ثم أمرَهم بأن يكون المقصودُ
بذلك هو الله تعالى فيتبرءوا من كل شئ سواه وهو مقتضى العقلِ
المعرَّى عن شوائبِ الهوى فلذلك خُصَّ بهذا الخطاب أُولوا
الألباب
(1/208)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن
تَبْتَغُواْ} أي في أن تبتغوا أي تطلُبوا
{فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ} عطاءً ورزقاً منه أي الربحَ بالتجارة
وقيل كان عُكاظُ ومَجنّةُ وذو المَجازِ أسواقَهم في الجاهلية
يُقيمونها أيامَ مواسمِ الحج وكانت معايشُهم منها فلما جاء
الإسلامُ تأثّموا منه فنزلت
{فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات} أي دفعتم منها بكثرة من أفضتُ
الماء إذا صبَبْتُه بكثرة وأصلُه أفضتم أنفسَكم فحُذِفَ
المفعولُ حذفَه من دفعتُ من البَصْرة وعَرَفاتٌ جمعٌ سُمّي به
كأذرِعات وإنما نوّن وكُسر وفيه علميةٌ وتأنيثٌ لما أن تنوين
الجمعِ تنوينُ المقابلة لا تنوينُ التمكن ولذلك يُجمع مع اللام
وذهابُ الكسرة تبعُ ذهابِ التنوين من غير عِوَض لعدم الصرْف
وههنا ليس كذلك أو لأن التأنيثَ إما بالتاء المذكورة وهي ليست
بتاء التأنيث وإنما هي مع الألف التي قبلها علامةُ جمعِ
المؤنَّث أو بتاءٍ مقدَّرةٍ كما في سُعادَ ولا سبيل إليه لأن
المذكور تأبى تقديرَها لما أنها كالبدل منها لاختصاصِها
بالمؤنث كتاءِ بنت وإنما سمي الموقفُ عَرَفة لأنه نُعِتَ
لإبراهيمَ عليه السلام فلما أبصره عَرَفه أو لأن جبريلَ عليه
السلام كان يدور به في المشاعر فلما رآه قال عرَفتُ أو لأن
آدمَ وحواءَ التقيا فيه فتعارَفا أو لأن الناسَ يتعارفون فيه
وهي من الأسماءِ المُرْتجلة إلا من يجعلها جمعَ عارف قيل وفيه
دليلٌ على وجوب الوقوف بها لأن الإفاضةَ لا تكون إلا بعده وهي
مأمور بها بقوله تعالى ثُمَّ أَفِيضُواْ وقد قال النبيِّ صلَّى
الله عليهِ وسلم الحجُّ عَرَفةُ فمن أدرك عَرَفةَ فقد أدرك
الحجَّ أو مقدمة للذكر المأمور به وفيه نظرٌ إذ الذكرُ غيرُ
واجب والأمرُ به غيرُ مطلق
{فاذكروا الله} بالتلبية والهليل والدعاء وقيل بصلاة العشاءين
{عِندَ المشعر الحرام} هو جبلٌ يقف عليه الإمامُ ويسمى قُزَح
وقيل ما بين مأزمي عرفةَ ووادي مُحسِّر ويؤيد الأول ما روى
جابر أنه عليه الصلاةُ والسلام لما صلى الفجرَ يعني
بالمزدَلِفةِ بغَلَسٍ ركِب ناقتَه حتى أتى المشعَرَ الحرامَ
فدعا فيه وكبّر وهلَّل ولم يزَلْ واقفاً حتى اسفرو إنما سُمِّي
مَشعَراً لأنه مَعْلمُ العبادة ووُصِف بالحرام لحُرمته ومعنى
عند المشعر الحرامِ ما يليه ويقرُب منه فإنه أفضلُ وإلا
فالمزدلفةُ كلها موقف الا وادي مُحَسِّر
{واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} أي كما علَّمكم أو اذكُروه ذِكراً
حسناً كما هداكم هدايةً حسَنةً إلى المناسك وغيرِها وما مصدرية
أو كافّة
{وَإِن كُنتُمْ مِن قَبْلِهِ} من قبلِ ما ذُكر من هدايتِه
إياكم
{لَمِنَ الضالين} غيرِ العاملين بالإيمان والطاعة وإنْ هيَ
المخففةُ واللامُ هيَ الفارقة وقيل هي نافيةٌ واللامُ بمعنى
إلا كما في قوله عز وعلا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين
(1/208)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ
حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
الناس}
(1/208)
أي من عرَفةَ لا من المزدَلِفة والخطابُ
لقريش لمّا كانوا يقفون بجمعٍ وسائرُ الناس بعرَفةَ ويرَوْن
ذلك ترفعاً عليهم فأُمروا بأن يساووهم وثمَّ لتفاوتِ ما بينَ
الإفاضتين كما في قولك أحسِنْ إلى الناس ثم لا تُحسِنْ إلا إلى
كريم وقيل من مزدلفةَ إلى مِنىً بعد الإفاضةِ من عرَفة إليها
والخطابُ عام وقرئ الناسِ بكسر السين أي الناسي على أن يراد به
آدمُ عليه السلام من قوله تعالى فَنَسِىَ والمعنى أن الإفاضةَ
من عرفه شرعٌ قديم فلا تغيِّروه
{واستغفروا الله} من جاهليتكم في تغيير المناسكِ
{إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفرُ ذنبَ المستغفِر ويُنعِمُ
عليه فهو تعليلٌ للاستغفار أو للأمر به
(1/209)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ
مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ
أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ
(200)
{فإذا قضيتم مناسككم} عباداتكم المتعلّقةَ
بالحج وفرَغتم منها
{فاذكروا الله كذكركم آباءكم} أي فاكثِروا ذكرَه تعالى وبالغوا
في ذلك كما تفعلون بذكر آبائِكم ومفاخرِهم وأيامِهم وكانت
العربُ إذا قضَوْا مناسكهم وقفوا بمنىً بين المسجد والجبل
فيذكرون مفاخِرَ آبائِهم ومحاسِنَ أيامِهم
{أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} إما مجرورٌ معطوفٌ على الذكر بجعله
ذاكراً على المجاز والمعنى فاذكروا الله ذكراً كائناً مثلَ
ذكرِكم آباءَكم أو كذكرٍ أشدَّ منه وأبلغَ أو على ما أضيفَ
إليهِ بمعنى أو كذكر قومٍ أشدَّ منكم ذكراً أو منصوبٌ بالعطف
على آباءَكم وذكراً من فعل المذكور بمعنى أو كذكركم أشدَّ
مذكورٍ من آبائكم أو بمضمرٍ دلَّ عليهِ تقديرُه أو كونوا أشدَّ
ذكراً لله منكم لآبائكم
{فَمِنَ الناس} تفصيلٌ للذاكرين الى من لا يطلب بذكر الله الا
الدنيا وإلى من يطلُب به خيرَ الدارَيْن والمرادُ به الحثُّ
على الإكثار والانتظامِ في سلك الآخَرين
{مَن يِقُولُ} أي في ذكره
{ربنا آتِنا في الدنيا} أي اجعل إيتاءَنا ومِنحَتَنا في الدنيا
خاصة
{وَمَا لَهُ فِى الأخرة من خلاق} أي من حظَ ونصيبٍ لاقتصار
همِّه على الدنيا فهو بيانٌ لحاله في الآخرة أو من طلبِ خَلاقٍ
فهو بيانٌ لحاله في الدنيا وتأكيدٌ لقصر دعائه على المطالب
الدنيوية
(1/209)
وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
{وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنا في
الدنيا حسنةً} هي الصِّحةُ والكَفاف والتوفيقُ للخير
{وَفِي الاخرة حَسَنَةً} هي الثوابُ والرحمة
{وَقِنَا عَذَابَ النار} بالعفو والمغفرةِ وروى عن عليَ رضيَ
الله عنه أن الحسنةَ في الدنيا المرأةُ الصالحة وفي الآخرةِ
الحوراء وعذابُ النار امرأةُ السوءِ وعن الحَسَن أن الحسنةَ في
الدنيا العلمُ والعبادة وفي الآخرة الجنة وقنا عذابَ النار
معناه احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدِّية إلى النار
(1/209)
أُولَئِكَ لَهُمْ
نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
{أولئك} إشارةٌ إلى الفريق الثاني باعتبار
اتصافِهم بما ذُكر من النعوتِ الجميلةِ وما فيه من معنى البعد
لمامر مراراً من الإشارة إلى علوِّ درجتِهم وبُعْدِ منزلتِهم
في الفضلِ وقيل إليهما معاً فالتنوينُ في قولِهِ تعالَى
{لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ} على الأول للتفخيم وعلى
الثاني للتنويعِ أي لكل منهم نوع نصيب
(1/209)
203 - 204 البقرة من جنس ما كسَبوا أو من
أجله كقوله تعالى مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ أو مما دَعَوْا
به نعطيهم منه ما قدّرناه وتسميةُ الدعاء كسْباً لما أنه من
الأعمال
{والله سَرِيعُ الحساب} يحاسبُ العبادَ على كثرتهم وكثرةِ
أعمالهم في مقدار لمحة فاحذَروا من الإخلال بطاعةِ مَنْ هذا
شأنُ قدرتِه أو يوشك أن يُقيمَ القيامةَ ويحاسِبَ الناسَ
فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات
(1/210)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ
فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ
فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ
لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
{واذكروا الله} أي كبِّروه في أعقاب
الصلواتِ وعند ذبحِ القرابينِ ورمي الجمارِ وغيرِها
{فِى أَيَّامٍ معدودات} هي أيامُ التشريق
{فَمَن تَعَجَّلَ} أي استعجَلَ في النفر أو النفْرَ فإن
التفعّل والاستفعال يجيئان لازمين ومتعدّيين يقال تعجل في
الأمر واستعجل فيه وتعجله واستعجله والأول أوفقُ للتأخر كما في
قوله
قد يُدرك المتأني بعضَ حاجتِه ... وقد يكون من المستعجل الزللُ
{فِى يَوْمَيْنِ} أي في تمامِ يومين بعد يوم النحر هو يوم
النحر ويوم الرءؤس واليومُ بعده ينفِر إذا فرَغ من رمي الجمار
{وَمَن تَأَخَّرَ} في النفر حتى رمى في اليوم الثالثِ قبل
الزوالِ أو بعده وعند الشافعيّ بعده فقط
{فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} بما صنعَ من التأخُّرِ والمرادُ
التخييرُ بين التعجل والتأخر ولا يقدح فيه أفضليةُ الثاني
وإنما ورد بنفي الإثم تصريحاً بالرد على أهل الجاهلية حيث
كانوا مختلفين فمن مُؤثِّمٍ للمتعجل ومؤثمٍ للمتأخر
{لِمَنِ اتقى} خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي الذي ذُكر من التخيير
ونفي الإثم عن المتعجّل والمتأخر أو من الأحكام لمن اتقى لأنه
الحاج على الحقيقة والمنتفع به أو لأجله حتى لا يتضرِّرَ بترك
ما يُهمُّه منهما
{واتقوا الله} في مَجامِع أمورِكم بفعل الواجبات وترك
المحضورات ليعبأبكم وتنظموا في سلك المغتنمين بالأحكام
المذكورة والرُخَص أو احذروا الإخلالَ بما ذُكر من الأحكام وهو
الأنسبُ بقوله عز وجل
{واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي للجزاء على
أعمالكم بعد الإحياءِ والبعث وأصلُ الحشر الجمع وضم المتفرّق
وهو تأكيدٌ للأمر بالتقوى وموجب للامتثال به فإن من علِم
بالحشر والمحاسبة والجزاءِ كان ذلك من أَقْوى الدَّواعي إلى
ملازمة التقوى
(1/210)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ
اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ
(204)
{وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ}
تجريدٌ للخطابِ وتوجيهٌ لهُ إليه عليه الصلاة والسلام وهو
كلامٌ مبتدأ سيق لبيان تحزُّب الناسِ في شأن التقوى إلى حِزبين
وتعيينِ مآلِ كلَ منهما ومَن موصولةٌ أو موصوفةٌ وإعرابُه كما
بُيّن في قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله واليوم
الاخر أي ومنهم من يروقْك كلامُه ويعظُم موقعُه في نفسك لما
تشاهد فيه من ملاءمة الفحوى ولُطف الأداءِ والتعجُّب حِيْرةٌ
تعرِضُ للإنسان بسبب عدمِ الشعور بسبب ما يتعجّب منه
{في الحياة الدنيا} متعلق يقوله أي ما يقوله في حق الحياة
الدنيا ومعناها فإنها الذي يريده بما يدّعيه من الإيمان ومحبةِ
الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه إشارة إلى أن له قولاً آخرَ
ليس بهذه الصفة أو بيُعجبُك أي يعجبك قولُه في الدنيا بحلاوته
(1/210)
205 - 206 207 البقرة وفصاحته لافي الآخرة
لما أنه يظهر هناك كذِبُه وقُبحُه وقيل لما يُرهِقه من الحبْسة
واللُكنة وأنت خبيرٌ بأنه لا مبالغة حينئذ في سوء حالِه فإن
مآلَه بيانُ حسنِ كلامِه في الدنيا وقبُحِه في الآخرة وقيل
معنى في الحياة الدنيا مدة الحياة الدنيا أي لا يصدُر منه فيها
إلا القولُ الحسن
{وَيُشْهِدُ الله على ما فى قلبه} أي بحسَب ادِّعائِه حيث يقول
الله يعلم أن ما في قلبي موافِقٌ لما في لساني وهو عطف على
يعجبك وقرئ ويُشهدُ الله فالمرادُ بما في قلبه ما فيه حقيقةً
ويؤيده قراءةُ ابنِ عبَّاسً رضي الله عنهما والله يشهَدُ على
ما في قلبه على أن كلمةَ على لكون المشهودِ به مُضِرّاً له
فالجملةُ اعتراضية وقرئ ويستشهدُ الله
{وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} أي شديد العدواه والخصومةِ للمسلمين
على أن الخِصامَ مصدرٌ وإضافة ألدُّ اليه بمعنى في كقولهم
ثبْتُ العذرِ أو أشدُّ الخصوم لهم خصومةً على أنه جمع خَصْم
كصَعْب وصِعاب قيل نزلتْ في الأخنسِ بنِ شُرَيقٍ الثقفي وكان
حسنَ المنظر حلوَ المنطق يوالي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
ويدعي الإسلامَ والمحبة وقيل في المنافقين والجملةُ حالٌ منَ
الضميرِ المجرور في قوله أو من المستكنّ في يُشهد وعطف على ما
قبلها على القراءتين المتوسطتين
(1/211)
وَإِذَا تَوَلَّى
سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
{وَإِذَا تولى} أي من مجلسك وقيل إذا صار
والياً
{سعى فِى الارض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل}
كما فعله الأخنسُ بثقيفٍ حيث بيتهم وأحرَق زروعَهم وأهلَك
مواشيَهم أو كما يفعله ولاةُ السوء بالقتل والإتلاف أو بالظلم
حتى يمنع الله تعالى بشؤمه القَطْرَ فيهلِكَ الحرثَ والنسل
وقرئ ويَهلِكَ الحرثُ والنسلُ على إسناد الهلاك إليهما عطفاً
على سعى وقرئ بفتح اللام وهي لغة وقرئ على البناءِ للمفعولِ من
الإهلاك
{والله لاَ يُحِبُّ الفساد} أي لا يرتضيه ويبعضه ويغضَبُ على
من يتعاطاه وهو اعتراضٌ تذييلي
(1/211)
وَإِذَا قِيلَ لَهُ
اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ
جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ} على نهْج العِظة
والنصيحة
{اتق الله} واترُكْ ما تباشِرُه من الفساد أو النفاق واحذرْ
سوءَ مغبَّتِه
{أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} أي حملتْه الأَنَفةُ وحَمِيةُ
الجاهلية على الإثم الذي نُهِيَ عنه لَجاجاً وعِناداً من قولك
أخذتُه بكذا إذا حملتُه عليه أوألزمته إياه
{فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} مبتدأٌ وخبر أي كافِيهِ جهنَّمُ وقيل
جهنمُ فاعلٌ لحسبُه سادٌّ مسدَّ خبرِه وهو مصدر بمعنى الفاعل
وقويَ لاعتماده على الفاء الرابطة للجملة بما قبلها وقيل حسبُ
اسمُ فعلٍ ماضٍ أي كفتْه جهنَّمُ
{وَلَبِئْسَ المهاد} جوابُ قسمٍ مقدَّرٍ والمخصوصُ بالذمِّ
محذوفٌ لظهوره وتعيُّنه والمِهادُ الفِراش وقيل ما يوطأ
للجَنْب والجملةُ اعتراض
(1/211)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ
رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
{وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ} مبتدأ
وخبرٌ كما مر أي يبيعها ببذْلِها في الجهاد ومشاقِّ الطاعات
وتعريضِها للمهالك في الحروب أو يأمرُ بالمعروف وينهى عن
المنكر وإن ترتب عليه القتلُ
{ابتغاء مرضات الله} أي طالبا لرضاه وهذا كمالُ التقوى
وإيرادُه قسيماً للأول من حيث إن ذلك يأنفُ من الأمر بالتقوى
وهذا يأمرُ بذلك وإن أدى إلى الهلاك وقيل نزلت في صهيبِ بنِ
سنانٍ الروميّ أخذه المشركون وعذبوه ليرتدَّ فقال إني شيخٌ
كبير
(1/211)
208 - 209 210 البقرة لاأنفعكم إن كنت معكم
ولا أضرُّكم إن كنت عليكم فخلُّوني وما أنا عليه وخُذوا مالي
فقَبِلوا منه مالَه فأتى المدينة فيشري حينئذٍ بمعنى يشتري
لجريان الحال على صورة الشرى
{والله رؤوف بالعباد} ولذلك يكلفهم التقوى ويعرِّضهم للثواب
والجملةُ اعتراضٌ تذييلى
(1/212)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (208)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ ادخلوا فِي
السلم} أي الاستسلام والطاعةِ وقيل الإسلام وقرئ بفتح السين
وهي لغة فيه بفتح اللام أيضاً وقوله تعالى
{كَافَّةً} حال من الضمير في ادخلو اأو من السِّلم أو منهما
معاً كما في قولِهِ ... خرجتُ بها تمشي تجرُّ وراءَنا ... على
أَثَريْنا ذيلَ مِرْطٍ مُرَجَّل ... وهي في الأصل اسمُ لجماعة
تكفُّ مُخالِفَها ثم استعملت في معنى جميعاً وتاؤُها ليست
للتأنيت حتى يُحتاجَ إلى جعل السِّلم مؤنثاً مثلَ الحربِ كما
في قوله عز وجل وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وفي
قوله ... السلم تأخذ منها مارضيت به ... والحربُ يكفيكَ من
أنفاسها جُرَعُ ...
وإنَّما هي للنقل كما في عامة وخاصة وقاطبة والمعنى استسلموا
لله تعالى وأطيعوه جملةً ظاهراً وباطناً والخطابُ للمنافقين أو
ادخُلوا في الإسلام بكلّيته ولا تخلِطوا به غيَره والخطابُ
لمؤمني أهلِ الكتاب فإنهم كانوا يراعون بعضَ أحكام دينهم
القديمِ بعد إسلامهم أو شرائع الله تعالى كلِّها بالإيمان
بالأنبياء عليهم السلام والكتب جيعا والخطابُ لأهل الكتاب
كلِّهم ووصفُهم بالإيمان إما على طريقة التغليب وإما بالنظر
إلى إيمانهم القديم أو في شعب الإسلام وأحكامِه كلها فلا يخلوا
بشئ منها والخطاب للمسلمين وإنما خوطب أهلُ الكتاب بعنوان
الإيمان مع أنه لا يصِح الإيمانُ إلا بما كلَّفوه الآن إيذاناً
بأن ما يدّعونه لا يتمّ بدونه
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} بالتفرُّق والتفريقِ أو
بمخالفة ما أُمرتم به
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظاهرُ العداوة أو مُظْهِرٌ
لها وهو تعليلٌ للنهي أو الانتهاءِ
(1/212)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
{فَإِن زَلَلْتُمْ} أي عن الدخول في السلم
وقرئ بكسر اللام وهي لغة فيه
{مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ} الآياتُ
{البينات} والحججُ القطعية الدالَّةُ على حقيقته المُوجبة
للدخول فيه
{فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ} غالبٌ على أمره لا يعجزه
الانتقام منكم
{حكيم} لايترك ما تقتضيه الحِكمةُ من مؤاخذة المجرمين
المستعصين على أوامره
(1/212)
هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ
وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ (210)
{هَلْ يَنظُرُونَ} استفهامٌ إنكاري في معنى
النفي أي ما ينتظرون بما يفعلون من العِناد والمخالفة في
الامتثال بما أُمروا به والانتهاءِ عمَّا نُهوا عنهُ
{إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} أي أمرُه وبأسُه أو يأتيَهم
اللَّهُ بأمره وبأسِه فحُذف المأتيُّ به لدِلالة الحال عليه
والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذانِ بأن سوءَ صنيعهم موجبٌ
للإعراض عنهم وحكايةُ جنايتهم لمن عداهم من أهل الإنصاف على
طريقة المباثة وإيرادُ الانتظارِ للإشعار بأنهم لانهماكهم
فيمَا هُم فيهِ من موجبات العقوبة
(1/212)
211 - 212 البقرة كأنهم طالبون لها مترقبون
لوقوعها
{في ظلل} كقلل في جمع قُلَّة وهي ما أظلك وقرئ في ظلال كقلال
في جمع قلة
{مّنَ الغمام} أي السحاب الأبيض وإنما أتاهم العذابُ فيه لما
أنه مظنة الرحمة فإذا أتى منه العذاب كان أفظعَ وأقطعَ للمطامع
فإن إتيان الشر مِن حيثُ لاَ يُحتسب صعبٌ فكيف بإتيانه من حيث
يرجى منه الخير
{والملائكة} عطف على الاسم الجليل أي ويأتيهم الملائكة فإنهم
وسائط في إتيان أمره تعالى بل هم الآتون ببأسه على الحقيقة
وتوسيط الظرف بينهما للإيذان بأن الآتي أو لا من جنس ما يلابس
الغمام ويترتب عليه عادة وأما الملائكة وإن كان إتيانهم
مقارناً لما ذكر من الغمام لكن ذلك ليس بطريق الاعتياد وقرئ
بالجر عطفا على ظلل أوالغمام
{وقضي الأمر} أي اتم أمرُ إهلاكهم وفُرغ منه وهو عطفٌ على
يأتيَهم داخل في حيز الانتظار وإنما عُدل إلى صيغة الماضي
دَلالة على تحققه فكأنه قد كان أو جملةٌ مستأنفةٌ جِيءَ بها
إنباءً عن وقوع مضمونها وقرئ وقضاءُ الأمر عطفاً على الملائكةُ
{وإلى الله} لا إلى غيره
{تُرْجَعُ الامور} بالتأنيث على البناءِ للمفعولِ من الرجع
وقرئ بالتذكير وعلى البناء للفاعل بالتأنيث من الرجوع
(1/213)
سَلْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ
يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
{سل بني إسرائيل} الخطاب للرسول صلى الله
عليه وسلم أو لكل أحدٍ من أهل الخطابِ والمرادُ بالسؤال
تبكيتهم وتقريعهم بذلك وتقريرلمجيء البينات
{كَمْ آتيناهم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ} مُعجِزَةٌ ظاهرة على أيدي
الأنبياءِ عليهم السلام وآيةٌ ناطقة بحقّية الإسلامِ المأمورِ
بالدخول فيه وكم خبريةٌ أو استفهاميةٌ مقرِّرةٌ ومحلها النصبُ
على المفعولية أو الرفع بالابتداء على حذف العائدِ من الخبر
وآيةٍ مميِّزُها
{وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ الله} التي هي آياته الباهرةِ فإنها
سببٌ للهدى الذي هو أجلُّ النعم وتبديلُها جعلُها سبباً
للضلالة وازديادِ الرِّجس أو تحريفها أو تأويلها الزائغ
{مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ} ووصلتْ إليه وتمكَّن من معرفتها
والتصريحُ بذلك مع أنَّ التبديلَ لا يُتصوَّرُ قبل المجيءِ
للإشعار بأنهم قد بدَّلوها بعد ما وقفوا على تفصيلها كما في
قوله عز وجلَّ ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ
وَهُمْ يعلمون قيل تقديره فبذلوها ومن يبدل وإنما حُذف للإيذان
بعدمِ الحاجةِ إلى التَّصريحِ بهِ لظهوره
{فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} تعليلٌ للجواب كأنه قيل ومن
يبدل نعمة الله عاقبه أشدَّ عقوبةٍ فإنه شديدُ العقاب وإظهارُ
الاسمِ الجليلِ لتربية المهابة وإدخال الروعة
(1/213)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
{زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة
الدنيا} أي حسُنت في أعيانهم وأُشرِبت محبتُها في قلوبهم حتى
تهالكوا عليها وتهافتوا فيها معرِضين عن غيرها والتزيينُ من
حيث الخلقُ والإيجاد مستند الى الله سبحانه كما يُعرِبُ عنه
القراءةُ على البناء للفاعل اذا ما مِنْ شيءٍ إلا وهو خالقُه
وكلٌّ من الشيطان والقُوى الحيوانية وما في الدنيا من الأمور
البهيَّة والأشياءِ الشهيةِ مُزيَّنٌ بالعَرْض
{وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمنوا} عطفٌ على زُين وإيثارُ صيغة
الاستقبال للدلالة
(1/213)
213 - البقرة على استمرار السُّخريةِ منهم
وهم فقراء المؤمنين كبلالٍ وعمار وصهيب رضي الله عنهم كانوا
يسترذلونهم ويستهزءون بهم على رفضهم الدُّنيا وإقبالِهم على
العقبى ومن ابتدائية فكأنهم جعلوا السخرية مبتدأة منهم
{والذين اتقوا} هم الذين آمنوا بعينهم وإنما ذُكروا بعنوان
التقوى للإيذان بأن إعراضَهم عن الدنيا للاتقاء عنها لكونها
مُخِلَّةً بتبتُّلهم إلى جناب القدس شاغلة عنهم
{فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة} لأنَّهم في أعلى عِلّيين وهم في
أسفل سافلين أو لأنهم في أوج الكرامةِ وهم في حضيض الذلِّ
والمهانةِ أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخَرون منهم
كما سخِروا منهم في الدنيا والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها
وإيثارُ الاسمية للدلالة على دوام مضمونِها
{والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء} أي في الدارين
{بِغَيْرِ حِسَابٍ} بغير تقدير فيوسِّعُ في الدنيا استدراجاً
تارةً وابتلاءً أخرى
(1/214)
كَانَ النَّاسُ
أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا
فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ
فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
{كَانَ الناس أُمَّةً واحدة} متفقين على
كلمة الحق ودينِ الإسلام وكان ذلك بين آدمَ وإدريسَ أو نوحٍ
عليهم السَّلام أو بعدَ الطوفان
{فَبَعَثَ الله النبيين} أي فاختلفوا فبَعَثَ إلخ وهي قراءةُ
ابنِ مسعود رضي الله عنه وقد حُذف تعويلاً على ما يُذكر عَقيبه
{مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} عن كعب الذي علمتُه من عددُ
الأنبياءِ عليهم السلام مئة وأربعةٌ وعشرون ألفاً والمرسَلُ
منهم ثلثُمائةٍ وثلاثة عشرَ والمذكورُ في القرآن ثمانيةٌ
وعشرون وقيل كَانَ الناسُ أُمَّةً واحدة متفقةً على الكفر
والضلال في فترة إدريسَ أو نوحٍ فبعث اللَّهُ النبيين فاختلفوا
عليهم والأولُ هو الأنسبُ بالنظم الكريم
{وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب} أي جنسَ الكتابِ أو مع كل واحد
منهم ممن له كتابٌ كتابُه الخاصُّ به لا مع كلِّ واحدٍ منهم
على الإطلاق إذ لم يكنْ لبعضهم كتابٌ وإنما كانوا يأخُذون بكتب
مَن قبلَهم وعمومُ النبيين لا ينافي خصُوصَ الضمير العائد إليه
بمعونة المقام
{بالحق} حال من الكتاب أي ملتبساً بالحق أو متعلقا بأنزل كقوله
عزَّ وعلاَّ وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ
{لِيَحْكُمَ} أي الكتابُ أو الله سُبحانه وتعالى أو كلُّ واحد
من النبيين
{بَيْنَ الناس} أي المذكورين والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ
لزيادة التعيين
{فِيمَا اختلفوا فِيهِ} أي في الحق الذي اختلفوا فيه أو فيما
التَبَس عليهم
{وَمَا اختلف فِيهِ} أي في الحق أو في الكتاب المُنْزل ملتبساً
به والواوُ حالية
{إِلاَّ الذين أُوتُوهُ} أي الكتابَ المنزلَ لإزالة الاختلاف
وإزاحةِ الشقاق والتعبيرُ عن الإنزال بالإيتاء للتنبيه منْ
أولِ الأمرِ عَلى كمال تمكُّنِهم من الوقوف على ما في تضاعيفِه
من الحق فإن الإنزالَ لا يفيد تلك الفائدةَ أي عكسوا الأمرَ
حيث جعلوا ما أُنزل لإزالة الاختلافِ سبباً لاستحكامه ورسوخِه
{مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات} أي رَسَخَتْ في عقولهم
ومن متعلِّقة بمحذوف يدل عليه الكلامُ أي فاختلفوا وما اختلف
فيه إلخ وقيل بالملفوظ بناءً على عدم منع إلا عنه كما في قولك
ما قام إلا زيد يوم
(1/214)
214 - 215 البقرة الجمعة
{بَغْياً بَيْنَهُمْ} متعلِّقٌ بما تعلقتْ به من أي اختلفوا
بغياً وتهالُكاً على الدنيا
{فَهَدَى الله الذين آمنوا لِمَا اختلفوا فِيهِ} أي للحق الذي
اختَلَف فيه من اختَلَف
{مِنَ الحق} بيانٌ لما وفي إبهامه أولاً وتفسيرِه ثانياً ما لا
يَخفْى من التفخيم
{بِإِذْنِهِ} بأمره أو بتيسيره ولطفهِ
{والله يَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} موصِلٍ
إلى الحقّ وهو اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما سبق
(1/215)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ
وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ
نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
{أَمْ حَسِبْتُمْ} خُوطب به رسولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ حثًّا لهم على
الثبات على المصابرة على مخالفة الكفَرَة وتحمُّل المشاقِّ من
جهتهم إثر بيانِ اختلافِ الأممِ على الأنبياءِ عليهم السلامُ
وقد بُيّن فيه مآلُ اختلافِهم وما لَقِيَ الأنبياء ومن معهم من
قبلهم من مكابدة الشدائد ومقاساة الهموم وأن عاقبة أمرِهم
النصرُ وأم منقطعة والهمزةُ فيها للإنكار والاستبعاد أي بل
حَسِبْتُمْ
{أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين
خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين أي
والحال أنه لم يأتِكم مثلُهم بعد ولم تبتلوا بما بتلوا به من
الأحوالِ الهائلةِ التي هي مَثَلٌ في الفظاعة والشدّة وهو
متوقَّعٌ ومنتظَرٌ
{مَسَّتْهُمْ} استئنافٌ وقعَ جوابا عما ينساق إليه الذهنُ
كأنَّه قيلَ كيفَ كان مثلهم فقيل مسَّتْهم
{البأساء} أي الشدَّةُ من الخوف والفاقةِ
{والضراء} أي الآلامُ والأمراضُ
{وَزُلْزِلُواْ} أي أزْعجوا إزعاجاً شديداً بما دَهَمهم من
الأهوال والأفزاعِ
{حتى يقول الرسول والذين آمنوا مَعَهُ} أي انتهى أمرُهم من
الشدة إلى حيث اضطَرَّهم الضَّجرُ إلى أن يقول الرسولُ وهو
أعلمُ الناس بشئون اللَّهِ تعالى وأوثقُهم بنصره والمؤمنون
المقتدون بآثاره المستضيئون بأنواره
{متى} أي متى يأتي
{نَصْرُ الله} طلباً وتمنياً له واسْتطالةً لمدة الشدة والعناء
وقرئ حتى يقولُ بالرفع على أنه حكاية حال ما ضية وهذا كما ترى
غايةُ الغاياتِ القاصيةِ ونهايةُ النهايات النائيةِ كيف لا
والرسلُ مع علوّ كعبهم في الثبات والاصطبارِ حيث عيلَ صبرُهم
وبلغوا هذا المبلغَ من الضجر والضجيج عُلم أن الأمرَ بلغ إلى
غاية لامطمح وراءَها
{أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} على تقدير القولِ أي فقيل
لهم حينئذٍ ذلك إسعافاً لمرامهم بالقرب القُربُ الزمانيُّ وفي
إيثار الجملة الاسميةِ على الفعلية المناسبة لما قبلها
وتصديرها بحرف التنبيه والتأكيد من الدلالة على تحقيق مضمونها
وتقريره مالا يخفى واختيارُ حكاية الوعد بالنصر لنا أنها في
حكم إنشاء الوعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتصارُ على
حكايتها دون حكايةِ نفسِ النصر مع تحققه للإيذان بعدم الحاجةِ
إلى ذلك لاستحالة الخُلْف ويجوز أن يكون هذا وارداً من جهته
تعالى عند الحكاية على نهج الاعتراض لا وارداً عند وقوعِ
المحكي وفيه رمزٌ إلى أنَّ الوصولَ إلى جناب القدسِ لا يتسنَّى
إلا برفض اللذات ومكايدة المشاق كما ينبئ عنه قوله صلى الله
عليه وسلم حضت الجنة بالمكارة وحضت النار بالشهوات
(1/215)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا
يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ
فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
{يسألونك مَاذَا يُنفِقُونَ}
(1/215)
أي من أصناف أموالِهم
{قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ} ما إما شرطية وإما موصولة
حُذف العائدُ إليها أي ما أنفقتموه من خير أي خير كان ففيه
