تفسير أبي السعود
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم سورة آل عمران مدنية وهي مائتا آية 1 2 آل
عمران {بسم الله الرحمن الرحيم}
(2/2)
الم (1) اللَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
{الم الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} قد سلف أن
مالا تكون من هذه الفواتح مفردةً كصاد وقاف ونون ولا موازِنةً
لمفردٍ كحاميم وطاسين وياسين الموازنةِ لقابيلَ وهابيلَ
وكطاسين ميم الموازنةِ لداراً بجَرَد حسبما ذكره سيبويهِ في
الكتابِ فطريقُ التلفظ بها الحكايةُ فقط ساكنةُ الأعجاز على
الوقف سواءٌ جُعلت أسماءً أو مسرودةً على نمط التعديدِ وإن
لزِمها التقاءُ الساكنين لما أنه مغتفرٌ في باب الوقف قطعاً
فحقُّ هذه الفاتحة أن يوقفَ عليها ثم يُبدأ بما بعدها كما فعله
أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه روايةٌ عن عاصم وأما ما فيها من الفتح
على القراءة المشهورةِ فإنما هي حركةُ همزة الجلالة ألقيت على
الميم لتدل على ثبوتها إذ ليس إسقاطها للدرج بل للتخفبف فهي
ببقاء حركتها في حكم الثابتِ المبتدَإِ به والميمُ بكون
الحركةِ لغيرها في حكم الوقف على السكون دون الحركة كما توهم
واعتُرض بأنه غيرُ معهود في الكلام وقيل هي حركةٌ لالتقاء
السواكن التي هي الياء والميم ولام الجلالة بعد سقوطِ همزتها
وأنت خبير بأن سقوطَها مبنيٌّ على وقوعها في الدرْج وقد عرفت
أن سكون الميم وقفى موجبٌ لانقطاعها عما بعدها مستدعٍ لثبات
الهمزةِ على حالها لا كما في الحروف والأسماءِ المبنيةِ على
السكون فإن حقَّها الاتصالُ بما بعدها وضعاً واستعمالاً فتسقطُ
بها همزةُ الوصلِ وتُحرَّك أعجازُها لالتقاء الساكنين ثم إن
جُعلت مسرودةً على نمطِ التعديدِ فلا محلَّ لها من الإعرابِ
كسائر الفواتح وإن جُعلت اسماً للسورة فمحلُها إما الرفعِ على
أنَّها خبرٌ مبتدإٍ محذوف وإما النصبُ على إضمار فعلٍ يليقُ
بالمقام ذكر أو اقرأ أو نحوِهما وأما الرفعُ بالابتداء أو
النصبُ بتقديرِ فعلِ القسم أو الجرُّ بتقدير حرفِه فلا مساغ
لشئ منها لما أن ما بعدها غير صالح للخيرية ولا للإقسامِ عليه
فإن الاسم الجليلَ مبتدأٌ وما بعده خبرُه والجملةُ مستأنفة أي
هو المستحقُّ للمعبوديةِ لا غير وقوله عز وجل
{الحى القيوم} خبرٌ آخرُ له أو لمبتدإٍ محذوفٍ أيْ هُوَ الحي
القيومُ لا غيرُه وقيل هو صفةٌ للمبتدأ أو بدلٌ منه أو من
الخبر الأول أو هو الخبرُ وما قبلَهُ اعتراضٌ بين المبتدأ
مقرِّر لما يُفيده الاسمُ الجليلُ أو حال منه وأياه ما كان فهو
كالدليل على اختصاص استحقاقِ المعبودية به سبحانه وتعالى لما
مرَّ منْ أنَّ معنى الحى الباقي الذي لا سبيل عليه للموت
والفناء ومعنى القيوم الدائمُ القيام بتدبير الخلق وحفظِه ومن
ضرورة اختصاصِ ذينك الوصفين به تعالى اختصاصُ استحقاقِ
المعبودية به تعالى لاستحالة
(2/2)
تحققِه بدونهما وقد رُوِيَ أنَّ رسولَ الله
صلى الله عليه وسلم قال اسمُ الله الأعظمِ في ثلاث سور في سورة
البقرة الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم وفي آل عمران الم
الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم وفي طه وَعَنَتِ الوجوه
لِلْحَىّ القيوم وروي أن بني إسرائيلَ سألوا موسى عليه السلام
عن اسم الله الأعظم قال الحى القيوم ويروى إنَّ عيسَى عليهِ
السَّلامُ كان إذا أراد إحياء الموتى يدعو يا حي يا قيوم ويقال
إن آصفَ بنَ برخيا حين أتى بعرش بِلْقيس دعا بذلك وقرئ الحي
القيام وهذا رد على من زعم إنَّ عيسَى عليهِ السَّلامُ كان
رباً فإنه روي أن وفد نجران قدِموا على رسُولِ الله صَلَّى
الله عليه وسلم وكانوا ستين راكباً فيهم أربعةَ عشرَ رجلاً من
أشرافهم ثلاثةٌ منهم أكابرُ إليهم يئول أمرُهم أحدُهم أميرُهم
وصاحبُ مشورتهم العاقبُ واسمُه عبدُ المسيحِ وثانيهم وزيرُهم
ومشيرُهم السيد واسمُهُ الأيهم وثالثهم حَبرُهم وأُسْقفُهم
وصاحبُ مِدْارَسِهِمْ أبو حارثةَ بنُ عَلْقمةَ أحدُ بني بَكْرِ
بنِ وائلٍ وقد كان ملوكُ الرومِ شرّفوه وموّلوه وأكرموه لما
شاهدوا من علمه واجتهاده في دينهم وبنَوْا له كنائسَ فلما
خرجوا من نجرانَ ركِب أبو حارثة بغلته وكان أخوه كُرْزُ بنُ
علقمةَ إلى جنبه فبينا بَغْلةُ أبي حارثةَ تسير إذ عثَرت فقال
كُرْزٌ تعساً للأبعد يريد به رسول اله صلى الله عليه وسلم فقال
له أبو حارثة بل تَعِسَتْ أمُّك فقال كُرْزٌ ولمَ يا أخي قال
إنه والله النبيُّ الذي كنا ننتظره فقال له كُرز فما يمنعُك
عنه وأنت تعلم هذا قال لأن هؤلاءِ الملوكَ أعطَوْنا أموالاً
كثيرةً وأكرمونا فلو آمنا به لأخذوا منا كلَّها فوقع ذلك في
قلب كرزٍ وأضمره إلى أن أسلم فكان يُحدِّث بذلك فأتَوا
المدينةَ ثم دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة
العصر عليهم ثيابُ الحِبَراتِ جُبَبٌ وأرديةٌ فاخرة يقول بعضُ
من رآهم من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ما رأينا
وفداً مثلَهم وقد حانت صلاتُهم فقاموا ليصلوا في المسجد فقال
عليه السلام دعُوهم فصلَّوا إلى المشرق ثم تكلم أولئك الثلاثةُ
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا تارةً عيسى هو الله
لأنه كان يُحيي الموتى ويبرئ الأسقام ويُخبرُ بالغيوب ويخلُق
من الطين كهيئة الطير فينفُخُ فيه فيطير وتارة أخرى هو ابنُ
الله إذ لم يكن له أبٌ يُعْلَم وتارة أخرى إنه ثالثُ ثلاثةٍ
لقوله تعالى فَعَلْنَا وَقُلْنَا ولو كان واحداً لقال فعلت
وقلت فقالَ لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أسلموا قالوا
أسلمنا قبلك قال صلى الله عليه وسلم كذبتم يمنعُكم من الإسلام
دعاؤكم لله تعالى ولداً قالوا إن ام يكن ولداً لله فمن ابوه
فقال صلى الله عليه وسلم ألستم تعلمون أنه لا يكون ولدٌ إلا
ويُشبِهُ أباه فقالوا بلى قال ألستم تعلمون أن ربنا حيٌّ لا
يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء قالوا بلى قال عليه السلام
ألستم تعلمون أن ربنا قيّومٌ على كل شيء يحفَظُه ويرزُقُه
قالوا بلى قال عليه السلام فهل يملِك عيسى من ذلك شيئاً قالوا
لا فقال عليه السلام ألستم تعلمون أن الله تعالى لا يخفى عليه
شيءٌ في الأرض ولا في السماء قالوا بلى قال عليه السلام فهل
يعلمُ عيسى من ذلك إلا ما علِم قالوا بلى قال عليه السلام
ألستم تعلمون أن ربنا صوَّر عيسى في الرحِم كيف شاء وأن ربنا
لا يأكلُ ولا يشرب ولا يُحْدِث قالوا بلى قال عليه السلام
ألستم تعلمون أن عيسى حملتْه أمُه كما تحمِل المرأة ووضعته كما
تضع المرأةُ ولدها ثم غُذّي كما يُغذَّى الصبيُّ ثم كان يطعَم
الطعامَ ويشرَبُ الشراب ويُحْدِثُ الحدث قالوا بلى قال عليه
السلام فكيف يكون هذا كما زعمتم فسكتوا وأبَوا إلا جحوداً
فأنزل الله عزَّ وجلَّ من أول السورة إلى نيِّفٍ وثمانين آيةً
تقريراً لما احتج به عليه السلام عليهم واجاب
(2/3)
34 - آل عمران
به عن شُبَهِهم وتحقيقاً للحق الذي فيه يمترون
(2/4)
نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
{نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} أي القرآنَ عبّر
عنه باسم الجنس إيذاناً بكمال تفوُّقه على بقية الأفراد في
حيازة كمالاتِ الجنس كأنه هو الحقيقُ بأن يُطلَقَ عليه اسمُ
الكتاب دون ما عداه كما يلوح به التصريحُ باسمي التوراةِ
والإنجيل وصيغة التفعيلِ للدَلالة على التنجيم وتقديمُ الظرفِ
على المفعولِ لما مر من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر
والجملةُ إمَّا مستأنفةٌ أو خبرٌ آخرُ عن الاسمِ الجليل أو هي
الخبر وقولُه تعالى لاَ إله إِلاَّ هُوَ اعتراض أو حال وقوله
عز وجل الحى القيوم صفةٌ أو بدل كما مر وقرئ نَزَلَ عليك
الكتابُ بالتخفيف ورفعِ الكتاب فالظاهرُ حينئذ أن تكونَ
مستأنفةٌ وقيل يجوزُ كونُها خبراً بحذف العائد أي نزَل الكتابُ
من عنده
{بالحق} حالٌ من الفاعلِ أو المفعول أي نزّله مُحِقاً في
تنزيله على ما هو عليه أو ملتبساً بالعدل في أحكامه أو بالصدق
في أخبارِه التي مِن جُملتِها خبرُ التوحيد وما يليه وفي وعده
ووعيدِه أو بما يحقِّق أنَّه من عندِ الله تعالى من الحجج
البينة
{مُصَدّقاً} حال من الكتاب بالاتفاق على تقدير كونِ قولِه
تعالى بالحق حالاً من فاعل نزّل وأما على تقدير حاليته من
الكتاب فهو عند من يجوِّز تعددَ الحال بلا عطف ولا بدلية حالٌ
منه بعد حال وأما عند من يمنعه فقد قيل إنه حالٌ من محل الحال
الأولى على البدلية وقيل من المستكنِّ في الجارِّ والمجرور
لأنه حينئذ يتحمّل ضميراً لقيامه مقامَ عاملِه المتحمّل له
فيكون حالاً متداخلةً وعلى كل حالٍ فهي حالٌ مؤكدة وفائدةُ
تقييدِ التنزيل بها حثُّ أهلِ الكتابين على الإيمان بالمُنَزّل
وتنبيهُهم على وجوبه فإن الإيمانَ بالمصدَّق موجب للإيمان بما
يصدقه حتماً
{لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} مفعول لمصدقاً واللامُ دِعامةٌ لتقوية
العمل نحوُ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ أي مصدقاً لما قبله من
الكتب السالفةِ وفيه إيماءٌ إلى حضورها وكمال ظهورِ أمرِها بين
الناس وتصديقُه إياها في الدعوةَ إلى الإيمان والتوحيد وتنزيه
الله عز وجل عمَّا لا يليقُ بشأنه الجليل والأمرُ بالعدل
والإحسان وكذا في أنباء الأنبياءِ والأممِ الخالية وكذا في
نزوله على النعت المذكور فيها وكذا في الشَّرائعِ التي لا
تختلفُ باختلاف للأمم والأعصار ظاهرٌ لا ريبَ فيه وأمَّا في
الشرائع المختلفة باختلافهما فمن حيث أن أحكام كل واحد منها
واردةٌ حسبما تقتضيه الحِكمةُ التشريعيةُ بالنسبة إلى خصوصيات
الأمم المكلفةِ بها مشتملةٌ على المصالح اللائقةِ بشأنهم
{وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} تعيينٌ لما بين يديه وتبيينٌ
لرفعة محلِّه تأكيداً لما قبله وتمهيداً لما بعده إذ بذلك
يترقى شأنُ ما يصدّقه رفعةً ونباهةً ويزداد في القلوب قبولاً
ومهابةً ويتفاحش حالُ من كفرَ بهما في الشناعة واستتباعِ ما
سيذكر من العذاب الشديد والانتقام أي أنزلهما جملةً على مُوسى
وعيسى عليهما السَّلامُ وإنما لم يُذكرا لأن الكلام في
الكتابين لا فيمن أنزِلا عليه وهما اسمان أعجميانِ الأولُ
عِبري والثاني سرياني ويعضُده القراءةُ بفتح همزةِ الإنجيل فإن
إفعيل ليس من أبنية العربِ والتصدي لاشتقاقهما من الورى
والنجْل تعسفٌ
(2/4)
مِنْ قَبْلُ هُدًى
لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
ذُو انْتِقَامٍ (4)
{مِن قَبْلُ} متعلق بأنزل
(2/4)
أي أنزلهما من قبل تنزيلِ الكتاب والتصريحُ
به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان
{هُدًى لّلنَّاسِ} في حيز النصبِ على أنه عِلة للإنزال أي
أنزلهما لهداية الناس أو على أنه حالٌ منهما أي أنزلهما حالَ
كونهما هدى لهم والإفرادُ لما أنه مصدر جُعلا نفسَ الهدى
مبالغةً أو حُذف منه المضاف أي ذوَيْ هدى ثم إنْ أريد هدايتهما
بجميع ما فيهما من حيث هو جميعٌ فالمراد بالناس الأمم الماضية
من حين نزولهما إلى زمان نسخِهما وإن أريد هدايتُهما على
الإطلاق وهو الأنسبُ بالمقام فالناسُ على عمومه لما أن
هدايتهما بما عد الشرائعَ المنسوخةَ من الأمور التي يصدّقهما
القرآن فيها ومن جملتها البشارةُ بنزوله وبمبعث النبيِّ صلَّى
الله عليهِ وسلم تعمُّ الناس قاطبة
{وَأَنزَلَ الفرقان} الفرقانُ في الأصل مصدرٌ كالغفران أُطلق
على الفاعل مبالغة والمرادُ به ههنا أما جنس الكتب إلهية
عُبِّر عنها بوصف شامل لما ذكر منها ومالم يُذكر على طريق
التتميم بالتعميم إثرَ تخصيصِ بعضِ مشاهيرها بالذكر كما في
قوله عز وجل فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً إلى قوله
تعالى وفاكهة وإما نفسُ الكتبِ المذكورة أعيد ذكرها بوصف خاص
لم يذكر فيما سبق على طريقة العطفِ بتكرير لفظِ الإنزال
تنزيلاً للتغاير الوصفيِّ منزلةَ التغايرِ الذاتيِّ كما في
قوله سبحانه وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هودا والذين
آمنو مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ
غَلِيظٍ وأما الزبورُ فإنه مشتمِلٌ على المواعظ الفارقة بين
الحقِّ والباطِلِ الداعية إلى الخير والرشاد الزاجرةِ عن الشر
والفساد وتقديمُ الإنجيل عليه مع تأخره عنه نزولاً لقوة
مناسبته للتوراة في الاشتمال على الأحكام والشرائع وشيوع
اقترانهما في الذكر وأما القُرآنُ نفسه ذكر بنعت مادحٍ له بعد
ما ذكر باسم الجنس تعظيماً لشأنه ورفعاً لمكانه وقد بُين أولاً
تنزيلُه التدريجيُّ إلى الأرض وثانياً إنزالُه الدفعيّ إلى
السماء الدنيا أو أريد بإنزال القدْرُ المشترك العاري عن قيد
التدريج وعدمِه وإما المعجزات المقرونة بغنزال الكتبِ المذكورة
الفارقة بين المُحقِّ والمُبْطل
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله} وُضع موضعَ الضَّميرِ
العائد إلى ما فُصل من الكتب المنزلة أو منها ومن المعجزات
وآيات مضافةً إلى الاسم الجليل تعييناً لحيثية كفرِهم وتهويلاً
لأمرهم وتأكيداً لاستحقاقهم العذابَ الشديد وإيذاناً بأن ذلك
الاستحقاقَ لا يشترط فيه الكفرُ بالكل بل يكفي فيه الكفرُ
ببعضٍ منها والمرادُ بالموصول إما أهلُ الكتابين وهو الأنسبُ
بمقام المُحاجةِ معهم أو جنسُ الكفَرة وهم داخلون فيه دخولا
أولياً أي إن الذين كفروا بما ذُكر من آيات الله الناطقة بالحق
لاسيما بتوحيده تعالى وتنزيهِه عمَّا لا يليقُ بشأنه الجليل
كلا أوبعضا مع ما بها من النعوت الموجبةِ للإيمان بها بأن
كذبوا بالقرآن أصالةً وبسائر الكتُب الإلهية تبعاً لما أن
تكذيبَ المصدق موجب لتكذيب ما يصدِّقُه حتماً وأصالة أيضاً بأن
كذبوا بآياتها الناطقةِ بالتوحيد والتنزيه وآياتها المبشرة
بنزولِ القرآن ومبعث النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وغيّروها
{لَهُمْ} بسبب كفرهم بها
{عَذَابِ} مرتفعٌ إما على الفاعلية من الجار والمجرور أو على
الابتداء والجملة خبرُ إن والتنوينُ للتفخيم أي أيُّ عذابٌ
{شَدِيدٍ} لا يقادَر قدرُه وهو وعيد جئ به إثر تقرير
أمرالتوحيد الذاتي والوصفي والإشارةِ إلى ما ينطِقُ بذلك من
الكتب الإلهية حملاً على القبول والإذعان وزجراً عن الكفر
والعصيان
{والله عَزِيزٌ} لا يغالَب يفعلُ مَا يشاءُ ويَحكمُ ما يرد
{ذُو انتقام} عظيم خارجٍ عن أفراد جنسه وهو افتعال من النِقْمة
وهي السطورة والتسلطُ يقال انتقم منه إذا عاقبه بجنايته
والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ للوعيد
(2/5)
5 - 6 آل عمران
ومؤكد له
(2/6)
إِنَّ اللَّهَ لَا
يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ
(5)
{إِنَّ الله لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض
ولا في السماء} استئنافُ كلامٍ سيق لبيان سعةِ علمِه تعالى
وإحاطتِه بجميع ما في العالم من الأشياء التي من جملتها ما
صدرَ عنهُم من الكفر والفسوقِ سراً وجهراً إثرَ بيانِ كمالِ
قدرتِه وعزته تربيةً لما قبله من الوعيد وتنبيهاً على أن
الوقوفَ على بعض المغيبات كما كان في عيسى عليه السلام بمعزل
من بلوغ رتبةِ الصفاتِ الإلهية وإنما عبر من علمه عز وجل بما
ذُكر بعدم خفائِه عليهِ كما في قولِهِ سبحانه وَمَا يخفى عَلَى
الله مِن شَىْء فَى الأرض ولا في السماء إيذاناً بأن علمَه
تعالى بمعلوماته وإن كانت في أقصى الغايات الخفيةِ ليس من شأنه
أن يكون على وجهُ يمكن أن يقارِنه شائبةُ خفاءٍ بوجهٍ من
الوجوه كما في علوم المخلوقين بل هو في غايه الوضوحِ والجلاءِ
والجملةُ المنفيةُ خبرٍ لإن وتكريرُ الإسنادِ لتقوية الحُكم
وكلمةُ في متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع صفة لشيىء مؤكدة لعمومه
المستفادة من وقوعه في سياق النفي أي لا يخفى عليه شيئ ما
كائنٌ في الأرض ولا في السماء أعمُّ من أن يكون ذلك بطريق
الاستقرار فيهما أو الجزئية منهما وقيل متعلقة بيخفى وإنما عبر
بهما عن كل العالم لأنهما قُطراه وتقديمُ الأرض على السماء
لإظهار الاعتناء بشأن أحوالِ أهلِها وتوسيطُ حرف النفي بينهما
للدَلالة على الترقي من الأدنى إلى الأعلى باعتبار القربِ
والبعدِ منا المستدعِيَين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا وقوله عز
وجل
(2/6)
هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
{هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الارحام
كَيْفَ يَشَاء} جملة مستأنفةٌ ناطقةٌ ببعض أحكام قيّومَّيتِه
تعالى وجَرَيانِ أحوالِ الخلق في أطوار الوجودِ حسبَ مشيئتِه
المبنيةِ على الحكم البالغةِ مقرِّرةٌ لكمال علمِه مع زيادة
بيانٍ لتعلقه بالأشياء قبل دخولِها تحت الوجود ضرورةَ وجوبِ
علمِه تعالى بالصور المختلفة المترتبة على التصوير المترتِّب
على المشيئة قبل تحقّقِها بمراتب وكلمةُ في متعلقةٌ بيصوِّركم
أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ضمير المفعولِ أي يصوركم وأنتم في
الأرحام مُضَغٌ وكيف معمول ليشاءُ والجملة في محل النصب على
الحالية إما من فاعل يصوركم أي يصورُكم كائناً على مشيئته
تعالى أي مُريداً أو من مفعولِه أي يصوركم كائنين على مشيئته
تعالى تابعين لها في قَبول الأحوالِ المتغايرة من كونكم نُطفاً
ثم عَلَقاً ثم مُضَغاً غيرَ مخلّقة ثم مُخلّقة وفي الاتصاف
بالصفات المختلفةِ من الذكورة والأنوثة والحُسن والقُبح وغيرِ
ذلكَ منَ الصفاتِ وفيه من الدلالة على بطلان زعْم من زَعَم
ربوبيةَ عيسى عليه السلام وهو من جملة أبناءِ النواسيتِ
المتقلّبين في هذه الأطوار على مشيئة الباري عز وجل وكمال
ركاكة عقولهم مالا يخفي وقرئ تَصَوَّركم على صيغة الماضي من
التفعل أي صوّركم لنفسه وعبادتِه
{لاَ إله إِلاَّ هُوَ} إذ لا يتصف بشيء مما ذُكر من الشئون
العظيمةِ الخاصةِ بالألوهية أحدٌ ليُتَوهَّم ألوهيتُه
{العزيز الحكيم} المتناهي في القدرة والحِكمة ولذلك يخلقُكم
على ما ذكر من النمط البديع
(2/6)
7 - آل عمران
(2/7)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ
ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
{هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} شروعٌ
في إبطال شُبَهِهم الناشئةِ عما نَطَق به القرآن في نعت عيسى
عليه السلام بطريق الاستئناف إثرَ بيان اختصاصِ الربوبية
ومناطِها به سبحانه وتعالى تارةً بعد أخرى وكونِ كل مَنْ عداه
مقهوراً تحت مَلَكوته تابعاً لمشيئته قيل إن وفدَ نجرانَ قالوا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألست تزعُم يا محمد أن عيسى
كلمةُ الله وروح منه قال صلى الله عليه وسلم بلى قالوا فحسبُنا
ذلك فنعى عليهم زيغَهم وفتنتَهم وبيّن أن الكتابَ مؤسسٌ على
أصول رصينةٍ وفروعٍ مَبْنية عليها ناطقةٍ بالحق قاضيةٍ ببطلانِ
ما هُم عليه من الضلال والمرادُ بالإيزال القدرُ المشتركُ
المجرَّدُ عن الدِلالة على قيد التدريج وعدمِه ولامُ الكتاب
للعهد وتقديم الظرف عليه لما أشير إليه فيما قبل من الاعتناءِ
بشأن بشارتِه عليه السلام بتشريف الإنزال عليه ومن التشويق إلى
ما أُنزل فإنَّ النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لا سيما
بعد الإشعار برفعة شأنِه أو بمنفعته تبقَى مترقبةً لهُ فيتمكنُ
لديها عند ورودِه عليها فضلُ تمكُّنٍ وليتصل به تقسيمه إلى
قسيمه
{مِنْهُ آيات} الظرفُ خبر وآياتٌ مبتدأ أو بالعكس بتأويل مر
تحقيقه في قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ الآية والأولُ
أوفقُ بقواعد الصناعة والثاني أدخلُ في جزالة المعنى إذ
المقصودُ الأصليّ انقسامُ الكتاب إلى القسمين المعهودين لا
كونُهما من الكتاب فتذكر والجملة مستأنفة أو في حيزِ النصبِ
على الحاليَّةِ من الكتابِ أي هو الذي أنزل الكتابَ كائناً على
هذه الحال أي منقسماً إلى مُحْكَمٍ ومتشابهٍ أو الظرفُ هو
الحال وحدَه وآياتٌ مرتفعٌ به على الفاعليةِ
{محكمات} صفةُ آياتٌ أي قطعيةُ الدِلالة على المعنى المراد
مُحْكمةُ العبارةِ محفوظةٌ من الاحتمال والاشتباه
{هُنَّ أُمُّ الكتاب} أي أصلٌ فيه وعُمدةٌ يُردُّ إليها غيرُها
فالمرادُ بالكتابِ كلُّه والإضافة بمَعْنَى في كَما في واحد
العشرةِ لا بمعنى اللام فإن ذلك يؤدي إلى كون الكتاب عبارةً
عما عدا المحكماتِ والجملةُ إما صفة لما قبلها أو مستأنفةٌ
وإنما أفرد الأم مع تعدد الآيات لما أن المراد بيانُ أصليةِ
كلِّ واحدةٍ منها أو بيانُ أن الكل بمنزلة آية واحدة كما في
قوله تعالى وجعلناها وابنها آية للعالمين وقيل اكتُفيَ بالمفرد
عن الجمع كما في قول الشاعر ... بها جِيَفُ الحصرى فأما
عظامُها ... فبِيضٌ وأما جِلْدُها فصَليبُ ... أي وأما جلودها
{وأخر} لمحذوف معطوفٌ على آياتٌ أي وآياتٌ أخَرُ وهي جمع أخرى
وإنما لم ينصَرِفْ لأنه وصف معدول عن الآخِر أو عن آخر من
{متشابهات} صفة لأخَرُ وفي الحقيقة صفةٌ للمحذوف أي محتمِلاتٌ
لمعانٍ متشابهة لا يمتاز بعضها من بعض في استحقاق الإرادة بها
ولا يتضح الأمرُ إلا بالنظر الدقيق والتأملِ الأنيق فالتشابه
في الحقيقة وصفٌ لتلك المعاني وُصف به الآياتُ على طريقة وصف
الدالِّ بوصف المدلول وقيل لما كان من شأن الأمور المتشابهة أن
يعجِزَ العقل عن التمييز بينها سُمِّي كل ما لا يهتدي إليه
العقل متشابهاً وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه
(2/7)
كما أن المُشكِل في الأصل ما دخل في أشكاله
وأمثاله ولم يُعلم بعينه ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن
غموضُه من تلك الجهة وإنما جعل ذلك كذلك ليظهر فضلُ العلماء
ويزدادَ حِرصهم على الاجتهاد في تدبرها ونحصيل العلوم التي نيط
بها استنباطُ ما أريد بها من الأحكام الحقة فينالوا بها
وبإتعاب القرائح في استخراج مقاصدها الرائفة ومعانيها اللائقة
المدارجَ العالية ويعرِّجوا بالتوفيق بينها وبين المُحْكمات من
اليقين والاطمئنان إلى المعارج القاصيةِ وأما قوله عز وجل {الر
كتاب أحكمت آياته} فمعناه أنها حُفِظت من اعتراء الخلل أو من
النسخ أو أُيِّدت بالحُجج القاطعةِ الدالةِ على حقِّيتها أو
جُعلت حكيمةً لانطوائها على جلائل الحِكَم البالغةِ ودقائقِها
وقوله تعالى كتابا متشابها مَّثَانِيَ معناه متشابهُ الأجزاء
أي يشبه بعضُها بعضاً في صحة المعنى وجزالةِ النظم وحقية
المدلول
{فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ميلٌ عن الحق
إلى الأهواء الباطلة قال الراغبُ الزيغُ الميلُ عن الاستقامة
إلى أحد الجانبين وفي جعل قلوبهم مقراً للزيغ مبالغةٌ في
عدولهم عن سَنن الرشاد وإصرارِهم على الشر والفساد
{فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ} مُعْرضين عن المُحْكمات أي
يتعلقون بظاهر المتشابه من الكتاب أو بتأويل باطلٍ لا تحرِّياً
للحق بعد الإيمان بكونه من عند الله تعالى بل
{ابتغاء الفتنة} أي طلبَ أن يفتِنوا الناسَ عن دينهم بالتشكيك
والتلبيس ومناقضةِ المُحكم بالمتشابه كما نُقل عن الوفد
{وابتغاء تَأْوِيلِهِ} أي وطلب أن يؤلوه حسبما يشتهونه من
التأويلات الزائغةِ والحال أنهم بمعزل من تلك الرتبة وذلك قوله
عز وجل
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم}
فإنه حالٌ من ضمير فَيَتَّبِعُونَ باعتبار العلة الأخيرة أي
يتّبعون المتشابهِ لابتغاء تأويلِه والحالُ أنه مخصوصٌ به
تعالى وبمن وفّقه له من عباده الراسخين في العلم أي الذين
ثبَتوا وتمكّنوا فيه ولم يتزلزلوا في مزال الأقدام في تعليل
الاتّباعِ بابتغاء تأويلِه دون نفسِ تأويلِه وتجريدِ التأويل
عن الوصف بالصحة أو الحقية إيذانٌ بأنهم ليسوا من التأويل في
شئ وأن ما يبتغونه ليس بتأويل أصلاً لا أنه تأويلٌ غيرُ صحيح
قد يُعذر صاحبه ومن وقف على إِلاَّ الله فسّر المتشابهَ بما
استأثر الله عز وعلا بعلمه كمدة بقاءِ الدنيا ووقتِ قيام
الساعة وخواصِّ الأعداد كعدد الزبانية أو بما دل القاطعُ على
عدم إرادة ظاهرِه ولم يدل على ما هو المراد به
{يقولون آمنا بِهِ} أي بالمتشابه وعدمُ التعرُّض لإيمانهم
بالمُحْكم لظهوره أو بالكتاب والجملة على الأول استئنافٌ
موضِّحٌ لحال الراسخين أو حال منه وعلى الثاني خبر لقوله تعالى
والراسخون وقوله تعالى
{كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} من تمام المَقول مقرِّر لما قبله
ومؤكِّد له أي كلُّ واحدٍ منه ومن المحكم أو كلُّ واحد من
متشابهه ومحكَمِه منزلٌ من عنده تعالى لا مخالفةَ بينهما أو
آمنا به وبحقيته على مراده تعالى
{وَمَا يَذَّكَّرُ} حقَّ التذكر
{إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} أي العقولِ الخالصةِ عن الركون إلى
الأهواء الزائغةِ وهو تذييلٌ سيق من جهته تعالى مدحاً للراسخين
بجَوْدة الذهن وحسنِ النظر وإشارةٌ إلى ما به استعدوا للاهتداء
إلى تأويله من تجرد العقلِ عن غواشي الحِسِّ وتعلقُ الآيةِ
الكريمة بما قبلها من حيث إنها جوابٌ عما تشبّث به النصارى من
نحو قوله تعالى وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ
مّنْهُ على وجه الإجمال وسيجئ الجوابُ المفصل بقوله تعالى
إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كمثل آدم خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ
ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
(2/8)
8 - 9 آل عمران
(2/9)
رَبَّنَا لَا تُزِغْ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ
لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} من تمام
مقالةِ الراسِخين أي لا تُزِغْ قلوبَنا عن نهج الحقِّ إلى
اتباع المتشابهِ بتأويلٍ لا ترتضيه قال صلى الله عليه وسلم
قلبُ ابن آدمَ بين أصْبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه على
الحقّ وإن شاء أزاغه عنه وقيل معناه لا تَبْلُنا ببلايا تزيغ
فيها قلوبنا
{بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} أي إلى الحق والتأويل الصحيح أو إلى
الإيمان بالقسمين وبعد نُصبَ بلا تزِغ على الظرف وإذْ في محل
الجر بإضافته إليه خارجٌ من الظرفية أي بعد وقت هدايتِك إيانا
وقيل إنه بمعنى أنْ
{وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ} كلا الجارّين متعلق بهَبْ وتقديم
الأول لما مر مراراً ويجوز تعلّقُ الثاني بمحذوف هو حالٌ من
المفعول أي كائنة من لدنك ومن لابتداء الغاية المجازية ولدُنْ
في الأصل ظرفٌ بمعنى أولُ غايةِ زمانٍ أو مكان أو غيرِهما من
الذوات نحوُ من لدُنْ زيدٍ وليست مرادفةً لعند إذ قد تكون فضلة
وكذا لدى وبعضُهم يخُصُّها بظرف المكان وتضاف إلى صريح الزمان
كما في قوله ... تنتفضُ الرّعدةُ في ظُهَيْري ... من لدنِ
الظُهرِ إلى العُصَيرِ ... ولا تُقطع عن الإضافة بحال وأكثرُ
ما تضاف إلى المفردات وقد تضاف إلى أنْ وصلتِها كما في قوله
... ولم تقْطعَ اصلاً من لدنْ أنْ ولِيتَنا ... قرابةَ ذي
رَحْمٍ ولا حقَّ مسلمِ ... أي من لدن ولايتِك إيانا وقد تضاف
إلى الجملة الاسميةِ كما في قوله ... تَذَكَّرُ نُعماه لدُنْ
أنت يافعُ ... وإلى الجملة الفعلية أيضاً كَما في قولِه ...
