تفسير أبي السعود
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
كَافِرِينَ (100)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِن
تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم
بَعْدَ إيمانكم كافرين} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى المؤمنين
تحذيراً لهم عن طاعة أهلِ الكتابِ والافتتانِ بفتنتهم إثرَ
توبيخِهم بالإغواء والإضلالِ ردعاً لهم عن ذلك وتعليقُ الردِّ
بطاعة فريقٍ منهم للمبالغة في التحذير عن طاعتهم وإيجابِ
الاجتنابِ عن مصاحبتهم بالكلية فإنه في قوَّةِ أنْ يُقال لا
تُطيعوا فريقاً الخ كما أن تعميمَ التوبيخِ فيما قبله للمبالغة
في الزجر أو للمحافظة على سبب النزولِ فإنه رُوي أن نفراً من
الأوس والخزرج كانوا جُلوساً يتحدثون فمرّ بهم شاسُ بنُ قيسٍ
اليهوديُّ وكان عظيمَ الكفرِ شديدَ الحسَدِ للمسلمين فغاظه ما
رأى منهم من تآلُفِ القلوبِ واتحادِ الكلمةِ واجتماعِ الرأي
بعد ما كان بينهم من العداوة والشنَآنِ فأمر شاباً يهودياً كان
معه بأن يجلِسَ إليهم ويذكِّرَهم يوم بُعاثَ وكان ذلك يوماً
عظيماً اقتتل فيه الحيانِ وكان الظفرُ فيه للأوس ويُنشِدُهم ما
قيل فيه من الأشعار ففعل فتفاخرَ القومُ وتغاضبوا حتى تواثبوا
وقالوا السلاحَ السلاحَ فاجتمع من القبيلتين خلقٌ عظيم فعند
ذلك جاءهم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وأصحابُه فقال
أتدْعون الجاهليةَ وأنا بين أظهُرِكم بعد أن أكرمكم الله تعالى
بالإسلام وقطع به عنكم أمرَ الجاهلية وألَّف بينكم فعلموا انها
نزغة من الشيطان وكيدٌ من عدوهم فألقَوُا السلاح واستغفروا
وعانق بعضُهم بعضاً وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الإمامُ الواحديُّ اصطفوا للقتال فنزلت الآيةُ إلى قوله
تعالى لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فجاء النبيِّ صلَّى الله عليهِ
وسلم حتى قام بين الصفَّيْن فقرأهنّ ورفعَ صوتَه فلما سمعوا
صوتَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنصَتوا له وجعلوا يستمعون
له فلما فرَغ ألقَوا السلاح وعانق بعضُهم بعضاً وجعلوا يبكون
وقوله تعالى كافرين إما مفعولٌ ثانٍ ليردُّوكم على تضمين
الردِّ معنى التصيير كما في قوله
رَمَى الحِدْثانُ نِسْوةَ آلِ سَعْد
بمقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُوداً ... فردَّ شعورَهُنَّ السودَ
بيضا ورد وجوههن البيضَ سودا
أو حالٌ من مفعول والأول أدخَلُ في تنزيه المؤمنين عن نسبتهم
إلى الكفر لما فيه من التصريح بكون الكفرِ المفروضِ بطريق
القسر وإيراد الظرف مع عدم الحاجة إليه ضرورةَ سبقِ الخطابِ
بعنوان المؤمنين واستحالةِ تحققِ الردِّ إلى الكفر بدون سبق
الإيمان مع توسيطه بين المفعولين لإظهار كمال شناعة الكفرِ
وغايةِ بُعدِه من الوقوع إما لزيادة قبحه الصارفِ العاقلِ عن
مباشرته أو لممانعة الإيمانِ له كأنه قيل بعد إيمانِكم الراسخِ
وفيه من تثبيت المؤمنين مالا يخفى
(2/64)
101 - 102 آل عمران
(2/65)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ
وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ
رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} استفهامٌ إنكاريٌّ
بمعنى إنكارِ الوقوعِ كما في قوله تعالى {كَيْفَ يَكُونُ
لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} الخ لا بمعنى إنكار الواقعِ كما في
قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا الخ وفي
توجيه الإنكارِ والاستبعادِ إلى كيفية الكفرِ من المبالغة ما
ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال أتكفرون لأن كلَّ موجودٍ لا
بد أن يكون وجودُه على حال من الأحوال فإذا أُنكِرَ ونُفيَ
جميعُ أحوال وجوده فقد انتفى وجودُه بالكلية على الطريق
البرهاني وقوله تعالى
{وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيات الله} جملةٌ وقعتْ حالاً من
ضمير المخاطَبين في تكفُرون مؤكدة للإنكار والاستبعاد بما فيها
من الشئون الداعيةِ إلى الثبات على الإيمان الوازعة عن الكفر
وقوله تعالى
{وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} معطوفٌ عليها داخلٌ في حكمها فإن تلاوةَ
آياتِ الله تعالى عليهم وكون رسوله عليه الصلاة والسلام بين
أظهُرِهم يعلِّمهم الكتابَ والحِكمةَ ويزكِّيهم بتحقيق الحقِّ
وإزاحةِ الشُّبَهِ من أقوى الزواجر عن الكفر وعدمُ إسنادِ
التلاوة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للإيذانِ باستقلالِ
كلَ منهُما في الباب
{وَمَن يَعْتَصِم بالله} أي ومن يتمسَّكْ بدينه الحقِّ الذي
بيَّنه بآياته على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام وهو
الإسلامُ والتوحيدُ المعبَّرُ عنه فيما سبق بسبيل الله
{فَقَدْ هُدِىَ} جوابٌ للشرط وقد لإفادة معنى التحقيقِ كأن
الهدى قد حصل فهو يُخْبَر عنه حاصلاً ومعنى التوقُّع فيه ظاهرٌ
فإن المعتصم به تعالى متوقع للهدى كما أن قاصدَ الكريم متوقّعٌ
للندى
{إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصلٍ إلى المطلوب والتنوينُ للتفخيم
والوصفُ بالاستقامة للتصريح بالرد على الذين يبغون له عوجاً
وهذا وإن كان هو دينَه الحقَّ في الحقيقة والاهتداءُ إليه هو
الاعتصامُ به بعينه لكن لمّا اختلف الاعتبارانِ وكان العنوانُ
الأخيرُ مما يتنافس فيه المتنافسون أُبرز في معرِض الجوابِ
للحثّ والترغيب على طريقة قولِه تعالى {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ
النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فاز}
(2/65)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} تكريرُ
الخطابِ بعنوان الإيمانِ تشريفٌ إثرَ تشريفٍ
{اتقوا الله} الاتقاءُ افتعالٌ من الوقاية وهي فرْطُ الصيانة
{حَقَّ تُقَاتِهِ} أي حقَّ تقواه وما يجب منها وهو استفراغُ
الوُسعِ في القيام بالموجب والاجتنابِ عن المحارم كما في قوله
تعالى فاتقوا الله مَا استطعتم وعن ابن مسعود رضي الله عنه هو
أن يُطاعَ ولا يعصى ويُذكرَ ولا يُنْسَى ويُشكَرَ ولا يُكْفَرَ
وقد روي مرفوعاً إليه عليه السلام وقيل هو أن لاتأخذه في الله
لومةُ لائمٍ ويقومَ بالقسط ولو على نفسه أو ابنِه أو ابيه وقيل
هو أن يُنزِّهَ الطاعةَ عن الالتفات إليها وعن توقع المجازاةِ
وقد مر تحقيقُ الحقِّ في ذلك عند قولِه عز وجل {هُدًى
لّلْمُتَّقِينَ} والتقاةُ مِن اتقى كالتُّؤَدة من اتّأَدَ
وأصلها وُقْيَة قلبت واوُها المضمومةُ تاءً كما في تُهمة
وتُخمة وياؤها المفتوحة ألفاً
{وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} أي مُخلصون
نفوسكم
(2/65)
103 - آل عمران
لله تعالى لا تجعلون فيها شِرْكةً لما سواه أصلاً كما في قوله
تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ
لِلَّهِ وهو استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أي لاتموتن على
حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ تحققِ إسلامِكم وثباتكم عليه كما
ينبئ عنه الجملةُ الاسميةُ ولو قيل إلا مسلمين لم يفد فائدتها
والعاملُ في الحال ما قبل إِلا بعد النقض وظاهرُ النظمِ
الكريمِ وإنْ كانِ نهياً عن الموت المقيَّد بقيدٍ هو الكونُ
على أي حال من غيرِ حالِ الإسلام لكنَّ المقصودَ هو النهيُ عن
ذلك القيدِ عند الموتِ المستلزمِ للأمر بضده الذي هو الكونُ
على حال الإسلامِ حينئذ وحيث كان الخطابُ للمؤمنين كان المرادُ
إيجابَ الثباتِ على الإسلام إلى الموت وتوجيهه النهي إلى الموت
للمبالغةِ في النَّهيِ عن قيده المذكور فإنه النهى عن المقيد
في أمثاله نهيٌ عن القيد ورفعٌ له من أصله بالكلية مفيدٌ لما
لا يفيده النهيُ عن نفس القيدِ فإن قولَك لاتصل إلا وأنت خاشعٌ
يفيد من المبالغة في إيجاب الخشوع في الصلاة مالا يفيده قولُك
لا تترُكِ الخشوعِ في الصلاة لما أن هذا نهيٌ عن ترك الخشوعِ
فقط وذاك نهيٌ عنه وعما يقارِنُه ومفيدٌ لكون الخشوعِ هو
العمدةَ في الصلاة وأن الصلاةَ بدونه حقُّها أن لا تُفعل وفيه
نوعُ تحذيرٍ عما وراءَ الموتِ وقوله عز وجل
(2/66)
وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ
فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
{واعتصموا بِحَبْلِ الله} أي بدين الإسلامِ
أو بكتابه لقوله عليه الصلاة والسلام القرآنُ حبلُ الله
المتينُ لاتنقضى عجائبُه ولا يخلَقُ من كثرة الردِّ مَنْ قال
به صدَقَ ومن عمِل به رَشَد ومن اعتصم به هُديَ إلى صراط
مستقيم إما تمثيلٌ للحالة الحاصلةِ من استظهارهم به ووثوقِهم
بحمايته بالحالة الحاصلةِ من تمسك المتدلي من مكان رفيعٍ بحبل
وثيقٍ مأمونِ الانقطاعِ من غير اعتبار مجازٍ في المفردات وإما
استعارةٌ للحبل لما ذُكر من الدين أو الكتاب والاعتصام ترشيحٌ
لها أو مستعارٌ للوثوق به والاعتمادِ عليه
{جَمِيعاً} حالٌ من فاعلِ اعتصموا أي مجتمعين في الاعتصام
{وَلاَ تَفَرَّقُواْ} أي لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلافِ
بينكم كأهل الكتابِ أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية يحارب
بعضُكم بعضاً أو لا تحدثوا ما يوجب التفريق ويُزيل الأُلفةَ
التي أنتم عليها
{واذكروا نِعْمَةَ الله} مصدر مضافٌ إلى الفاعل وقولُه تعالى
{عَلَيْكُمْ} متعلقٌ به أو بمحذوفٍ وقع حالا منه وقوله تعالى
{إِذْ كُنتُم} ظرفٌ له أو للاستقرار في عليكم أي اذكروا إنعامه
عليكم أو اذكروا إنعامة متسقرا عليكم وقت كونِكم
{أَعْدَاء} في الجاهلية بينكم إلامن والعداواتُ والحروبُ
المتواصلة وقيل هم الأوسُ والخزرجُ كانا أخوَين لأب وأمٍ فوقعت
بين أولادِهما العداوةُ والبغضاءُ وتطاولت الحروبُ فيما بينهم
مائةً وعشرين سنةً
{فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} بتوفيقكم للإسلام
{فَأَصْبَحْتُم} أي فصِرْتم
{بِنِعْمَتِهِ} التي هي ذلك التأليفُ
{إِخْوَانًا} خبرُ أصبحتم أي إخواناً متحابّين مجتمعين على
الأُخوّة في الله متراحمين متناصحين متفقين على كلمة الحقِّ
وقيل معنى فأصبحتم فدخلتم في الصباح فالباء حينئذ متعلقةٌ
بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الفاعل وكذا إخوانا أي فأصبحتم
(2/66)
104 - آل عمران
ملتبسين حالَ كونِكم إخواناً
{وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النار} شفا الحفرةِ
وشفَتُها حَرْفها أي كنتم مشرفين على الوقوع في نار جهنم
لكفرهم إذ لم أدرككم الموتُ على تلك الحالة لوقعتهم فيها
{فَأَنقَذَكُمْ} بأن هداكم للإسلام
{مِنْهَا} الضميرُ للحفرة أو للنار أو للشَفا والتأنيثُ للمضاف
إليهِ كما في قولِه ... كما شرِقَتْ صدر القتا من الدمِ ...
أو لأنه بمعنى الشَّفة فإن شَفا البئرِ وشفَتَها جانبُها
كالجانب وأصلُه شَفَوٌ قلبت الواوُ ألفاً في المذكر وحذفت في
المؤنث
{كذلك} إشارةٌ إلى مصدرِ الفعل الذي بعده وما فيه من معنى
البعد بعلو درجة المُشَارِ إليهِ وبُعدِ منزلتِه في الفضل
وكمالِ تميُّزِه به عما عداه وانتظامِه بسببه في سلك الأمور
المشاهدة والكاف مُقحَمَةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من
الفخامة ومحلُّها النصبُ على أنَّها صفةٌ لمصدر محذوف أي مثلَ
ذلك التبيينِ الواضحِ
{يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} أي دلائلَه
{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} طلباً لثباتكم على الهدى وازديادِكم
فيه
(2/67)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
{وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الخير} أمرهم الله سبحانه بتكميل الغير وإرشادِه إثرَ
أمرِهم بتكميل النفس وتهذيبِها بما قبله من الأوامر والنواهي
تثبيتاً للكل على مراعاة ما فيها من الأحكامِ بأن يقومَ بعضُهم
بمواجبها ويحافظَ على حقوقها وحدودِها ويذكرَها الناسَ كافةً
ويردَعَهم عن الإخلال بها والجمهورُ على إسكان لام الأمر وقرئ
بكسرها على الأصل وهو من كان التامة ومِنْ تبعيضيةٌ متعلقةٌ
بالأمر أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الفاعل وهو أُمَّةٍ ويدْعون
صفتُها أي لِتوجَدْ منكم أمةٌ داعيةٌ إلى الخير والأمة هي
الجماعة التي يؤُمُّها فِرَقُ الناسِ أي يقصدنها ويقتدون بها
أو من الناقصة وأمةٌ اسمُها ويدْعون خبرُها أي لتكن منكم أمةٌ
داعين إلى الخير وأياً ما كان فتوجيهُ الخطابِ إلى الكل مع
إسناد الدعوةِ إلى البعض لتحقيق معنى فرضيّتِها على الكفاية
وأنها واجبةٌ على الكل لكن بحيث إنْ أقامها البعضُ سقطت عن
الباقين ولو أخل بها الكلُّ أثِموا جميعاً لا بحيث يتحتّم على
الكل إقامتها على ما ينبئ عنه قولُه عزَّ وجلَّ وَمَا كَانَ
المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً الآية ولأنها من عظائم الأمورِ
وعزائمِها التي لايتولاها إلا العلماءُ بأحكامه تعالى ومراتبِ
الاحتساب وكيفية إقامتِها فإن من لايعلمها يوشِكُ أن يأمرَ
بمنكر وينهى عن معروف ويُغلِظَ في مقام اللينِ ويُلينَ في مقام
الغِلْظة وينكِرَ على من لا يزيده الإنكارُ إلا التماديَ
والإصرارَ وقيل مِنْ بيانية كما في قوله تعالى {وَعَدَ الله
الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم} الآية
والأمرُ من كان الناقصة والمعنى كونوا أمة يدعون الآية كقوله
تعالى {كُنتُمْ خير أمة أخرجت للناس} الآية ولا يقتضي ذلك كونَ
الدعوةِ فرضَ عينٍ فإن الجهادَ من فروض الكفاية مع ثبوته
بالخطابات العامة والدعاءُ إلى الخير عبارةٌ عن الدعاء إلى ما
فيه صلاحٌ دينيٌّ أو دنيويٌّ فعطفُ الأمرِ بالمعروف والنهْيِ
عن المنكر عليه بقوله تعالى
{وَيَأْمُرُونَ بالمعروفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكرِ} مع
اندراجهما فيه من باب عطف الخاصِّ على العام لإظهار فضلهما
وإنافتهما على سائر الخيراتِ كعطف جبريلَ وميكالَ على
الملائكةِ عليهم السلام وحذْفُ المفعولِ الصريحِ من الأفعال
الثلاثة إما للإيذان بظهوره أي يدْعون الناسَ ويأمُرونهم
وينهَوُنهم
(2/67)
105 - آل عمران
وإما للقصد إلى إيجاد نفسِ الفعل كما في قولك فلانٌ يُعطِي
ويمنعُ أيْ يفعلون الدعاءَ إلى الخير والأمرَ بالمعروف والنهي
عن المنكر
{وَأُوْلئِكَ} إشارةٌ إلى الأمة المذكورة باعتبار اتصافِهم بما
ذُكر من النعوتِ الفاضلةِ وكمالِ تميُّزِهم بذلك عمنْ عداهم
وانتظامِهم بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى
البعد للإشعار بعلو طبقتِهم وبُعدِ منزلتِهم في الفضلِ
والإفرادُ في كاف الخطابِ إما لأن المخاطَب كلُّ من يصلُح
للخطاب وإما لأن التعيينَ غيرُ مقصودٍ أي أولئك الموصوفون بتلك
الصفاتِ الكاملة
{هُمُ المفلحون} أي هم الأخصاء بكمال الفلاحِ وهم ضميرُ فصلٍ
يفصِلُ بين الخبر والصفةِ ويؤكد النسبةَ ويفيد اختصاصَ المسندِ
بالمسند إليه أو مبتدأٌ خبرُه المفلحون والجملةُ خبرٌ لأولئك
وتعريفُ المفلحون إما للعهد أو للإشارة إلى ما يعرِفُه كلُّ
أحد من حقيقة المفلحين روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه سُئل عن خير الناسِ فقال آمَرُهم بالمعروف وأنهاهم عن
المنكر وأتقاهم الله وأوصلُهم للرحم وعنه عليه السلام من أمر
بالمعرف ونهى عن المنكر فهو خليفةُ الله في أرضه وخليفةُ
رسولِه وخليفةُ كتابِه وعنه عليه السلام والذي نفسى بيده لتأ
بالمعروفِ ولتنهَوُنَّ عن المُنْكَرِ أو لَيُوشِكَنَّ الله أَن
يَبْعَثَ عَلَيْكُم عَذَاباً من عنده ثم لتَدْعُنَّه فلا
يُستجاب لكم وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه أفضلُ الجهادِ الأمرُ
بالمعروف والنهيُ عن المنكر ومن شنَأَ الفاسقين وغضِب لله
غضِبَ الله له والأمرُ بالمعروف في الوجوب والندبِ تابعٌ
للمأمور به وأما النهيُ عن المنكر فواجبٌ كلُّه فإن جميعَ ما
أنكره الشرعُ حرامٌ والعاصي يجب عليه النهيُ عما ارتكبه إذ يجب
عليه تركُه وإنكارُه فلا يسقط بترك أحدهما وجوب شئ منهما
والتوبيخُ في قوله تعالى أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر
وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ إنما هو على نسيان أنفسِهم لا على
أمرهم بالبر وعن السلف مُروا بالخير وإن لم تفعلوا
(2/68)
وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(105)
{وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ} هم
أهلُ الكتابين حيث تفرقت اليهودُ فِرَقاً والنصارى فِرَقاً
{واختلفوا} باستخراج التأويلاتِ الزائغةِ وكتمِ الآياتِ
الناطقةِ وتحريفِها بما أخلدوا إليه من حُطام الدُّنيا
الدنيئةِ
{مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البينات} أي الآياتُ الواضحةُ
المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه واتحادِ الكلمة فالنهيُ
متوجهٌ إلى المتصدِّين للدعوة أصالةً وإلى أعقابهم تَبَعاً
ويجوز تعميمُ الموصولِ للمختلِفين من الأمم السالفةِ المشار
إليهم بقوله عز وجل {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ
مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات} وقيل هم المبتدِعة من هذه
الأمة وقيل هم الحرَورية وعلى كل تقدير فالمنهيُّ عنه إنما هو
الاختلافُ في الأصول دون الفروعِ إلا أن يكون مخالفاً للنصوص
البيِّنة أو الإجماعِ لقوله عليه الصلاة والسلام اختلافُ أمتي
رحمةٌ وقولِه عليه السلام من اجتهد فأصاب فله أجرانِ ومن أخطأ
فله أجرٌ واحدٌ وَأُوْلئِكَ إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار
اتصافِهم بما في حِّيزِ الصلة وهو مبتدأٌ وقولُه تعالى
{لَهُمْ} خبرُه وقوله تعالى
{عَذَابٌ عظِيمٌ} مرتفع بالظرف على الفاعليةِ لاعتمادِه على
المبتدأ أو مبتدأٌ والظرفُ خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول
وفيه من التأكيد والمبالغةِ في وعيد المتفرِّقين والتشديدِ في
تهديد المشبهين بهم مالا يخفى
(2/68)
106 - 107 108 آل عمران
(2/69)
يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ
وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا
الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} أي وجوه كثيرة
تبياضُّ
{وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} كثيرة وقرئ تسْوادُّ وعن عطاءٍ تبيضُّ
وجوهُ المهاجرين والأنصارِ وتسْوَدّ وجوهُ بني قرَيظةَ
والنَّضير ويومَ منصوبٌ على أنه ظرفٌ للاستقرار في لهم أي
لثبوت العذابِ العظيمِ لهم أو على أنَّه مفعولٌ لمضمر خوطب به
المؤمنون تحذيراً لهم عن عاقبة التفريق بعد مجئ البيناتِ
وترغيباً في الاتفاق على التمسك بالدين أي اذكُروا يوم تبيض
الخ وبياضُ الوجهِ وسوادُه كنايتان عن ظهور بهجةِ السرورِ
وكآبةِ الخوفِ فيه وقيل يوسَمُ أهلُ الحقِّ ببياض الوجهِ
والصحيفةِ وإشراقِ البَشرَة وسعْيِ النورِ بين يديه وبيمينه
وأهلُ الباطلِ بأضداد ذلك
{فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} تفصيلٌ لأحوال الفريقين
بعد الإشارةِ إليها إجمالاً وتقديمُ بيانِ هؤلاءِ لما أن
المَقام مقامُ التحذيرِ عن التشبه بهم مع ما فيه من الجمع بين
الإجمال والتفصيلِ والإفضاءِ إلى ختم الكلامِ بحسن حال
المؤمنين كما بدئ بذلك عند الإجمالِ
{أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم} على إرادةِ القولِ أيْ فيقال
لهم ذلك والهمزةُ للتوبيخ والتعجيبِ من حالهم والظاهرُ أنهم
أهلُ الكتابين وكفرُهم بعد إيمانِهم كفرُهم برسولِ الله صلَّى
الله عليه وسلم بعد إيمانِ أسلافِهم أو إيمانِ أنفسِهم به قبلَ
مبعثِه عليه الصلاة والسلام أو جميعُ الكفرة حيث كفروا بعد ما
أقروا بالتوحيد يومَ الميثاقِ أو بعد ما تمكنوا من الإيمان
بالنظر الصحيحِ والدلائلِ الواضحة والآيات البنية وقيل
المرتدون وقيل أهلُ البدعِ والأهواءِ والفاء في قوله عز وعلا
{فَذُوقُواْ العذاب} أي العذابَ المعهودَ الموصوف بالعظم
الدلالة على أن الأمرَ بذَوْق العذابِ على طريق الإهانةِ
مترتبٌ على كفرهم المذكورِ كما أن قولَه تعالى
{بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} صريحٌ في أن نفسَ الذوْقِ
معلَّلٌ بذلك والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على
استمرار كفرِهم أو على مُضيِّه في الدنيا
(2/69)
وَأَمَّا الَّذِينَ
ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (107)
{وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِى
رَحْمَةِ الله} أعني الجنةَ والنعيمَ المخلِّدَ عُبِّر عنها
بالرحمة تنبيهاً على أن المؤمنَ وإن استغرق عمرَه في طاعة الله
تعالى فإنه لا يدخُل الجنةَ إلا برحمته تعالى وقرئ ابياضت كما
قرئ اسوادَّتْ
{هُمْ فِيهَا خالدون} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ من
السياق كأنه قيل كيف يكونون فيها فقيل هُمْ فِيهَا خالدون لا
يظعَنون عنها ولا يموتون وتقديمُ الظرفِ للمحافظة على رءوس
الآي
(2/69)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ
نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا
لِلْعَالَمِينَ (108)
{تِلْكَ} إشارةٌ إلى الآيات المشتملةِ على
تنعيم الأبرارِ وتعذيبِ الكفارِ ومعنى البُعدِ للإيذان بعلو
شأنِها وسُمّو مكانِها في الشرف وهو مبتدأُ وقولُه تعالى
{آيات الله} خبرُه وقوله تعالى
{نَتْلُوهَا} جملةٌ حالية من الآيات والعاملُ فيها معنى
الإشارةِ أو هي الخبرُ وآياتُ الله بدلٌ من اسمِ الإشارةِ
والالتفاتُ إلى التكلم
(2/69)
109 - 110 آل عمران
بنون العظمةِ مع كون التلاوةِ على لسانِ جبريلَ عليهِ السلام
لإبراز كمالِ العناية بالتلاوة وقرئ يتلوها على إسنادِ الفعلِ
إلى ضميره تعالى وقوله تعالى
{عَلَيْكَ} متعلقٌ بنتلوها وقوله تعالى
{بالحق} حالٌ مؤكدةٌ من فاعلِ نتلوها أو من مفعولِه أي ملتبسين
أو ملتبسةً بالحق والعدل ليس في حكمها شائبةُ جَوْر بنقص ثوابِ
المحسنِ أو بزيادة عقاب المسئ أو بالعقاب من غير جُرْم بل كلُّ
ذلك مُوفًّى لهم حسبَ استحقاقِهم بأعمالهم بموجب الوعدِ
والوعيدِ وقوله تعالى
{وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ
ما قبله على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه فإن تنكيرَ الظلم وتوجيهَ
النفي إلى إرادته بصيغة المضارعِ دون نفسِه وتعليقَ الحكمِ
بآحاد الجمع المعرف والالتفاتُ إلى الإسم الجليل إشعارا بعلة
الحكم بيان لكمال نزاهتة عز وجل عن الظلم بما لا مزيدَ عليهِ
أي ما يريد فرداً من أفراد الظلم لفرد من أفراد العالمين في
وقتٍ من الأوقاتِ فضلاً عن أن يظلِمَهم فإن المضارعَ كما يفيد
الاستمرارَ في الإثبات يفيده في النَّفي بحسبِ المقامِ كما أن
الجملةَ الاسمية تدل بمعونة المقام على دوام الثبوتِ وعند
دخولِ حرفِ النفي تدل على دوام الانتفاءِ لا على انتفاء
الدوامِ وفي سبك الجملةِ نوعُ إيماءٍ إلى التعريض بأن الكفرَةَ
هم الظالمون ظلُموا أنفسَهم بتعريضِها للعذابِ الخالد كما في
قوله تعالى {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس
أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
(2/70)
وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ (109)
{ولله ما في السماوات وَمَا فِي الأرض} أي
له تعالى وحده من غير شِرْكةٍ أصلاً ما فيهما من المخلوقاتِ
الفائنة للحصر مُلكاً وخلقاً إحياءً وإماتةً وإثابةً وتعذيباً
وإيرادُ كلمةِ مَا إما لتغليب غيرِ العقلاءِ على العقلاءِ وإما
لتنزيلهم منزلةَ غيرِهم إظهاراً لحقارتهم في مقام بيانِ عظمتِه
تعالى
{وإلى الله} أي إلى حُكمه وقضائِه لا إلى غيره شِرْكةً أو
استقلالاً
{تُرْجَعُ الامور} أي أمورُهم فيجازي كلاً منهم بما وَعد له
وأوعده من غير دخلٍ في ذلك لأحد قطُّ فالجملةُ مقررةٌ لمضمون
ما ورد في جزاء الفريقين وقيل هي معطوفةٌ على ما قبلها مقرّرةٌ
لمضمونه فإن كونَ العالمين عبيدَه تعالى ومخلوقَه ومرزوقَه
يستدعي إرادةَ الخير بهم
(2/70)
كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ
آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} كلامٌ مستأنفٌ
سيق لتثبيتِ المؤمنينِ عَلى ما هم عليه من الاتفاق على الحق
والدعوةِ إلى الخير وكنتم من كان الناقصةِ التي تدل على تحقق
شئ بصفة في الزمان الماضي من غير دلالة على عدم سابقٍ أو لاحق
كما في قوله تعالى {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} وقيل
كنتم كذلك في علم الله أو في اللَّوحِ أو فيما بين الأمم
السالفةِ وقيل معناه أنتم خيرُ أمة
{أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} صفةٌ لأمة واللام متعلقةٌ بأخرجت أي
أظهِرَت لهم وقيل بخير أمةٍ أي كنتم خير الناس فهو صريحٌ في أن
الخيريةَ بمعنى النفعِ للناس وإن فُهم ذلك من الإخراج لهم
أيضاً أي أخرجَتْ لأجلهم ومصلحتِهم قال أبو هريرةَ رضيَ الله
عنه معناه كنتم خيرَ الناسِ تأتون بهم في السلاسل فتُدخِلونهم
في الإسلام وقال قتادة هم أمةُ محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم لم
يؤمر نبى
(2/70)
111 - آل عمران
قبله بالقتال فهم يقاتلون الكفارَ فيدخلونهم في الإسلام فهم
خيرُ أمةٍ للناس
{تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} استئناف مبين
لكونم خيرَ أمة كما يقال زيدٌ كريمٌ يطعم الناسَ ويكسوهم ويقوم
بمصالحهم أو خبرٌ ثانٍ لكنتم وصيغةُ الاستقبال للدِلالة على
الاستمرار وخطابُ المشافهةِ وإن كان خاصاً بمن شاهد الوحيَ من
المؤمنين لكن حُكمَه عامٌ للكل قال ابن عباس رضي الله عنهما
يريد أمة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وقال الزجاج أصلُ هذا
الخطابِ لأصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمُّ سائرَ
أمتِه وروى الترمذيُّ عن بَهْزِ بنِ حكيم عن أبيه عن جده أنه
سمع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يقول في قوله تعالى
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أنتم تُتِمّون
سبعين أمةً أنتم خيرُها وأكرمُها على الله تعالى وظاهرٌ أن
المرادَ بكل أمةٍ أوائلهم وأواخرهم لاأوائلهم فقط فلا بد أن
تكون أعقابُ هذه الأمةِ أيضاً داخلةً في الحكم وكذا الحالُ
فيما رُوي أن مالكَ بنَ الصيف ووهب ابن يهوذا اليهوديَّين مرّا
بنفرٍ من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فيهم ابنُ مسعود
وأبيُّ بنُ كعبٍ ومعاذُ بنُ جبل وسالمٌ مولى حذيفةَ رضوانُ
الله عليهم فقالا لهم نحن أفضلُ منكم ودينُنا خيرٌ مما تدعوننا
إليه ورَوى سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى المدينة ورُوي عن الضحاك أنهم أصحابُ رسولِ الله
صلى الله عليه وسلم خاصةً الرواةُ والدعاةُ الذين أمر الله
المسلمين بطاعتهم
{وَتُؤْمِنُونَ بالله} أي إيماناً متعلقاً بكلِّ ما يجبُ أنْ
يؤمَنَ به من رسول وكتابٍ وحساب وجزاءٍ وإنما لم يصرح به
تفصيلاً لظهور أنه الذي يؤمِن به المؤمنون وللإيذان بأنه هو
الإيمانُ بالله تعالى حقيقةً وأن ما خلا عن شئ من ذلك كإيمان
أهلِ الكتابِ ليس من الإيمان به تعالى في شئ قال تعالى
{وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً أُوْلَئِكَ
هُمُ الكافرون حَقّاً} وإنما أُخِّر ذلك عن الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر مع تقدمه عليهما وجوداً ورُتبةً لأن
دَلالتَهما على خيريتهم للناس أظهرُ من دلالته عليها وليقترن
به قولُه تعالى
{وَلَوْ آمن أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} أي لو
آمنوا كإيمانكم لكان ذلك خيراً لهم مما هم عليه من الرياسة
واستتباعِ العوامِّ ولازدادت رياستُهم وتمتُّعهم بالحظوظ
الدنيويةِ مع الفوز بما وُعِدوه على الإيمان من إيتاء الأجرِ
مرتين وقيل مما هم فيه من الكفر فالخيريةُ إنما هي باعتبار
زعمِهم وفيه ضربُ تهكّمٍ بهم وإنما لم يتعرَّضْ للمؤمَنِ به
أصلاً للإشعار بظهور أنه الذي يُطلق عليه اسمُ الإيمانِ لا
يذهبُ الوهمُ إلى غيره ولو فُصِّل المؤمَنُ به ههنا أو فيما
قبلُ لربما فُهم أن لأهل الكتاب أيضاً إيماناً في الجملة لكن
إيمانَ المؤمنين خيرٌ منه وهيهاتَ ذلك
{مّنْهُمُ المؤمنون} جملةٌ مستأنفة سيقت جواباً عمَّا نشأَ من
الشرطية الدالةِ على انتفاء الخيريةِ لانتفاء الإيمانِ عنهم
كأنه قيل هل منهم من آمن أو كلُّهم على الكفر فقيل منهم
المؤمنون المعهودون الفائزون بخير الدارين كعبدِ اللَّه بنِ
سَلاَم وأصحابُه
{وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} المتمردون في الكفر الخارجون عن
الحدود
(2/71)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ
إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ
ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
{لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} استثناءٌ
مفرّغٌ من المصدر العام أي لن يضروكم أبداً ضرراً ما إلا ضررَ
أذىً لا يبالى به من طعنٍ وتهديدٍ لا أثر له
{وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الادبار} أي ينهزمون من غير أن
ينالوا منكم شيئاً من قتل أو أسرٍ
{ثُمَّ لا ينصرون} عطف
(2/71)
112 - 113 آل عمران
على الشرطية وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ أي لا يُنصرون من جهة
أحدٍ ولا يُمنعون منكم قتلاً وأخذاً وفيه تثبيتٌ لمن آمن منهم
فإنهم كانوا يؤذونهم بالتلهي بهم وتوبيخِهم وتضليلِهم
وتهديدِهم وبشارةٌ لهم بأنهم لا يقدِرون على أن يتجاوزوا الأذى
بالقول إلى ضرر يُعبأ به مع أنه وعدهم الغلَبةَ عليهم