تجويزُ الإنفاق من جميع أنواعِ الأموالِ وبيانٌ لما في السؤال
إلا أنه جُعل من جُملةِ ما في حيز الشرطِ أو الصلة وأُبرِز في
معرِض بيانِ المصرِفِ حيث قيل
{فللوالدين والاقربين} للإيذان بأن الأهمَّ بيانُ المصارفِ
المعدودة لأن الاعتدادَ بالإنفاق بحسب وقوعِه في موقعه وعن ابن
عباس رضي الله عنهما أنه جاء عمْرُو بنُ الجموح وهو شيخ هرم له
مالٌ عظيم فقال يارسول الله ماذا نُنفق من أموالنا أين نضعُها
فنزلت
{واليتامى} أي المحتاجين منهم
{والمساكين وابن السبيل} ولم يتعرضْ للسائلين والرقاب إما
اكتفاء بما ذكر في المواقع الأُخَرِ وإما بناءً على دخولهم تحت
عموم قوله تعالى
{وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} فإنه شاملٌ لكل خير واقعٍ في
أي مصرِفٍ كان
{فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} فيوفّي ثوابَه وليس في الآية ما
ينافيه فرض الزكاة لينسخ له كما نُقل عن السُدي
(1/216)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا
وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ (216)
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال} ببناء الفعل
للمفعول ورفعِ القتال أي قتال الكفرة وقرئ ببنائه للفاعل وهو
اللَّهُ عز وجل ونصب القتال وقرئ كُتِب عليكم القَتْلُ أي قتلُ
الكفرة والواو في قولِه تعالى
{وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} حالية أي والحال أنه مكروهٌ لكم طبعاً
على أن الكُرهَ مصدرٌ وُصف به المفعولُ مبالغة أو بمعنى
المفعولِ كالخُبز بمعنى المخبوز وقرئ بالفتح على أنه بمعنى
المضموم كالضَّعف والضُّعف أو على أنَّه بمعنى الإكراه مَجازاً
كأنهم أُكرهوا عليه لشدة كراهتِهم له ومشقتِه عليهم
{وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} وهو
جميعُ ما كُلّفوه من الأمور الشاقةِ التي من جملتها القتالُ
فإن النفوسَ تكرَهُه وتنفِرُ عنه والجملة اعتراضية دالَّةٌ على
أن في القتال خيراً لهم
{وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} وهو
جميع ما نُهوا عنه من الأمور المستلَذة وهو معطوفٌ على ما قبله
لا محلَّ لهما من الإعراب
{والله يَعْلَمُ} ما هو خيرٌ لكم فلذلك يأمركم به
{وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أي لا تعلَمونه ولذلك تكرَهونه أو
واللَّهُ يعلم ما هو خيرٌ وشرٌّ لكم وأنتم لا تعلمونهما فلا
تتبعوا في ذلك رأيَكم وامتثلوا بأمره تعالى
(1/216)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ
كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ
أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ
الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى
يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ
يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ
فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (217)
{يسألونك عَنِ الشهر الحرام} رُوِيَ أنَّ
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد اللَّه بن جَحْشٍ على
سرية في جُمادى الآخِرَة قبل قتالِ بدرٍ بشهرين ليترصَّدوا
عِيراً لقُريش فيهم عمرُو بنُ عبدِ اللَّه الحَضْرمي وثلاثةٌ
معه فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العِير بما فيها من تجارة
الطائفِ وكان ذلك أولَ يوم من رجبٍ وهم يظنونه من جمادى
(1/216)
الآخرة فقالت قريش وقد استحل محمَّدٌ
الشهرَ الحرامَ شهراً يأمنُ فيه الخائفُ ويبذعِرُ فيه الناسُ
إلى معايشهم فوقف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم العِيرَ
وعظَّم ذلك على أصحاب السرية وقالوا ما نبرح حتى تنزِلَ
توبتُنا ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم العِيرَ والأُسارى
وعن ابن عباس رضي الله عنُهمَا لما نزلتْ أخذ رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم الغنيمة والمعنى يسألك الكفارُ أو المسلمون عن
القتال في الشهر الحرامِ على أن قوله عز وجل
{قِتَالٍ فِيهِ} بدلُ اشتمالٍ من الشهر وتنكيرُه لما أن سؤالهم
كان عن مُطلق القتال الواقعِ في الشهر الحرام لا عن القتال
المعهودِ ولذلك لم يقل يسألونك عن القتال في الشهر الحرام وقرئ
عن قتال فيه بتكرير العامل كما في قوله تعالى للذين استضعفوا
لمن آمن منهم وقرئ قتل
{قُلْ} في جوابهم
{قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ محلّها النصبُ
بقل وإنما جاز وقوعُ قتالٌ مبتدأً مع كونه نكرةً لتخصُّصه إما
بالوصف إنْ تعلق الظرفُ بمحذوفٍ وقعَ صفةً له أي قتالٌ كائن
فيه وإما بالعمل إن تعلق به وإنما أوثر التكير احترازاً عن
توهم التعيين وإيذاناً بأن المرادَ مطلقُ القتال الواقعِ فيه
أيِّ قتالٍ كان عن عطاءٍ أنه سُئل عن القتال في الشهر الحرام
فحلف بالله ما يحِلّ للناس أن يغزوا في الحَرَم ولا في الشهر
الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وما نُسخت وأكثرُ الأقاويل أنها
منسوخةٌ بقوله تعالى فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ
{وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله} مبتدأ قد تخصَّصَ بالعمل فيما بعده
أي ومَنْعٌ عن الإسلام الموصِلِ للعبد إلى الله تعالى
{وَكُفْرٌ بِهِ} عطفٌ على صدٌّ عاملٌ فيما بعده مثلَه أي وكفرٌ
بالله تعالى وحيث كان الصدُ عَن سَبِيلِ الله فرداً من أفراد
الكفرِ به تعالى لم يقدَحِ العطفُ المذكورُ في حسن عطفِ قوله
تعالى
{والمسجد الحرام} على سبيل الله لأنه ليس بأجنبيَ محضٍ وقيل هو
أيضاً معطوف على صدٌ بتقدير المضاف أي وصدُ المسجدِ الحرام
{وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} وهو النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم
والمؤمنون
{مِنْهُ} أي من المسجد الحرام وهو عطفٌ على وكفر به
{أَكْبَرُ عِندَ الله} خبرٌ للأشياء المعدودةِ أي كبائرُ
السائلين أكبر عند الله مما عنوا بالسؤال وهو ما فعلته السريةُ
خطأً وبناءً على الظن وأفعلُ يستوي فيه الواحدُ والجمعُ
والمذكرُ والمؤنثُ
{والفتنة} أي ما ارتكبوه من الإخراج والشركِ وصدِّ الناسِ عن
الإسلام ابتداءً وبقاءً
{أَكْبَرُ مِنَ القتل} أي أفظعُ من قتل الحَضْرميّ
{وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم} بيانٌ لاستحكام عداوتهم
وإصرارِهم على الفتنة في الدين
{حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} الحقِّ إلى دينهم الباطلِ
وإضافةُ الدين إليهم لتذكير تأكُّدِ ما بينهما من العلاقة
الموجبةِ لامتناع الافتراق
{إِنِ اسْتَطَاعُواْ} إشارةٌ إلى تصلُّبهم في الدين وثباتِ
قدمِهم فيه كأنه قيل وأنى لهم ذلك
{وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} تحذيرٌ من الارتداد أي
ومن يفعلْ ذلك بإضلالهم وإغوائهم
{فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} بأن لم يرجِعْ إلى الإسلام وفيه
ترغيبٌ في الرجوعِ إلى الإسلام بعد الارتداد
{فأولئك} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيِّز
الصلةِ من الارتداد والموتِ عليه وما فيه من معنى البُعد
للإشعارِ ببُعد منزلتهم في الشر والفساد والجمعُ للنظر إلى
المعنى أي أولئك المُصِرُّون على الارتداد إلى حينِ الموتِ
{حَبِطَتْ أعمالهم} الحسنةُ التي كانوا عمِلوها في حالة
الإسلام حبوطا لاتلافى له قطعاً
{فِى الدنيا والاخرة} بحيثُ لم يبْقَ لها حكمٌ من الأحكام
الدنيوية والأخروية
{وَأُوْلئِكَ} الموصوفون بما ذكر سابقاً ولاحقاً من القبائح
{أصحاب النار} أي مُلابِسوها ومُلازِموها
{هُمْ فيها خالدون} كدأب
(1/217)
218 - 219 البقرة سائرِ الكَفَرة
(1/218)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
{إِنَّ الذين آمنوا} نزلت في أصحاب السريةِ
لما ظُنَّ بهم أنهم إنْ سلِموا من الإثم فلا أجرَ لهم
{والذين هَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله} كرَّر الموصولَ
مع أن المرادَ بهما واحدٌ لتفخيم شأنِ الهجرةِ والجهاد فكأنهما
مستقلانِ في تحقيق الرجاء
{أولئك} المنعوتون بالنُّعوتِ الجليلةِ المذكورة
{يرجعون} بما لهم من مبادئ الفوزِ
{رَّحْمَةِ الله} أي ثوابه أثبت لهم الرجاءَ دون الفوز
بالمرجوِّ للإيذان بأنهم عالمون بأن العملَ غيرُ موجبٍ للأجر
وإنما هو على طريق التفضُّلِ منه سبحانه لا لأن في فوزهم
اشتباهاً
{والله غَفُورٌ} مبالِغٌ في مغفرةِ ما فرَط من عباده خطأً
{رَّحِيمٌ} يُجزِل لهم الأجرَ والثوابَ والجملةُ اعتراضٌ
محقَّقٌ لمضمون ما قبلها
(1/218)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ
نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
{يسألونك عَنِ الخمر والميسر} تواردَتْ في
شأن الخمر أربعُ آياتٍ نزلت بمكة وَمِن ثمرات النخيل والأعناب
تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا فطفق المسلمون
بشربونها ثم إن عمرَ ومُعاذاً ونفراً من الصَّحابةِ رضوانُ
الله تعالى عليهم أجمعين قالوا أَفْتِنا يا رسولَ الله في
الخمر فإنها مُذهبةٌ للعقل فنزلت هذه الآية فشرِبها قومٌ
وتركها آخرون ثم دعا عبدُ الرحمن بنُ عَوْف ناساً منهم فشربوا
فسكروا فأقام أحدُهم فقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون أَعْبُدُ
مَا تَعْبُدُونَ فنزلت لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى
الآية فقلَّ من يشرَبُها ثم دعا عتبانُ بن مالك سعدَ بنَ أبي
وقاصٍ في نفرٍ فلما سكِروا تفاخَروا وتناشدوا حتى أنشد سعدٌ
شعراً فيه هجاءٌ الأنصار فضرَبه أنصاريٌّ بلَحْي بعيرٍ فشجه
موُضِحَة فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللهم
بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت إِنَّمَا الخمر والميسر
إلى قوله تعالى فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ فقال عمرُ رضي
الله عنه انتهينا يا رب وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه لو وقعت
قطرةٌ منها في بئر فبُنيت في مكانها مَنارةٌ لم أؤذّنْ عليها
ولو وقعت في بحر ثم جَفَّ فنبت فيه الكلأُ لم أَرْعَه وعن ابنِ
عمرَ رضي الله الله عنهما لو أدخلتُ أُصبَعي فيها لم
تَتْبَعْني وهذا هو الإيمانُ والتقى حقاً رضوانُ الله تعالَى
عليهم أجمعين والخمرُ مصدرُ خمرَه أي ستره سُمّي به من عصير
العنب ما غلى واشتد وقذف بالزبد لتغطيتها العقلَ والتمييزَ
كأنها نفسُ السَّتر كما سُميت سكَراً لأنها تسكُرهما أي
تحجزهما والميسِرُ مصدرٌ ميميٌّ من يَسَر كالموعِد والمرجِع
يقال يسَرْته إذا قمَرْته واشتقاقه إما من اليُسر لأنه أخذُ
المال بيُسرٍ من غير كد وإما من اليَسار لأنه سلبٌ له وصفتُه
أنه كانت لهم عشرة أقداح هي الأزلام زالاقلام الفذ والتوأم
والرقيب والحلس والنافسُ والمُسبِلُ والمعلى والمَنيح والسَفيح
والوغد لكل منها نصيبٌ معلوم من جَزور ينحرونها ويُجزّئونها
عشرةَ أجزاء وقيل ثمانيةً وعشرين إلا الثلاثة هي المنيحُ
والسفيحُ والوغدُ للفذ سهمٌ وللتوأم
(1/218)
سهمان وللرقيب ثلاثة وللحلس أربعة وللنافس
خمسة وللمُسبل ستة وللمعلَّى سبعة يجعلونها في الربابة وهي
خريطةٌ ويضعونها على يديْ عدلٍ ثم يجلجلها ويُدخِلُ يده
فيُخرِج باسم رجلٍ رجلٍ قِدْحاً قدحاً فمن خرج له قِدْحٌ من
ذوات الأنصباء أخذ النصيب المعيّنَ لها ومن خرج له من تلك
الثلاثة غَرِم ثمنَ الجزور مع حِرمانه وكانوا يدفعون تلك
الأنصباءَ إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون
من لايدخل فيه ويسمّونه البرم وفي حكمه جميعُ أنواعِ القمارِ
من النرْدِ والشطرنج وغيرهما وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ
وسلم أنه قال إياكم وهاتين اللعبتين المشئومتين فإنهما مياسِرُ
العجم وعن عليٌّ كرم الله وجهه أن النرد والشطرنج من الميسر
وعن ابن سيرين كلُّ شيء فيه خطرٌ فهو من الميسر والمعنى
يسألونك عن حُكمهما وعما في تعاطيهما
{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} أي في تعاطيهما ذلك لما أن
الأولَ مسلبةٌ للعقول التي هي قطبُ الدين والدنيا مع كونِ كلَ
منهما مَتلفةً للأموال
{ومنافع لِلنَّاسِ} من كسب الطرَب واللذة ومصاحبةِ الفتيان
وتشجيعِ الجبان وتقوية الطبيعة وقرئ إثمٌ كثير بالمثلثة وفي
تقديم بيانِ إثمِه ووصفُه بالكِبَر وتأخيرِ ذكر منافعِه مع
تخصيصهما بالناس من الدِلالة على غلبة الأول مالا يخفى على ما
نطقَ به قولُه تعالى
{وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} أي المفاسدُ
المترتبةُ على تعاطيهما أعظمُ من الفوائد المترتبة عليه وقرئ
أقرب من نفعهما
{ويسألونك ماذا ينفقون} عطفٌ على يسألونك عن الخمر الخ عطفَ
القصة على القصة أي أيُّ شيءٍ ينفقونه قيل هو عمْرو بنُ الجموح
أيضاً سأل أولا لا من أيّ جنسٍ ينفق من أجناس الأموال فلما
بُيّن جوازُ الإنفاق من جميع الأجناس سأل ثانياً من أي أصنافها
نُنفِقُ أمن خيارها أم من غيرها أو سأل عن مقدار ما يُنفقه منه
فقيل
{قُلِ العفو} بالنصب أي ينفقون العفوَ أو انفقوا العفو وقرئ
بالرفع على أن ما استفهامية وذا موصولةٌ صلتُها ينفقون أي الذي
ينفقونه العفوُ قال الواحدي أصلُ العفوِ في اللغة الزيادة وقال
القفال العفوُ ما سُهل وتيسر مما فضَل من الكفاية وهو قول
قتادةَ وعَطاءٍ والسدي وكانت الصَّحابةِ رضوانُ الله تعالَى
عليهم أجمعين يكسِبون المالَ ويُمسكون قدرَ النفقة ويتصدقون
بالفضل ورُوي أن رجلاً أتى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم
ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال خذها مني صدقة فأعرض
عنه فكرر ذلك مراراً حتى قال عليه السلام مغضبا هاتها فأخذها
فخذفها عليه خذفا لو أصابته لشجته ثم قال يأتي أحدُكم بماله
كلِّه يتصدق به ويجلِس يتكفّف الناسَ إنما الصدقةُ عن ظهر غنى
{كذلك} إشارةٌ إلى مصدرِ الفعل الآتي وما فيه من معنى البعد
للإيذان بعلو درجةِ المشارِ إليه في الفضلِ مع كمال تميّزِه
وانتظامِه بسببِ ذلكَ في سلكِ الأمور المشاهَدة والكافُ
لتأكيدِ ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة وإفرادُ حرف الخطاب
مع تعدد المخاطبين باعتبار القَبيل أو الفريق أو لعدم القصد
إلى تعيين المخاطب كما مر ومحلُه النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدر
محذوفٍ أي مثل ذلك البيان الواضحِ الذي هو عبارةٌ عمَّا مضى في
أجوبة الأسئلة المارّة
{يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} الدالة على الأحكام الشرعية
المذكورة لا بياناً أدنى منه وقد مر تمامُ تحقيقِه في قوله
تعالى وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا وتبيين الآياتِ تنزيلها
مبينة الفحوى واضحةَ المدلول لا أنَّه تعالى يبينها بعد أن
كانت مشْتبهةً ملتبسةً وصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة
{لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} لكي تتفكروا فيها
(1/219)
220 - البقرة 221 البقرة وتقِفوا على
مقاصدها وتعملوا بمَا في تضاعيفِها وقولُه تعالى
(1/220)
فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ
لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
{فِى الدنيا والاخرة} متعلقٌ إما بيُبيْن
أي يبين لكم فيما يتعلق بالدنيا والآخرة الآيات وإما بمحذوفٍ
وقعَ حالاً من الآيات أي يبينها لكم كائنةً فيهما أي مبيِّنةً
لأحوالكم المتعلقةِ بهما وإنما قدم عليه التعليلُ لمزيد
الاعتناءِ بشأن التفكر وإما بقوله تعالى تَتَفَكَّرُونَ أي
تتفكرون في الأمور المتعلقة بالدنيا والآخرة في الأحكام
الواردةِ في أجوبة الأسئلة المارّة فتختارون منها ما يصلُح لكم
فيهما وتجتنبون عن غيره وهذا التخصيصُ هو المناسبُ لمقام
تعدادِ الأحكام الجزئيةِ ويجوزُ التعميمُ لجميع الأمور
المتعلقة بالدنيا والآخرة فذلك حينئذ إشارةٌ إلى ما مرَّ من
البيانات كلاً أو بعضاً لا إلى مصدر ما بعده فإنه حينئذ فعلٌ
مستقلٌ ليس عن تلك البيانات والمرادُ بالآيات غيرُ ما ذكر
والمعنى مثلَ ذلك البيان الوارد في الأجوبة المذكورة يُبيّنُ
الله لَكُمُ الآيات والدلائلَ لعلكم تتفكرون في أموركم
المتعلقة بالدنيا والآخرة وتأخذون بما يصلح لكم وينفعُكم فيهما
وتذرون ما يضرُّكم حسبما تقتضيهِ تلك الآياتُ المبينة
{ويسألونك عن اليتامى} عطفٌ على ما قبله من نظيره رُوي أنَّه
لمَّا نزلتْ إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً
الآية تحامى الناسُ عن مخالطة اليتامى وتعهُّد أموالهم فشق
عليهم ذلك فذكروه للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت
{قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} أي التعرضُ لأحوالهم وأموالهم
على طريق الإصلاح خيرٌ من مجانبتهم اتقاءً
{وَإِن تُخَالِطُوهُمْ} وتعاشِروهم على وجهٍ ينفعهم
{فَإِخوَانُكُمْ} أي فهم إخوانُكم أيْ في الدينِ الذي هُو أقوى
من العلاقة النسبية ومن حقوق الأخوة ومواجبها المخالطةُ
بالأصلاح والنفعِ وقد حُمل المخالطةُ على المصاهرة
{والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} العلم بمعنى المعرفة
المتعدية الى واحد ومن لتضمينه معنى التمييز أي يعلم مَنْ يفسد
في أمورهم عند المخالطة أو مَنْ يقصِد بمخالطته الخيانةَ
والافساد مميزا له ممن يُصلح فيها أو يقصد الإصلاح فيجازي كلاً
منهما بعمله ففيه وعدٌ ووعيد خلا أن في تقديم المفسد مزيدَ
تهديد وتأكيد للوعيد
{وَلَوْ شَاء الله لاعْنَتَكُمْ} أي لو شاء أن يعنتكم أي
يكلفَكم ما يشق عليكم من العنت وهو المشقة لفعل ولم يجوِّزْ
لكم مداخلتَهم
{أَنَّ الله عَزِيزٌ} غالبٌ على أمره لا يعِزُّ عليه أمر من
الأمور التي من جملتها إعناتُكم فهو تعليلٌ لمضمون الشرطية
وقوله عز وجل
{حَكِيمٌ} أي فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمةُ الداعيةُ إلى
بناء التكليف على أساس الطاقة دليلٌ على ما تفيده كلمة لو من
انتفاء مقدمها
(1/220)
وَلَا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ
مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ
مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ
بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (221)
{وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} أي لا
تتزوجوهن وقرئ بضم التاء من الإنكاح أي لا تُزوِّجوهن
(1/220)
من المسلمين
{حتى يُؤْمِنَّ} والمرادُ بهن إما ما يعم الكتابياتِ أيضاً
حسبما يقتضيه عمومُ التعليلين الآتيين لقوله تعالى وَقَالَتِ
اليهودُ عُزَيْرٌ ابنُ الله وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله
إلى قوله سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ فالآية منسوخةٌ بقوله
تعالى والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ
وأما غيرُ الكتابيات فهي ثابتة ورُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله
عليه وسلم بعث مَرْثدَ بنَ أبي مرثد الغنوي إلى مكةَ ليُخرج
منها ناساً من المسلمين وكان يهوى امرأةً في الجاهلية اسمُها
عَنَاق فأتته فقالت ألا تخلو فقال ويحك إن الإسلامَ حال بيننا
فقال هل لك أن تتزوّجَ بي قال نعم ولكن ارجع الى النبيِّ صلَّى
الله عليهِ وسلم فاستأمَره فنزلت
{وَلأمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ} تعليل للنهي عن مواصلتهن وترغيبٌ في
مواصلة المؤمنات صُدِّر بلام الابتداء الشبيهةِ بلام القسم في
إفادة التأكيد مبالغة في الحمل على الانزجار وأصلُ أمة أمو
حذفت لامها على غير قياس وعوِّض منه تاء التأنيث ودليلُ كون
لامها واوا رجعوها في الجمع قال الكلابي
أما الإماءُ فلا يدعونني ولدا ... إذا تداعى بنو الأمواتِ
بالعار
وظهورُها في المصدر يقال هي أَمةٌ بيِّنة الأُموَّة وأقرَّتْ
له بالأموّة وقد وقعت مبتدأ لما فيها من لام الابتداء والوصف
أي ولأمة مؤمنة مع ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر
{خَيْرٌ} بحسب الدين والدنيا
{مّن مُّشْرِكَةٍ} أي امرأة مشركة مع مالها من شرف الحرية
ورفعة الشأن
{وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} قد مر أن كلمةَ لو في أمثالِ هذهِ
المواقعِ ليستْ لبيان انتفاءِ الشيءِ في الماضي لانتفاء غيرِه
فيه فلا يُلاحظ لها جوابٌ قد حُذف ثقةٍ بدلالةِ ما قبلها عليه
من انصباب المعنى على تقديره بل هي لبيان تحققِ ما يفيده
الكلام السابق من الحُكم على كل حالٍ مفروض من الأحوال
المقارنة له على الإجمال بإدخالِها على أبعدِها منه وأشدِّها
منافاةً له ليظهرَ بثبوته معه ثبوتُه مع ما عداه من الأحوال
بطريق الأولوية لما أن الشيءَ متى تحقق مع المنافي القويَّ
فلأنْ يتحققَ مع غيره أولى ولذلك لا يذكر معه شيءٌ من سائرِ
الأحوالِ ويكتفى عنه بذكر الواوِ العاطفةِ للجُملة على نظيرتها
المقابلةِ لها المتناولة لجميع الأحوال المغايرة لها وهذا معنى
قولِهم أنها لاستقصاء الأحوال على وجه الإجمال كأنه قيل لو لم
تعجبْكم ولو أعجبتكم والجملةُ في حيز النصبِ على الحالية من
مشركة إذ المآل وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خيرٌ مّن امرأة مشركة
حال عدمِ اعجابها وحال إعجابها إياكم بجمالها ومالِها ونسبها
وبغير ذلك من مبادي الإعجابِ وموجباتِ الرغبة فيها أي على كل
حال وقد اقتُصر على ذِكْر ما هو أشدُّ منافاةً للخيرية تنبيهاً
على أنها حيث تحققت معه فلأَنْ تتحققَ مع غيره أولى وقيل
الواوُ حاليةٌ وليس بواضح وقيل اعتراضيةٌ وليس بسديد والحقُّ
أنها عاطفة مستتبعةٌ لما ذكر من الاعتبار اللطيف نعم يجوز أن
تكونَ الجملةُ الأولى مع ما عطف عليها مستأنفة مقررة لمضمون ما
قبلها فتدبر
{وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين} من الإنكاح والمراد بهم الكفار
على الإطلاق لما مر أي لا تُزوِّجوا منهم المؤمناتِ سواءٌ كن
حرائرَ أو إماءً
{حتى يؤمنوا} ويتركوا ماهم فيه من الكفر
{وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ} مع ما به من ذل المملوكية
{خَيْرٌ من مشرك} مع ماله من عز المالكية
{وَلَوْ أعجبكم} مما فيه من دواعي الرغبة فيه الراجعةِ إلى
ذاته وصفاته
{أولئك} استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمون التعليلين المارَّيْن أي
أولئك المذكورون من المشركات والمشركين
{يَدَّعُونَ} من يقارِنُهم ويعاشِرُهم
{إِلَى النار} أيْ إلى ما يُؤدِّي إليها من الكفر والفسوق فلا
بد من الاجتناب عن مقارنتهم ومقاربتِهم
{والله يَدْعُو} بواسطة عباده
(1/221)
222 - البقرة المؤمنين مَنْ يقارِنُهم
{إِلَى الجنة والمغفرة} أي إلى الاعتقاد الحق والعملِ الصالحِ
الموصلَيْن إليهما وتقديمُ الجنة على المغفرة مع أن حق التخلية
أن تُقدَّم على التحلية لرعاية مقابلة النار ابتداءً
{بِإِذْنِهِ} متعلق بيدعو أي يدعو ملتبساً بتوفيقه الذي من
جملته إرشادُ المؤمنين لمقارِنيهم إلى الخير ونصيحتُهم إياهم
فهم أحقاءُ بالمواصلة
{ويبين آياته} المستملة على الأحكام الفائقةِ والحِكَمِ
الرائقة
{لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي لكى يتذكروا
ويعملوا بما فيها فيفوزوا بما دُعوا إليه من الجنة والغفران
هذا وقد قيل معنى والله يدعوا وأولياءُ الله يدْعون وهم
المؤمنون على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مقامه تشريفاً
لهم وأنت خبيرٌ بأن الضميرَ في المعطوف على الخبر أعني قوله
تعالى ويبين لله تَعَالَى فيلزم التفكيكُ وقيل معناه والله
يدعو بأحكامه المذكورة إلى الجنة والمغفرة فإنها موصلةٌ لمن
عمِل بها إليهما وهذا وإن كان مستدعياً لاتحاد مرجِع الضميرين
الكائنين في الجملتين المتعاطفتين الواقعتين خبراً للمبتدأ
لكنْ يفوِّت حينئذ حسنَ المقابلة بينه وبينَ قولِهِ تعالى
أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النار ولعل الطريق الأسلمَ ما
أوضحناه أولاً وإيرادُ التذكر ههنا للإشعار بأنه واضحٌ لا
يحتاج إلى التفكر كما في الأحكام السابقة
(1/222)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي
الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
{ويسألونك عَنِ المحيض} عطفٌ على ما تقدم
من مثله ولعل حكايةَ هذه الأسئلة الثلاثةِ بالعطف لوقوع الكلِّ
عند السؤال عن الخمر وحكاية ما عداها بغير عطف لوقوع كلَ من
ذلك في وقت على حِدَة والمحيض مصدر من حاضت المراة كالمجئ
والمبيت روي أن أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحُيَّضَ ولا
يؤاكلونهن كدأب اليهودِ والمجوسِ واستمر الناسُ على ذلك إلى
أنْ سأل عن ذلك أبو الدحاح في نفر من الصَّحابةِ رضوانُ الله
عليهم فنزلت
{قُلْ هُوَ أَذًى} أي شئ يُستقذرُ منه ويؤذي من يقرَبُه نفرةً
منه وكراهةً له
{فاعتزلوا النساء فِي المحيض} أي فاجتنبوا مجامعتَهن في حالة
المحيض قيل لأخذ المسلمون بظاهر الاعتزال فأخرجوهن من بيوتهم
فقال ناسٌ من الأعراب يارسول الله البردُ شديدٌ والثيابُ قليلة
فإن آثرناهن هلك سائرُ أهل البيت وإن استأثرنا بها هلكت
الحُيَّض فقال صلى الله عليه وسلم إنما أُمِرْتم أن تعتزلوا
مجامعتهن إذا حِضْنَ ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل
الأعاجم وقيل إن النصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض
واليهودُ كانوا يفرِّطون في الاعتزال فأُمر المسلمون بالاقتصاد
بين الأمرَيْن
{وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} تأكيدٌ لحكم الاعتزال
وتنبيه على أن المرادَ به عدم قربانهن لاعدم القربِ منهن
وبيانٌ لغايته وهو انقطاعُ الدم عندَ أبي حنيفةَ رحمَهُ الله
فإن كان ذلك في أكثر المدة حلَّ القُربان كما انقطع وإلا فلا
بدَّ من الاغتسال أو من مُضيِّ وقت صلاة وعندَ الشافعيِّ
رحمَهُ الله أن يغتسلن بعد الانقطاع كما تُفصح عنه القراءة
بالتشديد ويبنى عنه قولُه عزَّ وجلَّ
{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فإن التطهرَ هو الاغتسال
{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} من المأتى الذي
حلله لكم وهو القُبُل
{إِنَّ الله يحب التوابين} مما عسى يندر منهم من ارتكاب بعض ما
نُهوا عنه ومن سائر الذنوب
{وَيُحِبُّ المتطهرين} المتنزِّهين عن الفواحش والأقذار وفي
ذكر التوبة إشعارٌ بمِساس الحاجة إليها بارتكاب بعض الناس لما
(1/222)
223 - 224 البقرة نُهوا عنه وتكريرُ الفعل
لمزيد العناية بأمر التطهر
(1/223)
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} أي مواضعُ
حرثٍ لكم شُبِّهن بها لما بين ما يلقى في أرحامهن وبين البذورِ
من المشابهة من حيث إن كلا منهما مادةٌ لما يحصُل منه
{فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} لما عبّر عنهن بالحرث عبّر عن مجامعتهن
بالإتيان وهو بيانٌ لقوله تعالى فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ الله
{أنى شِئْتُمْ} من أيِّ جهة شئتم روي أن اليهود كانوا يزعُمون
أن مَنْ أتى امرأتَه في قبُلها من دبرها يأتي ولده أحول فذُكِر
ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت
{وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ} أي ما يُدخَّر لكم من الثواب وقيل
هو طلبُ الولد قيل هو التسمية عند المباشرة
{واتقوا الله} بالاجتناب عن معاصيه التي من جملتها ما عُدَّ من
الأمور
{واعلموا أَنَّكُم ملاقوه} فتعرَّضوا لتحصيل ما تنتفعون به
حينئذ واجتنبوا اقترافَ ما تُفتَضَحون به
{وَبَشّرِ المؤمنين} الذين تلقَّوا ما خُوطِبوا بهِ من الأوامر
والنواهي بحسن القَبول والامتثال بما يقصُر عنه البيانُ من
الكرامة والنعيم المقيم أو بكل ما يُبشَّر به من الأمور التي
تُسرُّ بها القلوب وتَقَرُّ بها العيونُ وفيه مع ما في تلوين
الخطاب وجعلِ المبشِّرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من
المبالغة في تشريف المؤمنين مالا يخفى
(1/223)
وَلَا تَجْعَلُوا
اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا
وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
{وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً
لايمانكم} قيل نزلتْ في عبدُ اللَّه بنِ رَواحةَ حينَ حلفَ أنْ
لا يكلم ختنه بشير بنَ النعمان ولا يُصلِحَ بينه وبين أخته
وقيل في الصدِّيقِ رضيَ الله عنه حينَ حلفَ أنْ لا يُنفِقَ على
مِسْطَحٍ لخوضه في حديث الأفك والعُرضة فُعلة بمعنى مفعول
كالقُبضة والغرفة تطلق على ما يعرض دون الشئ فيصير حاجزاً عنه
كما يقال فلان عُرضة للخير وعلى المَعْرِض للأمر كما في قوله
... فلا تجعلوني عُرضة لِلَّوائمِ ...