لزمنا لدن سالتمونا وفاتكم ... فلا يكُ منكم للخِلاف جُنوحُ
... وقلما تخلو عن من كما في البيتين الأخيرين
{رَحْمَةً} واسعةً تُزلِفُنا إليك ونفور بها عندك أو توفيقاً
للثبات على الحق وتأخيرُ المفعول الصريح عن الجارّين لما مر
مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر فإنَّ ما
حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً لوروده لاسيما
عند الإشعارِ بكونه من المنافعِ باللام فإذا أورده يتمكن عندها
فضلُ تمكّنٍ
{إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} تعليلٌ للسؤال أو لإعطاء المسئول وأنت
إما مبتدأٌ أو فصلٌ أو تأكيدٌ لاسم إنّ وإطلاقُ الوهاب ليتناول
كلَّ موهوب وفيه دِلالة على أن الهدى والضلال من قِبله تعالى
وأنه متفضّلٌ بما يُنعم به على عباده من غير أن يجب عليه شئ
(2/9)
رَبَّنَا إِنَّكَ
جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس ليوم} أي
الحساب يوم او الجزاء يوم حُذف المضاف وأقيم مُقامه المضافُ
إليه تهويلاً له وتفظيعاً لما يقع فيه
{لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في وقوعه ووقوعِ ما فيه من الحشر
والحسابِ والجزاء ومقصودُهم بهذا عرضُ كمالِ افتقارِهم إلى
الرحمة وأنها المقصِدُ الأسنى عندهم والتأكيدُ لإظهار ما هم
عليه من كمال الطمأنينةِ وقوة اليقينِ بأحوال الآخرة
{إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} تعليلٌ لمضمون الجملة
المؤكدةِ أو لانتفاء الريب والتأكيد لما مر وإظهارُ الاسمِ
الجليل مع الالتفات لإبراز كمالِ التعظيم والإجلال الناشئ من
ذكر اليوم المَهيب الهائل بخلاف ما في آخرِ السُّورةِ الكريمة
فإنه مقامُ طلب الإنعام كما سيأتي وللإشعار بعلة الحُكم فإن
الألوهيةَ منافيةٌ للإخلاف وقد جُوِّز أن تكون الجملةُ مَسوقةً
من جهته تعالى لتقرير قولِ الراسخين والميعادُ مصدرٌ كالميقات
واستُدل به الوعيديه
(2/9)
10 - 11 آل عمران
وأجيب بأن وعيدَ الفساقِ مشروطٌ بعدم العفو بدلائلَ مفصلةٍ كما
هو مشروط بعدم التوبة وِفاقاٌ
(2/10)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا
أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ
النَّارِ (10)
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} إثرَ ما بين
الدينَ الحقَّ والتوحيد وذكر أحوالَ الكتب الناطقةِ به وشرح
شأن القرآنِ العظيم وكيفيةِ إيمانِ العلماء الراسخين به شَرَع
في بيان حال مَنْ كفر به والمرادُ بالموصول جنسُ الكفرة
الشاملُ لجميع الأصناف وقيل وفدُ نجرانَ أو اليهودُ من قريظةَ
والنضِير أو مشركو العرب
{لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ} أي لن تنفعهم وقرئ بالتذكير وبسكون
الياء جِدّاً في استثقال الحركة على حروف اللين
{أموالهم} التي يبذُلونها في جلبِ المنافعِ ودفعِ المضارِّ
{وَلاَ أولادهم} الذين بهم ينتصرون في الأمور المُهمة وعليهم
يعوّلون في الخطوب المُلمة وتأخيرُ الأولاد عن الأموال مع
توسيط حرف النفي بينهما إما لعراقة الأولادِ في كشف الكروب أو
لأن الأموال أولُ عُدّة يُفزع إليها عند نزول الخطوب
{مِنَ الله} من عذابه تعالى
{شَيْئاً} أي شيئاً من الإغنياء وقيل كلمة من بمعنى البدل
والمعنى بدلَ رحمةِ الله أو بدلَ طاعته كما في قوله تعالى
إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا أي بدل الحق ومنه
قوله ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدُّ أي لا ينفعه جَدُّه بدلك
أي بدلَ رحمتك كما في قوله تعالى وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم
بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى وأنت خبير بأن احتمال سدِّ
أموالِهم وأولادهم مسدَّ رحمة الله تعالى أو طاعته مما لا
يخطُر ببال أحد حتى يُتصدَّى لنفيه والأولُ الأليقُ بتفظيع حال
الكفرة وتهويل أمرهم والأنسبُ بما بعدَهُ من قولِه تعالى
{وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار} ومن قوله تعالى فَأَخَذَهُمُ
الله أي أولئك المتّصفون بالكفر حطبُ النار وحصَبُها الذي
تُسعّر به فإن أريد بيانُ حالِهم عند التسعير فإيثارُ الجملةِ
الاسمية للدِلالة على تحقق الأمر وتقرّره وإلا فهو للإيذان بأن
حقيقة حالِهم ذلك وأن أحوالهم الظاهرةَ بمنزلة العدم فَهُمُ
حالَ كونهم فِى الدنيا وَقودُ النار بأعيانهم وفيه من الدلالة
على كمال ملابستهم بالنار مالا يخفى وهم يحتمل الابتداءَ وأن
يكون ضمير الفصل والجملة وإما مستأنفة مقررة لعدم الإغنياء أو
معطوفة على خبر إن وأيا ما كان ففيها تعيينٌ للعذاب الذي بيّن
أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم منه شيئا وقرئ وُقود النار
بضم الواو وهو مصدر أي أهلُ وقودها
(2/10)
كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (11)
{كدأب آل فِرْعَوْنَ} الدأبُ مصدرُ دأَبَ
في العمل إذا كدح فيه وتعِب غلب استعمالُه في معنى الشأن
والحال والعادة ومحلُّ الكاف الرفعُ على أنه خبر لمبتدأ محذوف
وقد جوز لنصب بلن تغني أو بالوَقود أي لن تغني عنهم كما لم
تغنِ عن أولئك أو توقد بهم النارُ كما توقد بهم وأنتَ خبيرٌ
بأنَّ المذكورَ في تفسير الدأب إنما هو التكذيبُ والأخذ من غير
تعرُّض لعدم الإغناء لاسيما على تقدير كونِ مِنْ بمعنى البدل
كما هو رأيُ المجوِّز ولا لإيقاد النار فيُحمل على التعليل وهو
خلاف
(2/10)
12 - آل عمران
الظاهر على أنه يلزَمُ الفصل بين العامل والمعمول بالأجنبي على
تقدير النصب بلن تغني وهو قوله تعالى وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ
النار إلا أن يُجعل استئنافاً معطوفاً على خبر إن فالوجهُ هو
الرفعُ على الخبريةِ أيِ دأبُ هؤلاءِ في الكفر وعدمِ النجاة من
أخْذِ الله تعالى وعذابه كدأب آلِ فِرْعَوْنَ
{والذين مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبل آلِ فرعونَ من الأمم
الكافرة فالموصولُ في محل الجر عطفاً على ما قبله وقوله تعالى
{كذبوا بآياتنا} بيانٌ وتفسير لدأبهم الذي فعلوا على طريق
الاستئنافِ المبنيِّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ كيف كان دأبهم
فقيل كذبوا بآياتنا وقوله تعالى
{فَأَخَذَهُمُ الله} تفسيرٌ لدأبهم الذي فُعل بهم أي فأخذهم
الله وعاقبهم ولم يجدوا من بأس الله تعالى محيصاً فدأبُ هؤلاء
الكفرةِ أيضاً كدأبهم وقيل كذبوا الخ حالٌ من آلِ فِرْعَوْنَ
والذين مِن قَبْلِهِمْ على إضمار قد أي دأبُ هؤلاء كدأب أولئك
وقد كذبوا الخ وأما كونه خبر عن الموصول كما قيل فمما يذهب
برونق النطم الكريم والالتفاتُ إلى التكلم أولاً للجَريِ على
سَنَنِ الكبرياءِ وإلى الغَيبة ثانياً بإظهار الجلالة لتربية
المهابةِ وإدخالِ الروعة
{بِذُنُوبِهِمْ} إن أريد بها تكذيبُهم بالآيات فالباء للسببية
جئ بها تأكيداً لما تفيده الفاء من سببية ما قبلَها لما بعدَها
وإن أريد بها سائرُ ذنوبهم فالباء للملابسة جيء بها للدِّلالةِ
على أن لهم ذنوبا أخر أي فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غيرَ تائبين
عنها كما في قوله تعالى وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون
والذنب في الأصل التِلْوُ والتابع وسمي الجريمةُ ذنباً لأنها
تتلو أي تتبع عقابُها فاعلَها
{والله شَدِيدُ العقاب} تذييلٌ مقرِّر لمضمونِ ما قبله من
الأخذ وتكملةٌ له
(2/11)
قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ
وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} المرادُ بهم
اليهودُ لما رويَ عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ يهودَ
المدينة لما شاهدوا غلبةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على
المشركين يومَ بدرٍ قالوا والله إنه النبيُّ الأميُّ الذي
بشرنا به موسى وفي التوراة نعتُه وهموا باتباعه فقال بعضُهم لا
تعجَلوا حتى ننظر إلى واقعة له أخرى فلما كان يومُ أحُد شكّوا
وقد كان بينهم وبين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ إلى
مدة فنقضوه وانطلق كعبُ بن الأشرفِ في ستين راكباً إلى أهل مكة
فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت
وعن سعيد بن جبير وعكرمة وعن ابن عباس رضي الله عنهم أن
النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لما أصاب قريشاً ببدر ورجع إلى
المدينة جمع اليهودَ في سوق بني قَينُقاع فحذّرهم أن ينزل بهم
ما نزل بقريش فقالوا لا يغرَّنك أنك لقِيت قوماً أغماراً لا
علم لهم بالحرب فأصبْتَ منهم فرصة لئن قاتلْتَنا لعلِمْتَ أنا
نحنُ الناسُ فنزلت أي قل لهم
{سَتُغْلَبُونَ} اْلبتةَ عن قريب في الدنيا وقد صدق الله عز
وجل وعدَه بقتل بني قريظة وإجلاءِ بني النضِير وفتح خيبر وضربِ
الجزية على مَنْ عداهم وهو من أوضح شواهد النبوة وأمَّا ما
رُوِيَ عن مقاتل من أنها نزلت قبل بدر وأن الموصول عبارة عن
مشركي مكةَ ولذلك قال لهم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يوم
بدر إنَّ الله غالبُكم وحاشرُكم إلى جهنم وبئس المهاد فيؤدي
إلى انقطاع الآية الكريمة عما بعدها لنزوله بعد وقعة بدر
{وَتُحْشَرُونَ} أي في الآخرة
{إلى جهنم} وقرئ الفعلان بالياء على أنه عليهِ السلامُ أُمر
بأنْ يحكي لهم ماأخبر الله تعالى به من وعيدهم بعبارته كأنه
قيل أدِّ إليهم هذا القول
{وَبِئْسَ المهاد} إما من تمامِ ما يُقالُ لهم أو استئنافٌ
لتهويل جهنم وتفظيع حالِ أهلها والمخصوصُ بالذم
(2/11)
13 - آل عمران
محذوف أي وبئس المهاد جهنمُّ أو ما مَهَدوه لأنفسهم
(2/12)
قَدْ كَانَ لَكُمْ
آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ
الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
6 - {قَدْ كَانَ لَكُمْ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ
وهو من تمام القولِ المأمورِ به جيء به لتقرير مضمونِ ما قبله
وتحقيقِه والخطابُ لليهود أيضاً والظرف خبر كان على أنها ناقصة
ولتوسطه بينها وبين اسمها ترك التأنيت كما في قوله ... أنْ
أمراً غرّه منكن واحدة ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرورُ ...
على أن التأنيث ههنا غير حقيقي أو هو متعلق بكان على أنها تامة
وإنما قدم على فاعلها لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم
والتشويق إلى ما أُخّر أي والله قد كان لكم أيها المغترون
بعددهم وعددهم
{آيةً} عظيمةً دالَّةً على صدق ما أقول لكم إنكم ستُغلبون
{فِي فِئَتَيْنِ} أي فرقتين أو جماعتين فإن المغلوبة منهما
كانت مدلة بكثرتها معجبة بعزتها وقد لقِيَها ما لقيها
فسيصيبُكم ما يصيبكم ومحلُ الظرفِ الرفعُ على أنَّه صفةٌ لآيةٌ
وقيل النصب على خبرية كان والظرف الأول متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ
حالاً من آية
{التقتا} في حيِّز الجرِّ على أنه صفة فئتين أي تلاقتا بالقتال
يوم بدر
{فِئَةٌ} بالرفع خبرُ مبتدإٍ محذوف أي إحداهما فئة كما في قوله
... إذَا متّ كان الناسُ حزبين شامت ... وآخَرُ مُثنٍ بالذي
كنت أصنعُ ... أي أحدهما شامت والآخر مثنٍ وقولِه ... حتى إذا
ما استقلّ النجمُ في غلَس ... وغودر البقلُ ملويٌّ ومحصودُ ...
والجملةُ مع ما عطف عليها مستأنفةٌ لتقرير ما في الفئتين من
الآية وقوله تعالى
{تقاتل فِى سَبِيلِ الله} في محلِ الرفعِ على أنَّه صفة فئة
كاملة كأنه قيل فئة مؤمنة ولكن ذُكر مكانه من أحكام الإيمان ما
يليقُ بالمقام مدحاً لهم واعتداداً بقتالهم وإيذاناً بأنه
المدارُ في تحقق الآية وهي رؤية القليل كثيرا وقرئ يقاتل على
تأول الفئة بالقوم أو الفريق
{وأخرى} نعت لمبتدأ محذوف معطوف على ما حذف من الجملة الأولى
أي وفئة أخرى وإنما نكرت والقياس تعريفها كقرينتها لوضوح أن
التفريق لنفس المثنى المقدم ذكره وعدم الحاجة إلى التعريف
وقوله تعالى
{كَافِرَةٌ} خبرُ المبتدأ المحذوف وإنما لم توصف هذه الفئة بما
يقابل صفة الفئة الأولى إسقاطاً لقتالهم عن درجة الاعتبار
وإيذاناً بأنهم لم يتصدَّوْا للقتال لما اعتراهم من الرعب
والهيبة وقيل كلٌّ من المتعاطِفَين بدلٌ من الضمير في التقتا
وما بعدهما صفة فلا بد من ضمير محذوفٍ عائدٍ إلى المبدل منه
مسوِّغٍ لوصف البدل بالجملة العارية عن ضميره أي فئةٌ منهما
تقاتل الخ وفئة أخرى كافرة ويجوز أن يكون كلٌّ منهما مبتدأً
وما بعدهما خبرا أي فئةٌ منهما تقاتل الخ وفئة أخرى كافرة وقيل
كل منهما مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أيْ منهما فئة تقاتل الخ وقرئ
فئةٍ بالجر على البدلية من فئتين بدلَ بعض من كل وقد مر أنه لا
بد من ضمير عائد إلى المبدل منه ويسمى بدلاً تفصيلياً كما في
قول كثير عزة ... وكنت كذي رِجلين رِجلٍ صحيحة ... ورجلٍ رمى
فيها الزمان فشلت ... وقرئ فئة الخ بالنَّصبِ على المدحِ أو
الذم أو على الحالية من ضمير التقتا كأنه قيل التقتا مؤمنةً
وكافرةً فيكون فئة وأخرى توطئةً لما هو الحال حقيقة إذ
المقصودُ بالذكر وصْفاهما كما في قولك جاءني زيدٌ رَجُلاً
صالِحاً
{يَرَوْنَهُمْ} أي يري الفئةُ الأخيرةُ الفئةُ الأولى وإيثارُ
(2/12)
صيغة الجمعِ للدلالة على شمول الرؤيةِ لكل
واحدٍ واحدٍ من آحاد الفئة والجملةُ في محلِ الرفعِ على أنها
صفةٌ للفئة الأخيرة أو مستأنفة مبيّنةٌ لكيفية الآية
{مّثْلَيْهِمْ} أي مثلي عدد الرائين قريبا من ألفين إذ كانوا
قريباً من ألف كانوا تسعمائةٍ وخمسين مقاتلاً رأسَهم عُتْبةُ
بنُ ربيعةَ بنِ عَبْد شَمْس وفيهم أبو سفيانَ وأبو جهلٍ وكان
فيهم من الخيل والإبل مائةُ فرسٍ وسبعُمائة بعير ومن أصناف
الأسلحة عددٌ لا يحصى
عن محمد بن أبي الفرات عن سعد بن أوس أنه قال أسرَ المشركون
رجلاً من المسلمين فسألوه كم كنتم قال ثلثُمائةٍ وبضعةَ عشرَ
قالوا ما كنا نراكم إلا تُضعِفون علينا أو مثلي عددِ المرئيّين
أي ستَّمائةٍ ونيفاً وعشرين حيث كانوا ثلثمائة وثلاثةَ عشرَ
رجلاً سبعةٌ وسبعون رجلاً من المهاجرين وما ئتان وستة وثلاثون
من الأنصار رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين وكان صاحبَ رايةِ
رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين عليُّ بنُ أبي طالبٍ
رضي الله عنه وصاحبَ راية الأنصار سعدُ بن عبادة الخزرجي وكان
في العسكر تسعون بعيراً وفَرَسان أحدُهما للمِقداد بن عَمْرو
والآخر لمَرْثَد بن أبي مَرْثَد وستُّ أدرع وثمانيةُ سيوف
وجميع منِ استُشهد يومئذٍ من المسلمين أربعةَ عشرَ رجلاً ستةٌ
من المهاجرين وثمانية من الأنصار رضوانُ الله تعالَى عليهم
أجمعين أراهم الله عز وجل كذلك مع قِلتهم ليَهابوهم ويَجبُنوا
عن قتالهم مدداً لهم منه سبحانه كما أمدهم بالملائكة عليهم
السلام وكان ذلك عند التقاء الفئتين بعد أن قلَّلَهم في أعينهم
عند ترائيهما ليجترئوا عليهم ولا يهرُبوا من أول الأمر حين
ينجيهم الهرب وقيل يري الفئةُ الأولى الفئةُ الأخيرةَ مثليْ
أنفسِهم مع كونهم ثلاثةَ أمثالِهم ليثبُتوا ويطمئنوا بالنصر
الموعودِ في قولِهِ تعالَى فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صابرة
يغلبوا ما ئتين والأولُ هو الأولى لأن رؤية المثلين غير
المتعينة من جانب المؤمنين بل قد وقعت رؤيةُ المثل بل أقلَّ
منه أيضاً فإنه روي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال قد نظرنا
إلى المشركين فرأيناهم يُضعِفون علينا ثم نظرنا إليهم فما
رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً ثم قلّلهم الله تعالى أيضاً
في أعينهم حتى رأتهم عدداً يسيراً أقلَّ من أنفسهم قال ابن
مسعود رضي الله عنه لقد قُلِّلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت
لرجل إلى جنبي تراهم سبعين قال أراهم مائة فأسرنا منهم رجلاً
فقلنا كم كنتم قال ألفاً فلو أريد رؤية المؤمنين المشركين
أقلَّ من عددهم في نفس الأمر كما في سورة الأنفال لكانت
رؤيتُهم إياهم أقلَّ من أنفسهم أحقَّ بالذكر في كونها آيةً من
رؤيتهم مِثلَيهم على أن إبانةَ آثارِ قُدرةِ الله تعالى
وحكمتِه للكفرة بإراءتهم القليلَ كثيراً والضعيفَ قوياً
وإلقاءِ الرعب في قلوبهم بسبب ذلك أدخلُ في كونِها آيةً لهم
وحجةً عليهم وأقربَ إلى اعتراف المخاطبين بذلك لكثرة مخالطتِهم
الكفرةَ المشاهدين للحال وكذا تعلقُ الفعل بالفاعل أشد من
تعلقه بالمفعول فجعلُ أقربِ المذكورَين السابقَين فاعلاً
وأبعدِهما مفعولاً سواءٌ جعلُ الجملة صفةً أو مستأنفة أولى من
العكس هذا ما تقتضيه جزالةُ التنزيلِ على قراءة الجُمهور ولا
ينبغي جعلُ الخطاب لمشركي مكة كما قيل أما إن جُعل الوعيد
عبارةً عن هزيمة بدر كما صرحوا به فظاهر لا سِترةَ به وأما إن
جُعل عبارةً عن هزيمة أخرى فلأن الفئةَ التي شاهدت تلك الآيةَ
الهائلة هم المخاطبون حينئذ فالتعبير عنهم بفئة مُبهمةٍ تارة
وموصوفةٍ أخرى ثم إسنادُ المشاهدة إليها مع كون إسنادها إلى
المخاطبين أوقعُ في إلزام الحجة وأدخلُ في التبكيت مما لاَ
دَاعيَ إليهِ وبهذا يتبين حال جعلِ الخطابِ الثاني للمؤمنين
وأما قراءة ترونهم بتاء
(2/13)
14 - آل عمران
الخطاب فظاهرُها وإن اقتضى توجيهَ الخطابِ الثاني إلى المشركين
لكنه ليس بنص في ذلك لأنه وإن اندفع به المحذورُ الأخيرُ
فالأولُ باقٍ بحاله فلعل رؤية المشركين نزلت منزلةَ رؤيةِ
اليهود لما بينهم من الاتحاد في الكفر والأتفاق في الكلمة
لاسيما بعد ما وقع بينهم بواسطة كعب بن الأشرف من العهد
والميثاق فأُسندت الرؤيةُ إليهم مبالغةً في البيان وتحقيقاً
لعُروض مثلِ تلك الحالة لهم فتدبر وقيل المرادُ جميعُ الكفرة
ولا ريب في صحته وسداده وقرئ يُرَونهم وتُرَونهم على البناءِ
للمفعولِ من الأرادة أي يُريهم أو يريكم الله تعالى كذلك
{رَأْىَ العين} مصدر مؤكدٌ ليَرَوْنهم إن كانت الرؤية بصريةً
أو مصدر تشبيهيّ إن كانت قلبية أي رؤيةً ظاهرة مكشوفةً جارية
مجرى رؤية العين
{والله يُؤَيّدُ} أي يقوي
{بِنَصْرِهِ مَن يشاء} أن يؤيده من غير توسيط الأسباب العادية
كما أيد الفئةَ المقاتلة في سبيله بما ذكر من النصر وهو من
تمام القولِ المأمورِ به
{إِنَّ فِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذكر من رؤية القليل كثيراً
المستتبعةِ لغَلَبة القليل العديمِ العُدة على الكثير الشاكي
السلاحِ وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلةِ المُشارِ
إليه في الفضلِ
{لَعِبْرَةً} العبرة فِعلة من العبور كالرِّكبة من الركوب
والجِلْسة من الجلوس والمرادُ بها الاتعاظ فإنه نوعٌ من العبور
أي لعبرةً عظيمة كائنة
{لاِوْلِى الابصار} لذوي العقولِ والبصائر وقيل لمن أبصرهم
وهُو إمَّا من تمامِ الكلام الداخلِ تحت القول مقرِّر لما قبله
بطريق التذييل وإما واردٌ من جهته تعالى تصديقاً لمقالته عليه
الصلاة والسلام
(2/14)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ
مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ
الْمَآبِ (14)
{زُيّنَ لِلنَّاسِ} كلامٌ مستأنفٌ سيق
لبيان حقارةِ شأن الحظوظ الدنيوية بأصنافها وتزهيدٌ للناس فيها
وتوجيه رغباتهم إلى ما عنده تعالى إثرَ بيانِ عدم نفعِها
للكفرة الذين كانوا يتعزّزون بها والمرادُ بالناس الجنس
{حُبُّ الشهوات} الشهوة نزوعُ النفس إلى ما تريده والمراد ههنا
المشتهَيات عبّر عنها بالشهوات مبالغة في كونِها مشتهاةً
مرغوباً فيها كأنها نفسُ الشهوات أو أيذانا بانهما كهم في حبها
بحيث أحبوا شهواتِها كما في قوله تعالى {إِنّى أَحْبَبْتُ
حُبَّ الخير} أو استرذالاً لها فإن الشهوة مسترذَلةٌ مذمومة من
صفات البهائم والمزيِّنُ هو الباري سبحانه وتعالى إذ هو
الخالقُ لجميع الأفعال والدواعي والحكمةُ في ذلك ابتلاؤهم قال
تعالى إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارض زِينَةً لَّهَا
لِنَبْلُوَهُمْ الآية فإنها ذريعة لنيل سعادة الدارين عند كونِ
تعاطيها على نهج الشريعةِ الشريفة وسيلة إلى بقاء النوع
وإيثارُ صيغةِ المبنيِّ للمفعولِ للجَريِ على سنَنِ الكبرياءِ
وقرئ على البناء للفاعل وقيل المزيِّنُ هو الشيطان لما أن
مساقَ الآية الكريمة على ذمها وفرّق الجبائيّ بين المباحات
فأسند تزيينها إليه تعالى وبين المحرمات فنسب تزيينها إلى
الشيطان
{مِنَ النساء والبنين} في محل النصب على أنه حال من الشهوات
وهي مفسِّرة لها في المعنى وقيل مِنْ لبيان الجنس وتقديمُ
النساء على البنين لعراقتهن في معنى الشهوة فإنهن حبائلُ
الشيطان وعدم التعرض للبنات لعدم الاطّراد في حبهن
{والقناطير المقنطرة} جمعُ قِنطار وهو المالُ الكثير وقيل
مائةُ ألفِ دينار وقيل ملءُ مَسْكِ ثور وقيل
(2/14)
15 - آل عمران
سبعون ألفاً وقيل أربعون ألفَ مثقالٍ وقيل ثمانون ألفاً وقيل
مائةُ رِطل وقيل ألفٌ ومِائتَا مثقالٍ وقيل ألفا دينار وقيل
مائة من ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم وقيل ديةُ النفس
واختلف في أن وزنه فعلال أو فنعال ولفظ المقنطرة مأخود منه
للتأكيد كقولهم بَدْرةٌ مُبدَرة وقيل المقنطرة المحْكمة
المحْصنة وقيل الكثيرة المُنضّدة بعضُها على بعض أو المدفونه
وقيل المضروبة المنقوشة
{مِنَ الذهب والفضة} بيان للقناطير أو حال
{والخيل} عطف على القناطير قيل هي جمع لا واحد له من لفظه
كالقوم والرهط الواحد فرس وقيل واحدُه خائل وهو مشتق من
الخُيلاء
{المسومة} أي المُعْلمة منَ السُّومةِ وهيَ العلامةُ أو
المرْعيّة من أسام الدابة وسوَّمها إذا أرسلها وسيَّبها للرعي
أو المُطَهّمة التامةُ الخَلقْ
{والانعام} أي الإبل والبقر والغنم
{والحرث} أي الزرع مصدر بمعنى المفعول
{ذلك} أي ما ذكر من الأشياء المعهودة
{مَّتَاعَ الحياة الدنيا} أيْ ما يتمتعُ بهِ في الحياةِ الدنيا
أياماً قلائلَ فتفنى سريعاً
{والله عِندَهُ حُسْنُ المأب} حسنُ المرجِع وفيه دلالةٌ على أن
ليس فيما عُدّد عاقبةٌ حميدة وفي تكرير الإسناد بجعل الجلالة
مبتدأ وإسنادِ الجملة الظرفية إليه زيادةُ تأكيدٍ وتفخيم
ومزيدُ اعتناء بالترغيب فيما عند الله عز وجل من النعم المقيم
والتزهيدُ في ملاذّ الدنيا وطيباتها الفانية
(2/15)
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ
بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
{قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم}
إثرَ ما بيّن شأنَ مُزخْرَفات الدنيا وذكر ما عنده تعالى من
حسن المآب إجمالاً أمر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بتفاصيل
ذلك المُجمل للناس مبالغةً في الترغيب والخطابُ للجميع
والهمزةُ للتقرير أي أأخبرُكم بما هو خير مما فُصّل من تلك
المستلذات المزينة لكم وإبهام الخير لتفخيم شأنِه والتشويق
إليه وقوله تعالى
{لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات} استئنافٌ مبين لذلك
المبْهم على أن جنات مبتدأ والجارّ والمجرور خبر أو على أن
جناتٌ مرتفعٌ به على الفاعليةِ عند من لايشترط في ذلك اعتمادَ
الجار على ما فصل في محله والمراد بالتقوى هو التبتُل إلى الله
تعالى والإعراضُ عما سواه على ما تنبىء عنه النعوتُ الآتيةُ
وتعليقُ حصولِ الجنات وما بعدها من فنون الخيراتِ به للترغيب
في تحصيله والثبات عليه وعند نصب على الحالية من جنات أو
متعلقٌ بما تعلقَ بهِ الجارِّ من معنى الاستقرارِ مفيد لكمال
علو رتبة الجنات وسمو طبقتها والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع
الإضافة إلى ضمير المتقين لإظهار مزيد اللطفِ بهم وقيل اللامُ
متعلقة بخير وكذا الظرفُ وجنات خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ
مبينة لخير ويؤيده قراءة جناتٍ بالجر على البدلية من خير ولا
يخفى أن تعليق الإخبار والبيان بما هو خير لطائفة رُبَّما
يُوهم أنَّ هناك خيراً آخرَ لآخَرين
{تَجْرِى} في محل الرفع والجر صفةٌ لجنات على حسب القراءتين
{مِن تَحْتِهَا الانهار} متعلق بتجري فإن أريد بالجنات نفسُ
الأشجار كما هو الظاهر فجريانُها من تحتها ظاهرٌ وإنْ أُريدَ
بها مجموعُ الأرضِ والأشجار فهو باعتبار جزئها الظاهر كما مر
تفصيلُه مراراً
{خالدين فِيهَا} حالٌ مقدرةٌ من المستكن في لِلَّذِينَ
والعاملُ ما فيه من معنى الاستقرار
{وأزواج مُّطَهَّرَةٌ} عطفٌ على جناتٍ أي مبرأة مما يستقذر من
النساء من
(2/15)
16 - 17 18 آل عمران
الأحوال البدنية والطبيعية
{وَرِضْوَانٍ} التنوينُ للتفخيم وقولُه تعالى
{مِنَ الله} متعلق بمحذوف وقع صفة له مؤكدة لما أفادَه
التنوينُ من الفخامة أيْ رضوانٌ وأيُّ رضوان لايقادر قدره كائن
من الله عز وجل وقرئ بضم الراء
{والله بَصِيرٌ بالعباد} وبأعمالهم فيثيبُ ويعاقب حسبما يليق
بها أو بصير بأحوال الذين اتقَوْا ولذلك أعد لهم ما ذكر وفيه
إشعار بأنهم المستحقون للتسمية باسم العبد
(2/16)
الَّذِينَ يَقُولُونَ
رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ (16)
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا
آمنا} في محلِ الرفعِ على أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل مَنْ
أولئك المتقون الفائزون بهذه الكرامات السنية فقيل هم الذين
الخ أو النصبِ على المدحِ أو الجرُّ عَلى أنَّه تابعٌ للمتقين
نعتاً أو بدلاً أو للعباد كذلك والأول أظهر وقوله تعالى {والله
بَصِيرٌ بالعباد} حينئذ معترضةٌ وتأكيد الجملة لإظهار أن
إيمانهم ناشئ من وفور الرغبة وكمال النشاط وفي ترتيب الدعاء
بقولهم
{فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النار} على مجرد
الإيمان دَلالةٌ على كفايته في استحقاق المغفرة والوقاية من
النار
(2/16)
الصَّابِرِينَ
وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ
وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
{الصابرين} هو على تقدير كون الموصول في
محل الرفع منصوبٌ على المدح بإضمار أعنى وأما تقدير كونه في
محل النصبِ أو الجر فهو نعت له والمراد بالصبر هو الصبر على
مشاقّ الطاعات وعلى البأساء والضراء وحين البأس
{والصادقين} في أقوالهم ونياتهم وعزائمِهم
{والقانتين} المداومين على الطاعات المواظبين على العبادات
{والمنفقين} أموالهم في سبيلِ الله تعالى