والانتقامَ منهم وأن عاقبةَ أمرِهم الخِذلانُ والذلُّ وإنما لم
يُعطَفْ نفيُ منْصوريّتِهم على الجزاء لأن المقصودَ هو الوعدُ
بنفي النصرِ مطلقاً ولو عطف عليه لكان مقيداً بمقاتلتهم كتولية
الأدبارِ وكم بين الوعدين كأنه قيل ثم شأنُهم الذي أخبركم عنه
وأبشرَكم به أنهم مخذولون مُنتفٍ عنهم النصرُ والقوةُ لا
ينهضون بعد ذلك بجَناحٍ ولا يقومون على ساق ولا يستقيم لهم
أمرٌ وكان كذلك حيث لقيَ بنو قريظةَ والنضيرِ وبنو قينُقاع
ويهودُ خيبرَ ما لقُوا
(2/72)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ
وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا
يَعْتَدُونَ (112)
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} أي هدرُ
النفسِ والمالِ والأهلِ أو ذل التمسكِ بالباطل
{أَيْنَمَا ثُقِفُواْ} أي وُجدوا
{إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله وَحَبْلٍ مّنَ الناس} استثناءٌ من
أعم الأحوال أيْ ضربت عليهم الذلةُ ضربَ القُبةِ على مَنْ هي
عليه في جميعِ الأحوال إلاَّ حالَ كونِهم معتصمين بذمة الله أو
كتابِه الذي أتاهم وذمةِ المسلمين أو بذمة الإسلام واتباعِ
سبيلِ المؤمنين
{وباؤوا بِغَضَبٍ مّنَ الله} أي رجعوا مستوجبين له والتنكيرُ
للتفخيم والتهويل ومن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لغضب مؤكدةٌ لما
أفاده التنكيرُ من الفخامة والهول أي كائن من الله عز وجل
{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة} فهي محيطةٌ بهم من جميع
جوانبِهم واليهودُ كذلك في غالب الحالِ مساكينُ تحت أيدي
المسلمين والنصارى
{ذلك} إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم والبَوْءِ
بالغضب العظيم
{بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله} أي ذلك الذي
ذكر كائنٌ بسبب كفرِهم المستمرِّ بآياتِ الله الناطقةِ بنبوة
محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وتحريفِهم لها وبسائر الآياتِ
القرآنية
{وَيَقْتُلُونَ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ} أي في اعتقادهم ايضا
واسناد القتل مع أنه فعلُ أسلافِهم لرضاهم به كما أن التحريفَ
مع كونه من أفعال أحبارِهم يُنسَبُ إلى كل من يسير بسيرتهم
{ذلك} إشارة إلى ما ذُكر من الكفر والقتل
{بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} أي كائنٌ بسبب
عصيانِهم واعتدائهم حدود الله تعالى على الاستمرار فإن
الإصرارَ على الصغائر يُفضي إلى مباشرة الكبائِر والاستمرارَ
عليها يؤدي إلى الكفر وقيل معناه أن ضربَ الذلةِ والمسكنةِ في
الدنيا واستيجابَ الغضبِ في الآخرة كما هو معلَّلٌ بكفرهم
وقتلِهم فهو مسبَّبٌ عن عصيانهم واعتدائِهم من حيث إنهم
مخاطَبون بالفروع من حيث المؤاخذة
(2/72)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ
آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
{لَيْسُواْ سَوَاء} جملةٌ مستأنفة سيقت
تمهيداً لتعداد محاسِن مؤمني أهلِ الكتابِ وتذكيراً لقوله
تعالى {مّنْهُمُ المؤمنون} والضميرُ في ليسوا لأهل الكتاب
جميعاً لا للفاسقين منهم خاصة وهو اسمُ ليس وخبرُه سواءً وإنما
أُفرد لأنه في الأصل مصدرٌ
(2/72)
والمرادُ بنفي المساواةِ نفيُ المشاركة في
أصل الاتصاف بالقبائح المذكورةِ لا نفيُ المساواةِ في مراتب
الاتصافِ بها مع تحقق المشاركة في أصل الاتصافِ بها أي ليس
جميعُ أهل الكتابِ متشاركين في الاتِّصافُ بما ذُكر من القبائح
والابتلاءِ بما يترتب عليها من العقوبات وقوله تعالى
{مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} استئنافٌ مبينٌ لكيفية
عدمِ تساويهم ومزيل لما فيه من الإبهامِ كما أن ما سبقَ من
قولِه تعالى {تَأْمُرُونَ بالمعروف} الآية مبينٌ لقوله تعالى
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} الخ ووضعُ أهلِ الكتابِ موضعَ
الضميرِ العائد إليهم لتحقيق ما به الاشتراكُ بين الفريقين
والإيذانِ بأن تلك الأمةَ ممن أوتي نصيباً وافراً من الكتاب لا
من أرذالهم والقائمةُ المستقيمةُ العادلةُ مِن أقمتُ العودَ
فقام بمعنى استقام وهم الذين أسلموا منهم كعبدِ اللَّهِ بنِ
سَلاَم وثعلبةَ بنِ سعيد وأُسَيْدِ بنِ عبيد وأضرابِهم وقيل هم
أربعون رجلاً من أهل نجرانَ واثنان وثلاثون من الحبشة وثلاثةٌ
من الروم كانوا على دين عيسى وصدّقوا محمداً عليهما الصلاة
والسلام وكان من الأنصار فيهم عدةٌ قبل قدوم النبيِّ صلَّى
الله عليهِ وسلم منهم أسعدُ بنُ زُرارة والبراءُ بن معرورٍ
ومحمدُ بنُ مسلمةَ وأبو قيس صرمة ابن أنسٍ كانوا موحّدين
يغتسلون من الجنابة ويقومون بما يعرِفون من شرائع الحنيفيةِ
حتى بعث الله النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم فصدّقوه ونصَروه
وقوله تعالى
{يتلون آيات الله} في محلِ الرفعِ على أنه صفةٌ أخرى لأمة وقيل
في محل النصب على أنه حال منها لتخصُّصها بالنعت والعاملُ فيه
الاستقرارُ الذي يتضمنه الجارُّ أوْ مِنْ ضميرِهَا في
قَائِمَةً أو من المستكنِّ في الجارِّ لوقوعه خبراً لأمة
والمرادُ بآياتِ الله القرآنُ وقوله تعالى
{آناءَ اللَّيْل} ظرفٌ ليتلون أي في ساعاته جمع أَنىً بزنة عصا
أو إِنىً بزنة مِعىً أو أنْي بزنة ظبْي أو إنْي بزنة نِحْي أو
إنْو بزنة جِرْو
{وَهُمْ يَسْجُدُونَ} أي يصلّون إذ لا تلاوة في السجود قال صلى
الله عليه وسلم ألا إني نُهيت أن أقرأ راكعاً وساجداً وتخصيصُ
السجودِ بالذكر من بين سائر أركانِ الصلاةِ لكونه أدلَّ على
كمال الخضوعِ والتصريحُ بتلاوتهم آياتِ الله في الصلاة مع أنها
مشتملةٌ عليها قطعاً لزيادة تحقيقِ المخالفةِ وتوضيحِ عدمِ
المساواةِ بينهم وبين الذين وُصفوا آنفاً بالكفر بها وهو
السرُّ في تقديم هذا النعتِ على نعت الإيمانِ والمرادُ بصلاتهم
التهجدُ اذا هو أدخلُ في مدحهم وفيه يتسنى لهم التلاوةُ فإنها
في المكتوبة وظيفةُ الإمامِ واعتبارُ حالِهم عند الصلاةِ على
الانفراد يأباه مقامُ المدحِ وهو الأنسبُ بالعدول عن إيرادها
باسم الجنسِ المتبادرِ منه الصلاةُ المكتوبة وبالتعبير عن
وقتها بالآناء المُبهمة وقيل صلاةُ العِشاءِ لأن أهلَ الكتاب
لا يصلّونها لما رُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
أخّرها ليلةً ثم خرجَ فإذا الناسُ ينتظرون الصلاةَ فقال أما
إنه ليس من أهل الأديان أحدٌ يذكرُ الله هذه الساعةَ غيرُكم
وقرأ هذه الآية وإيرادُ الجملةِ اسميةً للدَلالة على الاستمرار
وتكريرُ الإسنادِ لتقوية الحكمِ وتأكيدِه وصيغةُ المضارع
للدلالة على التجدد والجملة حال من فاعل يتولون وقيل هي
مستأنفةٌ والمعنى أنهم يقومون تارةً ويسجدون أخرى يبتغون
الفضلَ والرحمةَ بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله عزَّ
وجلَّ كما في قوله تعالى وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ
سُجَّداً وقياما وقيل المرادُ بالسجود هو الخضوعُ كما في قوله
تعالى {وَللَّهِ يَسْجُدُ من في السماوات والأرض}
(2/73)
114 - 115 آل عمران
(2/74)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
{يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر} صفةٌ
أخرى لأُمةٌ مبينةٌ لمُباينتهم اليهودَ من جهة أخرى أي يؤمنون
بها على الوجه الذي نطقَ به الشرعُ والإطلاقُ للإيذان بالغنى
عن التقييد لظهور أنه الذي يُطلق عليه الإيمان بهما لا يذهبُ
الوهمُ إلى غيره وللتعريض بأن إيمانَ اليهودِ بهما مع قولهم
عزيرٌ ابنُ الله وكفرِهم ببعض الكتبِ والرسلِ ووصفِهم اليومَ
الآخِرَ بخلاف صفتِه ليس من الإيمان بهما في شئ أصلاً ولو قُيد
بما ذكر لربما تُوُهِّم أن المنتفيَ عنهم هو القيدُ المذكورُ
مع جواز إطلاقِ الإيمانِ على إيمانهم بالأصل وهيهات
{وَيَأْمُرُونَ بالمعروفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكرِ} صفتان
أُخْرَيان لأُمةٌ أُجرِيتا عليهم تحقيقاً لمخالفتهم اليهودَ في
الفضائل المتعلقةِ بتكميل الغيرِ إثرَ بيانِ مُباينتِهم لهم في
الخصائص المتعلقةِ بتكميل النفسِ وتعريضاً بمداهنتهم في
الاحتساب بل بتعكيسهم في الأمر بإضلال الناسِ وصدِّهم عن سبيل
الله فإنه أمرٌ بالمنكر ونهيٌ عن بالمعروف
{ويسارعون فِى الخيرات} صفةٌ أخرى لأمةٌ جامعةٌ لفنون المحاسنِ
المتعلقةِ بالنفس وبالغير والمسارعةُ في الخير فرطُ الرغبةِ
فيه لأن من رغِب في الأمر سارع في توليته والقيامِ به وآثر
الفَورَ على النراخي أي يبادرون مع كمال الرغبةِ في فعل أصنافِ
الخيراتِ اللازمةِ والمتعدية وفيه تعريضٌ بتباطؤ اليهودِ فيها
بل بمبادتهم إلى الشرور وإيثارُ كلمةِ فِى على ما وقع في قولِه
تعالى {وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ} الخ للإيذان بأنهم
مستقِرّون في أصل الخيرِ متقلّبون في فنونه المترتبةِ في طبقات
الفضلِ لا أنَّهم خارجُون عنها منتهون إليها
{وَأُوْلئِكَ} إشارةٌ إلى الأمة باعتبار اتصافِهم بما فُصّل من
النُّعوتِ الجليلةِ وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو
درجتِهم وسُموِّ طبقتِهم في الفضل وإيثارُه على الضميرِ
للإشعارِ بعلةِ الحُكم والمدح أي أولئك المنعوتون بتلك الصفاتِ
الفاضلة بسبب اتصافِهم بها
{مّنَ الصالحين} أي من جملة من صلَحَت أحوالهم عند الله عز وجل
واستحقوا رضاه وثناءَه
(2/74)
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
(115)
{وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} كائناً ما
كان مما ذُكر أو لم يُذكر
{فَلَنْ يُكْفَروهُ} أي لن يعدَموا ثوابَه اْلبتةَ عبّر عنه
بذلك كما عبر عن تَوْفية الثوابِ بالشكر إظهاراً لكمال تنزّهِه
سبحانه وتعالى عن ترك إثابتِهم بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ
صدورُه عنه تعالى من القبائح وتعديتُه إلى مفعولين بتضمين معنى
الحرمانِ وإيثارُ صيغةِ البناءِ للمفعولِ للجَريِ على سَنَنِ
الكبرياءِ وقرئ الفعلانِ على صيغة الخطاب
{والله عَلِيمٌ بالمتقين} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله فإن
علمَه تعالى بأحوالهم يستدعي تَوْفيةَ أجورِهم لا محالة
والمرادُ بالمتقين إما الأمةُ المعهودةُ وضع موضِعَ الضميرِ
العائدِ إليهم مدحاً لهم وتعييناً لعُنوان تعلّقِ العلمِ بهم
وإشعاراً بمناط اثابتهم وهو التقوى المنطوي على الخصائص
السالفةِ وإما جنسُ المتقين عموماً وهم مندرجون تحت حكمه
اندارجا أوليا
(2/74)
116 - 117 آل عمران
(2/75)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا
أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} أي بما يجبُ أنْ
يُؤمن بِهِ قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما هم بنو قُريظةَ
والنضير فإن معاندتَهم كانت لأجل المالِ وقيل هم مشركو قريشٍ
فإن أبا جهلٍ كان كثيرَ الافتخار بماله وقيل أبو سفيان
وأصحابُه فإنه أنفق مالاً كثيراً على الكفار يومَ بدرٍ وأحُد
وقيل هم الكفارُ كافةً فإنهم فاخروا بالأموال والأولادِ حيث
قالوا نَحْنُ أكثرُ أموالا وأولادا وما نحن بمعذّبين فردَّ
الله عز وجل عليهم وقال
{لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ} أي لن تدفَع عَنْهُمْ
{أموالهم وَلاَ أولادهم من الله} أي من عذابِهِ تعالَى
{شَيْئاً} أي شيئاً يسيراً منه أو شيئاً من الإغناءِ
{وَأُوْلئِكَ أصحاب النار} أي مصاحبوها على الدوام وملازموها
{هُمْ فِيهَا خالدون} أبداً
(2/75)
مَثَلُ مَا
يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ
فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هذه الحياةِ
الدنيا} بيانٌ لكيفية عدمِ إغناءِ أموالِهم التي كانوا
يعوِّلون عليها في جلبِ المنافعِ ودفعِ المضارِّ ويعلِّقون بها
أطماعَهم الفارغةَ وما موصولةٌ اسميةٌ حُذف عائدُها أي حالُ ما
ينفقه الكفرةُ قربةً أو مفاخرةً وسُمعةً أو المنافقون رياءً
وخوفاً وقصتُه العجيبةُ التي مجرى المثل في الغرابة
{كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} أي بردٌ شديدٌ فإنه في الأصل
مصدرٌ وإن شاع إطلاقُه على الريح الباردة كالصر صر وقيل كلمة
في تجريدية كما في قوله تعالى {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى
رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
{أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بالكفر
والمعاصي فباءوا بغضب من الله وإنما وُصفوا بذلك لأن الإهلاكَ
عن سَخَط أشدُّ وأفظع
{فَأَهْلَكَتْهُ} عقوبةً لهم ولم تدَعْ منه أثراً ولا
عِثْيَراً والمرادُ تشبيهُ ما أنفقوا في ضياعه وذهابِه بالكلية
من غير أن يعودَ إليهم نفعٌ ما بحرث كفارٍ ضربتْه صِرٌّ
فاستأصلتْه ولم يبقَ لهم فيه منفعةٌ ما بوجه من الوجوه وَهُوَ
من التشبيه المركبَ الذي مرَّ تفصيلُه في تفسيرِ قولِه تعالى
{كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً} ولذلك لم يبالِ بإيلاء كلمةِ
التشبيهِ الريحَ دون الحرثِ ويجوز أن يرادَ مثَلُ إهلاكِ ما
ينفقون كمثَل إهلاكِ ريحٍ أو مثلُ ما ينفقون كمثَل مهلِكِ ريحٍ
وهو الحرثُ وقرئ تنفقون
{وَمَا ظَلَمَهُمُ الله} بما بين من ضياع ما أنفقوا من الأموال
{ولكن أَنفُسَهُمْ يظلمون} لما أنهم أضاعوها بإنفاقها لا على
ما ينبغي وتقديمُ المفعولِ لرعاية الفواصلِ لا للتخصيص إذ
الكلامُ في الفعل باعتبار تعلّقِه بالفاعل لا بالمفعول أي ما
ظلمهم الله ولكن ظلموا أنفسَهم وصيغة المضارع للدلالة على
التجدد والاستمرارِ وقد جُوِّز أن يكون المعنى وما ظلم الله
تعالى أصحابَ الحرْثِ بإهلاكه ولكنهم ظلموا أنفسَهم بارتكاب ما
استحقوا به العقوبةَ ويأباه أنه قد مر التعرُّضُ له تصريحا
وإشعارا وقرئ ولكنّ بالتشديد على أن أنفسَهم اسمُها ويظلِمون
خبرُها والعائدُ محذوفٌ للفاصلة أي ولكنَّ أنفسَهم يظلِمونها
وأما تقديرُ ضميرِ الشأن فلا سبيلَ إليه لاختصاصه بالشعر
ضرورةٍ كما في قوله ... ولكنَّ منْ يُبصِر جفونَك يعشق ...
(2/75)
118 - 119 البقرة
(2/76)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ
لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ
الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ (118)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ
تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً} بطانةُ الرجل ووَليجتُه مَنْ يُعرِّفه
أسرارَه ثقةً به شُبِّه ببطانة الثوب كما شُبِّه بالشعار قال
صلى الله عليه وسلم الأنصارُ شِعار والناسُ دِثار قال ابن عباس
رضي الله عنهما كان رجال من المؤمنين يواصلون اليهودَ لما
بينهم من القرابة والصداقة والحلف فأنزل الله تعالى هذه الآسية
وقال مجاهد نزلتْ في قوم من المؤمنين كانوا يواصلون المنافقين
فنهو عن ذلك ويؤيده قوله تعالى {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا
خلَوا عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ} وهي صفةُ
المنافق وإياً ما كان فالحكمُ عامٌ للكفرة كافةً
{مّن دُونِكُمْ} أي من دون المسلمين وهو متعلقٌ بلا تتخذوا أو
بمحذوف وقع صفة لبِطانة أي كائنةً من دونكم مجاوزةً لكم
{لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} جملةٌ مستأنفةٌ مبينةٌ لحالهم
داعيةٌ إلى الاجتناب عنهم أو صفةُ بطانةً يقال أَلا في الأمر
إذا قصّر فيه ثم استُعمل مُعدًّى الى المفعولين في قولهم لا
آلوكَ نُصحاً ولا آلوك جُهداً على تضمين معنى المنْعِ والنقصِ
والخَبالُ الفسادُ أي لا يُقْصِرون لكم في الفسادِ
{وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} أي تمنَّوْا عَنَتَكم أي مشقتَكم
وشدةَ ضررِكم وهو أيضاً استئنافٌ مؤكدٌ للنهي موجبٌ لزيادة
الاجتنابِ عن المنهيِّ عنه
{قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم} استئنافٌ آخرُ مفيدٌ لمزيد
الاجتنابِ عن المنهيِّ عنه أي قد ظهرت البغضاءُ في كلامهم لِما
أنهم لا يتمالكون مع مبالغتهم في ضبط أنفسِهم وتحاملِهم عليها
أن ينفلِتَ من ألسنتهم ما يُعلم به بغضُهم للمسلمين وقرئ قد
بدا البغضاءُ والأفواهُ جمعُ فم وأصلُه فوهٌ فلامُه هاءٌ يدل
على ذلك جمعُه على أفواه وتصغيرُه على فُوَيه والنسبةُ إليه
فوهيٌّ
{وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} مما بدا لأن بُدُوَّه
ليس عن رَويَّة واختيار
{قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الأيات} الدالة على وجوب الإخلاصِ في
الدين وموالاةِ المؤمنين ومعاداةِ الكافرين
{إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} أي إنْ كنتُم من أهلِ العقلِ أو إن
كنتم تعقِلون ما بُيِّن لكم من الآيات والجوابُ محذوفٌ لدلالة
المذكور عليه
(2/76)
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ
بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا
وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ
الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
{ها أنتم أُوْلاء} جملةٌ من مبتدإٍ وخبر
صدرت بحرف التنبيه إظهاراً لكمال العنايةِ بمضمونها أي أنتم
أولاءِ المخطِئون في موالاتهم وقوله تعالى
{تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} بيانٌ لخطئهم في ذلك
وهو خبرٌ ثانٍ لأنتم أو خبرٌ لأولاءِ والجملةُ خبرٌ لأنتم
كقولك أنت زيدٌ تحبُّه أو صلةٌ له أو حالٌ والعاملُ معنى
الإشارةِ ويجوز أن ينتصِبَ أولاءِ بفعلِ يفسِّره ما بعدَهُ
وتكونُ الجملةُ خبراً
{وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ} أي بجنس الكتبِ جميعاً وهو
حالٌ من ضميرِ المفعولِ في لا يُحِبُّونَكُمْ والمعنى لا
يحبونكم والحالُ أنكم تؤمنون بكتابهم فما بالُكم تحبونهم وهم
لا يؤمنون بكتابكم وفيه توبيخٌ بأنهم في باطلهم أصلبُ منكم في
حقكم
{وإذا لقوكم قالوا آمنا} نفاقاً
{وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ} أي
منْ أجله تأسفاً وتحسراً حيث لم يجدوا إلى التشفي سبيلاً
{قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} دعاءٌ عليهم بدوام الغيظ
(2/76)
120 - 121 آل عمران
وزيادته بتضاعيف قوةِ الإسلامِ وأهلِه إلى أن يهلِكوا به أو
باشتداده إلى أن يهلكهم
{إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} فيعلم ما في صدوركم من
العداوة والبغضاء والحنَقِ وهو يحتملُ أن يكون من المَقول أي
وقل لهم أن الله تعالى عليمٌ بما هو أخفى مما تُخفونه من عض
الأنامل عيظا وأن يكون خارجاً عنه بمعنى لا تتعجْب من اطْلاعي
إياك على أسرارهم فإني عليمٌ بذات الصدور وقيل هو أمرٌ لرسول
الله صلى الله عليه وسلم بطيب النفسِ وقوة الرجاءِ والاستبشار
بوعد الله تعالى أن يَهلِكوا غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به
من غير أن يكون ثمةَ قولٌ كأنه قيل حدِّث نفسَك بذلك
(2/77)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا
بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ
كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
(120)
{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ
وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا} بيانٌ لتناهي
عداوتِهم إلى حد حسد وامانا لهم من خير ومنفعة وشمِتُوا بما
أصابهم من ضر وشدة وذكرُ المسِّ مع الحسنة والإصابة مع السئية
إما للإيذان بأن مدارَ مساءتِهم أدنى مراتبِ إصابةِ الحسنةِ
ومناطَ فرحِهم تمامُ إصابةِ السيئةِ وإما لأن المسَّ مستعارٌ
لمعنى الإصابة
{وأن تصبروا} أي على عداتهم أو على مشاقّ التكاليفِ
{وَتَتَّقُواْ} ما حرّم الله تعالى عليكم ونهاكم عنه
{لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} مكرُهم وحيلتُهم التي دبّروها
لأجلكم وقرئ لا يضِرْكم بكسر الضاد وجزم الراء على جواب الشرط
من ضارَه يضيرُه بمعنى ضرّه يضُرّه وضمةُ الراءِ في القراءة
المشهورة للإتباع كضمة مَدّ
{شَيْئاً} نُصب على المصدرية أي لايضركم شيئاً من الضرر بفضل
الله وحفظِه الموعودِ للصابرين والمتقين ولأن المُجِدَّ في
الأمر المتدرِّبَ بالاتقاء والصبرِ يكون جريئاً على الخصم
{إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ} في عداوتكم من الكيد
{مُحِيطٌ} علماً فيعاقبهم على ذلك وقرئ بالتاء الفوقائية أي
بما تعملون من الصبر والتقوى فيجازيكم بما أنتم أهلُه
(2/77)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
{وَإِذْ غَدَوْتَ} كلامٌ مستأنفٌ سيق
للاستشهاد بما فيه من استتباع عدمِ الصبرِ والتقوى للضرر على
أن وجودَهما مستتبِعٌ لما وُعِد من النجاة من مضرَّة كيدِ
الأعداءِ وإذْ نُصبَ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطبَ به النبيُّ
صلَّى الله عليهِ وسلم خاصة مع عموم الخطابِ فيما قبله وما
بعده له وللمؤمنين لاختصاص مضمونِ الكلامِ به عليه السلام أي
واذكر لهم وقت غُدُوِّك ليتذكروا ما وقع فيه من الأحوال
الناشئةِ عن عدم الصبر فيعلمون أنهم إن لزِموا الصبرَ والتقوى
لا يضرُهم كيدُ الكفرةِ وتوجيهُ الأمرِ بالذكر إلى الوقت دون
ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في
إيجاب ذكرها واستحضارِ الحادثةِ بتفاصيلها كما سلف بيانُه في
تفسيرِ قولِه تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} الخ
والمرادُ به خروجُه عليه السلام إلى أُحد وكان ذلك من منزل
عائشةَ رضيَ الله عنها وهو المرادُ بقوله تعالى
{مِنْ أَهْلِكَ} أي من عند أهلِك
{تبوئ المؤمنين} أي تنزلهم أو تهيئ وتسوى لهم
{مقاعد} ويؤيد قراءة من قرأ تبوئ للمؤمنين والجملة حال من فاعل
غدوتَ لكنْ لاَ على أنَّها حالٌ مقدرةٌ أي ناوياً وقاصداً
للتبْوِئة كما قيل
(2/77)
122 - آل عمران
بل على أن المقصودَ تذكيرُ الزمانِ الممتدِّ المتسعِ لابتداء
الخروجِ والتبْوِئة وما يترتب عليها إذْ هو المُذكِّرُ للقصة
وإنما عُبّر عنه بالغدو الذي هو الخروجُ غُدوةً مع كون خروجِه
عليه السلام بعد صلاةِ الجمعةِ كما ستعرفه إذْ حينئذٍ وقعت
التبوئةُ التي هي العُمدةُ في الباب إذِ المقصودُ بتذكير الوقت
تذكير مخالفتهم لأمرالنبي صلى الله عليه وسلم وتزايُلِهم عن
أحيازهم المعيَّنةِ لهم عند التبوئة وعدمِ صبرِهم وبهذا يتبين
خللُ رأي من احتج به على جواز أداءِ صلاةِ الجمعة قبل الزوال
واللام في قوله تعالى
{لِلْقِتَالِ} إما متعلقةٌ بتبوِّيء أي لأجل القتالِ وإما
بمحذوف وقع صفة لمقاعدَ أي كائنةً ومقاعدُ القتالِ أماكنُه
ومواقِفُه فإن استعمالَ المقعدِ والمقامِ بمعنى المكانِ
اتساعاً شائعٌ ذائعٌ كما في قوله تعالى {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ}
وقوله تعالى {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} روي أن
المشركين نزلوا بأُحد يومَ الأربَعاءِ فاستشار رسول الله صلى
الله عليه وسلم أصحابَه ودعا عبدُ اللَّه بن أبي بن سلول ولم
يكن دعاه قبل ذلك فاستشاره فقال عبدُ اللَّه وأكثرُ الأنصار يا
رسولَ الله أقِم بالمدينة ولا تخرُجْ إليهم فوالله ما خرجنا
منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبْنا منه
فكيف وأنت فينا فدَعْهم فإن أقاموا أقاموا بشرِّ مَحبِس وإن
دخلوا قاتلهم الرجالُ في وجوههم ورماهم النساءُ والصبيانُ
بالحجارة وإن رجعوا رجعوا خائبين وقال بعضُهم يارسول الله
اخرُجْ بنا إلى هؤلاء الأكلُبِ لا يرَوْن أنا قد جبُنّا عنهم
فقال صلى الله عليه وسلم إني قد رأيت في منامي بقراً
مُذَبَّحةً حولي فأوّلتُها خيراً ورأيت في ذُباب سيفي ثُلَماً
فأولتُه هزيمةً ورأيتُ كأني أدخلتُ يدي في درعٍ حصينةٍ
فأولتُها المدينة فإن رأيتم أن تُقيموا بالمدينة فتدعوهم فقال
رجال من المسلمين قد فاتتهم بدرٌ وأكرمهم الله تعالى بالشهادة
يومئذ اخرُجْ بنا إلى أعدائنا وقال النعمانُ بنُ مالكٍ
الأنصارى رضيَ الله عُنهُ يا رسولَ الله لاتحرمنى الجنةَ
فوالذي بعثك بالحق لأدخُلَنَّ الجنة ثم قال بقوليْ أُشْهِدُ
أَن لاَّ إلَه إِلاَّ الله وأني لا أفِرُّ من الزحف فلم يزالوا
به عليه السلام حتى دخل فلبِس لأمته فلما رأَوْه كذلك ندِموا
وقالوا بئسما صنعنا نشير على رسول الله والوحيُ يأتيه وقالوا
اصنع يارسول الله ما رأيت فقال ما ينبغي لنبيَ أن يلبس لأمته
فيضعَها حتى يقاتل فخرج يومَ الجمعة بعد صلاةِ الجمعةِ وأصبح
بالشِّعب من أحُد يوم السبْتِ للنصف من شوالٍ لسنةِ ثلاثٍ من
الهجرة فمشى على رجليه فجعل يصُفُّ أصحابَه للقتال فكأنما
يقوّم بهم القِدْحَ إن رأى صدراً خارجاً قال تأخَّرْ وكان
نزولُه في عُدوة الوادي وجعل ظهرَه وعسكرَه إلى أحُد وأمَّر
عبدَ اللَّه بنَ جُبيرٍ على الرماة وقال لهم انضَحُوا عنا
بالنبل لا يأتونا من ورائنا ولا تبرَحوا من مكانكم فلن نزال
غالبين ما ثبتم مكانَكم
{والله سَمِيعٌ} لأقوالكم
{عَلِيمٌ} بضمائركم والجملةُ اعتراضٌ للإيذان بأنه قد صدر عنهم
هناك من الأقوال والأفعال مالا ينبغي صدورُه عنهم
(2/78)
إِذْ هَمَّتْ
طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
{إِذْ هَمَّتْ} بدلٌ من إذ غدوت مبينٌ لما
هو المقصودُ بالتذكير أو ظرفٌ لسميعٌ عليمٌ على معنى أنه تعالى
جامعٌ بين سماعِ الأقوالِ والعلمِ بالضمائر في ذلك الوقتِ إذ
لا وجهَ لتقييد كونِه تعالى سميعاً عليماً بذلك الوقت قال
الفراءُ معنى قولِك ضربتُ وأكرمتُ زيداً أن زيداً منصوبٌ بهما
تسلّطا عليه معاً
{طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} متعلقٌ بهمَّتْ والباءُ
محذوفةٌ أي بأن تفشَلا أي تجبُنا وتضعُفا وهما حيانِ من
(2/78)
123 - 124 آل عمران
الأنصار بنو سلمةَ من الخزرج وبنو حارثةَ من الأوس وهما
الجناحانِ من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ألفَ
رجل وقيل تسعَمائةٍ وخمسين وَعَدهم رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم الفتحَ إن صبَروا فلما قاربوا عسكرَ الكفرةِ وكانوا
ثلاثةَ آلافٍ انخذل عبدُ اللَّه بنُ أبيَ بثلث الناسِ فقال يا
قومُ علامَ نَقتُل أنفسَنا وأولادَنا فتبِعَهم عمروُ بنُ حزم
الأنصاري فقال أنشُدكم الله في نبيكم وأنفسِكم فقال عبدُ
اللَّه لو نعلم قتالاً لاتّبعناكم فهمّ الحيانِ باتِّباع عبدِ
اللَّه فعصمَهم الله تعالى فمضَوْا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما أضمَروا أن يرجِعوا فعزم
الله لهم على الرشد فثبَتوا والظاهرُ أنها ما كانت إلا همَّةً
وحديثَ نفس قلما تخلو النفسُ عنه عند الشدائدِ
{والله وَلِيُّهُمَا} أي عاصِمُهما عن اتباع تلكِ الخَطرةِ
والجملةُ اعتراضٌ ويجوز أن تكون حالاً من فاعل همَّتْ أو من
ضميرِه في تفشلا مفيدةٌ لاستبعاد فشلِهما أو همِّهما بهِ مع
كونِهِما في ولاية الله تعالى وقرئ والله وليُّهم كما في قوله
تعالى {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا}
{وَعَلَى الله} وحده دون ما عداه مطلقاً استقلالاً أو اشتراكاً
{فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} في جميع أمورِهم فإنه حسبُهم
وإظهارُ الاسمِ الجليلِ للتبرك والتعليل فإن الألوهية من
موجبات التوكلِ عليه تعالى واللامُ في المؤمنين للجنس فيدخلُ
فيه الطائفتان دخولاً أولياً وفيه إشعارٌ بأن وصفَ الإيمان من
دواعي التوكلِ وموجباتِه
(2/79)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} جملةٌ
مستأنفةٌ سيقت لإيجاب الصبرِ والتقوى بتذكير ما ترتب عليهما من
النصر إثرَ تذكيرِ ما ترتب على عدمهما من الضرر وقيل لإيجاب
التوكلِ على الله تعالى بتذكير ما يوجبه وبدرٌ اسمُ ماءٍ بين
مكةَ والمدينة كان لرجل اسمُه بدرُ بنُ كِلْدةَ فسُمِّيَ
باسمِه وقيل سمِّي به لصفائه كالبدر واستدارتِه وقيل هو اسمُ
الموضِعِ أو الوادي وكانت وقعةُ بدرٍ في السابعَ عشرَ من شهرِ
رمضانَ سنةَ اثنتين من الهجرة
{وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} حالٌ من مفعول نصركم وأذلةٌ جمعُ ذليلٍ
وإنما جُمع جَمْعُ قِلةً للإيذان باتصافهم حينئذ بوصفي القِلة
والذِلة إذ كانوا ثلثَمائةٍ وبضعةَ عشرَ وكان ضعفُ حالِهم في
الغاية خرجوا على النواضح يتعقب النفرُ منهم على البعير
الواحدِ ولم يكن في العسكر إلا فرسٌ واحدٌ وقيل فرَسانِ
للمقداد ومرْثَد وتسعون بعيراً وستُّ أدرعٍ وثمانيةُ سيوفٍ
وكان العدو زهاءَ ألفٍ ومعهم مائةُ فرسٍ وشكة وشوْكة
{فاتقوا الله} اقتصر على الأمر بالتقوى مع كونه مشفوعاً بالصبر
فيما سبقَ وما لحِق للإشعار بأصالته وكونِ الصبرِ من مباديه
اللازمةِ له ولذلك قُدم عليه في الذكر وفي ترتيب الأمرِ
بالتقوى على الإخبار بالنصر إيذانٌ بأن نصرَهم المذكورَ كان
بسبب تقواهم أي إذا كان الأمر كذلك فاتقوا الله كما اتقيتم
يومئذ
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي راجين أن تشكُروا ما يُنعِم به
عليكم بتقواكم من النصرة كما شكرتم فيما قبلُ أو لعلكم يُنعم
الله عليكم بالنصر كما فعل ذلك من قبل فوُضِع الشكرُ موضِعَ
سببِه الذي هو الإنعامُ
(2/79)
إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ
رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ
(124)
{إِذْ تَقُولُ} تلوينٌ للخطاب بتخصيصه رسول
الله صلى الله عليه وسلم لتشريفه والإيذانِ بأن وقوعَ النصرِ
كان ببشارته عليه السلام وإذ ظرفٌ لنصَرَكم قدِّم عليه الأمر
(2/79)
125 - آل عمران
بالتقوى لإظهار كمالِ العنايةِ به والمرادُ به الوقتُ الممتدُ
الذي وقع فيه ما ذكر بعده وما طُويَ ذكرُه تعويلا على شهادة