فالمعنى على الوجه الأول لاتجعلوا الله مانعا للأمور الحسنة
التي تحلِفون على تركها وعبر عنها بالإيمان لملابستها بها كما
في قولِه عليه السلام لعبد اللَّه بنِ سَمُرةَ إذا حَلَفتَ على
يمينٍ فرأيتَ غيرَها خيراً منها فأتِ الذي هو خيرٌ وكفِّر عن
يمينك وقوله تعالى
{أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بَيْنَ الناس} عطفُ بيانٍ لأَيْمانكم
أو بدلٌ منها لما عرفت أنها عبارةٌ عن الأمور المحلوف عليها
واللام في لأيمانكم متعلقة بالفعل أو بعُرضةً لما فيها من معنى
الاعتراض أي لاتجعلوا الله لبركم وتقوا كم وإصلاحكم بين الناس
عُرضةً أي برزخاً حاجزاً بأن تحلِفوا به تعالى على تركها أولا
تجعلوه تعالى عرضة أي شيئاً يَعترِض الأمورَ المذكورة
ويحجُزُها بما ذُكر من الحَلِف به تعالى على تركها وقد جُوِّز
أن تكون اللامُ للتعليل ويتعلق أن تبروا الخ بالفعل أو بعرضة
فيكون الأيمانُ بمعناها وأنت خبير بأنه يؤدي إلى الفصلُ بين
العامل ومعمولِه بأجنبي وعلى الوجه الثاني لا تجعلوا الله
مَعْرِضاً لأيمانكم تبتذلونه بكثرة الحلف به ولذلك ذُمَّ من
نزلت فيه وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ بأشنعِ
المذامِّ وجُعل الحلاف مقدمتها وأن تَبَرُّواْ حينئذ علة للنهي
أي إرادةَ أن تبرّوا وتتقوا وتصلحوا لأن الحلافَ مجترئ على
الله سبحانه غيرُ معظِّمٍ له فلا يكون برا متقيا ثقة
(1/223)
225 - 226 227 البقرة بين الناس فيكون
بمعزل من التوسط في إصلاح ذاتِ البين
{والله سَمِيعٌ} يسمع أَيْمانكم
{عَلِيمٌ} يعلم نياتِكم فحافظوا على ما كُلفتموه
(1/224)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ
بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى
أيمانكم} اللغوُ ما سقط من الكلام عن درجة الاعتبارِ والمرادُ
به في الإيمان مالا عقدَ معه ولا قصْدَ كما ينبئ عنه قوله
تعالى ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايمان وهو المعنى
بقوله عز وجل
{ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وقد اختُلف
فيه فعندنا هو أن يحلِف على شئ يظنُّه على ما حلف عليه ثم
يظهرُ خلافُه فإنه لا قصْدَ فيه إلى الكذبَ وعندَ الشافعيِّ
رحمَهُ الله هو قولُ العرب لا والله وبلى مما يؤكِّدون به
كلامَهم من غير إخطار الحلِف بالبال فالمعنى على الأول لا
يؤاخذُكم الله أي لا يعاقبُكم بلغو اليمين الذي يحلِفه أحدُكم
ظاناً أنه صادقٌ فيه ولكن يعاقبُكم بما اقترفتْه قلوبُكم من
إثم القصْد إلى الكذب في اليمين وذلك في الغَموس وعلى الثاني
لا يلزمُكم الكفارةُ بما لا قصدَ معه إلى اليمين ولكن
يلزمُكُموها بما نوَتْ قلوبُكم وقصَدَتْ به اليمينَ ولم يكن
كسبَ اللسان فقط
{والله غَفُورٌ} حيث لم يؤاخذْكم باللغو مع كونه ناشئاً من عدم
التثبّت وقلةِ المبالاة
{حَلِيمٌ} حيث لم يعجَلْ بالمؤاخذة والجملة اعتراض مقر لمضمونِ
قولِه تعالى لا يؤاخذكم الخ وفيه إيذانٌ بأن المرادَ بالمؤاخذة
المعاقبة لا إيجابُ الكفارة إذ هي التي يتعلق بها المغفرةُ
والحِلْمُ دونه
(1/224)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ
فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
{لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ}
الإيلاءُ الحلِفُ وحقُّه أن يستعمل بعلى واستعمالى بمن لتضمينه
معنى البُعد أي للذين يحلِفون متباعدين من نسائهم ويُحتمل أن
يراد لهم من نسائهم
{تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} كقولك لى منك كذا وقرئ آلوا
من نسائهم وقرئ يُقسمون من نسائهم والإيلاءُ من المرأة أن يقول
والله لا أقرَبُك أربعةَ أشهرٍ فصاعداً على التقييد بالأشهر
أولا أقربك على الإطلاق ولا يكون فيما دون ذلك وحكمه أنه إن
فاء إليها في المدة بالوطء إن أمكن أوبالقول إن عجِز عنه صح
الفئ وحنِث القادرُ ولزِمَتْه كفارةُ اليمين ولاكفارة على
العاجز وإن مضت الأربعةُ بانت بتطليقه والتربُّص الانتظارُ
والتوقف أضيف إلى الظرف اتساعاً أي لهم أن ينتظروا في هذه
المدة من غير مطالبة بفئ أو طلاق
{فإن فاؤوا} أي رجعوا عن اليمن بالحِنْث والفاء للتفصيل كما
إذا قلت أنا نزيلُكم هذا الشهر فإن أحمدتكم أقمتُ عندكم إلى
آخره والالم أبث إلا ريثا أتحوّل
{فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفرُ للمُولي بفيئته التي هي
كتوبته إثم حنثه عند تكفيره أو ما قصَد بالإيلاء من ضرار
المرأة
(1/224)
وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
{وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} وأجمعوا عليه
{فَإِنَّ الله سَمِيعٌ} بما جرى منهم من الطلاق وما يتعلق به
من الدمدمة والمقاولةِ التي لا تخلوا عنها الحالُ عادة
{عَلِيمٌ} بنياتهم وفيه من الوعيد على الإصرار وترك الفَيئة ما
لا يخفى
(1/224)
228 - البقرة
(1/225)
وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا
يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ
إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ
دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
{والمطلقات} أي ذواتُ الأقراءِ من الحرائر
المدخولِ بهن لما قد بُين أن لا عدةَ على غير المدخولِ بها
وأنَّ عدَّةَ من لا تحيضُ لصِغَرٍ أو كِبَرٍ أو حملٍ بالأشهر
ووضعِ الحمل وأن عدة الأمة قرءان أو شهران
{يَتَرَبَّصْنَ} خبرٌ في مَعْنى الأمرِ مفيدٌ للتأكيد بإشعاره
بأن المأمور به مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى الإيتان به
فكأنهن امتثلن بالأمر فتخبر به موجوداً متحققاً وبناؤه على
المبتدأ مفيدٌ لزيادة تأكيد
{بِأَنفُسِهِنَّ} الباء للتعدية أي يقمَعْنها ويحمِلْنها على
مالا تشتهيه بل يشق عليها من التربص وفيه مزيدُ حثَ لهن على
ذلك لما فيه من الإنباء عن الاتصاف بما يستنكفْن منه من كون
نفوسِهن طوامِحَ إلى الرجال فيحملُهن ذلك على الإقدام على
الإتيان بما أمرن به
{ثلاثة قُرُوء} نُصب على الظرفية أو المفعولية بتقدير مضافٍ أي
يتربصن مدةَ ثلاثةِ قروء أو يتربصن مُضِيَّ ثلاثةِ قروءٍ وهو
جمع قُرءٍ والمراد به الحيضُ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم
دعي الصَّلاةَ أيامَ أقرائِك وقوله صلى الله عليه وسلم طلاقُ
الأمَةِ تطليقتانِ وعِدَّتُها حَيْضتان وقوله تعالى واللائى
يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارتبتم
فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ ولأن المقصودَ الأصليَّ من
العدة استبراءُ الرحِم ومدارُه الحيضُ دون الطهر ويقال أقْرَأت
المرأة إذا حاضت وقوله تعالى فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ
معناه مستقبلاتٍ لعدتهن وهي الحِيَضُ الثلاثُ وإيرادُ جمع
الكثرة في مقام جمع القِلة بطريق الاتساع فإن إيراد كلَ من
الجمعين مكانَ الآخر شائع ذائع وقرئ ثلاثة قُرو بغير همز
{وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى
أَرْحَامِهِنَّ} من الحَيْض والولد استعجالا في العدة وإبطالاً
لحقِّ الرَّجْعة وفيه دليل على قبول قولهِن في ذلك نفياً
وإثباتاً
{إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر} جوابُ الشرط محذوفٌ
يدل عليه ما قبله دَلالةً واضحة أي فلا يجترئن على ذلك فإنَّ
قضيةَ الإيمانِ بالله تعالى واليومِ الآخِرِ الذي يقع فيه
الجزاءُ والعقوبةُ منافيةٌ له قطعاً
{وَبُعُولَتُهُنَّ} البعولةُ جمعُ بعلٍ وهو في الأصل السيدُ
المالك والتاءُ لتأنيث الجمع كما في الحزونة والسهولة أو مصدرٌ
بتقدير مضافٍ أي أهلُ بعولتهن أي أزواجُهن الذين طلقوهن طلاقاً
رَجْعياً كما ينبئ عنه التعبيرُ عنهم بالبعولة والضميرُ لبعض
أفراد المطلقات
{أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ} إلى مِلْكهم بالرَّجْعة إليهن
{فِي ذَلِكَ} أي في زمانِ التربُّص وصيغة التفضيلِ لإفادة أن
الرجلَ إذا أراد الرجعةَ والمرأة تأباها وحب إيثارُ قولِه على
قولها لا أن لها أيضاً حقاً في الرجعة
{إِنْ أَرَادُواْ} أي الأزواجُ بالرجعة
{إصلاحا} لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن ولم يريدوا
مضارَّتَهن وليس المرادُ به شرطيةَ قصْدِ الإصلاح بصحة الرجعة
بل هو الحثُّ عليه والزجرُ عن قصد الضِّرار
{وَلَهُنَّ} عليهم من الحقوق
{مِثْلُ الذى} لهم
{عَلَيْهِنَّ بالمعروف} من الحقوق التي يجب مراعاتُها ويتحتم
المحافظةُ عليها
{وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أي زيادةٌ في الحق لأن
حقوقَهم في أنفسهن وحقوقَهن في المَهْر
(1/225)
229 - البقرة والكَفاف وتركِ الضِّرار
ونحوها أو مزيةٌ في الفضل لما أنهم قوامون عليهن حُرَّاسٌ لهن
ولما في أيديهن يشاركونهن فيما هو الغرَض من الزواج ويستبدّون
بفضيلة الرعاية والإنفاق
{والله عَزِيزٌ} يقدِرُ على الانتقام ممن يخالفُ أحكامَه
{حَكِيمٌ} تنطوي شرائعهُ على الحِكَم والمصالح
(1/226)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ
شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
{الطلاق} هو بمعنى التطليق كالسلام بمعنى
التسليم والمراد به الرجعى لما أنه السابقَ الأقربُ حكمُه ولما
روى لأنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن الثالثة فقال صلى الله
عليه وسلم أو تسريحٌ بإحسان وهو مبتدأ بتقدير مضافٍ خبرُه ما
بعده أي عددُ الطلاق الذي يستحقُّ الزوجُ فيه الردَّ والرجعة
حسبما بيّن آنفاً
مَرَّتَانِ أي ثبان وإيثارُ ما ورد به النظمُ الكريم عليه
للإيذان بأن حقَّهما أن يقعا مرة بعد مرة لادفعة واحدة وإن كان
حكمُ الرد ثابتاً حينئذٍ أيضاً
{فإمساك} أي فالحكمُ بعدهما إمساكٌ لهن بالرجعة
{بِمَعْرُوفٍ} أي بحسن عِشرةٍ ولطفِ معاملة
{أَوْ تسريح بإحسان} بالطلقة الثالة كما روى عنه صلى الله عليه
وسلم أو بعدم الرجعةِ إلى أن تنقضيَ العِدَّةُ فَتَبينُ وقيل
المرادُ به الطلاقُ الشرعيُّ وبالمرتين مطلقُ التكرير لا
التثنيةُ بعينها كما في قوله تعالى ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ
كَرَّتَيْنِ أي كرة والمعنى أن التطليق الشرعيَّ تطليقةٌ بعد
تطليقةٍ على التفريق دون الجمع بين الطلقتين أو الثلاثِ فإن
ذلك بدعةٌ عندنا فقوله تعالى فَإِمْسَاكٌ الخ حُكمٌ مبتدأٌ
وتخييرٌ مستأنف والفاء فيه للترتيب على التعليم كأنه قيل إذا
علمتم كيفية التطليق فأمرُكم أحدُ الأمرين
{وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ} منهن بمقابلة الطلاق
{مما آتيتموهن} أي من الصدقات وتخصيصُها بالذكر وإن شاركها في
الحكم سائرُ أموالِهن إما لرعاية العادة أو للتنبيه على أنه
إذا لم يحِلَّ لهم أن يأخُذوا مما آتَوْهن بمقابلة البُضْع عند
خروجه عن ملكهم فلأَنْ لا يحِلَّ أن يأخذوا مما لا تعلُّقَ له
بالبُضع أولى وأحرى
{شَيْئاً} أي نزْراً يسيراً فضلاً عن الكثير وتقديمُ الظرفِ
عليه لما مر مرارا أو الخطاب مع الحكام وإسنادُ الأخذِ
والإيتاءِ إليهم لأنهم الآمرون بهما عند المرافعة وقيل مع
الأزواج وما بعده مع الحكام وذلك مما يشوش النظمَ الكريمَ على
القراءة المشهورة
{إِلاَّ أَن يخافا} أي الزوجان وقرئ يظنا وهو مؤيد لتفسير
الخوف بالظن
{ألا يُقِيمَا حُدُودَ الله} أي أن لايراعيا مواجب أحكام
الزوجية وقرئ يخافا على البناء للفعول وإبدال أن بصلته من
الضمير بدل الاشتمال وقرئ تخافا وتُقيما بتاء الخطاب
{فَإِنْ خِفْتُمْ} أيها الحكامُ
{ألا يقيما} أي على الزوجين
{حُدُودَ الله} بمشاهدة بعض الأماراتِ والمخايل
{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي على الزوجين
{فِيمَا افتدت بِهِ} لا على الزوج في أخذ ما افتدت به ولا
عليهما في إعطائه إياه وروى أن جميلة بنتَ عبدِ الله بن أبي بن
سلول كانت تبعض زوجَها ثابتَ بنَ قيس فأتت رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقالت لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ورأسه شئ والله
ما أعيبُ عليه في دين ولا خلُق ولكن أكره الكفرَ بعد الإسلام
ما أُطيقه بغضاً إني رفعت جانبَ الخِباء فرأيتُه أقبلَ في
عِدَّةٍ فإذا هو أشدُهم سواداً
(1/226)
230 - 231 البقرة وأقصرُهم قامة وأقبحُهم
وجهاً فنزلت فاختلعَتُ منه بحديقة كان أصْدقَها إياها
{تِلْكَ} أي الأحكام المذكور {حُدُودُ الله فَلاَ
تَعْتَدُوهَا} بالمخالفة والرفض {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله
فَأُوْلَئِكَ} المتعدّون والجمعُ باعتبار معنى الموصول
{هُمُ الظالمون} أي لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعقابه
ووضعُ الاسمِ الجليل في المواقعِ الثلاثةِ الأخيرةِ موقعَ
الضمير لتربية المهابةِ وإدخال الروعةِ وتعقيبُ النهي بالوعيد
للمبالغة في التهديد
(1/227)
فَإِنْ طَلَّقَهَا
فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ
يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(230)
{فَإِن طَلَّقَهَا} أي بعد الطلقتين
{فَلاَ تَحِلُّ} هي
{لَهُ مِن بَعْدُ} أي من بعد هذا الطلاقِ
{حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أي تتزوج غيره فإن النكاحَ
أيضاً يُسند إلى كلَ منهما وتعلَّقَ بظاهره من اقتصر على العقد
والجمهورُ على اشتراط الإصابة لما رُوي أن امرأة رُفاعةَ قالت
لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن رُفاعةَ طلقني فبتَّ طلاقي
وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإن ما معه مثلُ هُدْبة الثوب
فقال صلى الله عليه وسلم أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة قالت نعم
قال صلى الله عليه وسلم لا إلا أن تذوقي عُسَيْلَتَه ويذوقَ
عُسَيْلَتَكِ وبمثله تجوز الزيادةُ على الكتاب وقيل النكاحُ
بمعنى الوطء والعقدُ مستفاد من لفظ الزوج والحكمةُ من هذا
التشريع الردعُ عن المسارعة إلى الطلاق والعودُ إلى المطلقة
ثلاثاً والرغبة فيها والنكاحُ بشرط التحليل مكروهٌ عندنا
ويُروى عدمُ الكراهة فيما لم يكن الشرطُ مصرَّحاً به وفاسدٌ
عند الأكثرين لقوله صلى الله عليه وسلم لعن الله المحلِّل
والمحلَّل له
{فَإِن طَلَّقَهَا} أي الزوجُ الثاني {فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا} أي على الزوج الأول والمرأة
{أَن يَتَرَاجَعَا} أن يرجِعَ كلٌّ منهما إلى الآخَر بالعقد
{إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله} التي أوجب مراعاتِها
على الزوجين من الحقوق ولا وجهَ لتفسير الظنِّ بالعلم لما أن
العواقبَ غيرُ معلومةٍ ولأن أن الناصية للتوقع المنافي للعلم
ولذلك لا يكاد يقال علمتُ أن يقومَ زيد
{وَتِلْكَ} إشارةٌ إِلى الأحكامُ المذكورة إلى هنا
{حُدُودَ الله} أي أحكامُه المعيّنة المحمية من التعرض لها
بالتغير والمخالفة
{يُبَيّنُهَا} بهذا البيان اللائق أو سيبينها فيما سيأتي بناءً
على أن بعضَها يلحقُه زيادةُ كشفٍ وبيانٌ بالكتاب والسنةَ
والجملة خبرٌ ثانٍ عند من يجوِّزُ كونَه جملةً كما في قوله
تعالى فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى أو حالٌ من حدود الله والعامل
معنى الإشارة
{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي يفهمون وتخصيصُهم بالذِّكرِ مع عموم
الدعوة والتبليغِ لما أنهم المنتفعون بالبيان أو لأن ما سيلحق
بعضَ النصوص من البيان لا يقف عليه إلا الراسخون في العلم
(1/227)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا
تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ
هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا
أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ
بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ} أي آخِرَ عدَّتِهن فإن الأجل كما ينطلِقُ
(1/227)
على المدة ينطلق على منتهاها والبلوغُ هو
الوصولُ إلى الشئ وقد يقال للدنو منه اتساعا وهو المراد ههنا
لقوله عز وجل
{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بمعروف} إذ
لا مكان للإمساك بعد تحققِ بلوغِ الأجلِ أي فراجعوهن بغير
ضِرارٍ أو خلُّوهن حتى ينقضِيَ أجلُهن بإحسان من غير تطويل
وهذا كما ترى إعادةٌ للحكم في بعض صورِه اعتناءً بشأنه
ومبالغةً في إيجاب المحافظةِ عليه
{وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} تأكيدٌ للأمر بالإمساك بمعروف
وتوضيح لمعناه وزجر صريحٌ عما كانوا يتعاطَوْنه أي لا تراجعوهن
إرادة الإضرار بهن كان المطلق يترُكَ المعتدةَ حتى إذا شارفت
انقضاءَ الأجلِ يراجعها لا لرغبة فيها بل ليطوِّل عليها العدةَ
فنُهي عنه بعد ما أُمر بضده لما ذكر وضِراراً نُصب على
العِلّية أو الحالية أي لا تمسكوهن للمضارة أو مضارّين واللام
في قوله
{لّتَعْتَدُواْ} متعلقة بضراراً أي لتظلموهن لالإلجاء إلى
الافتداء
{وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي ما ذكر من الإمساك المؤدّي إلى الظلم
وما فيه من معنى البُعد للدِلالة على بُعد منزلتِه في الشرِّ
والفساد
{فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} في ضمن ظلمِه لهن بتعريضها للعقاب
{وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله} المنطويةَ على الأحكام
المذكورة أو جميعَ آياتهِ وهي داخلةٌ فيها دخولاً أولياً
{هُزُواً} أي مَهُزوًّا بها بأن تُعرِضوا عنها وتتهاونوا في
المحافظة على ما في تضاعيفها من الأحكام والحدود من قولهم لمنْ
لَمْ يجِدَّ فِي الأمر أنت هازئ كأنه نُهي عن الهُزْؤ بها
وأريد ما يستلزمه من الأمر بضده أي جِدُّوا في الأخذ بها
والعملِ بما فيها وارعَوْها حقَّ رعايتها وإلا فقد أخذتموها
هُزُؤاً ولعباً ويجوزُ أن يرادَ بهِ النهيُ عن الإمساك ضراراً
فإن الرجعةَ بلا رغبة فيها عملٌ بموجب آياتِ اللَّهِ تعالى
بحسب الظاهر دون الحقيقة وهو معنى الهزء وقيل كان الرجل ينكِحُ
ويطلِّقُ ويُعتِقُ ثم يقول إنما كنت ألعَبُ فنزلت ولذلك قال
صلى الله عليه وسلم ثلاثٌ جِدُّهن جدٌ وهزلُهن جدٌّ النكاحُ
والطلاقُ والعِتاق
{واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} حيث هداكم إلى ما فيه
سعادتُكم الدينية والدنيوية أي قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها
والظرفُ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من نعمة الله أي كائنةً
عليكم أو صفةٌ لها على رأي من يجوِّز حذفَ الموصول مع بعض صلته
أي الكائنة عليكم ويجوز أن يتعلق بنفسها إن أريد بها الإنعام
لأنها اسم مصدر كنبات من أنبت ولا يقدح في عمله تاء التأنبث
لأنه مبنيٌّ عليها كما في قولِه
فلولا رجاءُ النصر منك ورهبة ... عقابك قد كانوا لنا كالموارد
وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم عطفٌ على نعمة الله وما موصولةً حُذف
عائدُها من الصلة ومن في قولِه عزَّ وجلَّ
{مّنَ الكتاب والحكمة} بيانية أي من القرآن والسنة أو القرآن
الجامع للعنوانين على أن العطف لتغايُر الوصفين كما في قولِه
إلى الملكِ القَرْم وابن الهُمام
وفي إبهامه أولاً ثم بيانه من التفخيم مالا يخفى وفي إفراده
بالذكر مع كونه أولَ ما دخل في النعمة المأمورِ بذكرها إبانةٌ
بخطره ومبالغةٌ في البعث على مرعاة ما ذكر قبله من الأحكام
{يَعِظُكُمْ بِهِ} أي بما أنزل حال من فاعل أنزل أو مفعوله أو
منهما معاً
{واتقوا الله} في شأن المحافظة عليه والقيام بحقوقه الواجبة
{واعلموا أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عليم} فلا يخفى عليه شئ مما
تأتون وما تذرون فيؤاخذكم بأفانين العقاب
(1/228)
232 - البقرة
(1/229)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ
يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى
لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ (232)
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} بيانٌ لحكم ما كانوا
يفعلونه عند بلوغِ الأجل حقيقةً بعد بيانِ حُكمِ ما كانوا
يفعلونه عند المشارفة إليه والعضْلُ الحبسُ والتضييقُ ومنه
عضَلت الدجاجةُ إذا نشِبَ بيضُها ولم يخرج والمراد المنعُ
والخطاب إما للأولياء لما رُوي أنَّها نزلتْ في معقِل بنِ
يسارَ حين عضل أخته جملا أن ترجِع إلى زوجها الأول بالنكاح
وقيل نزلت في جابرِ بن عبدِ اللَّه حين عضَل ابنةَ عمَ له
وإسنادُ التطليق إليهم لتسبُّبهم فيه كما ينبى عنه تصدّيهم
للعضل ولعل التعرضَ لبلوغ الأجل مع جواز التزوج بالزوج الأول
قبله أيضاً لوقوع العضلِ المذكور حينئذ وليس فيه دلالةٌ على أن
ليس للمرأة أن تزوِّج نفسَها وإلا لما احتيج إلى نهي الأولياء
عن العضل لما أن النهيَ لدفع الضرر عنهن فإنهن وإن قدَرْن على
تزويج أنفسِهن لكنهن يحترزن عن ذلك مخافة اللوم والقطيعة وإما
للأزواج حيث كانوا يعضُلون مطلقاتِهم ولا يدَعونهن يتزوجْن
ظُلما وقسراً لحمية الجاهلية وإما للناس كافة فإن إسناد ما
فعله واحد منهم إلى الجميع شائعٌ مستفيضٌ والمعنى إذا وجد فيكم
طلاق فلا يقعْ فيما بينكم عضلٌ سواء كان ذلك من قبل الأولياء
أو من جهة الأزواج أو من غيرهم وفيه تهويلٌ لأمر العضل وتحذيرٌ
منه وإيذانٌ بأن وقوع ذلك بين ظهرانهم وهم ساكتون عنه بمنزلة
صدوره عن الكل في استتباع اللأئمة وسرابة الغائلة
{أَن يَنكِحْنَ} أي مِنْ أن ينكِحن فمحلُه النصبُ عند سيبويهِ
والفرَّاءِ والجرُّ عند الخليل على الخلاف المشهور وقيل هو
بدلُ اشتمالٍ من الضميرِ المنصوبِ في تعضُلوهن وفيه دَلالةٌ
على صحة النكاح بعبارتهن
{أزواجهن} إن أريد بهم المطلقون فالزوجية إما باعتبار ماكان
وإما باعتبار ما يكون والا فبالا عتبار الأخير
{إِذَا تراضوا} ظرفٌ لِلا تعضُلوا وصيغةُ التذكير باعتبار
تغليبِ الخطاب على النساء والتقييدُ به لأنه المعتاد لا لتجويز
المنع قبل تمام التراضي وقيل ظرفٌ لأن ينكحن وقوله تعالى
{بَيْنَهُمْ} ظرفٌ للتراضي مفيدٌ لرسوخه واستحكامه
{بالمعروف} الجميلِ عند الشرع المستحسنِ عند الناس والباءُ إما
متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل تراضوا أو نعتاً لمصدر
محذوفٍ أي تراضِياً كائناً بالمعروف وإما بتراضَوا أي يتراضوا
بما يحسُن في الدين والمروءة وفيه إشعارٌ بأن المنعَ من التزوج
بغير كفؤ أو بما دون مَهرِ المثل ليس من باب العضْل
{ذلك} إشارةٌ إلى ما فصل منَ الأحكامِ وما فيهِ من معنى البُعد
لتعظيم المشار إليه والخطابُ لجميع المكلفين كما فيما بعده
والتوحيدُ إما باعتبارِ كلِّ واحدٍ منهم وإما بتأويل القَبيل
والفريق وإما لأن الكافَ لمجرد الخطابِ والفرقِ بين الحاضِرِ
والمنقضي دون تعيين المخاطبين أو للرسول صلى الله عليه وسلم
كما في قوله تعالى يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء
للدلالة على أن حقيقةَ المشارِ إليه أمرٌ لا يكاد يعرِفه كلُّ
أحد
{يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر}
فيسارع إلى الامتثال بأوامر ونواهيه إجلالاً له وخوفاً من
عقابه وقوله تعالى
(1/229)
233 - البقرة مّنكُمْ إما متعلق بكان عند
من يجوز عملها في الظروف وشبهها وإما بمحذوفٍ وقعَ حالاً من
فاعل يؤمن أي كائناً منكم
{ذلكم} أي الاتعاظُ به والعملُ بمقتضاه
{أزكى لَكُمْ} أي أنمى وأنفعُ
{وَأَطْهَرُ} من أدناس الآثام وأوضارِ الذنوب
{والله يَعْلَمُ} ما فيه من الزكاة والطُهر
{وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ذلك أو والله يعلمُ ما فيه صلاحُ
أمورِكم من الأحكام والشرائعَ التي من جملتها ما بينه ههنا
وأنتم لا تعلمونها فدعُوا رأيكم وامتثِلوا أمرَه تعالى ونهيَه
في كل ما تأتون وما تذرون
(1/230)
وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ
أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ
نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا
وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ
ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا
وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ
تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا
سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
{والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن} شروعٌ في
بيان الأحكام المتعلقة بأولادهن خصوصاً واشتراكاً وهو أمرٌ
أُخرِجَ مُخرجَ الخبر مبالغة في الحمل على تحقيق مضمونِه
ومعناه الندبُ أو الوجوبُ إن خص بمادة عدم قَبول الصبيِّ ثديَ
الغير أو فقدانِ الظِئْر أو عجزِ الوالدِ عن الاستئجار
والتعبيرُ عنهن بالعنوان المذكور لِهزّ عَطفِهن نحوَ أولادِهن
والحكمُ عام للمطلقات وغيرهن وقيل خاصٌّ بهن إذ الكلامُ فيهن
{حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} التأكيدُ بصفة الكمال لبيان أن
التقديرَ تحقيقيٌّ لا تقريبيٌّ مبني على المسامحة المعتادة
{لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} بيانٌ لمن يُتوجّه إليه
الحكمُ أي ذلك لمن أراد إتمامَ الرضاعة وفيه دلالةٌ على جواز
النقص وقيل اللام متعلقة بيرضعن فإن الأبَ يجبُ عليه الإرضاعُ
كالنفقة والأمُ ترضع له كما يقال أرضعت فلانةٌ لفلان ولدَه
{وَعلَى المولود لَهُ} أي الوالد فإن الولد يولد له ويُنسَب
إليه وتغييرُ العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضي لوجوب
الإرضاع ومؤنة المرضعة عليه
{رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} أجرةٌ لهن واختلف في استئجار
الأمِّ وهو غيرُ جائز عندنا ما دامت في النكاح أو العدة جائز
عند الشافعيِّ رحمَهُ الله
{بالمعروف} حسبما يراه الحاكم ويفي به وسعَه
{لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} تعليل لإيجاب المُؤَن
بالمعروف أو تفسيرٌ للمعروف وهو نص على أنَّه تعالى لا يكلف
العبد مالا يُطيقُه وذلك لا ينافي إمكانه
{لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ
بِوَلَدِهِ} تفصيلٌ لما قبلَه وتقريرٌ لهُ أي لا يكلِّف كلُّ
واحد منهما الآخر مالا يُطيقه ولا يُضارُّه بسبب ولده وقرئ لا
تضارُّ بالرفع بدلاً من لاتكلف وأصله على القراءتين لا تضارر
بالكسر على البناء للفاعل وبالفتح على البناء للمفعول وعلى
الوجه الأول يجوز أن يكون بمعنى تضرّ والباء من صلته أي لا
يُضَر الوالدان بالولد فيُفَرَّط في تعهده ويُقصَّر فيما ينبغي
له وقرئ لا تضارّ بالسكون مع التشديد على نية الوقف وبه مع
التخفيف على أنه من ضاره يَضيرُه وإضافة الولد إلى كل منهما
لاستعطافهما إليه وللتنبيه على أنه جدير بأن يتفقا على
استصلاحه ولا ينبغي أن يضرابه أو يُتضارّا بسببه
{وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك}
(1/230)
عطف على قوله تعالى وعلى المولود لَهُ
رِزْقُهُنَّ الخ وما بينهما تعليل أو تفسيرٌ معترِضٌ والمرادُ
به وارثُ الصبيِّ ممن كان ذا رحِمٍ محرَمٍ منه وقيل عَصَباتُه
وقال الشافعي رحمه الله هو وارثُ الأب وهو الصبيُّ أي تُمأنُ
المرضعةُ من ماله عند موت الأب ولا نزاعَ فيه وإنما الكلام
فيما إذا لم يكن للصبيِّ مالٌ وقيل الباقي من الأبوين من قولُه
عليهِ الصَّلاةُ والسلام واجعله الوارثَ منا وَذَلِكَ إشارةٌ
إلى ما وجب على الأب من الرزق والكسوةِ
{فَإِنْ أَرَادَا} أي الوالدان
{فِصَالاً} أي فِطاماً عن الرَّضاع قبل تمام الحولين والتنكيرُ
للإيذان بأنه فصال غيرُ معتاد
{عَن تَرَاضٍ} متعلقٌ بمحذوف ينساق إليه الذهنُ أي صادراً عن
تراض
{مِنْهُمَا} أي من الوالدين لا من أحدهما فقط لاحتمال إقدامه
على ما يضُرُّ بالولد بأن تمَلَّ المرأةُ الإرضاعِ ويبخَلَ
الأبُ بإعطاء الأجرة
{وَتَشَاوُرٍ} في شأن الولد وتفحُّصٍ عن أحواله وإجماعٍ منهما
على استحقاقه للفِطام والتشاور من المَشورة وهي استخراجُ الرأي
من شُرتُ العسلَ إذا استخرجته وتنكيرُهما للتفخيم
{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} في ذلك لما أن تراضِيَهما إنما
يكون بعد استقرار رأيِهما أو اجتهادِهما على أن صلاحَ الولدِ
في الفِطام وقلما يتفقان على الخطأ
{وَإِنْ أَرَدْتُّمُ} بيان لحكم عدم اتفاقِهما على الفطام
والالتفاتُ إلى خطاب الآباء لهزهم إلى الامتثال بما أُمروا به
{أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم} بحذف المفعول الأول استغناءً
عنه أي أن تسترضعوا المراضِعَ لأولادكم يقال أرضعتِ المرأةُ
الصبيَّ واسترضعتُها إياه وقيل إنما يتعدَّى إلى الثاني بحرف
الجرِّ يقال استرضعتُ المرأةَ للصبيِّ أي أن تسترضعوا
المراضِعَ لأولادكم فحُذف حرفُ الجر أيضاً كَما في قولِه تعالى
وَإِذَا كَالُوهُمْ أي كالوا لهم
{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي في الاسترضاع وفيه دلالة على أن
للأب أن يسترضِعَ للولد ويمنعَ الأمَّ من الإرضاع
{إِذَا سَلَّمْتُم} أي إلى المراضع
{ما آتيتم} أي ما أردتم إيتاءَه كما في قوله تعالى فإذا قرأت
القرآن فاستعذ بالله وقرئ ما أَتيتم من أتى إليه إحساناً إذا
فعله وقرئ ما أُوتيتم أي من جهةِ الله عزَّ وجلَّ كما في قولِه
تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ
وفيه مزيدُ بعثٍ لهم إلى التسليم
{بالمعروف} متعلقٌ بسلَّمتم أي بالوجه المتعارَفِ المستحسَن
شرعاً وجوابُ الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه وليس التسليمُ
بشرطٍ للصحة والجواز بل هو ندب الى ماهو الأليقُ والأَولى فإن
المراضعَ إذا أُعطين ما قُدّر لهن ناجزاً يداً بيد كان ذلك
أدخلَ في استصلاح شئون الأطفال
{واتقوا الله} في شأن مراعاةِ الأحكامِ المذكورة
{واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكُم
بذلك واظهار الاسم في موضع الإضمار لتربية المهابة وفيه من
الوعيد والتهديد مالا يخفى
(1/231)
وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
{والذين} على حذفِ المضافِ أي وأزواجُ
الذين
{يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} أي تُقبض أرواحُهم بالموت فإن التوفيَ
هو القبضُ يقال توفّيتُ مالي من فلان واستوفيتُه منه أي أخذته
وقبضته والخطاب لكافة الناس بطريق التلوينِ
{وَيَذَرُونَ أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} أو على حذف العائدِ إلى المبتدأ في الخبر
(1/231)
235 - البقرة أي يتربصن بعدَهم كَما في
قولِهم السمنُ مَنَوانِ بدرهم أي مَنَوانِ منه وقرئ يَتَوفون
بفتح الياء أي يستوفون آجالهم وتأنيث العشر باعتبار الليالي
لأنها غُررُ الشهور والأيام ولذلك تراهم لا يكادون يستعملون
التذكير في مثله أصلاً حتى إنهم يقولون صُمت عشراً ومن البين
في ذلك قولُه تعالى إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ثم ان
لبثتم الايوما ولعل الحكمةَ في هذا التقديرِ أن الجنينَ إذا
كان ذكراً يتحرك غالباً لثلاثة أشهر وإن كان أنثى يتحرك لأربعة
فاعتُبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشر استظهاراً إذ ربما تضعف
الحركة فلا يُحس بها وعمومُ اللفظ يقتضي تساوي المسلمة
والكتابية والحرة والأمة في هذا الحكم ولكن القياسَ اقتضى
التنصيفَ في الامة وقوله عز وجل وأولات الاحمال خَصَّ الحاملَ
منه وعن علي وابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهم أنها تعتدُّ بأبعد
الأجلين احتياطاً
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي انقضت عدتُهن
{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أيها الحكامُ والمسلمون جميعاً
{فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ} من التزيُّن والتعرُّض
للخُطّاب وسائرِ ما حُرِّم على المعتدة
{بالمعروف} بالوجه الذي لا ينكره الشرعُ وفيه إشارةٌ إلى أنهن
لو فعلن ما ينكره الشرعُ فعليهم أن يكفّوهن عن ذلك وإلا فعليهم
الجُناحُ
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فلا تعملوا خلافَ ما أُمرتم
به
(1/232)
وَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ
أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ
سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا
إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا
عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ
فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} خطابٌ للكل
{فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ} التعريضُ والتلويحُ إبهامُ المقصودِ
بما لم يوضَعْ له حقيقةً ولا مجازاً كقول السائل جئتُك
لأُسلِّم عليك وأصلُه إمالةُ الكلام عن نهجه إلى عُرُضٍ منه أي
جانب والكناية هي الدِلالةُ على الشيء بذكر لوازمِه وروادِفه
كقولك طويلُ النِّجاد للطويل وكثيرُ الرماد للمِضْياف
{مِنْ خِطْبَةِ النساء} الخِطبة بالكسر كالقِعدة والجِلسة ما
يفعلُه الخاطبُ من الطلب والاستلطاف بالقول والفعل فقيل هي
مأخوذةٌ من الخَطْب أي الشأن الذي له خطرٌ لما أنها شأن من
الشئون ونوع من الخُطوب وقيل من الخطاب لأنها نوعُ مخاطبة تجري
بين جانب الرجل وجانب المرأة والمرادُ بالنساء المعتداتُ
للوفاة والتعريضُ لخطبتهن أن يقول لها إنك لجميلةٌ أو صالحةٌ
أو نافعة ومن غرضي أن أتزوَّجَ ونحوُ ذلك مما يوهم أنه يريد
نِكاحَها حتى تحبِسَ نفسَها عليه إن رغبت فيه ولا يصرح بالنكاح
{أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ} أي أضمرتم في قلوبكم فلم
تذكروه تصريحاً ولا تعريضاً
{عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} ولا تصبِرون على
السكوت عنهن وعن إظهار الرغبة فيهن وفيه نوعُ توبيخٍ لهم على
قلة التثبت
{ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا} استدراك عن محذوفٌ دل عليه
سَتَذْكُرُونَهُنَّ أي فاذكُروهن ولكن لا تواعدوهن نِكاحاً بل
اكتفوا بما رُخّص لكم من التعريض والتعبيرُ عن النكاح بالسر
لأن مُسبَّبَه الذي هو الوطء مما يُسرّ به وإيثارُه على اسمه
للإيذان بأنه مما ينبغي أن يُسرّ به ويكتَم وحملُه على الوطء
ربما يُوهم الرُّخصة في المحظور الذي هو التصريحُ بالنكاح وقيل
انتصابُ سراً على الظرفية أي لا تواعدوهن في السر على أَنَّ
المرادَ بذلكَ
(1/232)
236 - البقرة المواعدةُ بما يُستهجن وفيه
ما فيه
{إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} استثناءٌ مفرَّغ
مما يدل عليه النهي أي لا تواعدهن مواعدةً ما إلا مواعدةً
معروفة غيرَ منْكرةٍ شرعاً وهي ما يكون بطريق التعريض والتلويح
أو إلا مواعدةً بقول معروف أو لا تواعدوهن بشيءٍ من الأشياءِ
إلا بأن تقولوا قولاً معروفاً وقيل هو استثناءٌ منقطعٌ من سراً
وهو ضعيف لأدائه إلى جعل التعريض موعوداً وليس كذلك
{وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح} من عزم الأمرَ إذا قصده
قصداً جازماً وحقيقتُه القطع بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لا
صيامَ لمن لم يعزِمِ الصيامَ من الليل وروي لمن لم يبيّت