{والمستغفرين بالاسحار} قال مجاهد وقتادة والكلبي أي المصلين
بالأسحار وعن زيد بن أسلَمَ هم الذين يصلون الصبحَ في جماعة
وقال الحسن مدُّوا الصلاة إلى السحر ثم استغفروا وقال نافع كان
ابن عمرَ رضي الله عنه يحيي الليلة ثم يقول يا نافع أسْحَرْنا
فأقول لا فيعاود الصلاة فإذا قلت نعم قعد يستغفر الله ويدعو
حتى يصبح وعن الحسن كانوا يصلون في أول الليل حتى إذا كان
السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار وتخصيصُ الأسحار بالاستغفار
لأن الدعاء فيها أقربُ إلى الإجابة إذ العبادة حينئذ أشق
والنفسُ أصفى والروح أجمعُ لاسيما للمجتهدين وتوسيط الواو بين
الصفات المعدودة للدلالة على استقلالِ كلِّ منها وكما لهم فيها
أو لتغايُر الموصوفين بها
(2/16)
شَهِدَ اللَّهُ
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو
الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
{شَهِدَ الله أَنَّهُ} بفتح الهمزة أي بأنه
أو على أَنَّهُ
{لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي بيّنَ وحدانيتَه بنصب الدلائل
التكوينية في الآفاق والأنفس وإنزالِ الآيات التشريعية الناطقة
بذلك عبر عنه بالشهادة على طريقة الاستعارة إيذاناً بقوته في
إثبات المطلوبِ وإشعاراً بإنكار المنكر وقرئ إنه بكسر الهمزة
إما بإجراء شَهِدَ مُجرى قال وإما بجعل الجملة اعتراضاً
وإيقاعِ الفعل على قوله تعالى إِنَّ الدّينَ الخ على قراءة أن
بفتح الهمزة كما سيأتى وقرئ شهداءٌ لله بالنصب على أنه
(2/16)
حال من المذكورين أو على المدح وبالرفع على
أنه خبر مبتدأ محذوف ومآله الرفع على المدح أي هم شهداء لله
وهو إما جمع شهيد كظرفاء في جمع ظريف أو جمع شاهد كشعراء في
جمع شاعر
{والملائكة} عطف على الاسم الجليل بحمل الشهادة على معنىً
مجازيّ شامل للإقرار والإيمان بطريق عموم المجاز أي أقروا بذلك
{وَأُوْلُو العلم} أي آمنوا به واحتجوا عليه بما ذكر من الأدلة
التكوينية والتشريعية قيل المراد بهم الأنبياء عليهم الصَّلاةُ
والسَّلامُ وقيلَ المهاجرون والأنصار وقيل علماء مؤمني أهلِ
الكتابِ كعبدِ اللَّه بن سلام وأضرابِه وقيل جميعُ علماء
المؤمنين الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل القاطعة
وارتفاعُهما على القراءتين الأخيرتين قيل بالعطف على الضمير في
شهداء لوقوع الفصل بينهما وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ على قراءة
النصبِ على الحالية يؤدي إلى تقييد حالِ المذكورين بشهادة
الملائكة وأولي العلم وليس فيه كثيرُ فائدةٍ فالوجه كونُ
ارتفاعِهما بالابتداء والخبرُ محذوفٌ لدلالةِ الكلامِ عليهِ أي
والملائكة وأو لو العلم شهداء بذلك ولك أن تحمل القراءتين على
المدح نصباً ورفعاً فحينئذ يحسُن العطفُ على المستتر على كل
حال وقوله تعالى
{قَائِمَاً بالقسط} أي مقيماً للعدل في جميع أمورِه بيان
لكماله تعالى في أفعاله إثرَ بيانِ كماله في ذاته وانتصابُه
عَلى الحاليةِ من الله كما في قولِه تعالى وَهُوَ الحق
مُصَدّقًا وإنما جاز إفرادُه مع عدم جواز جاء زيد وعمرو راكباً
لعدم اللَّبس كقوله تعالى {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ
نَافِلَةً} ولعل تأخيرَه عن المعطوفين للدَلالة على علو
رتبتهما وقُرب منزلتهما والمسارعةِ إلى إقامة شهودِ التوحيد
اعتناءً بشأنه ورفعاً لمحله والسرُّ في تقديمه على المعطوفين
مع ما فيه من الإيذان بأصالته تعالى في الشهادة به كما مرَّ في
قوله تعالى {آمَنَ الرسول بِمَا أُنزِلَ إليه من ربه} أو مِنْ
هُوَ وهو الأوجه والعامل فيها معنى الجملة أي تفردا وأحقه
لأنها حال مؤكدة أو على المدح وقيلَ على أنه صفة للمنفي أي لا
إله قائماً الخ والفصل بينهما من قبيل توسعاتهم وهو مندرج في
المشهود به إذا جعل صفة أو حالاً من الضمير أو نصباً على المدح
منه وقرئ القائمُ بالقسط على البدلية من هُوَ فيلزم الفصلُ
بينهما كما في الصفة أو على أنَّه خبرٌ لمبتدأ محذوف وقرئ
قيّماً بالقسط
{لا إله إِلاَّ هُوَ} تكريرٌ للتأكيد ومزيدِ الاعتناء بمعرفة
أدلةِ التوحيد والحُكم به بعد إقامة الحجةِ وليجرِيَ عليه قوله
تعالى
{العزيز الحكيم} فيُعلمَ أنه المنعوتُ بهما ووجه الترتيب تقدمُ
العلمِ بقدرته على العلم بحكمته تعالى ورفعُهما على البدليَّةِ
من الضَّميرِ أو الوصفية لفاعل شهد أو الخبرية لمبتدأ مُضمَر
وقد روي في فضلها أنه عليه السلام قال يُجاء بصاحبها يومَ
القيامة فيقول الله عز وجل إن لعبدي هذا عندي عهداً وأنا أحقُّ
من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة وهو دليل على فضل علم أصولِ
الدين وشرفِ أهله وروي عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ أنه كان حول البيت
ثلثُمائة وستون صنماً فلما نزلت هذه الآية الكريمة خرَرْنَ
سُجّداً وقيل نزلت في نصارى نَجرانَ وقال الكلبي قدم النبيِّ
صلَّى الله عليهِ وسلم حَبرانِ من أحبار الشام فلما أبصر
المدينة قال أحدهما ماأشبه هذه المدينةَ بصفة مدينة النبي الذي
يخرُج في آخرِ الزمانِ فلما دخلا عليه عليه السلام عرفاه
بالصفة فقالا له عليه السلام أنت محمد قال صلى الله عليه وسلم
نعم قالا وأنت أحمدُ قال عليه السلام أنا محمدٌ وأحمد قالا
فإنا نسألك عن شئ فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك قال عليه
السلام سلا فقالا أخبِرْنا عن أعظم شهادةٍ في كتاب الله عز وجل
فأنزل
(2/17)
19 - 20 آل عمران الله تعالى هذه الآية
الكريمة فأسلم الرجلان
(2/18)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ
اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ
بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ
اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
{أن الدين عِندَ الله الإسلام} جملةٌ
مستأنفة مؤكدةٌ
للأولى أي لا دينَ مرضياً لله تعالى سوى الإسلام الذي هو
التوحيدُ والتدرُّع بالشريعة الشريفة وعن قتادة أنه شهادةُ أَن
لاَّ إلَه إِلاَّ الله والإقرارُ بما جاء من عند الله تعالى
وقرئ إن الدين عند الله للإسلام وقرئ إن الدين الخ على أنه بدل
من أنه بدلُ الكل إن فُسر الإسلامُ بالإيمان أو بما يتضمنه
وبدلُ الاشتمال إن فسر بالشريعة أو على أن شهد واقعٌ عليه على
تقديرُ قراءةِ إنه بالكسر كما أشير إليه
{وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} نزلت في اليهود والنصارى
حين تركوا الإسلامَ الذي جاء به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم
وأنكروا نبوّته والتعبيرُ عنهم بالموصول وجعْلُ إيتاءِ الكتاب
صلة له لزيادة تقبيحِ حالهم فإن الاختلاف ممن أوتي ما يزيلُه
ويقطع شأفته في غاية القبح والسماحة وقوله تعالى
{إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} استثناء مفرغ من أعم
الأحوال أو أعمِّ الأوقاتِ أيْ وما اختلفوا في حالٍ من
الأحوالِ أو في وقتٍ من الأوقات إلا بعد أن علموا بأنه الحقُّ
الذي لا محيدَ عنه أو بعد أن علموا حقيقةَ الأمرِ وتمكّنوا من
العلم بها بالحُجج النيّرة والآيات الباهرةِ وفيه من الدلالة
على ترامي حالِهم في الضلالة ما لا مزيدَ عليه فإن الاختلافَ
بعد حصول تلك المرتبه قما لا يصدُر عن العاقل وقوله تعالى
{بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي حسداً كائناً بينهم وطلباً للرياسة لا
لشبهة وخفاءٍ في الأمر تشنيعٌ
{وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله} أي بآياته الناطقةِ بما ذُكر من
أن الدينَ عند الله تعالى هو الإسلامُ ولم يعمَلْ بمقتضاها أو
بأية آيةٍ كانت من آياتِه تعالى على أن يدخل فيها ما نحن فيه
دخولاً أولياً
{فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} قائمٌ مقامَ جوابِ الشرطِ علةٌ
له أي ومن يكفر بآياته تعالى يجازيه ويعاقبه عن قريب فإنه
سريعُ الحساب أي يأتي حسابُه عن قريب أو يتم ذلك يسرعة وإظهار
الجلالة لتربية المهابة وإدخالِ الروعة وفي ترتيب العقاب على
مطلق الكفرِ بآياته تعالى من غيرِ تعرضٍ لخصوصية حالِهم من كون
كفرِهم بعد إيتاء الكتاب وحصولِ الاطلاع على ما فيه وكونِ ذلك
للبغي دلالةٌ على كمال شدة عقابهم
(2/18)
فَإِنْ حَاجُّوكَ
فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ
لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ
أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ
بِالْعِبَادِ (20)
{فَإنْ حَاجُّوكَ} أي في كون الدين عند
الله الإسلامَ أو جادلوك فيه بعد ما أقمتَ عليهم الحجج
{فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ} أي أخلصتُ نفسي وقلبي وجملتي
وإنما عبر عنها بالوجه لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهرُ
القُوى والمشاعر ومجمع معظم ما يقع به العبادةُ من السجودِ
والقراءة وبه يحصل التوجُّه إلى كل شيء
{لِلَّهِ} لا أشرك به فيها غيرَه وهو الدينُ القويم الذي قامت
عليه الحججُ ودعت إليه الآياتُ والرسلُ عليهم السلام
{وَمَنِ اتبعن} عطفٌ على المتصل في أسلمتُ وحسُن ذلك لمكان
الفصل الجارى
(2/18)
21 - آل عمران
مجرى التأكيد بالمنفصل أي وأسلم من اتبعني أو مفعول معه
{وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب} أي من اليهود والنصارى
وُضِع الموصولُ موضعَ الضمير لرعاية التقابل بين وصفي
المتعاطِفَيْن
{والاميين} أي الذين لا كتابَ لهم من مشركي العرب
{أأسلمتم} متّبعين لي كما فعل المؤمنون فإنه قد أتاكم من
البينات ما يوجبه ويقتضيه لا محالة فهل أسلمتم وعملتم بقضيتها
أو أنتم على كفركم بعدُ كما يقول من لخّص لصاحبه المسألة ولم
يدَعْ من طرق التوضيح والبيان مسلكا ألاسلكه فهل فهِمتها على
منهاج قوله تعالى {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} إثرَ تفصيلِ
الصوارفِ عن تعاطي الخمر والميسِر وفيه من استقصارهم وتعييرهم
بالمعاندة وقلةِ الإنصافِ وتوبيخِهم بالبلادة وكلة القريحة
مالا يخفى
{فَإِنْ أَسْلَمُواْ} أي كما أسلمتم وإنما لم يصرح به كما في
قوله تعالى {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم بِهِ} حسماً لباب إطلاق
اسم الإسلام على شئ آخر بالكلية
{فَقَدِ اهتدوا} أي فازوا بالحظ الأوفر ونجَوْا عن مهاوي
الضلال
{وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا عن الاتباع وقَبول الإسلام
{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} قائم مقامَ الجواب أي لم يضرّوك
شيئاً إذْ ما عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغُ وقد فعلت على أبلغِ وجه
رُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآيةَ
على أهل الكتاب قالوا أسلمنا فقال عليه السلام لليهود أتشهدون
أن عيسى كلمةُ الله وعبدُه ورسولُه فقالوا معاذ الله وقالَ
عليه الصلاةُ والسلام للنصارى أتشهدون أن عيسى عبدُ الله
ورسولُه فقالوا معاذ الله أن يكون عيسى عبداً وذلك قولُه عزَّ
وجلَّ وَإِن تَوَلَّوْاْ
{والله بَصِيرٌ بالعباد} عالم بجميع أحوالهم وهو تذييل فيه وعد
ووعيد
(2/19)
إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ
بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ
بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
(21)
{إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله} أيَّ
آيةٍ كانت فيدخُل فيهم الكافرون بالآيات الناطقةِ بحقية
الإسلام على الوجه الذي مر تفصيلُه دخولاً أولياً
{وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقّ} هم أهلُ الكتاب قتل
أوّلوهم الأنبياءَ عليهم السلام وقتلو أتباعَهم وهم راضون بما
فعلوا وكانوا قاتلهم الله تعالى حائمين حول قتلِ النبيِّ صلَّى
الله عليهِ وسلم لولا أن عصَم الله تعالى ساحتَه المنيعة وقد
أُشير إليه بصيغة الاستقبال وقرئ بالتشديد للتكثير والتقييدُ
بغير حق للإيذان بأنه كان عندهم أيضاً بغير حق
{وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس} أي
بالعدل ولعل تكريرَ الفعل للإشعار بما بين القتلين من التفاوت
أو باختلافها في الوقت عن أبي عبيدة بن الجراح قلتُ يا رسولَ
الله أي الناسِ أشدُّ عذاباً يوم القيامة قال رجل قتل نبياً أو
رجلاً أمر بمعروف ونهى عن المنكر ثم قرأها ثم قال يا أبا عبيدة
قتلت بنو إسرائيلَ ثلاثةً وأربعين نبي من أول النهار في ساعة
واحدة فقام مائةٌ واثنا عشرَ رجلاً من عبّاد بني إسرائيل
فأمروا قَتلَتهم بالمعروف ونهَوْهم عن المنكر فقُتلوا جميعاً
من آخر النهار وقرئ ويقاتلون الذين
{فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} خبرٌ إن والفاء لتضمن اسمها
معنى الشرط فإنها بالنسخ لاتغير معنى الابتداء بل تزيده
تأكيداً وكذا الحال في النسخ بأن المفتوحة كما في قوله تعالى
واعلموا إنما غنمتم من شئ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وكذا النسخ
بلكن كما في قوله تعالى واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء
فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وكذا النسخ بلكن كما في قوله فو الله
ما فارقتُكم عن ملالة ... ولكنّ ما يقضى فسوف يكون ... وإنما
يتغير معنى الابتداء
(2/19)
22 - 23 آل عمران
في النسخ بليت ولعل وقد ذهب سيبويه والأخفش إلى منع دخول الفاء
عند النسخ مطلقاً فالخبر عندهما قولِه تعالى
(2/20)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا
لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
{أُولَئِكَ الذين حَبِطَتْ أعمالهم فِي
الدنيا والآخرة} كما في قولك الشيطانُ فاحذر عدوٌ مبين وعلى
الأول هو استئناف واسم الإشارة مبتدأٌ وما فيهِ من معنى البعد
للدلالة على تَرامي أمرهِم في الضلال وبُعد منزلتهم في فظاعة
الحال والموصولُ بما في حيز صلته خبرُه أي أولئك المتصفون بتلك
الصفات القبيحة أو المبتلون بأسوأ الحال الذين بطلت أعمالُهم
التي عمِلوها من البر والحسنات ولم يبق لها أثر في الدارين بل
بقي لهم اللعنة والخزيُ في الدنيا وعذاب أليم في الآخرة
{وَمَا لَهُم مِن ناصرين} ينصرونهم من بأس الله وعذابِه في
إحدى الدارين وصيغةُ الجميع لرعاية ما وقع في مقابلته لا لنفي
تعددِ الأنصار من كل واحدٍ منهم كما في قوله تعالى {وَمَا
للظالمين مِنْ أَنصَارٍ}
(2/20)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى
كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى
فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
{أَلَمْ تَرَ} تعجيبٌ لرسول الله صلى الله
عليه وسلم أو لكلِّ مَنْ يتأتَّى منْهُ الرؤيةُ من حال أهل
الكتاب وسوءِ صنيعِهم وتقريرٌ لما سبقَ من أن اختلافهم في
الإسلام إنما كان بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بحقيقة أيْ ألمْ
تنظرُ
{إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} أي التوراةِ على
أن اللامَ للعَهدْ وحملُه على جنس الكتبِ الإلهية تطويلٌ
للمسافة إذ تمامُ التقريب حينئذ بكون التوراة من جملتها لأن
مدار التشنيع والتعجيب إنما هو إعراضُهم عن المحاكمة إلى ما
دُعوا إليه وهم لم يُدْعَوا إلا إلى التوراة والمرادُ بما
أوتوه منها ما بُيِّن لهم فيها من العلوم والأحكام التي من
جملتها ما علموه من نعوت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وحقية
الإسلام والتعبير عنه بالنصيب للإشعار بكمال اختصاصِه بهم
وكونِه حقاً من حقوقهم التي يجب مراعاتها والعملُ بموجبها وما
فيه من التنكير للتفخيم وحملُه على التحقير لا يساعده مقامُ
المبالغة في تقبيح حالِهم
{يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله} الذي أوتوا نصيباً منه وهو التوراة
والإظهارُ في مقامِ الإضمارِ لإيجاب الإجابة وإضافتُه إلى
الاسمِ الجليلِ لتشريفه وتأكيدِ وجوب المراجعةِ إليه والجملةُ
استئنافٌ مبيِّنٌ لمحل التعجيب مبني على سؤال نشأ من صدر
الكلام كأنه قيل ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم فقيل يُدعون إلى
كتابَ اللَّهِ تَعَالَى وَقيلَ حالٌ منْ الموصول
{لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} وذلكَ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم دخل مدارسهم فدعاهم إلى الإيمان فقال له نعيمُ بن
عمرو والحرث بن زيد على أيّ دين أنت قال عليه الصلاة والسلام
على ملة إبراهيم قالا إن إبراهيمَ كان يهودياً فقال صلى الله
عليه وسلم لهما إن بيننا وبينكم التوراةَ فهلُمّوا إليها فأبيا
وقيل نزلت في الرجم وقد اختلفوا فيه وقيل كتاب الله القرآنُ
فإنهم قد علموا أنه كتابُ الله ولم يشكوا فيه وقرئ ليُحكَم على
بناء المجهول فيكون الاختلافُ بينهم بأن أسلم بعضُهم كعبدِ
اللَّه بنِ سَلاَم وأضرابه وعاداهم الآخرون
{ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ} استبعاد لتولّيهم بعد علمِهم
بوجوب الرجوع إليه
{وَهُم مُّعْرِضُونَ} إما حالٌ من فَرِيقٌ لتخصصه بالصفة أي
يتولون من المجلس وهم معرضون بقلوبهم أو اعتراضٌ أي وهم قوم
ديدنُهم الإعراضُ عن الحق والاصرار على الباطل
(2/20)
24 - 25 26
آل عمران
(2/21)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا
مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ (24)
{ذلك} إشارة إلى ما مر من التولي والإعراض
وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى
{بِأَنَّهُمْ} أي حاصلٌ بسبب أنهم
{قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار} باقتراف الذنوب وركوب المعاصي
{إِلا أَيَّامًا معدودات} وهي مقدارُ عبادتهم العجلَ ورسَخ
اعتقادُهم على ذلك وهونوا عليهم الخطوب
{وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من
قولهم ذلك وما أشبهه من قولهم إن آباءنا الأنبياءَ يشفعون لنا
أو إن الله تعالى وعد يعقوب عليه السلام ان لا يعذبَ أولادَه
إلا تحِلّةَ القَسَم ولذلك ارتكبوا ما ارتكبوا من القبائح
(2/21)
فَكَيْفَ إِذَا
جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
{فَكَيْفَ} ردٌّ لقولهم المذكور وابطال لما
غرهم باستعظام ما سيد همهم وتهويلِ ما سيحيقُ بهم من الأهوال
أي فكيف يكون حالُهم
{إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ} أي لجزاءِ يوم
{لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في وقوعه ووقوعِ ما فيه روي أن أولَ
رايةٍ ترفع يوم القيامة من رايات الكفر رايةُ اليهود فيفضحهم
الله عزَّ وجلَّ على رءوس الأشهاد ثم يأمر بهم إلى النار
{وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي جزاءَ ما كسبت من
غير نقص أصلاً كما يزعُمون وإنما وُضِع المكسوبُ موضعَ جزائه
للإيذان بكمال الاتصالِ والتلازم بينهما كأنهما شيء واحد وفيه
دَلالة على أن العبادة لا تَحْبَط وأن المؤمن لا يخلّد في
النار لأن توْفيةَ جزاءِ إيمانِه وعملِه لا تكون في النار ولا
قبل دخولها فإذن هي بعد الخلاصِ منها
{وهم} أي كل الناس المدلولِ عليهم بكلِّ نفسٍ
{لاَ يُظْلَمُونَ} بزيادة عذابٍ أو بنقص ثواب بل يصيب كلاً
منهم مقدارُ ما كسبه
(2/21)
قُلِ اللَّهُمَّ
مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ
الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ
مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (26)
{قُلِ اللهم} الميم عوضٌ عن حرف النداء
ولذلك لا يجتمعان وهذا من خصائص الاسمِ الجليل كدخوله عليه مع
حرف التعريفِ وقطعِ همزتِه ودخولِ تاء القسمِ عليه وقيل أصلُه
يا ألله أُمَّنا بخير أي اقصدنا به فخُفف بحذف حرف النداء
ومتعلقاتِ الفعل وهمزته
{مالك الملك} أي مالك جنسِ المُلك على الإطلاق مُلكاً حقيقياً
بحيث تتصرف فيه كيفما تشاء إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة
وتعذيباً وإثابةً من غير مشارِك ولا ممانعٍ وهو نداءٌ ثانٍ عند
سيبويه فإن الميم عنده تمنع الوصفية
{تُؤْتِى الملك} بيان لبعض وجوه التصرفِ الذي تستدعيه مالكيةُ
الملك وتحقيقٌ لاختصاصها به تعالى حقيقةً وكون مالكية غيرِه
بطريق المجاز كما ينبئ عنه إيثارُ الإيتاءِ الذي هو مجردُ
الإعطاء على التمليك المؤْذِن بثبوت المالكيةِ حقيقةً
{مَن تَشَاء} أي إيتاءه إياه
{وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء} أي نزْعَه منه فالملكُ الأولُ
حقيقي عام ومملوكيتُه حقيقية والآخرانِ مجازيان خاصان
ونِسبتُهما إلى صاحبهما مجازية وقيل الملكُ الأول عام
والآخرانِ بعضانِ منه فتأمل وقيل المراد بالملك النبوة ونزعُها
نقلُها من قوم إلى آخرين
{وَتُعِزُّ مَن تَشَاء} أن تُعِزَّه في الدنيا أو في الآخرة أو
فيهما بالنصر والتوفيق
{وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} أن تُذِله في إحداهما أو فيهما من غير
ممانعةٍ من الغير ولا مدافعة
{بِيَدِكَ الخير} تعريفُ الخير للتعميم وتقديمُ الخبر للتخصيص
أي بقدرتك الخيرُ كلُّه لا بقدرة احد غيرك تتصرف
(2/21)
27 - آل عمران
فيه قبضاً وبسطاً حسبما تقتضيه مشيئتُك وتخصيصُ الخير بالذكر
لما أنه مقضيٌّ بالذات وأما الشرُّ فمقضيٌّ بالعَرَض إذ ما من
شر جزئي إلا وهو متضمِّنٌ لخير كلي أو لأن في حصول الشر دخْلاً
لصاحبه في الجملة لأنه من أجزية أعماله وأما الخير ففضلٌ محضٌ
أو لرعاية الأدب أو لأن الكلام فيه فإنه رُوِيَ أنَّ رسولَ
الله صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل
عشرةٍ من أهل المدينة أربعين ذِراعاً وأخذوا يحفِرونه خرج من
بطن الخندق صخرةٌ كالتل لم تعمَلْ فيها المعاوِلُ فوجهوا
سلمانَ إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يُخبره فجاء عليه
السلام وأخذ منه المِعْول فضربها ضربة صدعَتْها وبرَقَ منها
برقٌ أضاء ما بين لابتيها لكأن مِصباحاً في جوف بيت مظلم فكبر
وكبر معه المسلمون وقال أضاءت لي منها قصورُ الحِيرة كأنها
أنياب الكلاب ثم ضرب الثانية فقال أضاءت لي منها القصورُ
الحُمْرُ من أرض الروم ثم ضرب الثالثة فقال أضاءت لي قصورُ
صنعاء وأخبرني جبريلُ أن أمتي ظاهرةٌ على كلها فأبشروا فقال
المنافقون ألا تعجبون يمينكم ويعِدُكم الباطلَ ويخبركم أنه
يُبصر من يثربَ قصورَ الحِيرة ومدائن كسرى وأنها تُفتح لكم
وأنتم إنما تحفِرون الخندقَ من الفرَق لا تستطيعون أن تبرُزوا
فنزلت
{إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} تعليل لما سبق وتحقيقٌ له
(2/22)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ
وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
{تولج الليل فِى النهار} أي تُدخِله فيه
بتعقيبه إياه أو بنقص الأول وزيادةِ الثاني
{وتولج النهار في الليل} على أحد الوجهين
{وَتُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} أي تنشئ الحيواناتِ من موادها أو
من النطفة وقيل تخرِجُ المؤمنَ من الكافر
{وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} أي تخرج النطفة من الحيوان وقيل
تخرج الكافر من المؤمن
{وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} قال أبو العباس
المَقَّرِي ورد لفظُ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجهٍ بمعنى
التعب قال تعالى {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}
وبمعنى العدد قال تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وبمعنى المطالبة قال تعالى
{فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} والباءُ متعلقةٌ
بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل ترزق أو من مفعوله وفيه دَلالةٌ
على أن من قدر على أمثال هاتيك الأفاعيلِ العظامِ المحيِّرة
للعقول والأفهام فقُدرته على أن ينزعَ الملكَ من العجم
ويُذِلهم ويُؤتيَه العربَ ويُعِزَّهم أهونُ من كل هيّن عن عليَ
رضيَ الله عنه أنه قال قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إن
فاتحة الكتاب وآيةَ الكرسيِّ وآيتين من آل عمران شهد الله
أَنَّهُ لاَ إله إِلا هو إلى قوله تعالى إِنَّ الدين عند الله
الإسلام وقل اللهم مالك الملك إلى قوله بِغَيْرِ حِسَابٍ
معلقاتٌ ما بينهن وبين الله تعالى حجابٌ قلن يا رب تُهبِطُنا
إلى أرضك وإلى من يعصيك قال الله تعالى إني حلفت أنه لا
يقرؤكُنّ أحدٌ دُبُرَ كُلِّ صلاةٍ إلا جعلتُ الجنّةَ مثواه على
ما كان منه وأسكنتُه في حظيرة القدس ونظرت اليه بعيني كل يوم
سبعين مرةً وقضيتُ له سبعين حاجة أدناها المغفرة وأعذتُه من كل
عدو وحاسدٍ ونصرتُه عليهم وفي بعض الكتب أنا الله ملكُ الملوك
قلوبُ الملوكِ ونواصِيهم بيدي فإنِ العبادُ أطاعوني جعلتهم لهم
رحمة وإنِ العبادُ عصَوْني جعلتهم عليهم عقوبة فلا
(2/22)
28 - 29 آل عمران
تشتغلوا بسبِّ الملوك ولكن توبوا إليَّ أُعطِّفْهم عليكم وهو
معنى قوله عليه السلام كَما تَكُونُوا يُولَّ عَلَيْكُم
(2/23)
لَا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ
فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
(28)
{لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين
أَوْلِيَاء} نُهوا عن موالاتهم لقرابة أو صداقة جاهلية
ونحوِهما من أسباب المصادقة والمعاشرة كما في قوله سبحانه {يَا
أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} وقولِه تعالى {لاَ تَتَّخِذُواْ
اليهود والنصارى أَوْلِيَاء} حتى لا يكونَ حبهم ولابغضهم إلا
لله تعالى أو عن الاستعانة بهم في الغزو وسائر الأمور الدينية
{مِن دُونِ المؤمنين} في موضع الحالِ أي متجاوزين المؤمنين
إليهم استقلالاً أو اشتراكاً وفيه إشارةٌ إلى أنَّهم الأحقاءُ
بالموالاة وأن في موالاتهم مندوحةً عن موالاة الكفرة
{وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي اتخاذَهم أولياءَ والتعبيرُ عنه
بالفعل للاختصار أو لإيهام الاستهجان بذكره
{فَلَيْسَ مِنَ الله} أي من ولايته تعالى
{فِي شَىْء} يصِح أن يُطلق عليه اسمُ الولاية فإن موالاة
المتعاديَيْن مما لا يكادُ يدخُل تحتَ الوقوع قال ... تودُّ
عدوِّي ثم تزعُم أنني ... صديقُك ليس النَّوْكُ عنك بعازبِ ...