الحالِ مما يتعلق به وجودُ النصرِ وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ
الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها أي نصركم وقت قولك
{لِلْمُؤْمِنِينَ} حين أظهروا العجزَ عن المقاتلة قال الشعبي
بلغ المؤمنين أن كُرْزَ بنَ جابرٍ الحنفي يريد أن يُمِدَّ
المشركين فشق ذلك على المؤمنين فنزل حينئذ ثم حكى ههنا
{أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ ربكم بثلاثة آلافٍ}
الكفايةُ سدُّ الخَلّةِ والقيامُ بالأمر والإمدادُ في الأصل
إعطاءُ الشئ حالاً بعد حال قال المفضّل ما كان منه بطريق
التقويةِ والإعانةِ يقال فيه أمَدَّه يُمِدُّه إمداداً وما كان
بطريق الزيادة يقال فيه مَدَّه يمُدّه مداً ومنه والبحر
يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ وقيل المَدّ في الشر
كما في قوله تعالى {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ} وقولِه {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً}
والإمدادُ في الخير كما في قوله تعالى {وأمددناكم بأموال
وَبَنِينَ} والتعرض لعنوان الربوبية ههنا وفيما سيأتي مع
الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار العنايةِ بهم والإشعارِ
بعلةِ الإمداد والمعنى إنكارُ عدمِ كفايةِ الإمدادِ بذلك
المقدار ونفيُه وكلمة لَنْ للإشعار بأنهم كانوا حينئذ كالآيسين
من النصر لضعفهم وقلّتِهم وقوةِ العدوّ وكثرتهم
{مِنَ الملائكة} بيانٌ أو صفة لآلافٍ أو لما أُضيف إليه أي
كائنين من الملائكة
{مُنزَلِينَ} صفةٌ لثلاثةِ آلافٍ وقيل حال من الملائكة وقرئ
منزلين بالتشديد للتكثير أو للتدريج قيل امدهم الله تعالى أولا
بألف ثم صاروا ثلاثة آلافٍ ثم خمسةِ آلافٍ وقرئ مبنياً للفاعل
من الصيغتين أي مُنزِلين النصرَ
(2/80)
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ
(125)
{بلى} إيجابٌ لما بعدَ لَنْ وتحقيقٌ له أي
بلى يكفيكم ذلك ثم وعد لهم الزيادةَ بشرط الصبرِ والتقوى حثاً
لهم عليهما وتقويةً لقلوبهم فقال
{إِن تَصْبِرُواْ} على لقاء العدو ومناهضتِهم
{وَتَتَّقُواْ} معصيةَ الله ومخالفةَ نبيِّه عليه الصَّلاةُ
والسَّلامُ
{ويأتوكم} أي المشركين
{مّن فَوْرِهِمْ هذا} أي من ساعتهم هذه وهو في الأصل مصدرُ
فارَت القِدرُ أي اشتد غَلَيانُها ثم استُعير للسرعة ثم أُطلق
على كل حالةٍ لا ريث فيها أصلاً ووصفُه بهذا لتأكيد السرعةِ
بزيادة تعيينِه وتقريبِه ونظمُ إتيانِهم بسرعة في سلك شرطَي
الإمداد المستتبِعَيْن له وجوداً وعدماً أعني الصبرَ والتقوى
مع تحقق الإمدادِ لا محالةَ سواءٌ أسرعوا أو أبطئوا لتحقيق
سرعة الإمداد لا لتحقيق أصلِه أو لبيانِ تحقّقِه على أي حال
فُرِضَ على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه بتعليقه بأبعدِ التقاديرِ
ليُعلم تحقُّقُه على سائرها بالطريق الأوْلى فإن هجومَ
الأعداءِ وإتيانَهم بسرعة من مظانّ عدمِ لُحوق المددِ عادةً
فعُلِّق به تحققُ الإمدادِ إيذاناً بأنه حيث تحقَّقَ مع ما
ينافيه عادةً فلأَنْ يتحقَّقَ بدونه أولى وأحرى كما إذا أردتَ
وصفَ درعٍ بغاية الحَصانة تقول إن لبستَها وبارزتَ بها
الأعداءَ فضربوك بأيدٍ شدادٍ وسيوفٍ حِدادٍ لم تتأثرْ منها
قطعاً
{يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مُسَوّمِينَ} من التسويم
الذي هو إظهارُ سيما الشيءِ أي مُعْلِمين أنفسَهم أو خيلَهم
فقد رُوي أنهم كانوا بعمائمَ بيضٍ إلا جبريلَ عليهِ السَّلامُ
فإنَّه كان بعمامة صفراءَ على مثال الزبير بنِ العوام وروى
(2/80)
126 - آل عمران
أنهم كانوا على خيل باق قال عروةُ بنُ الزبير كانت الملائكةُ
على خيل بُلْق عليهم عمائمُ بيضٌ قد أرسلوها بين أكتافِهم وقال
هشامُ بنُ عروة عمائمُ صُفْرٌ وقال قتادة والضحاك وكانوا قد
أَعْلموا بالعِهْن في نواصي الخيلِ وأذنابِها رُوي أن النبيِّ
صلَّى الله عليهِ وسلم قال لأصحابه تسوَّموا فإن الملائكة قد
تسومت وقرئ مسوَّمين على البناء للمفعول ومعناه مُعْلِمين من
جهته سبحانه وقيل مرسَلين من التسويم بمعنى الإسامة
(2/81)
وَمَا جَعَلَهُ
اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ
بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ (126)
{وَمَا جَعَلَهُ الله} كلامٌ مبتدأٌ غيرُ
داخلٍ في حيز القول مَسوقٌ من جنابه تعالى لبيان أن الأسبابَ
الظاهرةَ بمعزل من التأثير وأن حقيقةَ النصرِ مختص به عز وجل
ليثق به المؤمنون ولا يقنَطوا منه عند فُقدان أسبابِه
وأماراتِه معطوفٌ على فعل مقدرٍ ينسحبُ عليه الكلامُ ويستدعيه
النظامُ فإن الإخبارَ بوقوع النصرِ على الإطلاق وتذكيرَ وقتِه
وحكايةَ الوعدِ بوقوعه على وجه مخصوصٍ هو الإمدادُ بالملائكة
مرةً بعد أخرى وتعيينُ وقتِه فيما مضى يقضي بوقوعه حينئذ قضاءً
قطعياً لكن لم يصرَّحْ به تعويلاً على تعاضُد الدلائلِ وتآخُذ
الأماراتِ والمخايل وإيذاناً بكمال الغِنى عنه بل إحترازا عن
شائبة التكريرِ أو عن إيهام احتمالِ الخُلفِ في الوعد المحتومِ
كأنه قيل عَقيبَ قولِه تعالى {يمددكم ربكم بخمسة آلاف من
الملائكة مُسَوّمِينَ} فأمدَّكم بهم {وما جعله الله} الخ
والجَعلُ متعدَ إلى واحد وهو الضميرُ العائد إلى مصدر ذلك
الفعلِ المقدر وأما عَوْدُه إلى المصدر المذكورِ أعني قولَه
تعالى أَن يُمِدَّكُمْ أو إلى المصدر المدلولِ عليه بقوله
تعالى يُمْدِدْكُمْ كما قيل فغيرُ حقيقٍ بجزالة التنزيلِ لأن
الهيئةَ البسيطةَ متقدمةٌ على المركبة فبيانُ العلةِ الغائبةِ
لوجود الإمداد كما هو المرادُ بالنظم الكريم حقُّه أن يكون بعد
بيانِ وجودِه في نفسه ولا ريب في أن المصدر بن المذكورين غيرُ
معتبَرَيْنِ من حيث الوجودُ والوقوعُ كمصدر الفعلِ المقدرِ حتى
يتصدى لبيان أحكامِ وجودِهما بل الأولُ معتبرٌ من حيث الكفايةُ
والثاني من حيث الوعدُ على أن الأولَ هو الإمدادُ بثلاثة آلافٍ
والواقع هو الإمدادُ بخمسة آلافٍ وقوله تعالى
{إِلاَّ بشرى لَكُمْ} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم العللِ وتلوينُ
الخطابِ لتشريف المؤمنين وللإيذان بأنهم المحتاجون إلى
البِشارة وتسكينِ القلوب بتوفيق الأسبابِ الظاهرةِ وان رسول
الله صلى الله عليه وسلم غني عنه بماله من التأييد الروحاني أي
وما جعل إمدادَكم بإنزال الملائكةِ عِياناً لشيءٍ من الأشياءِ
إلا للبشرى لكم بأنكم تُنْصَرون
{وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} أي بالإمداد وتسكُنَ إليه
كما كانت السكينةُ لبني إسرائيلَ كذلك فكلاهما عِلةٌ غائيةٌ
للجعل وقد نُصب الأولُ لاجتماع شرائطِه من اتحاد الفاعلِ
والزمانِ وكونِه مصدراً مَسوقاً للتعليل وبقيَ الثاني على حاله
لفُقدانها وقيل للإشارة أيضاً إلى أصالته في العلِّية وأهميتِه
في نفسه كما في قوله تعالى {والخيل والبغال والحمير
لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} وفي قصر الإمدادِ عليهما إشعارٌ بأن
الملائكةَ عليهم السلام لم يباشروا يومئذ القتالَ وإنما كان
إمدادُهم بتقويةِ قلوبِ المباشرين بتكثير السَّواد ونحوِه كما
هو رأيُ بعض السلف رضيَ الله عنه وقيلَ الجعلُ متعدٍ إلى
(2/81)
127 - 128 آل عمران
اثنين وقوله عز وجل إِلاَّ بشرى لَكُمْ استثناءٌ من أعمِّ
المفاعيلِ أي وما جعله الله تعالى شيئاً من الأشياء إلا بشارةً
لكم فاللام في قوله تعالى وَلِتَطْمَئِنَّ متعلقةٌ بمحذوف
تقديرُه ولتطمئن قلوبُكم به فُعِل ذلك
{وَمَا النصر} أي حقيقةُ النصرِ على الإطلاق فيندرِجُ في حكمة
النصرُ المعهودُ اندراجاً أولياً
{إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} أي إلا كائنٌ من عنده تعالى من غيرِ
أنْ يكون فيه شِرْكةٌ من جهة الأسبابِ والعَدد وإنما هي مظاهرُ
له بطريق جَرَيانِ سنتِه تعالى أو وما النصرُ المعهودُ إلا من
عنده تعالى لا من عند الملائكةِ فإنهم بمعزلٍ من التأثير وإنما
قصارى أمرِهم ما ذُكر من البِشارة وتقويةِ القلوب
{العزيز} أي الذي لا يغالَب في حُكمه وأقضيتِه وإجراءُ هذا
الوصفِ عليه تعالى للإشعار بعلة اختصاصِ النصرِ به تعالى كما
أن وصفَه بقوله
{الحكيم} أي الذي يفعلُ كلَّ ما يفعلُ حسبما تقتضيِه الحِكمةُ
والمصلحة للإيذان بعلة جعْلِ النصرِ بإنزال الملائكةِ فإن ذلك
من مقتَضيات الحِكم البالغةِ
(2/82)
لِيَقْطَعَ طَرَفًا
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا
خَائِبِينَ (127)
{لِيَقْطَعَ} متعلقٌ بقوله تعالى وَلَقَدْ
نَصَرَكُمُ وما بينهما تحقيقٌ لحقيقته وبيانٌ لكيفية وقوعِه
والمقصورُ على التعليل بما ذُكر من البُشرى والاطمئنانِ إنما
هو الإمدادُ بالملائكة على الوجه المذكورِ فلا يقدح ذلك في
تعليل أصلِ النصرِ بالقطع وما عُطف عليه أو بَما تعلَّق به
الخبرُ في قوله عز وعلا وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله
على تقدير كونِه عبارةً عن النصر المعهودِ وقد أُشير إلى أن
المعلَّلَ بالبشارة والاطمئنانِ إنما هو الإمدادُ الصوريُّ لا
ما في ضِمنه من النصر المعنويِّ الذي هو مَلاكُ الأمر وأما
تغلقه بنفس النصرِ كما قيل فمع ما فيه من الفصلَ بين المصدرِ
ومعمولِه بأجنبي هو الخبرُ مُخلٌّ بسَداد المعنى كيف لا ومعناه
قصرُ النصرِ المخصوصِ المعلَّلِ بعلل معيّنةٍ على الحصول من
جهته تعالى وليس المرادُ إلا قصرَ حقيقةِ النصرِ أو النصرِ
المعهودِ على ذلك والمعنى لقد نصركم الله يومئذ أو وما النصرُ
الظاهرُ عند إمدادِ الملائكةِ إلا ثابتٌ من عند الله ليقطعَ أي
يُهلِكَ ويَنْقُصَ
{طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ} أي طائفةٌ منهم بقتل وأسر وقد
وقع ذلك حيث قُتل من رؤسائهم وصناديدِهم سبعون وأُسر سبعون
{أَوْ يَكْبِتَهُمْ} أي يخزيَهم ويُغيظَهم بالهزيمة فإن الكبتَ
شدةُ غيظٍ أو وهنٌ يقع في القلب من كَبتَه بمعنى كَبده إذا ضرب
كِبدَه بالغيظ والحُرقة وقيل الكبتُ الإصابةُ بمكروه وقيل هو
الصرعُ للوجه واليدين فالتاء حينئذ غيرُ مُبْدَلةٍ وأو للتنويع
{فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ} أي فينهزموا منقطعي الآمالِ غيرَ
فائزين من مبتغاهم بشئ كما في قوله تعالى {وَرَدَّ الله الذين
كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً}
(2/82)
لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ
فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الامر شَىْء} اعتراضٌ
وُسِّط بين المعطوف عليه المتعلّقِ بالعاجل والمعطوفِ
المتعلّقِ بالآجل لتحقيق أن لا تأثير للمنثورين إثرَ بيانِ أن
لا تأثيرَ للناصرين وتخصيصُ النفيِ برسول صلى الله عليه وسلم
على طريق تلوين الخطاب للدلالة على الانتفاءِ من غيره بالطريق
الأولى وإنما خُصّ الاعتراضُ بموقعه لأن ما قبله من القطع
والكبْتِ من مظانِّ أن يكونَ فيه لرسول الله صلى الله عليه
وسلم ولسائر مباشري القتالِ مدخَلٌ في الجملة
{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ} عطفٌ على
يكبِتَهم
(2/82)
والمعنى أن مالِكَ أمرِهم على الإطلاقِ هو
الله عزَّ وجلَّ نصرَكم عليهم ليُهلِكَهم أو يكبتَهم أَوْ
يتوبَ عَلَيْهِمْ إنْ أسلموا أو يعذبَهم إن أصروا وليس لك من
أمرهم شيءٌ إنما أنت عبدٌ مأمورٌ بإنذارهم وجهادِهم والمرادُ
بتعذيبهم التعذيب السديد الأخرويُّ المخصوصُ بأشد الكفَرةِ
كُفراً وإلا فمطلقُ التعذيبِ الأخرويِّ متحققٌ في الفريقين
الأولين أيضاً ونظمُ التوبةِ والتعذيبِ المذكورِ في سلك العلة
الغائبة للنصر المترتبةِ عليه في الوجود من حيث إن قبولَ
توبتِهم فرْعُ تحققِها الناشئ من علمهم بحقية الإسلامِ بسبب
غلبةِ أهلِه المترتبةِ على النصر وأن تعذيبَهم بالعذاب
المذكورِ مترتبٌ على إصرارهم على الكفر بعد تبيُّنِ الحقِّ على
الوجه المذكورِ هذا وقيل إن عُتبةَ بنَ أبي وقاصٍ شج رسول الله
صلى الله عليه وسلم يومَ أحُد وكسرَ رَباعِيَتَه فجعل صلى الله
عليه وسلم يمسح الدمَ عن وجهه وسالم مولى حُذيفةَ يغسِلُ عن
وجهه الدمَ وهو يقول كيف يُفلحُ قومٌ خضَبوا وجهَ نبيِّهم
بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الامر
شَىْء} الآية كأنه نوعُ معاتبةٍ على إنكاره عليه السلام
لفلاحهم وقيل أراد أن يدعوَ عليهم فنهاه الله تعالى لعلمه بأن
منهم من يؤمن فقولُه تعالى {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} حينئذ
معطوفٌ على الأمر أو على شيء بإضمار أنْ أي ليس لك من أمرَهم
أو مِن التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيءٌ أو ليس لك من أمرهم
شيءٌ أو التوبة عليهم او تعذبهم ونُقل عن الفراء وابنِ
الأنباري أن أَوْ بمعنى الا ان المهنى ليس لك من أمرهم شيءٌ
إلا أن يتوبَ الله عليهم فتفرَحَ به أو يعذبهم فتشفى منهم وأيا
ما كان فهو كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان بعضِ الأمورِ المتعلقة
بغزوة أحُدٍ إثرَ بيانِ بعضِ ما يتعلق بغزوة بدرٍ لِما بينهما
من التناسُب الظاهرِ لأن كلاًّ منهما مبنيٌّ على اختصاص الأمرِ
كلِّه بالله تعالى ومنبئ عن سلبه عمن سواه وأما تعلقُ كلِّ
القصةِ بغزوة أُحد على أنَّ قولَه تعالى إِذْ تَقُولُ بدلٌ
ثانٍ من إذ غدوتَ وأن ما حُكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد وقع يومَ أحدٍ وأن الإمدادَ الموعودَ كان مشروطاً بالصبر
والتقوى فلما لم يفعلوا لم يتحققِ الموعودُ كما قيل فلا
يساعدُه النظمُ الكريمُ أما أوّلاً فلأن المشروطَ بالصبر
والتقوى إنما هو الإمدادُ بخمسة آلافٍ لا بثلاثة آلافٍ مع أنه
لم يقع الإمدادُ يومئذ ولا بمَلكٍ واحدٍ وأما ثانياً فلأنه كان
ينبغي حينئذ أن ينعى عليهم جناياتهم وحِرْمانَهم بسببها تلكَ
النعمةَ الجليلة ودعوى ظهورِه مع عدم دِلالةِ السباقِ والسياقِ
عليه بل مع دَلالتهما على خلافه مما لا يكاد يُسمع وأما ثالثاً
فلأنه لا سبيل إلى جعل الضَّمير في قولِه تعالى وَمَا جَعَلَهُ
الله الخ عائداً إلى الإمداد الموعودِ لأنه لم يتحققْ فكيف
يبيِّنُ علّته الغائيةَ ولا إلى الوعدِ به على معنى أنه تعالى
إنما جعل ذلك الوعدَ لبِشارتكم واطمئنانِ قلوبكم فلم تفعلوا ما
شرَطَ عليكم من الصبر والتقوى فلم يقع إنجازُ الموعودِ لما
أنَّ قولَه تعالَى وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله العزيز
الحكيم صريحٌ في أنه قد وقع الإمدادُ الموعودُ لكن أثرَه إنما
هو مجردُ البِشارة والاطمئنانِ وقد حصلا وأما النصرُ الحقيقيُ
فليس ذلك إلا من عنده تعالى وجعلُه استئنافاً مقرّراً لعدم
وقوعِ الإمداد على معنى أن التصر الموعودَ مخصوصٌ به تعالى فلا
ينصُر من خالف أمرَه بترك الصبر والتقوى اعتسافٌ بيّنٌ يجب
تنزيهُ التنزيلِ عن أمثالِه على أنَّ قولَه تعالى لِيَقْطَعَ
طَرَفاً الآية متعلقٌ حينئذ بما تعلق به قولُه تعالى مِنْ
عِندِ الله من الثبوت والإستقرار وضرورة أن تعلقَه بقوله تعالى
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ الآية مع كون ما بينهما من
التفصيل متعلقاً بوقعة أحُدٍ من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه
فلا بُدَّ من اعتبارِ وجودِ النصرِ قطعاً لأن تفصيل الأحكام
المتريبة على وجود شيء
(2/83)
129 - 130 131 آل عمران
بصدد بيانِ انتفائِه مما لم يُعهدْ في كلام الناسِ فضلاً عن
الكلام المَجيد فالحق الذي لا محيد عنه أن قولَه تعالى إِذْ
تَقُولُ ظرفٌ لنصرَكم وأن ما حُكي في أثنائه إلى قوله تعالى
خَائِبِينَ متعلقٌ بيومِ بدرٍ قطعاً وما بعده محتملٌ الوجهين
المذكورين وقوله تعالى
{فَإِنَّهُمْ ظالمون} تعليلٌ على كل حال لقوله تعالى أَوْ
يُعَذّبَهُمْ مبينٌ لكون ذلك من جهتهم وجزاءٌ لظلمهم
(2/84)
وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
{ولله ما في السماوات وَمَا فِي الارض}
كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان اختصاصِ ملكوتِ كلِّ الكائناتِ به
عزَّ وجلَّ إثرَ بيانِ اختصاصِ طرَفٍ من ذلك به سبحانه تقريراً
لما سبق وتكملةً له وتقديمُ الجارِّ للقصر وكلمةُ مَا شاملةٌ
للعقلاء أيضاً تغليباً أي له مَا فِيهمَا مِنَ الموجوداتِ
خلقاً ومُلكاً لا مدخَلَ فيه لأحد أصلاً فله الأمرُ كلُّه
{يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أنْ يغفر له مشيئة مبنية على الحكم
والمصالح
{وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} أنْ يعذِّبَه بعمله مشيئةً كذلك
وإيثارُ كلمة مِنْ في الموضعين لاختصاص المغفرةِ والتعذيبِ
بالعقلاء وتقديمُ المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق رحمتِه
تعالى غضبَه وبأنها من مقتَضيات الذاتِ دونه فإنه من مقتضيات
سيئاتِ العُصاة وهذا صريحٌ في نفي وجوبِ التعذيبِ والتقييدُ
بالتوبة وعدمِها كالمنافي له
{والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تذييلٌ مقررٌ لمضمونِ قولِه تعالى
يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء مع زيادة وفي تخصيص التذييلِ به دون
قرينةٍ من الاعتناء بشأن المغفرةِ والرحمةِ ما لا يخفى
(2/84)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا
مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ
تَأْكُلُواْ الربا} كلامٌ مبتدأٌ مشتمِلٌ على ما هو مَلاكُ
الأمرِ في كل باب لا سيما في باب الجهادِ من التقوى والطاعةِ
وما بعدهما من الأمور المذكورةِ على نهج الترغيبِ والترهيبِ
جيء به في تضاعيفِ القصةِ مسارعةً إلى إرشاد المخاطَبين إلى ما
فيه وإيذاناً بكمالِ وجوبِ المحافظةِ عليه فيمَا هُم فيهِ من
الجهاد فإن الأمورَ المذكورةَ فيه مع كونها مناطاً للفوز في
الدارين على الإطلاق عُمدةٌ في أمر الجهادِ عليها يدورُ فلكُ
النُّصرةِ والغلَبة كيف لا ولو حافظوا على الصبر والتقوى وطاعة
الرسول صلى الله عليه وسلم لما لقُوا ما لقُوا ولعل إيرادَ
النهي عن الربا في أثنائها لِما أن الترغيبَ في الإنفاق في
السراء والضراءِ الذي عُمدتُه الإنفاقُ في سبيل الجهادِ متضمنٌ
للترغيب في تحصيل المالِ فكان مظِنةَ مبادرة الناس إلى طرق
الاكتساب ومن جملتها الربا فنُهوا عن ذلك والمرادُ بأكله أخذُه
وإنما عُبر عنه بالأكل لما أنه مُعظم ما يقصَد بالأخذ ولشيوعه
في المأكولات مع ما فيه من زيادة تشنيع وقوله عز وجل
{أضعافا مضاعفة} ليس لتقييد النهي به بل لمراعاةِ ما كانوا
عليه من العادة توبيخاً لهم بذلك إذ كان الرجلُ يُرْبي إلى
أجلٍ فإذا حل قال للمَدين زدْني في المال حتى أزيدك في الأجل
فيفعلُ وهكذا عند محلِّ كلِّ أجلٍ فيستغرق بالشيء الطفيفِ
مالَه بالكلية ومحلُّه النصبُ عَلى الحاليّةِ من الربا وقرئ
مُضَعَّفَةً
{واتقوا الله} فيما نهيتم عنه من الأمور التي من جملتها الربا
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} راجين للفلاح
(2/84)
وَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
{واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين}
(2/84)
بالتحرز عن متابعتهم وتعاطي ما يتعاطَوْنه
كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هي أخوفُ آيةٍ في القرآن
حيث أوعدَ الله المؤمنين بالنار المُعَدَّة للكافرين إن لم
يتّقوه في اجتناب محارمِه
(2/85)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
{وَأَطِيعُواْ الله} في كلِّ ما أمركم به
ونهاكم عنه
{والرسول} الذي يبلّغكم أوامرَه ونواهيَه
{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} راجين لرحمته عقّب الوعيدَ بالوعد
ترهيباً عن المخالفة وترغيباً في الطاعة وإيرادُ لَعَلَّ في
الموضعين للإشعار بعزة منالِ الفلاحِ والرحمة قال محمد بن اسحق
هذه الآيةُ معاتبةٌ للذين عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين أمرهم بما أمرهم يومَ أحُد
(2/85)
وَسَارِعُوا إِلَى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
{وَسَارِعُواْ} عطفٌ على أطيعوا وقرئ بغير
واو على وجه الاستئنافِ أي بادروا وأقبلوا وقرئ سابقوا
{إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ} أي إلى ما يؤدي
إليهما وقيل إلى الإسلام وقيل إلى التوبة وقيل إلى الإخلاص
وقيل إلى الجهاد وقيل إلى أداء جميعِ الواجباتِ وتركِ جميعِ
المنهيَّاتِ فيدخُل فيها ما مر من الأمور المأمور بها والمنهي
عنها دخولاً أولياً وتقديمُ المغفرةِ على الجنةِ لما أنَّ
التخليةَ متقدِّمةٌ على التحلية ومِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً
لمغفرة أي كائنةٍ من ربكم والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع
الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطبينَ لإظهار مزيدِ اللطفِ بهم وقولُه
تعالى
{عرضها السماوات والارض} أي كعرضهما صفةٌ لجنةٍ وتخصيصُ
العَرْض بالذكر للمبالغة في وصفها بالسِّعة والبسطةِ على طريقة
التمثيلِ فإن العَرْضَ في العادة أدنى من الطول وعن ابن عباس
رضي الله عنهما كسبع سمواتٍ وسبعِ أرضينَ لو وُصل بعضُها ببعض
{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} في حيِّز الجرِّ على أنه صفةٌ أخرى
لجنة أو في محلِّ النَّصبِ على الحالية منها لتخصُّصها بالصفة
أي هُيِّئَتْ لهم وفيه دليلٌ على أنَّ الجنةَ مخلوقةٌ الآن
وأنها خارجةٌ عن هذا العالم
(2/85)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
(134)
{الذين يُنفِقُونَ} في محل الجرِّ على أنه
نعتٌ للمتقين مادحٌ لهم أو بدلٌ منه أو بيانٌ أو في حيزِ
النصبِ أو الرفع على المدح ومفعولُ ينفقون محذوفٌ ليتناولَ
كلَّ ما يصلُح للإنفاق أو متروكٌ بالكلية كما في قولك يُعطي
ويمنَع
{فِى السَّرَّاء والضراء} في حالتي الرخاءِ والشدة واليُسر
والعُسر أو في الأحوال كلِّها إذ الإنسانُ لا يخلو عن مَسَرة
أو مضَرَّة أي لا يخلُون في حال ما بإنفاق ما قدَروا عليه من
قليل أو كثير
{والكاظمين الغيظ} عطفٌ على الموصول والعدولُ إلى صيغة الفاعلِ
للدِلالة على الاستمرار وأما الإنفاقُ فحيث كان أمراً متجدداً
عبّر عنه بما يفيد الحدوث والتجدد والكظمُ الحبسُ يقال كظَم
غيظه أي حبَسه قال المُبرِّدُ تأويلُه أنه كتمه على امتلائه
منه يقال كظمتُ السقاءَ إذا ملأتُه وشددتُ عليه أي المُمْسِكين
عليه الكافّين عن إمضائه مع القُدرة عليه وعن النبيِّ صلَّى
الله عليهِ وسلم من كظم غيظاً وهو قادرٌ على إنفاذِه ملأ الله
قلبه أمناً وإيماناً
{والعافين عن الناس}
(2/85)
135 - آل عمران
أي التاركين عقوبةَ من استحق مؤاخذتَه رُوي أنه ينادي منادٍ
يومَ القيامة أين الذين كانت أجورُهم على الله تعالى فلا يقوم
إلا من عفا وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إن هؤلاءِ في
أمتي قليلٌ ألا من عصَم الله وقد كانوا كثيراً في الأمم التي
مضت وفي هذين الوصفين إشعارٌ بكمال حُسنِ موقعِ عفوِه عليه
الصلاة والسلام عن الرماة وتركِ مؤاخذتِهم بما فعلوا مخالفة
أمرِه عليه السلام وندبٌ له عليه السَّلامُ إلى ترك ما عزَم
عليه من مجازاة المشركين بما فعلوا بحمزة رضي الله عنه حيث قال
حين رآه قد مُثِّل به لأمثّلنّ بسبعين مكانك
{والله يُحِبُّ المحسنين} اللامُ إما للجنس وهم داخلون فيه
دخولاً أولياً وإما للعهد عبّر عنهم بالمحسنين إيذاناً بأن
النعوتَ المعدودةَ من باب الإحسانِ الذي هو الإتيانُ بالأعمال
على الوجه اللائقِ الذي هو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها
الذاتي وقد فسره عليه السلام بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك
تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّهُ يَرَاكَ والجملةُ تذييلٌ
مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَها
(2/86)
وَالَّذِينَ إِذَا
فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا
اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا
فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
{والذين} مرفوعٌ على الابتداء وقيل مجرورٌ
معطوفٌ على ما قبله من صفات المتقين وقوله تعالى {والله
يُحِبُّ المحسنين} اعتراضٌ بينهما مشيرٌ إلى ما بينهما من
التفاوت فإن درجةَ الأولين من التقوى أعلى من درجة هؤلاءِ
وحظِّهم اوفى من حظهم أو على نفس المتقين فيكونُ التفاوتُ
أكثرَ وأظهرَ
{إِذَا فَعَلُواْ فاحشة} أي فَعلةً بالغةً في القُبح كالزنا
{أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} بأن أتَوْا ذنباً أيَّ ذنبٍ كان
وقيل الفاحشةُ الكبيرةُ وظلمُ النفسِ الصغيرة أو الفاحشةُ ما
يتعدّى إلى الغير وظلمُ النفس ما ليس كذلك قيل قال المؤمنون يا
رسولَ الله كانت بنو إسرائيلَ أكرمَ على الله تعالى منا كان
أحدُهم إذا أذنب أصبحت كفارةُ ذنبِه مكتوبةً على عَتَبة دارِه
افعلْ كذا فأنزل الله تعالى هذه الآيةَ وقيل إن نبهانَ التمار
أتتْه امرأةٌ حسناءُ تطلُب منه تمراً فقال لها هذا التمرُ ليس
بجيد وفي البيت أجودُ منه فذهب بها إلى بيته فضمّها إلى نفسه
وقبّلها فقالت له اتق الله فتركها وندِم على ذلك وأتى النبيِّ
صلَّى الله عليهِ وسلم وذكر له ذلك فنزلت وقيل جرى مثلُ هذا
بين أنصاري وإمرأة ورجل ثقفي كان بينهما مؤاخاةٌ فندم
الأنصاريُّ وحثا على رأسه الترابَ وهام على وجهه وجعل يسيح في
الجبال تائباً مستغفِراً ثم أتى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم
فنزلت وأياً ما كان فإطلاقُ اللفظِ ينتظم ما فعله الزُناةُ
انتظاماً أولياً
{ذَكَرُواْ الله} تذكّروا حقَّه العظيمَ وجلالَه الموجبَ
للخشية والحياء أو وعيدَه أو حُكمَه وعقابَه
{فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} بالتوبة والندمِ والفاءُ للدَلالة
على أن ذكرَه تعالى مستتبعٌ للاستغفار لا محالة
{وَمَن يَغْفِرُ الذنوب} استفهامٌ إنكاريٌّ والمرادُ بالذنوب
جنسُها كما في قولك فلانٌ يلبَس الثيابَ ويركب الخيلَ لا
كلُّها حتى يُخِلّ بما هو المقصودُ من استحالة صدورِ مغفرةِ
فردٍ منها عن غيره تعالى وقوله تعالى
{إِلاَّ الله} بدلٌ من الضَّمير المستكِّنِ في يغفر أي لا
يغفرُ جنسَ الذنوبِ أحدٌ إلا الله خلا أن دلالة الإستفهام على
الانتفاء أقوى وأبلغُ لإيذانه بأن كلَّ أحدٍ ممن له حظٌّ من
الخطاب يعرِف ذلك الانتفاءَ فيسارع إلى الجواب به والمرادُ به
وصفُه سبحانه بغاية سَعةِ الرحمةِ وعمومِ المغفرةِ والجملةُ
معترضةٌ بين المعطوفين أو
(2/86)
136 - 137 آل عمران
بين الحالِ وصاحبِها لتقرير الاستغفارِ والحث عليه والإشعارِ
بالوعد بالقَبول
{وَلَمْ يُصِرُّواْ} عطفٌ على فاستغفروا وتأخيرُه عنه مع تقدم
عدمِ الإصرار على الاستغفار رتبةً لإظهار الاعتناءِ بشأن
الاستغفارِ واستحقاقِه للمسارعة إليه عَقيبَ ذكرِه تعالى أو
حالٌ من فاعلِه أي ولم يُقيموا أو غيرَ مقيمين
{على مَا فَعَلُواْ} أي ما فعلوه من الذنوب فاحشةً كانت أو
ظلماً أو على فعلهم روى عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه
قال ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليَّومِ سبعينَ مَرَّة وأنه
لا كبيرةَ مع الاستغفار ولا صغيرةَ مع الإصرار
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حالٌ منْ فاعل يُصِروا أي لم يصيروا على
ما فعلوا وهم عالمون بقُبحه والنهيِ عنه والوعيدِ عليه
والتقييدُ بذلك لما أنه قد يُعذر من لا يعلم ذلك إذا لم يكن عن
تقصير في تحصيل العلم به
(2/87)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ
مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
(136)
{أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين آخِراً
باعتبار اتصافِهم بما مرَّ من الصفات الحميدةِ وما فيه من معنى
البُعد للإشعارِ ببُعد منزلتِهم وعلوِّ طبقتِهم في الفضل وهو
مبتدأ وقوله تعالى
{جَزَآؤُهُمْ} بدلُ اشتمالٍ منه وقوله تعالى
{مَغْفِرَةٌ} خبرٌ له أو جزاؤهم مبتدأٌ ثانٍ ومغفرةٌ خبر له
والجملةُ خبرٌ لأولئك وهذه الجملةُ خبر لقوله تعالى والذين
إِذَا فَعَلُواْ الخ على الوجه الأولِ وهو الأظهرُ الأنسبُ
بنظم المغفرةِ المنبئةِ عن سابقةِ الذنبِ في سلك الجزاءِ إذ
على الوجهين الأخريين يكون قولُه تعالى أولئك الخ جملةٌ
مستأنَفةٌ مبينةٌ لما قبلها كاشفةً عن حال كلا الفريقين
المحسنين والتائبين ولم يُذكَرْ من أوصاف الأولين ما فيه
شائبةُ الذنبِ حتى يُذكَرَ في مطلَع الجزاءِ الشاملِ لها
المغفرةُ وتخصيصُ الإشارةِ بالآخِرين مع اشتراكهما في حكم
إعدادِ الجنةِ لهما تعسُّفٌ ظاهر
{مّن رَّبّهِمُ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقع صفةٌ لمغفرةٌ مؤكدةٌ لما
أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي
كائنة من جهته تعالَى والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافةِ
إلى ضميرِهم للإشعار بعلة الحُكمِ والتشريفِ
{وجنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} عطفٌ على مغفرة والتنكر
المُشعِرُ بكونها أدنى من الجنة مما يؤيد رُجحانَ الوجهِ الأول
{خالدين فِيهَا} حالٌ مقدرةٌ من الضمير في جزاؤهم لأنه مفعولٌ
به في المعنى لأنه في قوة يجزيهم الله جناتٌ خالدين فيها ولا
مَساغَ لأنْ يكونَ حالاً من جناتٌ في اللفظ وهي لأصحابها في
المعنى إذ لو كان كذلك لبرز الضمير
{وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} المخصوصُ بالمدح محذوفٌ أي ونعم
أجرُ العاملين ذلك أي ما ذكر من المغفرة والجناتِ والتعبيرُ
عنهما بالأجر المشعرِ بأنهما يُستحقان بمقابلة العمل وإن كان
بطريق التفضُّل لمزيد الترغيبِ في الطاعات والزجرِ عن المعاصي