الصيام والنهي عنه للمبالغةِ في النَّهيِ عن مباشرة عقدِ
النكاح أي لا تعزموا عقد عُقدة النكاح
{حتى يَبْلُغَ الكتاب أجله} أي العدةُ المكتوبة المفروضةُ
آخِرَها وقيل معناه لا تقطعوا عقدة النكاحِ أي لا تُبرِموها
ولا تلزَموها ولا تَقَدَّموا عليها فيكونُ نهياً عن نفس الفعل
لا عن قصده
{واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ} من ذواتِ
الصُدور التي من جملتها العزمُ على ما نُهيتم عنه
{فاحذروه} بالاجتناب عن العزم ابتداءً أو إقلاعاً عنه بعد
تحققِه
{واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ} يغفِرُ لمن يُقلعُ عن عزمه خشيةً
منه تعالى
{حَلِيمٌ} لا يعاجلُكم بالعقوبة فلا تستدلوا بتأخيرها على أن
ما نُهيتم عنه من العزم ليس مما يستتبعُ المؤاخذةَ وإظهارُ
الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمار لإدخال الروعة
(1/233)
لَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ
تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً
وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى
الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ (236)
{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي لا تِبعةَ من
مهرٍ وهو الأظهرُ وقيل من وِزْر إذ لا بدعةَ في الطلاق قبل
المسيس وقيل كان النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يكثر النهيَ عن
الطلاق فظُن أن فيه جُناحاً فنُفيَ ذلك
{إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} أي مالم
تجامعوهن وقرئ تُماسُّوهن بضم التاء في جميع المواقع أي مدة
عدمِ مِساسِكم إياهن عَلى أنَّ مَا مصدريةٌ ظرفية بتقدير
المضاف ونقل أبو البقاءِ أنها شرطية بمعنى إن فيكون من باب
اعتراض الشرط على الشرط فيكون الثاني قيداً للأول كما في قولك
إن تأتِني إن تُحسِنْ إلي أكرمْك أي إن تأتني محسِناً إليَّ
والمعنى إن طلقتموهن غير ما سين لهن وهذا المعنى أقعَدُ من
الأول لما أن ما الظرفية إنما يحسُن موقعُها فيما إذا كان
المظروفُ أمراً ممتداً منطبقاً على ما أضيف إليها من المدة أو
الزمان كما في قوله تعالى خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات
والارض وقوله تعالى وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ
فِيهِمْ ولا يخفى أن التطليقَ ليس كذلك وتعليقُ الظرف بنفي
الجُناحِ ربما يوهم إمكانَ المسيسِ بعد الطلاق فالوجهُ أن
يقدَّرَ الحالُ مكان الزمان والمدة
{أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} أي إلا أن تفرضوا لهن أو
حتى تفرضوا لهن عند العقد مَهراً على أن فريضة فعلية بمعنى
مفعول والتاءُ لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية وانتصابُه
على المفعولية ويجوزُ أنْ يكونَ مصدراً صيغةً وإعراباً والمعنى
أنه لا تِبعَةَ على المطلِّق بمطالبة المَهر أصلاً إذا كان
الطلاقُ قبل المسيس على كل حالٍ إلا في حال تسمية المهرِ فإن
عليه حينئذٍ نصفَ المسمَّى وفي حال عدمِ تسميتِه عليه المتعة
لانصف مَهرِ المثل وأما إذا كان بعد المساس فعليه في صورة
التسمية تمامُ المسمَّى وفي صورة عدمها تمامُ مَهر المثل وقيل
كلمةُ أو عاطفةٌ لمدخولها على
(1/233)
237 - البقرة ما قبلها من الفعل المجزومِ
على معنى ما لم يكن منكم مسيسٌ ولا فرضُ مَهرٍ
{وَمَتّعُوهُنَّ} عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلام أي
فطلِّقوهن ومتِّعوهن والحكمةُ في إيجاب المتعة جبرُ إيحاش
الطلاقِ وهي دِرعٌ ومِلْحفة وخِمار على حسب الحال كما يفصحُ
عنه قولُه تعالى
{عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} أي ما يليق
بحال كلَ منهما وقرئ بسكون الدال وهي جملةٌ مستأنفةٌ لا محلَّ
لها من الإعراب مبينةٌ لمقدار المتعة بالنظر إلى حال المطلِّق
إيساراً وإقتاراً أو حالٌ من فاعل متِّعوهن بحذف الرابط أي على
الموسع منكم الخ أو على جعل الألف واللام عوضاً من المضاف إليه
عند من يجوّزه أي على موسعكم الخ وهذا إذَا لم يكُن مهرُ مثلها
أقا من ذلك فإن كان أقل فلها الأقلُ من نصف مهر المثل ومن
المتعة ولا يُنقص عن خمسةِ دراهم
{متاعا} أي تمتيعاً
{بالمعروف} أي بالوجه الذي تستحسنه الشريعةُ والمروءة
{حَقّاً} صفةٌ لمتاعاً أو مصدرٌ مؤكدٌ أي حق ذلك حقا
{عَلَى المحسنين} أي الذين يُحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى
الامتثال أو إلى المطلقات بالتمتيع بالمعروف وإنما سموا محسنين
اعتبارا للمشاركة وترغيباً وتحريضاً
(1/234)
وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا
أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ
النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا
تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
{وإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن
تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ} قبل ذلك
{فَرِيضَةً} أي وإن طلقتموهن من قبل المسيسِ حال كونِكم
مُسمِّين لهن فيما سبق أي عند النكاحِ مَهراً على أنَّ الجملةَ
حالٌ من فاعل طلقتُموهن ويجوزُ أن تكون حالاً من مفعوله لتحقيق
الرابطِ بالنسبة إليهما ونفس الفرض من المبني للفاعل أو
للمفعول وإن لم يقارِنْ حالةَ التطليق لكن اتصاف المطلقِ
بالفارضية فيما سبق مما لا ريب في مقارنته لها وكذا الحال في
اتصاف المطلقة بكونها مفروضاً لها فيما سبق
{فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أي فلهن نصف ماسميتم لهن من المهر
أو فالواجبُ عليكم ذلك وهذا صريحٌ في أنَّ المنفي في الصورة
السابقة إنما هو تبعة المهر وقرئ بالنصب أي فأدوا نصفَ ما
فرَضتم ولعل تأخيرَ حكمِ التسمية مع أنها الأصلُ في العقد
والأكثرُ في الوقوع لما أن الآية الكريمة نزلت في أنصاريَ تزوج
امرأةً من بني حنيفةَ وكانت مفوضةً فطلقها قبل الدخول بها
فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله
عليه وسلم عند إظهار أن لا شئ له متِّعْها بقَلَنْسُوتك
{إَّلا أَن يَعْفُونَ} استثناءٌ مفرغٌ من أعم الأحوال أي فلهن
نصفُ المفروض معيناً في كل حالٍ إلا حالَ عفوِهن فإنه يسقُط
ذلك حينئذ بعد وجوبه وظاهرُ الصيغة في نفسها يحتمل التذكيرَ
والتأنيث وإنما الفرقُ في الاعتبار والتحقيق فإن الواوَ في
الأولى ضميرٌ والنون علامة الرفع وفي الثانية لامُ الفعل
والنون ضمير والفعل مبنيّ لذلك لم يؤثر فيه أن تأثيرُه فيما
عُطِفَ على محله من قوله تعالى
{أَوَ يعفو} بالنصب وقرئ بسكون الواو
{الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} أي يتركُ الزوجُ المالك لعقده
وحَلّه ما يعود إليه من نصفِ المَهر الذي ساقه إليها كاملاً
على ما هو المعتادُ تكرماً فإن ترك حقه عليها عفو بلا شُبهة أو
سمي ذلك عفواً في صورة عدم السوق
(1/234)
238 - البقرة مشاكلةً أو تغليباً لحال
السَوْق على حال عدمِه فمرجِعُ الاستثناء حينئذ إلى منع
الزيادةِ في المستثنى منه كما أنه في الصورة الأولى إلى منع
النقصانِ فيه أي فلهن هذا القدر زيادة ولا نقصان في جميعِ
الأحوال إلاَّ في حال عفوهن فإنه حينئذ لا يكون لهن القدرُ
المذكور بل ينتفي ذلك أو ينحطّ أو في حال عفو الزوج فإنه حينئذ
يكون لهن الزيادة على ذلك القدر هذا على التفسير الأول وأما
على التفسير الثاني فلا بد من المصير إلى جعل الاستثناء
منقطعاً لأن في صورة عفوِ الزوجِ لا يُتصور الوجوبُ عليه هذا
عندنا وفي القول القديم للشافعي رحمه الله أن المراد عفوُ
الولي الذي بيده عقدةُ نكاحِ الصغيرة وهو ظاهرُ المأخذ خلا أن
الأولى أنسبُ بقوله تعالى
{وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى} إلى آخره فإن إسقاط حقِّ
الصغير ليس في شئ من التقوى وعن جُبير بن مُطعِم أنه تزوج
امرأةً وطلقها قبل الدخول وأكمل لها الصَّداقَ وقال أنا أحق
بالعفو وقرئ بالياء
{وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} أي لا تتركوا أن يتفضل
بعضُكم على بعض كالشئ المنسى وقرئ بكسر الواو والخطاب في
الفعلين للرجال والنساء جميعاً بطريق التغليب
{إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يكاد يُضيع ما
عمِلتم من التفضل والإحسان
(1/235)
حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ (238)
{حافظوا عَلَى الصلوات} أي داوموا على
أدائها لأوقاتها من غير إخلالٍ بشيء منها كما تنبئ عنه صيغةُ
المفاعلة المفيدة للمبالغة ولعل الأمرَ بها في تضاعيف بيان
أحكامِ الأزواج والأولاد قبل الإتمام للإيذان بأنها حقيقةٌ
بكمال الاعتناءِ بشأنها والمثابرة عليها من غير اشتغال عنها
بشأنهم بل بشأن أنفسهم أيضاً كما يفصحُ عنهُ الأمر بها في حالة
الخوف ولذلك أمر بها في خلال بيان ما يتعلق بهم من الأحكام
الشرعية المتشابكةِ الآخذِ بعضها بحجزة بعض
{والصلاة الوسطى} أي المتوسطة بينها أو الفُضلى منها وهي صلاةُ
العصر لقوله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب شغَلونا عن الصلاة
الوسطى صلاةِ العصر ملأ الله تعالى بيوتَهم نارا وقال صلى الله
عليه وسلم إنها الصلاةُ التي شُغل عنها سليمانُ بنُ داود
عليهما الصلاة والسلام وفضلُها لكثرة اشتغال الناسِ في وقتها
بتجاراتهم ومكاسبهم واجتماعِ ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار
حينئذ وقيل هي صلاةُ الظهر لأنها في وسط النهار وكانت أشقَّ
الصلواتِ عليهم لما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان
يصليها بالهاجرة فكانت افضلها لقوله صلى الله عليه وسلم أفضلُ
العبادات أحمزُها وقيل هي صلاة الفجر لأنها بين صلاتي الليل
والنهار والواقعةُ في الحد المشترك بينهما ولأنها مشهودةٌ
كصلاة العصر وقيل هي صلاةُ المغرب لأنها متوسطة من حيث العددُ
ومن حيث الوقوعُ بين صلاتي النهار والليل ووتر النهار ولا
تُنقص في السفر وقيل هي صلاة العِشاء لأنها بين الجهريتين
الواقعتين في طرفي الليل وعن عائشة وابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ الله
عنهُم أنَّهُ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ والصلاة الوسطى
وصلاة العصر فتكون حينئذ إحدى الأربعِ قد خُصت بالذكر مع العصر
لانفرادها بالفضل وقرئ وعلى الصلاة الوسطى وقرئ بالنصب على
المدح وقرئ الوسطى
{وَقُومُواْ لِلَّهِ} أي في الصلاة
{قانتين} ذاكرين له تعالى في القيام لأن القنوتَ هو الذكر فيه
وقيل هو إكمالُ الطاعة وإتمامُها بغير إخلال بشيء من أركانها
وقيل خاشعين وقال ابن المسيِّب المراد به القنوتُ في الصبح
(1/235)
239 - البقرة 240 البقرة
(1/236)
فَإِنْ خِفْتُمْ
فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ
(239)
{فَإِنْ خِفْتُمْ} أي من عدو أو غيرِه
{فَرِجَالاً} جمع راجل كقيام وقائم أو رجل بمعنى راجل وقرئ بضم
الراء مع التخفيف وبضمها مع التشديد أيصا وقرئ فرَجِلاً أي
راجلاً
{أَوْ رُكْبَانًا} جمع راكب أي فصلو راجلين أو راكبين حسبما
يقتضيه الحال له ولا تخلوا بها ماأمكن الوقوفُ في الجملة وقد
جوز الشافعي رحمه الله أداءها حال المسايفة أيصا
{فَإِذَا أَمِنتُمْ} بزوال الخوف
{فاذكروا الله} أي فصلّوا صلاة الأمن عبر عنها بالذكر لأنه
معظمُ أركانِها
{كَمَا عَلَّمَكُم} متعلق بمحذوف وقع وصفاً لمصدر محذوف أي
ذكراً كائناً كما علمكم أي كتعليمه إياكم
{ما لم تكونوا تَعْلَمُونَ} من كيفية الصلاة والمرادُ بالتشبيه
أن تكون الصلاةُ المؤداة موافقةً لما علّمه الله تعالى
وإيرادُها بذلك العنوانِ لتذكير النعمةِ أو اشكُروا الله تعالى
شكراً يوازي تعليمَه إياكم ما لم تكونوا تعلمونه من الشرائع
والأحكامِ التي من جملتها كيفيةُ إقامةِ الصلاة حالتي الخوفِ
والأمن هذا وفي إيراد الشرطية الأولى بكلمة إن المفيدةِ
لمشكوكية وقوعِ الخوفِ ونُدرته وتصديرِ الشرطيةِ الثانية بكلمة
إذا المنبئة عن تحقيق وقوعِ الأمن وكثرته مع الإيجاز في جواب
الولى والإطناب في جواب في جواب الثانية المبنيّين على تنزيل
مقامِ وقوعِ المأمور به فيهما منزلةَ مقامِ وقوعِ الأمر
تنزيلاً مستدعياً لإجراءِ مقتضى المقام الأولِ في كل منهما
مُجرى مقتضى المقام الثاني من الجزالة ولطفِ الاعتبار ما فيه
عبرةٌ لأولي الأبصار
(1/236)
وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً
لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ
فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ
فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(240)
{والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ
أزواجا} عَودٌ إلى بيانِ بقيةِ الأحكامِ المفصَّلة فيما سلف
إثرَ بيانِ أحكامٍ وسطت بينهما لما أشير إليه منَ الحكمةِ
الداعيةِ إلى ذلك
{وَصِيَّةً لاّزْوَاجِهِم} أي يوصون أوليوصوا أو كتب الله
عليهم وصية ويؤيد مَنْ قرأ كتب عليكم الوصية لأزواجكم وقرئ
بالرفع على تقدير مضاف في المبتدأ أو الخبر أي حُكمُ الذين
يُتوفون مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا وصيةٌ لأزواجهم أو والذين
يُتوفون أهل وصية لأزواجهم أوكتب عليهم وصيةٌ أو عليهم وصية
وقرئ مناع لاّزْوَاجِهِم بدل وصية
{متاعا إِلَى الحول} منصوبٌ بيوصون إن أضمَرْته وإلا فبالوصية
أو بمتاع على القراءة الأخيرة
{غَيْرَ إِخْرَاجٍ} بدل منه أومصدر مؤكدٌ كما في قولك هذا
القولُ غيرُ ما تقول أو حال من أزواجهم أي غيرَ مُخرَجاتٍ
والمعنى يجب على الذين يُتوفَّوْن أن يوصوا قبل الاختصار
لأزواجهم بأن يُمتّعْنَ بعدهم حولاً بالنفقة والسكنى وكان ذلك
أولَ الإسلام ثم نُسخت المدة بقوله تعالى أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا فإنه وإن كان متقدماً في التلاوة متأخرٌ في النزول
وسقطت النفقة بتوريثها الربعَ أو الثمنَ وكذلك السكنى عندنا
وعند الشافعيّ هي باقية
{فَإِنْ خَرَجْنَ} عن منزل الأزواج باختيارهن
{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أيها الأئمة
{فِيمَا فعلن في أنفسهن بالمعروف} لاينكرة الشرْعُ كالتزيُّن
والتطيُّب وتركِ الحِدادِ والتعرّضِ للخُطّاب وفيه دلالةٌ على
أن المحظورَ إخراجُها عند إرادة القرارِ وملازمةِ مسكنِ الزوجِ
والحداد من غير أن يجب
(1/236)
241 - 242 243 البقرة عليها ذلك وأنها كانت
مخيّرة بين الملازمة مع أخذ النفقةِ وبين الخروج مع تركها
{والله عَزِيزٌ} غالبٌ على أمره يعاقِبُ من خالفه
{حَكِيمٌ} يراعي في أحكامه مصالحَ عباده
(1/237)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ
مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)
{وللمطلقات} سواءٌ كن مدخولاً بهن أولا
{متاع} أي مطلقُ المتعة الشاملة للواجبة والمستحبة وأوجبها
سعيدُ بنُ جبير وأبو العالية والزُهري للكل وقيل المراد
بالمتاع نفقةُ العِدة وقيل اللام للعهد والمراد غيرُ المدخول
بهن والتكريرُ للتأكيد
{بالمعروف} شرعاً وعادة
{حَقّا عَلَى المتقين} أي مما ينبغي
(1/237)
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
{كذلك} أي مثلَ ذلك البيانِ الواضح
{يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} الدالةَ على أحكامه التي شرعها
لعباده
{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لكي تفهموا ما فيها وتعلموا بموجبها
(1/237)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ
الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
{أَلَمْ تَرَ} تقريرٌ لمن سمع بقصتهم من
أهل الكتاب وأرباب الأخبار وتعجيب من شأنهم البديع فإن سماعَهم
لها بمنزلة الرؤية النظريةِ أو العلمية أو لكل أحد من له حظٌّ
من الخطاب إيذاناً بأن قصتهم من الشهرة والشيوع بحيث يحِقُّ
لكل أحد أن يُحمل على الإقرار برؤيتهم وسماع قصتهم ويعجب بها
وإن لم يكن رآهم أو سمع بقصتهم فإن هذ الكلامَ قد جرى مجرى
المَثلِ في مقام التعجيب لما أنه شُبّه حالُ غير الرائي لشئ
عجيب بحال الرائي له بناءً على ادعاء ظهورِ أمره وجلائِه بحيث
استوى في إدراكه الشاهدُ والغائبُ ثم أُجريَ الكلامُ معه كما
يجري مع الرائي قصداً إلى المبالغة في شهرته وعَراقتِه في
التعجب وتعديةُ الرؤيةِ بإلى في قولِه تعالَى
{إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم} على تقدير كونها بمعنى
الابصار باعتبار معنى النظر وعلى تقدير كونها إ دراكا قلبياً
لتضمين معنى الوصول والانتهاء على معنى ألم ينتهِ علمُك إليهم
{وَهُمْ أُلُوفٌ} أي ألوف كثيرة قيل عشرةُ آلاف وقيل ثلاثون
وقيل سبعون ألفاً والجملةُ حالٌ من ضمير خرجوا وقوله عز وجل
{حَذَرَ الموت} مفعول له رُوي أن أهلَ داوردان قرية قبل واسِط
وقع فيهم الطاعونُ فخرجوا منها هاربين فأماتهم الله ثم احياهم
ليعتبروا ويعلموا أن لا مفرَّ من حكم الله عز سلطانه وقضائه
وقيل مر عليهم حز قيل بعد زمان طويل وقد عرِيَتْ عظامُهم
وتفرقت أوصالُهم فلوى شدقيه وأصابعَه تعجباً مما رأى من أمرهم
فأُوحيَ إليه نادِ فيهم أن قوموا بإذن الله فنادى فإذا هم قيام
يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت وقيل هم قومٌ من
بني إسرائيلَ دعاهم ملكُهم إلى الجهاد فهربوا حذراً من الموت
فأماتهم الله تعالى ثمانية أيامٍ ثم احياهم وقوله عز وجل
{فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ} إما عبارةٌ عن تعلق إرادتِه
تعالى بموتهم دفعةً وإما تمثيلٌ لإماتته تعالى إياهم مِيتةَ
نفسٍ واحدة في أقرب وقتٍ وأدناه وأسرعِ زمان وأوحاه بأمر آمرٍ
مطاعٍ لمأمور مطيع كما في قوله تعالى
(1/237)
244 - 245 البقرة إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا
أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
{ثُمَّ أحياهم} عطفٌ إما على مقدَّر يستدعيهِ المقامُ أي
فماتوا ثم أحياهم وإنما حُذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره
لاستحالة تخلُّف مرادِه تعالى عن إرادته وإما على قال لما أنه
عبارة عن الإمانة وفيه تشجيعٌ للمسلمين على الجهاد والتعرُّضِ
لأسباب الشهادةِ وأن الموتَ حيث لم يكن منه بدٌّ ولم ينفعْ منه
المفرُّ فأولى أن يكون في سبيلِ الله تعالى
{إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ} عظيمٍ
{عَلَى الناس} قاطبةً أما أولئك فقد أحياهم ليعتبروا بما جرى
عليهم فيفوزوا بالسعادة العظمى وأما الذين سمِعوا قِصتَهم فقد
هداهم إلى مسلك الاعتبارِ والاستبصار
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} أي لا يشكرون فضلَه كما
ينبغي ويجوز أن يراد بالشكر الاعتبارُ والاستبصارُ وإظهارُ
الناس في مقام الإضمار لمزيد التشنيع
(1/238)
وَقَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(244)
{وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله} عطفٌ على مقدر
يعيِّنه ما قبلَهُ كأنَّه قيلَ فاشكروا فضلَه بالاعتبار بما قص
عليكم وقاتلوا في سبيله لما علمتم أن الفِرارَ لا يُنْجي من
الحِمام وأن المقدرَ لا مردَّ له فإن كان قد حان الأجلُ فموتٌ
في سبيل الله عز وجل وإلا فنصرٌ عزيزٌ وثواب
{واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ} يسمعُ مَقالة السابقين
والمتخلّفين
{عَلِيمٌ} بما يُضمِرونه في أنفسهم وهو من وراء الجزاء خيرا
وشرا فسارعوا إلى الامتثال واحذروا المخالفة والمساهلة
(1/238)
مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
{مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله} من
استفهامية مرفوعةُ المحلِّ بالابتداء وذا خبرُه والموصولُ صفة
له أو بدلٌ منه وإقراضُ الله تعالى مَثَلٌ لتقديم العمل العاجل
طلباً للثواب الآجل والمراد ههنا إما الجهادُ الذي هو عبارةٌ
عن بذل النفسِ والمالِ في سبيل الله عز وجل ابتغاءً لمرضاته
وإما مطلقُ العملِ الصالحِ المنتظمُ له انتظاماً أولياً
{قَرْضًا حَسَنًا} أي إقراضاً مقروناً بالإخلاصِ وطيبِ النفسِ
أو مقرضاً حلالاً طيباً
{فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} بالنصب على جواب الاستفهام حملاً على
المعنى فإنه في معنى أيقرضه وقرئ بالرفع أي يضاعفُ أجرَه
وجزاءَه جعل ذلك مضاعفةً له بناءً على ما بينهما من المناسبة
بالسببية ظاهراً وصيغةُ المفاعلة للمبالغة وقرئ فيضعفه بالرفع
وبالنصب
{أَضْعَافًا} جمعُ ضِعف ونصبُه على أنه حال من الضمير المنصوبِ
أو مفعولٌ بأن يضمن المضاعفة معى التصيير أو مصدرٌ مؤكد على أن
الضِعْفَ اسم للمصدر والجمع للتنوين
{كَثِيرَةٍ} لا يعلم قدرَها إلا الله تعالى وقيل الواحد
بسبعمائة
{والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} أي يقتّر على بعض ويوسّع على بعض
أو يقتِّر تارةً ويوسّع أخرى حسبَما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ
على الحِكَم والمصالحِ فلا تبخلوا عليه بما وسَّع عليكم كي لا
يبدِّل أحوالَكم ولعل تأخيرَ البسط عن القبض في الذكر للإيماء
إلى أنه يعقُبه في الوجود تسليةً للفقراء وقرئ يبصُط بالصاد
لمجاورة الطاء
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازِيكم على ما قدَّمتُم من
الأعمالِ خيرا وشرا
(1/238)
246 - البقرة
(1/239)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ
قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا
نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ
دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
{أَلَمْ تَرَ} تقريرٌ وتعجيب كما سبق قُطع
عنه للإيذان باستقلاله في التعجب مع أن له مزيدَ ارتباطٍ بما
وُسِّط بينهما من الأمر بالقتال
{إِلَى الملإ من بني إسرائيل} الملأُ من القوم وجوهُهم
وأشرافهم وهو اسمٌ للجماعة لا واحدَ له من لفظه كالرهط والقوم
سْموا بذلك لما أنهم يملئون العيونَ مهابةً والمجالسَ بهاءً أو
لأنهم مليئون بما يبتغى منهم ومن تبعيضية ومِنْ في قولِه
تعالَى
{مِن بَعْدِ موسى} ابتدائيةٌ وعاملُها مقدرٌ وقع حالاً من
الملأ أي كائنين بعضَ بني إسرائيلَ من بعد وفاة موسى ولا ضيرَ
في اتحاد الحرفين لفظا عند اختلافهما معنى
{إِذْ قَالُواْ} منصوبٌ بمُضمر يستدعيه المقامُ أي ألم ترَ إلى
قصة الملأ أو حديثهم حين قالوا
{لِنَبِىّ لَّهُمُ} هو يوشَعُ بنُ نونِ بنِ أفرائيم بن يوسف
عليهما السلام وقيل شمعون بنُ صعبة بنِ علقمة من ولد لاوي بنِ
يعقوبَ عليهما السَّلامُ وقيل وقيل أشمويلُ بنُ بالِ بنِ علقمة
وهو بالعبرانية اسمعيل قال مقاتل هو من نسل هرون عليه السلام
وقال مجاهد أشمويلُ بنُ هلقايا
{ابعث لَنَا مَلِكًا نقاتل فِى سَبِيلِ الله} أي أَنهِضْ
للقتال معنا أميراً نُصدِرُ في تدبير أمرِ الحرب عن رأيه وقرئ
نقاتلُ بالرفع على أنَّه حالٌ مقدَّرةٌ أي ابعثه لنا مقدّرين
القتالَ أو استئنافٌ مبنيُّ على السؤال وقرئ يقاتلْ بالياء
مجزوماً ومرفوعاً على الجواب للأمر والوصف لملِكاً
{قَالَ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الذهنُ كأنَّه
قيلَ فماذَا قالَ لهم النبيُّ حينئذ فقيل قال
{قال هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ
تقاتلوا قالوا} فُصل بين عسى وخبرِه بالشرط للاعتناء به أي هل
قاربتم ان لا تقاتلوا كما أتوقعه منكم والمرادُ تقريرُ أن
المتوقَّعَ كائنٌ وإنما لم يُذكر في معرض الشرط ما التمسوه بأن
قيل هل عسَيتم إن بعثتُ لكم ملكاً الخ مع أنه أظهر تعلقاً
بكلامهم بل ذَكَر كتابةَ القتالِ عليهم للمبالغة في بيان
تخلّفِهم عنه فإنهم إذا لم يقاتلوا عند فرضيةِ القتالِ عليهم
بإيجاب الله تعالى فلأَن لا يقاتلوا عند عدم فرضيتِه أولى ولأن
إيراد ما ذكروه ربما يوهِمُ أن سبب تخلفِهم عن القتال هو
المبعوث لانفس القتال وقرئ عسِيتم بكسر السين وهي ضعيفة
{قَالُواْ} استئنافٌ كما سبق
{وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل} أي أيُّ سبب لنا في أَن لا نقاتل
{فِى سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا
وَأَبْنَائِنَا} أي والحال أنه قد عَرَض لنا ما يوجب القتالَ
إيجاباً قوياً من الإخراج عن الديار والأوطان والاغترابِ من
الأهل والأولاد وإفرادُ الأبناء بالذكر لمزيد تقوية أسبابِ
القتال وذلك أن جالوت رأسَ العمالقةِ وملكهم وهو جبارٌ من
أولاد عمليق بن عاد كان هُو ومَنْ مَعَهُ من العمالقة يسكنون
ساحلَ بحرِ الرومِ بين مصر وفلسطين وظهروا على بني إسرائيلَ
وأخذوا ديارَهم وسبَوْا أولادهم وأسرُوا من أبناء ملوكهم
أربعمائة
(1/239)
247 - البقرة وأربعين نفساً وضربوا عليهم
الجزيةَ وأخذوا توراتَهم
{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} بعد سؤال النبيِّ صلَّى
الله عليهِ وسلم ذلك وبعْثِ الملك
{تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا وتخلفوا لكنْ لا في ابتداء الأمرِ بل
بعدَ مشاهدةِ كثرةِ العدو وشوكته كما سيجئ تفصيله وإنما ذكر
ههنا مآل أمرهم إجمالا إظهار لما بين قولِهم وفعلهم من التنافي
والتبايُن
{إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ} وهم الذين اكتفَوا بالغُرفة من
النهر وجاوزوه وهم ثلثُمائةٍ وثلاثةَ عَشرَ بعدد أهل بدر
{والله عَلِيمٌ بالظالمين} وعيد لهم على ظلمهم بالتولي عن
القتال وتركِ الجهاد وتنافي أقوالِهم وأفعالِهم والجملة
اعتراضٌ تذييليٌّ
(1/240)
وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ
مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا
وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً
مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ
وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ
يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
(247)
{وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ} شروعٌ في
تفصيل ما جرى بينه عليه السَّلامُ وبينهم من الأقوال والأفعال
إثرَ الإشارةِ الإجمالية إلى مصير حالِهم أي قال لهم بعد ما
أُوحي إليه ماأوحى
{إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} طالوتُ علمٌ
عِبْريٌّ كداودَ وجعلُه فَعْلوتاً من الطول يأباه منع صرفه
وملكا حال منه رُوي أنه عليه السلام لما دعا ربه أن يجعل لهم
ملِكاً أتى بعصاً يُقاس بها من يملِكُ عليهم فلم يساوِها إلا
طالوتُ
{قَالُواْ} استئنافٌ كما مر
{أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا} أي من أين يكون أو كيف
يكون ذلك
{وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ
المال} الواو الأولى حاليةٌ والثانيةُ عاطفةٌ جامعةٌ للجملتين
في الحُكم أي كيف يتملّك علينا والحالُ أنه لا يستحِقُّ
التملكُ لوجود من هو أحقُّ منه ولعدم ما يتوقف عليه الملكُ من
المال وسبب هذا الاستبعادِ أن النبوةَ كانت مخصوصةً بسِبطٍ
معينٍ من أسباط بني إسرائيلَ وهو سِبطُ لاوى بنِ يعقوبَ عليه
السلام وسبط المملكة بسبط يهودا ومنه داودُ وسليمانُ عليهما
السلام ولم يكن طالوتُ من أحد هذين السِبطين بل من ولد بنيامين
قيل كان راعياً وقيل دبّاغاً وقيل سقّاءً
{قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ} لمّا استبعدوا تملُّكَه
بسقوط نسَبِه وبفقره ردَّ عليهم ذلك أولا مَلاكَ الأمرِ هو
اصطفاءُ الله تعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم
وثانياً بأن العُمدة فيه وُفورُ العلم ليتمكَّنَ به من معرفة
أمورِ السياسةِ وجسامةُ البدن ليعظُم خطرُه في القلوب ويقدِرَ
على مقاومة الأعداءِ ومكابدةِ الحروب وقد خصه الله تعالى منهما
بحظَ وافرٍ وذلك قوله عز وجل
{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم} أي العلمِ المتعلِّقِ بالمُلك
أو به وبالديانات أيضاً وقيل قد أوحي إليه ونبئ
{والجسم} قيل بطول القامة فإنه كان أطولَ من غيره برأسه
ومنكبيه حتى إن الرجلَ القائم كان يمديده فينال رأسه وقيل
بالجمال وقيل بالقوة
{والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء} لما أنه مالِكُ المُلكِ
والملَكوتِ فعّالٌ لما يريد فله أن يؤتِيَه من يشاءُ من عباده
{والله واسع} يوسِّع على الفقير ويُغنيه
{عَلِيمٌ} بمن يليقُ بالملك ممن لا يليق به وإظهارُ الاسمِ
الجليلِ لتربية المهابة
(1/240)
248 - البقرة
(1/241)
وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ
مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ
الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (248)
{وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ} توسيطُه فيما
بين قوليه المحكِيَّيْن عنه عليه السلام للإشعار بعدم اتصالِ
أحدِهما بالآخر وتخلُّلُ كلامٍ من جهة المخاطبين متفرِّعٌ على
السابق مستتبِعٌ للاحق كأنهم طلبوا منه عليه السلام آيةً تدل
على أنه تعالى اصطفى طالوتَ وملّكه عليهم رُوي أنهم قالوا ما
آية ملكة فقال
{إن آية ملكِه أن يأتيكم التابوت} أي الصُندوقُ وهو فَعْلوتٌ
من التَّوْب الذي هو الرجوعُ لما أنه لا يزال يرجِعُ إليه ما
يخرُج منه وتاؤه مزيدةٌ لغير التأنيث كمَلَكوت ورَهَبوت
والمشهورُ أن يوقف على تائه من غير أن تُقلبَ هاءً ومنهم من
يقلِبُها إياها والمراد به صُندوقُ التوراةِ وكان قد رفعه الله
عزَّ وجلَّ بعدَ وفاةِ موسى عليه السلام سُخطاً على بني
إسرائيلَ لما عَصَوا واعتدَوْا فلما طلب القوم من نبيهم آيةً
تدل على مُلك طالوتَ قال لهم إن آية ملكِه أن يأتيَكم التابوتُ
من السماءِ والملائكةُ يحفَظونه فأتاهم كما وصف والقومُ ينظرون
إليه حتى نزل عند طالوتَ وهَذا قولُ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما
وقال أربابُ الأخبارِ إن الله تعالى أنزل على آدمَ تابوتاً فيه
تماثيلُ الأنبياءِ عليهم السلام من أولاده وكان من عُود
الشمشاد نحواً من ثلاثة أذرُعٍ في ذراعين فكان عند آدمَ عليهِ
السَّلامُ إلى أن توفي فتوارثه أولادُه واحدٌ بعد واحدٍ إلى أن
وصلَ إلى يعقوبَ عليه السلام ثم بقي في أيدي بني إسرائيلَ إلى
أن وصلَ إلى مُوسى عليهِ السَّلامُ فكان علية الصلاة والسلام
يضعُ فيه التوراةَ وكان إذا قاتل قدّمه فكانت تسكُن إليه نفوسُ
بني إسرائيلَ وكان عنده إلى أن توُفي ثم تداولتْه إيدى بنى
إسرئيل وكانوا إذا اختلفوا في شئ تحاكَموا إليه فيكلِّمهم
ويحكُم بينهم وكانوا إذا حضروا القتالَ يقدِّمونه بين أيديهم
ويستفتِحون به على عدوهم وكانت الملائكةُ تحمِلُه فوق العسكر
ثم يقاتلون العدوَّ فإذا سمعوا من التابوت صيحةً استيقنوا
النصرَ فلما عصَوا وأفسدوا سلّط الله عليهم العمالقةَ فغلبوهم
على التابوت وسلبوه وجعلوه في موضع البولِ والغائطِ فلما أراد
الله تعالى أنْ يُملِّك طالوتَ سلط عليهم البلاء حتى إن كلَّ
من بال عنده ابتُلي بالبواسير وهلكت من بلادهم خمسُ مدائنَ
فعلم الكفارُ أن ذلك بسبب استهانتهم بالتابوت فأخرجوه وجعلوه
على ثورَيْن فأقبل الثورانِ يسيران وقد وكل الله تعالى بهما
أربعةً من الملائكة يسوقونهما حتى أتَوا منزلَ طالوت فلما
سألوا نبيَّهم البينةَ على مُلك طالوتَ قال لهم النبيُّ إن
آيةَ مُلكِه أنكم تجِدون التابوتَ في داره فلما وجدوه عنده
يقنوا بمُلكه
{فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ} أي في إتيانِه سكونٌ لكم
وطُمَأْنينةٌ كائنةٌ من ربكم أو في التابوت ما تسكُنون إليه
وهو التوراةُ المُودَعة فيه بناء على مامر من أن موسى عليه
السلام إذا قاتل قدَّمه فتسكُن إليه نفوسُ بني إسرائيلَ وقيل
السكينةُ صورةٌ كانت فيه من زَبَرْجَدٍ أو ياقوتٍ لها رأسٌ
وذنبٌ كرأس الهرِّ وذنبِه وجناحان فتئن فيزف التابوتُ نحوَ
العدوِّ وهم يمضُون معه فإذا استقر ثبتوا وسكَنوا ونزل النصرُ
وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه كان لها وجهٌ كوجه الإنسان وفيها
ريحٌ هفّافة
{وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون}
(1/241)
249 - البقرة هي رضاض الألواحِ وعصا موسى
وثيابه من التوراة وكان قد رفعه الله تعالى بعد وفاةِ موسى
عليه السلام وآلُهما أبناؤُهما أو أنفسُهما والآلُ مقحَمٌ
لتفخيم شأنهما أو أنبياءُ بني إسرائيلَ
{تَحْمِلُهُ الملائكة} حال من التابوت أي إن آيةَ ملكِه
إتيانُه حال كونِه محمولاً للملائكة وقد مر كيفيةُ ذلك ولعل
حملَ الملائكةِ على الرواية الأخيرة عبارةٌ عن سَوْقهم للثورين
الحاملين له
{إِنَّ فِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذكر من شأن التابوت فهو من
تمام كلامِ النبي عليه السلام لقومه أو إلى نَقلِ القصة
وحكايتها فهو ابتداءُ كلامٍ من جهة الله تعالى جيءَ به قبل
تمامِ القصةِ إظهاراً لكمال العنايةِ به وإفرادُ حرفِ الخطاب
مع تعدُّد المخاطَبين على التقديرين بتأويل الفريق أو غيرِه
كما سلف
{لآيَةً} عظمة
{لَكُمْ} دالةً على مُلك طالوتَ أو على نبوة محمدٍ صلَّى الله
عليهِ وسلم حيث أخبر بهذه التفاصيل على ما هي عليه من غير
سماعٍ من البشر
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي مصدقين بتمليكه عليكم أو بشيءٍ
من الآيات وإن شرطيةٌ والجواب محذوفٌ ثقةً بما قبله وقيل هي
بمعنى إذ
(1/242)
فَلَمَّا فَصَلَ
طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ
بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ
يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً
بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا
جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا
طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ
فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود} أي
انفصل بهم عن بيت المقدسِ والأصلُ فصلَ نفسَه ولما اتحد فاعلُه
ومفعولُه شاع استعمالُه محذوفَ المفعول حتى نزل منزِلة
القاصِرِ كانفصل وقيل فصَل فصُولاً وقد جُوّز كونه أصلاً برأسه
ممتازاً من المتعدي بمصدره كوقف وقوفاً ووقَفه وقفاً وكصدَّ
صُدوداً ورجَع رجوعاً ورجَعه رجعاً والباءُ متعلقةٌ بمحذوفٍ
وقعَ حالاً من طالوت أي ملتبساً بهم ومصاحباً لهم رُوي أنه قال
لقومه لايخرج معي رجل بنى بناءً لم يفرُغْ منه ولا تاجرٌ
مشتغلٌ بالتجارة ولا متزوجٌ بامرأة لم يبْنِ عليها ولا أبتغي
إلا الشابَّ النشيطَ الفارغ فاجتمع اليه ممن اختاره ثمانون
ألفاً وكان الوقت قَيظاً وسلكوا مفازةً فسألوا أن يُجرِيَ الله
تعالى لهم نهراً فبعد ما ظهر له ما تعلقت به مشيئتُه تعالى من
جهة النبي عليه السلام أو بطريق الوحي عند من يقول بنبوته
{قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} بفتح الهاء وقرئ
بسكونها
{فَمَن شَرِبَ مِنْهُ} أي ابتدأ شُربه من النهر بأن كرَع لأنه
الشرب منه حقيقة
{فَلَيْسَ مِنّي} أي من جُملتي وأشياعي المؤمنين وقيل ليس
بمتصلٍ بي ومتحدٍ معي من قولهم فلان مني كأنه بعضُه لكمال
اختلاطِهما
{وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} أي لم يذُقه من طعِم الشيءَ إذا ذاقه