والجملة اعتراضية وقوله تعالى
{إَّلا أَن تَتَّقُواْ} على صيغة الخطابِ بطريق الالتفاتِ
استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال والعامل فعل النهي معتبَراً
فيه الخطابُ كأنه قيل لا تتخذوهم أولياءَ ظاهراً أو باطناً في
حالٍ من الأحوالِ إلا حال اتقائكم
{مِنْهُمْ} أي من جهتِهم
{تقاة} أي انقاء أو شيئاً يجب اتقاؤه على أن المصدر واقعٌ
موقعَ المفعول فإنه يجوز إظهارُ الموالاة حينئذ مع اطمئنان
النفس بالعدواة والبغضاء وانتظار زوالِ المانع من قَشْر العصا
وإظهار ما في الضمير كما قال عيسى عليه السلام كن وسَطاً وامشِ
جانباً وأصلُ تقاة وُقْيَةً ثم أبدلت الواو تاءً كتُخمة وتُهمة
وقلبت الياء ألفاً وقرئ تُقْيةً
{وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} أي ذاتَه المقدسة فإن جواز
إطلاقِ لفظِ النفسِ مراداً به الذاتُ عليه سبحانه بلا مشاكلة
مما لا كلام فيه عند المتقدمين وقد صرح بعضُ محققي المتأخرين
بعدم الجواز وإن أريد به الذات إلا مشاكلة وفيه من التَّهديدِ
ما لا يخفى عُظْمُه وذكرُ النفس للإيذان بأن له عقاباً هائلاً
لا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة
{وإلى الله المصير} تذييلٌ مقرِّر لمضمونِ ما قبله ومحقق
لوقوعه حتماً
(2/23)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا
مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ
وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
{قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ}
من الضمائر التي من جملتها ولايةُ الكفرةِ
{أَوْ تُبْدُوهُ} فيما بينكم
{يَعْلَمْهُ الله} فيؤاخذْكم بذلك عند مصيرِكم إليه وتقديمُ
الإخفاء على الإبداء قد مرَّ سرُّه في تفسيرِ قولِه تعالى
{وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} وقوله
تعالى {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}
{وَيَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الارض} كلامٌ مستأنفٌ
غيرُ معطوفٍ على جواب الشرط وهو من باب إيرادِ العام بعد الخاص
تأكيداً له وتقريراً
{والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدِرُ على عقوبتكم بما لا
مزيدَ عليهِ إن لم تنتهوا عما نُهيتم عنه وإظهارُ الاسمِ
الجليلِ في موضع الإضمار لتربية المهابةِ وتهويل
(2/23)
30 - 31 آل عمران
الخطب وهو تذييلٌ لما قبله مبين لقوله تعالى وَيُحَذّرُكُمُ
الله نَفْسَهُ بأن ذاته المقدسةَ المتميزةَ عن سائر الذوات
المتصفةَ بما لا يتصف به شئ منها من العلم الذاتي المتعلقِ
بجميع المعلومات متصفةٌ بالقدرة الذاتية الشاملةِ لجميع
المقدورات بحيث لا يخرُج من ملكوته شئ قطُّ
(2/24)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ
مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا
بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ
بِالْعِبَادِ (30)
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ} أي من النفوس
المكلفة
{مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا} عندها بأمر الله تعالى
وفيه من التهويل ما ليس في حاضراً
{وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء} عطف على مَّا عَمِلَتْ والإحضار
معتبرٌ فيه أيضاً إلا أنه خُص بالذكر في الخير للإشعار بكون
الخير مراداً بالذات وكونِ إحضارِ الشر من مقتضيات الحكمة
التشريعية
{تَوَدُّ} عامل في الظرف والمعنى تود وتتمنى يوم تجد صحائفَ
أعمالُها من الخيرِ والشرِّ أو أجزِيتَها محْضَرة
{لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ} أي بين ذلك اليوم
{أَمَدَا بَعِيدًا} لغاية هولة وفي إسناد الودادة إلى كل نفس
سواءٌ كان لها عمل سئ أو لا بل كانت متمحِّضةً في الخير من
الدلالةِ عَلى كمالِ فظاعةِ ذلك اليوم وهول مطلعِه مالا يخفى
اللهم إنا نعوذ بك من ذلكَ ويجوزُ أنْ يكون انتصابُ يومَ على
المفعولية بإضمار اذكروا وتودّ إما حال من كل نفس أو استئنافٌ
مبنيُّ على السؤال أي اذكروا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا
عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ شر محضراً وادّةً أن بينها وبينه أمداً
بعيداً أو كأن سائلاً قال حين أمروا بذكر ذلك اليوم فماذا يكون
إذ ذاك فقيل تود لو أن بينها الخ أو تَجِدُ مقصورٌ على مَّا
عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وتود خبرُ ما عملت من سوء ولا تكون ما
شرطية لارتفاع تود وقرئ ودّت فحينئذ يجوز كونُها شرطيةً لكن
الحمل على الخبر أوقعُ معنىً لأنها حكايةُ حالً ماضية وأوفقُ
للقراءة المشهورة
{وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} تكرير لما سبق وإعادة له لكن
لا للتأكد فقط بل لإفادة ما يفيده قوله عز وجل
{والله رؤوف بالعباد} من أن تحذيرَه تعالى من رأفته بهم
ورحمتِه الواسعةِ أو أن رأفته بهم لا تمنعُ تحقيق ما حذر هموه
من عقابه وأن تحذيرَه ليس مبنياً على تناسي صفةِ الرأفة بل هو
متحققٌ مع تحققها أيضاً كَما في قولِه تعالى {يا أيها الإنسان
مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} فالجملة على الأول اعتراضٌ وعلى
الثاني حال وتكرير الإسم الجليل لتربية المهابة
(2/24)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله
فاتبعونى} المحبة ميلُ النفس إلى الشئ لكمالٍ أدركتْه فيه بحيث
يحملها على ما يقر بها إليه والعبدُ إذا علم أن الكمالَ
الحقيقيَّ ليس إلا لله عز وجل وأن كلَّ ما يراه كما لا من نفسه
أو من غيره فهو من الله وبالله وإلى الله لم يكن حبُّه إلا لله
وفي الله وذلك مقتضى إرادةِ طاعته والرغبةِ فيما يقرّبه إليه
فلذلك فُسِّرت المحبةُ بإرادة الطاعة وجُعلت مستلزمة لاتباع
الرسول صلى الله عليه وسلم في عبادته والحرصِ على مطاوعته
{يُحْبِبْكُمُ الله} أي يرضَ عنكم
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي يكشفِ الحجبَ عن قلوبكم
بالتجاوز عما فرَطَ منكم فيقرّبكم من جناب عزِّه ويبوِّئُكم في
جوار قدْسِه عبّر عنه بالمحبة بطريقِ الاستعارةِ أو المُشاكلةِ
{والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي لمن يتحبّب إليه بطاعته ويتقرب
إليه
(2/24)
32 - 33 آل عمران
باتباع نبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فهو تذييلٌ مقررٌ
لمَا قبلَهُ مع زيادة وعد الرحمةِ ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضعَ
الضمير للإشعار باستتباع وصفِ الألوهية للمغفرة والرحمة روي
أنها نزلت لما قالت اليهودُ نحنُ أبناءُ الله وأحباؤُه وقيل
نزلت في وفد نجرانَ لما قالوا إنا نعبدُ المسيحَ حباً لله
تعالى وقيل في أقوام زعَموا على عهدِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ
أنهم يُحبون الله تعالى فأُمروا أن يجعلوا لقولهم مصداقا من
العمل ورَوَى الضحَّاكُ عنِ ابنِ عباس رضي الله عنهما أن
النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقف على قريش وهم في المسجد
الحرام يسجدون للأصنام وقد علقوا عليها بيض النعام وجعلوا في
آذانها الشنوف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر قريش
لقد خالفتم ملة إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام فقالت
قريش إنما نعبدها حبا لله تعالى لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله
زُلْفَى فقال الله تعالى لنبيه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قُلْ
إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله تعالى وتعبدون الأصنام لتقربكم
إليه فاتبعونى أي اتبعوا اشريعتى وسنتى يحببكم الله فأنا رسوله
إليكم وحجته عليكم
(2/25)
قُلْ أَطِيعُوا
اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
{قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} أي في جميع
الأوامرِ والنواهي فيدخلُ في ذلك الطاعة في أتباعِه عليه
الصَّلاةُ والسَّلامُ دخولاً أولياً وإيثارُ الإظهار على
الإضمار بطريق الالتفات لتعيين حيثية الإطاعة والإشعارِ
بعلّتها فإن الإطاعة المأمورَ بها إطاعته عليه الصلاة والسلام
من حيث إنه رسولُ الله لا من حيث ذاتُه ولا ريبَ في أن عنوان
الرسالة من موجبات الإطاعةِ ودواعيها
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} إما من تمام مقولِ القول فهي صيغة
المضارعِ المخاطَب بحذف إحدى التاءين أي تتولوا وإما كلام
متفرِّعٌ عليه مَسوقٌ من جهتِه تعالَى فهي صيغةُ الماضي الغائب
وفي ترك ذكر احتمال الإطاعة كما في قوله تعالى فَإِنْ
أَسْلَمُواْ تلويحٌ إلى أنه غيرُ محتمَلٍ منهم
{فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} نفي المحبة كنايةٌ عن
بغضه تعالى لهم وسُخطِه عليهم أي لا يرضى عنهم ولا يثني عليهم
وإيثارُ الإظهارِ على الإضمار لتعميم الحكمِ لكل الكفَرَة
والإشعار بعلّته فإن سخطه تعالى عليهم بسبب كفرهم والإيذان بأن
التولّيَ عن الطاعة كفرٌ وبأن محبته عز وجل مخصوصة بالمؤمنين
(2/25)
إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ
عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
{إِنَّ الله اصطفى آدَمَ ونوحا وآل إبراهيم
وآل عمران عَلَى العالمين} لما بين الله تعالى أن الدين
المرضيِّ عنده هو الإسلامُ والتوحيدُ وأن اختلاف أهل الكتابين
فيه إنما هو للبغي والحسد وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته
منوط باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته شرَعَ في تحقيق
رسالته وكونِه من أهل بيت النبوة القديمةِ فبدأ ببيان جلالةِ
أقدارِ الرسلُ عليهم الصلاة والسلام كافةً وأتبعه ذكرَ مبدأ
أمرِ عيسى عليه الصلاة والسلام وأمِّه وكيفيةِ دعوتِه للناس
إلى التوحيد والإسلام تحقيقاً للحق وإبطالاً لما عليه أهلُ
الكتابين في شأنهما من الإفراط والتفريط ثم بين بطلانَ
مُحاجّتهم في إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وادعائهم
الانتماءَ إلى ملته ونزّه ساحتَه العلية عمَّا هُم عليهِ من
اليهودية والنصرانية ثم نص على أن جميعَ الرسلُ عليهم الصلاة
والسلام دعاةٌ إلى عبادة الله عز وجل وحده وطاعتِه منزَّهون عن
احتمال الدعوة إلى عبادة
(2/25)
34 - آل عمران
أنفسِهم أو غيرِهم من الملائكة والنبيين وأن أممهم قاطبةً
مأمورون بالإيمان بمن جاءهم من رسولٍ مصدقٍ لما معهم تحقيقاً
لوجوب الإيمان برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وكتابه
المصدِّق لما بين يديهِ من التوراة والإنجيل وتحتم الطاعة له
حسبما سيأتي تفصيله وتخصيص آدم عليه الصلاة والسلام بالذكر
لأنه أبو البشر ومنشأ النبوة وكذا حالُ نوحٍ عليه السلام فإنه
آدمُ الثاني وأما ذكرُ آل إبراهيمَ فلترغيب المعترفين
باصطفائهم في الإيمان بنبوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم
واستمالتِهم نحوَ الاعترافِ باصطفائه بواسطة كونِه من زُمرتهم
مع مامر من التنبيه على كونه عليه الصلاة والسلام عريقاً في
النبوة من زمرة المصطفَيْنَ الأخيار وأما ما ذكرُ آلِ عمرانَ
مع اندراجهم في آل إبراهيمَ فلإظهار مزيدِ الاعتناء بتحقيق أمر
عيسى عليه الصلاة والسلام لكمال رسوخِ الخلاف في شأنه فإن
نسبةَ الاصطفاءِ إلى الأب الأقرب أدلُّ على تحققه في الآل وهو
الداعي إلى إضافة الآلِ إلى إبراهيمَ دون نوحٍ وآدمَ عليهم
الصلاة والسلام والاصطفاء أخذُ ما صفا من الشئ كالاستصفاء مثّل
به اختيارَه تعالى إياهم النفوسَ القدسية وما يليق بها من
الملكات الروحانيةِ والكمالاتِ الجُسمانية المستتبعةِ للرسالة
في نفس المصطفى كما في كافَّةُ الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسلام
أو فيمن يلابسه وينشأ منه كما في مريمَ وقيل اصطفى آدم عليه
الصلاة والسلام بأن خلقه بيده في أحسنِ تقويمٍ وبتعليم الأسماء
وإسجاد الملائكة إياه وإسكانِ الجنة واصطفى نوحاً عليه الصلاة
والسلام بكونه أولَ من نسخ الشرائعَ إذ لم يكن قبل ذلك تزويجُ
المحارم حراماً وبإطالة عُمره وجعْلِ ذريتِه هم الباقين
واستجابةِ دعوتِه في حق الكفرة والمؤمنين وحملِه على متن الماء
والمرادُ بآل إبراهيمَ إسمعيل وإسحق والأنبياءُ من أولادهما
الذين من جملتهم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وأما اصطفاء
نفسه عليه الصلاة والسلام فمفهومٌ من اصطفائهم بطريق الأولوية
وعدمُ التَّصريحِ به للإيذانِ بالغنى عنه لكمال شهرةِ أمرِه في
الخِلّة وكونه إمام الأنبياء قدوة الرسلُ عليهم الصلاة والسلام
وكونِ اصطفاء آله بدعوته بقوله {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ
رَسُولاً مّنْهُمْ} الآية ولذلك قال عليه الصلاة والسلام أنا
دعوةُ أبي إبراهيمَ وبآل عمرانَ عيسى وأمُّه مريمُ ابنةُ
عِمرانَ بنِ ماثان بن عازار بنِ أبي بور بن رب بابل بن ساليان
بن يوحنا بن يوشيان بن أمون بن منشا بن حزقيا بن أحز بن يوثم
بن عزياهو بن يهورام بن يهوشافاط بن أسا بن رحبعم بن سليمانَ
بن داود عليهما الصلاة والسلام ابن بيشا بن عوفيذ بن بوعز بن
سلمون بن نحشون بن عميوذب بن رم بن حصرون بن بارص بن يهوذا بن
يعقوب عليه الصلاة والسلام وقيل موسى وهرون عليهما الصلاة
والسلام ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه
الصلاةُ والسلام وبين العمرانين ألفٌ وثمانمائة سنة فيكون
اصطفاء عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينئذٍ بالاندارج في آل
إبراهيمَ عليه السلام والأولُ هو الأظهرُ بدليل تعقيبِه بقصة
مريمَ واصطفاء موسى وهرون عليهما الصلاة والسلام بالانتظام في
سلك آلِ إبراهيمَ عليه السلام انتظاماً ظاهراً والمرادُ
بالعالمين أهلُ زمان كل واحدٍ منهم أي اصطفى كلِّ واحدٍ منهم
على عالمي زمانه
(2/26)
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا
مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
{ذُرّيَّةِ} نُصب على البدلية من الآلَيْن
أو على الحالية منهما وقد مر بيانُ اشتقاقها في قوله تعالى
وَمِن ذُرّيَتِى وقوله
(2/26)
35 - آل عمران
تعالى
{بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} في محل النصبُ على أنَّه صفةٌ لذرية أي
اصطفى الآلَيْن حالَ كونهم ذريةً متسلسلةً متشعّبةَ البعضِ من
البعض في النسَب كما ينبئ عنه التعرُّضُ لكونه ذرية وقيل
بعضُها من بعض في الدين فالاستمالةُ على الوجه الأول تقريبيةٌ
وعلى الثاني برهانية
{والله سَمِيعٌ} لأقوال العباد
{عَلِيمٌ} بأعمالهم البادية والخافية فيصطفي مِن بينِهم
لخِدمته مَنْ تظهر استقامتُه قولاً وفعلاً على نهج قوله تعالى
الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ والجُملة تذييلٌ
مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَها
(2/27)
إِذْ قَالَتِ
امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي
بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
{إذ قالت امرأة عمران} في حيِّز النصبِ على
المفعولية بفعل مقدَّرٍ على طريقة الاستئنافِ لتقرير اصطفاءِ
آلِ عمرانَ وبيانِ كيفيته أي أذكُر لهم وقت قولها ومر مراراً
وجهُ توجيهِ التذكيرِ إلى الأوقات مع أن المقصودَ تذكيرُ ما
وقع فيها من الحوادث وقيلَ هو منصوبٌ على الظرفية لما قبله أي
سميع لقولها المحكيِّ عليمٌ بضميرها المَنْويّ وقيل هو ظرفٌ
لمعنى الاصطفاء المدلول عليه باصطفى المذكور كأنه قيل واصطفى
آلَ عمران إذ قالت الخ فكان من عطف الجُمل على الجمل دون عطفِ
المفردات على المفردات ليلزَمَ كونُ اصطفاءِ الكلِّ في ذلك
الوقت وامرأةُ عمرانَ هي حنّةُ بنتُ فاقوذا جدةُ عيسى عليه
الصلاة والسلام وكانت لعِمرانَ بنِ يَصْهرَ بنت اسهما مريمُ
أكبرُ من موسى وهرون عليهما الصلاة والسلام فظن أن المراد
زوجتُه وليس بذاك فإن قضيةَ كفالةِ زكريا عليه الصلاة والسلام
قاضيةٌ بأنها زوجةُ عمرانَ بن ماثان لأنه عليه الصَّلاة
والسَّلام كان معاصراً له وقد تزوج إيشاع أختَ حنة أم يحيى
عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وَأَمَّا قوله عليه الصلاة والسلام
في شأن يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام هما ابنا خالة فقيل
تأويلُه أن الأختَ كثيراً ما تُطلق على بنت الأخت وبهذا
الاعتبار جعلهما عليهما الصلاة والسلام ابنيْ خالة وقيل كانت
إيشاعُ أختَ حنةَ من الأم وأختَ مريمَ من الأب على أن عمرانَ
نكحَ أولاً أمَّ حنة فولدت له إيشاع ثم نكح حنة بناء على حل
نكاح الربائبِ في شريعتهم فولدَتْ مريمَ فكانت إيشاعُ أختَ
مريمَ من الأب وخالتَها من الأم لأنها أخت حنة من الأم روي
أنها كانت عجوزاً عاقراً فبينما هي ذاتَ يوم في ظل شجرة إذ رأت
طائراً يُطعم فرخة خنت إلى الولد وتمنتْه وقالت اللهم إن لك
عليَّ نذر إن رَزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكونَ
من سَدَنته وكان هذا النذرُ مشروعاً عندهم في الغلمان ثم هلك
عِمرانُ وهي حامل وحينئذ فقولها
{رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} لا بد من حمله على
التكرير لتأكيد نذرِها وإخراجِه عن صورة التعليق إلى هيئة
التنجيز والتعرضُ لوصفِ الربوبيةِ المنبئةِ عن إفاضة ما فيه
صلاحُ المربوبِ مع الإضافة إلى ضميرها لتحريك سلسلة الإجابة
ولذلك قيل إذا أراد العبدُ أن يُستجابَ له دعاؤه فليدعُ الله
بما يناسبه من أسمائه وصفاته وتأكيدا الجملة لإبراز وفورِ
الرغبة في مضمونها وتقديمُ الجارّ والمجرور لكمال الاعتناءِ به
وإنما عُبّر عن الولد بما لإبهام أمرِه وقصورِه عن درجه
العقلاء
{مُحَرَّرًا} أي مُعْتقاً لخدمة بيتِ المقدس لايشغله شأن آخر
أو مُخلَصاً للعبادة ونصبُه
(2/27)
36 - آل عمران
على الحالية من الموصول فيه نَذَرْتُ وقيل من ضميره في الصلة
والعامل معنى الاستقرار فإنها في قوة ما استقر في بطني ولا
يخفى أن المراد تقييدُ فعلِها بالتحرير ليحصُل به التقربُ إليه
تعالى لا تقييد مالا دخلَ لها فيه من الاستقرار في بطنها
{فَتَقَبَّلْ مِنّي} أي ما نذرتُه والتقبل أخذ الشئ على وجه
الرضا وهذا في الحقيقة استدعاءٌ للولد إذ لا يُتصور القَبولُ
بدون تحقق المقبول بل للولد الذكَرِ لعدم قَبول الأنثى
{إِنَّكَ أَنتَ السميع} لجميع المسموعاتِ التي من جُملتها
تضرعي ودعائي
{العليم} بكل المعلومات التي من زمرتها ما في ضميرى لاغير وهو
تعليلٌ لاستدعاء القبول لا من حيثُ أن كونه تعالى سميعاً
لدعائها عليماً بما في ضميرها مصحح للتقبل في الجملة بل من
حيثُ إنَّ علمَه تعالى بصحة نيتها وإخلاصِها مستدعٍ لذلك
تفضلاً وإحساناً وتأكيدُ الجملة لعرض قوةِ يقينها بمضمونها
وقصرُ صفتي السمعِ والعلم عليه تعالى لعرض اختصاص دعائِها به
تعالى وانقطاعِ حبل رجائها عما عداه بالكلية مبالغةً في
الضراعة والابتهال
(2/28)
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا
قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي
سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ
وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} أي ما في بطنها
وتأنيثُ الضمير العائد إليه لما أن المقامَ يستدعي ظهورَ
أنوثتِه واعتبارَه في حيز الشرط إذ عليه يترتب جوابُ لما أعني
قوله تعالى
{قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى} لا على وضع ولدٍ ما
كأنه قيل فلما وضعت بنتاً قالت الخ وقيل تأنيثُه لأن ما في
بطنها كان أنثى في علم الله تعالى أو لأنه مؤول بالحبلة أو
النفْس أو النَّسَمة وأنت خبير بأن اعتبارَ شئ مما ذُكر في
حيَّزِ الشرطِ لا يكون مداراً لترتب الجواب عليه وقولُه تعالى
أنثى حال مؤكّدة من الضمير أو بدلٌ منه وتأنيثُه للمسارعة إلى
عَرْض ما دَهَمها من خيبة الرجاء أو لما مر من التأويل
بالحبْلةِ أو النسمة فالحال حينئذ مبيِّنة وإنما قالته
تحزُّناً وتحسّراً على خيبة رجائِها وعكسِ تقديرِها لما كانت
ترجو أن تلدَ ذكَراً ولذلك نذرَتْه محرّراً للسِّدانة والتأكيد
المرد على اعتقادها الباطل
{والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} تعظيمٌ من جهته تعالى
لموضوعها وتفخيمٌ لشأنه وتجهيلٌ لها بقدره أي والله أعلم بالشئ
الذي وضعتْه وما علِقَ به من عظائم الأمور وجعله وابنه آية
للعالمين وهي غافلةٌ عن ذلك والجملة اعتراضية وقرئ وَضَعَتْ
على خطاب الله تعالى لها أي إنك لا تعلمين قدرَ هذا الموهوبِ
وما أودع الله فيه من علو الشأنِ وسمو المقدار وقرئ وَضَعَتْ
على صيغة التكلم مع الالتفات من الخطاب إلى الغَيبة إظهاراً
لغاية الإجلال فيكون ذلك منها اعتذاراً إلى الله تعالَى حيثُ
أتت بمولود لا يصلُح لما نذرته من السدانة أو تسليةً لنفسها
على معنى لعل الله تعالى فيه سراً وحكمة ولعل هذه الأنثى خيرٌ
من الذكر فوجه الالتفات حينئذ ظاهر وقوله تعالى
{وَلَيْسَ الذكر كالانثى} اعتراض آخرُ مبيِّن لما في الأول من
تعظيم الموضوعِ ورفع منزلتِه واللامُ في الذكر والنثى للعهد أي
ليس الذكرُ الذي كانت تطلُبه وتتخيل فيه كما لا قصاراه ان يكون
كواحد من السدانه كالأنثى التي وُهِبتْ لها فإن دائرةَ علمِها
وأمنيتها لاتكاد تحيط بما فيه من جلائل الأمور هذا على
القراءتين الأُولَيَيْن وأما على التفسير الأخير للقراءة
(2/28)
37 - آل عمران
الأخيرة فمعناه وليس الذكر كهذه الأنثى في الفضيلة بل أدنى
منها وأما على التفسير الأول لها فمعناه تأكيدُ الاعتذارُ
ببيان أن الذكر ليس كالأنثى في الفضيلة والمزية وصلاحيةِ خدمة
المتعبّدات فإنهن بمعزل من ذلك فاللامُ للجنس وقوله تعالى
{وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} عطف على إني وضعتُها أنثى
وغرضُها من عَرْضها على علام الغيوب التقربُ إليه تعالى
واستدعاءُ العصمة لها فإن مريمَ في لغتهم بمعنى العابدة قال
القرطبي معناه خادمُ الرب وإظهارُ أنها غيرُ راجعة عن نيّتها
وإن كان ما وضعته أنثى وأنها ان لم تكن خليقةً بسِدانة بيت
المقدس فلتكنْ من العابدات فيه
{وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ} عطف على إني سميتها وصيغةُ المضارع
للدَلالة على الاستمرار أي أُجيرُها بحفظك وقرئ بفتح ياء
المتلكم في المواضع التي بعدها همزةٌ مضمومة إلا في موضعين
بِعَهْدِى أُوفِ اتُونِى أُفْرِغْ
{وَذُرّيَّتَهَا} عطف على الضمير وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ
عليهِ لإبراز كمالِ العنايةِ به
{مِنَ الشيطان الرجيم} أي المطرود وأصلُ الرجم الرميُ بالحجارة
عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم ما من مولودٍ يولد إلا
والشيطانُ يَمَسه حين يولد فيستهِلُّ صارخاً من مسّه إلا مريمَ
وابنَها ومعناه أن الشيطان يطمع في إغواء كلِّ مولود بحيث
يتأثر منه إلا مريم وابنها فإن الله عصَمهما ببركة هذه
الاستعاذة
(2/29)
فَتَقَبَّلَهَا
رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا
الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ
أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
{فَتَقَبَّلَهَا} أي أخذ مريمَ ورضيَ بها
في النذر مكانَ الذكَر
{رَبُّهَا} مالكها ومُبلِّغها إلى كمالها اللائق وفيه من
تشريفها مالا يخفى
{بِقَبُولٍ حَسَنٍ} قيل الباء زائدة والقَبول مصدرٌ مؤكِّد
للفعل السابق بحذف الزوائد أي تقبّلها قبولاً حسناً وإنما
عدَلَ عن الظاهر للإيذان بمقارنة التقبُّل لكمال الرضا
وموافقته للعناية الذاتية فإن صيغة التفعُّل مُشعِرةٌ بحسب أصل
الوضعِ بالتكلف وكونِ الفعل على خلاف طبع الفاعل وإن كان
المرادُ بها في حقه تعالى ما يترتبُ عليه من كمال قوةِ الفعل
وكثرتِه وقيل القبولُ ما يقبل به الشيء كالسَّعوط واللَّدود
لما يُسعَط به ويلُدّ وهو اختصاصُه تعالى إياها بإقامتها مُقام
الذكَر في النَّذر ولم تُقبلْ قبلها أنثى أو بأنْ تسلمها من
أمُّها عَقيبَ الولادة قبل أن تنشأ وتصلُحَ للسِّدانة روي أن
حنة حين ولدتها لفّتها في خرقة وحملتها الى المسجد ووضعتها عند
الأحبار أبناءِ هارونَ وهم في بيت المقدس كالحَجَبة في الكعبة
وقالت لهم دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنتَ
إمامِهم وصاحبِ قُربانهم فإن بني ماثانَ كانت رءوس بني
إسرائيلَ وملوكَهم وقيل لأنهم وجدوا أمرَها وأمرَ عيسى عليه
الصلاة والسلام في الكتب الإلهية فقال زكريا عليه الصلاة
والسلام أنا احق بها عندى خالتها فأبو إلا القُرْعةَ وكانوا
سبعةً وعشرين فانطلقوا إلى نهر فألقَوْا فيه أقلامَهم فطفا
قلمُ زكريا ورسبَتْ أقلامُهم فتكفلها وقيل هو مصدر وفيه مضافٌ
مقدرٌ أي فتقبلها بذي قبولٍ أي بأمرٍ ذي قَبول حسن وقيل تقبّل
بمعنى استقبل كتقصَّى بمعنى استقصى وتعجَّل بمعنى استعجل أي
استقبلها في أول أمرِها حين وُلدت بقبول حسن
{وَأَنبَتَهَا} مجاز عن
(2/29)
38 - آل عمران
تربيتها بما يُصلِحها في جميع أحوالها
{نَبَاتًا حَسَنًا} مصدرٌ مؤكدِّ للفعل المذكور بحذف الزوائد
وقيل بل لفعل مُضمر موافقٍ له تقديرُه فنبتت نباتاً حسناً
{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أي جعله عليه الصلاة والسلام كافلاً
لها وضامناً لمصالحها قائماً بتدبير أمورِها لا على طريقة
الوحي بل على ما ذكر من التفصيل فإن رغبته عليه الصلاة والسلام
في كفالتها وطُفوَّ قلمِه ورسوبَ أقلامِهم وغيرَ ذلكَ من
الأمورِ الجارية بينهم كلُّها من آثار قدرته تعالى وقرئ اكفلها
وقرئ زكرياء بالنصب والمد وقرئ بتخفيف الفاء وكسرِها ورفع
زكرياء ممدودا وقرئ وتقبَّلْها ربَّها وأنبِتْها وكفَّلْها على
صيغة الأمر في الكل ونصبِ ربها على الدعاء أي فاقبلها يا ربها
وربِّها تربيةً حسنةً واجعلْ زكريا كافلاً لها فهو تعيينٌ لجهة
التربية قيل بنى عليه الصلاة والسلام لها مِحْراباً في المسجد
أي غرفةً يُصعد إليها بسُلّم وقيل المحرابُ أشرفُ المجالس
ومُقدَّمُها كأنها وضعت في أشرف موضعٍ من بيت المقدس وقيل كانت
مساجدُهم تسمى المحاريب روي أنه كان لا يدخل عليها إلا هو وحده
وإذا خرج غلّق عليها سبعة أبواب
{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب} تقديمُ الظرف
على الفاعل لإظهار كمالِ العناية بأمرِها ونصبُ المحراب على
التوسّع وكلمة كُلَّمَا ظرف عَلى أنَّ مَا مصدريةٌ والزمان
محذوف أو نكرةٌ موصوفة معناها الوقتُ والعائد محذوفٌ والعامل
فيها جوابُها أي كلَّ زمانِ دخولِه عليها أو كلَّ وقتٍ دخل
عليها فيه
{وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} أي نوعاً منه غيرَ معتاد إذ كان
ينزل ذلك من الجنة وكان يجد عندها في الصيف فاكهةَ الشتاء وفي
الشتاء فاكهةَ الصيف ولم ترضَعْ ثدياً قط
{قَالَ} استئنافٌ مبني على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قال
زكريا عليه الصلاةُ والسلامُ عند مشاهدةِ هذه الآية فقيل قال
{يا مريم أنى لَكِ هذا} أي من اين يجيء لك هذا الذي لا يُشبه
أرزاقَ الدنيا والأبوابُ مغلقةٌ دونك وهو دليل على جواز
الكرامةِ للأولياء ومن أنكرها جعلَ هذا إرهاصاً وتأسيساً
لرسالة عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وَأَمَّا جعلُه معجزةً
لزكريا عليه الصلاة والسلام فيأباه اشتباهُ الأمر عليه عليه
السلام وإنما خاطبها عليه الصلاة والسلام بذلك مع كونها بمعزلٍ
من رتبة الخطاب لما علم بما شاهده أنها مؤيَّدةٌ من عند الله
بالعلم والقدرة
{قَالَتْ} استئناف كما قبله كأنه قيل فماذا صنعت مريمُ وهي
صغيرة لا قُدرةَ لها على فهم السؤال ورد الجواب فقيل قالت
{هُوَ مِنْ عِندِ الله} فلا تعجبْ ولا تستبعد
{إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء} أنْ يرزُقَه
{بِغَيْرِ حِسَابٍ} أيْ بغيرِ تقدير لكثرته أو بغير استحقاقٍ
تفضلاً منه تعالى وهو تعليلٌ لكونِه من عند الله اما من تمام
كلامهما فيكونُ في محل النصب واما من كلامه عز وجل فهو مستأنفٌ
روي أن فاطمة الزهراء رضي الله عنها أهدت إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم رغيفين وبضعةَ لحم فرجع بها إليها فقال هلُمّي
يا بنية فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوءٌ خبزاً ولحماً فقال لها
أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء
بِغَيْرِ حساب فقال عليه الصلاة والسلام الحمدُ لله الذي جعلك
شبيهةً بسيدة بني إسرائيلَ ثم جمع علياً والحسنَ والحسينَ
وجميعَ أهلِ بيته رضوانُ الله عليهم أجمعين فأكلوا وشبِعوا
وبقي الطعام كما هو فأوسعت على جيرانها
(2/30)
هُنَالِكَ دَعَا
زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
{هُنَالِكَ} كلامٌ مستأنفٌ وقصةٌ مستقلة
سيقت في تضاعيف
(2/30)
39 - آل عمران
حكايةِ مريمَ لما بينهما من قوة الارتباطِ وشدةِ الاشتباك مع
ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له حكايتُها من بيان اصطفاءِ
آلَ عمران فإن فضائلَ بعض الأقرباء أدلةٌ على فضائل الآخَرين
وهنا ظرفُ مكانٍ واللامُ للدِلالة على البُعد والكافُ للخطاب
أي في ذلك المكانِ حيث هو قاعدٌ عند مريمَ في المحراب أو في
ذلك الوقت إذ يستعار هنا وثمَةَ وحيث للزمان
{دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} لما رآى كرامةَ مريمَ على الله
ومنزلتَها منه تعالى رغِب في أنْ يكونَ لهُ من إيشاعَ ولدٌ
مثلُ ولدِ حنّةَ في النجابة والكرامة على الله تعالى وإن كانت
عاقِراً عجوزاً فقد كانت خنة كذلك وقيل لما رأى الفواكهَ في
غير إِبّانِها تنبه لجواز ولادةِ العجوز العاقرِ من الشيخ
الفاني فأقبل على الدعاء من غير تأخير كما ينبئ عنه تقديمُ
الظرف على الفعل لا على مَعْنى أنَّ ذلك كان هو الموجبَ
للإقبال على الدعاء فقط بل كان جزءاً أخيرا أخيراً من العلة
التامة التي من جملتها كِبَرُ سنة عليه الصلاة والسلام وضَعفُ
قواه وخوفُ مَواليه حسبما فُصِّل في سورة مريم
{قَالَ} تفسيرٌ للدعاء وبيانٌ لكيفيته لا محلَّ له من الإعراب
ر {رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ} كلا الجارّين متعلقٌ بهَبْ
لاختلاف معنييهما فاللامُ صلةٌ له ومِنْ لابتداء الغايةِ
مجازاً أي أعطِني من مَحْض قدرتِك من غير وسطٍ معتاد
{ذُرّيَّةً طَيّبَةً} كما وهبتَها لحنّةَ ويجوز أن يتعلق مِنْ
بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ذُرّيَّةِ أي كائنة من لدنك والذريةُ
النسلُ تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد ههنا
ولدٌ واحد فالتأنيث في الصفة لتأنيث لفظ الموصوف كما في قول من
قال ... أبوك خليفةٌ ولدتْه أُخرى ... وأنت خليفةٌ ذاك الكمالُ
...