والجملةُ تذييلٌ مختصٌّ بالتائبين حسبَ اختصاصِ التذييلِ
السابق بالأولين وناهيك مضمونها دليلا على مابين الفريقين من
التفاوت النيِّرِ والتبايبن البيِّن شتانَ بين المحسنين
الفائزين بمحبة الله عزَّ وجلَّ وبيّن العاملين الحائزين
لأُجرتهم وعمالتِهم
(2/87)
قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} رجوعٌ
إلى تفصيل بقيةِ القصةِ بعد تمهيدِ مبادئ الرشدِ والصلاح
وترتيبِ مقدماتِ الفوز والفلاح
(2/87)
138 - 139 آل عمران
والخلو المضى والسنن والوقائع وقيل الأممُ والظرفُ إما متعلقٌ
بخلَتْ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من سننٌ أي قد مضت من قبل
زمانِكم أو كائنةً من قبلكم وقائعُ سنها الله تعالى في الأمم
المكذِّبة كما في قوله تعالى وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً سُنَّةَ
الله فِى الذين خَلَوْاْ الخ والفاءُ في قوله تعالى
{فَسِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين}
للدِلالة على سببية خلوِّها للسير والنظر أو للأمر بهما وقيل
المعنى على الشرط أي إنْ شككتم فسيروا الخ وكيف خبرٌ مقدمٌ
لكان معلقٌ لفعلِ النظرِ والجملةُ في محل النصب بعد نزع الخافض
لأن الأصلَ استعمالُه بالجار
(2/88)
هَذَا بَيَانٌ
لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
{هَذَا} إشارةٌ إلى ما سلف من قولِه تعالى
{قَدْ خَلَتْ} إلى آخره
{بَيَانٌ لّلنَّاسِ} أي تبيينٌ لهم على أن اللامَ متعلقةٌ
بالمصدر أو كائنٌ لهم على أنها متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة له
وتعريفُ الناس للعهد وهم المكذبون أي هذا إيضاحٌ لؤ عاقبةِ ما
هُم عليهِ من التكذيب فإن الأمرَ بالسير والنظرِ وإن كان خاصاً
بالمؤمنين لكن العملَ بموجبه غيرُ مختصَ بواحد دون واحدٍ ففيه
حملٌ للمكذبين أيضاً على أن ينظُروا في عواقب مَنْ قبلَهم من
أهل التكذيبِ ويعتبروا بما يعاينون من آثار دمارِهم وإن لم يكن
الكلامُ مَسوقاً لهم
{وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} أي وزيادةُ بصيرةٍ وموعظةٍ لكم وإنما
قيل
{لّلْمُتَّقِينَ} للإيذان بعلة الحُكمِ فإن مدارَ كونِه هدىً
وموعظةً لهم إنما هو تقواهم ويجوز أن يُرادَ بالمتقين الصائرين
إلى التقوى والهدى والموعظة على ظاهرهما أي هذا بيانٌ لمآل
أمرِ الناسِ وسوءِ مَغبّتِه وهدايةٌ لمن اتقى منهم وزجرٌ لهم
عمَّا هُم عليهِ من التكذيب وأن يُراد به ما يُعمهم وغيرَهم من
المتقين بالفعل ويُرادَ بالهدى والموعظةِ أيضاً ما يعُم
ابتداءَهما والزيادةَ فيهما وإنما قُدّم كونُه بياناً للمكذبين
مع أنه غيرُ مَسوق له على كونه هدىً وموعظةً للمتقين مع أنه
المقصودُ بالسياق لأن أولَ ما يترتب على مشاهدة آثارِ هلاكِ
أسلافِهم ظهورُ حالِ أخلافِهم وأما زيادةُ الهدى أو أصلِه
فأمرٌ مترتبٌ عليه وتخصيصُ البيانِ للناس مع شموله للمتقين
أيضاً لما أنَّ المرادَ به مجردُ البيانِ العاري عن الهدى
والعظةِ والاقتصار عليهما في جانب المتقين مع ترتّبهما على
البيان لما أنهما المقصِدُ الأصليُّ ويجوز أن يكون تعريفُ
الناسِ للجنس أي هذا بيانٌ للناس كافةً وهدى وموعظةٌ للمتقين
منهم خاصة وقيل كلمةُ هَذَا إشارةٌ إلى ما لُخِّص من أمر
المتقين والتائبين والمُصِرِّين وقوله تعالى قَدْ خلت الآية
اعتراض للبعث على الإيمان وما يُستحَقّ به ما ذُكر من أجر
العاملين وأنت خبيرٌ بأن الاعتراضَ لا بد أن يكون مقرِّراً
لمضمون ما وقع في خلاله ومعاينةُ آثارِ هلاكِ المكذبين مما لا
تعلُّقَ له بحال أحدِ الأصنافِ الثلاثةِ للمؤمنين وإن كان
باعثاً على الإيمان زاجراً عن التكذيب وفيل إشارةٌ إلى القرآن
ولا يخفى بُعدُه
(2/88)
وَلَا تَهِنُوا وَلَا
تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (139)
{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} تشجيعٌ
للمؤمنين وتقويةٌ لقلوبهم وتسليةٌ عما أصابهم يوم أحُدٍ من
القتل والقرحِ وكان قد قُتل يومئذ خمسةٌ من المهاجرين حمزةُ
بنِ عبد المطلبِ ومصعب بنُ عميرٍ صاحبُ رايةِ رسول الله صلى
الله عليه وسلم وعبدُ اللَّه بنُ جحشٍ ابن عمة النبيِّ صلَّى
الله عليهِ وسلم وعثمان بن شماس وسعد مولى عتبه
(2/88)
140 - آل عمران
رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين ومن الأنصار سبعون رجلا رضي
الله عنهم أي لا تضعُفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح ولا
تحزَنوا على مَنْ قتل منكم
{وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ} جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ الفعلين أي
والحالُ أنكم الأعلَوْن الغالبون دون عدوِّكم فإن مصيرَ أمرِهم
إلى الدمار حسبما شاهدتم من أحوال أسلافِهم فهو تصريحٌ بالوعد
بالنصر والغلبةِ بعد الإشعار به فيما سبق أو وأنتم المعهودون
بغاية علوا الشانِ لما أنكم على الحق وقتالكم لله عز وجل
وقَتْلاكم في الجنة وهم على الباطل وقتالُهم للشيطان وقَتْلاهم
في النار وقيل وأنتم الأعلَوْن حالاً منهم حيث أصبتم منهم يومَ
بدرٍ أكثرَ مما أصابوا منكم اليوم
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} متعلقٌ بالنهي أو بالأعلون وجوابُه
محذوفٌ لدَلالة ما تعلق به عليهِ أيْ إنْ كنتُم مؤمنين فلا
تهِنوا ولا تحزَنوا فإن الإيمانَ يوجب قوةَ القلب والثقةَ بصنع
الله تعالى وعدمَ المبالاة بأعدائه أو إن كنتم مؤمنين فأنتم
الأعلَوْن فإن الإيمانَ يقتضي العلوَّ لا محالةَ أو إن كنتم
مصدقين بوعد الله تعالى فأنتم الأعلَوْن وأيَاً ما كانَ
فالمقصودُ تحقيف المعلقِ بناءً على تحقيقُ المعلَّقِ به كما في
قولِ الأجير إنْ كنتُ عمِلتُ لك فأعطني أجري ولذلك قيل معناه
إذ كنتم مؤمنين وقيل معناه إنْ بقيتم على الإيمان
(2/89)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ
قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ
الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
{إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ
القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ} القرحُ بالفتح والضم لغتان كالضَّعف
والضعف وقد قرئ بهما وقيل هو بالفتح والجراح وبالضم ألمها وقرئ
بفتحين وقيل القرح والقرح كالطرد والطرد والمعنى إن نالوا منكم
يومَ أحُدٍ فقد نِلتم منهم قبله يومَ بدر ثم لم يضعف ذلك
قلوبهم ولم يُثَبِّطْهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أحقُّ بأن
لا تضعُفوا فإنكم ترجون من الله مالا يرجون وقيل كلا
المَسَّيْنِ كان يوم أحُد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن
يخالفوا أمرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قَتلوا منهم نيفاً
وعشرين رجلاً منهم صاحبُ لوائِهم وجرحوا عدداً كثيراً وعقَروا
عامة خيلِهم بالنبل
{وَتِلْكَ الايام} إشارةٌ إلى الأيام الجارية فيما بين الأمم
الماضية والآتية كافة لا إلى الأيامِ المعهودةِ خاصةً من يوم
بدرٍ ويومِ أحدٍ بل هي داخلةٌ فيها دخولاً أولياً والمرادُ بها
أوقاتُ الظَفَرِ والغَلَبةِ
{نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} نُصَرِّفها بينهم نُديلُ لهؤلاء
تارةً ولهؤلاء أخرى كقول من قال ... فيوماً علينا ... ويوماً
لنا ويوماً نُساءُ ويوماً نُسَرّ ...
والمداولةُ كالمعاورة يقال داولتُه بينهم فتداولوه أي عاورْتُه
فتعاوره واسمُ الإشارةِ مبتدأ والأيامُ إما صفةٌ له أو بدلٌ
منه أو عطفُ بيان له فنداولها خبره أو خبر فنداولها حالٌ من
الأيام والعاملُ معنى اسمِ الإشارةِ أو خبرٌ بعد خبرٍ وصيغةُ
المضارعِ الدالةُ على التجدد والاستمرارِ للإيذان بأن تلك
المداولةَ سنةٌ مسلوكةٌ فيما بين الأممِ قاطبةً سابقتِها
ولاحقتِها وفيه ضربٌ من التسلية وقوله عز وجل
{وليعلمَ الله الذين آمنوا} إما من باب التمثيلِ أي ليعامِلَكم
معاملةَ من يريد أن يَعلمَ المخلِصين الثابتين على الإيمان من
غيرهم أو العلمُ فيه مجاز عن التمييز يطريق إطلاقِ اسمِ السببِ
عَلى المسبَّب أي ليُميِّزَ الثابتين على الإيمان من غيرهم كما
في قوله تعالى ما كان الله ليذر المؤمنين على مَا أَنتُمْ
عليهِ حتى يميز
(2/89)
141 - آل عمران
الخبيث مِنَ الطيب أو هو على حقيقته معتبَرٌ من حيث تعلُّقُه
بالمعلوم من حيث إنه موجود بالفعل إذْ هُو الذي يدورُ عليه فلك
الجزاء لا من حيث أنه موجودٌ بالقوة وإطلاقُ الإيمانِ مع أن
المرادَ هو الرسوخُ والإخلاصُ فيه للإيذان بأن اسمَ الإيمانِ
لا ينطلق على غيره والالتفاتُ إلى الغَيبة بإسناده إلى اسم
الذاتِ المستجمِعِ للصفات لتربية المهابةِ والإشعارِ بأن صدورَ
كلِّ واحدٍ مما ذكر بصدد التعليلِ من أفعاله تعالى باعتبار
منشإٍ معيّنٍ من صفاته تعالى مغايرٌ لمنشإ الآخَر والجملةُ
علةٌ لما هو فردٌ من أفراد مُطلقِ المداولةِ التي نطقَ بها
قولُه تعالى نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس من المداولة المعهودةِ
الجاريةِ بين لفريقي المؤمنين والكافرين واللامُ متعلقةٌ بما
دل عليه المطلقُ من الفعل المقيَّدِ بالوقوع بين الفريقين
المذكورين أو بنفس الفعلِ المطلقِ باعتبار وقوعِه بينهما
والجملةُ معطوفةٌ على علةٍ أخرى لها معتبرةٍ إما على الخصوص
والتعيينِ محذوفة لدَلالة المذكورةِ عليها لكونها من مباديها
كأنه قيل نداولها بينكم وبين عدوِّكم ليظهرَ أمرُكم وليَعلَمَ
الخ فإن ظهورَ أعمالِهم وخروجَها من القوةِ إلى الفعلِ من
مبادى تمييزِهم عن غيرهم ومواجبِ تعلّقِ العلمِ الأزليِّ بها
من تلك الحيثيةِ وكذا الحالُ في باب التمثيل فتأملْ وإما على
العموم والإبهامِ للتنبيه على أن العللَ غيرُ منحصِرَةٍ فيها
عُدِّد من الأمور وأن العبد يسوءه ما يجري عليه من النوائب ولا
يشعُر بأن الله تعالى جعل له في ذلك من الألطاف الخفية مالا
يخطر بالبال كأنه قيل نداولها بينكم ليكونَ من المصالح كيت
وكيت وليَعلَمَ الخ وفيه من تأكيد التسليةِ ومزيدِ التبصرة
مالا يخفى وتخصيصُ البيان بعلة هذا الفردِ من مطلقِ المداولةِ
دون سائر أفرادِها الجاريةِ فيما بين بقيةِ الأممِ تعييناً أو
إبهاماً لعدم تعلقِ الغرضِ العلميِّ ببيانها ولك أن تجعلَ
المحذوفَ المبْهَمَ عبارةً عن علل سائرِ أفرادِها للإشارة
إجمالاً إلى أن كلَّ فردٍ من أفرادها له علةٌ داعيةٌ إليه كأنه
قيل نداولها بين الناس كافةً ليكونَ كيت وكيت من الحِكَم
الداعيةِ إلى تلك الأفرادِ وليَعلمَ الخ فاللامُ الأولى
متعلقةٌ بالفعل المطلق باعتبار تقييده بتلك اللإفراد والثانية
باعتبار تقييده بالفرد المعهودِ وقيل هي متعلقةٌ بمحذوفٍ
مؤخَّرٍ تقديرُه وليعلمَ الله الذين آمنوا فَعَل ذلك
{وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} جمعُ شهيدٍ أي ويُكرِمَ ناساً
منكم بالشهادة وهم شهداءُ أحُدٍ فمِنْ ابتدائيةٌ أو تبعيضيةٌ
متعلقةٌ بيتخذ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من شهداءَ أو جمعُ شاهدٍ
أي ويتخذ منكم شهوداً معدلين بما ظهر منهم من الثبات على الحق
والصبرِ على الشدائد وغيرِ ذلك من شواهد الصدقِ ليشهدوا على
الأممِ يومَ القيامةِ فمِنْ بيانيةٌ لأن تلك الشهادةَ وظيفةُ
الكلِّ دون المستشهَدين فقط وأيا ما كان ففي لفظ الاتخاذ
المنبئ عن الاصطفاء والتقريبِ من تشريفهم وتفخيم شأنهم مالا
يخفى وقولُهُ تعالى
{والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله
ونفيُ المحبةِ كنايةٌ عن البغض وفي إيقاعه على الظالمين تعريضٌ
بمحبته تعالى لمقابليهم والمرادُ بهم إما غيرُ الثابتين على
الإيمان فالتقريرُ من حيث إن بغضَه تعالى لهم من دواعي إخراجِ
المخلِصينَ المصطَفَيْنَ للشهادة من بينهم وإما الكفرةُ الذين
أُديل لهم فالتقريرُ من حيث إن ذلك ليس بطريق النُصرةِ لهم
فإنها مختصةٌ بأوليائه تعالى بل لِما ذُكر من الفوائدِ
العائدةِ إلى المؤمنين وقوله تعالى
(2/90)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
{وليمحص الله الذين آمنوا} أي ليُصَفِّيَهم
ويُطهرَهم من
(2/90)
142 - آل عمران
الذنوب عطفٌ على يتخذ وتكريرُ اللامِ لتذكير التعليلِ لوقوع
الفصلِ بينهما بالاعتراض وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع
الإضمار لإبراز مزيد الاعتناءِ بشأن التمحيصِ وهذه الأمورُ
الثلاثة عللٌ للمداولة المعهودةِ باعتبار كونِها على المؤمنين
قُدِّمت في الذكر لأنها المحتاجةُ إلى البيان ولعل تأخيرَ
العلةِ الأخيرةِ عن الاعتراض لئلا يُتوَهَّمَ اندراجُ المذنبين
في الظالمين أو ليقترن بقوله عز وجل
{وَيَمْحَقَ الكافرين} فإن التمحيصَ فيه محوُ الآثارِ وإزالةُ
الأوضارِ كما أن المَحْقَ عبارة عن النفص والإذهاب قال المفضل
وهو أن يذهب الشئ بالكلية حتى لا يرى منه شئ ومنه قولُه تعالى
يَمْحَقُ الله الربا أي يستأصله وهذه علة للمداولة باعتبار
كونها على الكافرين والمرادُ بهم الذين حاربوا رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم يومَ أحُدٍ وأصرّوا على الكفر وقد محقَهم الله
عز وجل جميعاً
(2/91)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ
جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
{أَمْ حَسِبْتُمْ} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان
ما هي الغايةُ القصوى من المُداولة والنتيجةِ لما ذُكر من
تمييز المخلِصين وتمحيصِهم واتخاذِ الشهداءِ وإظهارِ عزةِ
منالِها والخطابُ للذين انهزموا يوم أحُدٍ وأمْ منقطعةٌ وما
فيها من كلمةِ بل للإضراب عن التسلية ببيان العلل فيما لقُوا
من الشدّة إلى تحقيق أنها من مبادى الفوزِ بالمطلب الأسني
والهمزةُ للإنكار والاستبعاد أي بل أحسِبتم
{أَن تدخلوا الجنة} وتفوزوا بنعيمها وقوله تعالى
{وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ} حالٌ من ضمير
تدخُلوا مؤكدةٌ للإنكار فإن رجاءَ الأجرِ بغير عملٍ ممن يعلم
أنه منوطٌ به مستبعَدٌ عند العقولِ وعدمُ العلم كنايةٌ عن عدم
المعلومِ لما بينهما من اللزومِ المبنيِّ على لزوم تحققِ
الأولِ لتحقق الثاني ضرورةَ استحالةِ تحقق شئ بدون علمِه تعالى
به وإيثارُها على التصريح للمبالغة في تحقيق المعنى المرادِ
فإنها إثباتٌ لعدم جهادِهم بالبرهان وللإيذان بأن مدارَ ترتبِ
الجزاءِ على الأعمال إنما هو علمُ الله تعالى بها كأنه قيل
والحالُ أنه لم يوجَد الذين جاهدوا منكم وإنما وجه النفيُ إلى
الموصوفين مع أن المنفيَّ هو الوصفُ فقط وكان يكفي أن يقال
ولما يعلمِ الله جهادَكم كنايةً عن معنى ولما تجاهدوا
للمبالغةِ في بيانِ انتفاءِ الوصفِ وعدمِ تحققِه أصلاً وفي
كلمة لما إيذانٌ بأن الجهادَ متوقَّعٌ منهم فيما يُستقبل إلا
أنه غيرُ معتبَرٍ في تأكيد الإنكار وقرئ يعلمَ بفتح الميم على
أن أصله يعلَمَن فحُذفت النونُ أو على طريقة إِتباعِ الميمِ
لما قبلها في الحركة لإبقاء تفخيمِ اسم الله تعالى ومنكم حالٌ
من الذين
{وَيَعْلَمَ الصابرين} منصوبٌ بإضمار أن على أن الواوَ للجمع
كما في قولك لا تأكُلِ السمكَ وتشرَبَ اللبن أي لا يكن منك
أكلُ السمك وشربُ اللبن والمعنى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تدخُلوا
الجنة والحالُ أنه لم يتحقق منكم الجهادُ والصبرُ أي الجمعُ
بينهما وإيثارُ اسمِ الفاعلِ على الموصول للدِلالة على أن
المعتبرَ هو الاستمرارُ على الصبر وللمحافظة على الفواصلِ وقيل
مجزومٌ معطوفٌ على المجزوم قبله قد حُرِّك لالتقاء الساكنين
بالفتح للخِفة والإتباعِ كما مر ويؤيِّده القراءةُ بالكسر على
ما هو الأصلُ في تحريك الساكن وقرئ يعلمُ بالرفع على أنَّ
الواوُ للحالِ وصاحبُها الموصولُ والمبتدأُ محذوفٌ أي وهو
يعلمُ الصابرين كأنه قيل ولما تجاهدوا وأنتم صابرون
(2/91)
143 - 144 آل عمران
(2/92)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ
تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ
رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
{وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت} أي
تتمنُّون الحربَ فإنها من مبادئ الموتِ أو الموتَ بالشهادة
والخطابُ للذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنَّوْن أن يشهدوا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً لينالوا ما ناله شهداءُ
بدرٍ من الكرامة فألحُّوا على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه
وسلم في الخروج ثم ظهر منهم خلافُ ذلك
{مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} متعلقٌ بتَمنَّون مبينٌ لسبب
إقدامِهم على التمنى من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا هوله وشدته
وقرئ تلاقوه
{فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي ما تتمنَّونه من أسباب الموتِ أو
الموتَ بمشاهدة أسبابِه وقولُه تعالى
{وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} حالٌ من ضميرِ المخاطبينَ وفي إيثار
الرؤيةِ على الملاقاة وتقييدِها بالنظر مزيدُ مبالغةٍ في
مشاهدتهم له والفاءُ فصيحةٌ كأنه قيل إِن كُنتُمْ صادقين في
تمنيكم ذلك فقد رأيتُموه معاينين له حين قُتل بين أيديكم مَنْ
قُتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تُقتلوا فلِمَ فعلتم ما
فعلتم وهو توبيخٌ لهم على تمنِّيهم الحربَ وتسبُّبهم لها ثم
جُبنِهم وانهزامِهم لا على تمني الشهادةِ بناءً على تضمُّنها
لغلَبة الكفارِ لما أن مطلبَ من يتمنّاها نيلُ كرامةِ الشهداءِ
من غير أن يخطُر بباله شئ غيرُ ذلك فلا يستحِقُّ العتابَ من
تلك الجهة
(2/92)
وَمَا مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ
مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ
يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} مبتدأٌ
وخبرٌ ولا عمل لما بالاتفاق لانتقاض نفيِه بإلا وقوله تعالى
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} صفة لرسول منبئة عن كونه في
شرف الخُلوِّ فإن خلوَّ مشاركيه في منصِب الرسالةِ من شواهد
خلوة عليه الصلاة والسلام لا محالة كأنه قيل قد خلت من قبله
أمثالُه فسيخْلو كما خلَوْا والقصرُ قلبيٌّ فإنهم لمّا انقلبوا
على أعقابهم فكأنهم اعتقدوا أنه عليه الصلاةُ والسلام رسولٌ لا
كسائر الرسلِ في أنه يخلو كما خلوا ويحب التمسكُ بدينه بعده
كما يجب التمسك بدينهم بعدَهم فرُدَّ عليهم بأنه ليس إلا
رسولاً كسائر الرسلِ فسيخلو كما خلَوْا ويجب التمسكُ بدينه كما
يجب التمسكُ بدينهم وقيل هو قصرُ إفرادٍ فإنهم لما استعظموا
عدم بقائه عليه الصلاة والسلام لهم نُزِّلوا منزلةَ
المستبعِدين لهلاكه كأنهم يعتقدون فيه عليه الصلاة والسلام
وصفَيْن الرسالة والبعدَ عن الهلاك فرُدَّ عليهم بأنه مقصور
على الرسالة لايتجاوزها إلى البعد عن الهلاك فلا بد حينئذٍ من
جعل قوله تعالى قَدْ خَلَتْ الخ كلاماً مبتدأً مَسوقاً لتقرير
عدمِ براءتِه عليه الصلاة والسلام من الهلاك وبيانِ كونِه
أُسوةً لمن قبلَهُ من الرُّسلِ عليهم السَّلامُ وأياً ما كان
فالكلامُ يخرج على خلاف مقتضى الظاهرِ
{أفَإِنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلى أعْقَابِكُمْ}
إنكارٌ لارتدادهم وانقلابِهم عن الدين بخُلوِّه بموتٍ أو قتلٍ
بعد علمِهم بخلوِّ الرسلِ قبله وبقاءِ دينِهم متمسَّكاً به
وقيل الفاءُ للسببية والهمزةُ لإنكار أن يجعلوا خُلوَّ الرسلِ
قبله سبباً لانقلابهم بعد وفاتِه مع كونه سبباً في الحقيقة
لثباتهم على الدين وإيرادُ الموتِ بكلمة إن مع علمهم به
اْلبتةَ لتنزيل المخاطبين منزلةَ المتردِّدين فيه لما ذُكر من
استعظامهم إياه وهكذا الحالُ في سائر المواردِ فإن كلمةَ إنْ
في كلام الله تعالى لا تجري على ظاهرها قطُّ ضرورة علمِه تعالى
بالوقوع
(2/92)
أو اللاوقوعِ بل تُحملُ على اعتبار حالِ
السامعِ أو أمرٍ آخرَ يناسب المقامَ وتقديمُ تقديرِ الموتِ مع
أن تقديرَ القتلِ هو الذي ثار منه الفتنةُ وعظُم فيه المحنةُ
لِما أن الموتَ في شرف الوقوعِ فزجرُ الناسِ عن الانقلاب عنده
وحملهم على التثبيت هناك أهمُّ ولأن الوصفَ الجامعَ بينه وبين
الرسلِ عليهم السلام هو الخلوُّ بالموت دون القتل روي أنه لما
التقى الفئتانِ حمل أبو دجانةَ في نفرٍ من المسلمين على
المشركين فقاتل قِتالاً شديداً وقاتل عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي
الله عنه قتالاً عظيماً حتى التوى سيفُه وكذا سعدُ بنُ أبي
وقاصٍ فقتلوا جماعةً من المشركين وهزموهم فلما نظر الرماةُ
إليهم ورأَوْا أنهم قد انهزموا أقبلوا على النَّهْب ولم
يلتفتوا إلى نهي أميرهم عبد الله بن جبيرٍ فلم يبقَ منهم عنده
إلا ثمانيةُ نفرٍ فلما رآهم خالدُ بنُ الوليدِ قد اشتغلوا
بالغنيمة حمل عليهم في مائتين وخمسين فارساً من المشركين من
قبل الشعب وقتلوا من بقيَ من الرُماة ودخلوا خلفَ أقفيةِ
المسلمين ففرّقوهم وهزموهم وحملوا على أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقاتلوهم حتى أصيب هناك نحوُ ثلاثين رجلاً كلٌّ
منهم يجثوا بين يديه ويقول وجهي لوجهك وقاء ونفسي لنفسك فداءٌ
وعليك سلامُ الله غيرَ مُودَّعٍ ورمى عبدُ اللَّه بنُ قميئةَ
الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رَباعيتَه
وشجُّ وجهَه الكريمَ فذبّ عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وكان
صاحبَ الرايةِ حتى قتله ابنُ قميئة وهو يزعُم أنه قتل النبيَّ
صلَّى الله عليهِ وسلم فقال قتلت محمدا وصارخ قيل إنه إبليسُ
ألا أن محمداً قد قُتل فانكفأ الناسُ وجعل الرسولُ صلى الله
عليه وسلم يدعو إليَّ عبادَ الله قال كعبُ بنُ مالك كنت أولُ
من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين فناديت بأعلى
صوتي يا معشرَ المسلمين هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه وحموه حتى كشفوا عنه المشركين
وتفرّق الباقون وقال بعضُهم ليت بن أُبيَ يأخذ لنا أماناً من
أبي سفيانَ وقال ناس من المنافقين لو كانَ نبيَّاً لما قُتل
ارجِعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم فقال أنسُ بنُ النضر وهو عمُّ
أنسِ بنِ مالكٍ يا قوم إن كان قُتل محمدٌ فإن ربَّ محمدٍ حيٌّ
لا يموت وما تصنعون بالحياة بعد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
فقاتِلوا على ما قاتل عليه وموتوا كِراماً على ما مات عليه ثم
قال اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاءِ وأبرَأُ إليك مما
جاء به هؤلاء ثم شدّ بسيفه وقاتل حتى قُتل وتجويزهم لقتله عليه
الصَّلاةُ والسَّلامُ مع قوله تعالى {والله يَعْصِمُكَ مِنَ
الناس} لما أن كلَّ آيةٍ ليس يسمعها كلُّ أحدٍ ولا كلُّ من
يسمعها يستحضِرُها في كل مقام لاسيما في مثل ذلك المقامِ
الهائل وقد غفَل عمرُ رضي الله عنه عن هذه الآية الكريمةِ عند
وفاته عليه الصلاة والسلام وقام في الناس فقال إن رجالاً من
المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وإن
رسولَ الله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران
فغاب عن قومه أربعين ليلةً ثم رجع والله ليرجِعَنَّ رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولأُقطِّعن أيديَ رجالٍ وأرجلَهم يزعمون أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يزل يكرِّرُ ذلك إلى أن
قام أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم
قال أيها الناسُ من كان يعبُد محمداً فإن محمداً قد مات ومن
كان يعبُد الله فإن الله حى لايموت ثم تلا {وَمَا مُحَمَّدٌ
إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} الآية قال
الراوي والله لكأن الناسَ لم يعلموا أن هذه الآيةَ نزلت على
رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم حتى تلاها أبو بكر وقال عمر
رضي الله عنه والله ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكرٍ رضيَ الله
عنْهُ يتلو فعقرت حتى ماتحملنى رجلاي وعرفتُ أن رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم قد مات
{وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ} بإدباره عما كان يُقبل عليه
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من أمر الجهادِ وغيرِه
(2/93)
145 - آل عمران
وقيل بارتداده عن الإسلامِ وما ارتد يومئذ أحدٌ من المسلمين
إلا ما كان من المنافقين
{فَلَن يَضُرَّ الله} بما فعل من الانقلاب
{شَيْئاً} أي شيئا من الضرر وإنما يضُرُّ نفسَه بتعريضها
للسُخط والعذاب
{وَسَيَجْزِى الله الشاكرين} أي الثابتين على دينَ الإسلامِ
الذي هو أجلُّ نعمةٍ وأعزُّ معروفٍ سُمّوا بذلك لأن الثباتَ
عليه شكرٌ له وعِرفانٌ لحقه وفيه إيماءٌ إلى كُفران المنقلبين
ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ المراد بهم
الطائعون لله تعالى من المهاجرين والأنصار وعَنْ عليَ رضيَ
الله عنه أبو بكر وأصحابه رضي الله عنهم وعنْهُ رضيَ الله
عنْهُ أنَّه قال أبو بكر من الشاكرين ومن أحبّاء الله تعالَى
وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمار لإبراز مزيدِ
الاعتناءِ بشأن جزائِهم
(2/94)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا
وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ
يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي
الشَّاكِرِينَ (145)
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ} كلامٌ
مستأنفٌ سيق للتنبيه على خطئهم فيما فعلوا حذراً من قتلهم
وبناءً على الإرجاف بقتلِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ببيانِ
أن موتَ كلِّ نفسٍ منوطٌ بمشيئةِ الله عَزَّ وجَلَّ لايكاد يقع
بدون تعلقها به وإن خاضت موارد الخوف واقتحمت مضايقَ كلِّ هولٍ
مخوف وقد أشير بذلك إلى أنها لم تكن متعلقةً بموتهم في الوقت
الذي حذِروه فيه ولذلك لم يُقتلوا حينئذ لا لإحجامهم عن مباشرة
القتالِ وكلمة كان ناقصةٌ اسمُها أن تموت وخبرُها الظرفُ على
انه متعلق بمحذف وقوله تعالى
{إِلاَّ بِإِذْنِ الله} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأسباب أي
وما كان الموتُ حاصلاً لنفس من النفوس بسببٍ من الأسبابِ إلا
بمشيئه تعالى على أن الإذنَ مَجازٌ منها لكونها من لوازمه أو
إلا بإذنه لملك الموتِ في قبض روحِها وسَوْقُ الكلامِ مَساقَ
التمثيل بتصوير الموتِ بالنسبة إلى النفوس بصورةِ الأفعالِ
الاختياريةِ التي لا يتسنى للفاعل إيقاعُها والإقدامُ عليها
بدون إذنِه تعالى أو بتنزيل إقدامِها على مباديه أعني القتالَ
منزلةَ الإقدام على نفسه للمبالغة في تحقيق المرامِ فإن موتَها
حيث استحال وقوعُه عند إقدامِها عليه أو على مباديه وسعْيِها
في إيقاعه فلأَنْ يستحيلَ عند عدمِ ذلك أولى وأظهر وفيه من
التحريض على القتال مالا يخفى
{كتابا} مصدرٌ مؤكّدٌ لمضمون ما قبله أي كتبه الله كتاباً
{مُّؤَجَّلاً} موقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخَّرُ ولو
ساعةً وقرئ مُوَجّلاً بالواو بدلَ الهمزةِ على قياس التخفيفِ
وبعد تحقيق أن مدار الموتِ والحياةِ محضُ مشيئةِ الله عزَّ
وجلَّ من غير أن يكون فيه مدخلٌ لأحد أصلاً أشير إلى أن توفيةَ
ثمراتِ الأعمالِ دائرةٌ على إرادتهم ليصْرِفوها عن الأغراض
الدنية إلى المطالب السنيةِ فقيل
{وَمَن يُرِدِ} أي بعمله
{ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ} بنون العظمةِ على طريق الالتفات
{منها} أي من ثوابها ما نشاء أن نؤتيَه إياه كما في قوله عز
وجل مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا
نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ وهو تعريضٌ بمن شغلتهم الغنائمُ يومئذ
وقد مر تفصيلُه
{وَمَن يُرِدِ} أي بعمله
{ثَوَابَ الاخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي من ثوابها ما نشاء من
الأضعاف حسبما جريَ به الوعدُ الكريمُ
{وَسَنَجْزِى الشاكرين} نعمةَ الإسلامِ الثابتين عليه الصارفين
لما آتاهُم الله تعالى من القُوى والقدر إلى ما خُلقت هي لأجله
من طاعة الله تعالى لا يلويهم
(2/94)
146 - آل عمران
عن ذلك صارفٌ أصلاً والمرادُ بهم إما المجاهدون المعهودون من
الشهداءِ وغيرهم وإما جنسُ الشاكرين وهم داخلون فيه دخولا
أولياً والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله ووعدٌ
بالمزيد عليه وفي تصديرها بالسين وإبهامِ الجزاءِ من التأكيد
والدَّلالة على فخامة شأنِ الجزاءِ وكونِه بحيث يقصُر عنه
البيان مالا يخفى وقرئ الأفعالُ الثلاثةُ بالياء
(2/95)
وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا
لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا
اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
{وَكَأَيّن} كلامٌ مبتدأٌ ناعٍ عليهم
تقصيرَهم وسوءَ صنيعِهم في صدودهم عن سَنن الربانيين المجاهدين
في سبيل الله مع الرسلِ الخاليةِ عليهم السلام وكأين لفظةٌ
مركبةٌ من كاف التشبيهِ وأي حدث فيها بعد التركيب معنى
التكثيرِ كما حدث في كذا وكذا والنون تنوينٌ أُثبتت في الخط
على غير قياسٍ وفيها خمسُ لغاتٍ هي إحداهن والثانيةُ كائِنْ
مثلُ كاعن والثالثة كأْيِن مثل كعْيِن والرابعةُ كَيْئِن بياء
ساكنة بعدها همزة مكسورة وهي قلبُ ما قبلها والخامسةُ كأْن
مثلُ كعن وقد قرئ بكل منها ومحلُّها الرفعُ بالابتداءِ وقولُه
تعالى
{مّن نَّبِىٍّ} تمييزٌ لها لأنها مثلُ كم الخبرية وقد جاء
تمييزُها منصوباً كما في قوله ... أطرُد اليأسَ بالرجاء فكأين
... أملاحم يسره بعد عسره ...