مأكولاً كان أو مشروباً أو غيرَهما قال
وإن شئتِ حرمتُ النساءَ سواكم ... وإن شئت لم أطعَمْ نُقاخاً
ولا بردا
أي نوماً
{فَإِنَّهُ مِنّى إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ}
استثناءٌ من قولِهِ تعالى فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي
وإنما أُخّر عن الجملة الثانية لإبراز كمالِ العناية بها
ومعناه الرخصةُ في اغتراف الغرفةِ باليد دون الكروع والغرفة ما
يغرف وقرئ بفتح الغين على أنها مصدرٌ والباء متعلقةٌ باغترف أو
بمحذوف وقع صفة لغرفة أي غرفةً كائنةً بيده يروى أن الغرفة
كانت
(1/242)
تكفي الرجل لشربه وإدواتِه ودوابِّه وأما
الذين شرِبوا منه فقد اسودت شفاهُهم وغلبهم العطشُ
{فَشَرِبُواْ مِنْهُ} عطفٌ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي
فابتلُوا به فشرِبوا منه
{إِلاَّ قَلِيلاً منهم} وهو المشارُ إليهم فيما سلف بالاستثناء
من تولى وقرئ إلا قليلٌ منهم ميلاً إلى جانب المعنى وضرباً عن
عُدوة اللفظِ جانباً فإن قوله تعالى فَشَرِبُواْ مِنْهُ في
قوَّةِ أنْ يقالَ فلم يُطيعوه فحُقَّ أن يرد المستثنى مرفوعاً
كما في قول الفرزدق
وعض الزمان ياابن مروانَ لم يدَع ... مِنَ المالِ إلا مُسْحَتٌ
أو مُجلِّفُ
فإن قوله لم يدع في حكم لم يبق
{فَلَمَّا جَاوَزَهُ} أي النهرَ
{هُوَ} أي طالوتُ
{والذين آمنوا مَعَهُ} عطفٌ على الضمير المتصلِ المؤكدِ
بالمنفصل والظرفُ متعلقٌ بجاوزَ لا بآمنوا وقيل الواوُ حالية
والظرفُ متعلقٌ بمحذوف وقع خبراً من الموصول كأنه قيل فلما
جاوزه والحالُ أن الذين آمنوا كائنون معه وهم أولئك القليلُ
وفيه إشارةٌ إلى أن مَنْ عداهم بمعزل من الإيمان
{قَالُواْ} أي بعضُ مَنْ معهُ منَ المُؤمنينَ لبعضٍ
{لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} أي بمحاربتهم
ومقاومتِهم فضلاً عن أن يكونَ لنا غلبةٌ عليهم لِما شاهدُوا
منُهم من الكثرة والشدة قيل كانوا مائةَ ألفِ مقاتلٍ شاكي
السِّلاح
{قَالَ} استئناف مبني على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قال
مخاطبُهم فقيل قال
{الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله} قيل أي الخُلَّصُ
منهم الذين يتيقنون لقاءِ الله تعالى بالبعث ويتوقّعون ثوابَه
وإفرادُهم بذلك الوصف لا ينافي إيمانَ الباقين فإن درجاتِ
المؤمنين في التيقن والتوقع مُتفاوتةٌ أو الذين يعلمون أنهم
يُستشهدون عما قريب فيلقَوْن الله تعالى وقيل الموصولُ عبارةٌ
عن المؤمنينَ كافةً والضميرُ في قالوا للمنخذِلين عنهم كأنهم
قالوه اعتذاراً عن التخلُّف والنهرُ بينهما
{كَم مّن فِئَةٍ} أي فِرْقة وجماعة من الناس من فأَوْتُ رأسَه
إذا شققتها أو من فاء إليه إذا رجَع فوزنُها على الأول فِعةٌ
وعلى الثاني فِلَةٌ
{قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً} وكم خبرية كانت
أواستفهامية مفيدةٌ للتكثير وهي في حيز الرفعِ بالابتداء
خبرُها غلبتْ أي كثيرٌ من الفئات القليلةِ غلبت الفئاتِ
الكثيرةَ
{بِإِذُنِ الله} أي بحُكمه وتيسيرِه فإن دورانَ كافةِ الأمور
على مشيئته تعالى فلا يذِلُّ من نصرَه وإن قل عددُه ولا يعِزُّ
مَنْ خَذله وإن كثر أسبابُه وعُددُه وقد روُعيَ في الجواب
نُكتةٌ بديعة حيث لم يقُلْ أطاقت بفئة كثيرةٍ حسبما وقع في
كلام أصحابهم مبالغةً في رد مقالتِهم وتسكينِ قلوبهم وهذا كما
ترى جواب ناشئ من كمال ثقتِهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل
في ذلك لظن لقاءِ الله تعالى بالبعث لاسيما بالاستشهاد فإن
العلمَ به ربما يورِثُ اليأسَ من الغَلَبة ولا لتوقُّع ثوابِه
تعالى ولاريب في أن ما ذُكر في حيز الصلةِ ينبغي أن يكونَ
مداراً للحكم الواردِ على الموصول فلا أقلَّ من أن يكون وصفاً
ملائماً له فلعل المرادَ بلقائه تعالى لقاءُ نصرِه وتأييدُه
عُبر عنه بذلك مبالغةً كما عُبر عن مقارَنةِ نصرِه تعالى
بمقارنته سبحانه حيث قيل
{والله مَعَ الصابرين} فإن المرادَ به معيّةُ نصرِه وتوفيقِه
حتماً وحملُها على المعية بالإثابة كما فعل يأباه أنهم إنما
قالوه تتميا لجوابهم وتأكيدا له بطريق الاعتراضِ التذييليِّ
تشجيعاً لأصحابهم وتثبيتاً لهم على الصبر المؤدي إلى الغَلَبة
ولا تعلّقَ له بما ذُكر من المعية بالإثابة قطعاً وكذا الحالُ
إذا جُعل ذلك ابتداءَ كلامٍ من جهة الله تعالى جئ به تقريراً
لكلامهم والمعنى قال الذين يظنون أو يعلمون من جهة النبي أو من
جهة التابوتِ والسكينة أنهم ملاقو نصر العزيزِ كم من فئةٍ
قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله تعالى فنحن نغلِبُ جالوتَ
وجنودَه وإيرادُ خبرِ أن اسماً مع أن اللقاء
(1/243)
250 - 251 البقرة مستقبلٌ للدَلالة على
تقرره وتحققه
(1/244)
وَلَمَّا بَرَزُوا
لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا
صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ (250)
{وَلَمَّا بَرَزُواْ} أي ظهر طالوتُ وَمَنْ
مَعَهُ من المؤمنينَ وصاروا إلى براز من الأرض في موطن الحرب
{لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} وشاهدوا ما هم عليه من العَدد
والعُدد وأيقنوا أنهم غير مطيقين بهم عادة
{قَالُواْ} أي جميعاً عند تقوى قلوب الفريقُ الأولُ منهم بقول
الفريق الثاني متضرِّعين إلى الله تعالى مستعينين به
{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} على مقاساة شدائِد
الحربِ واقتحامِ مواردِه الصعبةِ الضيقة وفي التوسل بوصف
الربوبيةِ المُنْبئةِ عن التبليغِ إلى الكمال وإيثارِ الإفراغِ
المعرب عن الكثرة وتنكيرِ الصبر المفصح عن التفخيم من الجزالة
مالا يخفى
{وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} في مداحض القتالِ ومزالِّ النزال
وثباتُ القدم عبارةٌ عن كمال القوةِ والرسوخِ عند المقارعة
وعدمِ التزلزل وقت المقاومة لا مجرد التقرّر في حيز واحد
{وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} بقهرهم وهزمِهم ووضعُ الكافرين
في موضعَ الضَّميرِ العائد إلى جالوتَ وجنودِه للإشعار بعِلة
النصرِ عليهم ولقد راعَوْا في الدعاء ترتيباً بديعاً حيث قدموا
سؤالَ إفراغِ الصبر الذي هو مِلاكُ الأمر ثم سؤالَ تثبيتِ
القدم المتفرع عليه ثم سؤالَ النصرِ الذي هو الغايةُ القصوى
(1/244)
فَهَزَمُوهُمْ
بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ
الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ
الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ
(251)
{فَهَزَمُوهُم} أي كسروهم بلا مكث
{بِإِذُنِ الله} بنصره وتأييده إجابةً لدعائهم وإيثارُ هذه
الطريقة على طريقة قوله عز وجل فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا الخ
للمحافظة على مضمون قولِهم غلَبتْ فئةً كثيرةً بإذن الله
{وقتل داود جَالُوتَ} كان إيشى أبو داودَ في عسكر طالوتَ معه
ستةٌ من بنيه وكان داودُ عليه السلام سابعَهم وكان صغيراً
يَرعى الغنم فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوتَ
فطلبه من أبيه فجاء وقد مر في طريقه بثلاثة أحجار قال له كل
منها احمِلنا فإنك بنا تقتُل جالوتَ فحملها في مِخْلاته قيل
لما أبطأ على أبيه خبرُ إخوته في المصافِّ أرسل داودُ إليهم
ليأتيَه بخبرهم فأتاهم وهم في القراع وقد برز جالوتُ بنفسه إلى
البِراز ولا يكاد يبارزه أحدٌ وكان ظلُّه ميلاً فقال داودُ
لإخوته أما فيكم من يخرجُ إلى هذا الأقلفِ فزجروه فنحا ناحية
أخرى ليس فيها أخوتُه وقد مر به طالوتُ وهو يحرِّض الناسِ على
القتال فقال له داودُ ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلفَ قال
طالوت أنكحه بنتى وأعطيه شطرَ مملكتي فبرز له داودُ فرماه بما
معه من الأحجار بالمِقلاع فأصابه في صدره فنفذ الأحجارُ منه
وقتلت بعده ناسا كثيرا وقيل إنما كلمته الأحجارُ عند بروزه
لجالوتَ في المعركة فأنجز له طالوتُ ما وعده وقيل إنه حسده
وأخرجه من مملكته ثُمَّ ندِمَ عَلَى مَا صنعه فذهب يطلبه إلى
أن قُتل ومُلِّك داودُ عليه السلام وأعطيَ النبوةَ وذلك قوله
تعالى
{وآتاه الله الملك} أي مُلكَ بني إسرائيلَ في مشارقِ الأرض
المقدسةِ ومغاربِها
{والحكمة} أي البنوة ولم يجتمع في بني إسرائيلَ الملكُ
والنبوةُ قبله إلا له بل كان الملكُ في سِبط والنبوة في سبط
(1/244)
252 - 253 البقرة آخرَ وما اجتمعوا قبله
على ملك قط
{وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء} أي مما يشاء الله تعالى تعليمَه
إياه لا مما يشاء داودُ عليه السلام كما قيل لأن معظم ما علمه
تعالى إياه مما لا يكاد يخطرُ ببال أحد ولا يقع في أمنية بشرٍ
ليتمكنَ من طلبه ومشيئته كالسَّرَد بإِلانةِ الحديد ومنطقِ
الطير والدوابِّ ونحو ذلك من الأمور الخفية
{وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم} الذين يباشرون الشر
والفساد
{بِبَعْضِ} آخرَ منهم بردِّهم عما هم عليه بما قدر الله تعالى
من القتل كما في القصة المحكية أو غيره وقرئ دِفاعُ الله على
أن صيغة المبالغة للمبالغة
{لَفَسَدَتِ الارض} وبطلت منافعُها وتعطلت مصالحُها من الحرْث
والنسل وسائر ما يعمُر الأرضَ ويُصلِحها وقيل لولا أن الله
ينصُر المسلمين على الكافرين لفسدت الأرضُ بعيثهم وقتلهم
المسلمين أولو لم يدفعهم بالمسلمين لعم الكفر ونزلت السخطة
فاستؤصلَ أهلُ الأرض قاطبة
{ولكن الله ذُو فَضْلٍ} عظِيمٌ لا يقادَر قدرُه
{عَلَى العالمين} كافةً وهذا إشارةٌ إلى قياس استثنائي مؤلفٍ
من وضع نقيض المقدم منتج لنقيض التالي خلا أنه قد وضع ما
يستتبعه ويستوجبه أعني كونه تعالى ذا فضلٍ على العالمين
إيذاناً بأنه تعالى متفضِّلٌ في ذلك الدفع من غير أن يجبَ عليه
ذلك وأن فضلَه تعالى غيرُ منحصرٍ فيه بل هو فردٌ من أفراد
فضلِه العظيم كأنه قيل ولكنه تعالى يدفع فسادَ بعضِهم ببعض فلا
تفسد الأرض وتنتطم به مصالِحُ العالمِ وتنصَلِحُ أحوالُ الأمم
(1/245)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ
نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ (252)
{تِلْكَ} إشارة إلى ما سلف من حديث الألوفِ
وخبرِ طالوتَ على التفصيل المرقومِ وما فيه من معنى البعد
للإيذان بعلو شأنِ المشارِ إليه
{آيات الله} المنزلةُ من عنده تعالى والجملةُ مستأنفة وقولُه
تعالَى
{نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} أي بواسطة جبريلَ عليهِ السَّلامُ إما
حالٌ من الآيات والعامل معنى الإشارة وإما جملةٌ مستقلة لا
محلَّ لها من الإعراب
{بالحق} في حيز النصبِ على أنه حالٌ من مفعول نتلوها أي
ملتبسةً باليقين الذي لا يرتاب فيه أحدٌ من أهل الكتاب وأربابِ
التواريخ لما يجدونها موافقة لما في في كتبهم أو من فاعلِه أي
نتلوها عليك ملتبسين بالحق والصواب أو من الضمير المجرور أي
ملتبساً بالحق والصدق
{وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} أي من جملة الذين أُرسلوا إلى
الأمم لتبيلغ رسالاتِنا وإجراءِ أوامرِنا وأحكامنا عليهم فإن
هذه المعاملةَ لا تجري بيننا وبين غيرهم فهي شهادة منه سبحانه
برسالته عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إثرَ بيانِ مايستوجبها
والتأكيدُ من مقتضيات مقامِ الجاحدين بها
(1/245)
تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ
اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ
الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ
كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ
اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
{تِلْكَ الرسل} استئنافٌ فيه رمز إلى أنه
عليه الصلاةُ والسلام من
(1/245)
أفاضلِ الرسلِ العظامِ عليهم الصلاة
والسلام وإثر بيانِ كونِه من جملتهم والإشارةُ إلى الجماعة
الذين من جملتهم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فاللام في
المآل للاستغراق وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بعلوِّ
طبقتِهم وبُعدِ منزلتهم وقيل إلى الذين ثبت علمه صلى الله عليه
وسلم بهم
{فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} في مراتب الكمالِ بأن
خصَصْناه حسبما تقتضيه مشيئتُنا بمآثِرَ جليلةٍ خلا عنها غيرُه
مّنْهُمْ مَّن كلم الله تفصيل للتفضيل المذكور إجمالاً أي فضله
بأن كلمهُ تعالى بغير سفير وهو موسى عليه الصلاة والسلام حيث
كلمهُ تعالى ليلةَ الخِيْرة وفي الطور وقرىء كلم الله بالنصب
وقرىء كالَمَ الله من المكالمة فإنه كلّم الله تعالى كما أنه
تعالى كلمه ويؤيده كليمُ الله بمعنى مكالمِه وإيرادُ الاسمِ
الجليلِ بطريق الالتفاتِ لتربية المهابةِ والرمزِ إلى ما بين
التكليم والرفعِ وبين ما سبَقَ من مطلق التفضيل وما لحق من
إيتاء البينات والتأييد بروحِ القدسِ من التفاوت
{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات} أي ومنهم من رفعه على غيره من
الرسل المتفاوتين في معارجِ الفضل بدرجات قاصية ومراتب نائبه
وتغييرُ الأسلوب لتربية ما بينهم من اختلاف الحالِ في درجات
الشرفِ والظاهرُ انه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ينبىء
عنه الإخبارُ بكونه عليه الصلاة والسلام منهم فإن ذلك في قوة
بعضهم فإنه قد خُصَّ بالدعوة العامة والحُجج الجمة والمعجزاتِ
المستمرة والآياتِ المتعاقبة بتعاقُب الدهور والفضائلِ العلمية
والعمليةِ الفائتة للحصر والإبهامُ لتفخيم شأنه وللإشعار بأنه
العلَمُ الفردُ الغنيُّ عن التعيين وقيل إنه إبراهيمَ عليه
الصَّلاةُ والسَّلامُ حيث خصه تعالى بكرامة الخُلّة وقيل
إدريسُ عليه السلام حيث رفعه مكاناً علياً وقيل أوُلو العزم من
الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسلام
وآتينا عيسى ابن مَرْيَمَ البيِّنات الآياتِ الباهرةَ
والمعجزاتِ الظاهرةَ من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص
والإخبارِ بالمغيّبات أو الإنجيلَ
{وأيدناه} أي قويناه
{بِرُوحِ القدس} بضم الدال وقرىء بسكونها أي بالروح المقدسة
كقولك رجل صدق وهو روحُ عيسى وإنما وصفت بالقدس للكرامة أو
لأنه عليه السلام لم تضمه الأصلاب والأرحام والطوامث وقيل
بجبريلَ وقيل بالإنجيلِ كما مر وإفرادُه عليه السلام بما ذكر
لرد ما بين أهلِ الكتابين في شأنه عليه السلام من التفريط
والإفراط والآيةُ ناطقة بأن الأنبياءَ عليهم السلام متفاوتةُ
الأقدار فيجوزُ تفضيلُ بعضِهم على بعض ولكن بقاطع
{وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم} أي جاءوا من
بعد الرسلِ من الأمم المختلفة أي لو شاء الله عدم اقتتالهم ما
اقتتلوا بأن جعلَهم متفقين على اتباع الرسلِ المتفقةِ على كلمة
الحقِّ فمفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لكونه مضمونَ الجزاءِ على
القاعدة المعروفة وقيل تقديرُه ولو شاء هدى الناس جميعاً ما
اقتتل الخ وليس بذاك
{مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ} من جهة أولئك الرسلِ
{البينات} المعجزاتُ الواضحةُ والآياتُ الظاهرة الدالةُ على
حقية الحقِّ الموجبةِ لاتباعهم الزاجرةُ عن الإعراض عن سَننهم
المؤدِّي إلى الاقتتال فمِنْ متعلقةٌ باقتتل
{ولكن اختلفوا} استدراك من الشرطية أُشير به إلى قياس استثنائي
مؤلف من وضع نقيض مقدمها منتج لنقيض تاليها إلا أنه قد وُضع
فيه الاختلافُ موضعَ نقيضِ المقدم المترتب عليه للإيذان بأن
الاقتتالَ ناشئ من قِبَلهم لا من جهتِه تعالَى ابتداءً كأنه
قيل ولكن لم يشأ عدمَ اقتتالِهم لأنهم اختلفوا اختلافاً فاحشاً
{فَمِنْهُمْ مَّنْ آمن} بما جاءت به أولئك الرسل من البينات
وعلموا به
{وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} بذلك كفراً لا ارعواءَ له عنه فاقتضت
الحِكمةُ
(1/246)
254 - 255 البقرة عدمَ مشيئتِه تعالى لعدم
اقتتالِهم فاقتتلوا بموجبِ اقتضاءِ أحوالِهم
{وَلَوْ شَاء الله} عدمَ اقتتالهم بعد هذه المرتبة أيضاً من
الاختلاف والشقاق المستتبعين للاقتتال بحسب العادة
{مَا اقتتلوا} وما نبَض منهم عِرقُ التطاول والتعادي لما أن
الكل تحت ملَكوتِه تعالى فالتكريرُ ليس للتأكيد كما ظُن بل
للتنبيه على أن اختلافهم ذلك ليس موجب لعدم مشيئته تعالى لعدم
اقتتالهم كما يفهم ذلك من وضعه في الاستدراك موضعه بل هو
سبحانه مختار في ذلك حتى لو شاء بعد ذلك عدم اقتتالهم ما
اقتتلوا كما يفصح عنه الاستدراك بقوله عز وجل
{ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} أي من الأمور الوجودية
والعدمية التي من جملتها عدمُ مشيئته عدم اقتتالهم فإن الترك
أيضاً من جملة الأفعال أي يفعل ما يريد حسبما يريد من غيرِ أنْ
يوجبَه عليه موجب أو يمنعه منه مانع وفيه دليلٌ بيِّنٌ على أن
الحوادث تابعة لمشيئته سبحانه خيرا كان أو شرا إيماناً كان أو
كفراً
(1/247)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ
وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ}
في سبيل الله
{من ما رزقناكم} أي شيئاً مما رزقنا كموه على أن ما موصولةٌ
حُذف عائدُها والتعرضُ لوصوله منه تعالى للحث على الإنفاق كما
في قوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ
فِيهِ والمرادُ به الإنفاقُ الواجبُ بدلالة ما بعده من الوعيد
{مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ
خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة} كلمةُ مِن متعلقةٌ بما تعلقت به أختها
ولا ضمير فيه لاختلاف معنييهما فإن الأولى تبعيضيةٌ وهذه
لابتداء الغايةِ أي أنفِقوا بعضَ ما رزقناكم مّن قَبْلِ أَن
يَأْتِىَ يوم لا تقدِرون على تلافي ما فرّطتم فيه إذ لا
تبايُعَ فيه حتى تتبايعوا ما تُنفقونه أو تفتدون به من العذاب
ولا خُلةٌ حتى يسامحَكم به أخلاؤكم أو يُعينوكم عليه ولا
شفاعةٌ إِلاَّ لِمَنْ أذِنَ لَهُ الرحمن ورضِيَ له قولاً حتى
تتوسلوا بشفعاءَ يشفعون لكم في حطّ ما في ذمتكم وإنما رُفعت
الثلاثةُ مع قصد التعميم لأنها في التقدير جوابُ هل فيه بيعٌ
أو خلةٌ أو شفاعة وقرئ بفتح الكل
{والكافرون} أي والتاركون للزكاة وأشارة عليه للتغليظ والتهديد
كما في قوله تعالى ومن كَفَرَ مكانَ ومَنْ لم يحُجّ وللإيذان
بأن تركَ الزكاة من صفات الكفار قال تعالى وَوَيْلٌ
لّلْمُشْرِكِينَ الذين لا يؤتون الزكاة
{هُمُ الظالمون} أي الذين ظلموا أنفسَهم بتعريضها للعقاب
ووضعوا المالَ في غير موضعِه وصرفوه إلى غير وجهه
(1/247)
اللَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا
نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ
ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
{الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} مبتدأٌ وخبرٌ
أي هو المستحق للمعبودية لا غير وفي إضمارِ خبرِ لا مِثلَ في
الوجودِ أو يصِح أن يوجدَ خلافٌ للنحاة معروفٌ
{الحى} الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء وهو إما خبرٌ
ثانٍ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أو بدل من لا إله إلا هو أو بدلٌ
من الله أو صفة له ويعضُده القراءة بالنصب على المدح لاختصاصه
بالنعت
{القيوم} فَيْعولٌ من قام بالأمر إذا حفِظه أي دائمُ القيام
بتدبير الخلق وحفظه وقيل
(1/247)
هو القائمُ بذاته المقيمُ لغيره
{لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} السِنةُ ما يتقدم النومَ
من الفتور قال عديُّ بنُ الرقاعِ العاملي
وَسْنانُ أقصده النعاسُ فرنَّقت ... في عينه سِنةٌ وليس بنائمِ
والنومُ حالةٌ تعرِضُ للحيوان من استرخاء أعصابِ الدماغِ من
رُطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقِف المشاعرُ الظاهرةُ عن
الإحساس رأساً والمرادُ بيان انتفاءِ اعتراءِ شيءٍ منهما له
سبحانه لعدم كونهما من شأنه تعالى لا لأنهما قاصران بالنسبة
إلى القوة الإلهية فإنه بمعزل من مقامِ التنزيهِ فلا سبيلَ إلى
حمل النظم الكريمِ على طريقة المبالغةِ والترقي بناءً على أن
القادرَ على دفع السِنة قد لا يقدرُ على دفع النوم القويِّ كما
في قولك فلانٌ يقِظٌ لا تغلِبُه سِنةٌ ولا نوم وإنما تأخيرُ
النوم للمحافظة على ترتيب الوجودِ الخارجي وتوسيطُ كلمةِ لا
للتنصيص على شمول النفي لكلَ منهما كما في قوله عز وجل وَلاَ
يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً الآية وأما
التعبيرُ عن عدم الاعتراءِ والعُروضِ بعدم الأخذ فلمراعاة
الواقع إذ عُروضُ السِنةِ والنومِ لمعروضهما إنما يكون بطريق
الأخذِ والاستيلاء وقيلَ هو من باب التكميل والجملةُ تأكيدٌ
لما قبلها من كونه تعالى حياً قيوما فإن من يعتربه أحدُهما
يكونُ موقوفَ الحياةِ قاصراً في الحفظ والتدبيرِ وقيل استئنافٌ
مؤكدٌ لما سبق وقيل حال مؤكدةٌ من الضَّمير المستكِّنِ في
القيوم
{لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الارض} تقريرٌ لقيّوميّته
تعالى واحتجاجٌ به على تفرّده في الألوهية والمراد بما فيهما
ماهو أعمُّ من أجزائهما الداخلةِ فيهما ومن الأمور الخارجةِ
عنهما المتمكنة فيهما من العُقلاء وغيرِهم
{مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} بيانٌ
لكبرياء شأنه وأنه لا يدانيه أحدٌ ليقدِر على تغيير ما يريده
شفاعةً وضراعةً فضلاً عن أن يُدافعه عِناداً أو مُناصبةً
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي ما
قبلهم وما بعدهم أو بالعكس لأنك مستقبِلُ المستقبَل ومستدبِرُ
الماضي أو أمور الدنيا وأمور الآخرة أو بالعكس أوما يُحسّونه
وما يعقِلونه أو ما يدركونه ومالا يدركونه والضميرُ لما في
السموات والأرض بتغليب ما فيهما من العقلاء على غيرهم أو لما
دل عليه من ذا الذي من الملائكةِ والأنبياءُ عليهم الصلاة
والسلام
{وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ} أي من معلوماته
{إِلاَّ بِمَا شَاء} أن يعلموه وعطفُه على ما قبله لما أنهما
جميعاً دليلٌ على تفرّده تعالى بالعلم الذاتي التامِّ الدالِّ
على وحدانيته
{وسع كرسيه السماوات والارض} الكرسي ما يُجلَس عليه ولا يفضُلُ
عن مقعد القاعد وكأنه منسوبٌ إلى الكِرْس الذي هو المُلبَّد
وليس ثمةَ كُرسيٌّ ولا قاعد وإنما هو تمثيل لعظمةِ شأنه عز وجل
وسَعة سلطانه وإحاطةِ علمه بالأشياء قاطبةً على طريقة قولُه عز
قائلاً وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والارض جَمِيعاً
قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسموات مطويات بِيَمِينِهِ وقيل
كرسيُّه مجازٌ عن علمِه أخذاً من كرسيِّ العالِم وقيل عن مُلكه
أخذاً من كرسيّ المُلك فإن الكرسيَّ كلما كان أعظمَ تكون عظمةُ
القاعدِ أكثرَ وأوفرَ فعبر عن شمول علمه أو عن بسطةِ ملكه
وسلطانِه بسَعة كرسيِّه وإحاطته بالأقطار العلوية والسفلية
وقيل هو جِسمٌ بين يدي العرشِ محيطٌ بالسموات السبع لقوله صلى
الله عليه وسلم ما السمواتُ السبعُ والأرضونَ السبعُ مع الكرسي
إلا كحلقة في فلان وفضلُ العرشِ على الكرسيِّ كفضل تلك الفلاة
على تلك الحلقة ولعله الفلَكُ الثامن وعن الحسن البصريّ أنه
العرش
{وَلاَ يَؤُودُهُ} أي لا يُثقِله ولا يشُقُّ عليه
{حِفْظُهُمَا} أي حفظُ السموات والأرضِ وإنما لم يتعرَّضْ لذكر
ما فيهما لما أن حفظتهما مستتبعٌ لحفظه
{وَهُوَ العلى} المتعالى بذاته عن الأشياء والأنداد
{العظيم}
(1/248)
256 - البقرة الذي يُستحْقَر بالنسبة إليه
كلُّ ما سواه ولما ترى من انطواء هذه الآيةِ الكريمةِ على
أمهات المسائل الإلهية المتعلقةِ بالذات العليةِ والصفاتِ
الجلية فإنها ناطقةٌ بأنه تعالى موجودٌ متفردٌ بالإلهية متصفٌ
بالحياة واجبُ الوجود لذاته موجدٌ لغيره لما أن القيومَ هو
القائمُ بذاته المقيمُ لغيره منزَّهٌ عن التحيز والحلول مبرأٌ
عن التغير والفتور لا مناسبةَ بينه وبين الأشباح ولا يعتريه ما
يعتري النفوسَ والأرواحَ مالكُ المُلك والملكوتِ ومُبدعُ
الأصولِ والفروع ذو البطش الشديد لا يشفَع عنده إِلاَّ مَنْ
أذِن لَهُ فيه العالِمُ وحده بجميع الأشياء جليِّها وخفيِّها
كليِّها وجزئيِّها واسعُ الملك والقدرة لكل ما مِن شأنه أن
يُملَكَ ويُقدَرَ عليه لا يشُقّ عليه شاقٌّ ولا يشغَلُه شأنٌ
عن شأنٍ متعالٍ عما تناله الأوهامُ عظيمٌ لا تُحدق به الأفهام
تفردت بفضائلَ رائقةٍ وخواصَّ فائقة خلت عنها أخواتها قال صلى
الله عليه وسلم إن أعظمَ آيةٍ في القرآن آيةُ الكرسي من قرأها
بعث الله تعالى ملِكاً يكتُب من حسناته ويمحو من سيئاته إلى
الغد من تلك الساعة وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما قُرئت
هذه الآيةُ في دار إلا هجرتْها الشياطينُ ثلاثين يوماً ولا
يدخُلها ساحرٌ ولا ساحرةٌ أربعين ليلة ياعلي علِّمْها ولدَك
وأهلَك وجيرانَك فما نزلت آيةٌ أعظمُ منها وقال صلى الله عليه
وسلم مَنْ قرأ آيةَ الكرسيِّ في دُبُرِ كلِّ صلاة مكتوبةٍ لم
يمنعْه من دخول الجنةِ إلا الموتُ ولا يواظِبُ عليها إلا
صدِّيق أو عابدٌ ومن قرأها إذا أخذ مضجعَه أَمَّنَه الله تعالى
على نفسه وجارِه وجار جاره والابيات حوله وقال عليه الصلاة
والسلام سيدُ البشر آدمُ وسيد العربِ محمدٌ ولا فخرٌ وسيدُ
الفُرس سلمانُ وسيدُ الرومِ صُهيبٌ وسيدُ الحبشةِ بلالٌ وسيد
الجبال الطورُ وسيدُ الأيام يومُ الجمعة وسيد الكلام القرآن
وسيدُ القرآنِ سورةُ البقرة وسيدُ البقرةِ آيةُ الكرسي وتخصيص
سيادته صلى الله عليه وسلم للعرب بالذكر في أثناء تعدادِ
السيادات الخاصةِ لا يدل على نفي مادلت عليه الأخبارُ
المستفيضةُ وانعقد عليه الإجماعُ من سيادته صلى الله عليه وسلم
لجميع أفرادِ البشر
(1/249)
لَا إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ
اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
{لا إِكْرَاهَ فِى الدين} جملة مستأنفة جاء
بها إثرَ بيانِ تفرُّدِه سبحانه وتعالى بالشئون الجليلةِ
الموجبةِ للإيمان به وحده إيذاناً بأن مِنْ حق العاقل أن
لايحتاج إلى التكليف والإلزام بل يختارُ الدينَ الحقَّ من غير
ترددٍ وتلعثم وقيل هو خبرٌ في معنى النهي أي لا تُكرِهوا في
الدين فقيل منسوخٌ بقوله تعالى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ
عَلَيْهِمْ وقيل خاصٌّ بأهل الكتاب حيث حصَّنوا أنفسَهم بأداءِ
الجزية ورُوي أنه كان لأنصاريَ من بني سالمِ بنِ عوفٍ ابنان قد
تنصّرا قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم ثم قدِما المدينة
فلزِمهما أبوهما وقال والله لا أدَعُكما حتى تُسلما فأَبَيا
فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فخلاّهما
{قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} استئنافٌ تعليلي صُدّر بكلمة
التحقيقِ لزيادة تقريرِ مضمونِه كما في قوله عز وجل قَدْ
بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً أي إذ قد تبين بما ذُكر من
نعوته تعالى التي يمتنع توهُّمُ اشتراك غيرِه في شيء منهما
الإيمانُ الذي هو الرشدُ الموصل إلى السعادة الأبدية من الكفر
الذي هو الغيُّ المؤدي إلى الشقاوة السرمدية
{فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت}
(1/249)
هو بناءُ مبالغة من الطغيان كالمَلَكوت
والجَبَروت قُلب مكانُ عينه ولامِه فقيل هو في الأصل مصدر
وإليه ذهب الفارسيُّ وقيل اسمُ جنسٍ مُفرَدٍ مذكر وإنما الجمعُ
والتأنيثُ لإرادة الآلهةِ وهو رأيُ سيبويه وقيل هو جمعٌ وهو
مذهبُ المبرِّد وقيل يستوي فيه المُفرَد والجمعُ والتذكيرُ
والتأنيثُ أي فمن يعملْ إثرَ ما تميز الحقُّ من الباطل بموجب
الحُججِ الواضحةِ والآياتِ البينة ويكفرْ بالشيطان أو بالأصنام
أو بكل ماعبد من دونِ الله تعالَى أو صَدَّ عن عبادته تعالى
لِما تبيّن له كونُه بمعزل من استحقاق العبادةِ
{وَيُؤْمِن بالله} وحدَه لما شاهد من نعونة الجليلةِ المقتضيةِ
لاختصاص الألوهيةِ به عز وجل الموجبةِ للإيمان والتوحيدِ
وتقديمُ الكفرِ بالطاغوت على الإيمان به تعالى لتوقفه عليه فإن
التخليةَ متقدّمةٌ على التحلية
{فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} أي بالغَ في التمسُّك بها كأنه
وهو ملتبسٌ به يطلُبُ من نفسه الزيادةَ فيه والثباتَ عليه
{لاَ انفصام لَهَا} الفصم الكسر بغير إبانة كما أن القَصْم هو
الكسر بإبانة ونفيُ الأول يدل على انتفاءِ الثاني بالأولوية
والجملةُ إما استئنافٌ مقرِّر لما قبلَها من وَثاقة العُروة
وإما حالٌ من العروة والعاملُ استمسك أو من الضمير المستتر في
الوثقى ولها في حيز الخبر أي كائن لها والكلامُ تمثيلٌ مبنيٌّ
على تشبيه الهيئةِ العقليةِ المنتزَعةِ من ملازمة الاعتقادِ
الحقِّ الذي لا يحتمل النقيضَ أصلاً لثبوته بالبراهين النيِّرة
القطعية بالهيئة الحِسّية المنتزَعه من التمسُّك بالحبل
المُحْكَم المأمونِ انقطاعُه فلا استعارةَ في المفردات ويجوز
أن تكونَ العُروةُ الوثقى مستعارةً للاعتقاد الحقِّ الذي هو
الإيمانُ والتوحيدُ لا للنظر الصحيح المؤدّي إليه كما قيل فإنه
غيرُ مذكورٍ في حيز الشرط والاستمساكُ بها مستعاراً لِما ذكر
من الملازمة أو ترشيحاً للاستعارة الأولى
{والله سَمِيعٌ} بالأقوال
{عَلِيمٌ} بالعزائم والعقائدِ والجملةُ اعتراضٌ تذييلي حاملٌ
على الإيمان رادِعٌ عن الكفر والنفاق بما فيهِ من الوعدِ
والوعيدِ
(1/250)
اللَّهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
{الله وليُّ الذين آمنوا} أي مُعينُهم أو
متولي أمورِهم والمرادُ بهم الذين ثبت في علمه تعالى إيمانهم
في الجملة مالاأو حالاً
{يُخْرِجُهُم} تفسيرٌ للولاية أو خبرٌ ثانٍ عند من يجوز كونَه
جملة أو حال من الضمير في وليّ
{مِنَ الظلمات} التي هي أعمُّ من ظلمات الكفرِ والمعاصي
وظلماتِ الشُبَه بل مما في بعض مراتبِ العلوم الاستدلالية من
نوعِ ضعفٍ وخفاءٍ بالقياس إلى مراتبها القوية الجليةِ بل مما
في جميع مراتبِها بالنظر إلى مرتبة العِيان كما ستعرفه
{إِلَى النور} الذي يعمُّ نورَ الإيمان ونورَ الإيقان بمراتبه
ونورَ العِيان أي يُخرج بهدايته وتوفيقِه كلَّ واحد منهم من
الظُلمة التي وقع فيها إلى ما يقابلها من النور وإفراد النور
لوحده الحق كما أن جمعَ الظلمات لتعدد فنون الضلال
{والذين كَفَرُواْ} أي الذين ثبت في علمه تعالى كفرهم
{أولياؤهم} أي الشياطينُ وسائرُ المضلين عن طريق الحق
فالموصولُ مبتدأ وأولياؤُهم مبتدأٌ ثانٍ والطاغوتُ خبرُه
والجملةُ خبرٌ للأولِ والجملة معطوفة على ماقبلها ولعل تغييرَ
السبك للاحتراز عن وضع الطاغوتِ في
(1/250)
258 - البقرة مقابلة الاسم الجليل ولقصد
المبالغة بتكرير الإسناد مع الإيمان إلى التباين بين الفريقين
من كل وجهٍ حتى من جهة التعبير أيضاً
{يُخْرِجُونَهُم} بالوساوس وغيرِها من طرق الإضلال والإغواء
{مّنَ النور} الفِطري الذي جُبل عليه الناسُ كافةً أو من نور
البيناتِ التي يشاهدونها من جهة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم
بتنزيل تمكُّنِهم من الاستضاءة بها منزلةَ نفسِها
{إِلَى الظلمات} ظلماتِ الكفر والانهماكِ في الغي وقيل نزلت في
قوم ارتدّوا عن الإسلام والجملةُ تفسير لولاية الطاغوت أو خبرٌ
ثانٍ كما مر وإسنادُ الإخراجِ من حيث السببيةُ إلى الطاغوت لا
يقدَحُ في استناده من حيث الخلقُ إلى قدرته سبحانه
{أولئك} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة
وما يتبعه من القبائح
{أصحاب النار} أي ملابسوها وملازموها بسبب مالهم من الجرائم
{هُمْ فِيهَا خالدون} ما كثون أبداً
(1/251)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ
الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ
بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم
فِى رِبّهِ} استشهادٌ على ما ذكر من أن الكفَرةَ أولياؤُهم
الطاغوتُ وتقريرٌ له على طريقة قوله تعالى أَلَمْ تَرَ
أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ كما أن ما بعده استشهاد
على ولايته تعالى للمؤمنين وتقريرٌ لها وإنما بُدىء بهذا
الرعاية الاقترانِ بينه وبين مدلولِه ولاستقلاله بأمر عجيبٍ
حقيق بأن يُصدَّر به المقالُ وهو اجتراؤه على المُحاجّة في
الله عزوجل وما أتى بها في أثنائها من العظيمة المنادية بكمال
حماقته ولأن فيما بعده تعدداً وتفصيلاً يورث تقديمُه انتشار
النظم على أنه قد أشير في تضاعيفه إلى هداية الله تعالى أيضاً
بواسطة إبراهيمَ عليه السلام فإن ما يحكى عنه من الدعوة إلى
الحق وإدحاضِ حجةِ الكفار من آثار ولايته تعالى وهمزةُ
الاستفهامِ لإنكارِ النفي وتقريرِ المنفي أي ألم تنظُرْ أو ألم
ينتهِ علمُك إلى هذا الطاغوت المارد كيف تصدى لإضلال الناس
وإخراجهم من النور إلى الظلمات أي قد تحققت الرؤيةُ وتقرَّرت
بناءً على أن أمره منَ الظهورِ بحيثُ لا يكاد يخفى على أحد ممن
له حظٌّ من الخطاب فظهر أن الكفرة أولئك الطاغوتُ وفي التعرض
لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام تشريفٌ له
وإيذانٌ بتأييده في المُحاجة
{أَنْ آتاه الله الملك} أي لأن آتاه إياه حيث أبطره ذلك وحملَه
على المُحاجّة أو حاجه لأجله وضعاً للمُحاجّة التي هي أقبحُ
وجوهِ الكفر موضعَ ما يجبُ عليه من الشكر كما يقال عاديتني لأن
أحسنتُ إليك أو وقتَ أن آتاه الله وهو حجةٌ على من منع إيتاءَ
الله المُلك للكافر
{إِذْ قَالَ إبراهيم} ظرفٌ لحاجَّ أو بدلٌ من آتاه على الوجه
الأخير
{ربي الذي يُحيي ويميت} بفتح ياء ربي وقرئ بحذفها روى أنه صلى
الله عليه وسلم لما كسر الأصنام سجنه ثم أخرجه فقال من ربُّك
الذي تدعو إليه قال ربي الذي يُحيي ويميت أي يخلُق الحياةَ
والموتَ في الأجساد
{قَالَ} استئناف مبني على السؤال كأنه قيل كيف حاجّه في هذه
المقالة القوية الحقة فقيل قال
{أنا أحيى وأميت} رُوي أنه دعا برجلين فقتل أحد هما وأطلق
الآخر فقال ذلك
{قَالَ إبراهيم} استئنافٌ كما سلف كأنه قيل
(1/251)
259 - البقرة
فماذا قال إبراهيمُ لمن في هذه المرتبة من الحماقة وبماذا
أفحمه فقيل قال
{فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق} حسبما تقتضيه
مشيئتُه
{فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} إن كنت قادراعلى مثل مقدور اته
تعالى لم يلتفِتْ عليه السلام إلى إبطال مقالةِ اللعين إيذاناً
بأن بطلانها من الجلاءِ والظهورِ بحيث لا يكاد يخفى على أحد
وأن التصديَ لإبطالها من قبيل السعي في تحصيل الحاصل وأتى
بمثال لا يجد اللعين فيه مجالاً للتمويه والتلبيس
{فَبُهِتَ الذى كَفَرَ} أي صار مبهوتا وقرئ على بناء الفاعل
على أن الموصول مفعوله أي فغلب إبراهيمُ الكافر وأسكته وإيراد
الكفر في حيز الصلة للإشعار بعلة الحكم والتنصيص على كون
المحاجة كفراً
{والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} تذبيل مقرر لمضمون ما قبله
أي لا يهدي الذين ظلُموا أنفسَهم بتعريضِها للعذابِ المخلد