وهذا إذا لم يُقصَدْ به واحدٌ معين أما إذا قُصد به المعيَّنُ
امتنع اعتبارُ اللفظِ نحو طلحة وحمزة فلا يجوز أن يقال جاءت
طلحة وذهبت حمزة
{إِنَّكَ سَمِيعُ الدعاء} أي مجيبُه وهو تعليلٌ لما قبله
وتحريكٌ لسلسلة الإجابة
(2/31)
فَنَادَتْهُ
الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ
أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ
مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ (39)
{فنادته الملائكة} كان المنادى جبريل عليه
الصلاة والسلام كما تُفصح عنه قراءةُ من قرأ فناداه جبريلُ
والجمع كما في قولهم فلانٌ يركب الخيل ويلبس الثياب وماله غيرُ
فرس وثوب قال الزجاج أي أتاهُ النداءُ من هذا الجنس الذين هم
الملائكة وقيل لما كان جبرائيل عليه الصلاة والسلام رئيسَهم
عَبّر عنه باسم الجماعة تعظيماً له وقيل الرئيسُ لا بد له من
أتباع فأسند النداء إلى الكلِّ مع كونِه صادرا عنه خاصة وقرئ
فنادِاه بالإمالة
{وَهُوَ قَائِمٌ} جملة حاليَّةٌ من مفعول النداء مقرر لما
أفاده الفاءُ من حصول البِشارة عَقيب الدعاء وقوله تعالى
{يُصَلّى} إما صفةٌ لقائمٌ أو خبرٌ ثانٍ عند من يرى تعدُّدَه
عند كونِ الثاني جملةً كما في قوله تعالى فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ
تسعى أو حال أخرى منه على القول بتعددها بلا عطف ولا بدلية أو
حالٌ من المستكنِّ في قائم وقوله تعالى
{فِى المحراب} أي في المسجد أو في غرفةِ مريمَ متعلق بيصلي أو
بقائم على تقدير كونِ يصلّي حالاً من ضمير قائمٌ لأن العامل
فيه وفي الحال حينئذ شئ واحد فلا يلزم الفصلُ بالأجنبي كما
يلزم على التقادير الباقية
{أَنَّ الله يُبَشّرُكَ بيحيى} أي بأن الله وقرئ بكسر الهمزة
على تقدير القول أو إجراء النداء مجراه لكونه
(2/31)
40 - آل عمران
نوعا منه وقرئ يُبْشِرُك من الإبشار ويَبْشُرُك من الثلاثي
وأياً ما كان ينبغي أن يكون هذا الكلامُ إلى آخره محكياً
بعبارته عن الله عزَّ وجلَّ على منهاجِ قوله تعالى {قُلْ يا
عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ
مِن رَّحْمَةِ} الآية كما يلوح به مراجعته عليه الصلاة والسلام
في الجواب إليه تعالى بالذات لا بواسطة الملك والعدولُ عن
إسناد التبشير إلى نون العظمة حسبما وقع في سورة مريمَ للجَريِ
على سَنَنِ الكبرياءِ كما في قول الخلفاء أميرُ المؤمنين يرسُم
لك بكذا وللإيذان بأن ما حُكي هناك من النداء والتبشير وما
يترتبُ عليهِ من المحاورة كان كلُّ ذلك بتوسط الملك بطريق
الحِكاية عنه سبحانه لا بالذات كما هو المتبادر وبهذا يتضح
اتحادُ المعنى في السورتين الكريمتين فتأمل ويحيى اسمٌ أعجمي
وإن جعل عربياً فمنعُ صرفه للتعريف ووزن الفعل روي عن ابن عباس
رضي الله عنهما إنما سُمّي يحيى لأن الله تعالى أحيا به عُقرَ
أمِه وقال قتادة لأنه تعالى أحيا قلبه بالإيمان قال القرطبيُّ
كان اسمُه في الكتاب الأول حيا ولا بُدَّ من تقدير مضافٍ يعود
إليه الحالُ أي بولادة يحيى فإن التبشيرَ لا يتعلق بالأعيان
{مُصَدّقاً} حال مقدرة من يحيى
{بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} أي بعيسى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ
وإنَّما سمي كلمة لأنه وجد بكلمة كن من غير أب فشابه البديعيات
التى هي عالم الأمر ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً متعلقةٌ
بمحذوف وقع صفة لكلمة أي بكلمة كائنةٍ منه تعالى قيل هو أولُ
مَن آمنَ به وصدَّقَ بأنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه وقال السدي
لقِيَتْ أم يحيى أم عيسى فقالت يا مريم أشَعرتِ بحبَلي فقالت
مريم وأنا أيضاً حُبلى قالت فإني وجدتُ ما في بطنى يسجد لما في
بطنك فذلك قوله تعالى مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ الخ وقالَ ابنُ
عباسٍ رضيَ الله عنهما أن يحيى كان أكبرَ من عيسى عليهما
الصلاة والسلام بستة أشهرٍ وقيل بثلاث سنين وقتل قبل رفعِ عيسى
عليهما الصلاة والسلام بمدة يسيرةٍ وعلى كل تقديرٍ يكون بين
ولادة يحيى وبين البشارة بها زمانٌ مديد لما أن مريمَ ولَدت
وهي بنتُ ثلاثَ عشْرةَ سنةً أو بنتُ عشرِ سنين وقيل بِكَلِمَةٍ
مّنَ الله أي بكتابِ الله سمّي كلمةً كما قيل كلمة الحويدرة
لقصيدته
{وَسَيّدًا} عطفٌ على مصدقاً أي رئيساً يسود قومَه ويفوقهم في
الشرف وكان فائقاً للناس قاطبةً فإنه لم يُلِمَّ بخطيئة ولم
يَهُمَّ بمعصية فيا لها من سيادة ما أسناها
{وَحَصُورًا} عطف على ما قبله أي مبالِغاً في حصر النفس
وحبسِها عن الشهوات مع القدرة روي أنه مرَّ في صباه بصبيان
فدعَوْه إلى اللعب فقال ما للعب خلقت
{وَنَبِيّا} عطف على ما قبله مترتب على ما عُدِّد من الخصال
الحميدة
{مّنَ الصالحين} أي ناشئاً منهم لأنه كان من أصلاب الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام أو كائناً من جملة المشهورين بالصلاح كما
في قوله تعالى {وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين} والمراد
بالصلاح ما فوق الصلاحِ الذي لا بد منه في منصِب النبوة البتة
من أقاصي مراتبه وعليه مبنيٌّ دعاءُ سليمانَ عليه السَّلام
{وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين}
(2/32)
قَالَ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي
عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
{قال} استئناف مبني على السؤالِ كأنَّه
قيلَ فماذَا قال زكريا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينئذٍ فقيل
قال
{رَبّ} لم يخاطِب الملَكَ المناديَ له بملابسة أنه المباشرُ
للخطاب وإن كان ذلك بطريق الحكاية عنه تعالى بل جرى على نهجُ
دعائه السابق مبالغةً في التضرع والمناجاة وجِدّاً في التبتل
إليه تعالى واحترازاً عما عسى يوهم
(2/32)
41 - آل عمران
خطابُ الملَكِ من توهُّم أن علمَه سبحانه بما يصدُر عنه يتوقف
على توسّطه كما يتوقف وقوفُ البشر على ما يصدر عنه سبحانه على
توسّطه في عامة الأحوال وإن لم يتوقف عليه في بعضها
{أنى يَكُونُ لِي غلام} فيه دَلالةٌ على أنه قد أخبر بكونه
غلاماً عند التبشير كما في قوله تعالى {إِنَّا نُبَشّرُكَ
بغلام اسمه يحيى} وأنى بمعنى كيف أو من أين وكان تامةٌ وأنى
واللام متعلقتان بها وتقديمُ الجارِّ على الفاعلِ لما مرَّ
مراراً من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر أي كيف أو من
أين يحدُث لي غلامٌ ويجوزُ أن تتعلق اللامُ بمحذوفٍ وقعَ حالاً
من غلامٌ إذ لو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ أو ناقصة واسمُها ظاهرٌ
وخبرُها إما أنى واللام متعلقة بمحذوف كما مر أو هو الخبر وأنى
منصوب على الظرفية
{وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر} حال من ياء المتكلم أي أدركني كِبَرُ
السِّنِّ وأثّر فيَّ كقولهم أدركته السنُّ وأخذته السن وفيه
دلالةٌ على أن كبرَ السن من حيث كونُه من طلائع الموت طالبٌ
للإنسان لا يكاد يتركه قيل كان له تسعٌ وتسعون سنة وقيل اثنتان
وتسعون وقيل مائة وعشرون وقيل ستون وقيل خمس وستون وقيل سبعون
وقيل خمس وسبعون وقيل خمس وثمانون ولامرأته ثمانٍ وتسعون
{وامرأتى عَاقِرٌ} أي ذاتُ عُقر وهو أيضاً حال من ياء لي عند
من يجوز تعدد الحال أو من ياء بَلَغَنِي أي كيف يكون لي ذلك
والحال أني وامرأتي على حالة منافية له كلَّ المنافاة وإنما
قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع سبق دعائِه بذلك وقوةِ
يقينه بقدرة الله تعالى عليه لاسيما بعد مشاهدته عليه الصلاة
والسلام للشواهد السالفة استعظاماً لقدرة الله سبحانه وتعجيباً
منها واعتداداً بنعمته عز وجل عليه في ذلك لااستبعادا له وقيل
بل كان ذلك للاستبعاد حيث كان بين الدعاء والبِشارة ستون سنة
وكان قد نسِيَ دعاءَه وهو بعيد وقيل كان ذلك استفهاماً عن
كيفية حدوثه
{قَالَ} استئناف كما سلف
{كذلك} إشارةٌ إلى مصدرِ يَفْعَلُ في قولِه عزَّ وجلَّ
{الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء} أي ما يشاء أن يفعله من تعاجيب
الأفاعيل الخارقةِ للعادات فالله مبتدأ ويفعل خبره والكاف في
محل النصب على أنها في الأصل نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي الله
يَفْعَلُ مَا يَشَاء أن يفعله فعلاً مثلَ ذلك الفعل العجيبِ
والصنعِ البديعِ الذي هو خلقُ الولد من شيخٍ فانٍ وعجوزٍ عاقر
فقُدِّم على العامل لإفادة القصر بالنسبة إلى ما هو أدنى من
المشار إليه واعتبرت الكافُ مُقحَمَةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ
الإشارةِ من الفخامة وقد مرَّ تحقيقُه في تفسير قوله تعالى
وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا أو على أنَّها حالٌ من ضمير
المصدرِ المقدر معرِفةٌ أي يفعل الفعل كائنا مثل ذلك أو في
محلِ الرفعِ على أنها خبر والجلالة مبتدأ أي على نحو هذا الشأن
البديع شأن الله تعالى ويفعل ما يشاء بيانٌ لذلك الشأن المبهم
أو كذلك خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي الأمر كذلك وقوله تعالى الله
يَفْعَلُ مَا يَشَاء بيانٌ له
(2/33)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ
لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
{قَالَ رَبّ اجعل لِّى آية} أي علامةً
تدلني على تحقق المسئول ووقوعِ الحبَل وإنما سألها لأن العلوقَ
أمرٌ خفيٌّ لا يوقف عليه فأراد أن يُطلعه الله تعالى ليتلقّى
تلك النعمةَ الجليلة من حين حصولِها بالشكر ولا
(2/33)
42 - آل عمران
يؤخِّرَه إلى أن يظهر ظهوراً معتاداً ولعل هذا السؤالَ وقع بعد
البشارة بزمانٍ مديد إذ به يظهر ما ذُكر من كونِ التفاوت بين
سِني يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهر أو بثلاثِ
سنينَ لأن ظهورَ العلامة كان عَقيبَ تعيينها لقوله تعالى في
سورة مريم {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب فأوحى
إِلَيْهِمْ} الآية اللهم إلا أن تكونَ المجاوَبةُ بين زكريا
ومريمَ في حالة كِبَرها وقد عُدت من جملة من تكلم في الصِغَر
بموجب قولها المحكي والجعلُ إبداعيٌّ واللامُ متعلقة به
والتقديم لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما
أخر أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من آية وقيل هو بمعنى التصيير
المستدعي لمفعولين اولهما آية وثانيهما لِى والتقديم لأنه لا
مسوِّغَ لكون آيةٌ مبتدأً عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر
سوى تقديم الجار فلا يتغير حالُهما بعد دخول الناسخ
{قَالَ آيتك ألا تُكَلّمَ الناس} أي أن لاتقدر على تكليمهم
{ثلاثة أَيَّامٍ} أي متوالية لقوله تعالى في سورة مريم {ثلاث
لَيَالٍ سَوِيّاً} مع القدرة على الذكر والتسبيح وإنما جُعلت
آيتُه ذلك لتخليص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاءً لحق
النعمة كأنه قيل آيةُ حصولِ المطلوب ووصول النعمة أن تحبِسَ
لسانك إلا عن شكرها وأحسنُ الجواب ما اشتق من السؤال
{إِلاَّ رَمْزًا} أي إشارةً بيد أو رأس أو نحوِهما وأصلُه
التحركُ يقال ارتمزَ أي تحرك ومنه قيل للبحر الراموز وهو
استثناء منقطعٌ لأن الإشارة ليست من قبيل الكلام أو متصلٌ على
أنَّ المراد بالكلام ما فهم منه المرام ولاريب في كون الرمز من
ذلك القبيل وقرئ رَمَزاً بفتحتين على أنه جمع رامز كخَدَم
وبضمتين على أنه جمع رَموز كرُسُل على أنه حال منه ومن الناس
معاً بمعنى مترامزين كقوله ... متى ما تلْقني فردَيْنِ ترجُف
... روانف إليَتَيكَ وتُستطارا ...
{واذكر رَّبَّكَ} أي في أيام الحبسة شكراً لحصول التفضُّل
والإنعام كما يؤذن به التعرّضُ لعنوان الربوبية
{كَثِيراً} أي ذِكراً كثيراً أو زماناً كثيراً
{وَسَبّحْ} أي سبحه تعالى أو افعل التسبيحَ
{بالعشى} أي من الزوال إلى الغروب وقيل من العصر إلى ذهاب صدر
الليل
{والإبكار} من طلوع الفجرِ إلى الضحى قيل المرادُ بالتسبيح
الصلاةُ بدليل تقييده بالوقت كما في قوله تعالى {فَسُبْحَانَ
الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} وقيل الذكر اللساني
كما أن المراد بالذكر الذكرُ القلبي وقرئ الأبكار بفتح الهمزة
على أنه جمعُ بكَر كسحرَ وأسحار
(2/34)
وَإِذْ قَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ
وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
{وإذ قالت الملائكة} شروعٌ في شرح بقيةِ
أحكامِ اصطفاء آلِ عمران إثرَ الإشارةِ إلى نُبَذٍ من فضائل
بعضِ أقاربهم أعني زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام لاستدعاء
المقامِ إياهما حسبما أشير إليه وقرئ بتذكير الفعل والمرادُ
بالملائكة جبريل عليه الصلاةُ والسلامُ وقد مرَّ ما فيه من
الكلام وإذ منصوبٌ بمُضمر معطوفٍ على المُضمر السابق عطفَ
القِصة على القصة وقيل معطوفٌ على الظرف السابق أعني قولَه إذ
قالت أمرأة عمران منصوبٌ بناصبة فتدبرْ أي واذكر أيضاً من
شواهد اصطفائِهم وقتَ قولِ الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام
{يا مَرْيَمَ} وتكريرُ التذكير للإشعار بمزيد الاعتناء بما
يحكى من أحكام الاصطفاءِ والتنبيهِ على استقلالها وانفرادِها
عن الأحكام السابقة فإنها من أحكام التربية الجُسمانية اللائقة
بحال صِغَر مريمَ وهذه من باب التربية
(2/34)
43 - 44 آل عمران
الروحانية بالتكاليف الشرعيةِ المتعلقة بحال كِبَرها قيل
كلّموها شِفاهاً كرامةً لها أو ارهاصا لنبوة عيسى عليه الصلاة
والسلام لمكان الإجماعِ على أنه تعالى لم يستنئ امرأةً وقيل
ألهموها
{إِنَّ الله اصطفاك} أولاً حيث تقبّلك من أمك بقبولٍ حسن ولم
يتقبل غيرَك أنثى وربّاك في حِجْرِ زكريا عليه السلام ورزقك من
رزق الجنةِ وخصّك بالكرامات السنية
{وَطَهَّرَكِ} أي مما يُستقذر من الأحوال والأفعال ومما قذفك
به اليهودُ بإنطاق الطفلِ
{واصطفاك} آخِراً
{على نِسَاء العالمين} بأن وهبَ لك عيسى عليه الصلاة والسلام
من غير أب ولم يكُنْ ذلكَ لأحدٍ من النساء وجعلكما آيةً
للعالمين فعلى هذا ينبغي أنْ يكونَ تقديمُ حكاية هذه المقاولة
على حكاية بشارتِها بعيسى عليه الصلاة والسلام لما مر مرارا من
التَّنبيه على أنَّ كلاً منهما مستحِقٌّ للاستقلال بالتذكير
ولو روعيَ الترتيبُ الخارجيُّ لتبادر كونُ الكل شيئاً واحداً
وقيل المرادُ بالاصطفاءين واحدٌ والتكريرُ للتأكيد وتبيينِ مَن
اصطفاها عليهن فحينئذ لا إشكالَ في ترتيب النظم الكريم إذ
يُحمل حينئذ الاصطفاءُ على ما ذُكر أولاً وتُجعل هذه المقاولةُ
قبل بشارتها بعيسى عليهِ الصلاةُ والسلامُ إيذاناً بكونها قبل
ذلك متوفرةً على الطاعات والعبادات حسبما أُمِرت بها مجتهدةً
فيها مُقْبِلةً على الله تعالى مُتبتِّلةً إليه تعالى منسلخةً
عن أحكام البشرية مستعدةً لفيضان الروح عليها
(2/35)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي
لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
{ياَ مَرْيَمُ} تكريرُ النداءِ للإيذان بأن
المقصودَ بالخطاب ما يرِدُ بعده وأن ما قبله من تذكير النِعم
كان تمهيداً لذِكره وترغيباً في العمل بموجبه
{اقنتى لِرَبّكِ} أي قومي في الصلاة أو أطيلي القيام فيها له
تعالى والتعرضُ لعنوان ربوبيته تعالى لها للإشعار بعلة وجوبِ
الامتثالِ بالأمر
{واسجدى واركعى مع الراكعين} أُمِرت بالصلاة بالجماعة بذكر
أركانها مبالغةً في إيجاب رعايتها وإيذاناً بفضيلة كلَ منها
وأصالتِه وتقديمُ السجود على الركوع إما لكون الترتيب في
شريعتهم كذلك وإما لكون السجودِ أفضلَ أركانِ الصلاة وأقصى
مراتبِ الخضوع ولا يقتضي ذلك كونَ الترتيب الخارجيِّ كذلك بل
اللائقُ به الترقي من الأدنى إلى الأعلى وإما لِيَقْترِن اركعي
بالراكعين للإشعار بأن من لا ركوعَ في صلاتهم ليسوا مصلّين
وأما ما قيل من أن الواوَ لا توجب الترتيبَ فغايتُه التصحيحُ
لا الترجيح وتجريدُ الأمر بالرُكنين الأخيرين عما قُيِّد به
الأولُ لما أن المراد تقييدُ الأمر بالصلاة بذلك وقد فعل حيث
قيد به الركن الأول منها وقيل المرادُ بالقنوت إدامةُ الطاعات
كما في قوله تعالى أَمَّنْ هُوَ قانت آناء الليل ساجدا
وَقَائِماً وبالسجود الصلاةُ لما مر من أنه أفضلُ أركانها
وبالركوع الخشوعُ والإخباتُ قيل لمّا أُمِرَت بذلك قامت في
الصلاة حتى ورِمَتْ قدَماها وسالت دماً وقيحاً
(2/35)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا
كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
{ذلك} إشارة إلى ما سلف من الأمور البديعة
وما فيه من معنى البعد للتنبيه على علوِّ شأن المُشَارِ إليهِ
وبُعْدِ منزلتِه في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى
{مِنْ أَنبَاء الغيب} أي من الأنباء المتعلقةِ بالغيب
(2/35)
45 - آل عمران
والجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ وقولُه تعالى
{نُوحِيهِ إِلَيْكَ} جملةٌ مستقلة مبينةٌ للأولى وقيل الخبرُ
هو الجملة الثانية ومن أَنبَاء الغيب إما متعلق بنوحيه أو حالٌ
من ضميرِه أي نوحي من أنباء الغيب أو نوحيه حال كونه من جملة
أنباء الغيب وصيغةُ الاستقبال للإيذان بأن الوحيَ لم ينقطعْ
بعد
{وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي عند الذين اختلفوا وتنازعوا في
تربية مريمَ وهو تقريرٌ وتحقيق لكونه وحياً على طريقة التهكم
بمُنكِريه كما في قوله تعالى وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى
الآية وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ الآية فإن
طريقَ معرفةِ أمثالِ هاتيك الحوادثِ والواقعات إما المشاهدةُ
وإما السماعُ وعدمُه محققٌ عندهم فبقيَ احتمالُ المعاينة
المستحيلةِ ضرورةً فنُفِيَت تهكماً بهم
{إِذْ يُلْقُون أقلامهم} ظرفٌ للاستقرارِ العاملِ في لديهم
واقلامهم أقداحُهم التي اقترعوا بها وقيل اقترعوا بأقلامهم
التي كانوا يكتُبون بها التوراة تبركاً
{أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} متعلقٌ بمحذوف دلَّ عليه
يُلْقُون أقلامهم أي يُلْقونها ينْظرون أو ليعلموا أيُّهم
يكفلها
{وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي في شأنها
تنافُساً في كفالتها حسبما ذكر فيما سبق وتكريرُ ما كنت لديهم
مع تحقق المقصودِ بعطف إِذْ يَخْتَصِمُونَ على إذ يُلقون كما
في قوله عز وجل {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ
إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى} للدِلالة على
أنَّ كلَّ واحدٍ من عدم حضورِه عليه الصَّلاة والسَّلام عند
إلقاءِ الأقلام وعدمِ حضوره عند الاختصام مستقلٌ بالشهادة على
نبوَّته عليه الصلاةُ والسلام لا سيما إذا أريد باختصامهم
تنازعُهم قبل الاقتراعِ فإن تغييرَ الترتيبِ في الذكر مؤكدٌ له
(2/36)
إِذْ قَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
(45)
{إذ قالت الملائكة} شروعٌ في قصة عيسى
عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو بدلٌ من وَإِذْ قالت الملائكة
منصوبٌ بناصبه وما بينهما اعتراضٌ جيءَ به تقريراً لما سبق
وتنبيهاً على استقلاله وكونِه حقيقاً بأن يعد على حياله من
شواهدِ النبوةِ وتركُ العطف بينهما بناءً على اتحاد المخاطب
وإيذاناً بتقارُن الخطابين أو تقاربُهما في الزمان وقيل منصوبٌ
بمضمرٍ معطوفٍ على ناصبه وقيل بدل من إِذْ يَخْتَصِمُونَ كأنه
قيل وما كنت حاضراً في ذلك الزمان المديد الذي وقع في طرفٍ منه
الاختصامُ وفي طرفٍ آخرَ هذا الخطابُ إشعاراً بإحاطته عليه
الصلاة والسلام بتفاصيلِ أحوالِ مريمَ من أولها إلى آخرها
والقائلُ جبريل عليه الصلاة والسلام وإيرادُ صيغة الجمعِ لما
مر
{يا مريم إِنَّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ} مِنْ
لابتداءِ الغايةِ مجازا متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لكلمة أي
بكلمة كائنة منه عز وجل
{اسمه} ذُكر الضميرُ الراجعُ إلى الكلمة لكونها عبارةً عن
مذكّر وهو مبتدأ خبرُه
{المسيح} وقوله تعالى
{عِيسَى} بدلٌ منه أو عطفُ بيانٍ وقيل خبرٌ آخرُ وقيل خبرُ
مبتدأ محذوفٍ وقيل منصوبٌ بإضمار أعني مدحاً وقوله تعالى
{ابن مَرْيَمَ} صفة لعيسى وقيل المرادُ بالاسم ما به يتميز
المسمَّى عمن سواه فالخبرُ حينئذ مجموعُ الثلاثةِ إذ هو
المميّز له عليه الصلاة والسلام تمييزاً عن جميع مَنْ عداه
والمسيح لقبه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو من الألقاب
(2/36)
46 - 47 آل عمران
المشرّفة كالصّدّيق وأصلُه بالعبرية مشيحاً ومعناه المبارَك
وعيسى معرّبٌ من إيشوع والتصدّي لاشتقاقهما من المسْح والعَيْس
وتعليلُه بأنَّه عليهِ الصَّلاةُ والسلام مُسِحَ بالبركة أو
بما يطهِّره من الذنوب أو مسَحَه جبريلُ عليهما الصَّلاةُ
والسَّلامُ أو مسَح الأرضَ ولم يُقِمْ في موضع أو كان عليه
الصَّلاةُ والسَّلامُ يمسَح ذا العاهةِ فيبرَأُ وبأنه كان في
لونه عيس أي بياض يغلوه حُمرةٌ من قبيل الرَّقْم على الماء
وإنما قيل ابنُ مريم مع كون الخطابِ لها تنبيهاً على أنه
يُولدُ من غير أبٍ فلا يُنسب إلا إلى أمه وبذلك فُضّلت على
نساء العالمين
{وَجِيهًا فِي الدنيا والاخرة} الوجيهُ ذو الجاه وهو القوةُ
والمنَعةُ والشرَفُ وهو حالٌ مقدرةٌ من كَلِمَةَ فإنها وإن
كانت نكرةً لكنها صالحة لأن ينتصِبَ بها الحال وتذكيرُها
باعتبار المعنى والوجاهةُ في الدنيا النبوةُ والتقدمُ على
الناس وفي الآخرة الشفاعةُ وعلوُّ الدرجة في الجنة
{وَمِنَ المقربين} أي من الله عز وجل وقيلَ هُو إشارةٌ إلى
رفعه إلى السماء وصُحبةِ الملائكة وهو عطفٌ على الحال الأولى
وقد عُطف عليه قولُه تعالى
(2/37)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ
فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
{وَيُكَلّمُ الناس فِى المهد وَكَهْلاً} أي
يكلمهم حال كونِه طفلاً وكهلاً كلام الأنبياء من غير تفاوت
والمهدُ مصدرٌ سُمِّي به ما يُمْهَد للصبيِّ أي يُسوَّى من
مضجعه وقيل انه شاربا رفع والمراد وكهلاً بعد نزوله وفي ذكر
أحوالِه المختلفة المتنافيةِ إشارةٌ إلى أنه بمعزلٍ من
الألوهية
{وَمِنَ الصالحين} حال أخرى من كلمة معطوفة على الأحوال
السالفة أو من الضميرِ في يكلم
(2/37)
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ
اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا
يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
{قَالَتْ} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ
كأنه قيل فماذا ظقالت مريمُ حين قالت لها الملائكةُ ما قالت
فقيل قالت متضرعةً إلى ربها
{رَبّ أنى يَكُونُ} أي كيف يكونُ أو من أين يكون
{لِى وَلَدٌ} على وجه الاستبعاد العادي والتعجب واستعظامِ
قدرةِ الله عز وجل وقيل على وجه الاستفهامِ والاستفسارِ بأنه
بالتزوج أو بغيره ويكون إما تامةٌ وأنى واللام متعلقتان بها
وتأخيرُ الفاعل عن الجار والمجرور لما مرَّ من الاعتناء
بالمقدَّمِ والتشويق إلى المؤخر ويجوز أن تتعلق اللامُ بمحذوفٍ
وقعَ حالاً من ولد إذ لو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ وإما ناقصةٌ
واسمُها ولد وخبرها إما أنى واللام متعلقة بمضمر وقع حالاً كما
مر أو خبر وأنى نصبَ على الظرفية وقوله تعالى
{وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} جملةٌ حالية محقّقةٌ للاستبعاد أي
والحال أني على حالة منافيةٍ للولادة
{قَالَ} اسئناف كما سلف والقائلُ هو اللَّهُ تعالى أو جبريلُ
عليه الصلاة والسلام
{كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاء} الكلامُ في إعرابه كما مرَّ
في قصَّةِ زكريا بعينه خلا أن إيراد يخلق ههنا مكانَ يفعلُ
هناك لما أن ولادةَ العذراءِ من غير أن يمسَّها بشرٌ أبدعُ
وأغربُ من ولادة عجوزٍ عاقرٍ من شيخ فان فكان الخلق المنبئ عن
الاختراع أنسبَ بهذا المقام من مطلق الفعل ولذلك عقّب ببيان
كيفيته فقيل
{إِذَا قَضَى أَمْرًا} من الأمور أي أراد شيئاً كما في قوله
تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} وأصلُ
القضاءِ الإحكام أطلق على الإرادة الإلهية القطعيةِ المتعلقةِ
بوجود الشئ لإيجابها إياه
(2/37)
48 - 49 آل عمران
البتة وقيل الأمر ومنه قوله تعالى وقضى ربك
{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ} لا غيرُ
{فَيَكُونُ} من غير ريث وهو كما ترى تمثيلٌ لكمال قدرته تعالى
وسهولةِ تأتى المقدورات حسيما تقتضيه مشيئتُه وتصويرٌ لسرعة
حدوثِها بما هو علم فيها من طاعة المأمورِ المطيعِ للآمر القوى
وبيانٌ لأنه تعالى كما يقدِر على خلق الأشياءِ مُدرَجاً بأسباب
وموادَّ معتادةٍ يقدِر على خلقها دفعةً منْ غيرِ حاجةٍ إلى شيء
من الأسباب والمواد
(2/38)
وَيُعَلِّمُهُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
{وَيُعَلّمُهُ الكتاب} أي الكتابةَ أو جنسَ
الكتُبِ الإلهية
{والحكمة} أي العلومَ وتهذيبَ الأخلاق
{والتوراة والإنجيل} إفرادُهما بالذكر على تقدير كونِ المرادِ
بالكتاب جنسَ الكتب المنزلة لزيادة فضلهما وإناقتها على غيرها
والجملةُ عطف على يُبَشّرُكِ أو على وَجِيهاً أو على يخلق أو
هو كلام مبتدأ سيق تطييباً لقلبها وإزاحةً لما أهمّها من خوف
اللائمةِ لمّا علِمَت أنها تلِدُ من غير زوجٍ وقرىء ونعلِّمه
بالنون
(2/38)
وَرَسُولًا إِلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ
الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ
اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ
الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا
تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
{ورسولا إلى بني إسرائيل} منصوبٌ بمُضْمر
يعود إليه المعنى معطوفٌ على يُعلّمه أي ويجعله رسولاً إلى بني
إسرائيلَ أي كلِّهم وقال بعضُ اليهود إنه كان مبعوثاً إلى قوم
مخصوصين ثم قيل كان رسولاً حال الصِّبا وقيل بعد البلوغ وكان
أولَ أنبياءِ بني إسرائيلَ يوسفُ عليه الصلاة والسلام وقوله
تعالى
{أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ} معمولٌ لرسولاً لما فيه من معنى
النُطقِ أي رسولاً ناطقاً بأني الخ وقيل منصوبٌ بمضمر معمولٍ
لقول مضمر معطوف على من يعلِّمه أي ويقول أُرسِلتُ رسولاً بأني
قد جئتُكم الخ وقيل معطوفٌ على الأحوال السابقةِ ولا يقدَحُ
فيه كونُها في حكم الغَيبة مع كونِ هذا في حكم التكلّم لِما
عرَفتَ من أنَّ فيه معنى النُطقِ كأنه قيل حالَ كونه وجيهاً
ورسولاً ناطقاً بأني الخ وقرىء ورسولٍ بالجر عطفاً على
كَلِمَةَ والباء في قوله تعالى
{بِآيَةٍ} متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل الفعلِ على أنها
للملابسة والتنوينُ للتفخيم دون الوحدة لظهور تعددها وكثرتها
وقرىء بآيات أو بجئتُكم على أنها للتعدية ومِنْ في قولِه
تعالَى
{مّن رَّبّكُمْ} لابتداء الغايةِ مجازا متعلقةٌ بمحذوف وقعَ
صفةً لآيةٍ أي قد جئتُكم ملتبساً بآية عظيمةٍ كائنةٍ مّن
رَّبّكُمْ أوأتيتكم بآية عظيمة كائنةٌ منه تعالى والتعرضُ
لوصفِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضمير المخاطَبين لتأكيد
إيجاب الامتثالِ بما سيأتي من الأوامر وقولُه تعالى
{أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} بدلٌ من
قوله تعالى {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ} ومحلُه النصبُ على نزع
الجارِّ عند سيبويهِ والفرَّاءِ والجرُّ على رأي الخليلِ
والكسائيّ أو بدلٌ من آية وقيل منصوبٌ بفعلٍ مُقدَّر أي أعنى
أبى الخ وقيلَ مرفوعٌ على أنه خبر مبتدأ أي هي أَنِى أَخْلُقُ
لكم وقرئ بكسر الهمزةِ على الاستئناف أي أقدّرُ لكم أي لأجل
تحصيلِ إيمانِكم ودفعِ تكذيبكم إياى من
(2/38)
50 - آل عمران
الطين شيئاً مثلَ صورةِ الطير
{فَأَنفُخُ فِيهِ} الضمير للكاف أي في ذلك الشئ المماثل لهيئة
الطير وقرئ فأنفخ فيها على أن الضميرَ للهيئة المقدّرةِ أي
أخلُق لكم من الطين هيئةً كهيئة الطيرِ فأنفخُ فيها
{فَيَكُونُ طَيْرًا} حياً طياراً كسائر الطيور
{بِإِذُنِ الله} بأمرِه تعالى أشارَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ
بذلك إلى أن إحياءَه من الله تعالى لا منه قيل لم يَخْلُقْ
غيرَ الخفاش رُوي أنه عليه الصلاة والسلام لما ادعى النبوةَ
وأظهر المعجزاتِ طالبوه بخلق الخفاشِ فأخذ طيناً وصوَّره ونفخَ
فيه فإذا هو يطيرُ بين السماء والأرض قال وهْبٌ كان يطير ما
دام الناسُ ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز
من خلقِ الله تعالَى قيل إنما طلبوا خلق الخفاشِ لأنه أكملُ
الطير خلقاً وأبلغ دلالة على القدرة لأن له ثُدِيّاً وأسناناً
وهي تحيض وتطُهر وتلِد كسائر الحيوان وتضحك كما يضحك الإنسانُ
وتطير بغير ريش ولا تُبصِرُ في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل
وإنما ترى في ساعتين ساعةٍ بعد الغروب وساعةٍ بعد طلوع الفجر
وقيل خَلَق أنواعاً من الطير
{وأبرئ الاكمه} أي الذي وُلد أعمى أو الممسوحُ العين
{والابرص} المبتلى بالبَرَص لم تكن العربُ تنفِرُ من شئ نفرها
منه ويقال له الوَضَح أيضاً وتخصيصُ هذين الداءين لأنهما مما
أعيا الأطباءَ وكانوا في غاية الحَذاقةِ في زمنه عليه الصلاة
والسلام فأراهم الله تعالى المعجزةَ من ذلك الجنس روي أنه عليه
الصلاةُ والسلام ربما كان يجتمعُ عليه ألوفٌ من المرضى مَنْ
أطاق منهم أتاه ومن لم يُطِقْ أتاه عيسى عليهِ الصَّلاةُ
والسَّلامُ وما يداويه إلا بالدعاء
{وأحيي الموتى بإذن الله} كرَّره مبالغةً في دفع وَهْمِ مَنْ
توهّم فيه اللاهوتية قال الكلبيُّ كان عليه الصَّلاةُ
والسَّلامُ يُحيي الموتى بيا حيُّ يا قيُّومُ أحيا عازَرَ وكان
صديقاً له فعاش وولد له ومر على ابن عجوز ميت فدعا الله تعالى
فنزل عن سريره حياً ورجع إلى أهله وبقي وولد له وبنت العاشر
أحياها وولدت بعد ذلك فقالوا إنك تحيي من كان قريبَ العهدِ من
الموت فلعلهم لم يموتوا بل أصابهتهم سكتة فأحى لنا سامَ بنَ
نوحٍ فقال دُلوني على قبره ففعلوا فقام على قبره فدعا الله عز
وجل فقام من قبره وقد شاب رأسه فقال عليه السلام كيف شِبْتَ