وقوله تعالى
{قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ} خبرٌ لها على أن الفعلَ
مسندٌ إلى الظاهر والرابطُ هو الضمير المجرورُ في معه وقرئ
قُتِل وقُتّل على صيغة المبني للمفعول مخففةً ومشددةً
والرِّبِّيُّ منسوبٌ إلى الرب كالرَّباني وكسرُ الراء من
تغييرات النسب وقرئ بضمها وبفتحها أيضاً على الأصل وقيل هو
منسوبٌ إلى الرَّبة وهي الجماعة أي كثيرٌ من الأنبياء قاتلَ
معه لإعلاء كلمةِ الله وإعزاز دينِه علماءُ أتقياءُ أو عابدون
أو جماعاتٌ كثيرة فالظرفُ متعلقٌ بقاتل أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً
من فاعله كما في القراءتين الأخيرتين إذ لا احتمالَ فيهما
لتعلقه بالفعل أي قُتلوا أو قُتّلوا كائنين معه في القتال لا
في القتل قالَ سعيدُ بنُ جُبيرٍ ما سمعنا بنبي قُتل في القتال
وقال الحسنُ البصري وجماعةٌ من العظماء لم يقتَلْ نبي في حرب
قطُّ وقيل الفعلُ مسندٌ إلى ضمير النبي والظرف متعلقٌ بمحذوفٍ
وقعَ حالاً منه والرابطُ هو الضميرُ المجرورُ الراجعُ إليه
وهذا واضحٌ على القراءة المشهورة بلا خلاف أي كم من نبي قاتلَ
كائناً معه في القتال ربيون كثير وأما على القراءتين الأخيرتين
فغيرُ ظاهرٍ لا سيما على قراءة التشديد وقد جوّزه بعضُهم
وأيّده بأن مدارَ التوبيخ اتخذالهم للإرجاف بقتلِه عليه السلام
أي كم من نبي قُتل كائناً معه في القتل أو في القتال ربيون الخ
وقوله تعالى
{فَمَا وهنوا} عطف عل قاتل على أن المرادَ به عدمُ الوهنِ
المتوقَّعِ من القتال كما في قولك وعظتُه فلم يتعظ وصِحْتُ به
فلم ينزجِرْ فإن الإتيانَ بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه
وإن كان استمراراً عليه بحسَب الظاهر لكنه بحسب الحقيقةِ صنعٌ
جديدٌ مصحِّحٌ لدخول الفاءِ المرتبةِ له على ما قبله أي فما
فتَروا وما انكسرت هِمتُهم
{لِمَا أَصَابَهُمْ} في أثناء القتالِ وهو علةٌ للمنفيّ دون
النفيِ نعم يُشعِرُ بعلّته قوله تعالى
{فِى سَبِيلِ الله} فإن كونَ ذلك في سبيله عز وجل مما يقوِّي
قلوبَهم ويُزيلُ وهنَهم وما موصولةٌ أو موصوفةٌ فإن جُعِل
الضميران لجميع الرِّبيِّين فهي عبارةٌ عما عدا القتلِ من
الجراح وسائرِ المكارِه المعتريةِ
(2/95)
147 - آل عمران
للكل وإن جعلاً للبعض الباقين بعد ما قُتل الآخرون كما هو
الأنسبُ بمقام توبيخِ المنخذِلين بعد ما استُشهد الشهداءُ فهي
عبارةٌ عما ذُكر مع ما اعتراهم من قتل إخوانِهم من الخوف
والحُزْن وغيرِ ذلك هذا على القراءة المشهورةِ وأما على
القراءتين الأخيرتين فإن أُسندَ الفعلُ إلى الرّبيّين
فالضميران للباقين منهم حتماً وإن أُسند إلى ضمير النبي كما هو
النسب بالتوبيخ على الانخذال بسبب الإرجاف بقتلِه عليه
الصَّلاةُ والسَّلامُ فهما للباقين أيضاً إن اعتُبر كونُ
الرّبيّين مع النبي في القتل وللجميع إن اعتُبر كونُهم معه في
القتال
{وَمَا ضَعُفُواْ} عن العدو وقيل عن الجهاد وقيل في الدين
{وَمَا استكانوا} أي وما خضَعوا للعدو وأصلُه استكنَ من السكون
لأن الخاضعَ يسكُن لصاحبه ليفعلَ به ما يريدُه والألفُ من
إشباع الفتحةِ أو استكْوَن من الكون لأنه يُطلب أن يكون لمن
يُخضَع له وهذا تعريضٌ بما أصابهم من الوهن والانكسارِ عند
استيلاءِ الكفرةِ عليهم والإرجاف بقتل النبيِّ صلَّى الله
عليهِ وسلم وبضَعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتِهم
لهم حين أرادوا أن يعتضِدوا بابن أُبيّ المنافق في طلب الأمانِ
من أبي سفيان
{والله يُحِبُّ الصابرين} أي على مقاساة الشدائدِ ومعاناةِ
المكاره في سبيل الله فينصرهم ويعظهم قدرَهم والمرادُ
بالصابرين إما المعهودون والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ للثناء
عليهم بحسن الصبرِ والإشعارِ بعلة الحُكم وإما الجنس وهم
داخلون فيه دخولا أولياً والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها
(2/96)
وَمَا كَانَ
قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ
أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
(147)
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} كلامٌ مبينٌ
لمحاسنهم القوليةِ معطوفٌ على ما قبله من الجُمل المبيِّنةِ
لمحاسنهم الفعلية وقولهم بالنصب خبرٌ لكان واسمُها أن وما
بعدها في قوله تعالى
{إلا أن قَالُواْ} والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعم الأشياء ما كانَ
قولاً لهم عند أي لقاء للعدو واقتحامِ مضايق الحربِ وإصابةِ ما
أصابهم من فنون الشدائد والأهوال شئ من الأشياءِ إِلاَّ أَن
قالوا
{ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} أي صغائرَنا
{وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا} أي تجاوزْنا الحدَّ في ركوب
الكبائرِ أضافوا الذنوبَ والإسرافَ إلى أنفسهم مع كونهم
ربانيين برءاء من التفريط في جنب الله تعالى هضما لها
واستقصارا لهممهم وإسناداً لما أصابهم إلى أعمالهم وقدّموا
الدعاءَ بمغفرتها على ما هو الأهمُّ بحسب الحال من الدعاء
بقولهم
{وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} أي في مواطن الحربِ بالتقوية
والتأييدِ من عندك أو ثبتْنا على دينك الحقِّ
{وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} تقريباً له إلى حيز القَبول
فإن الدعاءَ المقرونَ بالخضوع الصادرَ عن زكاء وطهارةٍ أقربُ
إلى الاستجابة والمعنى لم يزالوا مواظبين على هذا الدعاءِ من
غير أن يصدُرَ عنهم قولٌ يوهم شائبةَ الجزَعِ والخَوَرِ
والتزلزُلِ في مواقف الحربِ ومراصدِ الدين وفيه من التعريض
بالمهزمين مالا يخفى وقرأ ابنُ كثير وعاصمٌ في رواية عنهما
برفع قَوْلُهُمْ على أنه الاسمُ والخبرُ أنَّ وَمَا في حيزِها
أي ما كان قولُهم حينئذ شيئاً من الأشياءِ إلا هذا القول
المنبىء عن أحاسن المحاسنِ وهذا كما ترى أقعدُ بحسب المعنى
وأوفق بمقتضى المقام لما أن الإخبارَ بكون قولِهم المطلقِ
خصوصيةَ قولِهم المحكيِّ عنهم مفصلاً كما تفيده قراءتهما اكثر
إفادة للسامع
(2/96)
148 - 149 آل عمران
من الإخبار بكون خصوصيةِ قولِهم المذكورِ قولَهم لما أنَّ
مصبَّ الفائدةِ وموقِعَ البيانِ في الجُملِ الخبرية هو الخبرُ
فالأحقُّ بالخبريَّةِ ما هو أكثرُ إفادةً وأظهرُ دِلالةً على
الحدث وأوفرُ اشتمالاً على نِسَب خاصةٍ بعيدةٍ من الوقُوع في
الخارج وفي ذهن السامعِ ولا يخفى أن ذلك ههنا في أنْ مع ما في
حيُّزها أتمَّ وأكملَ وأما ما تفيدُه الإضافةُ من لنسبة
المطلقةِ الإجماليةِ فحيث كانتْ سهلةَ الحصولِ خارجاً وذِهناً
كان حقُّها أنْ تلاحَظَ ملاحظة جمالية وتُجعلَ عنواناً للموضوع
لا مقصوداً بالذات في باب البيانِ وإنما اختار الجمهورُ ما
اختاره لقاعدة صناعيةٍ هي أنه إذا اجتمع معرفتان فالأعراف
منهما أحق بالاسمية ولاريب في أعرفية أَن قَالُواْ لدلالته على
جهة النسبةِ وزمانِ الحدثِ ولأنه يشبه المضمرَ من حيث أنه
لايوصف ولا يوصف به وقولَهم مضافٌ إلى مضمر فهو بمنزلة العَلَم
فتأمل
(2/97)
فَآتَاهُمُ اللَّهُ
ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
{فاتاهم الله} بسبب دعائِهم ذلك
{ثَوَابَ الدنيا} أي النصرَ والغنيمةَ والعزَّ والذكرَ الجميلَ
{وَحُسْنَ ثَوَابِ الاخرة} أي وثواب الاخرة الحسنُ وهو الجنةُ
والنعيمُ المخلّدُ وتخصيصُ وصفِ الحسن به للإيذان بفضله
ومزيتِه وأنه المعتدُّ به عنده تعالى
{والله يُحِبُّ المحسنين} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله فإن
محبةَ الله تعالى للعبد عبارةٌ عن رضاه عنه وإرادةِ الخيرِ به
فهي مبدأٌ لكل سعادة واللامُ إما للعهد وإنما وُضع المُظهرُ
موضِعَ ضميرِ المعهودين للإشعار بأن ما حُكيَ عنهم من الأفعال
والأقوالِ من باب الإحسانِ وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً
أولياً وهذا أنسبُ بمقام ترغيبِ المؤمنين في تحصيل ما حكي عنهم
من المناقب الجليلة
(2/97)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا
يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
(149)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} شروعٌ في
زجرهم عن متابعة الكفارِ ببيان استتباعِها لخسران الدنيا
والآخرة إثرَ ترغيبِهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء عليهم
السلام ببيان إفضائه إلى فوزهم بسعادة الدارين وتصديرُ الخطابِ
بالنداء والتنبيهِ لإظهار الاعتناءِ بما في حيِّزه ووصفُهم
بالإيمان لتذكير حالِهم وتثبيتِهم عليها بإظهار مباينتِها لحال
أعدائِهم كما أن وصفَ المنافقين بالكفر في قوله تعالى
{إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} لذلك قصداً إلى مزيد
التنفيرِ عنهم والتحذيرِ عن طاعتهم قال علي رضي الله عنه نزلت
في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمةِ ارجِعوا إلى إخوانكم
وادخُلوا في دينهم فوقوعُ قوله تعالى
{يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم} جواباً للشرط مع كونِه في قوَّةِ
أنْ يقالَ إن تُطيعوهم في قولهم ارجِعوا إلى إخوانكم وادخُلوا
في دينهم يدخلوكم في دينهم باعتبار كونه تمهيداً لقوله تعالى
{فَتَنقَلِبُواْ خاسرين} أي للدنيا والآخرة غير فائزين بشئ
منهما واقعين في العذاب الخالدِ على أن الارتدادَ على العقب
علم في انتكاس الأمرِ ومثَلٌ في الحور بعد الكور وقيل المراد
بهم اليهودُ والنصارى حيث كانوا يستغوونهم ويُوقِعون لهم
الشُّبَه في الدين ويقولون لو كان نبياً حقاً لما غُلب ولمَا
أصابه وأصحابَه ما أصابهم وإنما هو رجلٌ حالُه كحال غيرِه من
الناس يوماً عليه ويوماً له وقيل أبو سفيان وأصحابُه والمرادُ
بطاعتهم استئمانُهم والاستكانةُ لهم وقيلَ الموصولُ على
عمومِهِ والمعنى نهيُ المؤمنين عن طاعتهم في أمرٍ من الأمورِ
حتى لا يستجرّوهم إلى الارتداد عن الدين
(2/97)
150 - 151 152 آل عمران
فلا حاجةَ على هذه التقاديرِ إلى ما مرَّ من البيان
(2/98)
بَلِ اللَّهُ
مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
{بَلِ الله مولاكم} إضرابٌ عَمَّا يُفهم
منْ مضمون الشرطيةِ كأنه قيل فليسوا أنصارَكم حتى تطيعوهم بل
الله ناصرُكم لا غيرُه فأطيعوه واستغنوا به عن موالاتهم وقرئ
بالنصب كأنه قيل فلا تطيعوهم بل أطيعوا الله ومولاكم نُصب على
أنه صفةٌ له
{وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} فخُصّوه بالطاعة والاستعانة
(2/98)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا
لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ
وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
{سَنُلْقِى} بنون العظمةِ على طريقة
الالتفاتِ جرياً على سنن الكبرياء لتربية المهابة وقرئ بالياء
والسين لتأكيد الإلقاءِ
{في قلوب الذين كفروا الرعب} بسكون العين وقرئ بضمها على الصل
وهو ما قُذف في قلوبهم من الخوف يوم أحُد حتى تركوا القتالَ
ورجعوا من غير سببٍ ولهم القوةُ والغلبة وقيل ذهبوا إلى مكةَ
فلما كانوا ببعض الطريقِ قالوا ما صنعنا شيئاً قتلنا منهم ثم
نركناهم ونحن قاهرون ارجِعوا فاستأصِلوهم فعند ذلك ألقى الله
تعالى في قلوبهم الرُّعْبَ فأمسكوا فلا بد من كون نزولِ الآيةِ
في تضاعيف الحربِ أو عَقيب انقضائه وقيل هو ما أُلقيَ في
قلوبهم من الرعب يومَ الأحزاب
{بِمَا أَشْرَكُواْ بالله} متعلقٌ بنُلقي دون الرعب وما
مصدريةٌ أي بسبب إشراكِهم به تعالى فإنه من موجبات خِذْلانِهم
ونصرِ المؤمنين عليهم وكلاهما من دواعي الرعب
{مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ} أبي إشراكه
{سلطانا} أي حجةً سمِّيت به لوضوحها وإنارتها أو لقوّتها أو
لحِدّتها ونفوذِها وذكرُ عدمِ تنزيلِها مع استحالة تحققِها في
نفسها من قبيل قوله ... وَلاَ تَرَى الضبَّ بها ينجر ...
أي لاضب ولا انحجار وفيه إيذانٌ بأن المتَّبعَ في الباب هو
البرهانُ السماويُّ دون الآراءِ والأهواءِ الباطلة
{وَمَأْوَاهُمُ} بيانٌ لأحوالهم في الآخرة إثر بيان أحوالِهم
في الدنيا وهي الرعبُ أي ما يأوون إليه في الآخرة
{النار} لا ملجأَ لهم غيرَها
{وَبِئْسَ مثوى الظالمين} أي مثواهم وإنما وُضع موضعَه المظهرُ
المذكورُ للتغليظ والتعليلِ والإشعارِ بأنهم في إشراكهم ظالمون
واضعون للشئ في غير موضعِه والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي بئس مثوى
الظالمين النارُ وفي جعلها مثواهم بعد جعلِها مأواهم نوعُ رمزٍ
إلى خلودهم فيها فإن المثوى مكانُ الإقامةِ المنبئة عن المُكثْ
وأما المأوى فهو المكانُ الذي يأوي إليه الإنسان
(2/98)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا
فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ
بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ
الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} نصب
على أنه مفعول ثانٍ لصَدَق صريحاً وقيل بنزعِ الجارِّ أي في
وعده نزلت حين قال ناسٌ من المؤمنين عند رجوعِهم إلى المدينة
من أين أصابنا وقد وعدنا الله تعالى بالنصر وهو ما وعدهم على
لسان نبيه غليه السلامُ من النصر حيث قال للرماة لا تبرجوا
مكانكم
(2/98)
فلن نزال غالبين ما ثبتُّم مكانَكم وفي
رواية أخرى لا تبرَحوا عن هذا المكانِ فإنا لا نزال غالبين ما
دمتم في هذا المكان وقد كان كذلك فإن المشركين لما أقبلوا جعل
الرماةُ يرشُقونهم والباقون يضرِبونهم بالسيوف حتى انهزموا
والمسلمين على آثارهم يقتُلونهم قتلاً ذريعاً وذلكَ قولُه
تعالى
{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} أي تقتُلونهم قتلاً كثيراً فاشياً من
حسَّه إذا أبطل حِسَّه وهو ظرفٌ لصدقكم وقوله تعالى
{بِإِذْنِهِ} أي بتيسيره وتوفيقِه لتحقيق أنّ قتلَهم بما وعدهم
الله تعالى من النصر وقيل هو ما وعدهم بقوله تعالى {إِن
تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} الآية وقد مر تحقيقُ أن ذلك كان
يومَ بدر كيف لا والموعودُ بما ذكر إمدادُه عز وجل بإنزال
الملائكةِ عليهم السلام وتقييدُ صدقِ وعدِه تعالى بوقت قتلِهم
بإذنه تعالى صريحٌ في أن الموعودَ هو النصرُ المعنويُّ
والتيسيرُ لا الإمدادُ بالملائكة وقيل هو ما وعده تعالى بقوله
سَنُلْقِى الخ وأنت خبيرٌ بأن إلقاءَ الرعبِ كان عند تركِهم
القتالَ ورجوعِهم من غير سبب أو بعد ذلك في الطريق على اختلاف
الروايتين وأياً ما كانَ فلا سبيل إلى كونه مُغياً بقوله تعالى
{حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} أي جبُنتم وضعُف رأيُكم أو مِلتم إلى
الغنيمة فإن الحرصَ من ضعف القلب
{وتنازعتم فِى الامر} فقال بعضُ الرماةِ حين انهزم المشركون
وولَّوْا هاربين والمسلمون على أعقابهم قتلاً وضرباً فما
موقفنا ههنا بعد هذا وقال أميرُهم عبد الله بن جبير رضي الله
عنه لا نخالف أمرَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فثبت مكانه في
نفر دون العشرةِ من أصحابه ونفَرَ الباقون للنهب وذلك قوله
تعالى
{وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} أي
من الظفر والغنيمةِ وانهزامِ العدوِّ فلما رأى المشركون ذلك
حَملوا عليهم من قبل الشِّعْبِ وقتلوا أميرَ الرماةِ ومن معه
من أصحابه حسبما فُصِّل في تفسيرِ قولِه تعالى {أفَإِنْ مَاتَ
أوْ قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم} وجوابُ إذا محذوفٌ وهو منعكم
نصره وقيل هو امتحنكم ويرده جعل الابتداء غايةً للصَّرْف
المترتِّبِ على منع النصرِ وقيل هو انقسمتم إلى قسمين كما ينبئ
عنه قوله تعالى
{مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} وهم الذين تركوا المركزَ
وأقبلوا على النهب
{وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاخرة} وهم الذين ثبتوا مكانَهم حتى
نالوا شرفَ الشهادة هذا على تقديرِ كونِ إذا شرطيةً وحتى
ابتدائيةً داخلةً على الجملةِ الشرطيةِ وقيل إِذَا اسمٌ كما في
قولهم إذا يقوم زيد يقوم عمرو وحتى حرفُ جرٍ بمعنى إلى متعلقة
بقوله تعالى صَدَقَكُمُ باعتبار تضمُّنِه لمعنى النصرِ كأنه
قيل لقد نصركم الله إلى وقت فشلِكم وتنازُعِكم الخ وعلى هذا
فقولُه تعالى
{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} عطف على ذلك وعلى الأول عطف على
الجواب المحذوف كما أشير إليه والجملتان الظرفيتان اعتراض بين
المتعاطفين أي كفكم عَنْهُمْ حتى حالت الحالُ ودالت الدولةُ
وفيه من اللطف بالمسلمين مالا يخفى
{لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي يعاملَكم معاملةَ من يمتحنكم بالمصائب
ليَظهرَ ثباتُكم على الإيمان عندها
{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} تفضّلاً ولِمَا علم من ندمكم على
المخالفة
{والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما
قبله ومؤْذِنٌ بأن ذلك العفوَ بطريق التفضّلِ والإحسانِ لا
بطريق الوجوبِ عليه أي شأنُه أن يتفضلَ عليهم بالعفو أو هو
متفضلٌ عليهم في جميع الأحوالِ أديل لهم أو أُديل عليهم إذ
الابتلاءُ أيضاً رحمةٌ والتنكيرُ للتفخيم والمرادُ بالمؤمنين
إما المخاطبون والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ للتشريفِ والإشعارِ
بعلة الحُكم وإما الجنسُ وهم داخلونَ في الحكم دخولاً أولياً
(2/99)
153 - 154 آل عمران
(2/100)
إِذْ تُصْعِدُونَ
وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي
أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا
تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
{إِذْ تُصْعِدُونَ} متعلق بصَرَفكم أو
بقوله تعالى لِيَبْتَلِيَكُمْ أو بمقدّر كما ذكروا والإصعادُ
الذهابُ والإبعادُ في الأرض وقرىء تصعدون من الثلاثى أي في
الجبل وقرئ تَصَعَّدون من التفعل بطرح إحدى التاءين وقرئ
يصعدون بالالتفات إلى الغيبة
{وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} أي لا تلتفتون إلى ماوراءكم ولا
يقف واحدٌ منكم لواحد وقرئ تلْوُنَ بواو واحدة بقلب الواوِ
المضمومةِ همزةً وحذفِها تخفيفا وقرئ يلوون كيصعدون
{والرسول يَدْعُوكُمْ} كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يدعوهم
إليَّ عبادَ الله إليَّ عبادَ الله أنا رسولُ الله من يكُرُّ
فله الجنةُ وإيرادُه عليه السلام بعنوان الرسالة للإبذان بأن
دعوتَه عليه السلام كانت بطريق الرسالةِ من جهته سبحانه
إشباعاً في توبيخ المنهزمين
{فِى أُخْرَاكُمْ} في ساقتكم وجماعتِكم الأخرى
{فأثابكم} عطفٌ على صرفَكم اى فجازا كم الله تعالى بما صنعتم
{غَمّاً} موصولاً
{بِغَمّ} من الاغتمام يالقتل والجرْحِ وظَفَرِ المشركين
والإرجافِ بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم وفوْتِ الغنيمة
فالتنكيرُ للتكثير أو غماً بمقابلة غمَ أذقتموه رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعِصيانكم له
{لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أصابكم}
أي لتتمرَّنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزَنوا على نفعٍ فاتَ
أو ضُرَ آتٍ وقيل لا زائدة والمعنى لتتأسفوا على مَا فَاتَكُمْ
من الظفَر والغنيمةِ وعلى ماأصابكم من الجراح والهزيمةِ عقوبةً
لكم وقيل الضميرُ في أثابكم للرسول صلى الله عليه وسلم أي
واساكم في الاغتمام فاغتمّ بما نزل عليكم كما اغتممتم بما نزل
عليه ولم يُثرِّبْكم على عِصيانكم تسليةً لكم وتنفيساً عنكم
لئلا تحزنزا على مَا فَاتَكُمْ من النصر وما أصابكم من الجراح
وغيرِ ذلك
{والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي عالم بأعمالكم وبما
قصدتم بها
(2/100)
ثُمَّ أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى
طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ
شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ
لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ
كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ
اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي
قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ} عطفٌ على قوله
تعالى فأثابكم والخطابُ للمؤمنين حقاً
{مّن بَعْدِ الغم} أي الغمِّ المذكور والتصريحُ بتأخُّر
الإنزالِ عنه مع دَلالة ثُمَّ عليه وعلى تراخيه عنه لزيادة
البيانِ وتذكيرِ عِظَم النعمةِ كما في قوله تعالى ثُمَّ
تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ الآية
{أمنة} أي أمناً نُصب على المفعولية وقوله تعالى
{نُّعَاساً} بدلٌ منها أو عطفُ بيانٍ وقيل مفعولٌ له أو هو
المفعول وأمنةً حالٌ منه متقدمةٌ عليه أو مفعولٌ له أو حالٌ من
المخاطَبين على تقديرِ مضافٍ أي ذوى أمنةٍ أو على أنَّه جمعُ
آمن كبارّ وبرَرَة وقرئ بسكون الميم كأنها مرّةٌ من الأمنِ
وتقديمُ الظرفين على المفعول الصريح لما مر
(2/100)
غيرَ مرةٍ من الاعتناء بشأن المقدمِ
والتشويقِ إلى المؤخر وتخصيصُ الخوفِ من بين فنونِ الغمِّ
بالإزالة لأنه المهمُّ عندهم حينئذ لما أن المشركين لما
انصرفوا كانوا يتوّعدون المسلمين بالرجوع فلم يأمنوا اكرتهم
وكانوا تحت الحَجَفِ متأهّبين للقتال فأنزل الله تعالى عليهم
الأمنةَ فأخذهم النعاسُ قال ابن عباس رضي الله عنهما أمنَّهم
يومئذ بنعاس تغشّاهم بعد خوفٍ وإنما ينعَسُ من أمِنَ والخائفُ
لا ينام وقال الزبير رضيَ الله عنه كنتُ مع النبيِّ صلَّى الله
عليهِ وسلم حين اشتد الخوفُ فأنزل الله علينا النومَ والله
لأسمع قولَ مُعتبِ بنِ قشير والنعاسُ يغشاني ما أسمعه إلا
كالحُلُم يقول لو كان لنا من ألمر شيء ما قلنا إنى ههنا وقال
أبو طلحة رضى الله عنه رفعتُ رأسي يومَ أحُدٍ فجعلتُ لا أرى
أحداً من القوم إلا وهو يَميدُ تحت حَجَفَتِه من النعاس قال
وكنتُ ممن أُلقِيَ عليه النعاسُ يومئذ فكان السيفُ يسقُط من
يدي فآخذُه ثم يسقُط السَّوْطُ من يدي فآخُذه وفيه دلالة على
أن من المؤمنين من لم يُلْقَ عليه النعاسُ كما ينبئ عنه قولُه
عزَّ وجلَّ
{يغشى طَائِفَةً مّنْكُمْ} قال ابن عباس هم المهاجرون وعامةُ
الأنصار ولا يقدَح ذلك في عموم الإنزالِ للكل والجملةُ في محل
النصب على أنها صفة لنعاسا وقرئ بالتاء على أنها صفة لأمَنةً
وفيه أن الصفةَ حقُّها أن تتقدم على البدل وعطفِ البيان وأن لا
يُفصل بينها وبين الموصوفِ بالمفعول له وأن المعهودَ أن يحدُث
عن البدل دون المُبدلِ منه
{وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي أوقعتهم في
الهموم والأحزانِ أو ما بهم إلا همُّ أنفسِهم وقصدُ خلاصِها من
قولهم همّني الشئ أي كان من هِمّتي وقصدي والقصرُ مستفادٌ
بمعونة المقامِ وَطَائِفَةٌ مبتدأٌ وما بعدها إما خبرُها وإنما
جاز ذلك مع كونها نكرةً لاعتمادها على واو الحال كما في قوله
... سرينا ونجمٌ قد أضاء فمذ بدا ... محياكِ أخفى ضوءه كلَّ
شارقِ ...
أو لوقوعها في موضع التفصيل كما في قوله ... إذَا ما بكى من
خلفها انصرفت له بشِقَ ... وشقٌ عنْدنا لم يُحَوَّلِ ...