بسبب إعراضِهم عن قبول الهداية إلى مناهج الاستدلالِ أو إلى
سبيل النجاةِ أو إلى طريق الجنةِ يوم القيامة
(1/252)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ
أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ
اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ
قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ
لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ
لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ
آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ
نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ
قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(259)
{أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ} استشهادٌ
على ما ذكر من ولايته تعالى للمؤمنين وتقريرٌ لَهُ معطوفٌ على
الموصول السابق وإيثارُ أو الفارقةِ على الواو الجامعة
للاحتراز عن توهّم اتحادِ المستشهد عليه من أول الأمر والكاف
إما اسميةٌ كما اختاره قوم جيئ بها للتنبيه على تعدد الشواهد
وعدم انحصارِها فيما ذُكر كما في قولك الفعلُ الماضي مثلُ نصر
وإما زائدة كما ارتضاه آخرون والمعنى اولم ترى إلى مثل الذي أو
إلى الذي مرَّ على قرية كيف هداه الله تعالى وأخرجه من ظُلمة
الاشتباه إلى نور العِيان والشهود أي قد رأيت ذلك وشاهدت فإذن
لا ريبَ في أن الله وليُّ الذين آمنوا الخ هذا وأما جعلُ
الهمزةِ لمجرد التعجيبِ على أن يكون المعنى في الأول ألم تنظرُ
إلى الذي حاجّ الخ أي انظُر إليه وتعجبْ من أمره وفي الثاني أو
أرأيتَ مثلَ الذي مرَّ الخ إيذاناً بأن حالَه وما جرى عليه في
الغرابة بحيث لا يُرى له مَثَلٌ كما استقر عليه رأي الجمهور
فغيرُ خليقٍ بجزالة التنزيلِ وفخامة شأنه الجليل فتدبر
والمارُّ هو عُزيرُ بنُ شرخيا قاله قتادةُ والربيع وعِكْرِمةُ
وناجية بن كعب وسليمان بن يزيدَ والضحاك والسدى رضي الله عنهم
وقيل هو أرميا بن حلقيا من سبط هرون عليه السلام قاله وهب
وعبيدُ اللَّه بنُ عمير وقيل أرميا هو الخَضِرُ بعينه قال
مجاهد كان المارُّ رجلاً كافراً بالبعث وهو بعيد والقريةُ بيتُ
المقدِس قاله وهْبٌ وعكرِمة والربيع وقيل هي ديرُ هِرَقل على
شط دِجْلةَ قال الكلبي هي ديرُ سابر آباد وقال السدي هي ديار
سلما باد والأول هو الأظهر والأشهر رُوي إن بني إسرائيلَ لما
بالغوا في تعاطي الشرِّ والفسادِ وجاوزوا في العتوِّ والطغيانِ
كلَّ حدّ معتادٍ سلط الله تعالى عليهم بختنصر البابليَّ فسار
إليهم في ستمائة ألفِ رايةٍ حتى وطئ الشامَ وخرَّب بيتَ
المقدِس وجعل بني إسرائيلَ أثلاثاً ثلثٌ منهم قتلَهم وثلثٌ
منهم أقرهم بالشام وثلثٌ منهم سباهم وكانوا مائة ألف
(1/252)
259 - البقرة غلام يافعٍ وغيرِ يافع فقسمهم
بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل ملك منهم أربعة غِلمة
وكان عُزير من جملتهم فلما نجاه الله تعالى منهم بعد حين مرّ
بحماره على بيتَ المقدِس فرآه على أفظع مرأىً وأوحشَ منظرٍ
وذلك قوله عزوجل
{وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} أي ساقطة على سقوفها بأن
سقطت العروشُ ثم الحيطانُ من خوَى البيتُ إذا سقط أو من خوَت
الأرضُ أي تهدمت والجملةُ حالٌ من ضمير مر أومن قَرْيَةٌ عند
من يجوِّز الحالَ من النكرة مطلقاً
{قَالَ} أي تلهفاً عليها وتشوقاً إلى عِمارتها مع استشعار
اليأس عنها
{أنَّى يُحيِى هذه الله} وهي على مايرى من الحالة العجيبةِ
المباينة للحياة وتقديمُها على الفاعل للاعتناء بها من حيث أن
الاستعباد ناشىء من جهتها لامن جهة الفاعل وأنى نُصب على
الظرفية إن كانت بمعنى متى وعلى الحالية من هذه إن كانت بمعنى
كيف والعامل يُحيي وأيا ما كان فالمرادُ استبعادُ عمارتها
بالبناء والسكان من بقايا أهلها الذين تفرقوا أيديَ سَبَاْ ومن
غيرِهم وإنما عبر عنها بالإحياء الذي هو علَمٌ في البعد عن
الوقوع عادة تهويلا للخطاب وتأكيداً للاستبعاد كما أنه لأجله
عبر عن خرابها بالموت حيث قيل
{بَعْدَ مَوْتِهَا} وحيث كان هذا التعبيرُ معرِباً عن استبعاد
الإحياء بعد الموت على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه أراه الله عز وجل
آثِرَ ذي أثيرٍ أبعدَ الأمرين في نفسه ثم في غيره ثم أراه ما
استبعده صريحاً مبالغةً في إزاحة ما عسى يختلِجُ في خلَده وأما
حملُ إحيائها على إحياء أهلها فيأباه التعرُّضُ لحال القرية
دون حالهم والاقتصارَ على ذكر موتهم دون كونهم تراباً وعظاماً
مع كونه أدخلَ في الاستبعاد لشدة مباينتِه للحياة وغايةِ بعدِه
عن قَبولها على أنه لم تتعلقْ إرادتُه تعالى بإحيائهم كما
تعلقت بعمارتها ومعايية المارِّ لها كما ستحيطُ به خبرا
{فَأَمَاتَهُ الله} وألبثه على الموت
{مِاْئَةَ عَامٍ} رُوي أنه لما دخل القريةَ ربطَ حمارَه فطاف
بها ولم يرَ بها أحدا فقال ماقال وكانت أشجارُها قد أثمرت
فتناول من التين والعنب وشرِب من عصيره ونام فأماته الله تعالى
في منامه وهو شابٌّ وأماتَ حماره وبقيةُ تينِه وعِنَبه وعصيرِه
عنده ثم أعمى الله تعالى عنه عيونَ المخلوقاتِ فلم يرَه أحد
فلما مضى من موته سبعون سنةً وجّه الله عز وعلا ملِكاً عظيماً
من ملوك فارسَ يقال له يوشَكُ إلى بيت المقدس ليعمُرَه ومعه
ألفُ قهرمانٍ ثلثُمائة ألفِ عاملٍ فجعلوا يعمُرونه وأهلك الله
تعالى بُخْتَ نَصَّر ببعوضة دخلتْ دماغَه ونجى الله تعالى من
بقيَ من بني إسرائيلَ وردَّهم إلى بيت المقدِس وتراجَع إليه من
تفرق منهم في الأكناف فعمروه ثلاثين سنة وكثُروا وكانوا كأحسنِ
ما كانوا عليه فلما تمت المائةُ من موت عُزير أحياه الله تعالى
وذلكَ قولِه تعالى
{ثُمَّ بَعَثَهُ} وإيثارُه على أحياه للدلالة على سرعته
وسهولةِ تأتِّيه على البارئ تعالى كأنه بعثه من النوم للإيذان
بأنه أعاده كهيئته يومَ موته عاقلاً فاهماً مستعداً للنظر
والاستدلال
{قَالَ} استئنافٌ مبني على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قال له
بعد بعثه فقيل قال
{كَمْ لَبِثْتَ} ليُظهرَ له عجزة عن الإحاطة بشؤنه تعالى وأن
إحيائه ليس بعد مدة يسيرةٍ ربما يُتوَهم أنه هيِّنٌ في الجملة
بل بعد مدةٍ طويلةٍ وينحسِم به مادةُ استبعادِه بالمرة ويطلُع
في تضاعيفه على أمر آخرَ من بدائعِ آثارِ قُدرتِه تعالى وهو
إبقاءُ الغذاء المتسارعِ إلى الفساد بالطبع على ما كان عليه
دهراً طويلاً من غير تغيّرٍ ما وكم نُصبَ على الظرفية
مميِّزُها محذوفٌ أي كم وقتا لبثت والقائلُ هو اللَّهُ تعالى
أو ملَكٌ مأمورٌ بذلك من قِبَله تعالى قيل نُوديَ من السماء يا
عزيرُ كم لبثت بعد الموت
{قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}
(1/253)
قاله بناءً على التقريب والتخمين أو
استقصاراً لمدة لُبثِه وأما ما يقال من أنه مات ضُحىً وبُعث
بعد المائة قبيل الغروب فقال قبلَ النظرِ إلى الشمس يوماً
فالتفت إليها فرأى منها بقيةً فقال أو بعضَ يوم على وجه
الإضراب فبمعزلٍ من التحقيق إذ لاوجه للجزم بتمام اليوم ولو
بناءً على حُسبان الغروب لتحقق النُقصان من أوله
{قال} استئناف كما سلف
{بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} عطفٌ على مقدرٍ أي ما لبثتَ
ذلك القدرَ بل هذا المقدارَ
{فانظر} لتُعايِنَ أمراً آخرَ من دلائلِ قدرتنا
{إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} أي لم يتغيرْ في
هذه المدة المتطاولةِ مع تداعيه إلى الفساد رُوي أنه وجد تينَه
وعِنَبه كما جَنَى وعصيرَه كما عَصَر والجملة المنفيةُ حالٌ
بغير واو كقوله تعالى لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء إما من الطعام
والشراب وإفرادُ الضمير لجَرَيانهما مجرى الواحدِ كالغذاء وإما
من الأخير اكتفاءً بدلالة حالِه على حال الأول ويُؤيده قراءةُ
مَن قرأَ وهذا شرابُك لم يتسنه والهاء أصليةٌ أو هاءُ سَكْتٍ
واشتقاقُه من السنة لما أن لامها هاءٌ أو واوٌ وقيل أصلُه لم
يتسنّنْ من الحمأ المسنون فقلبت نونُه حرفَ علة كما في تقضى
البازي وقد جوز أن يكون معنى لم يتسنهْ لم يمرَّ عليه السنونَ
التي مرت لا حقيقةً بل تشبيهاً أي هو على حاله كأنه لم يلبث
مائة عام وقرئ لم يَسَّنَّهْ بإدغام التاء في السين
وانظر إلى حِمَارِكَ كيف نخِرَتْ عظامُه وتفرقت وتقطعت أوصالُه
وتمزقتْ ليتبين لك ماذكر من اللبث المديدِ وتطمئِنَّ به نفسُك
وقوله عز وجل
{ولنجعلك آية لِلنَّاسِ} عطفٌ على مقدر متعلقٍ بفعل مقدرٍ قبله
بطريق الاستئنافِ مقرِّرٌ لمضمون ما سبق أيْ فعلنَا ما فعلنَا
من إحيائك بعد ما ذكر لتُعايِنَ ما استبعَدْتَه من الإحياء بعد
دهرٍ طويلٍ ولنجعلَك آيةً للناس الموجودين في هذا القرنِ بأن
يشاهدوك وأنت من أهل القرونِ الخاليةِ ويأخذوا منك ما طُوِي
عنهم منذ أحقابٍ مِنْ علمِ التوراة كما سيأتي أو متعلقٌ بفعلٍ
مقدرٍ بعدَهُ أي ولنجعلك آية لهم على الوجه المذكور فعلنا ما
فعلنا فهو على التقديرين دليلٌ على ما ذكر من اللُبث المديدِ
ولذلك فُرِّق بينه وبين الأمرِ بالنظر إلى حماره وتكريرُ الأمر
في قوله تعالى
{وانظر إِلَى العظام} مع أن المرادَ عظامُ الحمار أيضاً لما أن
المأمور به أولاً هو النظرُ إليها من حيث دلالتها على ما ذكر
من اللُبث المديد وثانياً هو النظرُ إليها من حيث تعتريها
الحياةُ ومباديها أي وانظرْ إلى عظام الحمار لتشاهِدَ كيفيةَ
الإحياء في غيرك بعد ما شاهدتَ نفسَه في نفسك
{كَيْفَ نُنشِزُهَا} بالزاي المعجمة أي نرفَعُ بعضها إلى بعض
ويردها إلى أما كنها من الجسد فتركبها تركيباً لائقاً بها وقال
الكسائي نليها ونُعْظِمُها ولعل من فسره بنُحييها أراد
بالإحياء هذا المعنى وكذا من قرأ نُنْشِرُها بالراء من أَنْشَر
الله تعالى الموتى أي أحياها لا معناه الحقيقي لقوله تعالى
{ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} أي نستُرها به كما يُستر الجسدُ
باللباس وأما من قرأ نَنشُرُها بفتح النون وضم الشين فلعله
أراد به ضِدَّ الطيِّ كما قال الفراء فالمعنى كيف نبسُطها
والجملةُ إما حالٌ من العظام أي وانظُر إليها مركبةً مكسُوَّةً
لحماً أو بدلُ اشتمالٍ أي وانظُرْ إلى العظام كيفيةِ إنشازِها
وبسطِ اللحم عليها ولعل عدمَ التعرض لكيفية نفخِ الروحِ لما
أنها مما لا تقتضي الحِكمةُ بيانَه رُوي أنه نودي أيتها
العظامُ الباليةُ إن الله يأمرُك يأمرُك أن تجتمعي فاجتمعَ كل
جزء من أجزائها التي ذهبَ بها الطيرُ والسِّباعُ وطارت بها
الرياح من كل سهلٍ وجبلٍ فانظح بعضُها إلى بعض والتصق كلُّ
عضوٍ بما يليق به الضلع بالضلع والذراعُ بمحلها والرأسُ
بمَوْضِعها ثم الأعصابُ والعروق ثم انبسط عليه اللحم
(1/254)
260 - البقرة ثم الجلدُ ثم خرجت منه
الشعورُ ثمَّ نُفخ فيهِ الروحُ فإذا هو قائم ينهَقُ
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} أي ما دل عليه الأمرُ بالنظر إليه
من كيفية الإحياءِ بمباديه والفاء للعطف على مقدر يستدعيه
الأمرُ المذكور وإنما حذف للإيذان بظهور تحققِه واستغنائِه عن
الذكر وللإشعار بسرعة وقوعِه كما في قوله عز وجل فَلَمَّا
رَآهُ مُستقرّاً عِندَه بعد قوله أنا آتيك بِهِ قَبْلَ أَن
يَرْتَدَّ إليك طرفك كأنه قيل فأنشَزَها الله تعالى وكساها
لحماً فنظرَ إليها فتبيّن له كيفيتُه فلما تبين له ذلك أي اتضح
اتضاحاً تاماً
{قال أعلم أَنَّ الله على كُلّ شىء} من الأشياء التي من جملتها
ما شاهده في نفسه وفي غيره من تعاجيبِ الآثارِ
{قَدِيرٌ} لا يستعصى عليه أمرٌ من الأمور وإيثارُ صيغةِ
المضارعِ للدَلالة على أنَّ علمَه بذلك مستمِرٌّ نظراً إلى أن
أصلَه لم يتغيرْ ولم يتبدل بل إنما تبدل بالعيان وصفة إشعارٌ
بأنه إنما قال ما قال بناءً على الاستبعاد العادي واستعظاماً
للأمر وقد قيل فاعلُ تبيَّن مُضمرٌ يفسرُه مفعولُ أَعْلَمُ أي
فلما تبيّن له أَنَّ الله على كُلّ شئ قدير قال أعلم أَنَّ
الله على كُلّ شئ قدير فتدبر وقرئ تُبُيِّن له على صيغة
المجهول وقرئ قالَ اعْلَمْ على صيغة الأمر رُوي أنه ركب حماره
وأتى مَحَلّته وأنكره الناسُ وأنكر الناسَ وأنكر المنازلَ
فانطلق على وهْمٍ منه حتى أتى منزلَه فإذا هو بعجوزٍ عمياءَ
مُقعَدةٍ قد أدركت زمنَ عزيز فقال لها عزيز يا هذه هذا منزلُ
عزيز قالت نعم وأين ذكرى عزير قد فقدناه منذ كذا وكذا فبكت
بكاءً شديداً قال فإني عزيرٌ قالت سبحان الله أنى يكونُ ذلك
قال قد أماتني الله مائة عام ثم بعثني قالت إن عزيزا كان
مستجابَ الدعوة فادعُ الله لي يردُّ عليَّ بصري حتى أراك فدعا
ربه ومسَحَ بيده عينيها فصحَّتا فأخذ بيدها فقال لها قومي بإذن
الله فقامت صحيحةً كأنها نشِطَتْ من عِقالٍ فنظرت إليه فقالت
أشهدُ أنك عزيرٌ فانطلقت إلى مَحَلّة بني إسرائيلَ وهم في
أنديتهم وكان في المجلس ابنٌ لعزير قد بلغ مائة وثمانيَ عشْرةَ
سنةً وبنو بنيه شيوخ فنادت هذا عزيرٌ قد جاءكم فكذبوها فقالت
انظُروا فإني بدعائه رجعت إلى هذه الحالة فنهض الناسُ فأقبلوا
إليه فقال ابنه كان لأبي شامةٌ سوداءُ بين كتفيه مثل الهلال
فكسف فإذا هو كذلك وقد كان قتل بُختُ نَصَّرُ ببيت المقدس من
قرّاء التوراةِ أربعين ألفِ رجل ولم يكن يومئذ بينهم نسخةٌ من
التوراة ولا أحدٌ يعرفُ التوراةَ فقرأها عليهم عن ظهر قلبه من
غير أن يخْرِم منها حرفاً فقال رجل من أولاد المَسْبيّين ممن
ورد بيتَ المقدس بعد مهلِك بُختَ نَصَّرَ حدثني أبي عن جدي أنه
دفن التوراةَ يوم سُبينا في خابيةٍ في كَرْم فإن أرَيتُموني
كرمَ جدّي أخرجتُها لكم فذهبوا إلى كرم جدِّه ففتشوا فوجدوها
فعارضوها بما أملى عليهم عزيز عن ظهر القلب فما اختلفا في حرف
واحد فعند ذلك قالوا هو ابنُ الله تعالَى الله عن ذلكَ علواً
كبيراً
(1/255)
وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ
ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ
ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
{وَإِذْ قَالَ إبراهيم} دليلٌ آخرُ على
ولايته تعالى للمؤمنين وإخراجِه لهم مّنَ الظلمات إِلَى النور
وإنما لم يسلُك به مسلكَ
(1/255)
الاستشهاد كما قبله بأن يقال أو كالذي قال
ربِّ الخ لجَرَيان ذكره عليه السلام في أثناء المحاجة ولأنه
لادخل لنفسه عليه السلام في أصل الدليل كدأب عُزيرٍ عليه
السلام فإن ما جَرى عليهِ من إحيائه بعد مائةِ عامٍ من جملة
الشواهد على قدرته تعالى وهدايته والظرفُ منتصبٌ بمُضمرٍ
صُرِّح بمثله في نحوِ قولِه تعالى واذكروا إِذْ جعلنكم
خُلَفَاء أي واذكر وقتَ قوله عليه السلام وما وقع حينئذ من
تعاجيب صنعِ الله تعالى لتقِفَ على ما مر من ولايته تعالى
وهدايته وتوجيهُ الأمرِ بالذكر في أمثالِ هذهِ المواقعِ إلى
الوقت دون ما وقع فيه من الواقعات مع أنها المقصودة بالتذكير
لما ذُكر غير مرة من المبالغة في إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر
الوقت إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهانيِّ ولأن الوقتَ
مشتمِلٌ عليها مفصّلةً فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها بحيثُ
لا يشِذُّ عنها شئ مما ذكر عند الحكاية أو لم يُذْكَرْ كأنها
مشاهدةٌ عِياناً
{رَبّ} كلمة استعطافٍ قُدّمت بين يدي الدعاء مبالغةً في
استدعاء الإجابة
{أَرِنِى} من الرؤية البَصَرية المتعدِّية إلى واحدٍ وبدخول
همزةِ النقل طلبَتْ مفعولاً آخرَ هو الجملةُ الاستفهامية
المعلِّقةُ لها فإنها تعلِّق كما يُعلَّق النظرُ البصَريُّ أي
اجعلني مبصراً
{كيف تحيي الموتى} بأن تحيِيهَا وأنا أنظرُ إليها وكيف في محل
نصبٍ على التشبيه بالظرف عند سيبويه وبالحال عند الأخفش
والعاملُ فيها تحيي أي في أيِّ حال أو على أي حالٍ تحيي قال
القرطبيُّ الاستفهامُ بكيف إنما هو سؤال عن حال شئ متقررِ
الوجود عند السائلِ والمسئول فالاستفهام ههنا عن هيئة الإحياءِ
المتقرّر عند السائل أي بصِّرْني كيفيةَ إحيائِك للموتى وإنما
سأله عليه السلام ليتأيّد إيقانُه بالعِيان ويزدادَ قلبُه
اطمئناناً على اطمئنان وأما ما قيل من أن نمرودَ لما قال أنا
أحي وأميت قال إبراهيمُ عليه السلام إن إحياءَ الله تعالى
بردِّ الأرواح إلى الأجساد فقال نمرودُ هل عاينتَه فلم يقدِرْ
على أن يقول نعم فانتقل إلى تقريرٍ آخرَ ثم سأل ربه أن يُرِيَه
ذلك فيأباه تعليلُ السؤال بالاطمئنان
{قَالَ} استئناف كما مر غير مرة
{أو لم تُؤْمِن} عطفٌ على مقدرٍ أي ألم تعلمْ ولم تؤمنْ بأني
قادرٌ على الإحياء كيف أشاء حتى تسألنى إراءته قاله عز وعلا
وهو أعلم بأنه عليه السلام أثبتُ الناسِ إيماناً وأقواهم
يقيناً ليجيبَ بما أجاب به فيكون ذلك لطفاً للسامعين
{قَالَ بلى} علِمت وآمنتُ بأنك قادر على الإحياء على أي كيفية
شئت
{ولكن} سألت ما سألت
{لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} بمُضامَّة العِيانِ إلى الإيمان
والإيقان وأزدادَ بصيرةً بمشاهدته على كيفية معينة
{قَالَ فَخُذْ} الفاءُ لجواب شرطٍ محذوفٍ أي إنْ أردت ذلك فخُذ
{أَرْبَعَةً مّنَ الطير} قيل هو اسمٌ لجمعِ طائر كرَكْبٍ
وسَفْرٍ وقيل جمعٌ له كتاجرٍ وتَجْرٍ وقيل هو مصدرٌ سمي به
الجنسُ وقيل هو تخفيفُ طيّرٍ بمعنى طائر كهيْنٍ في هيّن ومِنْ
متعلقة بخُذ أو بمحذوف وقع صفة لأربعةً أي أربعةً كائنة من
الطير قيل هي طاوس وديكٌ وغرابٌ وحَمامةٌ وقيل نَسْرٌ بدلَ
الأخير وتخصيصُ الطير بذلك لأنه أقربُ إلى الإنسان وأجمعُ
لخواصِّ الحيوان ولسهولةِ تأتيِّ ما يُفعلُ به من التجزئة
والتفريق وغيرِ ذلك
{فَصُرْهُنَّ} من صارَه يصورُه أي أماله وقرئ بكسر الصاد من
صاره يَصيره أي أمِلْهن واضمُمْهن وقرئ فصُرَّهن بضم الصاد
وكسرها وتشديد الراء من صرَّه ويصره إذا جمعه وقرئ فصَرِّهِنّ
من التَّصْرية بمعنى الجمع أي اجمَعْهن
{إِلَيْكَ} لتتأملَها وتعرِفَ شِياتِها مفصَّلةً حتى تعلم بعد
الإحياءِ أن جزءاً من أجزائها لم ينتقِلْ من موضعه الأول أصلاً
روي أنه أُمر بأن يذبَحها وينتِفَ ريشها ويقطعها ويفرق
(1/256)
261 - 262 البقرة أجزاءها ويخلِطَ ريشها
ودماءَها ولحومها ويمسك رءوسها ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على
الجبال وذلكَ قولُه تعالى
{ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا} أي جزِّئهن
وفرِّق أجزاءَهن على ما بحضرتك من الجبال قيل كانت أربعة أجبُل
وقيل سبعة فجعل على كل جبل ربعا أوسبعا من كل طائر وقرئ
جُزُؤاً بضمتين وجُزّاً بالتشديد بطرح همزته تخفيفاً ثم
تشديدِه عند الوقف ثم إجراءِ الوصل مْجرى الوقف
{ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ} في حيز الجزمِ على أنَّه جوابُ
الأمر ولكنه بُني لاتصاله بنون جمع مؤنث
{سَعْيًا} أي ساعيات مسرعات أو ذواتِ سعيٍ طيراناً أو مشياً
وإنما اقتصر على حكاية أوامره عزَّ وجلَّ من غيرِ تعرضٍ
لامتثاله عليه السلام ولا لما ترتب عليه من عجائب آثارِ قدرتِه
تعالى كما روي أنه عليه السلام نادى فقال تعالَيْنَ بإذن لله
فجعل كلُّ جزءٍ منهن يطير إلى صاحبه حتى صارت جثثاً ثم أقبلْن
إلى رءوسهن فانضمَّتْ كلُّ جثةٍ إلى رأسها فعادت كلُّ واحدة
منهن إلى ما كانَتْ عليهِ من الهيئة للإيذان بأن ترتب تلك
الأمورِ على الأوامر الجليلةِ واستحالةَ تخلّفها عنها من
الجلاء والظهورِ بحيث لا حاجة له إلى الذكر أصلاً وناهيك
بالقصة دليلاً على فضل الخليل ويمن الضرعة في الدعاء وحُسنِ
الأدب في السؤال حيث أراه الله تعالى ما سأله في الحال على
أيسرِ ما يكونُ من الوجوهِ وأرى عزيرا ما أراه بعد ما أماته
مائةَ عام
{واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ} غالبٌ على أمره لا يعجزه شئ عما
يريده
{حَكِيمٌ} ذُو حكمةٍ بالغةٍ في أفاعيله فليس بناءُ أفعاله على
الأسباب العادية لعجزه عن إيجادها بطريق آخرَ خارقٍ للعادات بل
لكونه متضمناً للحِكَم والمصالح
(1/257)
مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ
مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
{مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِى
سَبِيلِ الله} أي في وجوه الخيرات من الواجب والنفل
{كَمَثَلِ حبة} لابد من تقرير مضافٍ في أحد الجانبين أي مَثلُ
نفقتِهم كمثلِ حبةً أو مَثلُهم كمَثلِ باذرِ حبة
{أَنبَتَتْ سَبْعَ سنابل} أي أخرجت ساقاً تشعّب منها سبعُ لكل
واحدة منها سنبلة
{فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ} كما يشاهَد ذلك في
الذُرة والدخن في الأراضي المغلة بل أكثر من ذلك وإسنادُ
الإنباتِ إلى الحبة مجازيٌ كإسناده إلى الأرض والربيع وهذا
التمثيلُ تصويرٌ للأضعاف كأنها حاضرةٌ بين يدَي الناظر
{والله يضاعف} تلك المضاعفةَ أو فوقها إلى ما شاء الله تعالى
{لِمَن يَشَاء} أن يضاعِفَ له بفضله على حسب حالِ المنفِق من
إخلاصه وتعبِه ولذلك تفاوتت مراتبُ الأعمال في مقادير الثواب
{والله واسع} لا يَضيقُ عليه ما يتفضّل به من الزيادة
{عَلِيمٌ} بنية المنفقِ ومقدارِ إنفاقِه وكيفيةِ تحصيلِ ما
أنفقه
(1/257)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا
أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
(262)
{الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سبيل الله}
جملة مبتدأ جئ بها لبيان كيفيةِ الإنفاق الذي بُيِّن فضلُه
بالتمثيل المذكور
{ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ}
(1/257)
أي ما أنفقوه أو إنفاقَهم
{مَنّا وَلا أَذًى} المن أن يَعتدَّ على مَنْ أحسن إليه
بإحسانه ويُريَه أنه أوجبُ بذلك عليه حقاً والأذى أن يتطاولَ
عليه بسبب إنعامه عليه وإنما قُدم المن لكثرة وقوعِه وتوسيطُ
كلمة لا للدَلالة على شمول النفي لإتباع كل واحدٍ منهما وثم
لإظهار علوِّ رتبة المعطوف قيل نزلت في عثمانُ رضيَ الله عنْهُ
حين جهز جيش العُسرة بألفِ بعير بأقتابها وأحلاسها وعبد الرحمن
ابن عوف رضيَ الله عنه حينَ اتى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم
بأربعة آلاف درهم صدقةً ولم يكد يخطر ببالهما شئ من المن
والأذى
{لَهُمْ أَجْرُهُمْ} أي حسبما وُعدَ لهم في ضمن التمثيل وهو
جملة مبتدأ وخبر وقعت خبرا عن الموصول وفي تكرير الإسناد
وتقييدِ الأجر بقوله عِندَ رَبّهِمْ من التأكيد والتشريفِ ما
لا يخفى وتخليةُ الخبر عن الفاءُ المفيدةُ لسببيةِ ما قبلَها
لما بعدَها للإيذانِ بأن ترتبَ الأجر على ما ذكر من الإنفاق
وتركَ إِتباعِ المن والأذى أمرٌ بين لا يحتاجُ إلى التَّصريحِ
بالسببية وأما إبهام أنهم أهلٌ لذلك وإن لم يفعلوا فكيف بهم
إذا فعلوا فيأباه مقامُ الترغيب في الفعل والحث عليه
{وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الدارين من لحوق مكروهٍ من
المكاره
{وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} لفوات مطلوبٍ من المطالب قلَّ أو
جلَّ أي لا يعتريهم ما يوجبه لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا
يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوفٌ وحزنٌ أصلاً بل
يستمرون على النشاط والسرورِ كيف لا واستشعارُ الخوفِ والخشيةِ
استعظاماً لجلال الله وهيبتِه واستقصاراً للجد والسعي في إقامة
حقوقِ العبوديةِ من خواص الخواصِّ والمقرَّبين والمرادُ بيانُ
دوامِ انتفائِهما لا بيانُ انفاء دوامِهما كما يُوهمه كونُ
الخبرِ في الجملة الثانية مضارعا لما أن النفيَ وإن دخل على
نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرارَ بحسب المقام
(1/258)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ
وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى
وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} أي كلام جميل تقبله
القلوبُ ولا تُنكِره يُرد به السائلُ من غير إعطاء شئ
{وَمَغْفِرَةٌ} أي سَترٌ لما وقع من السائل من الإلحاف في
المسألة وغيره مما يثقل على المسئول وصفحٌ عنه وإنما صح
الابتداءُ بالنكرة في الأول لاختصاصها بالوصف وفي الثاني
بالعطف أو بالصفة المقدرة أي ومغفرة كائنة من المسئول
{خَيْرٌ} أي للسائل
{مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} لكونها مشوبةً بضررِ ما
يتبعها وخلوصِ الأولَيْن من الضرر والجملة مستأنفةٌ مقرِّرة
لاعتبار ترك إتباعِ المن والأذى وتفسيرُ المغفرة بنيل مغفرةٍ
من الله تعالى بسبب الرد الجميل أو بعفو السائل بناءً على
اعتبار الخيرية بالنسبة إلى المسئول يؤدّي إلى أن يكون في
الصدقة الموصوفةِ بالنسبة إليه خيرٌ في الجملة مع بطلانها
بالمرة
{والله غَنِىٌّ} لا يُحوِجُ الفقراءَ إلى تحمل مؤنةِ المنِّ
والأذى ويرزقُهم من جهةٍ أخرى
{حَلِيمٌ} لا يعاجل أصحابَ المن والأذى بالعقوبة لا أنهم لا
يستحقونها بسببهما والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها مشتمِلٌ على
الوعد والوعيد مقرِّرٌ لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل
قطعاً
(1/258)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ
وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ
صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ}
(1/258)
265 - البقرة أقبل عليهم بالخطاب إثرَ بيان
ما بين بطريق الغَيبة مبالغةً في إيجاب العمل بموجب النهي
{لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى} أي لاتحبطوا أجرَها
بواحدٍ منهما
{كالذى} في محل النصب إما على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي
لاتبطلوها إبطالا كإبطال الذي
{يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء الناس} وإما على أنه حال من فاعل
لاتبطلوا أي لا تُبطلوها مشابهين الذي ينفق أي الذي يُبطل
إنفاقَه بالرياء وقيل من ضمير المصدر المقدر على ما هو رأى
سيبوبه وانتصابُ رئاءَ إما على أنه عِلةٌ لينفق أي لأجل رئائهم
أو على أنه حالٌ من فاعله أي ينفق ماله مرائياً والمراد به
المنافقُ لقوله تعالى
{وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} حتى يرجوا ثواباً أو يخشى
عقاباً
{فَمَثَلُهُ} الفاء لربط ما بعدها بما قبلها أي فمثل المرائي
في الإنفاق وحالته العجيبة
{كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} أي حَجَرٍ أملسَ
{عَلَيْهِ تراب} أي شئ يسير منه
{فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} أي مطرٌ عظيمُ القطر
{فتركه صلدا} ليس عليه شئ من الغبار أصلاً
{لاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْء مّمَّا كَسَبُواْ} لا ينتفعون بما
فعلوا رئاء ولا يجدون له ثواباً قطعاً كقوله تعالى
فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً والجملةُ استئنافٌ مبنيٌّ على
السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذا يكونُ حالُهم حينئذٍ فقيل لا
يقدِرون الخ ومن ضرورة كونِ مَثَلِهم كما ذُكر كونُ مَثَلِ من
يُشبِهُهم وهم أصحابُ المن والأذى كذلك والضميران الأخيران
للموصول باعتبار المعنى كما في قوله عز وجل وَخُضْتُمْ كالذي
خَاضُواْ لما أنَّ المرادَ به الجنسُ أو الجمعُ أو الفريق كما
أن الضمائرَ الأربعةَ السابقة له باعتبار اللفظ
{والله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين} إلى الخير والرشاد
والجُملة تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله وفيه تعريضٌ بأن
كلاًّ من الرياء والمنِّ والأذى من خصائص الكفارِ ولا بد
للمؤمنين أن يجتنبوها
(1/259)
وَمَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ
أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ
يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (265)
{وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم ابتغاء
مرضات الله} أي لطلب رضاه
{وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ} أي ولتثبيت بعضِ أنفسِهم على
الإيمان فمن تبعيضية كما في قولهم هزّ مِنْ عِطفه وحرك مِنْ
نشاطه فإن المالَ شقيقُ الروح فمن بذل مالَه لوجه الله تعالى
فقد ثبّت بعضَ نفسه ومن بذل مالَه وروحَه فقد ثبتها كلها أو
وتصديقا للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسِهم فمن ابتدائية
كما في قوله تعالى حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ويحتمل أن
يكون المعنى وتثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقةُ
الإيمان مخلصةٌ فيه ويعضُده قراءةُ مَن قرأَ وتبييناً من
أنفسهم وفيه تنبيهٌ على أن حكمةَ الإنفاق للمنفق تزكيةُ النفس
عن البخل وحبِّ المال الذي هو رأس كل خطيئة
{كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} الرَّبوة بالحركات الثلاث وقد
قرئت بها المكانُ المرتفع أي مثل نفقتهم في الزكاة كمثل بُستان
كائنٍ بمكان مرتفعٍ مأمونٍ من أن يصطلِمَه البردُ لِلطافة
هوائهِ بهبوب الرياحِ المُلطّفة له فإن أشجارَ الرُبا تكون
أحسنَ منظراً وأزكى ثمراً وأما الأراضي المنخفضةُ فقلما تسلم
ثمارُها من البرد لكثافة هوائِها بركود الرياحِ وقرئ كمثل حبةٍ
{أَصَابَهَا وَابِلٌ} مطر عظيمُ القطر
{فَأَتَتْ أكلها} ثمرتها وقرئ بسكون الكاف تخفيفاً
{ضِعْفَيْنِ} أي مِثليْ ما كانت تُثمر في سائر الأوقات بسبب ما
أصابها من
(1/259)
266 - البقرة الوابل والمرادُ بالضِعف
المِثْلُ وقيل أربعةُ أمثال ونصبُه على الحال من أُكُلُهَا أي
مضاعفاً
{فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} أي فطلٌ يكفيها
لجودتها وكَرَمِ منبتِها ولَطافةِ هوائِها وقيل فيصيبها طلٌّ
وهو المطرُ الصغيرُ القطرِ وقيل فالذي يصيبها طلٌّ والمعنى أن
نفقاتِ هؤلاءِ زاكيةٌ عندَ الله تعالَى لاَ تَضيعُ بحال وإن
كانت تتفاوتُ باعتبار ما يقارنها من الأحوال ويجوزُ أن يعتبر
التمثيلُ بين حالهم باعتبار ما صدَر عنهُم من النفقة الكثيرةِ
والقليلةِ وبين الجنة المعهودة باعتبار ماأصابها من المطر
الكثير واليسير فكما أنَّ كلَّ واحدٍ من المطرين يُضعِفُ
أُكُلَها فكذلك نفقتُهم جلّت أو قلَّت بعد أن يُطلَبَ بها وجهُ
الله تعالى زاكيةٌ زائدةٌ في زُلفاهم وحسنِ حالهم عند الله
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا يخفى عليه شئ منه وهو
ترغيبٌ في الإخلاص مع تحذير من الرياء ونحوه
(1/260)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ
ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ (266)
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} الوُدُّ حبُّ الشئ
مع تمنيه ولذلك يستعمل استعمالها والهمزةُ لإنكار الوقوعِ كما
في قوله أأضرب أبي لا لإنكارِ الواقعِ كَما في قولك أتضرب أباك
على أنَّ مناطَ الإنكارِ ليس جميعَ ما تعلّق به الوُدّ بل إنما
هو إصابةُ الإعصارِ وما يتبعُها من الاحتراق
{أَن تكون له جنة} وقرئ جناتٌ
{مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي كائنةٍ منهما على أن يكونَ
الأصلُ والركنُ فيها هذين الجنسينِ الشريفينِ الجامعين لفنون
المنافع والباقي من المستتبِعات لا على أنْ يكونَ فيها غيرُهما
كما ستعرِفه والجنَّةُ تطلق على الأشجار الملتفة المتكاثفة قال
زهير
كأنَّ عيني في غربيِّ مفتلة ... من النواضح تسفى جنَّةً
سُحُقاً
وعَلَى الأرضِ المشتملةِ عليها والأولُ هو الأنسبُ بقوله عز
وجل
تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار على الثاني لا بُدَّ من تقدير
مضافٍ أي من تحت وشجارها وكذا لابد من جعل إسناد الاحتراق
إليها فيما سيأتي مجازياً والجملةُ في محلِ الرفعِ على أنها
صفةُ جنةٍ كما أن قوله تعالى مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ كذلك أو
في محلِّ النصبِ على أنها حالٌ منها لأنها موصوفة
{لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات} الظرفُ الأولُ خبرٌ والثاني
حالٌ والثالثُ مبتدأ أي صفة للمبتدأ قائمة مَقامه أي له رزقٌ
من كل الثمرات كما في قوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ
مَقَامٌ مَّعْلُومٌ أي وما منَّا أحدٌ إلا له الخ وليس المرادُ
بالثمرات العمومَ بل إنما هو التكثيرُ كما في قوله تعالى
وَأُوتِيَتْ مِن كل شئ
{وَأَصَابَهُ الكبر} أي كِبَرُ السنِّ الذي هو مَظِنَّةُ
شدَّةِ الحاجة إلى منافعها ومئنة كمالِ العجز عن تدارك أسباب
المعايش والواو حالية أي وقد أصابه الكبر
{وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء} حالٌ من الضمير في أصابه أي أصابه
الكِبَرُ والحال أن له ذرية صغار لا يقدرون على الكسب وترتيب
مبادى المعاش وقرئ ضعاف
{فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} أي ريحٌ عاصفةٌ تستدير في الأرض ثم
تنعكس منها ساطعةً إلى السماء على هيئة العَمود
{فِيهِ نَارٌ} شديدةٌ
{فاحترقت} عطفٌ على فأصابها وهذا كما ترى تمثيلٌ لحال من يعمل
أعمالَ البرِّ والحسناتِ ويضُمُّ إليها ما يُحبِطُها من
القوادح ثم يجدُها يوم القيامة عند كمال حاجته إلى ثوابها
هباءً منثوراً في التحسر
(1/260)
267 - 268 البقرة والتأسّف عليها
{كذلك} توحيدُ الكاف مع كون المخاطَب جمعاً قد مر وجهُه مرارا
أي مثل البيان الواضحِ الجاري في الظهور مجرى الأمورِ المحسوسة
{يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} كي
تتفكروا فيها وتعتبروا بما فيها من العِبَر وتعملوا بموجبها
(1/261)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ
وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا
أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
حَمِيدٌ (267)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ
مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ} بيانٌ لحال ما يُنفَقُ منه إثرَ
بيانِ أصلِ الإنفاق وكيفيته أي أنفقوا من حلال ما كسبتم
وجيادِه لقوله تعالَى {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ
مِمَّا تُحِبُّونَ}
{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الارض} أي من طيبات ما
أخرجنا لكم من الحبوب والثمار والمعادِن فحذف لدلالة ما قبله
عليه
{وَلاَ تَيَمَّمُواْ} بفتح التاء أصله ولا تتيمموا وقرئ بضمها
وقرئ ولا تأَمّموا والكلّ بمعنى القصد أي لا تقصِدوا
{الخبيث} أي الردئ الخسيسَ وهو كالطيب من الصفات الغالبة التي
لا تُذكرُ موصوفاتها
{مِنْهُ تُنفِقُونَ} الجارُّ متعلق بتنفقون والضميرُ للخبيث
والتقديمُ للتخصيص والجملةُ حال من فاعل تيمّموا أي لا تقصدوا
الخبيث قاصرين الإنفاقَ عليه أو من الخبيث أي مختصًّا به
الإنفاق وأياما كان فالتخصيصُ لتوبيخهم بما كانوا يتعاطَوْنه
من إنفاق الخبيثِ خاصة لا لتسويغ إنفاقِه مع الطيب عن ابن عباس
رضي الله عنهما أنهم كانوا يتصدقون بحشَفِ التمر وشِرارِه
فنُهوا عنه وقيل متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الخبيث والضميرُ
للمال المدلول عليه بحسب المقام أو للموصولَين على طريقة قوله
... كأَنَّهُ فِي الجلدِ توليعُ البَهَقْ ...