ولم يكن في زمانكم شيبٌ قال يا روحَ الله لما دعَوْتَني سمعتُ
صوتاً يقول أجبْ روحَ الله فظننتُ أن الساعةَ قد قامت فمِنْ
هِولِ ذلك شِبْتُ فسأله عن النزْع قال يا روحَ الله إن مرارتَه
لم تذهَبْ من حَنْجَرَتي وكان بينه وبين موته أكثرُ من أربعةَ
آلافِ سنةٍ وقال للقوم صدِّقوه فإنه نبيُّ الله فآمن به بعضُهم
وكذبه آخرون فقالوا هذا سحرٌ فأرِنا آيةً فقال يا فلان أكلتَ
كذا ويا فلان خبئ لك كذا وذلك قولُه تعالى
{وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى
بُيُوتِكُمْ} أي بالمغيَّبات من أحوالكم التي لا تشكّون فيها
وقرئ تَذْخَرون بالذال والتخفيف
{إِنَّ فِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من الأمورِ العظامِ
{لآية} عظيمة وقرئ لآياتٍ
{لَكُمْ} دالةً على صِحة رسالتي دَلالةً واضحة
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} جوابُ الشرطِ محذوفٌ لانصباب المعنى
إليه أو دِلالةِ المذكورِ عليه أي انتفعتم بها أو إن كنتم ممن
يتأتَّى منهم الإيمانُ دلَّتْكم على صحة رسالتي والإيمانِ بها
(2/39)
وَمُصَدِّقًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ
الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)
{ومصدقا لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ
التوراة}
(2/39)
عطفٌ على المضمر الذي تعلق به قوله تعالى
بآية أي قد جئتكم ملتبساً بآية الخ {ومصدِّقاً لما بين يديَّ}
الخ أو على رَسُولاً على الأوجه الثلاثةِ فإن مصدِّقاً فيه
معنى النُطقِ كما في رسولاً أي ويجعله مصدِّقاً ناطقاً بأني
أُصَدِّق الخ أو ويقول أُرسلتُ رسولاً بأني قد جئتُكم الخ
ومصدقا الخ أو حالَ كونه مصدِّقاً ناطقاً بأني أُصَدِّق الخ أو
منصوبٌ بإضمار فعلٍ دلَّ عليه قد جئتكم أي وجئتكم مصدقاً الخ
وقولُه مِنَ التوراة إما حالٌ من الموصول والعاملُ مُصَدّقاً
وإما من ضميره المستترِ في الظرف الواقعِ صلةً والعاملُ
الاستقرارُ المُضْمرُ في الظرف أو نفسُ الظرف لقيامه مَقامَ
الفعل
{وَلاِحِلَّ لَكُم} معمولٌ لِمُضمرٍ دلَّ عليهِ ما قبلَهُ أيْ
وجئتكم لأُحِل الخ وقيل عطفٌ على معنى مصدقاً كقولهم جئتُه
معتذراً ولأجتلِبَ رضاه كأنه قيل قد جئتُكم لأصدِّق ولأحِل الخ
وقيل عطفٌ على بِآيَةٍ أي قد جئتُكم بآية من ربكم ولأُحِلَّ
لكم
{بَعْضَ الذي حُرّمَ عَلَيْكُمْ} أي في شريعة موسى عليه الصلاة
والسلام من الشحومِ والثُروبِ والسمكِ ولحومِ الإبلِ والعملِ
في السبت قيل أحَلَّ لهم من السمك والطير مالا صئصئة له واختلف
في إحلال السبت وقرئ حَرَّم على تسمية الفاعل وهو ما بين يديّ
أو الله عز وجل وقرئ حَرُم بوزن كَرُم وهذا يدل على أن شرعَه
كان ناسخاً لبعض أحكام التوراةِ ولا يُخِل ذلك بكونه مصدِّقاً
لها لما أن النسخَ في الحقيقة بيانٌ وتخصيصٌ في الأزمان
وتأخيرُ المفعول عن الجارِّ والمجرور لما مر مرارا من المبادرة
إلى ذكر ما يسر المخاطبين والتشويق إلى ما أخر
{وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ} شاهدةٍ على صحة رسالتي
وقرئ بآيات
{فاتقوا الله} في عدم قَبولها ومخالفةِ مدلولها
{وَأَطِيعُونِ} فيما آمرُكم به وأنهاكم عنه بأمر الله تعالى
وتلك الآية هي قولي
(2/40)
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي
وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
{إن الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا
صراط مُّسْتَقِيمٌ} فإنَّه الحقُّ الصريحُ الذي أجمع عليه
الرسلُ قاطبةً فيكون آيةً بيِّنة على أنَّه عليه الصلاةُ
والسلام من جملتهم وقرئ إِنَّ الله بالفتح بدلاً من آية أو قد
جئتكم بآية على إن الله ربى وربكم وقولُه فاتقوا الله
وَأَطِيعُونِ اعتراض والظاهرُ أنه تكريرٌ لما سبق أي قد جئتكم
بآية بعد آية مما ذكرتُ لكم من خلق الطير وإبراءِ الأكمهِ
والأبرصِ والإحياءِ والإنباءِ بالخفيات ومن غيره من ولادتي
بغير أبٍ ومن كلامي في المهد ومن غير ذلك والأولُ لتمهيد الحجة
والثاني لتقريبها إلى الحكم ولذلك رُتّب عليه بالفاءِ قولُه
فاتقوا الله أي لِمَا جئتُكم بالمعجزات الباهرةُ والآياتِ
الظاهرة فاتقوا الله في المخالفة وأطيعونِ فيما أدعوكم إليه
ومعنى قراءةِ من فتح ولأن الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه
كقوله تعالى لإيلاف قُرَيْشٍ الخ ثم شرع في الدعوة وأشار إليها
بالقول المجمل فقال إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ إشارةً إلى
أن استكمالَ القوةِ النظريةِ بالاعتقاد الحقِّ الذي غايتُه
التوحيدُ وقال فاعبدوه إشارةً إلى استكمال القوةِ العمليةِ
فإنه يلازِمُ الطاعة التي هي الإتيانُ بالأوامر والانتهاءُ عن
المناهي ثم قرر ذلك بأنْ بيَّن أنَّ الجمعَ بين الأمرين هو
الطريقُ المشهودُ له بالاستقامة ونظيرُه قوله عليه الصلاة
والسلام قُلْ آمَنْتُ بالله ثم اسْتَقِمْ
(2/40)
فَلَمَّا أَحَسَّ
عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى
اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ
آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
{فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر}
شروعٌ في بيان مآلِ
(2/40)
أحوالِه عليه السلام إثرَ ما أُشيرَ إلى
طرَفٍ منها بطريق النقلِ عن الملائكة والفاءُ فصيحة تُفصِحُ عن
تحقُّق جميعِ ما قالته الملائكةُ وخروجُه من القوةِ إلى الفعلِ
حسبما شرحتُه كما في قوله تعالى فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً
عِندَه بعد قوله تعالى {أنا آتيك بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ
إليك طرفك} كأنه قيل فحمَلته فولدتْه فكان كيتَ وكيت وقال ذيتَ
وذيت وإنما لم يذكر اكتفاءً بحكاية الملائكةِ وإيذاناً بعدم
الخُلْفِ وثقةً بما فُصّل في المواضع الأُخَرِ وأما عدمُ نظمِ
بقية احواله عليه الصلاة السلام في سلك النقلِ فإما للاعتناء
بأمرِها أو لعدم مناسبتها لمقام البشارة لما فيها من ذكر
مُقاساتِه عليه الصلاة والسلام للشدائد ومعاناتِه للمكايد
والمرادُ بالإحساس الإدراكُ القويُّ الجاري مَجرَى المشاهدةِ
وبالكفر إصرارُهم عليه وعتوُّهم ومكابرتُهم فيه مع العزيمة على
قتلِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كما ينبئ عنه الإحساسُ فإنه
إنما يُستعمل في أمثالِ هذهِ المواقعِ عند كونِ مُتعلّقِه
أمراً محذوراً مكروهاً كما في قوله عز وجل فَلَمَّا أَحَسُّواْ
بَأْسَنَا إِذَا هم منا يَرْكُضُونَ وكلمةُ مِنْ متعلقةٌ بأحسّ
والضميرُ المجرورُ لبني إسرائيلَ أي ابتدأ الإحساسَ من جهتهم
وتقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريح لما مر غيرَ مرةٍ
من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخَّر وقيل متعلقةٌ
بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الكفر
{قال} أي لخص لأصحابه لا لجميعِ بني إسرائيلَ لقوله تعالى
{كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ} الآية
وقوله تعالى {فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة} ليس بنص
في توجيه الخطابِ إلى الكل بل يكفي فيه بلوغُ الدعوة إليهم
{مَنْ أَنصَارِى} الأنصارُ جمع نصير كأشراف جمع شريف
{إِلَى الله} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الياء أي مَنْ
أنصاري متوجهاً إلى الله ملتجئاً إليه أو بأنصاري متضمناً معنى
الإضافةِ كأنه قيل مَنِ الذين يُضيفون أنفسَهم إلى الله عزَّ
وجلَّ ينصُرونني كما ينصُرني وقيل إلى بمعنى في أي في سبيل
الله وقيل بمعنى اللام وقيل بمعنى مع
{قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال ينساق إليه الذهنُ كأنه قيل
فماذا قالوا في جوابِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فقيلَ قال
{الحواريون} جمعُ حَواريّ يقال فلان حَواري فلان أي صفوتُه
وخالصتُه من الحَوَر وهو البياضُ الخالص ومنه الحوارياتُ
للحَضَريات لخُلوص ألوانِهن ونقائِهن سُمّي به أصحاب عيسى عليه
الصلاة والسلام لخُلوص نياتِهم ونقاءِ سرائرِهم وقيل لِمَا
عليهم من آثار العبادةِ وأنوارِها وقيل كانوا ملوكا يلبسون
البيض وذلك أن واحداً من الملوك صنعَ طعاماً وجمع الناسَ عليه
وكان عيسى عليه الصلاة والسلام على قصعةٍ لا يزال يأكلُ منها
ولا تنقُص فذكروا ذلك للملك فاستدعاه عليه الصلاة والسلام فقال
له من أنت قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ فترك مُلكَه وتبِعه مع
أقاربه فأولئك هم الحَواريون وقيل كانوا صيادين يصطادون السمكَ
يلبَسون الثيابَ البيض فيهم شمعونُ ويعقوبُ ويوحنا فمر بهم
عيسى عليه الصلاة والسلام فقال لهم أنتم تصيدون السمكَ فإن
اتبعتموني صَرْتم بحيث تصيدون الناسَ بالحياة الأبدية قالوا من
أنت قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ عبدُ اللَّه ورسولُه فطلبوا منه
المعجزة وكان شمعونُ قد رمى شبكتَه تلك الليلةَ فما اصطاد
شيئاً فأمره عيسى عليه الصلاة والسلام بإلقائها في الماء مرةً
أخرى ففعل فاجتمع في الشبكة من السمك ما كادَتْ تتمزقُ
واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملئوا السفينتين فعند ذلك آمنوا
بعيسى عليه السلام وقيل كانوا اثنيْ عشرَ رجلاً آمنوا به عليه
الصلاة والسلام واتبعوه وكانوا إذا جاعوا قالوا جُعْنا يا روحَ
الله فيضرِب بيده الأرضَ فيخرُجُ منها لكل واحد رغيفان وإذا
عطِشوا قالوا
(2/41)
53 - 54 آل عمران
عطِشنا فيضرب بيده الأرضَ فيخرُج منها الماءُ فيشربون فقالوا
من أفضلُ منا قال عليه الصلاة والسلام أفضلُ منكم من يعمل
بيدِه ويأكلُ من كَسْبه فصاروا يغسِلون الثيابَ بالأُجرة
فسُمّوا حَواريين وقيل إن أمَّه سلّمتْه إلى صبّاغ فأراد
الصباغُ يوماً أن يشتغل ببعض مَهمَّاتِه فقالَ لَهُ عليهِ
الصلاةُ والسلام ههنا ثيابٌ مختلفة قد جَعَلْتُ لكل واحدٍ منها
علامةً معينةً فاصبِغْها بتلك الألوانِ فغاب فجعلَ عليهِ
الصلاةُ والسلامُ كلَّها في جُبَ واحدٍ وقال كوني بإذن الله
كما أُريد فرجع الصبَّاغُ فسأله فأخبره بما صنع فقال أفسدتَ
عليّ الثيابَ قال قمْ فانظرْ فجعل يُخرِجُ ثوباً أحمرَ وثوباً
أخضرَ وثوباً أصفرَ إلى أن أخرج الجميعَ على أحسنِ ما يكون
حسبما كان يريد فتعجَّبَ منه الحاضرون وآمنوا به عليه الصلاة
والسلام وهم الحواريون قال القفالُ ويجوزُ أن يكون بعضُ هؤلاء
الحواريين الاثنيْ عشرَ من الملوك وبعضُهم من صيادي السمك
وبعضُهم من القصّارين وبعضُهم من الصبَّاغين والكلُّ سُمّوا
بالحَواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه الصلاة والسلام
وأعوانَه والمخلِصين في طاعته ومحبتِه
{نَحْنُ أَنْصَارُ الله} أي أنصار دينه ورسولِه
{آمنَّا بالله} استئنافٌ جارٍ مَجرى العلةِ لما قبله فإن
الإيمانَ بهِ تعالى موجبٌ لنُصرة دينِه والذبِّ عن أوليائه
والمحاربةِ مع أعدائه
{واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} مخلِصون في الإيمانِ منقادون لما
تريد منا من نصرتك طلبوا منه عليه الصلاة والسلام الشهادةَ
بذلك يومَ القيامة يوم يشهد الرسلُ عليهم الصلاة والسلام
لأُممهم وعليهم إيذاناً بأن مرمى غرضِهم السعادةُ الأخروية
(2/42)
رَبَّنَا آمَنَّا
بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ (53)
{ربنا آمنا بِمَا أَنزَلَتْ} تضرّعٌ إلى
الله عزَّ وجلَّ وعرْضٌ لحالهم عليه تعالى بعد عرضِها على
الرسول مبالغةً في إظهار أمرِهم
{واتبعنا الرسول} أي في كلِّ ما يأتي ويذر من أمور الدينِ
فيدخُل فيه الاتّباعُ في النُّصرة دخولاً أولياً
{فاكتبنا مَعَ الشاهدين} أي مع الذين يشهدون بوحدنيتك أو مع
الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم أو مع أمة محمَّدٍ عليه
الصَّلاة والسَّلام فإنهم شهداءُ على الناس قاطبةً وهو حالٌ من
مفعول اكتبنا
(2/42)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
{وَمَكَرُواْ} أي الذين علِمَ عيسى عليه
الصلاة والسلام كفرَهم من اليهود بأن وكلّوا به من يقتُله
غِيلةً
{وَمَكَرَ الله} بأن رفع عيسى عليه الصلاة والسلام وألقى
شَبَهَه على من قصد اغتيالَه حتى قُتل والمكرُ من حيث أنه في
الأصل حيلةٌ يُجلَب بها غيرُه إلى مَضرّة لا يمكن إسنادُه إليه
سبحانه إلا بطريق المشاكلة روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما
أنَّ ملِكَ بني إسرائيلَ لما قصد قتلِه عليهِ الصَّلاةُ
والسَّلامُ أمره جبريل عليه الصلاة والسلام إن يدخُلَ بيتاً
فيه روزنة فرفعه جبريل من تلك الروزنة إلى السماء فقال الملكُ
لرجل خبيثٍ منهم أدخُل عليه فاقتُله فدخل البيت فألقى الله عز
وجل شَبَهَه عليه فخرج يُخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه
وقيلَ إنَّه عليه الصَّلاةُ والسلام جمع الحواريين ليلةً
وأوصاهم ثم قال لَيَكفرَنّ بي أحدُكم قبل أن يَصيح الديكُ
ويَبيعَني بدراهِمَ يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهودُ تطلُبه
فنافق أحدُهم فقال لهم ما تجعلون لي إن دَلَلْتُكم على المسيح
فجعلوا
(2/42)
55 - آل عمران
له ثلاثين درهماً فأخذها ودلهم عليه فألقى الله عز وجل عليه
شبه عيسى عليه الصلاة والسلام ورفعه إلى السماء فأخذوا
المنافِقَ وهو يقول أنا دليلُكم فلم يلتفتوا إلى قوله وصَلَبوه
ثم قالوا وجهُه يُشبه وجهَ عيسى وبَدَنُه يشبه بدنَ صاحبِنا
فإن كان هذا عيسى فأين صاحبُنا وإن كان صاحِبَنا فأين عيسى
فوقع بينهم قتالٌ عظيم وقيل لما صُلب المصلوب جاءت مريمُ ومعها
امرأةٌ أبرأها الله تعالى من الجنون بدعاء عيسى عليه الصلاة
والسلام وجعلتا تبكِيان على المصلوب فأنزل الله تعالى عيسى
عليه الصلاة والسلام فجاءهما فقال علام تبكيان فقالتا عليك
فقال إنَّ الله تعالى رفعني ولم يُصِبني إلا خيرٌ وإن هذا شئ
شُبِّه لهم قال محمد بن إسحق إن اليهودَ عذبوا الحواريين بعد
رفع عيسى عليه الصلاة والسلام ولقُوا منهم الجَهْدَ فبلغ ذلك
ملكَ الرومِ وكان ملكُ اليهود من رعيته فقيل له إن رجلاً من
بني إسرائيلَ ممن تحت أمرِك كان يخبرهم أنه رسولُ الله وأراهم
إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وفعل وفعل فقال لو علِمْتُ
ذلك ما خلَّيْتُ بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من
أيديهم وسألهم عن عيسى عليه الصلاة والسلام فأخبروه فبايعهم
على دينهم وأنزل المصلوبَ فغيّبه وأخذ الخشبةَ فأكرمها ثم غزا
بني إسرائيلَ وقتل منهم خلقاً عظيماً ومنه ظهر أصلُ النصرانيةِ
في الروم ثم جاء بعده ملِكٌ آخر يقال له ططيوس وغزا بيتَ
المقدس بعد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام بنحوٍ من أربعين سنةً
فقتلَ وسبَى ولم يترُكْ في مدينة بيتِ المقدسِ حجراً على حجر
فخرج عند ذلك قريظةُ والنضيرُ إلى الحجاز قال أهلُ التواريخ
حملت مريم بعيسى عليه الصلاة والسلام وهي بنتُ ثلاثَ عشرةَ
سنةً وولدته ببيتَ لَحْمَ من أرض أورشليم لمُضيِّ خمسٍ وستين
سنةً من غلبة الإسكندرِ على أرض بابلَ وأوحى الله تعالى إليه
على رأس ثلاثينَ سنةً ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من
شهر رمضانَ وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين سنةً وعاشت أمُه بعد رفعِه
ستَّ سنين
{والله خَيْرُ الماكرين} أقواهم مكراً وأنفذُهم كيداً وأقدرُهم
على إيصال الضرر مِن حيثُ لاَ يحتسبُ وإظهارُ الجلالةِ في
موقعِ الإضمار لتربية المهابة والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ
ما قبله
(2/43)
إِذْ قَالَ اللَّهُ
يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ
اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
{إِذْ قَالَ الله} ظرفٌ لمكرَ الله أو
لمضمر نحو وقع ذلك
{يا عيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ} أي مستوفي أجلِك ومؤخرُك إلى أجلك
المسمَّى عاصِماً لك من قتلهم أو قابضُك من الأرض من توفيتُ
مالي أومتوفيك نائماً إذ رُوي أنه رُفع وهو نائم وقيل مميتُك
في وقتك بعد النزول من السماء ورافعُك الآن أو مميتُك من
الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت وقيل أماته الله
تعالى سبعَ ساعاتٍ ثم رفعه إلى السماء وإليه ذهبت النصارى قال
القرطبيُّ والصحيحُ أن الله تعالى رفعه من غير وفاةٍ ولا نومٍ
كما قال الحسنُ وابنُ زيد وهو اختيارُ الطبري وهو الصحيحُ عن
ابن عباس رضي الله عنهما وأصل القصة أن اليهودَ لما عزموا على
قتلِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ اجتمع الحواريون وهم اثنا
عشرَ رجلاً في غرفة فدخل عليهم المسيحُ من مِشكاة الغرفةِ
فأخبر بهم إبليسُ جميعَ اليهود فركِبَ
(2/43)
56 - آل عمران
منهم أربعةُ آلافِ رجلٍ فأخذوا باب الغرفة فقال المسيحُ
للحواريين أيُكم يخرجُ ويُقتل ويكونُ معي في الجنة فقال واحد
منهم أنا يا نبيَّ الله فألقى عليه مدرعة من صوفٍ وعِمامةٍ من
صوف وناوله عكّازَه وأُلقيَ عليه شبه عيسى عليه الصلاة والسلام
فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه وأما عيسى عليه الصلاة والسلام
فكساه الله الريشَ والنورَ وألبسه النورَ وقطع عنه شهوةَ
المطعمِ والمشرب وذلك قوله تعالى إِنّي مُتَوَفّيكَ فطار مع
الملائكة ثم إن أصحابه حين رأَوْا ذلك تفرَّقوا ثلاثَ فِرَقٍ
فقالت فِرقةٌ كان الله فينا ثم صعِدَ إلى السماء وهم
اليعقوبيةُ وقالت فرقة أخرى كان فينا ابنُ الله ما شاء الله ثم
رفعه الله إليه وهم النسطوريةُ وقالت فرقةٌ أخرى منهم كان فينا
عبدُ الله ورسولُه ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهؤلاء هم
المسلمون فتظاهرت عليهم الفرقتانِ الكافرتان فقتلوهم فلم يزل
الإسلامُ منطمساً إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه
وسلم
{وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} أي إلى محل كرامتي ومقرِّ ملائكتي
{وَمُطَهّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} أي من سوء جوارِهم وخبثِ
صُحبتِهم ودنَسِ معاشرتِهم
{وَجَاعِلُ الذين اتبعوك} قال قتادةُ والربيعُ والشعبيُّ
ومقاتِلٌ والكلبيُّ هم أهل الإسلام الذين صدّقوه واتبعوا دينَه
من أمة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم دون الذين كذّبوه وكذَبوا
عليه من النصارى
{فَوْقَ الذين كَفَرُواْ} وهم الذين مكروا به عليه الصلاة
والسلام ومن يسير بسيرتهم من اليهود فإن أهلَ الإسلام فوقهم
ظاهرين بالعزة والمَنَعة والحُجة وقيل هم الحواريون فينبغي أن
تُحمل فوقيتُهم على فوقية المسلمين بحكم الاتحادِ في الإسلام
والتوحيد وقيل هم الرومُ وقيل هم النصارى فالمرادُ بالاتباع
مجرَّدُ الادعاء والمحبة وإلا فأولئك الكفرةُ بمعزل من أتباعِه
عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ
{إلى يَوْمِ القيامة} غايةٌ للجعل أو للاستقرار المقدّرِ في
الظرف لا على مَعْنى أنَّ الجعلَ أو الفوقيةَ تنتهي حينئذ
ويتخلّص الكفرةُ من الذِلة بل على مَعْنى أنَّ المسلمين
يعلُونهم إلى تلك الغاية فأما بعدها فيفعل الله تعالى بهم ما
يريد
{ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي رجوعكم بالبعث وثم للتراخي
وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ للقصرِ المفيدِ لتأكيد الوعدِ
والوعيد والضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام وغيرِه من المتبعين
له والكافرين به على تغليبُ المخاطَب على الغائبِ في ضمن
الالتفاتِ فإنه أبلغُ في التبشير والإنذار
{فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يومئذ إثرَ رجوعِكم إليّ
{فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمور الذين وفيه
متعلقٌ بتختلفون وتقديمُه عليه لرعاية الفواصلِ
(2/44)
فَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
{فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ
عَذَاباً شَدِيداً} تفسيرٌ للحكم الواقعِ بين الفريقين وتفصيلٌ
لكيفيته والبدايةُ ببيانِ حالِ الكفرة لما أنَّ مساقَ الكلامِ
لتهديدهم وزجرِهم عمَّا هُم عليهِ من الكفر والعِناد وقولُه
تعالى
{فِى الدنيا والاخرة} متعلقٌ بأعذبهم لا بمعنى إيقاعِ كلِّ
واحدٍ من التعذيب في الدنيا والتعذيبِ في الآخرة وإحداثِهما
يومَ القيامة بل بمعنى إتمامِ مجموعِهما يومئذ وقيل إن
المرجِعَ أعمُّ من الدنيوي والأخروي وقولُه تعالى إلى يَوْمِ
القيامة غايةٌ للفوقية لا للجعلِ والرجوعُ متراخٍ عن الجعل وهو
غيرُ محدودٍ لا عن الفوقية المحدودةِ على نهج قولِك سأُعيرك
سكني هذا البيتَ شهراً ثم أخلَع عليك خلْعةً فيلزَمُ تأخرُ
الخُلع عن الإعارة لا عن الشهر
{وَمَا لَهُم مِن ناصرين} يُخلِّصونهم من عذابِ الله تعالى في
الدارين وصيغةُ الجمعِ لمقابلة ضميرِ الجمعِ أي
(2/44)
57 - 58 59 60 آل عمران
ليس لواحدٍ منهم ناصرٌ واحد
(2/45)
وَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
{وأما الذين آمنوا} بما أُرسِلْتُ به
{وَعَمِلُواْ الصالحات} كما هو ديدَنُ المؤمنين
{فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي يعطيهم إياها كاملة
ولعلالألتفات إلى الغَيبة للإيذان بما بين مصدري التعذيبِ
والإثابةِ من الاختلاف من حيث الجلال والجمال وقرئ فنو فيهم
جرياً على سَنن العظمةِ والكبرياء
{والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} أي يبغضهم فإن هذه الكنايةَ
فاشيةٌ في جميع اللغاتِ جاريةٌ مجرى الحقيقة وإيراد الضلم
للإشعار بأنهم بكفرهم متعدّون متجاوزون على الحدود واضعون
للكفر مكانَ الشكرِ والإيمانِ والجملةُ تذييلٌ لما قبله
مقرِّرٌ لمضمونه
(2/45)
ذَلِكَ نَتْلُوهُ
عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
{ذلك} إشارة إلى ما سلف من نبأ عيسى عليهِ
الصَّلاةُ والسَّلامُ وما فيه من معنى البعد للدلالة على عظم
شأنِ المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الشرف وعلى كونه في
ظهور الأمرِ ونباهةِ الشأن بمنزلة المشاهَد المعايَن وهو
مبتدأٌ وقولُه عز وجل
{نَتْلُوهُ} خبرُه وقولُه تعالى
{عَلَيْكَ} متعلقٌ بنتلوه وقولُه تعالى
{مِنَ الايات} حالٌ من الضمير المنصوبِ أو خبر بعد خبر أو هو
الخبرُ وما بينهما حالٌ من اسمِ الإشارة أو ذلك خبرٌ لمبتدإ
مضمرٍ أي الأمرُ ذلك ونتلوه حالٌ كما مر وصيغة الاستقبال إما
لا ستحضار الصورةِ أو على معناها إذ التلاوةُ لم تتِمَّ بعدُ
{والذكر الحكيم} أي المشتملِ على الحِكَم أو المُحكمِ الممنوعِ
من تطرُّق الخللِ إليه والمرادُ به القرآنُ فمن تبعيضيةٌ أو
بعضٌ مخصوصٌ منه فمن بيانيةٌ وقيل هو اللوحُ المحفوظُ فمن
ابتدائية
(2/45)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى
عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ
قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
{إِنَّ مَثَلَ عيسى} أي شأنَه البديعَ
المنتظِمَ لغرابته في سلك الأمثال
{عَندَ الله} أي في تقديره وحكمه
{كمثل آدم} أي كحاله العجيبةِ التي لا يرتاب فيها مرتابٌ ولا
ينازِعُ فيها منازِع
{خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} تفسيرٌ لما أُبهم في المَثَل وتفصيلٌ
لما أُجمِلَ فيه وتوضيحٌ للتمثيل ببيان وجهِ الشبهِ بينهما
وحسمٌ لمادة شبه الخصومِ فإن إنكارَ خلقِ عيسى عليه الصلاة
والسلام بلا أب من أعترف بخلق آدم عليه الصلاة والسلام بغير
أبٍ وأمٍ مما لا يكاد يصح والمعنى خلق قالَبَه مِن تُرَابٍ
{ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن} أي أنشأه بَشَراً كما في قوله تعالى
ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقَاً آخَر أو قدّر تكوينَه من التراب
ثم كوّنه ويجوز كون ثم لتراخي الإخبار لا لتراخي المُخبَرِ به
{فَيَكُونُ} حكايةُ حالٍ ماضية روي إن وفد نجران قالوا لرسول
الله صلى الله عليه وسلم مالك تشتمُ صاحبَنا قال وما أقول
قالوا تقول إنه عبدٌ قال أجل هو عبدُ الله ورسولُه وكلمتُه
ألقاها إلى العذراء البتولِ فغضِبوا وقالوا هل رأيتَ إنساناً
من غير أبٍ فحيثُ سلَّمتَ أنه لا أبَ له من البشر وجب أن يكون
أبوه هو الله فقالَ عليه الصَّلاةُ والسلام إن آدم عليه الصلاة
والسلام ما كان له أبٌ ولا أم ولم يلزم من ذلك كونُه ابناً لله
سبحانه وتعالى فكذا حال عيسى عليه الصلاة والسلام
(2/45)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
{الْحَقُّ مِن رَّبّكَ} خبرُ مبتدأ محذوف
أي هو الحقُّ أي ما قصصنا عليك من نبإ عيسى من عليه الصلاة
والسلام
(2/45)
61 - آل عمران
وأمِّه والظرفُ إما حالٌ أي كائناً من ربك أو خبرٌ ثانٍ أي
كائنٌ منه تعالى وقيل هما مبتدأٌ وخبرٌ أي الحقُّ المذكورُ من
الله تعالَى والتعّرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير
المخاطب لتشريفه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والإيذانِ بأن
تنزيلَ هذه الآياتِ الحقةِ الناطقةِ بكنه الأمر تربية له عليه
الصلاة والسلام ولُطفٌ به
{فَلاَ تَكُنْ مّن الممترين} في ذلك والخطاب إما للنبي صلى
الله عليه وسلم على طريقة الإلهابِ والتهييجِ لزيادة التثبيتِ
والإشعارِ بأن الامتراءَ في المحذورية بحيث ينبغي أن يُنهى عنه
من لا يكاد يمكن صدورُه عنه فكيفَ بمن هو بصدد الامتراء وإما
لكل من له صلاحيةُ الخطاب
(2/46)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا
نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا
وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
{فَمَنْ حَاجَّكَ} أي من النصارى إذ هم
المتصدون للمُحاجّة
{فِيهِ} أي في شأن عِيْسى عليه السَّلامُ وأمِّه زعماً منهم
أنه ليس على الشأن المحكي
{مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} أي ما يُوجِبُه إيجاباً
قطعياً من الآيات البينات وسعوا ذلك منك فلم يرعودا عمَّا هُم
عليهِ من الغي والضلال
{فَقُلْ} لهم
{تَعَالَوْاْ} أي هلُمّوا بالرأي والعزيمة
{نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ} اكتُفيَ بهم عن ذكر
البناتِ لظهور كونِهم أعزَّ منهن وأما النساءُ فتعلُّقُهن من
جهة أخرى
{وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} أي
ليدعُ كلٌّ منا ومنكم نفسَه وأعِزَّةَ أهلِه وألصقَهم بقلبه
إلى المباهَلة ويحمِلْهم عليها وتقديمُهم على النفس في أثناء
المباهلةِ التي هي من باب المهالكِ ومضان التلفِ مع أن الرجلَ
يخاطرُ لهم بنفسه ويحارب دونهم للإيذان بكمال أمنِه عليه
الصلاة والسلام وتمامِ ثقتِه بأمره وقوةِ يقينِه بأنه لن
يُصيبَهم في ذلك شائبةُ مكروهٍ أصلاً وهو السرُّ في تقديم
جانبِه عليه السلام على جانب المخاطَبين في كل من المقدم
والمؤخر مع رعاية الأصلِ في الصيغة فإن غيرَ المتكلم تبع
{ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي نتباهلْ بأن نلعنَ الكاذبَ منا
والبُهلةُ بالضم والفتح اللعنةُ وأصلها الترك له في الإسناد من
قولهم بَهَلْتُ الناقةَ أي تركتها بلاصرار
{فنجعل لعنة الله عَلَى الكاذبين} عطفٌ على نبتهل مبينٌ لمعناه
روي أنهم لما دُعوا إلى المباهلة قالوا حتى نرجع وننظر فلما
تخالوا قالوا اللعاقب وكان ذار إيهم يا عبدَ المسيح ما ترى
فقال والله لقد عرفتم يا معشرَ النصارى أن محمداً نبيٌّ مرسل
ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبِكم والله ما باهل قومٌ نبياً قط
فعاش كبيرُهم ولا نبت صغيرُهم ولئن فعلتم لتهلِكُنّ فإن أبيتم
إلا إلفَ دينِكم والإقامةِ على ما أنتُم عليهِ فوادِعوا الرجلَ
وانصرِفوا إلى بلادكم فأتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد
غدا محتضِناً الحسينَ آخذاً بيد الحسنِ وفاطمةُ تمشي خلفَه
وعليٌّ خلفها رضي الله عنهم أجمعين وهو يقول إذا أنا دعوتُ
فأمِّنوا فقال أسقفُ نجرانَ يا معشرَ النصارى إني لأرى وجوهاً
لو سألوا الله تعالى أن يُزيل جبلاً من مكانه لأزاله فلا
تُباهلوا فتهلكوا ولا يقي على وجه الأرضِ نصرانيٌّ إلى يوم
القيامة فقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهِلَك وأن
نُقِرَّك على دينك ونثبُتَ على ديننا قال صلى الله عليه وسلم
فإذا أبيتم المباهلةَ فأسلِموا يكنْ لكم ما للمسلمين وعليكم ما
على المسلمين فأبوا قال عليه الصلاة والسلام فإني أناجِزُكم
فقالوا ما لنا بحربِ العربِ طاقةٌ ولكن نصالحك على أن لا
تغزونا ولا تُخيفَنا ولا ترُدَّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك
كلَّ عام ألفي حلة
(2/46)
62 - 63 64 آل عمران
ألفاً في صَفَر وألفاً في رجبٍ وثلاثين درعاً عادية من حديد
فصالحهم على ذلك وقال والذي نفسي بيدِه إنَّ الهلاكَ قد تدلَّى
على أهل نجران ولولا عنوا لمسخوا قردة وخنازير ولا ضطرم عليهم
الوادي نارا ولا ستأصل الله نجرانَ وأهلَه حتى الطير على رءوس
الشجر ولما حال الحولُ على النصارى كلِّهم حتى يهلكوا
(2/47)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ
الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ
اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)
{إِنَّ هَذَا} أي ما قُصّ من نبأ عيسى
وأمِّه عليهما السلام
{لَهُوَ القصص الحق} دون ما عداه من أكاذيبِ النصارى فهو ضميرُ
الفصلِ دخلتْه اللامُ لكونه أقربَ إلى المبتدإ من الخبر وأصلها
أن تدخُلَ المبتدأَ وقرىء لهْوَ بسكون الهاء والقصصُ خبرُ إن
والحقُّ صفتُه أو هو مبتدأٌ والقصصُ خبرُه والجملةُ خبرٌ لإن
{وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} صرّح فيه بمن الأستغراقية تأكيد
للرد على النصارى في تثليثهم
{وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز} القادرُ على جميع المقدوراتِ
{الحكيم} المحيطُ بالمعلومات لا أحدَ يشاركُه في القدرة
والحِكمة ليشاركَه في الألوهية
(2/47)
فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} عن التوحيد وقبول الحق
الذي قص عليك بعد ما عاينوا تلك الحجج المنيرة والبراهينَ
الساطعة
{فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين} أي بهم وإنما وُضِعَ موضعَه
ما وُضِع للإيذان بأن الإعراضَ عن التوحيد والحقِّ الذي لا
محيدَ عنه بعدما قامت به الحججُ إفسادٌ للعالم وفيه من شدة
الوعيد ما لا يخفى
(2/47)
قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ
بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
{قل يا أَهْلِ الكتاب} أمرٌ بخطاب أهلِ
الكتابين وقيل بخطاب وفدِ نجْرانَ وقيل بخطاب يهودِ المدينةِ
{تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} لا
يختلف فيها الرسلُ والكتب وهي
{ألا نَعْبُدَ إِلاَّ الله} أي نوحِّدُه بالعبادة ونُخلِصُ
فيها
{وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} ولا نجعلَ غيرَه شريكاً له في
استحقاق العبادةِ ولا نراه أهلاً لأن يُعبد
{وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دُونِ الله}
بأن نقولَ عزيرٌ ابنُ الله والمسيحُ ابن الله ولا نُطيعَ
الأحبارَ فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلاً منهم
بعضُنا بشرٌ مثلُنا رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ {اتَّخذوا أحبارَهم
ورهبانَهم أَرْبَاباً مِن دُونِ الله} قَالَ عديُّ بنُ حاتم ما
كنا نعبُدهم يا رسولَ الله فقالَ عليه السلام أليس كانوا
يُحِلّون لكم ويحرِّمون فتأخذون بقولهم قال نعم قال عليه
السلام هو ذاك
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} عما دعوتوهم إليه من التوحيد وتركِ
الإشراك
{فَقُولُواْ} أي قل لهم أنت والمؤمنون
{اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي لزِمْتكم الحُجةُ فاعترِفوا
بأنا مسلمون دونكم أو اعترِفوا بأنكم كافرون بما نطَقَتْ به
الكتُب وتطابقت عليه الرسلُ عليهم السلام تنبيه انظُر إلى ما
روعيَ في هذه القصة من المبالغة في الإرشاد وحسنِ التدرُّجِ في
المُحاجَّة حيث بيّن أولاً أحوالَ عيسى عليه السلام وما توارد
عليه من الأطوار المنافيةِ للإلهية ثم ذُكر كيفيةُ دعوتِه
للناس إلى التوحيد والإسلام فلما ظهر عنادهم دُعُوْا إلى
المباهلة بنوع من الإعجاز ثم لما أعرَضوا عنها وانقادوا بعضَ
الانقياد دُعوا إلى ما اتفق
(2/47)
65 - 66 67 68 69 آل عمران
عليه عيسى عليه السلام والإنجيلُ وسائرُ الأنبياء عليهم السلام
والكتُب ثم لما ظهر عدمُ إجدائِه أيضاً أُمِرَ بأن يقال لهم
اشهدوا بأنا مسلمون
(2/48)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ
التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ (65)
{ياْ أَهْلِ الكتاب} من اليَّهودِ والنصارى
{لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إبراهيم} أي في مِلّته وشريعتِه تنازعت
اليهودُ والنصارى في إبراهيمَ عليه السلام وزعم كلٌّ منهم أنه
عليه السلام منهم وترافَعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فنزلت والمعنى لم تدعون أنه عليه السلام كان منكم
{وَمَا أُنزِلَتِ التوراة} على موسى عليه الصلاة والسلام
{والإنجيل} على عيسى عليه الصلاة والسلام
{إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} حيث كان بينه وبين موسى عليهما السلام
ألفُ سنةٍ وبين مُوسى وعيسى عليهما السَّلامُ ألفا سنةٍ فكيف
يمكن أن يتفوَّهَ به عاقلٌ
{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي ألا تتفكرون فلا تعقِلون بطلانَ
مذهبِكم أو أتقولون ذلك فلا تعقلون بطلانه
(2/48)
هَا أَنْتُمْ
هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ
تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
{ها أنتم هؤلاء} جملةٌ من مبتدإٍ وخبر صدرت
بحرف التنبيه ثم بُيِّنت بجملة مستأنفة إشعاراً بكمال غفلتِهم
أي أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى حيث
{حاججتم فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} في الجملة حيث وجدتموه في
التوراة والإنجيل
{فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أصل إذ
لاذكر لدين إبراهيمَ في أحد الكتابين قطعاً وقيل هؤلاء بمعنى
الذي وحاججتم صلته وقيل هأنتم اصله أأنتم على على الاستفهام
للتعجب قلبت الهمزةُ هاءً
{والله يَعْلَمُ} ما حاججتم فيه أو كلَّ شيءٍ فيدخُل فيه ذلك
دخولاً أولياً
{وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أي محلَّ النزاعِ أو شيئاً من
الأشياء التي من جملتها ذلك
(2/48)
مَا كَانَ
إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ
حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
{مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ
نَصْرَانِيّا} تصريحٌ بما نطَق به البرهانُ المقرِّر
{وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا} أي مائلاً عن العقائد الزائغةِ
كلِّها
{مُسْلِمًا} أي منقاداً لله تعالى وليس المرادُ أنه كان على
مِلَّة الإسلامِ وإلا لاشترك الإلزامُ
{وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} تعريضٌ بأنهم مشركون بقولهم عزيرٌ
ابنُ الله والمسيحُ ابنُ الله وردٌّ لادعاء المشركين أنَّهم
على ملَّةِ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام
(2/48)
إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا
النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ (68)
{إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم} أي أقربَهم
إليه وأخصَّهم به
{لَلَّذِينَ اتبعوه} أي في زمانه
{وهذا النبى والذين آمنوا} لموافقتهم له في أكثرِ ما شُرع لهم
على الأصالة وقرئ والنبي بالنصبِ عطفاً على الضميرِ في اتبعوه
وبالجر عطفاً على إبراهيمَ
{والله وَلِىُّ المؤمنين} ينصُرهم ويجازيهم الحسنى بإيمانهم
وتخصيصُ المؤمنين بالذكر ليثبُتَ الحكمُ في النبيِّ صلَّى الله
عليهِ وسلم بدَلالة النصِّ
(2/48)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
{وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب
لَوْ يُضِلُّونَكُمْ}
(2/48)
نزلت في اليهود حين دعوا حذيفة وعمارا
ومعادا إلى اليهودية ولو بمعنى أن
{وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} جملةٌ حاليةٌ جيء بها
للدلالة على كمال رسوخِ المخاطبين وثباتِهم على ما هم عليه من
الدينِ القويمِ أي وما يتخطاهم الإضلالُ ولا يعود وبالُه إلا
إليهم لما أنه يُضاعفُ به عذابُهم وقيل وما يُضِلّون إلا
أمثالَهم ويأباه قوله تعالى
{وَمَا يَشْعُرُونَ} أي باختصاص وبالِه وضررِه بهم
(2/49)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ
(70)
{يا أهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بأيات
الله} أي بما نَطَقتْ به التوراةُ والإنجيلُ ودلت على نبوة
محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم
{وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} أي والحالُ أنكم تشهدون أنها آياتُ
الله أو بالقرآن وأنتم تشهدون نعتَه في الكتابين أو تعلمون
بالمعجزات أنه حق
(2/49)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
{يا أهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق
بالباطل} بتحريفكم وإبرازِ الباطِلِ في صورته أو بالتقصير في
التمييز بينهما وقرئ تلبسون بالتشديد وتلبسون نفتح الباء أي
تلبَسون الحقَّ مع الباطل كما في قولِه عليه السلام كَلاَبِسِ
ثَوْبَيْ زُورٍ
{وَتَكْتُمُونَ الحق} أي نبوة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم
ونعتَه
{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي حقِّيتَه
(2/49)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
{وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب}
وهُم رؤساؤهم ومفسدون لأعقابهم
{آمنوا بالذي أنزِل على الَّذِينَ آمنُوا} أي أظهِروا الإيمانَ
بالقرآن المنْزلِ عليهم
{وَجْهَ النهار} أي أولَه
{واكفروا} أي أظهِروا ما أنتم عليه من الكفر به
{آخره} مُرائين لهم أنكم آمنتم به بادئ الرأي من غير تأملٍ ثم
تأملتم فيه فوقَفتم على خلل رأيِكم الأولِ فرجعتم عنه
{لَعَلَّهُمْ} أي المؤمنين
{يَرْجِعُونَ} عمَّا هُم عليهِ من الإيمان به كما رجعتم
والمرادُ بالطائفة كعب بن الأشرف ومالك بنُ الصيفِ قالا
لأصحابهما لما حُوِّلت القِبلة آمِنوا بما أنزل عليهم من
الصلاة إلى الكعبة وصلّوا إليها أولَ النهار ثم صلوا إلى
الصخرة آخِرَه لعلهم يقولون هم أعلمُ منا وقد رجَعوا فيرجِعون
وقيلَ هُم اثنا عشرَ رجلاً من أحبار خيبَر تقاولوا بأن يدخُلوا
في الإسلام أولَ النهار ويقولوا آخرَه نظرنا في كتابنا
وشاوَرْنا علماءَنا فلم نجِدْ محمداً بالنعت الذي ورد في
التوراة لعل أصحابه يشكّون فيه
(2/49)
وَلَا تُؤْمِنُوا
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى
اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ
يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
(73)
{وَلاَ تُؤْمِنُواْ} أي لا تُقِرّوا
بتصديقٍ قلبيَ
{إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} أي لأهل دينكم أولا تُظهِروا
إيمانَكم وجهَ النهار إلا لمن كان على دينكم من قبلُ فإن
رجوعَهم أرجى وأهمُّ
{قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} يَهْدِى بِهِ مَن يشاءُ إلى
الإيمان ويُثبِّته عليه
{أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ أي
(2/49)
74 - 75 آل عمران
دبّرتم ذلك وقلتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو بلا تؤمنوا أي
ولا تظهِروا إيمانَكم بأن يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا
لأشياعكم ولا تُفْشوه إلى المسلمين لئلا يزيدَ ثباتُهم ولا إلى
المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام وقولُه تعالى قُلْ إِنَّ
الهدى هُدَى الله اعتراضٌ مفيدٌ لكون كيدِهم غيرَ مُجدٍ لطائل
أو خبرُ إنَّ على إن هُدى الله بدل من الهدى وقرئ أأن يؤتى على
الاستفهام التقريعي وهو مؤيدٌ للوجه الأولِ أي ألأن يُؤتى أحدٌ
الخ دبرتم وقرئ أن على أنها نافيةٌ فيكونُ من كلام الطائفةِ أي
ولا تؤمنوا إلا لمن تبِعَ دينَكم وقولوا لهم ما يؤتى أحدٌ مثل
ما أوتيتم
{أو يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ} عطفٌ على أَن يؤتى على
الوجهين الأولين وعلى الثالث معناه حتى يحاجوكم عند ربِّكم
فيدحَضوا حُجتَكم والواوُ ضميرُ أَحَدٌ لأنَّه في معنى الجمعِ
إذ المرادُ به غيرُ أتباعِهم
{قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء والله
واسع عَلِيمٌ} ردٌّ لهم وإبطالٌ لما زعموه بالحجة الباهرةِ
(2/50)
يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
(74)
{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} أي يجعل رحمتَه
مقصورةً على
{مَن يَشَاء والله ذُو الفضل العظيم} كلاهما تذييلٌ لما قبله
مقرِّرٌ لمضمونه
(2/50)
وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ
إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي
الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
{وَمِنْ أَهْلِ الكتاب} شروعٌ في بيان
خيانتِهم في المال بعد بيانِ خيانتِهم في الدين والجارُّ
والمجرورُ في محلِ الرفعِ على الابتداء حسبما مرَّ تحقيقُه في
تفسيرِ قولِه تعالى {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ} الخ خبرُه قوله
تعالى
{مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ} على أن
المقصودَ بيانُ اتّصافِهم بمضمون الجملةِ الشرطية لا كونُهم
ذواتِ المذكورين كأنه قيل بعضُ أهلِ الكتاب بحيث إن تأمنْه
بقنطار أي بمالٍ كثيرٍ يؤدِّه إليك كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَم
استودَعه قرشيٌّ ألفاً ومِائتيْ أو قية ذهبا فأداه إليه
{وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ
إِلَيْكَ} كفِنحاصَ بنِ عازوراءَ استودعه قرشيٌّ آخرُ ديناراً
فجحَده وقيل المأمونون على الكثير النصارى إذ الغالبُ فيهم
الأمانةُ والخائنون في القليل اليهودُ إذ الغالبُ فيهم الخيانة
{إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} استثناءٌ مفرغ من أعم
الأحوال أو الأوقات أي لا يؤده إليك في حالٍ من الأحوالِ أو في
وقتٍ من الأوقات إلا في حال دوام قيامِك أو في وقت دوامِ
قيامِك على رأسه مبالِغاً في مطالبته بالتقاضي وإقامةِ البينة
{ذلك} إشارةٌ إلى ترك الأداءِ المدلولِ عليه بقوله تعالى لاَّ
يُؤَدِّهِ وما فيه من معنى البعد للإيذان بكمال غُلوِّهم في
الشر والفساد
{بِأَنَّهُمْ} أي بسببِ أنَّهم
{قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأميين} أيْ في شأنِ مَنْ ليس
من أهل الكتاب
{سَبِيلٍ} أي عتابٌ ومؤاخذة
{وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب} بادعائهم ذلك
{وهم يعلمون} أنهم كاذبون مفترون على الله تعالى وذلك لأنه
أستحلوا أظلم من خالفهم وقالوا لم يُجعل في التوراة في حقهم
حُرمةٌ وقيل عامل اليهودُ رجالاً من قريشٍ فلما أسلموا
تقاضَوْهم فقالوا سقط حقُّكم حيث تركتم دينَكم وزعَموا أنه
كذلك في كتابهم وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه قال عند
نزولِها كذب أعداء الله
(2/50)
76 - 77 78 آل عمران
ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانةَ فإنها
مؤاده إلى البَرِّ والفاجر
(2/51)
بَلَى مَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
(76)
{بلى} إثباتٌ لما نفَوْه أي بلى عليهم فيهم
سبيلٌ وقولُه تعالى
{مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ واتقى فَإِنَّ الله يُحِبُّ المتقين}
استئنافٌ مقرِّر للجملة التي سد بلى مسدَّها والضميرُ المجرور
لمن أو لله تعالى وعمومِ المتقين نائبٌ منابَ الراجعِ من
الجزاء إلى مَنْ ومُشعِرٌ بأن التقوى مَلاكُ الأمرِ عامٌّ
للوفاء وغيرِه من أداء الواجباتِ والاجتنابِ عن المناهي
(2/51)
إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا
قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا
يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(77)
{إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ} أي يستبدلون
ويأخُذون
{بِعَهْدِ الله} أي بدلَ ما عاهدوا عليه من الإيمان بالرسول
صلى الله عليه وسلم والوفاءِ بالأمانات
{وأيمانهم} وبما حلفوا به من قولهم والله لنُؤمِنن به
ولننصُرَنّه
{ثَمَناً قَلِيلاً} هو حُطامُ الدنيا
{أولئك} الموصوفون بتلك الصفاتِ القبيحةِ
{لاَ خلاق} لا نصيبَ
{لَهُمْ فِى الآخرة} من نعيمها
{وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله} أي بما يسُرّهم أو بشيء أصلاً وإنما
يقع ما يقع من السؤال والتوبيخِ والتقريعِ في أثناء الحساب من
الملائكةِ عليهمِ السَّلامُ أولا ينتفعون بكلماتِ الله تعالى
وآياتِه والظاهرُ أنه كنايةٌ عن شدة غضبِه وسَخَطِه نعوذ بالله
من ذلك لقوله تعالى
{وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة} فإنه مَجازٌ عن
الاستهانة بهم والسخطِ عليهم متفرِّعٌ على الكناية في حق من
يجوزُ عليه النظرُ لأن مَن اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره
نظر عينيه ثم كثُر حتى صار عبارةً عن الاعتداد والإحسانِ وإن
لم يكن ثَمَّةَ نظَرٌ ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظرُ مجرد
المعنى الإحسان مَجازاً عما وقع كنايةً عنه فيمن يجوزُ عليه
النظر ويومَ القيامة متعلقٌ بالفعلين وفيه تهويل للوعيد
{وَلاَ يُزَكّيهِمْ} أي لا يُثني عليهم أو لا يُطَهِّرهم من
أوضار الأوزار
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} على ما فعلوه من المعاصي قيل
إنَّها نزلتْ في أبي رافعٍ ولُبابةَ بنِ أبي الحقيق وحُيَيِّ
بنِ أخطَبَ حرّفوا التوراة وبدلوا نعتَ رسولِ الله صلى الله
عليه وسلم وأخذوا الرِّشوةَ على ذلك وقيل نزلت في الأشعث بنِ
قيسٍ حيث كان بينه وبين رجل نزاعٌ في بئر فاختصما إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال له شاهداك أو يمينُه فقال الأشعث
إذن يحلف ولا يبالي فقال صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين
يستحق بها ما لا هو فيها فاجرٌ لقِيَ الله وهو عليه غضبان وقيل
في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يكن
اشتراها به
(2/51)
وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ
لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ (78)
{وَإِنَّ مِنْهُمْ} أي من اليهود
المحرِّفين
{لَفَرِيقًا} ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأضرابِهما
{يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب} أي يفنلونها بقراءته
فيُميلونها عن المُنزّل إلى المحرّف أو يعطِفونها بشبه الكتاب
وقرئ يُلوّون بالتشديد ويلُون بقلب الواو المضمومة همزةً ثم
تخفيفِها بحذفها وإلقاء حركتها على ما قبلها
(2/51)
79 - آل عمران
من الساكن
{لِتَحْسَبُوهُ} أي المحرِّفَ المدلولَ عليه بقوله تعالى يلوون
الخ وقرئ بالياء والضميرُ للمسلمين
{مّنَ الكتاب} أي من جملته وقولُه تعالى
{وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب} حالٌ من الضمير المنصوبِ أي والحالُ
أنه ليس منه في نفس الأمرِ وفي اعتقادهم أيضاً
{وَيَقُولُونَ} مع ما ذكر من اللَّيِّ والتحريف على طريقة
التصريحِ لا بالتورية والتعريض
{هُوَ} أي المحرفُ
{مِنْ عِندِ الله} أي منزلٌ من عند الله
{وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} حالٌ من ضمير المبتدأ في الخبر
أي والحالُ أنه ليس من عنده تعالى في اعتقادهم أيضاً وفيهِ من
المبالغةِ في تشنيعهم وتقبيحِ أمرهم وكمال جراءتهم ما لا يخفى
وإظهارُ الاسمِ الجليلِ والكتاب في محل الإضمارِ لتهويل ما
أقدَموا عليه من القول
{وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وهم يعلمون} أنهم كاذبون
ومفترون على الله تعالَى وهو تأكيدٌ وتسجيلٌ عليهم بالكذبِ على
الله والتعمُّد فيه وعن ابن عباس رضي الله عنُهمَا هُم اليهودُ
الذين قدِموا على كعب بنِ الأشرف وغيَّروا التوراةَ وكتبوا
كتاباً بدَّلوا فيه صِفةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم
أخذت قريظةُ ما كتبوا فخلطوه بالكتاب الذي عندهم
(2/52)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا
كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ
تَدْرُسُونَ (79)
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ} بيانٌ لافترائهم على
الأنبياءِ عليهم السلامُ حيث قال نصارى نجرانَ إنَّ عيسَى
عليهِ السَّلامُ أمرنا أن نتخِذَه رباً حاشاه عليه السلام
وإبطالٌ له إثرَ بيانِ افترائِهم على الله سبحانه وإبطالِه أي
ما صح وما استقام لأحد وإنما قيل لِبَشَرٍ إشعاراً بعلة الحُكم
فإن البشريةَ منافية للأمر الذي أسنده الكفرَةُ إليهم
{أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب} الناطقَ بالحق الآمرَ بالتوحيد
الناهيَ عن الإشراك
{والحكم} الفهمُ والعلم أو الحكمةُ وهي السنة والنبوة
{ثُمَّ يَقُولَ} ذلك البشرُ بعدما شرفه الله عز وجل بما ذُكر
من التشريفات وعرّفه الحقَّ وأطلعه على شئونه العالية
{لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى} الجارُّ متعلقٌ بمحذوفٍ هو
صفةٌ عبادا أي عباداً كائنين
{مِن دُونِ الله} متعلقٌ بلفظ عباداً لما فيه من معنى الفعل أو
صفةٌ ثانيةٌ له ويحتمِلُ الحاليةَ لتخصيص النكرةِ بالوصف أي
متجاوزينَ الله تعالى سواءٌ كان ذلك استقلالاً أو اشتراكاً فإن
التجاوزَ متحققٌ فيهما حتماً قيل إن أبا رافعٍ القُرَظيّ
والسيدَ النجرانيَّ قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتريد
أن نعبُدَك ونتخِذَك رباً فقال عليه السلام معاذَ الله أن
يُعبَدَ غيرُ الله تعالى وأن نأمرَ بعبادة غيرِه تعالى فما
بذلك بعثني ولا بذلك أمرَني فنزلت وقيل قال رجلٌ من المسلمين
يا رسول الله نسلِّم عليك كما يُسلّم بعضُنا على بعض أفلا
نسجُد لك قال عليه السلام لا ينبغي أن يُسجَدَ لأحد من دونِ
الله تعالَى ولكن أكرِموا نبيَّكم واعرِفوا الحقَّ لأهله
{ولكن كُونُواْ} أي ولكن يقولُ كونوا
{ربانيين} الربانيُّ منسوبٌ إلى الرب بزيادة الألف والنون
كاللحياني والرقباني وهو الكاملُ في العلم والعمل الشديدُ
التمسكِ بطاعة الله عز وجل ودينِه
{بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنتُمْ
تَدْرُسُونَ} أي بسبب مُثابرتِكم على تعليم الكتابِ ودراستِه
أي قراءتِه فإن جعْلَ خبرِ كان مضارعاً لإفادة الاستمرارِ
التجددي وتكريرُ بما كنتم للإيذان باستقلال كلَ من استمرار
التعليم واستمرار
(2/52)
80 - 81 آل عمران
القراءةِ بالفضل وتحصيلِ الربانية وتقديمُ التعليم على الدراسة
لزيادة شرفِه عليها أو لأن الخطابَ الأولَ لرؤسائهم والثاني
لمن دونهم وقرئ تَعْلمون بمعنى عالمين وتُدَرِّسون من التدريس
وتُدْرِسون من الإدراس بمعنى التدريس كأكرم بمعنى كرُم ويجوز
أن تكون القراءةُ المشهورةُ أيضاً بهذا المعنى على تقدير بما
تدْرُسونه على الناس
(2/53)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ
أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا
أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
(80)
{وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ
الملائكة والنبيين أَرْبَابًا} بالنصب عطفاً على ثم يقولَ ولا
مزيدةٌ لتأكيد معنى النَّفيِ في قوله تعالى {مَا كَانَ
لِبَشَرٍ} أي ما كان لبشر أن يستنبِئَه الله تعالى ثم يأمرَ
الناس بعبادة نفسِه ويأمرَ باتخاذ الملائكةِ والنبيين أرباباً
وتوسيطُ الاستدراك بين المعطوفَين للمسارعة إلى تحقيق الحقِّ
ببيان ما يليق بشأنه ويحِقُّ صدورُه عنه إثرَ تنزيهِه عمَّا لا
يليقُ بشأنه ويمتنِعُ صدورُه عنه وأما ماقيل من أنها غيرُ
مزيدةٍ على معنى أنه ليس له أن يأمُرَ بعبادته ولا يأمرَ
باتخاذِ أكفائِه أرباباً بل ينهى عنه وهو أدنى من العبادة
فيقضي بفساده ما ذُكِر من توسيط الاستدراكِ بين الجملتين
المتعاطفتين ضرورةَ أنهما حينئذ في حكم جملةٍ واحدة وكذا قوله
تعالى
{أَيَأْمُرُكُم بالكفر} فإنه صريحٌ في أن المرادَ بيانُ
انتفاءِ كِلا الأمرَين قصداً لا بيانُ انتفاءِ الأولِ لانتفاءِ
الثاني ويعضُده قراءةُ الرفعِ على الاستئناف وتجويزُ الحالية
بتقدير المبتدإ أي وهو لا يأمرَكم إلى آخره بيِّنُ الفساد لما
عرَفته آنفاً وقولُه تعالى
{بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} يدل على أن الخطابَ
للمسلمين وهم المستأذنون للسجود له عليه السلام
(2/53)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا
قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
{وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين} منصوبٌ
بمضمرٍ خُوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أي اذكر وقت أخذه
تعالى ميثاقهم
{لما آتيتكم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ
مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنصُرُنَّهُ} قيل هو على ظاهره وإذا كان هذا حكمَ
الأنبياءِ عليهم السلام كان الأممُ بذلك أولى وأحرى وقيل معناه
أخذُ الميثاقِ من النبيين وأممِهم واستُغنيَ بذكرهم عن ذكرهم
وقيل إضافةُ الميثاقِ إلى النبيين إضافةٌ إلى الفاعل والمعنى
وإذْ أخذ الله الميثاقَ الذي وثّقه الأنبياءُ على أممهم وقيل
المرادُ أولادُ النبيين على حذف المضاف وهم بنو إسرئيل أو
سماهم نبيين تهكّماً بهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة
من محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم لأنا أهلُ الكتاب والنبيون
كانوا منا واللام في لَّمّاً موطئةٌ للقسم لأن أخذ الميثاق
بمعنى الاستحلاف وما تحتملُ الشرطيةَ ولتُؤمِنُنّ سادٌّ مسدَّ
جوابِ القسم والشرط وتحتمل الخبرية وقرئ لَّمّاً بالكسر عَلى
أنَّ مَا مصدريةٌ أي لأجل إيتائي إياكم بعضَ الكتاب ثم لمجئ
رسولٍ مصدقٍ أخذَ الله لميثاق لتؤمِنُنَّ به ولتنصُرُنه أو
موصولةٌ والمعنى أخذُه الذي آتيتُكموه وجاءكم رسولٌ مصدقٌ له
وقرئ لَمّا بمعنى حين آتيتُكم أو لَمِنْ أجل ما آتيتُكم على أن
أصله لَمِنْ ما بالإدغام فحُذف إحدى الميمات الثلاثِ استثقالاً
{قَالَ} أي الله تعالى بعدَ ما اخذ الميثاق
{أأقررتم} بما ذُكر
{وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى}
(2/53)
أي عهدي سُمّيَ به لأنه يؤصَرُ أي يُشَدّ
وقرئ بضم الهمزة إما لغةٌ كعبر وعبر أو جمع إصار وهو ما يشد به
{قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنه قيل فماذا قالوا
عند ذلك فقيل قالوا
{أَقْرَرْنَا} وإنما لم يذكر أخذهم الإصر اكتفاءً بذلك
{قَالَ} تعالى
{فَأَشْهِدُواْ} أي فليشهدْ بعضُكم على بعض بالإقرار وقيل
الخطابُ فيه للملائكة
{وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين} أي وأنا أيضاً على إقراركم
ذلك وتشاهدكم شاهدٌ وإدخالُ مع على المخاطبين لما أنهم
المباشِرون للشهادة حقيقةً وفيه من التأكيد والتحذير مالا يخفى
(2/54)
فَمَنْ تَوَلَّى
بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
{فَمَنْ تولى} أي أعرض عما ذكر
{بَعْدَ ذَلِكَ} الميثاقِ والتوكيدِ بالإقرار والشهادة فمعنى
البُعد في اسم الإشارةِ لتفخيم الميثاق
{فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ والجمع باعتبارِ المَعْنى كَما
أنَّ الإفراد في تولى باعتبار اللفظ وما فيه من معنى البعد
للدلالة على تَرامي أمرهِم في السوءوبعد منزلتهم في
الشروالفساد أي فأولئك المُتولُّون المتّصفون بالصفات القبيحةِ
{هُمُ الفاسقون} المتمرِّدون الخارجون عن الطاعة من الكَفَرة
فإن الفاسقَ من كل طائفةٍ مَنْ كان متجاوزاً عن الحد
(2/54)
أَفَغَيْرَ دِينِ
اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
{أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ} عطفٌ
على مقدرٍ أي أيتوَلَّوْن فيبغون غيرَ دينِ الله وتقديمُ
المفعولِ لأنه المقصودُ إنكارُه أو على الجملة المتقدمةِ
والهمزةُ متوسطةٌ بينهما للإنكار وقرئ بتاء الخطاب على تقدير
وقل لهم
{وَلَهُ أَسْلَمَ من في السماوات والارض} جملةٌ حاليةٌ مفيدةٌ
لوكادة الإنكار
{طَوْعًا وَكَرْهًا} أي طائعين بالنظر واتباعِ الحجةِ وكارهين
بالسيف ومعاينةِ ما يلجىء الى الأسلام كنَتْق الجبلِ وإدراكِ
الغرقِ والإشرافِ على الموت أو مختارين كالملائكة والمؤمنين
ومسخَّرين كالكفرة فإنهم لايقدرون على الامتناع عما قُضيَ
عليهم
{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} أي مَنْ فيهما والجمعُ باعتبار
المعنى وقرئ بتاء الخطاب والجملةُ إما معطوفةٌ على ما قبلها
منصوبة على الحالية وإما مستأنفةٌ سيقت للتهديد والوعيد
(2/54)
قُلْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ
مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
{قل آمنا بالله} أمر للرسول صلى الله عليه
وسلم بأن يُخبرَ عن نفسه وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ بالإيمان
بما ذُكر وجمعُ الضَّمير في قولِه تعالى
{وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} وهو القرآنُ لما أنه منزلٌ عليهم
أيضاً بتوسط تبليغِه إليهم أو لأن المنسوبَ إلى واحد من
الجماعة قد يُنسَب إلى الكل أو عن نفسه فقط وهو الأنسبُ بما
بعده والجمعُ لإظهار جلالةِ قدرِه عليه السلام ورفعةِ محلِّه
بأمره بأن يتكلَّم عن نفسه على دَيْدَن الملوكِ ويجوز أن يكون
الأمرُ عاماً والإفرادُ لتشريفه عليه السلام والإيذانِ بأنه
عليه السلام أصلٌ في ذلك كما في قوله تعالى يأيُّهَا النبى
إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء
{وَمَا أُنزِلَ على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ
وَالاسْبَاطَ} من الصحُف والنزولُ كما يعدى بإلى لانتهائه إلى
الرسل يعدى بعلى لأنه من
(2/54)
85 - 86 آل عمران
فوق ومن رام بأن على لكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
وإلى لكون الخطاب للمؤمنين فقد تعسف ألا يُرى إلى قوله تعالى
{بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} الخ وقوله {آمنوا بالذي أنزِل على
الذين آمنوا} الخ وإنما قدم المُنْزلُ على الرسول صلى الله
عليه وسلم على ما أنزِل على سائر الرسل عليهم السلام مع تقدّمه
عليه نزولاً لأنه المعروفُ له والعيار عليه والأسباطُ جمع
سِبْط وهو الحافد والمراد بهم حفدة يعقوب عليه السلام وأبناؤه
الاثنا عشرَ وذراريهم فإنهم حفدةُ إبراهيمَ عليه السلام
{وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى} من التوراة والإنجيل وسائرِ
المعجزاتِ الظاهرةِ بأيديهما كما ينبئ عنه إيثارُ الإيتاءِ على
الإنزال الخاصِّ بالكتاب وتخصيصُهما بالذكر لما أن الكلام مع
اليهود والنصارى
{والنبيون} عطفٌ على مُوسى وعيسى عليهما السَّلامُ أي وما أوتي
النبيون من المذكورين وغيرهم
{من ربهم} من الكتب والمعجزات
{لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ منهم} كدأب اليهود والنصارى آمنوا
ببعض وكفروا ببعض بل نؤمن بصِحةِ نبوةِ كلَ منهم وبحقّية ما
أُنزل إليهم في زمانهم وعدمُ التعرّضِ لنفي التفريق بين الكتب
لاستلزام المذكورِ إياه وقد مر تفصيله في تفسير قولِه تعالى
{لاَ نفرِّق بَيْنَ أَحَدٍ من رُّسُلِهِ} وهمزة أحدٍ إما أصلية
فهو اسم موضوع لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المفردُ والمثنى
والمجموعُ والمذكرُ والمؤنث ولذلك صح دخولُ بين عليه كما في
مثل المال بين الناس وإما مُبدلةٌ من الواو فهو بمعنى واحد
وعمومُه لوقوعه في حيز النفي وصحة دخول بين عليه باعتبار
معطوفٍ قد حُذف لظهوره أي بين أحدٍ منهم وغيرِه كما في قول
النَّابغةِ ... فمَا كانَ بين الخيرِ إذ جاءَ سالما ... أبُو
حَجَرٍ إلا ليالٍ قلائلُ ...