وإما صفتُها والخبرُ محذوفٌ أي ومعكم طائفة أو وهناك وقيل
تقديره ومنكم طائفةٌ وفيه أنه يقتضي دخولَ المنافقين في الخطاب
بإنزال الأمنة وأيا ما ما كان فالجملةُ إما حاليةٌ مبيِّنةٌ
لفظاعة الهولِ مؤكِّدةٌ لعِظَم النعمةِ في الخلاص عنْهُ كما في
قولِه تعالى {أو لم يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمنا
وَيُتَخَطَّفُ الناسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} وإما مستأنفةٌ مَسوقةٌ
لبيان حال المنافقين وقوله عز وجل
{يَظُنُّونَ بالله} حال من ضمير أهمتْهم أو من طائفةٌ لتخصصها
بالصفةِ أو صفةٌ أُخرى لها أو خبر بعد خبر أو استئنافٌ مبينٌ
لما قبله وقوله تعالى
{غَيْرَ الحق} في حُكم المصدرِ أي يظنون به تعالى غيرَ الظنِّ
الحقِّ الذي يجب أن يُظنَّ به سبحانه وقوله تعالى
{ظَنَّ الجاهلية} بدلٌ منه وهو الظنُّ المختصُّ بالملة
الجاهليةِ والإضافة كما في حاتم الجودِ ورجلِ صِدْقٍ وقولُه
تعالى
{يَقُولُونَ} بدلٌ من يظنون لما ان مسئلتهم كانت صادرةً عن
الظن أي يقولون لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم على صورة
الاسترشاد
{هَل لَّنَا مِنَ الامر} أي من أمرالله تعالى ووعدِه من النصر
والظفَرِ
{مِن شَىْء} أي من نصيب قط أو هل لنا من التدبير من شئ وقوله
تعالى
{قل إن الامر كُلَّهُ للَّهِ} أي الغلبةَ بالآخرة لله تعالى
ولأوليائه فإن حزبَ الله هم الغالبون أو إن التدبيرَ كلَّه لله
فإنه تعالى قد دبر الأمرَ كما جرى في سابق قضائِه فلا مردَّ له
وقرئ كلُّه بالرفع على الابتداءِ وقولُه تعالَى
{يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم} أي يُضمرون فيها أو يقولون فيما
بينهم بطريق الخُفية
{مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ} استئنافٌ أو حالٌ من ضميرِ يقولون
وقوله تعالى إن الأمرالخ اعتراضٌ بين الحال وصاحبِها
(2/101)
155 - آل عمران
أي يقولون ما يقولون مُظْهِرين أنهم مسترشِدون طالبون للنصر
مُبْطنين الإنكارَ والتكذيبَ وقوله تعالى
{يَقُولُونَ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله كأنه
قيل أي شئ يخفون فقيل يحدثون أنفسَهم أو يقول بعضُهم لبعض فيما
بينهم خُفيةً
{لَوْ كان لنا من الأمر شَىْء} كما وعد محمد عليه الصلاة
والسلام من أن الغلبةَ لله تعالى ولأوليائه وإن الأمرَ كلَّه
لله أو لو كان لنا من التدبير والراى شئ
{ما قتلنا ها هنا} أي ما غُلبنا أو ما قُتل مَنْ قُتل منا في
هذه المعركةِ على أن النفيَ راجعٌ إلى نفس القتلِ لا إلى وقوعه
فيها فقط ولما برحنا من منازلنا كما رآه ابنُ أُبي ويؤيده
تعيينُ مكانِ القتلِ وكذا قوله تعالى
{قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ} أي لو لم تخرُجوا إلى
أُحُد وقعدتم بالمدينة كما يقولون
{لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل} أي في اللوحِ
المحفوظِ بسبب من الأسباب الداعيةِ إلى البروز
{إلى مَضَاجِعِهِمْ} إلى مصارعهم التي قدَّر الله تعالى قتلَهم
فيها وقُتلوا هنالك البتةَ ولم تنفَعِ العزيمةُ على الإقامة
بالمدينة قطعاً فإن قضاءَ الله تعالى لا يُرَدّ وحكمُه لا
يُعقَّب وفيه مبالغةٌ في رد مقالتِهم الباطلةِ حيث لم يُقتَصرْ
على تحقيق نفسِ القتلِ كما في قوله عز وجل أَيْنَمَا
تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت بل عُيِّن مكانُه أيضاً ولا ريب
في تعيُّن زمانِه أيضاً لقوله تعالى {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ
لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} رُوي أنَّ
ملكَ الموتِ حضر مجلس سليمان عليه الصلاة والسلام فنظر إلى رجل
من أهل المجلسِ نَظرةً هائلة فلما قام قال الرجلُ من هذا فقال
سليمانُ عليه السلام ملكُ الموتِ قال أرسِلْني مع الريح إلى
عالم آخَرَ فإني رأيتُ منه مرأىً هائلاً فأمرها عليه السلام
فألقتْه في قُطر سحيقٍ من أقطار العالم فما لبث أن عاد ملكُ
الموتِ إلى سليمانَ عليه السلام فقال كنت أُمِرْتُ بقبض روحِ
ذلك الرجلِ في هذه الساعةِ في أرض كذا فلما وجدتُه في مجلسك
قلت متى يصِلُ هذا إليها وقد أرسلتَه بالريح إلى ذلك المكانِ
فوجدتُه هناك فقُضي أمرُ الله عزَّ وجلَّ في زمانه ومكانِه من
غير إخلال بشئ من ذلك وقرئ كتب على البناءِ للفاعلِ ونَصبِ
القتل وقرئ كتب عليهم القتال وقرئ لبُرِّز بالتشديد على البناء
للمعفول
{وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ} أي ليعاملَكم
معاملةَ مَنْ يبتلي ما في صدوركم من الإخلاص والنفاقِ ويُظهرَ
ما فيها من السرائر وهو علةٌ لفعل مقدرٍ قبلها معطوفةٌ على علل
لها أخرى مطويةٍ للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعلَ ما فعل لمصالحَ
جمةٍ وليبتليَ الخ وجعلُها عللا لبرز يا باه الذوقُ السليمُ
فإن مقتضى المقامِ بيانُ حكمةِ ما وقع يومئذ من الشدة والهولِ
لا بيانُ حِكمةِ البروزِ المفروضِ أو لفعلٍ مقدرٍ بعدها أي
وللابتلاء المذكورِ فعلَ ما فعل لا لعدم العنايةِ بأمر
المؤمنين ونحو ذلك وتقديرُ الفعل مقدماً خالٍ عن هذه المزية
{وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ} من مخفيات الأمورِ
ويكشِفَها أو يُخلِّصَها من الوساوس
{والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي السرائر والضمائرِ الخفيةِ
التي لا تكاد تفارقُ الصدورَ بل تلازمها وتصاحبها والجمة إما
اعتراضٌ للتنبيه على أن الله تعالى غنيٌ إن الابتلاء وإنما
يُبرِز صورةَ الابتلاءِ لتمرين المؤمنين وإظهارِ حالِ
المنافقين أو حالٌ من متعلَّق الفعلين أي فَعل ما فَعل
للابتلاء والتمحيصِ والحال أنه تعالى غنى غنهما مُحيطٌ بخفيات
الأمورِ وفيه وعد ووعيد
(2/102)
إِنَّ الَّذِينَ
تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ
عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
{إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ
التقى الجمعان}
(2/102)
وهم الذين انهزموا يومَ أحُدٍ حسبما مرت
حكايتُهم
{إِنَّمَا استزلهم الشيطان} أي إنما كان سببَ انهزامِهم أن
الشيطانَ طلب منهم الزللَ
{بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} من الذنوب والمعاصي التي هي مخالفةُ
أمرِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وتركُ المركزِ والحِرصُ
على الغنيمة أو الحياةِ فحُرِموا التأييدَ وقوةَ القلب وقيل
استزلالُ الشيطانِ تولِّيهم وذلك بذنوب تقدمت لهم فإن المعاصيَ
يجُرّ بعضُها إلى بعض كالطاعة وقيل استزلّهم بذنوب سبَقتْ منهم
وكرِهوا القتلَ قبل إخلاصِ التوبةِ والخروجِ من المظلِمة
{وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} لتوبتهم واعتذارِهم
{أَنَّ الله غَفُورٌ} للذنوب
{حَلِيمٌ} لا يعاجل بعقوبة المذنبِ ليتوب والجملةُ تعليلٌ لما
قبلها على سبيل التحقيق وفي إظهار الجلالةِ تربيةٌ للمهابة
وتأكيدٌ للتعليل
(2/103)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ
كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا
قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ
وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (156)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ
تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ} وهم المنافقون القائلون لو كان
لنا من الأمر شئ ما قتلنا ههنا وإنما ذُكر في صدر الصلةِ
كفرُهم تصريحاً بمباينة حالِهم لحال المؤمنين وتنفيراً عن
مماثلتهم آثِرَ ذي أثيرٍ وقولُه تعالى
{وَقَالُواْ لإخوانهم} تعيينٌ لوجه الشبهِ والمماثلةِ التي
نُهوا عنها أي قالوا لأجلهم وفي حقهم ومعنى أُخوّتِهم اتفاقُهم
نسباً أو مذهباً
{إِذَا ضَرَبُواْ فِى الارض} أي سافروا فيها وأبعدوا للتجارة
أو غيرِها وإيثارُ إذا المفيدةِ لمعنى الاستقبالِ على إذا
المفيدة المعنى لحكاية الحالِ الماضيةِ إذِ المرادُ بها
الزمانُ المستمرُّ المنتظمُ للحال الذي عليه يدورُ أمرُ
استحضارِ الصورة قال الزجاج إذا ههنا تنوبُ عما مضى من الزمان
وما يُستقبل يعني أنها لمجرد الوقتِ أو يُقصد بها الاستمرارُ
وظرفيتُها لقولهم إنما هي باعتبار ما وقع فيها بل التحقيقُ
أنها ظرفٌ له لا لقولهم كأنه قيل قالوا لأجل ما أصاب إخوانَهم
حين ضربوا الخ
{أَوْ كَانُواْ} أي إخوانُهم
{غزى} جمعُ غازٍ كعُفّىً جمعُ عافٍ قال ... ومُغْبّرةِ الآفاقِ
خاشعةِ الصُّوى ... لها قلب عفى الحياض أجون ...
وقرئ بتخفيف الزاي على حذف التاء من غُزاة وإفرادُ كونِهم
غُزاةً بالذِّكرِ مع اندراجِه تحتَ الضربِ في الأرض لأنه
المقصودُ بيانُه في المقام وذكرُ الضربِ في الأرض توطئةٌ له
وتقديمُه لكثرة وقوعِه على أنه قد يوجد بدون الضربِ في الأرض
إذ المرادُ به السفرُ البعيدُ وإنما لم يقل أو غَزَوْاً
للإيذان باستمرار اتصافِهم بعنوان كونِهم غزاةً أو بانقضاء ذلك
أي كانوا غزاة فيما مضى وقولُه تعالى
{لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا} أي مقيمين
{مَا مَاتُواْ وَمَا قتلوا} مفعول لقالوا ودليل على أن هناك
مضمَراً قد حُذف ثقةً به أي إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو
كانوا غزّاً فقُتلوا وليس المقصودُ بالنهي عدمَ مماثلتِهم في
النطق بهذا القولِ بل في الاعتقاد بمضمونه والحُكمِ بموجبه كما
أنه المنكرُ على قائليه ألا يُرى إلى قوله عز وجل
{لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ} فإنه الذي
جُعل حسرةً فيها قطعاً وإليه أشير كما نقل عن الزجاج أنه
إشارةٌ إلى ظنهم أنهم لو لم يحضُروا القتالَ لم يُقتلوا
وتعلّقُه بقالوا ليس باعتبار نطقِهم بذلك القولِ بل باعتبار ما
فيه من الحكم والاعتقاد واللام
(2/103)
157 - 158 آل عمران
لامُ العاقبة كما في قولِه تعالى لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً
وَحَزَناً أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرةً في قلوبهم
والمرادُ بالتعليل المذكورِ بيانُ عدمِ ترتُّبِ فائدةٍ ما على
ذلك أصلاً وقيل هو تعليلٌ للنهي بمعنى لا تكونوا مثلَهم في
النطق بذلك القولِ واعتقادِه ليجعلَه الله تعالى حسرةً في
قلوبهم خاصة ويصونَ منها قلوبَكم فذلك كما مر إشارةٌ إلى ما دل
عليه قولُهم من الاعتقاد ويجوز أن يكون إشارةً إلى ما دل عليه
النهي أي لا تكونوا مثلَهم ليجعل الله انتفاءَ كونِكم مثلَهم
حسرةً في قلوبهم فإن مضادّتَكم لهم في القول والاعتقادِ مما
يغُمُّهم ويَغيظهم
{والله يحيي ويميت} رد لقولهم الباطل إثرَ بيانِ غائلتِه أي
هُو المؤثِّرُ في الحياة والممات وحده من غير أن يكون للإقامة
أو للسفر مدخلٌ في ذلك فإنه تعالى قد يُحيي المسافرَ والغازيَ
مع اقتحامهما لموارد الحتوفِ ويُميتُ المقيمَ والقاعدَ مع
حيازتهما لأسباب السلامة
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تهديدٌ للمؤمنين على أن
يماثلوهم وقرئ بالياء على أنه وعيدٌ للذين كفروا وما
يَعْمَلُونَ عامٌ متناولٌ لقولهم المذكورِ ولِمُنشئه الذي هو
اعتقادُهم ولما ترتب على ذلك من الأعمال ولذلك تعرَّض لعنوان
البَصَر لا لعنوان السمعِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع
الإضمارِ لتربية المهابةِ وإلقاءِ الرَّوْعةِ والمبالغةِ في
التهديد والتشديدِ في الوعيد
(2/104)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ الله
أَوْ مُتُّمْ} شروعٌ في تحقيق أن ما يحذرون ترتُّبَه على الغزو
والسفر من القتل والموتِ في سبيلِ الله تعالى ليسَ ممَّا
ينبغِي أنْ يُحذر بل مما يجب أن يتنافس المتنافسون إثرَ إبطالِ
ترتُّبِه عليهما واللامُ هي الموطئةُ للقسم وما في قوله تعالى
{لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرَحْمَةٌ} لامُ الابتداء والتنوينُ
في الموضعين للتقليل ومِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً للمبتدأ
وقد حُذفت صفةُ رحمةٌ لدِلالة المذكورِ عليها والجملةُ جوابٌ
للقسم سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرطِ والمعنى إنْ السفرَ والغزوَ
ليس مما يجلُب الموتَ ويقدّم الأجلَ أصلاً ولئن وقع ذلك بأمر
الله تعالى لنفحةٌ يسيرةٌ من مغفرة ورحمةً كائنتين من الله
تعالى بمقابلة ذلك
{خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} أي الكفرةُ من منافعِ الدنيا
وطيّباتها مدةَ أعمارِهم وعن ابن عباس رضي الله عنهما خيرٌ من
طِلاع الأرضِ ذهبة حمراء وقرئ بالتاء أي مما تجمعونه أنتم لو
لم تموتوا والاقتصارُ على بيان خيريتِهما من ذلك بلا تعرّضٍ
للإخبار بحصولهما لهم للإيذان بعدم الحاجة إليه بناء على
استحالة التخييبِ منه تعالى بعد الإطماعِ وقد قيل لا بد من
حذفٍ آخَرَ أي لمغفرةٌ لكم من الله الخ وحينئذ يكون أيضاً
إخراجُ المقدَّرِ مُخرَجَ الصفةِ دون الخبر لنحو ما ذُكر من
ادعاء الظهورِ والغِنى عن الإخبار به وتغييرُ الترتيب الواقعِ
في قولهم ما ماتوا وما قتلوا المبنيِّ على كثرة الوقوعِ
وقِلّته للمبالغة في الترغيب في الجهاد ببيان زيادةِ مزيةِ
القتلِ في سبيل الله وإنافتِه في استجلاب المغفرةِ والرحمةِ
وفيه دَلالةٌ واضحةٌ على ما مر من أن المقصودَ بالنهي إنما هو
عدمُ مماثلتِهم في الاعتقاد بمضمون القولِ المذكورِ والعملِ
بموجبه لا في النطق به وإضلالِ الناسِ به
(2/104)
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ
قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
{وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ} أي
على أيِّ وجهٍ اتفق هلاكُكم حسب تعلُّقِ الإرادة الإلهية وقرئ
مِتّم بكسر الميمِ من مات
(2/104)
159 - 160 آل عمران
يمات
{لإِلَى الله} أي إلى المعبود بالحق العظيمِ الشأنِ الواسعِ
الرحمةِ الجزيلِ الإحسانِ
{تُحْشَرُونَ} لا إلى غيره فيوفيكم أجوركم ويجزل لكم عطاءَكم
والكلام في لامَي الجملة كما مر في أختها
(2/105)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ
اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ}
تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
والفاءُ لترتيب مضمونِ الكلامِ على ما ينبئ عنه السياقُ من
استحقاقهم اللأئمة والتعنيفِ بموجب الجِبلَّةِ البشرية أو من
سَعة ساحةِ مغفرتِه تعالى ورحمتِه والباءُ متعلِّقة بلنتَ
قُدِّمت عليه للقصر وما مزيدةٌ للتوكيد أو نكرة ورحمة بدلٌ
منها مُبينٌ لإبهامها والتنوينُ للتفخيمِ ومِنْ متعلقةٌ
بمحذوفٍ وقع صفةً لرحمةٍ أي فبرحمةٍ عظيمة لهم كائنةٍ من الله
تعالى وهي ربطُه على جأشه وتخصيصُه بمكارم الأخلاقِ كنتَ
ليِّنَ الجانبِ لهم وعامَلْتَهم بالرفق والتلطّفِ بهم حيث
اغتمَمْتَ لهم بعد ما كان منهم ما كان من مخالفة أمرِك
وإسلامِك للعدو
{وَلَوْ} لم تكن كذلك بل
{كُنْتَ فَظّاً} جافياً في المعاشرة قولاً وفعلاً وقال الراغبُ
الفَظُّ هو الكَرِيهُ الخلُقِ وقال الواحديُّ هو الغليظُ
الجانبِ السئ الخلُق
{غَلِيظَ القلب} قاسِيَه وقال الكلبي فظَّاً في القول غليظَ
القلبِ في الفعل
{لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} لَتفرَّقوا من عندك ولم يسكُنوا
إليك وتردَّوْا في مهاوي الردى والفاء في قولِه عزَّ وجلَّ
{فاعف عَنْهُمْ} لترتيب العفوِ أو الأمرِ به على ما قبله أي
إذا كان الأمر كما ذكر فاعفُ عنهم فيما يتعلق بحقوقك كما عفا
الله عنهم
{واستغفر لَهُمُ} الله فيما يتعلق بحقوقه تعالى إتماماً للشفقة
عليهم وإكمالاً للبِرّ بهم
{وَشَاوِرْهُمْ فِى الامر} أي في أمر الحربِ إذ هو المعهودُ أو
فيه وفي أمثاله مما تجري فيه المشاورةُ عادةً استظهاراً
بآرائهم وتطييباً لقلوبهم وتمهيداً لسُنّة المشاورةِ للأمة
وقرئ وشاورهم في بعض الأمر
{فَإِذَا عَزَمْتَ} أي عَقيبَ المشاورة على شئ واطمأنتْ به
نفسُك
{فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} في إمضاء أمرِك على ما هو أرشد لك
وأصلح فإنه عِلمَه مختصٌّ به سبحانه وتعالى وقرئ فإذا عزمتُ
على صيغة التكلمِ أي عزمتُ لك على شئ وأرشدتُك إليه فتوكلْ
عليَّ ولا تشاوِرْ بعد ذلك أحداً والالتفاتُ لتربية المهابةِ
وتعليلِ التوكلِ أو الأمرِ به فإن عنوانَ الألوهيةِ الجامعة
لجميع صفات الكمال مستدعٍ للتوكل عليه تعالى أو الأمرِ به
{إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} عليه تعالى فينصُرهم ويُرشِدهم
إلى ما فيه خير لهم وصلاح والجملةُ تعليلٌ للتوكل عليه تعالى
وقولُه تعالى
(2/105)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا
الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
{إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ
لَكُمْ} جملةٌ مستأنفةٌ سيقت بطريق تلوين الخطاب تشريفاً
للمؤمنين لإيجاب توكّلِهم عليه تعالى وحثَّهم على اللَّجَأ
إليه وتحذيرِهم عما يُفضي إلى خِذلانه أي إن ينصُركم كما نصركم
يومَ بدرٍ فلا أحدَ يغلِبُكم على طريق نفي الجنسِ المنتظِم
لنفي جميعِ أفرادِ الغالبِ ذاتاً وصفةً ولو قيل فلا يغلبُكم
أحدٌ لدل على نفي الصفة فقط ثم المفهومُ من ظاهر النظم
(2/105)
161 - آل عمران
الكريمِ وإن كان نفيَ مغلوبيّتِهم من غيرِ تعرضٍ لنفْي
المساواةِ أيضاً وهو الذي يقتضيه المقامُ لكن المفهومَ منه
فهماً قطعياً هو نفيُ المساواةِ وإثباتُ الغالبيةِ للمخاطبين
فإذا قلتَ لا أكرمُ من فلان أولا أفضلُ منه فالمفهومُ منه
حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضل من كل فاضلٍ وهذا أمرٌ مطردٌ
في جميع اللغات ولا اختصاصَ له بالنفي لصريح بل هو مطردٌ فيما
ورد على طريق الاستفهامِ الإنكاريِّ كما في قوله تعالى وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً في مواقعَ كثيرةٍ
من التنزيل ومما هو نصٌ قاطعٌ فيما ذكرنا ما وقع في سورةِ هودٍ
حيث قيل بعده في حقهم لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الأخرة هُمُ
الأخسرون فإن كونَهم أخسرَ من كل خاسرٍ يستدعي قطعاً كونَهم
أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ
{وَإِن يَخْذُلْكُمْ} كما فعل يوم أحد وقرئ يُخذِلْكم من أخذله
إذا جعله مخذولاً
{فَمَن ذَا الذى يَنصُرُكُم} استفهامٌ إنكاريٌّ مفيدٌ لانتفاء
الناصرِ ذاتاً وصفةً بطريق المبالغة
{مِن بَعْدِهِ} أي من بعد خِذلانه تعالى أو من بعدِ الله تعالى
على معنى إذا جاوزتموه
{وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} تقديمُ الجار
والمجرور على الفعل لإفادة قصرِه عليه تعالى والفاءُ لترتيبه
أو ترتيبِ الأمرِ به على ما مر من غلبة المخاطَبين على تقدير
نُصرتِه تعالى لهم ومغلوبيّتِهم على تقدير خِذلانِه تعالى
إياهم فإن العِلمَ بذلك مما يقتضي قصرَ التوكلِ عليه تعالى لا
محالة والمرادُ بالمؤمنين إما الجنسُ والمخاطبون داخلون فيه
دخولا أوليا وإما هم خاصةً بطريق الالتفاتِ وأيا ما كان ففيه
تشريفٌ لهم بعنوان الإيمانِ اشتراكاً أو استقلالاً وتعليلٌ
لتحتم التوكلِ عليه تعالى فإن وصفَ الإيمانِ مما يوجبه قطعاً
(2/106)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ
لَا يُظْلَمُونَ (161)
{وَمَا كَانَ لِنَبِىّ} أي وما صح لنبي من
الأنبياء ولا استقام له
{أَنْ يَغُلَّ} أي يخونَ في المغنم فإن النبوةَ تنافيه منافاةً
بيِّنة يقال غَلَّ شيئاً من المغنم يغُل غلولاً وأَغل إغلالاً
إذا أخذه خُفْيةً والمرادُ إما تنزيهُ ساحةِ رسولِ الله صلى
الله عليه وسلم عما ظن به الرماةُ يومَ أحُدٍ حين تركوا
المركزَ وأفاضوا في الغنيمة وقالوا نخشى أن يقولَ رسول الله
صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئاً فهو له ولا يقسِمَ الغنائمَ
كما لم يقسمْها يوم بدرٍ فقال لهم النبيُّ صلَّى الله عليهِ
وسلم ألم أعهَدْ إليكم أن لا تترُكوا المركزَ حتى يأتيَكم أمري
فقالوا تركنا بقيةَ إخوانِنا وقوفاً فقال عليه السلام بل ظننتم
أنا نغُلّ ولا نقسِمُ بينكم وإما المبالغةُ في النهي لرسول
الله صلى الله عليه وسلم على ما رُوي أنه بعث طلائِعَ فغنِم
النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم بعدهم غنائِمَ فقسمها بين
الحاضر ولم يترك للطلائع شيئاً فنزلت والمعنى ما كان لنبي أن
يعطيَ قوماً من العسكر ويمنَعَ آخَرين بل عليه أن يقسِمَ بين
الكلِّ بالسوية وعُبّر عن حِرمان بعضِ الغزاةِ بالغُلول
تغليظاً وأما ما قيل من أن المراد تنزيهُه عليه السلام عما
تفوَّه به بعضُ المنافقين إذ رُوي أن قَطيفةً حمراءَ فقدت يوم
بدر فقال بعضُ المنافقين لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخذها فبعيد جدا وقرئ على البناءِ للمفعولِ والمعنى ما كان له
أن يوجَدَ غالاًّ أو يُنسَبَ إلى الغُلول
{وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة} يأتِ
بالذي غله بعينه يحمِلُه على عنُقه كما ورد في الحديث الشريف
وروي أنه عليه السلام قال ألالا أعْرِفَنَّ أحدَكُم يأتي ببعير
له رُغاءٌ وببقرةٍ لها خوار وبشارة لها ثُغاءٌ فينادي يا محمد
يا محمد فأقول لا أملِك لَكَ مِنَ الله شيئاً فقد بلّغتُك أو
يأت
(2/106)
162 - 163 164 آل عمران
بما احتمل من إثمه ووبالِه
{ثُمَّ توفَّى كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي تعطى وافياً
جزاءَ ما كسبت خيراً أو شراً كثيراً أو يسيراً ووضعُ المكسوبِ
موضعَ جزائِه تحقيقاً للعدْل ببيان ما بينهما من تمام
التناسُبِ كمّاً وكيفاً كأنهما شيءٌ واحد وفي إسناد التَوْفيةِ
إلى كل كاسبٍ وتعليقِها بكل مكسوبٍ مع أن المقصودَ بيانُ حالِ
الغالِّ عند إتيانِه بما غله يوم القيامة من الدلالة على فخامة
شأنِ اليومِ وهولِ مطلَعِه والمبالغةِ في بيان فظاعة حال الغال
مالا يخفى فإنه حيث وُفيّ كلُّ كاسبٍ جزاءَ ما كسبه ولم
يُنْقَصْ منه شيءٌ وإن كان جُرْمُه في غاية القِلّة والحقارةِ
فلأَنْ لا يُنقَصَ من جزاء الغالِّ شيءٌ وجُرمُه من أعظم
الجرائم وأظهر وأجلى
{وَهُمْ} أي كلُّ الناس المدلول عليهم بكلِّ نفسٍ
{لاَ يُظْلَمُونَ} بزيادة عقابٍ أو بنقص ثواب
(2/107)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ
وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
{أَفَمَنِ اتبع رضوان الله} أي سعى في
تحصيله وانتحى نحوَه حيثما كان بفعل الطاعاتِ وتركِ المنكرات
كالنبي ومن يسير بسيرته
{كَمَن بَاء} أي رجع
{بِسَخْطٍ} عظِيمٌ لا يقادَرُ قَدرُه كائن
{من الله} تعالى بسبب معاصيه كالغالِّ ومن يَدين بدينه
والمرادُ تأكيدُ نفي الغلولِ عن النبي عليه الصلاةَ والسلام
وتقريرُه بتحقيق المباينةِ الكليةِ بينه وبين الغالِّ حيث وصف
كل منهما ما وُصف به الآخَرُ فقوبل رضوانُه تعالى بسَخَطه
والاتِّباعُ بالبَوْء والجمع بين الهمزةِ والفاءِ لتوجيه
الإنكارِ إلى ترتب توهُّمِ المماثلةِ بينهما والحُكمِ بها على
ما ذُكر من حال الغالِّ كأنه قيل أبعدَ ظهورِ حالِهِ يكونُ
مَنْ ترقّى إلى أعلى عِلِّيين كمَنْ ترَدَّى إلى أسفلِ سافلين
وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ لإدخال الرَّوْعةِ
وتربيةِ المهابةِ
{وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} إما كلامٌ مستأنَفٌ مَسوقٌ لبيانِ
مآلِ أمْرِ مَنْ باء بسَخَطه تعالى وإما معطوفٌ على قوله تعالى
باء بسخط عطفَ الصِلةِ الاسميةِ على الفعلية وأياً ما كانَ فلا
محل له من الإعراب
{وَبِئْسَ المصير} اعتراضٌ تذييليٌّ والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي
وبئس المصيرُ جهنمُ والفرقُ بينه وبين المرجع أن الأولَ يُعتبر
فيه الرجوعُ على خلاف الحالةِ الأولى بخلاف الثاني
(2/107)
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ
اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
{هُمْ} راجعٌ إلى الموصولَين باعتبار
المعنى
{درجات عِندَ الله} أي طبقاتٌ متفاوتةٌ في علمه تعالى وحُكمِه
شُبِّهوا في تفاوت الأحوالِ وتبايُنِها بالدرجات مبالغةً
وإيذاناً بأن بينهم تفاوتاً ذاتياً كالدرجات أو ذوو درجاتٍ
{والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} من الأعمال ودرجاتِها
فيجازيهم بحسبها
(2/107)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ
قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
{لَقَدْ مَنَّ الله} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ
والله لقد من أي أنعم
{عَلَى المؤمنين} أي من قومه عليه السلام
{إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ} أي من نسبَهم
أو من جنسهم عربياً مثلَهم ليفقهوا كلامه بسهولة ويكونوا
واقفين على حاله في الصدق والأمانةِ مفتخرين به وفي ذلك شرف
لهم عظيم قال الله تعالَى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ
وَلِقَوْمِكَ وقرئ من أنفسهم أي أشرفهم فإنه عليه السلام
(2/107)
165 - آل عمران
كان من أشرف قبائلِ العرب وبطونها وقرئ لَمِنْ منِّ الله على
المؤمنين إذ بعث الخ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي منُّه إذ
بعث الخ أو على أن إذ في محلِ الرفعِ على الابتداء بمعنى
لَمِنْ منِّ الله على المؤمنين من وقتُ بعثِه وتخصيصُهم
بالامتنان مع عموم نعمةِ البعثةِ للأسود والأحمرِ لما مرّ من
مزيد انتفاعِهم بها وقوله تعالى مّنْ أَنفُسِهِمْ متعلقٌ
بمحذوف وقع صفة لرسولاً أي كائناً من أنفسهم وقوله تعالى
{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياته} صفةٌ أخرى أي يتلو عليهم القرآن
بعدما كانوا أهلَ جاهليةٍ لم يطرُق أسماعَهم شيءٌ من الوحي
{وَيُزَكّيهِمْ} عطفٌ على يتلو أي يطهرهم من دنس الطبائعِ
وسوءِ العقائدِ وأوضارِ الأوزار
{وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة} أي القرآنَ والسنةَ وهو صفةٌ
أُخْرَى لرسولاً مترتبةٌ في الوجودِ عَلَى التِّلاوةِ وإنَّما
وَسَّطَ بينَهُما التزكيةَ التي هي عبارةٌ عن تكميل النفس بحسب
القوةِ العمليةِ وتهذيبِها المتفرِّعِ عَلَى تكميلِهَا بحسبِ
القوةِ النظريةِ الحاصلِ بالتعليمِ المترتبِ على التلاوة
للإيذانِ بأنَّ كلَّ واحدٍ من الأمورِ المترتبةِ نعمةٌ جليلةٌ
على حيالِهَا مستوجبةٌ للشكرِ فَلَو رُوعِي ترتيبَ الوجودِ كما
في قوله تعالى رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يتلو
عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكّيهِمْ
لتبادر إلى الفهم عدُّ الجميعِ نعمةً واحدةً وهو السرُّ في
التعبير عن القرآن بالآياتِ تارة وبالكتاب والحكمة أخرى رمزاً
إلى أنَّه باعتبارِ كلِّ عنوانٍ نعمةٌ عَلى حدة ولا يقدحُ في
ذلك شمولُ الحكمةِ لِمَا في مطاوي الأحاديثِ الكريمةِ من
الشرائع كما سلف في سورة البقرة
{وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ} أي من قبلِ بعثتِه عليه السَّلامُ
وتزكيته وتعليمِه
{لَفِى ضلال مُّبِينٍ} أي بيِّن لا ريبَ في كونه ضلالاً وإنْ
هي المخففةُ من المثقلة وضميرُ الشأنِ محذوفٌ واللامُ فارقةٌ
بينها وبين النَّافيةِ والظرفُ الأولُ لغوٌ متعلقٌ بكان
والثاني خبرُها وهي مع خبرها خبرٌ لأن المخففة التي حُذف
اسمُها أعني ضميرَ الشأن وقيل هي نافيةٌ واللامُ بمعنى إلا أي
وما كانوا من قبل إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ وأيا ما كان
فالجملةُ إِمَّا حالٌ منَ الضميرِ المنصوب في يعلمهم أو
مستأنفةٌ وعلى التقديرين فهي مبيِّنة لكمال النعمةِ وتمامِها
(2/108)
أَوَلَمَّا
أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ
أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
{أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ قَدْ
أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا} كلامٌ مبتدأ مَسوقٌ
لإبطال بعضِ ما صدرَ عنهُم من الظنون الفاسدةِ والأقاويلِ
الباطلةِ الناشئةِ منها إثرَ إبطالِ بعضٍ آخرَ منها والهمزةُ
للتقريع والتقريرِ والواو عاطفةٌ لمدخولها على محذوف قبلها
ولما ظرف لقلتم مضافٌ إلى ما بعده وقد أَصَبْتُمْ في محلِ
الرفعِ على أنه صفةٌ لمصيبة والمرادُ بها ما أصابهم يومَ أحدٍ
من قتل سبعين منهم وبمِثْليها ما أصاب المشركين يومَ بدرٍ من
قتلِ سبعين منهم وأسر سبعين وأنى هذا مقولُ قلتم وتوسيطُ
الظرفِ وما يتعلق به بينه وبين الهمزةِ مع أنه المقصودَ