أو للثاني وتخصيصُه بذلك لما أن التفاوتَ فيه أكثرُ وتنفقون
حال من الفاعل المذكور أي ولا تقصِدوا الخبيث كائناً من المال
أو مما كسبتم وما أخرجنا لكم أومما أخرجنا لكم منفِقين إياه
وقوله تعالى
{وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ} حال على كل حال من واو تنفقون أيْ
وَالحالُ أنكُم لاَ تأخذونه في معاملاتكم في وقتٍ من الأوقاتِ
أو بوجةٍ منِ الوجوهِ
{إِلا أَن تغمضوا فيه} أي إلاوقت إغماضكم فيه أو إلا بإغماضكم
فيه وهو عبارةٌ عن المسامحة بطريق الكتابة أو الاستعارة يقال
أغمضَ بصره إذا غضه وقرئ على البناءِ للمفعولِ على معنى إلا أن
تُحمَلوا على الإغماض وتدخُلوا فيه أو توجدوا مغمضين وقرئ
تغمضوا وتَغمُضوا بضم الميم وكسرها وقيل تم الكلامُ عند قوله
تعالى وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث ثم استُؤنف فقيل على طريقة
التوبيخ والتقريع منه تنفِقون والحالُ أنكم لاتأخذونه إلا إذا
أغمَضْتم فيه ومآلُه الاستفهامُ الإنكاريُّ فكأنه قيل أمِنْه
تنفقون الخ
{واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ} عن إنفاقكم وإنما يأمرُكم به
لمنفعتكم وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمِهم به توبيخٌ
لهم على مايصنعون من إعطاء الخبيث وإيذانٌ بأنَّ ذلك من آثار
الجهلِ بشأنه تعالى فإن إعطاءَ مثلِه إنما يكون عادةً عند
اعتقادِ المعطي أن الآخذَ محتاجٌ إلى ما يعطيه بل مضطرٌ إليه
{حَمِيدٌ} مستحِقٌّ للحمد على نعمه العِظام وقيل حامد بقبول
الجيّد والإثابة عليه
(1/261)
الشَّيْطَانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ
يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ (268)
{الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر} الوعدُ هو
الإخبارُ بما سيكون من جهة المخبِر مترتباً
(1/261)
269 - البقرة على شئ من زمان أو غيره
يُستعمل في الشر استعمالَه في الخير قال تعالى النار وَعَدَهَا
الله الذين كَفَرُواْ أي يعدُكم في الإنفاق الفقرَ ويقول إن
عاقبة إنفاقِكم أن تفتقِروا وإنما عبر عن ذلك بالوعد مع أن
الشيطان لم يضف مجئ الفقرِ إلى جهته للإيذان بمبالغته في
الإخبار بتحقق مجيئة كأنه نزوله في تقرّر الوقوعِ منزلةَ
أفعالِه الواقعةِ بحسب إرادته أو لوقوعه في مقابلة وعدِه تعالى
على طريقة المشاكلة وقرئ بضم الفاء والسكون وبضمتين وبفتحتين
{وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء} أي بالخَصلة الفحشاء أي ويغريكم على
البخل ومنع الصدقاتُ إغراءُ الآمرِ للمأمور على فعل المأمور به
والعربُ تسمي البخيلَ فاحشاً قال طرفةُ بن العبد
أرى الموتَ يعتامُ الكرامَ ويصطفي ... عقيلةَ مالِ الفاحشِ
المتشدِّدِ
وقيل بالمعاصي والسيِّئات
{والله يَعِدُكُم} أي في الإنفاق
{مَغْفِرَةٍ} لذنوبكم والجارُّ في قوله تعالى
{مِنْهُ} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفة لمغفرةً مؤكدةٌ لفخامتها التي
أفادها تنكيرُها أي مغفرةً أي مغفرة مغفرة كائنة منه عز وجل
{وفضلا} صفة محذوفةٌ لدلالة المذكور عليها كما في قولِه تعالى
فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مّنَ الله وَفَضْلٍ ونظائرِه أي وفضلاً
كائناً منه تعالى أي خلَفاً مما أنفقتم زائداً عليه في الدنيا
وفيه تكذيبٌ للشيطان وقيل ثواباً في الآخرة
{والله واسع} قدرةً وفضلاً فيحقق ما وعدكم به من المغفرة
وإخلافِ ما تنفقونه
{عَلِيمٌ} مبالِغٌ في العلمِ فيعلم إنفاقَكم فلا يكاد يُضيع
أجرَكم أو يعلمُ ما سيكون من المغفرة والفضل فلا احتمال
للخُلْف في الوعد والجملةُ تذييلٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله
(1/262)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ
مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
(269)
{يُؤْتِى الْحِكْمَةَ} قال مجاهد الحِكمةُ
هي القرآنُ والعلمُ والفِقهُ روي عن ابن نجيح أنها الإصابة في
القول والعمل وعن إبراهيم النخعي أنها معرفة معاني الأشياء
وفهمُها وقيل هي معرفةُ حقائِقِ الأشياءِ وقيل هي الإقدامُ على
الأفعال الحسنةِ الصائبة وعن مقاتل أنها تفسر في القرآن بأربعة
أوجهٍ فتارةً بمواعظِ القرآنِ وأخرى بما فيه من عجائب الأسرار
ومرةً بالعلم والفهم وأخرى بالنبوة ولعل الأنسبَ بالمقام ما
ينتطم الأحكامَ المبينة في تضاعيفِ الآياتِ الكريمةِ من أحد
الوجهين الأولين ومعنى إيتائِها تبيينُها والتوفيقُ للعلم
والعمل بها أي بينها ويوفِّقُ للعلم والعمل بها
{من يشآء} من عباده أن يؤتيها إياه بموجب سعةِ فضلِه وإحاطةِ
علمه كما آتاكم ما بيّنه في ضمن الآي من الحِكَم البالغة التي
يدور عليها فلَكُ منافعِكم فاغتنموها وسارعوا إلى العمل بها
والموصولُ مفعول أول ليؤتي قدم عليه الثاني للعناية به
والجملةُ مستأنفة مقرّرةٌ لمضمون ما قبلها
{وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} على بناء المفعول وقرئ على البناء
للفاعل أي ومن يؤتهِ اللَّهُ الحكمةَ واظهار في مقام الإضمارِ
لإظهار الاعتناءِ بشأنها وللإشعار بعِلة الحِكم
{فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} أي أيَّ خيرٍ كثير فإنه قد
خِيرَ له خيرُ الدارين
{وَمَا يَذَّكَّرُ} أي وما يتعظ بما أوتي من الحكمة أو وما
يتفكر فيها
{إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} أي العقولِ الخالصةِ عن شوائب
الوهم والرّكونِ إلى مشايعة الهوى وفيهِ من الترغيبِ في
المحافظة على الأحكام الواردةِ في شأن الإنفاق مالا يخفى
والجملةُ إما حالٌ أو اعتراض تذييلي
(1/262)
270 - 271 البقرة
(1/263)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ
مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
{وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ} بيانٌ
لحكمٍ كلي شاملٍ أفراد النفقاتِ وما في حكمها إثرَ بيانِ حكمِ
ما كان منها فِى سَبِيلِ الله وَمَا إما شرطيةٌ أو موصولةٌ
حُذف عائدُها من الصلة أي وما أنفقتموه من نفقة أي أيِّ نفقةٍ
كانت في حق أو باطلٍ في سرَ أو علانية قليلةٍ أو كثيرة
{أَوْ نَذَرْتُم} النذرُ عقدُ الضمير على شئ والتزامُه وفعلُه
كضرب ونصر
{مّن نَّذْرٍ} أيِّ نذرٍ كان في طاعةٍ أو معصية بشرطٍ أو بغير
شرط متعلقٍ بالمال أو بالأفعال كالصيامِ والصلاةِ ونحوهما
{فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} الفاء على الأول داخلةٌ على الجواب
وعلى الثاني مزيدةٌ في الخبر وتوحيدُ الضمير مع تعدّدِ متعلَّق
العلم لاتحاد المرجع بناءً على كون العطف بكلمة أو كما في قولك
زيدٌ أو عمرٌو أكرمتُه ولا يقال أكرمتهما ولهذا صير إلى
التأويل في قوله عز وعلا وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً
انفضوا إِلَيْهَا وأخرى إلى المؤخَّر رعايةً للقُرب كما في هذه
الآية الكريمةِ وفي قولِه تعالى وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ
إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً وحملُ النظم على تأويلها
بالمذكور ونظائِره أو على حذف الأول ثقةً بدلالة الثاني عليهِ
كَما في قوله تعالى والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ
يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله وقوله
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأيُ مختلفُ
ونحوِهما مما عُطف فيه بالواو الجامعةِ تعسفٌ مستغنىً عنه نعم
يجوز إرجاعُ الضمير إلى مَا على تقدير كونها موصولة وتصديرُ
الجملة بإن لتأكيدِ مضمونِها إفادةً لتحقيق الجزاء فإنه تعالى
يجازيكم عليه ألبتةَ إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرًّا فشرٌّ فهو
ترغيبٌ وترهيب ووعدٌ ووعيد
{وَمَا للظالمين} بالإنفاق والنذر في المعاصي أو بمنع الصدقاتِ
وعدمِ الوفاء بالنذر أو بإنفاق الخبيثِ أو بالرياء والمنِ
والأذى وغيرِ ذلك ما ينتظمُه معنى الظلم الذي هو عبارة عن وضع
الشئ في غير موضعِه الذي يحِقُّ أن يوضعَ فيه
{مِنْ أَنصَارٍ} أي أعوان ينصرونهم من بأس الله وعقابه لاشفاعه
ولا مدافعةً وإيرادُ صيغة الجمع لمقابلة الظالمين أي وما لظالم
من الظالمين نصيرٍ من الأنصار والجملةُ اسئناف مقرِّرٌ لما
فيما قبله من الوعيد مفيد لفظاعة حالِ مَنْ يفعل ما يفعل من
الظالمين لتحصيل الأعواذ ورعاية الخُلاّن
(1/263)
إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا
الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
{إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ}
نوعُ تفصيلٍ لبعض ما أُجمل في الشرطية وبيان له ولذلك تُرك
العطف بينهما أي إن تُظهِروا الصدقاتِ فنِعمَ شيئاً إبداؤُها
بعد أن لم يكن رياء وسمعه وقرئ بفتح النون وكسر العين على
الأصل وقرئ بكسر النون وسكون العين وقرئ بكسر النون وإخفاءِ
حركة العين وهذا في الصدقات المفروضة وأما في صدقة التطوعِ
فالإخفاءُ أفضلُ وهي التي أريدتْ بقولِه تعالى
{وَإِن تُخْفُوهَا} أي تعطوها خُفية
{وَتُؤْتُوهَا الفقراء} ولعل التصريحَ بإيتائها الفقراءَ مع
أنه واجبٌ في الإبداء أيضاً لما أن الإخفاءَ مظِنةُ الالتباسِ
والاشتباه فإن الغنيَّ ربما يدّعي الفقرَ ويُقدمُ على قَبول
الصدقةِ سرا ولا
(1/263)
272 - البقرة يفعل ذلك عند الناس
{فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي فالإخفاءِ خيرٌ لكم من الإبداء
وهذا في التطوع ومن لم يعرف بالمال وأما في الواجب فالأمرُ
بالعكس لدفع التهمة عن ابن عباس رضي الله عنهما صدقةُ السر في
التطوع تفضُل علانيتها سبعين ضعفاً وصدقة الفريضة علا نيتها
أفضلُ من سرّها بخمسة وعشرين ضِعفاً
{وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ} أي والله يكفر أو
الإخفاء ومن تبعيضية أي شيئاً من سيئاتكم كما سترتموها وقيل
مزيدةٌ على رأي الأخَفْشِ وقرئ بالتاء مرفوعاً ومجزوماً على ان
الفعل للصدقات وقرئ بالنون مرفوعاً عطفاً على محل ما بعد الفاء
أو على أنَّه خبرُ مبتدإٍ محذوف أي ونحن نكفرُ أو على أنها
جملةٌ مبتدأةٌ من فعل وفاعل وقرئ مجزوماً عطفاً على محل الفاء
وما بعده لأنه جوابُ الشرط
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ} من الإسرار والإعلان
{خَبِيرٌ} فهو ترغيب في الإسرار
(1/264)
لَيْسَ عَلَيْكَ
هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ
إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
{لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} أي لا يجب
عليك أن تجعلهم مهدبين إلى الإتيان بما أُمروا به من المحاسن
والانتهاءِ عمَّا نُهوا عنهُ من القبائح المعدودة وإنما
الواجبُ عليك الإرشادُ إلى الخير والحثُ عليه والنهيُ عن الشر
والردعُ عنه بما أُوحِىَ إِلَيْكَ من الآياتِ والذكرِ الحكيم
{ولكن الله يَهْدِى} هدايةً خاصَّةً موصِلةً إلى المطلوب حتماً
{مَن يَشَآء} هدايتَه إلى ذلك ممن يتذكر بما ذُكّر ويتبعُ الحق
ويختار الخيرَ والجملةُ معترضة جيء بها على تلوينِ الخطابِ
وتوجيهِه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الالتفات إلى
الغَيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بالمكلفين مبالغةً في
حملهم على الامتثال فإن الإخبارَ بعدم وجوب تدارُك أمرِهم على
النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم مُؤْذنٌ بوجوبه عليهم حسبما
ينطِق به ما بعده من الشرطية وقيل لما كثُر فقراءُ المسلمين
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلمين عن التصدق على
المشركين كي تحمِلَهم الحاجة على الدخول في الإسلام فنزلت أي
ليس عليك هُدى مَنْ خالفك حتى تمنعَهم الصدقةَ لأجل دخولهم في
الإسلام فلا التفاتَ حينئذٍ في الكلام وضميرُ الغيبة للمعهودين
من فقراءِ المشركين بل فيه تلوينٌ فقط وقوله تعالى
{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} على الأول التفات من الغيبة
إلى خطاب الملكفين لزيادة هزّهم نحو الامتثال وعلى الثاني
تلوينٌ للخطاب بتوجيهه إليهم وصرفهِ عنِ النبيِّ صلَّى الله
عليه وسلم وما شرطيةٌ جازمةٌ لتنفقوا منتصبةٌ به على المفعولية
ومن تبعيضيةٌ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ صفة لاسم الشرط مبيّنةٌ
ومخصصةٌ له أي أيِّ شئ تنفقوا كائنٌ من مال
{فَلاِنفُسِكُمْ} أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيرُكم فلا تمنوا
على من أعطيتموه ولا تؤذوه ولا تنفقوا من الخبيث أو فنفعُه
الدينيَّ لكم لا لغيركم من الفقراء حتى تمنعوه ممن لا ينتفع به
من حيث الدينُ من فقراء المشركين
{وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله} استثناءٌ من أعم
العللِ أو أعم الأحوال أي ليست نفقتكم لشئ من الأشياء
إلالابتغاء وجه الله أو ليست في حالٍ من الأحوالِ إلا حال
ابتغاء وجه الله فما بالُكم تمنون بها وتنفقون الخبيثَ الذي لا
يوجد مثلُه إلى الله تعالى وقيل هو في معنى النهي
{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي أجرُه
وثوابُه أضعافاً مضاعفة حسبما فُصّل فيما قبلُ فلا عذرَ لكم في
أن ترغبوا عن أنفاقه
(1/264)
273 - 274 البقرة على أحسن الوجوهِ وأجملها
فهو تأكيد وبيانٌ للشرطية السابقة أو يوفَّ إليكم ما يُخلِفُه
وهو من نتائج دعائه عليه السلام بقوله اللَّهم اجعل للمنفق
خلفا وللمسك تلفاً وقيل حجت أسماءُ بنتِ أبي بكرٍ فأتتها
أمُّها تسألها وهي مشركة فأبت أن تعطِيَها وعن سعيد بنِ جبير
أنهم كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين وروي أن
ناساً من المسلمين كانت لهم أصهارٌ في اليهود ورَضاعٌ كانوا
ينفقون عليهم قبل الإسلام فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوهم فنزلت
وهذا في غير الواجب وأما الواجب فلا يجوز صرفُه إلى الكافر وإن
كان ذميًّا
{وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} لا تنقصون شيئاً مما وُعدتم من
الثواب المضاعف أو من الخلَف
(1/265)
لِلْفُقَرَاءِ
الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ
مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ
النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ
اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
{لِلْفُقَرَاء} متعلقٌ بمحذوفٍ ينساقُ إليه
الكلامُ كما في قوله عز وجل {في تسع آيات إلى فرعون} أي
اعمِدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء أو صدقاتِكم
للفقراء
{الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله} بالغزو والجهاد
{لاَ يستطيعون} لاشتعغالهم به
{ضَرْبًا فِى الارض} أي ذهاباً فيها للكسب والتجارة وقيل هم
أهلُ الصفة كانوا رضي الله عنهم نحواً من أربعمائة من فقراء
المهاجرين يسكنون صُفّة المسجدِ يستغرقون أوقاتَهم بالتعلم
والجهاد وكانوا يخرجون في كل سَريةٍ بعثها رسول الله صلى الله
عليه وسلم
{يَحْسَبُهُمُ الجاهل} بحالهم
{أَغْنِيَاء مِنَ التعفف} أي من أجل تعفّفهم عن المسألة
{تَعْرِفُهُم بسيماهم} أي تعرِف فقرَهم واضطرارهم بما تعايِنُ
منهم من الضعف ورَثاثةِ الحال والخطابُ للرسول عليه السلام أو
لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب مبالغةً في بيان وضوحِ فقرهم
{لاَ يسألون الناس إلحافاً} أي إلحاحاً وهو أن يلازِمَ السائلُ
المسئول حتى يعطيَه من قولهم لَحفني من فضل لِحافِه أي أعطاني
من فضل ما عنده والمعنى لا يسألونهم شيئاً وإن سألوا لحاجةٍ
اضْطَرَّتهم إليه لم يُلِحّوا وقيل هو نفيٌ لكلا الأمرين
جميعاً على طريقةِ قولِه ... على لا حب لا يُهتدَى لمنارهِ ...
أي لا منارَ ولا اهتداء
{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ}
فيجازيكم بذلك أحسن جزاء فهو ترغيبٌ في التصدق لاسيما على
هؤلاء
(1/265)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
{الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار
سِرّا وَعَلاَنِيَةً} أي يعُمّون الأوقاتَ والأحوالَ بالخير
والصدقة وقيل نزلت في شأن الصدِّيقِ رضيَ الله عنه حيث تصدّق
بأربعينَ ألفَ دينارٍ عشرةَ آلافٍ منه بالليل وعشرة بالنهار
وعشرةٌ سراً وعشرةٌ علانية وقيل في عليَ رضيَ الله عنه حين لم
يكن عنده إلا أربعةُ دراهمَ فتصدق بكل واحد منها على وجهٍ من
الوجوه المذكورة ولعل تقديمَ الليل على النهارِ والسرّ على
العلانية للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار وقيل في رباط
الخيل والإنفاق عليها
{فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ} خبرٌ للموصول والفاء
للدلالة على سببية ما قبلَها لما بعدَها وقيل للعطف والخبر
محذوف أي ومنهم الذين الخ ولذلك جوز
(1/265)
275 - البقرة الوقفُ على علانية
{وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} تقدم تفسيره
(1/266)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي
يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى
اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (275)
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الربا} أي يأخُذونه
والتعبيرُ عنه بالأكل لما أنه معظم ما قُصد به ولشيوعه في
المطعومات مع ما فيه من زيادة تشنيعٍ لهم وهو الزيادةُ في
المقدار او الأجل حسبما فُصّل في كتب الفقه وإنما كتب بالواو
كالصلوة على لغة من يفخّم في أمثالها وزيدت الألفُ تشبيهاً
بواو الجمع
{لاَ يَقُومُونَ} أي من قبورهم إذا بُعثوا
{إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان} أي إلا
قياماً كقيام المصروعِ وهو وارد على ما يزعُمون أن الشيطانَ
يخبِط الإنسانَ فيُصرعُ والخبطُ الضربُ بغير استواء خبط
العشواء
{مِنَ المس} أي الجنون وهذا أيضاً من زَعَماتهم أن الجِنيَّ
يمَسّه فيختلِط عقلُه فلذلك يقال جُنَّ الرجل وهو متعلقٌ بما
قبلَه من الفعل المنفى أي لايقومون من المس الذي بهم بسبب
أكلِهم الربا أو بيقوم أو بيتخبّطه فيكون نهوضهم وسقوطهم
كالمصروعين لالاختلال عقولِهم بل لأن الله تعالى أربى في
بطونهم ما أكلوا من الربا فأثقلهم فصاروا مُخْبَلين ينهضون
ويسقطون تلك سيماهم يُعرَفون بها عند أهل الموقف
{ذلك} إشارة إلى ما ذكر من حالهم وما في إسمِ الإشارةِ من معنى
البعد للإيذان بفظاعة المشارِ إليه
{بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} أي ذلك
العقابُ بسبب أنهم نَظَموا الربا والبيعَ في سلك واحدٍ
لإفضائهما إلى الربح فاستحلوه كاستحلاله وقالوا يجوز بيعُ
درهمٍ بدرهمين كما يجوز بيعُ ما قيمتُه درهمٌ بدرهمين بل جعلوا
الربا أصلاً في الحِل وقاسوا به البيعَ مع وضوح الفرق بينهما
فإن أحدَ الدرهمين في الأول ضائعٌ حتماً وفي الثاني منجبرٌ
بمِساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقّع رَواجها
{وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} إنكارٌ من جهة الله
تعالى لتسويتهم وإبطالٌ للقياس لوقوعه في مقابلة النص مع ما
أشيرَ إليهِ من عدم الاشتراك في المناطِ والجملةُ ابتدائيةٌ لا
محلَّ لها من الإعراب
{فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ} أي فمن بلغه وعظٌ وزجرٌ كالنهي عن
الربا وقرئ جاءتْه
{مّن رَّبّهِ} متعلق بجاءه أو بمحذوف وقعَ صفة لموعظةٌ
والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة للإشعار بكون مجيءِ
الموعظةِ للتربية
{فانتهى} عطفٌ على جاءه فاتّعظَ بلا تراخٍ وتبِعَ النهيَ
{فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي ما تقدم أخذُه قبل التحريم ولا يسترده
منه وما مرتفعٌ بالظرف إنْ جُعلت مَنْ موصولةً وبالابتداء إن
جُعلت شرطيةً على رأي سيبويهِ لعدم اعتماد الظرفِ على ما قبله
{وَأَمْرُهُ إِلَى الله} يجازيه على انتهائه إن كان عن قَبول
الموعظةِ وصِدْقِ النية وقيل يَحْكُم في شأنه ولا اعتراضَ لكم
عليه
{وَمَنْ عَادَ} أي إلى تحليل الربا
{فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مِنْ عَادٍ والجمعُ باعتبارِ
المَعْنى كَما أنَّ الإفرادَ في عاد باعتبار اللفظ وما فيه من
معنى البُعد للإشعارِ ببُعد منزلتِهم في الشر والفساد
{أصحاب النار} أيْ مُلازمُوهَا
{هم فيها خالدون} ما كثون فيها أبداً والجملةُ مقررة لما قبلها
(1/266)
276 - 277 278 279 البقرة
(1/267)
يَمْحَقُ اللَّهُ
الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ
كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
{يَمْحَقُ الله الربا} أي يذهب ببركته
ويُهلِكُ المالَ الذي يدخُل فيه
{وَيُرْبِى الصدقات} يُضاعفُ ثوابَها ويبارُك فيها ويزيدُ
المالَ الذي اخرجت منه الصدقةَ ويُربيها كما يربّي أحدكم مهره
وعنه عليه الصلاة والسلام ما نقصت زكاة من مال قطُّ
{والله لاَ يُحِبُّ} أي لا يرضى لأن الحبَّ مختصٌّ بالتوابين
{كُلَّ كَفَّارٍ} مُصِرَ على تحليل المحرَّمات
{أَثِيمٍ} مُنهمِكٍ في ارتكابه
(1/267)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
{إن الذين آمنوا} بالله ورسوله وبما جاءهم
{وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وآتوا الزكاة}
نخصيصهما بالذكر مع انداراجهما في لاصالحات لإنافتهما على سائر
الأعمالِ الصالحة على طريقة ذكرِ جبريلَ وميكالَ عَقيبَ
الملائكةِ عليهم السلام
{لَهُمْ أَجْرُهُمْ} جملةٌ من مبتدإٍ وخبر واقعةٌ خبراً لإنَّ
أي لهم أجرُهم الموعودُ لهم وقوله تعالى
{عِندَ رَبّهِمْ} حال من أجرهم وفي التعرض لعنوان الربوبية مع
الإفاضة إلى ضميرهم مزيد لطف وتشريفٍ لهم
{وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من مكروه آتٍ
{وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} من محبوب فات
(1/267)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ
الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اتقوا الله}
أي قوا أنفسَكم عقابَه
{وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا} أي واتركوا بقايا ما شرطنم
منه على الناس تركاً كلياً
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} على الحقيقة فغن ذلك مستلزِمٌ
لامتثال ما أُمِرْتم به اْلبتةَ وهو شرطٌ حُذفَ جوابُه ثقةً
بما قبله أي إن كنتم مؤمنين فاتقوا وذرُوه الخ رُوي أنه كان
لثقيفٍ مالٌ على بعض قريشٍ فطالبوهم عند المَحِلّ بالمال
والربا فنزلت
(1/267)
فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا
تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} أي ما أُمرتم
بهِ منَ الاتقاء وتركِ البقايا إما مع إنكار حُرمتِه وإما مع
الاعتراف بها
{فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} أي فاعلَموا بها
من أذن بالشئ إذا علِمَ به أما على الأول فكَحربِ المرتدين
وأما على الثاني فكحرب البغاة وقرئ فآذِنوا أي فأَعْلموا
غيرَكم قيل هو من الأذان وهو الاستماع فإنه من طرق العلم وقرئ
فأيقِنوا وهو مؤيِّد لقراءة العامة وتنكيرُ حربٍ للتفخيمِ
ومِنْ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع صفةً لها مؤكدةً لفخامتها أي بنوعٍ
من الحرب عظيم لايقادر قدرُه كائنٍ من عندِ الله ورسوله رُوي
أنَّه لمَّا نزلتْ قالت ثقيفٌ لابد لنا بحرب الله ورسوله
{وَإِن تُبتُمْ} من الارتباء مع الإيمان بحرمتها بعد ما
سمعتموه من الوعيد
{فَلَكُمْ رؤوس أموالكم} تأخُذونها كَمَلاً
{لاَ تُظْلَمُونَ} غُرماءَكم بأخذ الزيادة والجملةُ إما
مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب أو حالٌ من الضمير في لكُم
والعاملُ ما تضمّنه الجارُّ من الاستقرار
{وَلاَ تُظْلَمُونَ} عطفٌ على ما قبله أي لا تُظلَمون أنتم من
قِبَلهم بالمطل
(1/267)
280 - 281 البقرة والنقص ومن ضرورة تعليقِ
هذا الحكمِ بتوبتهم عدمُ ثبوته عند عدمها لأن عدمها إن كان مع
إنكار الحرمةِ فهم مرتدون وما لهم المكسوبُ في حال الرِّدة
فيءً للمسلمين عند أبي حنيفة رضى الله عنه وكذا سائرُ أموالهم
عند الشافعيِّ وعندنا هو لورثتهم ولا شئ لهم على حال وإن كان
مع الاعتراف بها فإن كان لهم شوكةٌ فهم على شرف القتل لم تسلَم
لهم رءوسهم فكيف برءوس أموالهم وإلا فكذلك عند ابن عباس رضي
الله عنهما فإنه يقول مَنْ عاملَ الربا يستتاب وإلاضرب عنقُه
وأما عند غيرِه فهم محبوسون إلى أن تظهرَ توبتُهم لا يُمَكّنون
من التصرفات أصلاً فما لم يتوبوا لم يسلَمْ لهم شئ من أموالهم
بل إنما يسلَم بموتهم لورثتهم
(1/268)
وَإِنْ كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} أي إن وقع
غريمٌ من غرمائكم ذو عسرةٍ على أنَّ كانَ تامةٌ وقرئ ذا عسرةٍ
على أنها ناقصة
{فَنَظِرَةٌ} أي فالحكمُ نظِرةٌ أو فعليكم نظرةٌ أو فلتكن
نظرةٌ وهي الإنظارُ والإمهالُ وقرئ فناظره فالمستحق ناظره أي
منتظره أوفصاحب نَظِرَتِه على طريق النسْب وقرئ فناظِرْه أمراً
من المفاعلة أي فسامِحْه بالنَّظِرة
{إلى مَيْسَرَةٍ} أي إلى يَسار وقرئ بضم السين وهما لغتان
كمشرقة ومشارقة وقرئ بهما مضافين بحذف التاء عند الإضافةُ كما
في قوله ... وَأَخْلفُوك عِدَ الأمرِ الذي وعدوا ...