أي بين الخيرِ وبينِي
{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي منقادون او مخلصون له تعالى
أنفسنا لا نجعلُ له شريكاً فيها وفيه تعريضٌ بإيمان أهلِ
الكتاب فإنه بمعزل من ذلك
(2/55)
وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام} أي غيرَ
التوحيد والانقيادِ لحكم الله تعالى كدأب المشركين صريحاً
والمدّعين للتوحيد مع إشراكهم كأهل الكتابين
{دِينًا} ينتحِلُ إليه وهو نصب على أنه مفعول ليبتغ وغيرَ
الإسلام حال منه لما أنه كان صفةً له فلما قُدِّمت عليه انتصبت
حالاً أو هو المفعول ودينا وتمييز لما فيه من الإبهامِ أو بدلٌ
من غيرَ الإسلام
{فَلَن يُقْبَلَ} ذلك
{مِنْهُ} أبداً بل يُردّ أشدَّ ردَ وأقبحَه وقوله تعالى
{وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين} إِمَّا حالٌ منَ الضميرِ
المجرور أو استئنافٌ لا محلَّ له من الإعراب أي من الواقعين في
الخُسران والمعنى أن المعرض عن الإسلامَ والطالبُ لغيره فاقدٌ
للنفع واقعٌ في الخسران بإبطال الفطرةِ السليمةِ التي فُطر
الناسُ عليها وفي ترتيب الرد والخُسران على مجرد الطلبِ
دَلالةٌ على أن حال من تدين بغيرالإسلام واطمأنّ بذلك أفظعُ
وأقبحُ واستُدل به على أنَّ الإيمانَ هو الإسلامُ إذْ لو كان
غيرَه لم يقبل والجوابُ أنه ينفي قَبولَ كلِّ دينٍ يُغايرُه لا
قبولَ كل ما يغاريره
(2/55)
كَيْفَ يَهْدِي
اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا
أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ
لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
{كَيْفَ يَهْدِى الله} إلى الحق
(2/55)
87 - 88 89 90 آل عمران
{قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم} قيل هم عشرَةُ رهطٍ ارتدوا
بعد ما آمنوا ولحِقوا بمكةَ وقيل هم يهودُ قُريظةَ والنَّضِير
ومَنْ دان بدينهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن
كانوا مؤمنين به قبل مَبْعثِه
{وَشَهِدُواْ أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَاءهُمُ البينات} استبعادٌ
لأن يهديَهم الله تعالى فإن الحائدَ عن الحق بعد ما وضَحَ له
منهمِكٌ في الضلال بعيدٌ عن الرشاد وقيل نفيٌ وإنكار له وذلك
يقتضي أن لا تقبلَ توبةُ المرتد وقوله تعالى وَشَهِدُواْ عطفٌ
على إيمانهم باعتبار انحلالِه إلى جملة فعليةٍ كما في قوله
تعالى {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله} الخ فإنه
في قوَّةِ أنْ يقالَ بعد أن آمنوا أو حالٌ من ضميرِ كفروا
بإضمار قد وهو دليلٌ على أن الإقرارَ باللسان خارجٌ عن حقيقة
الإيمان
{والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} أي الذين ظلموا أنفسَهم
بالإخلال بالنظر ووضعِ الكفر موضِعَ الإيمان فكيف مَن جاءه
الحقُّ وعرَفه ثم أعرض عنه والجملةُ اعتراضية أو حالية
(2/56)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ
أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)
{أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار
اتصافهم بما مر من الصفات الشنيعة وما فيه من معنى البُعد لما
مر مرارا وهو مبتدأُ وقولُه تعالى
{جَزَآؤُهُمْ} مبتدأٌ ثانٍ وقولُه تعالَى
{أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس
أَجْمَعِينَ} خبرُه والجملةُ خبرلأولئك وهذا يدلُّ بمنطوقه على
جواز لعنِهم وبمفهومِه ينفي جوازَ لعنِ غيرِهم ولعل الفرقَ
بينهم وبين غيرِهم أنهم مطبوعٌ على قلوبهم ممنوعون عن الهدى
آيِسون من الرحمة رأساً بخلاف غيرِهم والمرادُ بالناس المؤمنون
أو الكلُّ فإن الكافرَ أيضاً يلعن مُنكِرَ الحقِّ والمرتدِّ
عنه ولكن لا يعرِف الحقَّ بعينه
(2/56)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
{خالدين فِيهَا} في اللعنة أو العقوبةِ أو
النار وإن لم تُذكر لدَلالة الكلامِ عليها
{لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي
يُمهَلون
(2/56)
إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
{إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ}
أي من بعد الارتدادِ
{وَأَصْلَحُواْ} أي ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح
{فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيَقبلُ توبتَهم ويتفضّلُ
عليهم وهو تعليلٌ لما دل عليه الاستثناءُ وقيل نزلت في الحرث
بنِ سويد حين ندِم على رِدَّته فأرسل إلى قومه أن يسألوا هل لي
من توبة فأرسل إليه أخوه الحلاس الآيةَ فرجَع إلى المدينة فتاب
(2/56)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ
تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم
ثُمَّ ازدادوا كُفْرًا} كاليهود كفروا بعيسى عليه السلام
والإنجيلِ بعد الإيمانِ بموسى عليه السلام والتوراة ثم ازدادوا
كفراً حيث كفروا بمحمَّدٍ عليهِ الصَّلاة والسَّلام والقرآنِ
أو كفروا به عليه السلام بعد ما آمنوا به قبل مبعثِه ثم
ازدادوا كفراً بالإصرار عليه والطعنِ فيه والصدِّ عن الإيمان
ونقضِ الميثاق أو كقوم ارتدوا ولحِقوا بمكةَ ثم ازدادوا كفراً
بقولهم نتربّصُ بِهِ رَيْبَ المَنون أو نرجِعُ إليه فننافِقُه
بإظهار الإيمان
{لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} لأنهم لا يتوبون إلا عند
إشرافِهم على الهلاك فكنّى عن
(2/56)
91 - 92 آل عمران
عدم توبتِهم بعدم قبولِها تغليظاً في شأنهم وإبرازاً لحالهم في
صورة حالِ الآيسين من الرحمة أو لأن توبتَهم لا تكونُ إلا
نفاقاً لارتدادهم وازديادِهم كفراً ولذلك لم تدخُلْ فيه الفاء
{وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضالون} الثابتون على الضلال
(2/57)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ
أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ
نَاصِرِينَ (91)
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ
كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ من أحدهم ملء الارض ذَهَبًا وَلَوِ
افتدى بِهِ} لمّا كان الموتُ على الكفر سبباً لامتناع قبولِ
الفدية زيدت الفاء ههنا للإشعار به وملء الشئ ما يُملأ به
وذهباً تمييز وقرئ بالرفع على أنه بدلٌ من ملء أو خبرٌ لمحذوفِ
وَلَوِ افتدى محمولٌ على المعنى كأنه قيل فلن يقبل من أحدهم
فديةٌ ولو افتدى بملء الأرضِ ذهباً أو معطوف على مضمر تقديرُه
فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً لو تصدق به في الدنيا ولو
افتدى به من العذاب في الآخرة أو المرادُ ولو افتدى بمثلِه
كقوله تعالى {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الارض
جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ} والمِثلُ يحذف ويراد كثيراً لأن
المثلين في حكم شئ واحد
{أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار اتصافِهم بالصفات
الشنيعةِ المذكورة
{لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلمٌ اسمُ الإشارةِ مبتدأ والظرفُ
خبرُه ولاعتماده على المبتدأ ارتفع به عذابٌ أليم على الفاعلية
{وَمَا لَهُم مِن ناصرين} في دفعِ العذابِ عنُهم أو في تخفيفه
ومن مزيدةٌ للاستغراق وصيغةُ الجمعِ لمراعاة الضميرِ أي ليس
لواحدٍ منهم ناصرٌ واحد
(2/57)
لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
{لَن تَنَالُواْ البر} مِنْ ناله نيلاً إذا
أصابه والخطابُ للمؤمنين وهو كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان ما ينفعُ
المؤمنين ويُقبلُ منهم إثر بيان مالا ينفعُ الكفرةَ ولا يُقبل
منهم أي لن تبلُغوا حقيقةَ البِرِّ الذي يتنافس فيه المتنافسون
ولن تُدركوا شأوَه ولن تلحَقوا بزُمْرة الأبرارِ أو لن تنالوا
برَّ الله تعالى وهو ثوابُه ورحمتُه ورضاه وجنتُه
{حتى تُنفِقُواْ} أي في سبيل الله عز وجل رغبة فيما عنده ومِنْ
في قولِه تعالَى
{مِمَّا تُحِبُّونَ} تبعيضيّة ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ بعضَ ما
تحبون وقيل بيانيةٌ وما موصولةٌ أو موصوفةٌ أي مما تهوَوْن
ويُعجبُكم من كرائمِ أموالِكم وأحبَّها إليكم كما في قوله
تعالى أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ أو مما يعُمّها
وغيرَها من الأعمال والمهجة على أن المرادَ بالإنفاق مطلقُ
البذلِ وفيه من الإيذان بعزة منالِ البرِّ مالا يخفى وكان
السلف رضي الله عنهم إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله عز وجل ورُوي
أنَّها لمَّا نزلتْ جاء أبو طلحةَ فقالَ يا رسولَ الله إن أحب
أموالى إلى بير حاء فضعْها يا رسولَ الله حيث أراك الله فقال
عليه السلام بخٍ بخٍ ذاك مال رايح أو رابحٌ وإني أرى أن
تجعلَها في الأقربين فقسَمها في أقاربه وجاء زيدُ بنُ حارثةَ
بفرسٍ له كان يحبُّها فقال هذه في سبيل الله فحمل على رسُولِ
الله صَلَّى الله عليه وسلم أسامةَ بنَ زيدٍ فكأن زيداً وجَدَ
في نفسه وقال إنما أردتُ أن أتصدق به فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم أما إنَّ الله تعالى قد قبِلها منك قيل وفيه دلالة
على أن إنفاقَ أحبِّ الأموالِ على أقربِ الأقاربِ أفضلُ وكتب
عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أن يشتريَ له جاريةً من
سبي جلولاء يوم فُتِحت مدائنُ كسرى فلما جاءت إليه أعجبتْه
(2/57)
93 - آل عمران
فقال إنَّ الله تعالى يقول لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ
مِمَّا تُحِبُّونَ فأعتقها وروي أن عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ كانت
لزوجته جاريةٌ بارعةُ الجمال وكان عمرُ راغباً فيها وكان قد
طلبها منها مراراً فلم تُعطِها إياه ثم لما وليَ الخِلافةَ
زيَّنَتْها وأرسلتها إليه فقالت قد وهبتُكَها يا أميرَ المؤمين
فلتخدُمْك قال من أين ملكتِها قالت جئتُ بها من بيت أبي عبدِ
الملك ففتش عن كيفية تملكه إياها فقيل إنه كان على فلانٍ
العاملِ ديونٌ فلما تُوفيَ أُخِذت من ترِكَته ففتش عن حال
العاملِ وأحضر ورثتَه وأرضاهم جميعاً بإعطاء المالِ ثم توجّه
إلى الجارية وكان يهواها هوىً شديداً فقال أنت حرةٌ لوجه الله
تعالى فقالت لمَ يا أميرَ المؤمنين وقد أزحْتَ عن أمرها كلَّ
شُبهة قال لستُ إذن ممن نهى النفسَ عن الهوى
{وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء} ما شرطيةٌ جازمةٌ لتنفقوا منتصبة
به على المفعولية ومن تبعيضية متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لاسم
الشرطِ أي أي شئ تنفقوا كائناً من الأشياء فإن المفردَ في مثل
هذا الموضعِ واقعٌ موقعَ الجمعِ وقيل محلُّ الجارِّ والمجرور
النصبُ على التمييز أي أي شيء تنفقوا طيباً تحبُّونه أو خبيثاً
تكرَهونه
{فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} تعليلٌ لجوابِ الشرطِ واقعٌ
موقِعَه أي فمجازيكم بحسبه جيداً كان أو رديئاً فإنه تعالى
عليمٌ بكل شيءٍ تُنفِقونه علماً كاملاً بحيثُ لا يخفى عليه
شيءٌ من ذاته وصفاته وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصلِ
وفيهِ من الترغيبِ في إنفاق الجيدِ والتحذيرِ عن انفاق الرديء
مالا يخفى
(2/58)
كُلُّ الطَّعَامِ
كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ
إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ
التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
{كُلُّ الطعام} أي كلُّ أفرادِ المطعوم أو
كلُّ أنواعِه
{كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسرائيل} أي حلالاً لهم فإن الحلَّ
مصدرٌ نُعت به ولذلك استوى فيه الواحدُ والجمعُ والمذكرُ
والمؤنثُ كما في قوله تعالى {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ}
{إِلاَّ ما حرم إسرائيل على نَفْسِهِ} استثناءٌ متصلٌ من اسم
كان أي كان كلُّ المطعوماتِ حلالاً لبني إسرائيلَ إلا ما حرم
إسرائيلُ أي يعقوبُ عليه السلام على نفسه وهو لحومُ الإبلِ
وألبانُها قيل كان به وجعُ النَّسا فنذَرَ لئن شُفِيَ لا يأكلُ
أحبَّ الطعامِ إليه وكان ذلك أحبَّه إليه وقيل فعل ذلك للتداوي
بإشارة الأطباءِ واحتجَّ به من جوَّز للنبي الاجتهادَ وللمانع
أن يقولَ كان ذلك بإذنٍ من الله تعالى فيه فهو كتحريمه ابتداءً
{مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة} متعلقٌ بقوله تعالى كَانَ
حِلاًّ ولا ضيرَ في توسيط الاستثناءِ بينهما وقيل متعلق
بحرَّمَ وفيه أن تقييدَ تحريمِه عليه السلام بقَبْلية تنزيلِ
التوراة ليس فيه مزيدُ فائدةٍ أي كان ما عدا المستثنى حلالاً
لهم قبلَ أَن تنزّلَ التوراةُ مشتمِلةً على تحريمَ ما حُرِّم
عليهم لظلمهم وبغيهم عقوبةً لهم وتشديداً وهو ردٌّ على اليهود
في دعواهم البراءةَ عما نعى عليهم قولُه تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ
الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ
وقوله تعالى وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى
ظُفُرٍ الآيتين بأن قالوا لسنا أولَ من حرمت عليه وإنما كانت
محرمةً على نوح وإبراهيمَ ومَنْ بعدَهما حتى انتهى الأمرُ
إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا وتبكيتٌ لهم في منع
النسخِ والطعنِ في دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم موافقتَه
لإبراهيمَ عليه السلام بتحليله لحومِ الإبلِ وألبانِها
{قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها}
(2/58)
أمر عليه السلام بأن يُحاجَّهم بكتابهم
الناطقِ بأن تحريمَ ما حُرِّم عليهم تحريمٌ حادثٌ مترتِّبٌ على
ظلمهم وبغيهم كلما ارتكبوا معصيةً من المعاصي التي اقترفوها
حُرِّم عليهم نوعٌ من الطيبات عقوبةً لهم ويكلّفهم إخراجَه
وتلاوتَه ليُبَكِّتَهم ويُلقِمَهم الحجَرَ ويُظهرِ كذِبَهم
وإظهارُ اسم التوراةِ لكون الجملةِ كلاماً مع اليهود منقطعاً
عما قبله وقوله تعالى
{إِن كُنتُمْ صادقين} أي في دعواكم أنه تحريمٌ قديمٌ وجواب
الشرط محذوف لدلالة المذكور عليهِ أيْ إنْ كنتُم صادقين فأتوا
بالتوراة فاتلوها فإن صدْقَكم مما يدعوكم إلى ذلك اْلبتةَ روي
أنهم لم يجسَروا على إخراج التوراةِ فبُهتوا وانقلبوا صاغرين
وفي ذلك من الحجة النيرة على صدق النبيِّ صلَّى الله عليهِ
وسلم وجوازِ النسخ الذي يجحَدونه مالا يخفى والجملةُ مستأنفةٌ
مقرِّرة لما قبلها
(2/59)
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (94)
{فَمَنِ افترَى عَلَى الله الكذبَ} أي
اختلقه عليه سبحانه بزعمه أنه حرَّم ما ذُكر قبل نزولِ
التوراةِ على بني إسرائيلَ ومن تقدَّمهم من الأمم
{مِن بَعْدِ ذلك} مّن بَعْدِ مَا ذُكر من أمرهم بإحضار
التوراةِ وتلاوتِها وما ترتب عليه من التبكيت والإلزامِ
والتقييدُ به للدَلالة على كمال القبحِ
{فَأُوْلَئِكَ} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز
الصلةِ والجمعُ باعتبارِ معناه كما أن الإفراد في الصلة
باعتبار لفظِه وما فيه من معنى البعد للإيذانِ ببُعد منزلِتهم
في الضلال والطُغيان أي فأولئك المُصِرُّون على الافتراء بعد
ما ظهرت حقيقةُ الحال وضافت عليهم حَلْبةُ المُحاجَّة والجدالِ
{هُمُ الظالمون} المفْرِطون في الظلم والعُدوان المُبْعِدون
فيهما والجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مَسوقةٌ من
جهته تعالى لبيان كمالِ عُتوِّهم وقيل هي في محل النصبِ داخلةٌ
تحت القولِ عطفاً على قوله تعالى فَأْتُواْ بالتوراة
(2/59)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ
فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (95)
{قُلْ صَدَقَ الله} أي ظهر وثبت صِدقُه
تعالى فيما أنزل في شأن التحريمِ وقيل في قوله تعالى {مَا
كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا} الخ أو صَدَق في كلِّ شأنٍ من
الشئون وهو داخلٌ في ذلك دخولاً أولياً وفيه تعريضٌ بكذبهم
الصريح
{فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم} أيْ ملةَ الإسلامِ التي هي في الأصل
ملة إبراهيم عليه السلام فإنكم ما كنتم متّبعين لمِلّته كما
تزعُمون أو فاتبعوا مثل مِلَّته حتى تتخلصوا من اليهودية التي
اضطَرَّتْكم إلى التحريف والمكابرة وتلفيقِ الأكاذيبِ لتسوية
الأغراضِ الدنيئةِ الدنيويةِ وألزمتكم تحريمَ طيباتٍ محلَّلةٍ
لإبراهيمَ عليه السلام ومن تبعه والفاءُ للدِلالة على أن ظهورَ
صدقِه تعالى موجبٌ للاتباع وتركِ ما كانوا عليه
{حَنِيفاً} أي مائلاً عن الأديان الزائغةِ كلِّها
{وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} أي في أمر من أمور دينِه أصلاً
وفرعاً وفيه تعريضٌ بإشراك اليهودِ وتصريحٌ بأنه عليه السلام
ليس بينه وبينهم علاقةٌ دينيةٌ قطعاً والغرضُ بيانُ أن النبيِّ
صلَّى الله عليهِ وسلم على دين إبراهيمَ عليه السلام في الأصول
لأنه لا يدعو إلا إلى التوحيد والبراءةِ عن كل معبودٍ سواه
سبحانه وتعالى والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها
(2/59)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى
لِلْعَالَمِينَ (96)
{إن أوَّلُ بيت وُضع لِلنَّاسِ} شروعٌ في
بيان كفرِهم ببعض آخر
(2/59)
97 - آل عمران
من شعائر ملتِه عليه السلام إثرَ بيانِ كفرِهم بكون كلِّ
المطعومات حِلاًّ له عليه السلام رُوي أنهم قالوا بيتُ المقدس
أعظمُ من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة وقال
المسلمين بل الكعبةُ أعظمُ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم فنزلتْ أي إن أولَ بيتٍ وُضع للعبادة وجُعِل مُتعبَّداً
لهم والواضعُ هُو الله تعالَى ويؤيِّده القراءةُ على البناء
للفاعل وقوله تعالى
{لَلَّذِى بِبَكَّةَ} خبرٌ لإن وإنما أُخبر بالمعرفة مع كونِ
اسمِها نكرةً لتخصُّصها بسببين الإضافةِ والوصفِ بالجملة بعدها
أي لَلْبيتُ الذي ببكةَ أي فيها وفي ترك الموصوفِ من التفخيم
مالا يخفى وبكةُ لغةٌ في مكةَ فإن العربَ تعاقِبُ بين الباء
والميم كما في قولهم ضربةُ لازبٍ ولازم والنميطُ والنبيط في
اسم موضعٍ بالدَّهناء وقولِهم أمرٌ راتبٌ وراتمٌ وسبّد رأسَه
وسمّدها وأغبطت الحمى وأغمطت وهي عَلَم للبلد الحرام من بكّة
إذا زحَمه لازدحام الناس فيه وعن قتادة يُبكُّ الناسُ بعضُهم
بعضاً أو لأنها تُبكُّ أعناقَ الجبابرة أي تدُقُّها لم
يقصِدْها جبارٌ إلاقصمه الله عز وجل وقيل بكةُ اسمٌ لبطن مكةَ
وقيل لموضع البيتِ وقيل للمسجد نفسِه ومكةُ اسمٌ للبلد كلِّه
وأيَّد هذا بأن التَّباكَّ وهو الازدحامُ إنما يقع عند الطوافِ
وقيل مكةُ اسمٌ للمسجد والمطاف وبكةٌ اسمٌ للبلد لقوله تعالى
{لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} روي أنه عليه السلام سُئل عن
أوَّلُ بيت وُضع للنَّاسِ فقال المسجدُ الحرام ثم بيتُ المقدس
وسئل كم بينهما فقال أربعون سنة وقيل أولُ من بناه إبراهيمَ
عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل آدمُ عليه السلام وقد استوفينا
ما فيه من الأقاويل في سُورة البقرةِ وقيل أولُ بيتٍ وضعَ
بالشرف لا بالزمان
{مُبَارَكاً} كثيرَ الخير والنفعِ لِمَا يحصُل لمن حجَّه
واعتمره واعتكف دونه وطاف حوله من الثواب وتكفيرِ الذنوب وهو
حال من المستكن في الظرف لأن التقديرَ للذي ببكةَ هو والعاملُ
فيه ما قُدّر في الظرف من فعل الاستقرار
{وهدى للعالمين} لأنه قبلتُهم ومُتعبَّدُهم ولأن فيه آياتٍ
عجيبةً دالةٍ على عظيم قدرتِه تعالى وبالغِ حكمتِه كما قال
(2/60)
فِيهِ آيَاتٌ
بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعَالَمِينَ (97)
{فيه آيات بينات} واضحاتٌ كانحراف الطيورِ
عن موازاة البيتِ على مدى الأعصارِ ومخالطةِ ضواري السباعِ
الصيودَ في الحرم من غير تعرُّضٍ لها وقهر الله تعالى لكل
جبارٍ قصَده بسوء كأصحاب الفيل والجملةُ مفسرةٌ للهدى أو حالٌ
أخرى
{مَّقَامِ إبراهيم} أي أثرُ قدميه عليه السلام في الصخرة التي
كان عليه السلام يقوم عليها وقتَ رفعِ الحجارةِ لبناء الكعبةِ
عند ارتفاعِه أو عند غسلِ رأسِه على مَا رُوي أنَّه عليه
السلام جاء زائراً من الشام إلى مكةَ فقالت له امرأةُ إسمعيل
عليه السلام انزلْ حتى أغسِلَ رأسَك فلم ينزِل فجاءته بهذا
الحجرِ فوضعتْه على شقه الأيمنِ فوضع قدمَه عليه حتى غسَلت
شِقَّ رأسِه ثم حولتْه إلى شقه الأيسرِ حتى غسلت الشق الآخر
فقى أثرُ قدميه عليه وهو إما مبتدأٌ حُذف خبرُه أي منها مقامُ
إبراهيمَ أو بدلٌ من آياتٌ بدلَ البعضِ من الكل أو عطفُ بيانٍ
إما وحدَه باعتبار كونِه بمنزلة آياتٍ كثيرةٍ لظهور شأنِه
وقوةِ دَلالتِه على قدرة الله تعالى وعلى نبوة إبراهيمَ عليه
(2/60)
الصلاة والسلام كقوله تعالى {إِنَّ إبراهيم
كَانَ أُمَّةً قانتا} أو باعتبار اشتمالِه على آياتٍ كثيرةٍ
فإن كلَّ واحدٍ من أثر قدميه في صخرةٍ صمَّاءَ وغوْصِه فيها
إلى الكعبين وإلانةِ بعضِ الصخور دون بعضٍ وإبقائِه دون سائرِ
آياتِ الأنبياءِ عليهم السلام وحفظِه مع كثرة الأعداء ألوف
سنةٍ آيةٌ مستقلةٌ ويؤيده القراءةُ على التوحيد وإما بما
يُفهمُ من قولهِ عزَّ وجلَّ
{ومن دخله كان آمنا} المعنى فإنه وإن كان جملةً مستأنفةً
ابتدائيةً أو شرطيةً لكنها في قوةِ أنْ يقالَ وأَمِنَ مَنْ
دَخَله فتكون بحسب المعنى والمآلِ معطوفةً على مقامُ إبراهيمَ
ولا يخفى أن الأثنينِ نوعٌ من الجمع فيكتفى بذلك أو يحملُ على
أنه ذُكر من تلك الآياتِ اثنتان وطُويَ ذكرُ ما عداهما دَلالةً
على كثرتها ومعنى أمْنِ داخلِه أمنُه من التعرُّض له كما في
قوله تعالى أو لم يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمنا
وَيُتَخَطَّفُ الناسُ مِنْ حَوْلِهِمْ وذلك بدعوة إبراهيمَ
عليه السلام رَبّ اجعل هذا البلد امِنًا وكان الرجلُ لوْ جَرَّ
كلَّ جريرةٍ ثم لجأ إلى الحرم لم يُطلب وعن عمرَ رضي الله عنه
لو ظفِرتُ فيه بقاتل الخطاب مامسسته حتى يخرُجَ منه ولذلك قالَ
أبُو حنيفةَ رحمَهُ الله تعالى من لزِمه القتلُ في الحِلّ
بقصاص أو رِدَّةً أو زنىً فالتجأ إلى الحرم لم يُتعرَّضْ له
إلا أنه لا يؤوى ولايطعم ولايسقى ولا يُبايَع حتى يُضْطَرَّ
إلى الخروج وقيل أمنُه من النار وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ
وسلم من مات في أحد الحرَمين بُعث يومَ القيامة آمنا وعنه عليه
الصلاة والسلام الحَجونُ والبقيعُ يؤخذ بأطرافهما ويُنثرَانِ
في الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة عنِ ابنِ مسعودٍ رضيَ الله
عنه وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثنيّة الحَجونِ وليس
بها يومئذ مقبرَةٌ فقال يبعث الله تعالى من هذه البقعةِ ومن
هذا الحرَم كلِّه سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر
يدخُلون الجنة بغير حساب يشفعُ كلُّ واحدٍ منهم في سبعين ألفاً
وجوهُهم كالقمر ليلة البدر وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم
من صَبَر على حرَّ مكةَ ساعةً من نهار تباعدت عنه جهنمُ مسيرةَ
مائتي عام
{وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} جملةٌ من مبتدإٍ هو حِجُّ
وخبرٍ هو لله وقولُه تعالى عَلَى الناس متعلقٌ بما تعلَّق بهِ
الخبرُ من الاستقرار أو بمحذوفٍ هو حالٌ من الضَّمير المستكنِّ
في الجار والعاملُ فيه ذلك الاستقرارُ ويجوز أن يكونَ عَلَى
الناس هو الخبرُ ولله متعلقٌ بما تعلَّق بهِ الخبرُ وَلا سبيلَ
إلى أن يتعلقَ بمحذوفٍ هو حالٌ من الضمير المستكن في على الناس
لاستلزامه تقديم الحال على العامل المعنوي وذلك مما لا مساغَ
له عند الجمهور وقد جوّزه ابنُ مالكٍ إذا كانت هي ظرفاً أو
حرفَ جر وعاملُها كذلك بخلاف الظرف وحرف الجر فإنهما يتقدمان
على عاملهما المعنوي واللامُ في البيت للعهد وحجُّه قصْدُه
للزيارة على الوجه المخصوص المعهود وكسر الحاء لغةُ نجدٍ وقيل
هو اسمٌ للمصدر وقرئ بفتحها
{مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} في محل الجرِّ على أنَّه بدلٌ
من النَّاسِ بدلَ البعضِ من الكل مخصِّصٌ لعمومه فالضميرُ
العائد إلى المُبدْل منه محذوفٌ أي من استطاع منهم وقيل بدلَ
الكلِّ على أن المرادَ بالناس هو البعضُ المستطيعُ فلا حاجةَ
إلى الضمير وقيل في محلِ الرفعِ على أنه خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ أي
هم من استطاع الخ وقيل في حيز النصبِ بتقدير أعني وقيل كلمةُ
مِنْ شرطيةٌ والجزاءُ محذوف لدلالة المذكور عليه وكذا العائدُ
إلى الناس أي من استطاع منهم إليه سبيلاً فلله عليه حِجُّ
البيت وقد رُجِّحَ هذا بكون ما بعده شرطية والضميرُ المجرورُ
في إليه راجعٌ إلى البيت أو إلى حِجّ والجارُّ متعلقٌ بالسبيل
قُدِّم عليه اهتماماً بشأنه كما في قوله عز وجل فَهَلْ إلى
خُرُوجٍ مّن سبيل وهل إلى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ لما فيه من معنى
(2/61)
98 - آل عمران
الإفضاءِ والإيصالِ كيف لا وهو عبارةٌ عن الوسيلة من مال أو
غيرِه فإنه قد روى أنسُ بنُ مالكٍ عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال السبيلُ الزادُ والراحلة وروى ابنُ عمرَ رضيَ
الله عنهما أنَّ رجلاً قالَ يا رسولَ الله ما السبيلُ قال
الزاد والرحلة وهو المراد بما رُوي أنه عليه السلام فسَّر
الاستطاعةَ بالزاد والراحلة وهكذا روي عن ابن عباس وابنُ عُمر
رضي الله عنهم وعليه أكثرُ العلماء خلا أن الشافعيَّ أخذ
بظاهره فأوجب الاستنابةَ على الزَّمِنِ القادر على أُجرة مَنْ
ينوب عنه والظاهرُ أن عدمَ تعرُّضِه عليه السلام لصِحة البدنِ
لظهور الأمر كيف لا والمفسَّرُ في الحقيقة هو السبيلُ الموصِلُ
لنفس المستطيع إلى البيت وذا لا يُتصوَّرُ بدون الصحة وعن ابن
الزبير أنه على قدر القوة ومذهب مالك أن الرجل إذا وثق بقوته
لزمه وعنه ذلك على قدر الطاقة وقد يجد الزاد والراحلة من لا
يقدرُ على السفر وقد يقدر عليه من لا راحلة له ولا زاد وعن
الضحاك أنه إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع
{ومن كفر} وضع من كفر موضع من لم يحج تأكيدا لوجوبه وتشديدا
على تاركه ولذلك قال عليه السلام من مات ولم يحج فليمت إن شاء
يهوديا أو نصرانيا وروى عن عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضيَ الله عنه
أنَّه عليه السلام قال في خطبته أيها الناس إن الله فرض الحج
على مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً ومن لم يفعل فليمت على أي
حال شاء يهوديا أو نصرانيا او مجوسيا
{فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين} وعن عبادتهم وحيث كان من
كفر من جملتهم داخلا فيها دخولا أوليا اكتفى بذلك عن الضمير
الرابط بين الشرط والجزاء ولقد حازت الآية الكريمة من فنون
الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بامر الحج والتشديد على
تاركه مالا مزيد عليه حيث أوثرت صيغة الخبر الدالة على التحقيق
أو برزت في صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبات والاستمرار
على وجه يفيد أنه حق واجب لله سبحانه في ذمم الناس لا انفكاك
لهم عن أدائة والخروج عن عهدته وسلك بهم مسلك التعميم ثم
التخصيص والإبهام ثم التبيين والإجمال ثم التفصيل لما في ذلك
من مزيد تحقيق وتقرير وعبر عن تركه بالكفر الذي لا قبيح وراءه
وجعل جزاءه استغناءه تعالى المؤذن بشدة المقت وعظم السخط لا عن
تاركه فقط فإنه قد ضرب عنه صفحا إسقاطا له عن درجة الاعتبار
واستهجانا بذكره بل عن جميع العالمين ممن فعل وترك ليدل على
نهاية شدة الغضب هذا وقال ابن عباس والحسن وعطاء رضي الله عنهم
ومن كفر أي جحد فرض الحج وزعم انه ليس بواجب وعن سعيد بن
المسيب نزلت في اليهود فإنهم قالوا الحج إلى مكة غير واجب
ورُوي أنَّه لمَّا نزلَ قوله تعالى {وَللَّهِ عَلَى الناس حج
البيت} جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم
فخطبهم فقال إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة
وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا لا نؤمن به ولا نصلى إليه
ولا نحجة فنزل ومن كفر وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم حجوا
قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع إلى السماء في
الثالثة وروى حجوا قبل أن يمنع البر جانبه وعن ابن مسعود حجوا
هذا البيت قبل ان ينبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا
نفقت وعن عمر رضي الله عنه لو ترك الناس الحج عاما واحدا
مانوظروا
(2/62)
قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ
شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)
{قل يا أهل الكتاب} هم اليهودُ والنصارى
(2/62)
99 - آل عمران
وإنما خُوطبوا بعنوان أهليةِ الكتابِ الموجبةِ للإيمان به وبما
يصدّقه من القرآن العظيمِ مبالغةً في تقبيح حالِهم في كفرهم
بها وقوله عز وجل
{لِمَ تَكْفُرُونَ بأيات الله} توبيخٌ وإنكارٌ لأن يكون لكفرهم
بها سببٌ من الأسباب وتحقيقٌ لما يوجِبُ الاجتنابَ عنه بالكلية
والمرادُ بآياته تعالى ما يعُمُّ الآيات القرآنيةَ التي من
جملتها ما تُليَ في شأن الحجِّ وغيرِه وما في التوراة
والأنجيلِ من شواهد نبوته عليه السلام وقولُه تعالى
{والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} حالٌ من فاعل تكفُرون
مفيدةٌ لتشديد التوبيخِ وتأكيدِ الإنكار وإظهارُ الجلالةِ في
موقعِ الإضمار لتربية المهابة وتهويل الخطبِ وصيغةُ المبالغةِ
في شهيدٌ للتشديد في الوعيد وكلمةُ مَا إما عبارةٌ عن كفرهم أو
هي على عمومها وهو داخلٌ فيها دُخولاً أولياً والمعنى لأي سبب
تكفُرون بآياته عز وجل والحال أنَّه تعالَى مبالغٌ في الاطلاع
على جميع أعمالِكم وفي مجازاتكم عليها ولاريب في أن ذلك يسُدُّ
جميعَ أنحاءِ ما تأتونه ويقطع أسبابَه بالكلية
(2/63)
قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
{قل يا أهل الكتاب} أمرٌ بتوبيخهم بالإضلال
إثرَ توبيخِهم بالضلال والتكريرُ للمبالغة في حَمله عليه
السلام على تقريعهم وتوبيخِهم وتركُ عطفِه على الأمر السابقِ
للإيذان باستقلالهم كما ان قطع فوله تعالى
{لِمَ تَصُدُّونَ} عن قوله تعالى لِمَ تَكْفُرُونَ للإشعار بأن
كلَّ واحدٍ من كُفرهم وصدِّهم شناعةٌ على حيالها مستقِلةٌ في
استتباع اللائمةِ والتقريعِ وتكريرُ الخطابِ بعنوان أهليةِ
الكتابِ لتأكيد الاستقلالِ وتشديدِ التشنيع فإن ذلك العنوانَ
كما يستدعي الإيمانَ بما هو مصدِّقٌ لما معهم يستدعي ترغيبَ
الناسِ فيه فصدُّهم عنه في أقصى مراتبِ القَباحةِ ولكون صدِّهم
في بعض الصورِ بتحريف الكتابِ والكفرِ بالآياتِ الدالةِ على
نبوته عليه السلام وقرئ تُصِدّون من أصَدَّه
{عَن سَبِيلِ الله} أي دينِه الحقِّ الموصلِ إلى السعادة
الأبدية وهو التوحيدُ وملةُ الإسلام
{من آمن} مفعول لتصُدُّون قُدِّم عليه الجارُّ والمجرور
للاهتمام به كانوا يفتِنون المؤمنين ويحتالون لصدهم عنه
ويمنعون من أراد الدخولَ فيه بجُهدهم ويقولون إن صفتَه عليه
السلام ليست في كتابهم ولا تقدّمت البِشارةُ به عندهم وقيل أتت
اليهودُ الأوسَ والخزرجَ فذكّروهم ما كان بينهم في الجاهلية من
العداوات والحروب ليعودوا إلى ماكانوا فيه
{تَبْغُونَهَا} على إسقاط الجارِّ وإيصالِ الفعلُ إلى الضمير
كما في قوله ... فتولى غلامُهم ثم نادى ... أظليماً أصيدُكم أم
حمارا ...
بمعنى أصيدُ لكم أي تطلُبون لسبيل الله التي هي أقومُ السبل
{عِوَجَا} اعوجاجاً بأن تَلْبِسوا على الناس وتُوهِموا أن فيه
ميلاً عن الحق بنفي النسخِ وتغييرِ صفةِ الرسولِ صلى الله عليه
وسلم عن وجهها ونحو ذلك والجملة حال من فاعل تصُدّون وقيل من
سبيل الله
{وَأَنْتُمْ شُهَدَاء} حالٌ من فاعل تصُدون باعتبار تقييدِه
بالحال الأولى أو من فاعل تبغونها أي والحالُ أنكم شهداءُ
تشهدون بأنها سبيلُ الله لا يحوم حولَها شائبةُ اعوجاجٍ وأن
الصدَّ عنها إضلالٌ قال ابن عباس رضي الله عنهما اى شهداء أن
في التوراة إن دينَ الله الذي لا يُقبل غيرُه هو الإسلامُ أو
وأنتم عدولٌ فيما بينكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا
(2/63)
100 - آل عمران وعظائمِ الأمور
{وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} اعتراضٌ تذييليٌ فيه
تهديدٌ ووعيدٌ شديدٌ قيل لما كان صدُّهم للمؤمنين بطريق
الخُفْية خُتمت الآيةُ الكريمة بما يحسِمُ مادةَ حيلتهم من
إحاطة علمِه تعالى بأعمالهم كما أن كفرَهم بآياتِ الله تعالى
لمّا كان بطريق العلانيةِ خُتمت الآية السابقةُ بشهادته تعالى
على ما يعملون
(2/64)
|