إنكارُه والمعطوفُ بالواو حقيقةً لتأكيد النكيرِ وتشديد
التقريعِ فإن فعلَ القبيحِ في غيره وقتِه أقبحُ والإنكارَ على
فاعله أدخلُ والمعنى أحين أصابكم من المشركين نصفُ ما قد
أصابهم منكم قبل ذلك جزِعتم وقلتم من أين أصابنا هذا وقد تقدم
الوعدُ بالنصر على توجيه الإنكارِ والتقريعِ إلى صدور ذلك
القولِ عنهم في
(2/108)
166 - 167 آل عمران
ذلك الوقتِ خاصة بناءً على عدم كونِه مَظِنةً له داعياً إليه
بل على كونه داعياً إلى عدمه فإن كونَ مصيبةِ عدوِّهم ضعفَ
مصيبتِهم مما يُهوِّن الخطْبَ ويورث السَّلْوةَ أو أفعلتم ما
فعلتم ولما أصابتكم غائلته أنى هذا على توجيه الإنكارِ إلى
استبعادهم الحادثةَ مع مباشرتهم لسببها وتذكيرُ اسمِ الإشارةِ
في أنى هذا مع كونه إشارةً إلى المصيبة ليس لكونها عبارةً عن
القتل ونحوِه بل لما أن إشارتَهم ليست إلا إلى ما شاهدوه في
المعركة من حيث هو هو من غيرِ أنْ يخطُر ببالِهم تسميتُه باسمٍ
ما فضلاً عن تسميته باسم المصيبةِ وإنما هي عند الحكاية وقوله
عز وجل
{قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} أمرٌ لرسول الله صلى الله
عليه وسلم بأن يُجيب عن سؤالهم الفاسد إثر تحقيق فساد بالإنكار
والتقريع ويبكتهم أن ما نالهم إنما نالهم من جهتهم بتركهم
المركزَ وحِرصِهم على الغنيمة وقيل باختيارهم الخروجَ من
المدينة ويأباه أن الوعدَ بالنصر كان بعد ذلك كما ذكر عند قوله
تعالى وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ الآية وأن عملَ
النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بموجبه قد رَفَع الخطرَ عنه
وخفف جنايتَهم فيه على أن اختيارَ الخروجِ والإصرارَ عليه كان
ممن أكرمهم الله تعالى بالشهادة يومئذ وأين هم من التفوّه بمثل
هذه الكلمة وقيل بأخذهم الفداءَ يوم بدر قبل أن يُؤذَن لهم
والأولُ هو الأظهرُ الأقوى وإنما يعضُده توسيطُ خطابِ الرسول
صلى الله عليه وسلم بين الخِطابين المتوجهَيْن إلى المؤمنين
وتفويضُ التبكيتِ إليه عليه السلام فإن توبيخَ الفاعل على
الفعل إذا كان ممن نهاه عنه كان أشدَّ تأثيراً
{إِنَّ الله على كُلّ شىء قَدِيرٌ} ومن جملته النصرُ عند
الطاعةِ والخِذلانُ عند المخالفةِ وحيث خرجتم عن الطاعة أصابكم
منه تعالى ما أصابكم والجملةُ تذييلٌ والجُملة تذييلٌ مقرِّرٌ
لمضمونِ ما قبلَها داخلٌ تحت الأمرِ
(2/109)
وَمَا أَصَابَكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ
الْمُؤْمِنِينَ (166)
{وَمَا أصابكم} رجوعٌ إلى خطاب المؤمنين
إثرَ خطابِه عليه السلام بسر يقتضيه وإرشادٌ لهم إلى طريق الحق
فيما سألوا عنه وبيانٌ لبعض ما فيه من الحكم والمصالحِ ودفعٌ
لما عسى أن يُتوهمَ من قولِه تعالى هُوَ مِنْ عِندِ
أَنْفُسِكُمْ من استقلالهم في وقوع الحادثةِ والعدولُ عن
الإضمار إلى ما ذكر للتهويل وزيادةِ التقريرِ ببيان وقتِه
بقوله تعالى
{يَوْمَ التقى الجمعان} أي جمعُكم وجمعُ المشركين
{فَبِإِذْنِ الله} أي فهو كائن بقضائه وتخليتِه الكفارَ سُمّيَ
ذلك إذناً لكونها من لوازمه
{وَلِيَعْلَمَ المؤمنين} عطفٌ على قوله تعالى فَبِإِذْنِ الله
عطفَ المسبَّب على السَّببِ والمرادُ بالعلم التمييزُ
والإظهارُ فيما بين الناسِ
(2/109)
وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ
قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ
أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ
مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يَكْتُمُونَ (167)
{وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ} عطف على
ما قبله من مثله وإعادةُ الفعل لتشريف المؤمنين وتنزيهِهم عن
الانتظام في قرن المنافقين وللإيذان باختلاف حالِ العلم بحسب
التعلقِ بالفريقين فإنه متعلقٌ بالمؤمنين على نهج تعلقِه
السابقِ وبالمنافقين على وجه جديدٍ وهو السرُّ في إيراد
الأولِين بصيغة اسمِ الفاعلِ المنبئةِ عن الاستمرار والآخِرين
بموصول صِلتُه فعلٌ دالٌ على الحدث والمعنى وما
(2/109)
أصابكم يومئذ فهو كائن لتمييز الثابتين على
الإيمان والذين أظهروا النفاقَ
{وَقِيلَ لَهُمْ} عطفٌ على نافقوا داخلٌ معه في حيزِ الصلةِ أو
كلامٌ مبتدأ قال ابن عباس رضي الله عنهما هم عبد الله بن أُبي
وأصحابُه حيث انصرفوا يوم أحُدٍ عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال لهم عبدُ اللَّه بنُ عمرو بنِ حرامٍ أذكركم الله أن
لاتخذلوا نبيَّكم وقومَكم ودعاهم إلى القتال وذلك قوله تعالى
{تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا} قال
السدي ادفعوا عنا العدوَّ بتكثير سوادِنا إن لم تقاتلوا معنا
وقيل أو ادفعوا عن أهلكم وبلدِكم وحريمِكم إن لم تقاتلوا في
سبيلِ الله تعالى وتركُ العطفِ بين تعالَوْا وقاتِلوا لما أن
المقصودَ بهما واحد وهو الثاني وذِكْرُ الأولِ توطئةٌ له
وترغيبٌ فيه لما فيهِ منَ الدَلالة على التظاهر والتعاون
{قَالُواْ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال ينسحبُ عليه الكلام
كأنه قيل فماذا صنعوا حين خُيِّروا بين الخَصْلتين المذكورتين
فقيل قالوا
{لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتبعناكم} أي لو نُحسِن قتالاً
ونقدِر عليه وإنما قالوه دغَلاً واستهزاءً وإنما عبّر عن نفي
القدرة على القتال بنفي العِلم به لما أن القدرةَ على الأفعال
الاختياريةِ مستلزِمةٌ للعلم بها أو لو نعلم ما يصِحُّ أن
يسمَّى قِتالاً لاتبعناكم ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتال أصلاً
وإنما هو إلقاءُ النفسِ إلى التهلُكة وفي جعلهم التالي مجردَ
الاتباعِ دون القتالِ الذي هو المقصودُ بالدعوة دليلٌ على كمال
تثبيطهم عن القتال حيث لا ترضى نفوسُهم بجعله تالياً لمقدَّم
مستحيلِ الوقوعِ
{هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإيمان}
الضميرُ مبتدأٌ وأقربُ خبرُه واللامُ في للكفر وللإيمان متعلقة
به وكذا يومئذٍ ومنهم وعدمُ جوازِ تعلقِ حرفين متّحدين لفظاً
ومعنى بعامل واحدٍ بلا عطفٍ أو بدليةٍ إنَّما هو فيما عدا
أفعلِ التفضيلِ من العوامل لاتحاد حيثيةِ عملِها وأما أفعلُ
التفضيلُ فحيث دل على أصل الفعلِ وزيادتِه جرى مَجرى عاملين
كأنه قيل قربهم للكفر زائدة على قربهم للإيمان وقيل تعلقُ
الجارَّيْن به لشَبَهِهما بالظرفين أي هم للكفر يوم إذْ قالوا
ما قالوا أقربُ منهم للإيمان فإنهم كانوا قبل ذلك يتظاهرون
بالإيمان وما ظهرت منهم أَمارةٌ مُؤذِنةٌ بكفرهم فلما انخذلوا
عن عسكر المسلمين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان
المظنونُ بهم واقتربوا من الكفر وقيل هم لأهل الكفرِ أقربُ
نُصرةً منهم لأهل الإيمانِ لأن تقليلَ سوادِ المسلمين
بالانخذال تقويةٌ للمشركين وقوله تعالى
يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ جملةٌ
مستأنفةٌ مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلها وذِكرُ الأفواهِ والقلوبِ
تصويرٌ لنفاقهم وتوضيحٌ لمخالفة ظاهرِهم لباطنهم وما عبارةٌ عن
القول والمرادُ به إما نفسُ الكلامِ الظاهر في اللسان وتارة
وفي القلب أخرى فالمثبَتُ والمنفيُّ متحدان ذاتاً وإن اختلفا
مظهراً وإما القولُ الملفوظُ فقط فالمنفيُّ حينئذٍ منشؤُه الذي
لا ينفك عنه القولُ أصلاً وإنَّما عبَّر عنه به إبانةً لما
بينهما من شدة الاتصالِ أي يتفوّهون بقول لا وجودَ له أو
لِمَنشَئه في قلوبهم أصلاً من الأباطيلِ التي من جملتها ما حكي
عنهم آنفاً فإنهم أظهروا فيه أمرين ليس في قلوبهم شئ منهما
أحدُهما عدمُ العلمِ بالقتال والآخَرُ الاتباعُ على تقدير
العِلمِ به وقد كذَبوا فيهما كذِباً بيّناً حيث كانوا عالمين
به غيرَ ناوين للاتّباع بل كانوا مُصِرِّين مع ذلك على
الانخذال عازمين على الارتداد وقوله عز وجل
{والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} زيادةُ تحقيقٍ لكفرهم
ونفاقِهم ببيان اشتغالِ قلوبِهم بما يخالف أقوالَهم من فُنون
الشرِّ والفسادِ إثرَ بيانِ خُلوِّها عما يوافقها وصيغةُ
التفضيلِ لِما أنَّ بعضَ ما يكتُمونه من أحكام النفاقِ وذمِّ
المؤمنين وتخطئةِ آرائِهم والشماتةِ بهم وغيرِ ذلك يعلمه
المؤمنون على وجه الإجمال وأن تفاصيلَ ذلك
(2/110)
168 - 169 آل عمران
وكيفياتِه مختصةٌ بالعلم الإلهي
(2/111)
الَّذِينَ قَالُوا
لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا
قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (168)
{الَّذِينَ قَالُواْ} مرفوعٌ على أنه بدلٌ
من واو يكتُمون أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ وقيل مبتدأ خبرُه قل
فادرؤا بحذف العائدِ تقديرُه قُلْ لَهُمْ الخ أو منصوبٌ على
الذمِّ أو على أنه نعتٌ للذين نافقوا أو بدلٌ منه وقيل مجرورٌ
على أنه بدلٌ من ضمير أفواهم أو قلوبِهم كما في قولِه ... على
جودِه لَضَنَّ بالماء حاتمُ ...
والمرادُ بهم عبدُ اللَّهِ بنُ أبي وأصحابُه
{لإخوانهم} أي لأجلهم وهم من قُتل يومَ أحدٍ من جنسهم أو من
أقاربهم فيندرج فيهم بعضُ الشهداءِ
{وَقَعَدُواْ} حالٌ من ضمير قالوا بتقدير قد أي قالوا وقد
قعدوا عن القتال بالانخذال
{لَوْ أَطَاعُونَا} أي فيما أمرناهم به ووافقونا في ذلك
{مَا قُتِلُوا} كما لم نُقتلْ وفيه إيذانٌ بأنهم أمروهم
بالانخذال حين انخذلوا وأغْوَوْهم كما غَوَوْا وحملُ القعودِ
على ما استصوبه ابنُ أُبيّ عند المشاورةِ من الإقامة بالمدينة
ابتداءً وجعلُ الإطاعةِ عبارةً عن قبول رأيِه والعملِ به يرُده
كونُ الجملةِ حاليةً فإنها لتعيين ما فيه العصيانُ والمخالفةُ
مع أن ابنَ أبيَ ليس من القاعدين فيها بذلك المعنى على أن
تخصيصَ عدمِ الطاعةِ بإخوانهم ينادي باختصاص الأمرِ أيضاً بهم
فيستحيل أن يُحمَلَ على ما خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ
وسلم عند المشاورة
{قُلْ} تبكيتاً لهم وإظهار لكذبهم
{فادرؤوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ} جوابٌ لشرط قد حُذف
تعويلاً على ما بعدَهُ منْ قولِه تعالى
{إِن كُنتُمْ صادقين} كما أنه شرطٌ حُذف جوابُه لدِلالة
الجوابِ المذكورِ عليهِ أيْ إنْ كنتُم صادقين فيما ينبئ عنه
قولُكم من أنكم قادرون على دفع القتلِ عمن كُتب عليه فادفعوا
عن أنفسكم الموتَ الذي كُتب عليكم مُعلَّقاً بسبب خاصَ موقتاً
بوقت معيّنٍ بدفع سببِه فإن أسبابَ الموتِ في إمكان المدافعةِ
بالحيل وامتناعِها سواءٌ وأنفسُكم أعزُّ عليكم من إخوانكم
وأمرُها أهمُّ لديكم من أمرهم والمعنى أن عدمَ قتلِكم كان بسبب
أنه لم يكن مكتوباً عليكم لا بسبب أنكم دفعتموه بالقُعود ودمع
كتابته عليكم فإن ذلك مما لا سبيل إليه بل قد يكون القتالُ
سبباً للنجاة والقعود مؤدياً إلى الموت رُوي أنه مات يوم قالوا
ما قالوا سبعون منافقاً وقيل أريد إِن كُنتُمْ صادقين في مضمون
الشرطية والمعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقُتلوا قاعدين كما
قُتلوا مقاتِلين فقوله تعالى فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ
الْمَوْتَ حينئذ استهزاءٌ بهم أي إن كنتم رجالاً دفّاعين
لأسباب الموت فادرءوا جميعَ أسبابِه حتى لا تموتوا كما درأتم
في زعمكم هذا السببَ الخاصَّ
(2/111)
وَلَا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ
أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى
سَبِيلِ الله أمواتا} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أن القتلَ
الذي يَحذَرونه ويُحذّرون الناسَ منه ليس مما يُحذر بل هو من
أجل المطالبِ التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ إثرَ بيانِ أن
الحذرَ لا يجدى ولا يغني وقرئ ولا تحسِبن بكسر السين والمرادُ
بهم شهداءُ أحدٍ وكانوا سبعين رجلاً أربعةٌ من المهاجرين حمزةُ
بنُ عبد المطالب ومُصعبُ بنُ عميرٍ وعثمانُ بنُ شهابٍ وعبدُ
اللَّه بنُ جحشٍ وباقيهم من الأنصار رضوانُ الله تعالَى عليهم
أجمعين والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن
له حظٌّ من الخطاب وقرئ بالياء على
(2/111)
170 - آل عمران
الإسناد إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ أو ضمير مَنْ يحسَب وقيل
إلى الذين قُتلوا والمفعولُ الأولُ محذوفٌ لأنه في الأصل
مبتدأٌ جائز الحذف عندالقرينة والتقديرُ ولا يحسَبنّهم الذين
قُتلوا أمواتاً أي لا يحسبن الذين قُتلوا أنفسَهم أمواتاً على
أن المرادَ من توجيه النهي إليهم تنبيهُ السامعين على أنهم
أحِقاءُ بأن يَسْلُوا بذلك ويَبْشُروا بالحياة الأبديةِ
والكرامةِ السنية والنعيمِ المقيمِ لكن لا في جميعِ أوقاتِهم
بل عند ابتداءِ القتلِ إذ بعد تبيُّن حالِهم لهم لا يبقى
لاعتبار تسليتِهم وتبشيرِهم فائدة ولا لتنبيه السامعين
وتذكيرهم وجه وقرئ قتلوا بالتشديد لكثرة المقتولين
{بَلْ أَحْيَاء} أي بل هم احياء وقرئ منصوباً أي بلِ احسَبْهم
أحياءً على أن الحُسبانَ بمعنى اليقينِ كما في قوله ... حسِبتُ
التقي والمجدَ خيرَ تجارة ... رَباحاً إذا ما المرءُ أصبح
ثاقلاً ...
أو على أنه واردٌ على طريق المشاكلةِ
{عِندَ رَبّهِمْ} في محلِ الرفعِ على أنه خبرٌ ثانٍ للمبتدأ
المقدرِ أو صفةٌ لأحياءٌ أو في محلِّ النَّصبِ على أنه حال من
الضمير في أحياءٌ وقيل هو ظرفٌ لأحياء أو للفعل بعده والمرادُ
بالعندية التقربُ والزلفى وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئة
عن التَّربيةِ والتبليغِ إلى الكمال مع الإضافةِ إلى ضميرِهم
مزيدُ تكرمةٍ لهم
{يُرْزَقُونَ} أي من الجنة وفيه تأكيدٌ لكونهم أحياءً وتحقيقٌ
لمعنى حياتِهم قال الإمام الواحدي الأصحُ في حياة الشهداءِ ما
رُوي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم من أنَّ أرواحَهم في
أجوافٍ طيورٍ خُضْرٍ وأنهم يُرزقون ويأكْلون ويتنعمون ورُوي
عنه عليه السلام أنه قال لما أصيب إخوانُكم بأحُدٍ جعل الله
أرواحَهم في أجواف طيور خضر تدور في أنهار الجنة وروي ترِدُ
أنهارَ الجنةِ وتأكُل من ثمارها وتسرَح من الجنة حيث شاءت
وتأوي إلى قناديلَ من ذهب معلقةٍ في ظل العرشِ وفيه دَلالةٌ
على أن روحَ الإنسانِ جسمٌ لطيفٌ لا يفنى بخراب البَدَن ولا
يتوقف عليه إدراكُه وتألُّمه والتذاذُه ومن قال بتجريد النفوسِ
البشريةِ يقول المرادُ أن نفوسَ الشهداءِ تتمثل طيوراً خُضْراً
أو تتعلق بها فتلتذّ بما ذكر وقيل المرادُ أنها تتعلق بالأفلاك
والكواكبِ فتلتذ بذلك وتكتسب زيادةَ كمال
(2/112)
فَرِحِينَ بِمَا
آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ
لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
{فرحين بما آتاهم الله من فَضْلِهِ} وهو
شرفُ الشهادةِ والفوزُ بالحياة الأبديةِ والزُلفى من الله عز
وجل والتمتُّع بالنعيم المخلِّد عاجلاً
{وَيَسْتَبْشِرُونَ} يُسِرّون بالبشارة
{بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} أي بإخوانهم الذين لم يُقتلوا
بعدُ في سبيل الله فيلحقوا بهم
{مّنْ خَلْفِهِمْ} متعلقٌ بيلحقوا والمعنى أنهم بقُوا بعدهم
وهم قد تقدموهم أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل يلحقوا أيْ لمْ
يلحقُوا بهمْ حالَ كونِهم متخلِّفين عنهم باقين في الدنيا
{أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} بدلٌ من
الذين بدلَ اشتمالٍ مبينٍ لكون استبشارِهم بحال إخوانِهم لا
بذواتهم وإنْ هي المخففةُ من أنّ واسمُها ضميرُ الشأنِ
المحذوفِ وخبرُها الجملةُ المنفية أي ويستبشرون بما تبين لهم
من حسن حالِ إخوانِهم الذين تركوهم وهو أنهم عند قتلِهم يفوزون
بحياة أبديةٍ لا يكدرها خوف وقوعُ محذور ولا حزنٌ فوات مطلوبٍ
أو لاَ خوفٌ عَلَيْهِمْ في الدنيا من القتل فإنه عينُ الحياةِ
التي يجب أن يرغب فيها فضلا
(2/112)
171 - 172 173 آل عمران
عن أن تُخافَ وتحذَر أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم
ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون والمرادُ بيانُ دوامِ انتفاءِ
الخوفِ والحزنِ لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يُوهمه كونُ
الخبرِ في الجملة الثانية مضارعا فإن النفيَ وإن دخل على نفس
المضارع يُفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام
(2/113)
يَسْتَبْشِرُونَ
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ} كُرِّر لبيان
أن الاستبشارَ المذكورَ ليس بمجرد عدمِ الخوفِ والحزنِ بل به
وبما يقارِنُه من نعمةٍ عظيمةٍ لا يقادَرُ قَدْرُها وهي ثوابُ
أعمالِهم وقد جُوِّز أن يكون الأولُ متعلقاً بحال إخوانِهم
وهذا بحال أنفسِهم بياناً لبعض ما أُجمل في قولِه تعالَى
فَرِحِينَ بما آتاهم الله مِن فَضْلِهِ
{مِنَ الله} متعلقٌ بمحذوف وقع صفة لنعمة مؤكدةٌ لما أفاده
التنكيرُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنةٍ
منه تعالى
{وَفَضَّلَ} أي زيادةٍ عظيمةٍ كما في قوله تعالى لّلَّذِينَ
أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ
{وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين} بفتح أن عطفٌ على
فضلٍ منتظمٌ معه في سلك المستبشَرِ به والمرادُ بالمؤمنين إما
الشهداءُ والتعبيرُ عنهم بالمؤمنين للإيذان بسمو رُتبة
الإيمانِ وكونِه مناطاً لما نالوه من السعادة وإما كافةُ أهلِ
الإيمانِ من الشهداء وغيرِهم ذُكرت توفيةُ أجورِهم على إيمانهم
وعُدَّت من جملة ما يستبشَرُ به الشهداء بحكم الأخُوَة في
الدين وقرئ بكسرها على أنه استئنافٌ معترضٌ دالٌّ على أن ذلك
أجرٌ لهم على إيمانهم مُشعِرٌ بأن من لا إيمانَ له أعمالُه
محبطة لا أجر لها وفيه من الحث على الجهاد والترغيبِ في
الشهادة والبعثِ على ازدياد الطاعةِ وبشرى المؤمنين بالفلاح ما
لا يخفى
(2/113)
الَّذِينَ
اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا
أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ
وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
{الَّذِينَ استجابوا لِلَّهِ والرسول مِن
بَعْدِ مَا أصابهم القرح} صفةٌ مادحةٌ للمؤمنين لا مخصِّصة أو
نُصب على المدحِ أو رفع على الابتداءِ والخبرُ قولُه تعالى
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ}
بجملته ومن للبيان والمقصودُ من الجمع بين الوصفين المدحُ
والتعليلُ لا التقييدُ لأن المستجيبين كلَّهم محسنون ومتقون
رُوي أنَّ أبا سفيانَ وأصحابَه لما انصرفوا من أحُد فبلغوا
الرّوحاءَ ندِموا وهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأراد أن يرهبهم من نفسه وأصحابِه قوةً فندَب
أصحابَه للخروج في طلب أبي سفيان وقال لا يخرُجنَّ معنا إلا من
حضر يومَنا بالأمس فخرج صلى الله عليه وسلم مع جماعة حتى بلغوا
حمراءَ الأسدِ وهي من المدينة على ثمانية أميالٍ وكان بأصحابه
القرْحُ فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتَهم الأجرُ وألقى الله
تعالى الرعبَ في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت
(2/113)
الَّذِينَ قَالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
{الذين قَالَ لَهُمُ الناس} يعني الركب
الذين
(2/113)
174 - آل عمران
استقبلوهم من عبد قيسٍ أو نُعيم بنِ مسعودٍ الأشجعي وإطلاقُ
الناس عليه لما أنه من جنسهم وكلامُه كلامُهم يقال فلانٌ يركبُ
الخيلَ ويلبَس الثياب وماله سوى فرسٍ فردٍ وغيرُ ثوبٍ واحد أو
لأنه انضم إليه ناسٌ من المدينة وأذاعوا كلامَه
{إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم} رُوي أنَّ أبا
سفيانَ نادى عند انصرافِه من أحُد يا محمدُ موعدُنا موسمُ بدرٍ
القابلُ إن شئت فقال عليه السَّلامُ إنَّ شاء الله تعالى فلما
كان القابلُ خرج أبو سفيان في أهل مكةَ حتى نزل مرَّ الظهرانِ
فألقى الله تعالى في قلبه الرعبَ وبدا له أن يرجِع فمر به ركبٌ
من بني عبدِ قيسٍ يُريدون المدينةَ للمِيرَة فشرَط لهم حِملَ
بعيرٍ من زبيب إن ثبّطوا المسلمين وقيل لقيَ نُعيمُ بنَ مسعودٍ
وقد قدِم معتمِراً فسأله ذلك والتزم له عشراً من الإبل وضمِنها
منه سهيلُ بنُ عمرو فخرج نُعيمٌ ووجد المسلمين يتجهزون للخروج
فقال لهم أتَوْكم في دياركم فلم يُفلت منكم أحدٌ إلا شريدٌ
أفترَوْن أن تخرُجوا وقد جمعوا لكم ففِرُّوا فقال عليه السلام
والذي نفسي بيده لأخرُجَنَّ ولو لم يخرُجْ معي أحدٌ فخرج في
سبعين راكباً كلُّهم يقولون حسبُنا الله ونعم الوكيل قيل هي
الكلمة التى قالها إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين
ألقي في النار
{فَزَادَهُمْ إيمانا} الضميرُ المستكنّ للمقول أو لمصدرِ قال
أو لفاعله إن أُريد به نُعيمٌ وحدَه والمعنى أنهم لم يلتفتوا
إلى ذلك بل ثبَت به يقينُهم بالله تعالى وازداد اطمئنانُهم
وأظهروا حميةَ الإسلامِ وأخلصوا النيةَ عنده وهو دليلٌ على أن
الإيمانَ يتفاوت زيادةً ونقصاناً فإن ازديادَ اليقينِ بالإلْفِ
وكثرةِ التأملِ وتناصُرِ الحجج مما لا ريبَ فيه ويعضُده قولُ
ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قلنا يا رسولَ الله الإيمانُ يزيدُ
وينقص قال نعم يزيد حتى يُدخِلَ صاحبَه الجنةَ وينقُص حتى
يدخِلَ صاحبَه النار
{وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله} أي محسبنا الله وكافيا من أحسبه
إذا كفاه والدليلُ على أنه بمعنى المُحسب أنه لا يستفيد
بالإضافة تعريفاً في قولك هذا رجلٌ حسبُك
{وَنِعْمَ الوكيل} أي نعم الموكولُ إليه والمخصوصُ بالمدح
محذوفٌ أي الله عزَّ وجلَّ
(2/114)
فَانْقَلَبُوا
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
(174)
{فانقلبوا} عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه
الكلام أي فخرجوا إليهم ووافَوا الموعِد روي أنه عليه الصلاةُ
والسلام وافى بجيشه بدراً وأقام بها ثمانيَ ليالٍ وكانت معهم
تجاراتٌ فباعوها وأصابوا خيراً كثيراً والباء في قوله تعالى
{بِنِعْمةٍ} متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الضمير في فانقلبوا
والتنوينُ للتفخيم أي فرَجَعوا من مقصِدهم ملتبسين بنعمة
عظيمةٍ لا يقادَر قدرُها وقوله عز وجل
{من الله} متعلق بمحذوف وقع صفة لنعمة مؤكدة لفخامتها الذاتيةِ
التي يفيدها التنكيرُ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنةٍ من الله
تعالى وهي العافيةُ والثباتُ على الإيمان والزيادةُ فيه وحذَرُ
العدوِّ منهم
{وَفَضْلٍ} أي ربحٍ في التجارة وتنكيره أيضاً للتفخيم
{لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء} حالٌ أخرى من الضمير في فانقلبوا
أومن المستكنِّ في الحال كأنه قيل منعّمين حالَ كونِهم سالمين
عن السوء والحالُ إذا كان مضارعاً منفياً بلم وفيه ضميرُ ذي
الحالِ جاز فيه دخولُ الواوِ كما في قوله تعالى أَوْ قَالَ
أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شئ وعدمُه كما في هذه
الآية الكريمةِ وفي قولِه تعالى وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ
بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً
{واتبعوا} في كل ما أتَوا من قول وفعل
{رضوان الله} الذي هو مناطُ الفوزِ بخير الدارين
{والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} حيث تفضَّل عليهم
(2/114)
175 - 176 آل عمران
بالتثبيت وزيادةِ الإيمانِ والتوفيقِ للمبادرة إلى الجهاد
والتصلبِ في الدين وإظهارِ الجراءةِ على العدو وحفِظَهم عن كل
ما يسوءهم مع إصابة النفعِ الجليلِ وفيه تحسيرٌ لمن تخلّف عنهم
وإظهارٌ لخطأ رأيِهم حيث حرَموا أنفسَهم ما فاز به هؤلاء وروى
أنهم قالوا هل يكون هذا غزواً فأعطاهم الله تعالى ثوابَ الغزوِ
ورضي عنهم
(2/115)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ
الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ
وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
{إِنَّمَا ذلكم} إشارةٌ إلى المثبَّط أو
إلى مَنْ حمله على التثبيط والخطابُ للمؤمنين وهو مبتدأُ
وقولُه تعالى
{الشيطان} إما خبرُه وقوله تعالى
{يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ} جملةٌ مستأنفةٌ مبيِّنة لشيطنته أو
حالٌ كما في قوله تعالى فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً الخ
وإما صفتُه والجملةُ خبرُه ويجوز أن تكون الإشارةُ إلى قوله
على تقديرِ مضافٍ أي إنما ذلكم قولُ الشيطانِ أي إبليسَ
والمستكنُّ في يخوف إما المقدار وإما الشيطان بحذف الراجعِ إلى
المقدر أي يخوِّف به والمرادُ بأوليائه إما أبو سفيان وأصحابُه
فالمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي يخوفكم أولياءَه كما هو قراءةُ
ابنِ عباس وابنِ مسعودٍ ويؤيِّده قولُه تعالى
{فَلاَ تَخَافُوهُمْ} أي أولياءَه
{وَخَافُونِ} في مخالفة أمري وإما القاعدون فالمفعولُ الثاني
محذوفٌ أي يخوفهم الخروجَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
والضميرُ البارزُ في فَلاَ تَخَافُوهُمْ للناس الثاني أي فلا
تخافوهم فتقعُدوا عن لاقتال وتجنبوا وخافوني فجاهدوا مع رسولي
وسارعوا إلى ما يأمُركم به والخطابُ لفريقَي الخارجين
والقاعدين والفاءُ لترتيب النهي أو الانتهاء على ماقبلها فغن
كونَ المَخوفِ شيطاناً مما يوجب عدمَ الخوفِ والنهي عنه
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإنَّ الإيمانَ يقتضي إيثارَ خوفِ
الله تعالى على خوف غيرِه ويستدعي الأمنَ من شر الشيطانِ
وأوليائِه
(2/115)
وَلَا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ
يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ
لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
{وَلاَ يَحْزُنكَ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ
له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتشريفه بتخصيصه بالتسلية
والإيذانِ بأصالته في تدبير أمورِ الدين والاهتمام بشئونه
{الذين يسارعون فى الكفر} أي يقعون فيه سريعاً لغاية حرصِهم
عليه وشدةِ رَغبتِهم فيه وإيثارُ كلمةِ فِى على ما وقع في
قولِه تعالى وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ الآية للإشعار
باستقرارهم في الكفر ودوام ملابستهم له في مبدأ المسارعة
ومنتهاها كما في قوله تعالى أُوْلَئِكَ يسارعون فِى الخيرات
فإن ذلك مؤذِنٌ بملابستهم للخيرات وتقلّبِهم في فنونها في طرفي
المسارعةِ وتضاعيفِها وأما إيثار كلمة إلى في قوله تعالى
وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ الخ فلأن
المغفرةَ والجنةَ منتهى المسارعةِ وغايتُها والمرادُ بالموصول
المنافقون من المتخلفين وطائفةٌ من اليهود حسبما عُيِّن في
قوله تعالى {يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ
فِى الكفر مِنَ الذين قالوا آمنا بأفواههم وَلَمْ تُؤْمِن
قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذين هِادُواْ} وقيل قوم ارتدوا عن
الإسلام والتعبيرُ عنهم بذلك للإشارة بما في حيِّزِ الصلة إلى
مَظِنة وجودِ المنهيِّ عنه واعترائِه لرسول الله صلى الله عليه
وسلم أي لا يَحْزُنوك بمسارعتهم في الكفر ومبادرتِهم إلى تمشية
أحكامِه ومُظاهرتِهم لأهله وتوجيهُ النهي إلى جهتهم مع ان
المقصود نهيهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن التأثر منهم
للمبالغة في ذلك لما أن
(2/115)
177 - آل عمران النهيَ عن التأثير نهيٌ عن
التأثر بأصله ونفيٌ له بالمرة وقد يُوجِّه النهيُ إلى اللازم
والمرادُ هو النهيُ عن الملزوم كما في قولك لا أُرَينّك ههنا
وقرأ لا يُحزِنْك من أحزَن المنقولِ من حزِن بكسرِ الزَّاي
والمعنى واحدٌ وقيل معنى حزَنه جعل فيه حُزْناً كما في دهَنه
أي جعل فيه دُهْناً ومعنى أحزنه جعله حزيناً وقيل معنى حزَنه
أحدث له الحزَن ومعنى أحزنه عرَّضه للحُزْن
{إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله} تعليلٌ للنهي وتكميلٌ للتسلية
بتحقيق نفيِ ضررِهم أبداً أي لن يضروا بذلك أولياءَ الله
البتةَ وتعليقُ نفي الضررِ به تعالى لتشريفهم والإيذانِ بأن
مُضارَّتَهم بمنزلة مضارَّتِه سبحانه وفيه مزيدُ مبالغةٍ في
التسلية وقوله تعالى
{شَيْئاً} في حيز النصبِ على المصدرية أي شيئاً من الضرر
والتنكيرُ لتأكيد ما فيه من القلة والحقارةِ وقيل على نزعِ