{وأن تصدقوا} بحذف إحدى التاءين وقرئ بتشديد الصاد أي وأن
تتصدقوا على مُعْسري غرمائِكم بالإبراء
{خَيْرٌ لَّكُمْ} أي أكثرُ ثواباً من الإنظار أو خيرٌ مما
تأخذونه لمضاعفة ثوابه ودوامِه فهو ندبٌ إلى أن يتصدقوا برءوس
أموالهم كلاً أو بعضاً على غرمائهم المعسرين كقوله تعالى
{وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى} وقيل المرادُ بالتصدّق
الإنظارُ لقوله عليه السلام لا يحِل دَيْنُ رجل مسلم فيؤخرُه
إلا كان له بكل يوم صدقة
{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} جوابُه محذوفٌ أي إنْ كنتُم تعلمونَ
أنَّه خيرٌ لكُم عمِلتموه
(1/268)
وَاتَّقُوا يَوْمًا
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ
مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
{واتقوا يَوْمًا} هو يومُ القيامة وتنكيرُه
للتفخيم والتهويلِ وتعليقُ الإتقاءِ به للمبالغة في التحذير
عما فيه من الشدائد والأهوال
{تُرْجَعُونَ فِيهِ} على البناءِ للمفعولِ من الرجع وقرئ على
البناءِ للفاعلِ منْ الرُّجوع والأولُ أدخلُ في التهويلِ وقرئ
بالباء على طريق الالتفات وقرئ ترُدّون وكذا تَصيرون
{إِلَى الله} لمحاسبة أعمالِكم
{ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ} منَ النفوسِ والتعميمُ للمبالغة في
تهويل اليوم أي تعطى كملا
{مَّا كَسَبَتْ} أي جزاءَ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ أو شر
{وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} حال من كلِّ نفسٍ تفيد أن المعاقبين
وإن كانت عقوباتهم مؤبدة غير مظلومين في ذلك لِما أنَّه من
قِبَل أنفسِهم وجمعُ الضميرِ لأنه أنسبُ بحال الجزاء كما أن
الإفراد أوفقُ بحال الكسب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها
آخِرُ آيةٍ نزل بها جبريلُ عليه السَّلامُ وقال ضَعْها في رأس
المائتين والثمانين من البقرة وعاش رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعدها أحداً وعشرين يوماً وقيل أحداً وثمانين وقيل سبعةَ
أيام وقيل ثلاثَ ساعات
(1/268)
282 - البقرة
(1/269)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ
بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا
عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ
شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ
ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ
تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى
وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا
أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ
ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ
وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ
وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا
فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ
اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا
تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} شروعٌ في بيان حال المُداينة الواقعةِ
في تضاعيف المعاوضات الجاريةِ فيما بينهم ببيع السلعِ بالنقود
بعد بيانِ حال الربا أي إذا داين بعضُكم بعضاً وعامله نسيئةً
معْطِياً أو آخذاً وفائدةُ ذكرِ الدين دفعُ توهُّمِ كونِ
التدايُن بمعنى المُجازاة أو التنبيهُ على تنوعه إلى الحالِّ
والمؤجّل وأنه الباعث على الكتبة وتعين المرجع للضمير المنصوب
المتصل بالأمر
{إلى أَجَلٍ} متعلقٌ بتداينتم أو بمحذوف وقع صفة لدَيْنٍ
{مُّسَمًّى} بالأيام أوالأشهر ونظائرِهما مما يفيد العِلمَ
ويرْفَعُ الجهالة لا بالحصاد والدّياس ونحوِهما مما لا يرفعها
{فاكتبوه} أي الدَّين بأجله لأنه أوثقُ وأرفعُ النزاع
والجمهورُ على استحبابه وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ
المرادَ به السَّلَم وقال لما حرم الله الربا أباح في السَّلَف
{وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ} بيان لكيفية الكتابةِ
المأمورِ بها وتعيينٌ لمن يتولاها إثرَ الأمرِ بها إجمالاً
وحذفُ المفعول إما لتعيُّنه أو للقصد إلى إيقاع نفسِ الفعل أي
الكتابةَ وقوله تعالى بَيْنِكُمْ للإيذان بأن الكاتبَ ينبغي أن
يتوسّط بين المتداينين ويكتُبَ كلامَهما ولا يكتفيَ بكلام
أحدِهما وقولُه تعالى
{بالعدل} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لكاتب أي كاتبٌ كائنٌ بالعدل
أي وليكن المتصدِّي للكتابة من شأنه أن يكتُبَ بالسوية من غير
مَيل إلى أحد الجانبين لا يزيد ولا ينقُص وهو أمرٌ للمتداينين
باختيار كاتبٍ فقيهٍ ديِّن حتى يجيء كتابُه موثوقاً به معدّلاً
بالشرع ويجوزُ أنْ يكون حالاً منه أي ملتبساً بالعدل وقيل
متعلقٌ بالفعل أي وليكتبْ بالحق
{وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ} أي ولا يمتنعْ أحدٌ ن الكُتاب
{أَن يَكْتُبَ} كتابَ الدين
{كَمَا عَلَّمَهُ الله} على طريقة ما علّمه من كتبه الوثاق أو
كما بينه بقوله تعالى بالعدل أولا يأب أن ينفعَ الناسَ بكتابته
كما نفعه الله تعالى بتعليمِ الكتابة كقوله تعالَى وَأَحْسِن
كَمَا {أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ}
{فَلْيَكْتُبْ} تلك الكتابةَ المُعْلمة أَمَر بها بعد النهي عن
إبائها تأكيداً لها ويجوز أن تتعلقَ الكافُ بالأمر على أنْ
يكونَ النهيُ عن الامتناع منها مطلقةً ثم الأمرُ بها مقيدة
{وَلْيُمْلِلِ الذى عَلَيْهِ الحق}
(1/269)
الإملال هو الإملاءُ أي وليكن المُمْلي
مَنْ عليه الحقُّ لأنه المشهودُ عليه فلا بد أن يكون هو
المُقِرَّ
{وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} جُمع ما بين الاسمِ الجليلِ
والنعتِ الجميل للمبالغة في التحذير أي وليتقِ المُمْلي دون
الكاتِب كما قيل لقوله تعالى
{وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ} أي من الحق الذي يْمليه على الكاتب
{شَيْئاً} فإنه الذي يُتوقع منه البخسُ خاصة وأما الكاتبُ
فيُتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقصُ فلو أُريد نهيُه
لنهى عن كليهما وقد فَعل ذلك حيث أمَر بالعدل وإنما شُدِّد في
تكليف المُمْلي حيث جُمع فيه بين الأمر بالاتقاء والنهي عن
البخس لما فيه من الدواعي إلى المنهيِّ عنه فإن الإنسان مجبولٌ
على دفع الضرر عن نفسه وتخفيفِ ما في ذمته بما أمكن
{فَإن كَانَ الذى عَلَيْهِ الحق} صَرَّح بذلك في موضعِ
الإضمارِ لزيادةِ الكشفِ والبيان لا لأن الأمرَ والنهيَ لغيره
{سَفِيهًا} ناقصَ العقلِ مبذّراً مجازفاً
{أَوْ ضَعِيفًا} صبياً أو شيخاً مختلاً
{أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ} أي غيرَ مستطيعٍ
للإملاء بنفسه لخرَسٍ أو عَيَ أو جهلٍ أو غيرِ ذلك من العوارض
{فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} أي الذي يلي أمرَه ويقوم مقامه من
قيِّم أو وكيل أو مترجم
{بالعدل} أي من غير نقص ولا زيادة لم يكلَّف بعين ما كُلف به
من عليه الحقُّ لأنه يُتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس
{واستشهدوا شَهِيدَيْنِ} أي اطلُبوهما ليتحملا الشهادةَ على ما
جرى بينكم من المداينة وتسميتها شهيدين لتنزيل المُشارف منزلةَ
الكائن
{مّن رّجَالِكُمْ} متعلق باستشهدوا ومن ابتدائية أو بمحذوف وقع
صفة لشهيدين ومن تبعيضية أي شهيدين كائنين من رجال المسلمين
الأحرار إذ الكلامُ في معاملاتهم فإن خطاباتِ الشرعِ لا تنتظمُ
العبيدَ بطريق العبارة كما بُيِّن في موضعه وأما إذا كانت
المداينةُ بين الكفَرَة أو كان من عليه الحقُّ كافراً فيجوز
استشهادُ الكافر عندنا
{فَإِن لَّمْ يَكُونَا} أي الشهيدان جميعاً على طريقة نفي
الشمولِ لا شُمولِ النفي
{رَّجُلَيْنِ} إما لإعوازهما أو لسببٍ آخرَ من الأسباب
{فَرَجُلٌ وامرأتان} أي فليشهد رجلٌ وامرأتانِ أو فرجل
وامرأتانِ يكفُون وهذا فيما عدا الحدودَ والقصاصَ عندنا وفي
الأموال خاصة عند الشافعي
{مِمَّن تَرْضَوْنَ} متعلقٌ بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان أي
كائنون مرضيّين عندكم وتخصيصُهم بالوصف المذكور مع تحقق
اعتباره في كل شهيد لقلة اتصافِ النساء به وقيل نعتٌ لشهيدين
أي كائنين ممن ترضَوْن ورُد بأنه يلزم الفصلُ بينهما بالأجنبي
وقيل بدل من رجالكم بتكرير العامل ورد بما ذكر من الفصل وقيل
متعلقٌ بقوله تعالى فاستشهدوا فيلزم الفصل بين اشتراط المرأتين
وبين تعليله وقوله عز وجل
{مِنَ الشهداء} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الضمير المحذوف
الراجعِ إلى الموصول أي ممن ترضَوْنهم كائنين من بعض الشهداء
لعلمكم بعدالتهم وثقتِكم بهم وإدراجُ النساء في الشهداء بطريق
التغليب
{أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاخرى}
تعليلٌ لاعتبار العدد في النساء والعلةُ في الحقيقة هي
التذكيرُ ولكنَّ الضلالَ لما كان سبباً له نُزّل منزلتَه كما
في قولك أعددتُ السلاحَ أن يجيء عدو فأدفعه كأنه قيل أن تذكّر
إحداهما الأخرى إن ضلت الشهادة بأن نسيتها ولعل إيثارَ مَا
عليهِ النظمُ الكريمُ على أنْ يقالَ إنِ تضل إحداهما فتذكرَها
الأخرى لتأكيد الإبهام والمبالغة في الاحتراز عن توهم اختصاصِ
الضلال بإحداهما بعينها والتذكير بالأخرى وقرئ فتذكر من
الأذكار وقرئ فتذاكر وقرئ إنْ تضلَّ على الشرط فتذكرُ بالرفع
كقوله تعالى وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ
{وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ} لأداء
(1/270)
الشهادة أو لتحمُّلها وتسميتُهم شهداءَ قبل
التحمل لما مرَّ من تنزيل المُشارف منزلةَ الواقع وما مزيدة عن
قتادة أنه كان الرجل يطوف في الحِواء العظيم فيه القوم فلا
يتبعُه منهم أحد فنزلت
{وَلاَ تسأموا} أي لا تَملُّوا من كثرة مدايناتِكم
{أن تكتبوه} أي الدينَ أو الحقَّ أو الكتابَ وقيل كنى به عن
الكسل الذي هو صفةُ المنافق كما ورد في قولِه تعالى وَإِذَا
قَامُوا إلَى الصَّلاةِ قَامُوا كسالى وقد قال النبيِّ صلَّى
الله عليهِ وسلم لا يقولُ المؤمن كسِلْتُ
{صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا} حالٌ من الضمير أي حالَ كونه صغيراً
أو كبيراً أي قليلاً أو كثيراً أو مجملاً أو مفصّلاً
{إِلَى أَجَلِهِ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الهاء في
تكتبوه أي مستقراً في الذمة إلى وقت حلوله الذي أقربه المديون
{ذلكم} إشارةٌ إلى ما أُمر به من الكَتْب والخطابُ للمؤمنين
{أَقْسَطُ} أي أعدل
{عَندَ الله} أي في حكمه تعالى
{وَأَقْوَمُ للشهادة} أي أثبتُ لها وأعونُ على إقامتها وهما
مبنيان من أقسطَ وأقامَ فإنه قياسيٌّ عند سيبويه أو من قاسط
بمعنى ذي قِسط وقويم وإنما صحت الواو في أقوم كما صحت في
التعجيب لجموده
{وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} وأقرب إلى انتفاء رَيبكم في
جنس الدَّين وقدرِه وأجله وشهودِه ونحوِ ذلك
{إِلاَّ أَن تكون تجارة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}
استثناءٌ منقطع من الأمر بالكتاب أي لكنْ وقتَ كونِ تدايُنِكم
أو تجارتكم تجارةً حاضرةً بحضور البدلين تُديرونها بينكم
بتعاطيهما يداً بيد
{فليس عليكم جناح ألا تَكْتُبُوهَا} أي فلا بأسَ بأن لا
تكتبوها لبُعده عن التنازع والنسيان وقرئ برفع تجارةٌ على
أنَّها اسمُ كانَ وحاضرةٌ صفتُها وتديرونها خبرُها أو على أنها
تامة
{وَأَشْهِدُواْ إِذَا تبايعتم} أي هذا التبايُعَ أو مطلقاً
لأنه أحوطُ والأوامرُ الواردةُ في الآية الكريمة للندب عند
الجمهور وقيل للوجوب ثم اختلف في أحكامها ونسخها
{وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} نهيٌ عن المضارة محتمل
للبناءين كما ينبأ عنه قراءةُ مَن قرأَ ولا يضارر في الكسر
والفتح وهو نهيهما عن ترك الإجابة والتغييرِ والتحريفِ في
الكتبه والشهادة أو نهيُ الطالب عن الضرار بهما بأن يعجلهما عن
مهمهما أو يكلفَهما الخروجَ عما حُدّ لهما أو لا يعطي الكاتب
جعله وقرئ في الرفع على أنه نفيٌ في مَعْنى النهي
{وَإِن تَفْعَلُواْ} ما نُهيتم عنه من الضرار
{فإنه} أي فعلكم ذلك
{فُسُوقٌ بِكُمْ} أي خروجٌ عن الطاعة ملتبس بكم
{واتقوا الله} في مخالفة أوامرِه ونواهيه التي من جملتها نهيُه
عن المضارة
{وَيُعَلّمُكُمُ الله} أحكامه المتضمنة لمصالحكم
{والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} فلا يكاد يخفي عبيه حالُكم وهو
مجازيكم بذلك كُرر لفظ الجلالة في الجمل الثلاث لإدخال الروعةِ
وتربيةِ المهابةِ وللتنبيه على استقلالِ كلَ منها بمعنى على
حياله فإن الأولى حثٌّ على التقوى والثانية وعدٌ بالإنعام
والثالثة تعظيمٌ لشأنه تعالى
(1/271)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى
سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ
أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا
الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
{وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ} أي مسافرين أو
متوجهين إليه
{وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا} في المداينة وقرئ كِتاباً
وكُتُباً وكتاباً
{فرهان مَّقْبُوضَةٌ} أي فالذي يُستوثق به أو
(1/271)
284 - البقرة فعليكم أو فليؤخَذ أو
فالمشروعُ رهانٌ مقبوضة وليس هذا التعليقُ لاشتراط السفر في
شرعية الارتهان كما حسِبه مجاهدٌ والضحاكُ لأنه صلى الله عليه
وسلم رهَن دِرْعه في المدينة من يهودى بعشرين صاعاص من شعير
أخذه لأهله بل لإقامة التوثقِ بالارتهان مقام التوثق بالكتبة
في السفر الذي هو مِظنةُ إعوازِها وإنما لم يتعرّض لحال الشاهد
لما أنه في حكم الكاتب توثقاً وإعوازاً والجمهورُ على وجوب
القبض في تمام الرهن غير مالك وقرئ فرُهُنٌ كسُقُف وكلاهما جمع
رهن بمعنى مرهون وقرئ بسكون الهاء نخفيفا
{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} أي بعضُ الدائنين بعضَ
المديونين لحسن ظنه به واستغنى بأمانته عن الارتهان وقرئ فإن
أُومن بعضُكم أي آمنه الناسُ ووصفوه بالأمانة قيل فيكون
انتصابُ بعضاً حينئذ على نزع الخافض أي على متاع بعض
{فَلْيُؤَدّ الذى اؤتمن} وهو المديون وإنما عبّر عنه بذلك
العنوان لتعينه طريقاً للإعلام ولحمله على الأداء
{أمانته} أي دينه وإنما سمّي أمانة لائتمانه بترك الارتهان به
وقرئ ايتُمِن بقلب الهمزة ياء وقرئ بإدغام الياء في التاء وهو
خطأ لأن المنقلبة من الهمزة لا تدغم لأنها في حكمها
{وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} في رعاية حقوق الأمانة وفي الجمع
بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير مالا
يخفى
{وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة} أيها الشهود أو المدينون أي
شهادتكم على أنفسكم عند المعاملة
{وَمَن يَكْتُمْهَا فإنه آثم قَلْبُهُ} آثم خبر إن وقلبُه
مرتفعٌ به على الفاعليةِ كأنه قيل يأثم قلبه أو مرتفع
بالابتداء وآثمٌ خبرٌ مقدّمٌ والجملةُ خبرُ إن وإسنادُ الإثم
إلى القلبِ لأن الكِتمان مما اقترفه ونظيرُه نسبةُ الزنا إلى
العين والأذن أو للمبالغة لأنه رئيسُ الأعضاء وأفعالُه أعظمُ
الأفعال كأنه قيل تمكّن الإثمُ في نفسه وملك أشرفَ مكان فيه
وفاق سائر ذنوبه عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما إن أكبرَ
الكبائر الإشراكُ بالله لقوله تعالى {فَقَدْ حَرَّمَ الله
عَلَيهِ الجنة} وشهادةُ الزور وكتمانُ الشهادة وقرئ قلبَه
بالنصب كما في سفه نفسه وقرئ أثمَ قلبه أي جعله آثماً
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فيجازيكم به إنْ خيراً
فخيرٌ وإنْ شرا فشر
(1/272)
لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي
أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
{لله ما في السماوات وما في الارض} من
الأمور الداخلة في حقيقتهما والخارجة عنهما المتمكنةِ فيهما من
أولي العلم وغيرهم أي كلُّها له تعالى خلقا وملكا وتصرفا
لاشركة لغيره في شئ منها بوجه من الوجوه
{وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ} من السوء والعزمِ عليه
بأن تُظهروه للناس بالقول أو بالفعل
{أو تُخْفُوهْ} بأن تكتُموه منهم ولا تُظهروه بأحد الوجهين ولا
يندرج فيه مالا يخلُو عنه البشرُ من الوساوس وأحاديث النفس
التي لاعقد ولا عزيمة فيها إذ التكليفُ بحسب الوُسع
{يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} يومَ القيامة وهو حجةٌ على منكري
الحساب من المعتزلة والروافض وتقديم الجار والمجرور على الفاعل
للاعتناء به وأما تقديمُ الإبداء على الإخفاء على عكس ما في
قوله عز وجل قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا في الصدوركم أَوْ
تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله فلِما أن المعلَّق بما في أنفسهم
ههنا هو المحاسبة والأصلُ فيها الأعمالُ البادية وأما العلمُ
فتعلُّقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية
(1/272)
285 - البقرة كيف لا وعلمُه سبحانه
بمعلوماته متعالٍ عن أن يكون بطريق حصول الصور بل وجود كل شئ
في نفسه في أيّ طور كان علمٌ بالنِّسبةِ إليهِ تعالَى وهذا لا
يختلفُ الحالُ بين الأشياء البارزةِ والكامنة خلا أن مرتبة
الإخفاءِ متقدمةٌ على مرتبة الإبداء إذ ما من شئ يبدى إلا وهُو
أو مباديهِ قبل ذلك مضمرٌ في النفس فتعلقُ علمِه تعالَى
بحالتِهِ الأُولى متقدمٌ على تعلقهِ بحالته الثانية وقد مرَّ
في تفسيرِ قوله تعالى أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ
مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُون
{فَيَغْفِرُ} بالرفع على الاستئناف أي فهو يغفرُ بفضله
{لِمَن يَشَاء} أنْ يغفرَ له
{وَيُعَذّبَ} بعدله
{مَن يَشَآء} أنْ يعذَبهُ حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على
الحكم والمصالح وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدّم رحمته على
غضبه وقرئ بجزم الفعلين عطفاً على جواب الشرط وقرئ بالجزم من
غير فاء على أنهما بدلٌ من الجواب بدلَ البعضِ أو الاشتمالِ
ونظيره الجزمُ على البدلية من الشرط في قوله
متى تأتِنا تُلمِمْ بنافي ديارِنا ... تجدْ حَطَباً جَزْلاً
وناراً تأججا
وإدغام الراء في اللام لحنٌ
{والله على كل شىء قَدِيرٌ} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله
فإن كمالَ قُدرته تعالى على جميع الأشياء مُوجِبٌ لقدرته
سبحانه على ما ذُكر من المحاسبة وما فُرِّع عليه من المغفرة
والتعذيب
(1/273)
آمَنَ الرَّسُولُ
بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ
آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
{آمن الرسول} لمّا ذُكر في فاتحة السورةِ
الكريمة أن ما انزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب
العظيمِ الشأنِ هدىً للمتّصفين بما فُصِّل هناك من الصفات الفا
ضلة التي من جملتها الإيمانُ به وبما أنزل قبله من الكتب
الإلهيةِ وأنهم حائزون لأثَرَتي الهدى والفلاح من غير تعيين
لهم بحصوصهم ولا تصريح بتحقيق اتصافِهم بها إذ ليس فيما يُذكر
في حيز الصلةِ حُكمٌ بالفعل وعُقّب ذلك ببيانِ حالِ مَن كَفر
به من المجاهرين والمنافقين ثم شَرَح في تضاعيفها من فنون
الشرائع والأحكام والمواعظِ والحِكَم وأخبارِ سوالف الأمم وغير
ذلك ما تقتضي الحكمةُ شرحَه عُيِّن في خاتمتها المتّصفون بها
وحُكم باتصافهم بها على طريق الشهادة لهم من جهته عزَّ وجلَّ
بكمال الإيمان وحسنِ الطاعةِ وذكر صلى الله عليه وسلم بطريق
الغيبة مع ذكر هناك بطريق الخطاب لما أن حقَّ الشهادة الباقيةِ
على مرِّ الدُّهورِ أن لا يخاطَبَ بها المشهودُ له ولم يتعرض
ههنا لبيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حكي عنهم من
الدعوات الآتية إيذاناً بأنه أمرٌ محققٌ غنيٌّ عن التصريح به
لاسيما بعد ما نُص عليه فيما سلف وإيراده صلى الله عليه وسلم
بعنوان الرسالة المنبئة عن كونه صلى الله عليه وسلم صاحبَ
كتابٍ مجيد وشرع جديد تمهيدٌ لما يعقُبه منْ قولِه تعالى
{بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ} ومزيدُ توضيحٍ لاندراجه في الرسل
المؤمَنِ بهم عليهم السلام والمرادُ بما انزل إليه ما يعم كله
وكل جزء من أجزائه ففيه تحقيق لكيفية إيمانه صلى الله عليه
وسلم وتعيين لعنوانه أي آمن عليه السلام بكل ماأنزل إليه
{من ربه} والكتُب وغير ذلك من حيث إنه منزلٌ منه تعالى وأما
الإيمانُ بحقية أحكامِه وصدقِ أخباره ونحوُ ذلك فمن فروع
الإيمان به من الحيثية المذكورة وفي هذا الإجمال إجلالٌ لمحله
صلى الله عليه وسلم وإشعارٌ بأن تعلّقَ إيمانِه بتفاصيلِ ما
أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى
(1/273)
عليه منَ الظهورِ بحيثُ لا حاجة إلى ذكره
أصلاً وكذا في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره
عليه السلام تشريفٌ له وتنبيهٌ على أن إنزاله إليه تربية
وتكميلٌ له عليه السلام
{والمؤمنون} أي الفريقُ المعروفون بهذا الاسم فاللاَّم عهدية
لا موصلة لإفضائها إلى خلو الكلام عن الجدوى وهو مبتدأ وقوله
عز وجل
{كُلٌّ} مبتدأٌ ثانٍ وقولُه تعالَى
{آمن} خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول والرابطُ بينهما
الضمير الذي ناب منابَه التنوين وتوحيدُ الضمير في آمن مع
رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المرادَ بيانُ إيمانِ كل فردِ
منهم من غير اعتبار الاجتماعِ كما اعتُبر ذلك في قوله تعالى
{وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين} وتغييرُ سبْكِ النظم الكريمِ عما
قبلَه لتأكيد الإشعارِ بما بين إيمانه عليه السلام المبني على
المشاهدة والعِيان وبين إيمانِهم الناشئ عن الحجة والبرهانِ من
التفاوت البيِّن والاختلاف الجليِّ كأنهما مختلفان من كل وجهٍ
حتى في هيئة التركيب الدالِّ عليهما وما فيه من تكرير الإسناد
لما في الحُكم بإيمان كلِّ واحدٍ منهم على الوجه الآتي من نوعِ
خفاءٍ مُحوِجٍ إلى التقوية والتأكيد أي كلُّ واحد منهم آمن
{بالله} وحده من غير شريكٍ له في الأُلوهيَّةِ والمعبودية
{وملائكته} أي من حيث إنهم عبادٌ مُكْرمون له تعالى من شأنهم
التوسطُ بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاءِ الوحي فإن
مدارَ الإيمان بهم ليس من خصوصيات ذواتِهم في أنفسهم بل هو من
إضافتهم إليه تعالى من الحيثية المذكورة كما يلُوح به الترتيبُ
في النظم
{وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} أي من حيث مجيئُهما من عنده تعالى
لإرشاد الخلقِ إلى ما شرَع لهم من الدين بالأوامر والنواهي
لكنْ لا عَلى الإطلاقِ بل على أن كلَّ واحدٍ من تلك الكتب منزل
منه تعالى إلى رسول معيّنٍ من أولئك الرسلِ عليهم الصلاة
والسلام حسبما فُصِّل في قولِه تعالى {قولوا آمنا بالله وما
أنزل إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق
وَيَعْقُوبَ والاسباط وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى وما أوتي
النبيون من ربهم} الآية ولا على أن مناطَ الإيمان خصوصيةُ ذلك
الكتاب أو ذلك الرسولِ بل على أن الإيمانَ بالكل مندرِجٌ في
الإيمان بالكتاب المُنْزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
ومستنِدٌ إليه لِما تُليَ من الآية الكريمة ولا على أن أحكامَ
الكتبِ السالفة وشرائعَها باقيةٌ بالكلية ولا على أن الباقيَ
منها معتبرٌ بالإضافة إليها بل على أن أحكامَ كلِّ واحد منها
كانت حقة ثابتة إلى ورود كتابٍ آخرَ ناسخٍ له وأن مالم ينسخ
منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتة من حيث إنها من أحكام
هذا الكتاب المَصونِ عن النسخ إلى يوم القيامة وإنَّما لَمْ
يُذكر هَهُنا الإيمانُ باليوم الآخر كَما ذُكر في قولِهِ تعالى
{ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب
والنبيين} لاندراجه في الايمان بكتبه وقرئ وكتابِه على أن
المرادَ به القرآنُ أو جنسُ الكتاب كما في قوله تعالى
{فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ
مَعَهُمُ الكتاب} والفرقُ بينه وبين الجمع أنه شائعٌ في أفراد
الجنس والجمعِ في جموعه ولذلك قيل الكتابُ أكثرَ من الكتب وهذا
نوعُ تفصيلٍ لَما أُجمل في قولِهِ تعالى {بِمَا أنزل إليه من
ربه} اقتُصر عليه إيذاناً بكفايته في الإيمان الإجمالي
المتحقِّق في كل فردٍ من أفراد المؤمنين من غير نفيٍ لزيادةٍ
ضرورةَ اختلاف طبقاتهم وتفاوتِ إيمانهم بالأمور المذكورة في
مراتب التفصيل تفاوتاً فاحشاً فإن الإجمالَ في الحكاية لا يوجب
الإجمالَ في المحكيِّ كيف لا وقد أُجمل في حكاية إيمانه عليه
السلام بما أنزل إليه من ربه مع بداهة كونهِ متعلقا بتفاصيل
مافيه من الجلائل والدقائق ثم إن الأمورَ المذكورةَ
(1/274)
حيث كانت من الأمورِ الغيبيَّةِ التي لا
يُوقف عليها إلا من جهة العليم الخبير كان الإيمانُ بها
مِصداقاً لما ذُكر في صدرِ السورةِ الكريمةِ من الإيمان بالغيب
وأما الإيمان بكتُبه تعالى فإشارة الى مافي قوله تعالى
يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن
قَبْلِكَ هذا هو اللائقُ بشأنِ التنزيل والحقيقُ بمقداره
الجليل وقد جُوّز أن يكون قوله تعالى والمؤمنون معطوفاً على
الرسول فيوقف عليه والضميرُ الذي عُوّض عنه التنوينُ راجعٌ إلى
المعطوفَيْن معاً كأنه قيل آمن الرسولُ والمؤمنون بما أنزل
إليه من ربه ثم فصل ذلك وقيل كلُّ واحدٍ من الرسول والمؤمنين
آمن بالله الخ خلا أنه قُدّم المؤمَنُ به على المعطوف اعتناءً
بشأنه وإيذاناً بأصالته عليه السلام في الإيمان به ولا يخفى
أنه مع خلوّه عما في الوجه الاول من كمال اجلال شأنهِ عليه
السلام وتفخيمِ إيمانه مخلٌّ بجزالة النظمِ الكريم لأنه إنْ
حُمل كلٌّ من الإيمانين على ما يليقُ بشأنه عليهِ السَّلامُ
منْ حيثُ الذاتُ ومن حيث التعلقُ بالتفاصيل استحالَ اسنادهما
الى غيره عليه السلام وضاع التكريرُ وإن حُملا على ما يليق
بشأن آحادِ الأمةِ كان ذلك حطاً لرتبته العليةِ عليه السلام
وأما حملُهما على ما يليقُ بكلِّ واحدٍ ممن نُسبا إليه من
الآحاد ذاتاً وتعلقاً بأن يُحمَلا بالنسبة إلى الرسول صلى الله
عليه وسلم على الإيمان العياني المتعلقِ بجميع التفاصيل
وبالنسبة إلى آحاد الأمةِ على الإيمان المكتسَب من جهته عليه
السلام اللائقِ بحالهم في الإجمال والتفصيل فاعتسافٌ بيّن
ينبغي تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن أمثاله وقوله تعالى
{لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أحدٍ من رسلِه} في حيز النصب بقول مقدرٍ
على صيغة الجمع رعايةً لجانب المعنى منصوبٌ على أنَّه حالٌ من
ضمير آمن أو مرفوعٌ على أنه خبر آخر لكلٌّ أي يقولون لا نفرّق
بينهم بأن نؤمنَ ببعض منهم ونكفُرَ بآخَرين بل نؤمنُ بصحة
رسالةِ كلِّ واحدٍ منهم قيّدوا به إيمانَهم تحقيقاً للحق
وتخطِئةً لأهل الكتابين حيث أجمعوا على الكفر بالرسول صلى الله
عليه وسلم واستقلت اليهودُ بالكفر بعيسى عليه السلام أيضاً على
أن مقصودَهم الأصليَّ إبرازُ إيمانهم بما كفروا به من رسالته
عليه السلام لا لإظهار موافقتهم لهم فيما آمنوا به وهذا كما
ترى صريحٌ في أن القائلين آحادُ المؤمنين خاصة إذ لايمكن أن
يسند إليه عليه السَّلام أنْ يقولَ لا أفرق بَيْنَ أحدٍ من
رُّسُلِهِ وهو يريد به إظهارَ إيمانه برسالة نفسِه وتصديقَه في
دعواها وعدمُ التعرض لنفي التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور
إياه وإنما لم يُعكَسْ مع تحقق التلازم من الطرفين لما أن
الأصلى في تفريق المفرِّقين هو الرسلُ وكفرُهم بالكتب متفرِّع
على كفرهم بهم وقرئ بالياء على إسنادِ الفعلِ إلى كل وقرئ لا
يفرِّقون حَمْلاً على المَعْنى كَما في قوله تعالى {وَكُلٌّ
أَتَوْهُ داخرين} فالجملة نفسُها حال من الضمير المذكور وقيل
خبرٌ ثان لكلٌّ كما قيل في القول المقدر فالابد من اعتبار
الكلية بعد النفي دون العكس إذ المرادُ شمولُ النفي لا نفيُ
الشمول والكلام في همزة أحدٍ وفي دخول بين عليه قد مر تفصيله
عند قولِه تعالى {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} وفيه
من الدلالة صريحاً على تحقق عدم التفريق بين كل فرد فرد منهم
وبين من عداه كائنا من كان ما ليس في أن يقال لا نفرِّق بين
رسله وإيثارُ إظهارِ الرسلِ على الإضمار الواقعِ مثلُه في قوله
تعالى {وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} إما للاحتراز عن توهم اندارج
الملائكةِ في الحُكم أو للإشعار بعلة عدمِ التفريقِ أو للإيماء
إلى عنوانه لأن المعتبرَ عدمُ التفريق من حيث الرسالةُ دون
سائرِ الحيثيات الخاصة
{وَقَالُواْ} عطفٌ على آمن وصيغةُ الجمعِ باعتبار جانب المعنى
وهو حكايةٌ لامتثالهم بالأوامر إثر حكاية
(1/275)
286 - البقرة إيمانِهم
{سَمِعْنَا} أي فهمنا ما جاءنا من الحق وتيقنا بصحته
{وَأَطَعْنَا} ما فيه من الأ وامر والنواهي وقيل سمِعنا أجبنا
دعوتك وأطعنا أمرَك
{غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} أي اغفِرْ لنا غفرانك أو نسألك غُفرانك
ذنوبنا المتقدمة او مالا يخلُو عنه البشرُ من التقصير في
مراعاة حقوقِك وتقديمُ ذكرِ السمعِ والطاعةِ على طلب الغفران
لما أن تقديمَ الوسيلةِ على المسئول أدعى إلى الإجابة والقبول
والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إليهم للمبالغةِ في
التضرُّع والجُؤار
{وَإِلَيْكَ المصير} أي الرجوعُ بالموتِ والبعثِ لا إلى غيرك
وهو تذييلٌ لما قبله مقرِّرٌ للحاجة إلى المغفرة لما أن
الرجوعَ للحساب والجزاء وقوله تعالى
(1/276)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا
تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا
وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
{لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ
وُسْعَهَا} جملةٌ مستقلة جيءَ بها إثرَ حكايةِ تلقِّيهم
لتكاليفه تعالى بحسن الطاعة إظهاراً لما له تعالى عليهم في ضمن
التكليف من محاسنِ آثارِ الفضل والرحمة ابتداءً لا بعد السؤال
كما سيجئ هذا وقد رُوي أنَّه لمَّا نزلَ قوله تعالى وَإِن
تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم
بِهِ الله الآية اشتد ذلك على أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه
وسلم فأتوه علية السلام ثم برَكوا على الرُكَب فقا لوا أيْ
رسولَ الله كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق الصلاةُ والصومُ والحج
والجهاد وقد أُنزل إليك هذه الآية ولا نُطيقُها فقال أى رسول
الله صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل
الكتابين من قبلكم سمِعنا وعصَينا بل قولوا سمعنا وأطعنا
غُفرانَك ربنا وإليك المصير فقرأها القوم فأنزل الله عزَّ
وجلَّ آمَنَ الرسول بِمَا أُنزِلَ الية من ربة الى قولة تعالى
ربنا واليك المصيرفمسئولهم الغفران المعلق بمشئتة عز وجل في
قوله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء ثم أنزل الله تعالى لاَ يُكَلّفُ
الله نفساإلا وُسْعَهَا تهويناً للخطب عليهم بيان إن المرادَ
بما في أنفسهم ما عزَموا عليه من السوء خاصة لا ما يعُمُّ
الخواطرَ التي لا يُستطاع الاحتراز عنها والتكليفُ إلزامُ ما
فيه كُلفةٌ ومشقة والوُسعُ ما يسَعُ الإنسانَ ولا يَضيقُ علية
أى سنتة تعا لى انة لا بكلف نَفْساً من النُّفوسِ إلاَّ ما
يتَّسع فيه طَوقُها ويتيسّر عليها دون مدى الطاقة والمجهود منة
رحمة لهذة الأمة كقوله تعالى {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ
يُرِيدُ بِكُمُ العسر} وقرىء وَسعها بالفتح وهذا يدل على عدم
وقوعِ التكليفِ بالمحال لا على امتناعه وقوله تعالى
{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} للترغيب في
المحافظة على مواجبِ التكليف والتحذيرِ عن الإخلال بها بيان أن
تكليفَ كل نفسٍ مع مقارنته لنعمة التخفيفِ والتيسير تتضمنُ
مراعاتُه منفعةً زائدة وأنها تعود إليها لاألى غيرها وبستتبع
الإخلالُ به مضرةً تَحيق بها لا بغيرها فإن ذفأن اختصاصَ
منفعةِ الفعل بفاعله من أَقْوى الدَّواعي إلى تحصيله واقتصارَ
مضرَّتِه عليه من أشد الزواجر عن مباشرته أي لها ثوابُ ما كسبت
من الخير والذي كُلّفت فعلَه لا لغيرها استقلالا أواشتراكا
ضرورةَ شمُول كلمةِ ما لكل جزءٍ من أجزاءِ مكسوبها وعليها لا
على غيرها بأحد الطريقين المذكورين عقابُ ما اكتسبت من الشر
الذي كُلِّفت تركه وإيرادُ
(1/276)
الاكتسابِ في جانب الشر لما فيه من اعتمال
ناشئ من اعتناء النفسِ بتحصيل الشر وسعيها في طلبه
{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}
شروعٌ في حكايةِ بقيةِ دعواتِهم إثرَ بيانِ سرِّ التكليف أي لا
تؤاخِذنا بما صدر عنا من الأمور المؤدية إلى النسيان أو الخطأ
من تفريطٍ وقلةِ مبالاة ونحوِهما مما يدخُل تحت التكليفِ
أوبأنفسهما من حيث ترتّبُهما على ما ذكر أو مطلقاً إذ لا
امتناعَ في المؤاخذة بهما عقلاً فإن المعاصيَ كالسُّموم فكما
أن تناولها ولو سهواً أو أخطأ مؤدَ إلى الهلاك فتعاطي المعاصي
أيضاً لا يبعُد أن يفضِيَ إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة
ووعدُه تعالى بعدمه لا يوجب استحالةَ وقوعه فإن ذلك من آثار
فضله ورحمته كما ينبئ عنه الرفعُ في قولِهِ عليهِ السلامُ رفع
عن أُمِّتي الخطأُ والنِّسيانُ وقد روي أن اليهود كانوا إذا
نسُوا شيئاً عُجِّلت لهم العقوبة فدعاؤُهم بعد العلم بتحقق
الموعود للاستدامة والاعتداد بالنعمة في ذلك كما في قوله تعالى
{ربنا وآتنا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ}
{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} عطفٌ على ما قبله
وتوسيطُ النداء بينهما لإبراز مزيدِ الضراعة والإصرُ العِبءُ
الثقيلُ الذي يأصِرُ صاحبَه أي يحبِسُه مكانه والمرادُ به
التكاليفُ الشاقة وقيل الإصرُ الذنبُ الذي لا توبةَ له فالمعنى
اعصِمْنا من اقترافه وقرئ آصاراو قرئ ولا تُحَمِّلْ بالتشديد
للمبالغة
{كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} في حيز النصبِ
على أنه صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي حَمْلاً مثلَ حملِك إياه على
مَنْ قبلَنا أو على أنه صفةٌ لإصراً أي إصراً مثلَ الإصرِ الذي
حَمَلته على مَنْ قبلنا وهو ما كُلّفه بنو إسرائيل من بخْعِ
النفس في التوبة وقطع موضِعِ النجاسةِ وخمسينَ صلاةً في يوم
وليلة وصرفِ رُبُع المال للزكاة وغيرِ ذلك من التشديدات فإنهم
كانوا إذا أتَوْا بخطيئة حَرُم عليهم من الطعام بعضُ ما كان
حلالاً لهم قال الله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ
حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ وقد عصم الله عز
وجل بفضله ورحمته هذه الأمة عن أمثال ذلك وأنزل في شأنهم
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والاغلال التى كَانَتْ عليهم
وقال صلى الله عليه وسلم بُعثتُ بالحنيفية السهلة السَّمْحة
وعن العقوبات التي عوقب بها الأولون من المسْخِ والخسْف وغيرِ
ذلك قال صلى الله عليه وسلم رُفع عن أُمَّتي الخسفُ والمسخُ
والغَرَق
{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} عطفٌ
على ما قبله واستعفاءٌ عن العقوبات التي لا تُطاق بعد
الاستعفاء عما يؤدي إليها التفريطُ فيه من التكاليف الشاقةِ
التي لا يكاد مَنْ كُلِّفها يخلو عن التفريط فيها كأنه قيل لا
تكلِّفْنا تلك التكاليفَ ولا تعاقِبْنا بتفريطنا في المحافظة
عليها فيكونُ التعبيرُ عن إنزال العقوباتِ بالتحميل باعتبار ما
يؤدي إليها وقيل هو تكريرٌ للأول وتصوير للإصر بصورة مالا
يُستطاع مبالغة وقيل هو استعفاءٌ عن التكليف بما لا تفي به
الطاقةُ البشرية حقيقة فيكون دليلاً على جواره عقلاً وإلا لما
سُئل التخلص عنه والتشديد ههنا لتعدية الفعل إلى مفعول ثانٍ
{واعف عَنَّا} أي آثارِ ذنوبنا
{واغفر لَنَا} واستُرْ عيوبَنا ولا تفضَحْنا على رءوس الأشهادِ
{وارحمنا} وتعطَّفْ بنا وتفضَّلْ علينا وتقديمُ طلبِ العفوِ
والمغفرةِ على طلب الرحمةِ لما أن التخلِيَةَ سابقةٌ على
التحلية
{أَنتَ مولانا} سيدُنا ونحن عبيدُك او ناصرنا اومتولى أمورِنا
{فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} فإن من حقّ المولى أن ينصُرَ
عبده ومن يتولّى أمرَه على الأعداء والمرادُ به عامةُ الكفرة
وفيه إشارة إلى أن إعلاء كلمةِ الله والجهادَ في سبيله تعالى
حسبما أُمر في تضاعيفِ السورةِ الكريمةِ غايةُ مطالبهم رُوي
أنه عليه الصلاة والسلام لمّا دعا
(1/277)
بهذه الدعواتِ قيل له عند كلِّ دعوةٍ قد
فعلت وعنه صلى الله عليه وسلم أنزل الله آيتين من كنوز الجنة
كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق بألفي عام من قرأهما بعد
العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل وعنه صلى الله عليه وسلم
من قرأ آيتين من سورة البقرة كفتاه وهو حجةٌ على من استكره أن
يقول سورة البقرة وقال ينبغى أن يقال السورةَ التي يُذكر فيها
البقرة كما قال صلى الله عليه وسلم السورةَ التي يُذكر فيها
البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن
تستطيعها البطلة قيل وما البطلة قال صلى الله عليه وسلم السحرة
تم الجزء الأول ويلية الجزء الثاني وأوله سورة آل عمران
(1/278)
|