الجارِّ أي بشئ ما أصلاً وقيل المعنى لن يَنقصُوا بذلك من
مُلكه تعالى وسلطانِه شيئاً كما روى أبو ذر عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى لو أنَّ أولَكم وآخركم
وجنكم وإنسكم كانوا على أتقى قلب رجُلٍ منكم ما زادَ ذلكَ في
مُلكي شيئاً ولو أنَّ أولَكم وآخرَكم وجنكم وإنسكم كانوا على
أفجر قلب رجلٍ منكم ما نَقَصَ ذلكَ من مُلكي شيئاً والأولُ هو
الأنسبُ بمقام التسليةَ والتعليل
{يُرِيدُ الله ألا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاخرة}
استئنافٌ مبينٌ لسرّ ابتلائهم بما هُم فيه من الانهماك في
الكفر وفي ذكر الإرادةِ من الإيذان بكمال خلوصِ الداعي إلى
حرمانهم وتعذيبِهم حيث تعلّقت بهما إرادة أرحم الراحمين مالا
يخفى وصيغةُ الاستقبالِ للدِلالة على دوام الإرادةِ
واستمرارِها أي يريد الله بذلك أن لا يجعل لهم في الاخرة حظأ
من الثواب ولذلك تركهم في طغيانهم يعمهون إلى أن يهلِكوا على
الكفر
{وَلَهُمْ} مع ذلك الحِرمانِ الكى
{عَذَابٌ عظِيمٌ} لا يقادَرُ قَدرُه قيل ما دلت المسارعة في
الشئ على عِظَم شأنِه وجلالةِ قدرِه عند المسارِعِ وُصف عذابُه
بالعِظَم رعايةً للمناسبة وتنبيهاً على حقارة ما سارعوا فيه
وخساستِه في نفسه والجملةُ إما مبتدَأةٌ مبيِّنةٌ لحظهم من
العقاب إثر بيان أن لاشئ لهم من الثواب وإما حالٌ من الضمير في
لهم أي يريد الله حِرمانَهم من الثواب مُعدّاً لهم عذابٌ عظيم
(2/116)
إِنَّ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ
شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
{إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان} أي
أخذوه بدلاً منه رعبة فيما أخذوه وإعراضاً عما تركوه وقد مرَّ
تحقيقُ القولِ في هذه الاستعارةِ في تفسير قولِه عزَّ وجل
{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} مستوفى
{لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} تفسيرُه كما مر غيرَ أن فيه
تعريضاً ظاهراً باقتصار الضررِ عليهم كأنه قيل وإنما يضُرون
أنفسَهم فإن جُعل الموصولُ عبارةً عن المسارعين المعهودين بأن
يُرادَ باشتراء الكفرِ بالإيمان إيثارُه عليه إما بأخذه بدلاً
من الإيمان الحاصلِ بالفعل كما هو حالُ المرتدين أو بالقوة
القريبةِ منه الحاصلةِ بمشاهدة دلائلِه في التوراة كما هو شأنُ
اليهودِ ومنافقيهم فالتكريرُ لتقرير الحُكم وتأكيدِه ببيان
علتِه بتغيير عنوانِ الموضوعِ فإن ما ذكر في حيز الصلة من
الاشتراء المذكورِ صريحٌ في لُحوق ضررِه بأنفسِهم وعدم تعدّيه
إلى غيرهم أصلاً كيف لا وهو عَلَمٌ في الخسران الكليِّ
والحِرمانِ الأبدي دالٌّ على كمال سخافةِ عقولِهم وركاكةِ
آرائِهم فكيف يتأتى منهم ما يتوقفُ على قوة الحزمِ ورزانةِ
الرأيِ ورصانةِ التدبيرِ من مُضارّة حزبِ الله تعالى وهي أعزُّ
من الأبلقِ الفردِ وأمنعُ من عُقاب الجوِّ وإن أجرى الموصول
على
(2/116)
178 - آل عمران عمومه بأن يراد بالاشتراء
المذكورِ القدرُ المشتركُ الشاملُ للمعنيين المذكورين ولأخذ
الكفرِ بدلاً مما نُزل منزلةَ نفسِ الإيمانِ من الاستعداد
القريبِ له الحاصلِ بمشاهدة الوحيِ الناطقِ وملاحظةِ الدلائلِ
المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ كما هو دأبُ جميعِ الكفرةِ
فالجملةُ مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلها تقريرَ القواعدِ الكليةِ
لما اندرج تحتها من جزئيات الأحكامِ هذا وقد جوِّز كونُ
الموصولِ الأولِ عاماً للكفار والثاني خاصاً بالمعهودين وأنت
خبيرٌ بأنه مع خلوّه عن النكَتِ المذكورةِ مما لا يليق بفخامة
شأنِ التنزيلِ لما أن صدورَ المسارعةِ في الكفر بالمعنى
المذكورِ وكونَها مظِنةً لإيراث الحَزَنِ لرسول الله صلى الله
عليه وسلم كما يفهم من النهي عنه إنما يتصور ممن عُلم اتصافُه
بها وأما من لا يُعرف حالُه من الكفرة الكائنين في الأماكن
البعيدةِ فإسنادُ المسارعةِ المذكورةِ إليهم باعتبار كونِها من
مبادى حزنه عليه السلام ومما لا وجه له وقوله تعالى
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} جملةٌ مبتدأة مبينةٌ لكمال فظاعةِ
عذابِهم بذكر غايةِ إيلامِه بعد ذكرِ نهايةِ عِظَمِه قيل لما
جرت العادةُ باغتباط المشتري بما اشتراه وسرورِه بتحصيله عند
كونِ الصفقةِ رابحةً وبتألمه عند كونِها خاسرةً وُصف عذابُهم
بالإيلام مراعاةً لذلك
(2/117)
وَلَا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ
لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ
أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ} عطفٌ على قوله
تعالى وَلاَ يَحْزُنكَ الذين الآية والفعلُ مسندٌ إلى الموصول
وأن بما في حيزها سادةٌ مسدَّ مفعوليه عند سيبويهِ لتمام
المقصودِ بها وهو تعلقُ الفعلِ القلبيِّ بالنسبة بين المبتدأ
والخبرِ أو مسدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش وما
مصدريةٌ أو موصولةٌ حذف عائدها ووصلُها في الكتابة لاتّباع
الإمام أي لايحسبن الكافرون إن إملاءنا لهم أو أن ما نمليه لهم
خيرلأنفسهم أولا يحسبن الكافرون خيريةَ إملائِنا لهم أو خيريةَ
ما نُمليه لهم ثابتةٌ أو واقعةٌ ومآلُه نهيُهم عن السرور بظاهر
إملائِه تعالى لهم بناءً على حُسبان خيريّتِه لهم وتحسيرِهم
ببيان أنه شرٌّ بحتٌ وضررٌ محضٌ كما أن مآلَ المعطوفِ عليه
نهيُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم عن الحزن بظاهر حالِ الكفرةِ
بناءً على توهم الضررِ من قِبَلهم وتسليتِه عليه السلام ببيان
عجزِهم عن ذلك بالكلية والمرادُ بالموصول إما جنسُ الكفرةِ
فيندرج تحت حكمِه الكليِّ أحكامُ المعهودين اندراجاً أولياً
وإما المعهود دون خاصة فإيثار الإظهار على الإضمار لرعاية
المقارنةِ الدائمة بين الصلةِ وبين الإملاءِ الذي هو عبارةٌ عن
إمهالهم وتخليتِهم وشأنَهم دهراً طويلاً فإن المقارنَ له
دائماً إنما هو الكفرُ المستمرُّ لا المسارعةُ المذكورةُ ولا
الاشتراءُ المذكورُ فإنهما من الأحوال المتجددةِ المنْقضيةِ في
تضاعيف الكفرِ المستمر وقرئ لا تحسبن بالتاء والخطابُ لرسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو الأنسبُ بمقام التسليةِ أو لكلِّ
مَنْ يتأتَّى منْهُ الحُسبانُ قصداً إلى إشاعة فظاعةِ حالِهم
والموصولُ مفعول وإنما نُمْلِى لَهُمْ إما بدلٌ منه وحيث كان
التعويلُ على البدل وهو سادٌّ مسدَّ المفعولين كما في قوله
تعالى أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ اقتُصر
على مفعولٍ واحدٍ كما في قولك جعلتُ المتاعَ بعضَه فوق بعضٍ
وإما مفعولٌ ثانٍ بتقدير مضافٍ إما فيه أي لاتحسبن
(2/117)
179 - آل عمران الذين كفروا أصحابَ أن
الإملاءِ خيرٌ لأنفسهم أو في المفعول الأولِ أي لاتحسبن حالَ
الذين كفروا أن الإملاء خيرٌ لأنفسهم ومعنى التفضيلِ باعتبارِ
زعمِهم
{إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} استئنافٌ
مبينٌ لحكمةِ الإملاءِ وما كافة واللامُ لامُ الإرادة وعند
المعتزلةِ لامُ العاقبة وقرئ بفتح الهمزة ههنا على إيقاع
الفعلِ عليه وكسرُها فيما سبق على أنه اعتراضٌ بين 8 الفعل
ومعمولِه مفيدٌ لمزيد الاعتناءِ بإبطال الحسبانِ وردِّه على
معنى لايحسبن الكافرون أن إملاءنا لهم لازدياد الإثمِ حسبما هو
شأنُهم بل إنما هو لتلافي ما فَرَط منهم بالتوبة والدخولِ في
الإيمان
{وَلَهُمْ} فى الأخرة
{عَذَابٌ مُّهِينٌ} لمّا تضمّنَ الإملاءُ التمتيعَ بطيبات
الدنيا وزينتِها وذلك مما يستدعي التعزّزَ والتجبّر وُصف
عذابُهم بالإهانة ليكون جزاؤهم جزاءً وفاقاً والجملةُ إما
مبتدأةٌ مبينة لحالهم إِثرَ بيانِ حالِهم في الدُّنيا وإما
حالٌ من الواو ليزيدادوا إثماً مُعداً لهم عذابٌ مهين وهذا
متعيِّن على القراءة الأخيرة
(2/118)
مَا كَانَ اللَّهُ
لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى
يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي
مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
{ما كان الله ليذر المؤمنين على مَا
أَنتُمْ عَلَيْهِ} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لوعده المؤمنين ووعيده
المنافقين بالعقوبة الدنيويةِ التي هي الفضيحةُ والخِزْيُ إثرَ
بيانِ عقوبتِهم الأخرويةِ والمرادُ بالمؤمنين المخلصون وأما
الخطابُ فقد قيل إنه لجمهور المصدِّقين من أهل الإخلاصِ وأهلِ
النفاقِ ففيه التفاتٌ في ضمن التلوينِ والمرادُ بما هم عليه
اختلاطُ بعضِهم بعضاً واستواؤهم في إجراء أحكامِ الإسلامِ
عليهم إذ هو القدرُ المشترك بين الفريقين وقيل إنه للكفار
والمنافقين وهو قولُ ابنِ عباسٍ والضحاكِ ومقاتلٍ والكلبيِّ
وأكثرِ المفسرين ففيه تلوين فقط ولعل المنافقين عطفٌ تفسيريٌ
للكفار وإلا فلا شركةَ بين المؤمنين والمنافقين في أمرٍ من
الأمورِ والمرادُ بما هم عليه ما مر من القدر المشتركِ فإنه
كما يجوز نسبتُه إلى الفريقين معاً يجوز نسبتُه إلى كل منهما
لا الكفرُ والنفاقُ كما قيل فإن المؤمنين ما كانوا مشاركين لهم
في ذلك حتى لا يُتركوا عليه وقيل إنه للمؤمنين خاصة وهو قولُ
أكثرِ أهلِ المعاني ففيه تلوينٌ والتفاتٌ كما مر والتعرضُ
لإيمانهم قبل الخطابِ للإشعار بعلة الحُكم والمرادُ بما هم
عليه ما مر غيره مرةٍ والأولُ هو الأقربُ وإليه جنَح
المحقِّقون من أهل التفسير لكونه صريحاً في كون المرادِ بما هم
عليهِ ما ذُكر من القدر المشتركِ بين الفريقين من حيث هو
مشترَكٌ بينهما بخلاف القولين الأخيرين فإنهما بمعزل من ذلك
كيف لا والمفهومُ مما عليه المنافقين هو الكفرُ والنفاقُ ومما
عليه المؤمنون هو الإيمانُ والإخلاصُ لا القدرُ المشتركُ
بينهما ولئن فُهم ذلك فإنما يفهم من حيث الانتسابُ إلى أحدهما
لا من حيث الانتسابُ إليهما معاً وعليه يدور أمرُ الاختلاطِ
المُحوِجِ إلى الإفراز واللام في ليذر إما متعلقة بالخبر
المقدر لكان كما هو رأي البصرية وانتصابُ الفعل بعدها بأن
المقدرة أي ما كان الله مريداً أو متصدياً لأن يذَرَ المؤمنين
الخ ففي توجيه النفي إلى إرادة الفعل تأكيدٌ ومبالغةٌ ليست في
توجيهه إلى نفسه
(2/118)
وإما مزيدةٌ للتأكيد ناصبةٌ للفعل بنفسها
كما هو رأيُ الكوفية ولا يقدحُ في ذلك زيادتُها كما لا يقدح
زيادةُ حروفِ الجر في عملها وقوله عز وجل
{حتى يميز الخبيث من الطيب} غايةٌ لما يفيده النفيُ المذكورُ
كأنَّه قيلَ ما يتركهم الله تعالى على ذلك الاختلاطِ بل يقدِّر
الأمورَ ويرتب الأسبابَ حتى يعزِلَ المنافقَ من المؤمن وفي
التعبير عنهما بما ورد به النظمُ الكريمُ تسجيلٌ على كلَ منهما
بما يليق به وإشعارٌ بعلة الحُكمِ وإفرادُ الخبيث والطيب مع
تعدد ما أريد بكل منهما وتكثره لا سيما بعد ذكرِ ما أريد
بأحدهما أعني المؤمنين بصيغة الجمعِ للإيذان بأن مدارَ إفرازِ
أحدِ الفريقين من الآخر هو اتصافُهما بوصفهما لا خصوصيةُ
ذاتِهما وتعددُ آحادِهما كما في مثلِ قولِه تعالى {ذلك أدنى
أَلاَّ تَعُولُواْ} ونضيره قولُه تعالى {تَذْهَلُ كُلُّ
مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} حيث قصد الدَلالةَ على الاتصاف
بالوصف من غير تعرضٍ لكون الموصوفِ من العقلاء أو غيرِهم
وتعليقُ المَيْزِ بالخبيث المعبَّرِ به عن المنافق مع أن
المتبادرَ مما سبق من عدم تركِ المؤمنين على الاختلاطِ تعليقه
بهم وإفرازُهم عن المنافقين لما أن المَيْزَ الواقع بين
الفريقين إنما بالتصرف في المنافقين وتغييرِهم من حال إلى حال
مغايرةٍ للأولى مع بقاء المؤمنين على ما كانُوا عليهِ من أصل
الإيمانِ وإن ظهر مزيدُ إخلاصِهم لا بالتصرف فيهم وتغييرِهم من
حال إلى حال أخرى مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من
الاستتار ولأن فيه مزيدَ تأكيدٍ للوعيد كما أشير إليه في قولَه
تعالى {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} وإنما لم يُنسَبْ
عدمُ التركِ إليهم لما أنه مشعر بالأعتناء بشأنِ من نُسب إليه
فإن المتبادرَ منه عدمُ الترك على حالة غيرِ ملائمةٍ كما يشهد
به الذوقُ السليم وقرئ حتى يمسز من التمييز وقوله تعالى
{وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} تمهيدٌ لبيان
المَيزِ الموعودِ على طريق تجريدِ الخطابِ للمخلِصين تشريفاً
لهم وقوله عز وجل
{وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء} إشارةٌ
إلى كيفية وقوعِه على سبيل الإجمالِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في
الموضعين لتربية المهابةِ فالمعنى ما كان الله ليترُك
المخلِصين على الاختلاط بالمنافقين بل يرتبُ المبادئ حتى
يُخرِجَ المنافقين من بينهم وما يفعل ذلك باطلاعكم على ما في
قلوبِهِم منَ الكفر والنفاقِ ولكنه تعالى يوحي إلى رسوله عليه
السلام فيخبرُه بذلك وبما ظهر منهم من الأقوال والأفعال حسبما
حُكي عنهم بعضُه فيما سلف فيفضحهم على رءوس الأشهادِ ويخلّصكم
من خسة الشركاءِ وسوءِ جوارِهم والتعرضُ للاجتباء للإيذان بأن
الوقوفَ على أمثال تلك الأسرار الغيبية لا يتأتي إلى ممن رشحه
الله تعالى لمنصِب جليلٍ تقاصرت عنه هممُ الأممِ واصطفاه على
الجماهير لإرشادهم وتعميمُ الاجتباء لسائر الرسل عليهم السلام
للدِلالة على أن شأنَه عليه السلام في هذا البابِ أمرٌ متينٌ
له أصلٌ أصيلٌ جارٍ على سنة الله تعالى المسلوكةِ فيما بين
الرسلِ الخاليةِ عليهم السلام وتعميمُ الأمر في قوله تعالى
{فَآمِنُوا بالله ورسله} مع أن سوق النظم الكريم للإيمان
بالنبى صلى الله عليه وسلم لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني
والإشعارِ بأن ذلك مستلزِمٌ للإيمان بالكل لأنه مصدِّقٌ لما
بين يديهِ من الرسل وهم شهداء بصحة نبوتِه عليه الصلاةُ
والسلامُ والمأمورُ به الإيمانُ بكل ما جاءَ به عليهِ الصلاة
والسلام فيدخُل فيه تصديقُه عليه السلام فيما أخبَر به من
أحوال المنافقين دخولاً أولياً هذا هو الذي يقتضيهِ جزالةُ
النظمِ الكريمِ وقد جوز أن يكون المعنى لا يتركُكم مختلطين حتى
يميز الخبيث من الطيب بأن يكلّفَكم التكاليفَ الصعبةَ التي لا
يصبِر عليها إلا الخُلّصُ الذين امتحن الله تعالى قلوبَهم كبذل
الأرواحِ في الجهاد وإنفاقِ الأموالِ في سبيلِ الله تعالى
(2/119)
180 - آل عمران
فيُجعل ذلك عِياراً على عقائدكم وشاهداً بضمائركم حتى يعلمَ
بعضُكم بما في قلب بعض بطريق الاستدلالِ لا من جهة الوقوفِ على
ذات الصدورِ فإن ذلك مما استأثر الله تعالى به وأنت خبيرٌ بأن
الاستدراك باجتباء الرسل المنبئ عن مزيد مزيتِهم وفضلِ
معرفتِهم على الخلق إثرَ بيانِ قصورِ رتبتِهم عن الوقوف على
خفايا السرائرِ صريحٌ في أنَّ المرادَ إظهارُ تلك السرائرِ
بطريق الوحيِ لا بطريق التكليفِ بما يؤدي إلى خروج أسرارِهم عن
رتبة الخفاءِ وأقربُ من ذلك حملُ الآيةِ الكريمةِ على أنَّ
تكون مسوقةً لبيان الحِكمة في إملائه تعالى للكفرة إثر بيان
شريته لهم فالمعنى ما كان الله ليذر المخلِصين على الاختلاط
أبداً كما تركهم كذلك إلى الآن لسرَ يقتضيه بل يفرُز عنهم
المنافقين ولذلك فعله يومئذ حيث خلّى الكفرةَ وشأنَهم فأبرز
لهم صورةَ الغَلَبةِ فأظهر مَنْ في قلوبهم مرضٌ ما فيها من
الخبائث وافتضحوا على رءوس الأشهادِ وقيل قال الكافرون إن كان
محمدٌ صادقاً فليُخبِرْنا مَنْ يؤمن منا ومن يكفرُ فنزلت
{وَإِن تُؤْمِنُواْ} أي بما ذكر حقَّ الإيمان
{وَتَتَّقُواْ} أي عدمَ مراعاةِ حقوقِه أو النفاقَ
{فَلَكُمْ} بمقابلة ذلك الإيمانِ والتقوى أَجْرٌ عَظِيمٌ لا
يبلغ كنهه
(2/120)
وَلَا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ
مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (180)
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بما
آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم} بيانٌ لحال البخلِ ووخامةِ
عاقبتِه وتخطئةٌ لأهله في توهم خيريته حسَبَ بيانِ حالِ
الإملاءِ وإيرادُ ما بخِلوا به بعنوان إيتاءِ الله تعالى إياه
من فضله للمبالغة في بيان سوءِ صنيعِهم فإن ذلك من موجبات
بَذلِه في سبيله كما في قوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا
جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ والفعلُ مسندٌ إلى الموصولُ
والمفعولُ الأولُ محذوفٌ لدِلالة الصلةِ عليه وضميرُ الفصل
راجعٌ إليه أي لا يحسَبن الباخلون بما آتاهم الله مِن فَضْلِهِ
من غير أن يكون لهم مَدخلٌ فيه أو استحقاقٌ له هو خيراً لهم من
إنفاقه وقيل الفعلُ مسندٌ إلى ضمير النبيِّ صلَّى الله عليهِ
وسلم أو إلى ضمير من يحسَبُ والمفعولُ الأولُ هو الموصولُ
بتقدير مضافٍ والثاني ما ذُكر كما هو كذلك على قراءة الخِطاب
أي ولايحسبن بخلَ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو
خيراً لهم
{بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} التنصيصُ على شرِّيته لهم مع
انفهامها من نفي خيريّتِه للمبالغة في ذلك والتنوينُ للتفخيم
وقولُه تعالى
{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} بيانٌ
لكيفية شرِّيته أي سيلزَمون وبالَ ما بخِلوا به إلزام الطوق
على أنه حذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليهِ مقامه للإيذان
بكمال المناسبة بينهما وروى عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم
أنه قال ما من رجل لا يؤدى زكاة ماله إلا جعل الله له شجاعا في
عنقه يوم القيامة وقيل يجعل ما بخل به من الزكاة حيةً في عنقه
تنهشُه من قَرنه إلى قدمه وتنقُر رأسَه وتقول أنا مالُك
{وَللَّهِ} وحده لا لأحد غيرِه استقلالا أو اشتراكا
{ميراث السماوات والارض} أي ما يتوارثه أهلُهما من مال وغيرِه
من الرسالات التي يتوارثها أهلُ السمواتِ والأرض فما لهم
يبخلون عليه بمُلكه ولا ينفقونه في سبيله أو أنه يرث منهم ما
يُمسِكونه ولا ينفقونه في سبيله تعالى عند هلاكهم وتبقى عليهم
الحسرةُ والندامة
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ} من المنع والبخلِ
{خَبِيرٌ} فيجازيكم على ذلك وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع
الإضمار
(2/120)
181 - 182 آل عمران لتربية المهابةِ
والالتفاتُ للمبالغة في الوعيد والإشعارِ باشتداد غضب الرحمن
الناشئ من ذكر قبائحهم وقرئ بالياء على الظاهر
(2/121)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ
أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ
الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ
الْحَرِيقِ (181)
{لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين
قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} قالته
اليهودُ لمَّا سمعُوا قولَه تعالَى {مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ
الله قَرْضًا حَسَنًا} وروي أنه عليه السلام كتب مع أبي بكرٍ
رضيَ الله عنْهُ إلى يهودِ بني قَينُقاعَ يدعوهم إلى الإسلام
وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ وأن يُقرضوا الله قرضاً حسناً
فقال فنحاصُ إن الله فقيرٌ حتى سألنا القَرْضَ فلطمه أبُو بكرٍ
رضيَ الله عنه في وجهه وقال لولا الذي بيننا وبينكم من العهد
لضربت عُنقَك فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحد ما
قاله فنزلت والجمعُ حينئذ مع كون القائلِ واحداً لرضا الباقين
بذلك والمعنى أنه لم يخْفَ عليه تعالى وأعد له من العذاب كفأه
والتعبيرُ عنه بالسماع للإيذان بأنه من الشناعة والسماحة بحيث
لا يرضى قائلُه بأن يسمَعَه سامعٌ والتوكيدُ القَسَميُّ
للتشديد في التهديد والمبالغةِ في الوعيد
{سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} أي سنكتب ما قالوه من العظيمة
الشنعاءِ في صحائف الحفَظةِ أو سنحفظه ونُثبته في علمنا
لاننساه ولا نَهمله كما يثبت المكتوب والسين للتأكيد أي لن
يفوتنا أبداً تدوينُه وإثباتُه لكونه في غاية العِظم والهولِ
كيف لا وهو كفرٌ بالله تعالى واستهزاءٌ بالقرآن العظيم
والرسولِ الكريمِ ولذلك عُطف عليه قولُه تعالى
{وَقَتْلِهِمُ الانبياء} إيذاناً بأنهما في العِظم إخوانٌ
وتنبيهاً على أنه ليس بأول جريمةٍ ارتكبوها بل لهم فيه سوابقُ
وأن من اجترأ على قتل الأنبياءِ لم يُستبعَدْ منه أمثالُ هذه
العظائمِ والمرادُ بقتلهم الأنبياءَ رضاهم بفعل أسلافِهم وقوله
تعالى
{بِغَيْرِ حَقّ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من قتلهم أي كائناً
بغير حقَ في اعتقادهم أيضاً كما هو في نفس الأمرِ وقرئ سيَكتُب
على البناء للفاعل وسيُكتَبُ على البناء للمفعول وقتلُهم
بالرفع
{وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} أي وننتقم منهم بعد
الكَتْبةِ بأن نقول لهم ذوقوا العذابَ المُحرِقَ كما أذقتم
المسلمين الغُصَصَ وفيه من المبالغات مالا يخفى وقرئ ويقول
بالياء ويُقال على البناء للمفعول
(2/121)
ذَلِكَ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ (182)
{ذلك} إشارةٌ إلى العذاب المذكورِ وما فيه
من معنى البعد للدلالة على عِظَم شأنِه وبُعدِ منزلتِه في
الهَولِ والفظاعةِ وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى
{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي بسبب ما اقترفتموه من قتل
الأنبياءِ والتفوُّه بمثل تلك العظيمةِ وغيرِها من المعاصي
والتعبيرُ عن الأنفس بالأيدي لما أن عامة أفاعيلِها تزاوَلُ
بهن ومحلُّ أنْ في قوله تعالى
{وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} الرفعُ على أنه خبر
مبتدأ محذوف والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها أي
والأمرُ أنَّه تعالى ليس بمعذِّب لعبيدِه بغيرِ ذنبٍ منْ
قِبلهم والتعبيرُ عن ذلك بنفيِ الظلمِ معَ أنَّ تعذيبَهم بغيرِ
ذنبٍ ليس بظلم مَا تقررَ منْ قاعدةِ أهلِ السنَّةِ فضلاً عن
كونِه ظُلماً بالغاً لبيانِ كمالِ نزاهتِه تعالَى عنْ ذلكَ
بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنْهُ سبحانه من الظلم كما
يعبّر عن ترك الإثابةِ على الأعمال على الأعمال بإضاعتها مع أن
الأعمالَ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى يلزَم من تخلفه عنها صياغها
وصيغة
(2/121)
183 - 184 آل عمران المبالغةِ لتأكيدِ هَذا
المَعْنى بإبرازِ ما ذُكر من التعذيبِ بغيرِ ذنبٍ في صورة
المبالغةِ في الظلمِ وقيلَ هيَ لرعايةِ جمعيةِ العبيدِ من
قولِهم فلانٌ ظالمٌ لعبدهِ وظلاَّم لعبيدِه عَلى أنها للمبالغة
كماً لا كيفاً هذا وقد قيل محل أن الجرُّ بالعطفِ على ما
قدَّمت وسببيتُه للعذاب من حيث أن نفيَ الظلمِ مستلزِمٌ للعدل
المقتضي لإثابة المحسن ومعاقبة المسئ وفسادُه ظاهرٌ فإن تركَ
التعذيبِ من مستحِقه ليس بظلم شرعاً ولا عقلاً حتى ينتهضَ نفيُ
الظلم سبباً للتعذيب حسبما ذكره القائلُ في سورة الأنفالِ وقيل
سببيةُ ذنوبهم لعذابهم مقيّدةٌ بانضمام انتفاءِ ظلمِه تعالى
إليها إذ لولاه لأمكن أن يعذبَهم بغير ذنوبهم وأنت خبير بأن
إمكانَ تعذيبِه تعالى لعبيده بغير ذنبٍ بل وقوعُه لا ينافي
كونَ تعذيبِ هؤلاءِ الكفرةِ بسبب ذنوبِهم حتى يُحتاجَ إلى
اعتبار عدمِه معه وإنما يحتاج إلى ذلك أنْ لو كان المدعى أن
جميعَ تعذيباتِه تعالى بسبب ذنوبِ المعذبين
(2/122)
الَّذِينَ قَالُوا
إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ
حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ
جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي
قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(183)
{الَّذِينَ قَالُواْ} نُصِب أو رُفع على
الذم وهم كعب بن الأشرف ومالك بن صيفي وحُيَيُّ بنُ أخطبَ
وفنحاصُ بنُ عازوراءَ ووهْبُ بنُ يهوذا
{إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} أي أمرنا في التوراة وأوصانا
{ألا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ
تَأْكُلُهُ النار} كما كان عليه أمرُ أنبياءِ بني إسرائيلَ حيث
كان يُقرَّب بالقربان فيقوم النبيُّ فيدعو فتنزل نارٌ من
السماء فتأكُله أي تُحيله إلى طبعها بالإحراق وهذا من
مُفترَياتهم وأباطيلِهم فإن أكلَ النارِ القربانَ لم يوجب
الإيمانَ إلا لكونه معجزةً فهو وسائرُ المعجزاتِ سواء ولماكان
مُحصّلُ كلامِهم الباطلِ أن عدمَ إيمانِهم برسولِ الله صلَّى
الله عليه وسلم لعدم إتيانه بما قالوا ولو تحقق الإتيانُ به
لتحقق الإيمانُ رُدّ عليهم بقوله تعالى
{قُلْ} أي تبكيتاً لهم وإظهاراً لكذبهم
{قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ} كثيرةُ العددِ كبيرةُ المقدار
{مِّن قَبْلِى بالبينات} أي المعجزات الواضحةِ
{وبالذى قُلْتُمْ} بعينه من القُربان الذي تأكله النارُ
{فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كنتم صادقين} فيما يدل عليه
كلامُكم من أنكم تؤمنون لرسول يأتِيكم بما اقترحتموه فإن زكريا
ويحيى وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد جاءوكم بما
قلتم مع معجزات أُخَرَ فما لكم لم تؤمنوا لهم حتى اجترأتم على
قتلهم
(2/122)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ
وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
{فَإِن كَذَّبُوكَ} شروعٌ في تسليةِ رسولِ
الله صلى الله عليه وسلم إثرَ ما أوحي إليه ما يحزنه عليه
الصلاة والسلام من مقالات الكفرةِ من المشركين واليهود وقوله
تعالى
{فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} تعليلٌ لجواب الشرطِ أي
فتَسَلَّ فقد كُذب الخ ومِنْ متعلقةٌ بكُذب أو بمحذوف صفةٌ
لرسلٌ أي كائنةٌ من قبلك
{جاؤوا بالبينات} أي المعجزات الواضحات صفةٌ لرسلٌ
{والزبر} هو جمعُ زَبورٍ وهو الكتابُ المقصود على الحِكَم من
زَبَرْتُه إذا حسنته وقيل زبر المواعظُ والزواجرُ من زبَرتُه
إذاز جرته والكتاب قيل أي التوراةِ والإنجيلِ والزبورِ
والكتابُ في عرف القرآنِ ما يتضمن الشرائعَ والأحكامَ ولذلك
جاء الكتابُ والحكمةُ متعاطِفَيْن في عامة وقرئ وبالزُبُر
بإعادة الجارِّ دَلالةً على أنها مغايِرةٌ بالذات
(2/122)
185 - 186 آل عمران للبينات
(2/123)
كُلُّ نَفْسٍ
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا
مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} وعدٌ
ووعيدٌ للمصدِّق والمكذب وقرئ ذائقةٌ الموتَ بالتنوين وعدمِه
كما في قوله ... ولا ذاكرُ اللَّهَ إلا قليلاً ...
{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} أي تُعطَوْن أجزية
أعمالِكم على التمام والكمالِ
{يَوْمُ القيامة} أي يوم قيامِكم من القبور وفي لفظ التوفيةِ
إشارةٌ إلى أنَّ بعضَ أجورِهم يصل إليهم قبله كما ينبئ عنه
قولُه عليه الصَّلاة والسلام القبرُ روضةٌ من رياض الجنةِ أو
حُفرةٌ من حُفَر النيرانِ
{فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار} أي بعُد عنها يومئذ ونجى
والزحزحةُ في الأصل تكريرُ الزحِّ وهو الجذبُ بعجلة
{وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} بالنجاة ونيلِ المرادِ
والفوزِ الظفر بالبُغية وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من
أحب أن يُزَحْزحَ عن النار ويدْخَلَ الجنةَ فلتُدْرِكْه
منيّتُه وهو يؤمن بالله واليومِ الآخِر ويأتي إلى الناس ما يحب
أن يؤتى إليه
{وَمَا الحياة الدنيا} أي لذاتها وزخارفُها
{إِلاَّ متاع الغرور} شبِّهت بالمتاع الذي يدلس به على المستام
ويُغَرّ حتى يشتريَه وهذا لمن آثرها على الآخرة فأما من طلب
بها الآخِرةَ فهي له متاعٌ بلاغٌ والغُرور إما مصدرٌ أو جمعُ
غَارٍ
(2/123)
لَتُبْلَوُنَّ فِي
أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
{لَتُبْلَوُنَّ} شروعٌ في تسليةِ رسولِ
الله صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ عما
سيلقَوْنه من جهة الكفرةِ من المكاره إثرَ تسليتِهم عما قد وقع
منهم ليوطِّنوا أنفسَهم على احتماله عند وقوعِه ويستعدوا
للقائه ويقابلوه بحسن الصبرِ والثباتِ فإن هجومَ الأوجالِ مما
يزلزل أقدامَ الرجالِ والاستعداد للكروب مما يهوِّن الخطوبَ
وأصل الابتلاء الاختبار أي تطلب الخبرة بحال المختبر بتعريضه
لأمر يشُقُّ عليه غالباً ملابستُه ومقارفته وذلك إنما يتصور
حقيقة مما لا وقوفَ له على عواقب الأمور وأما من جهة العليم
الخبير فلا يكون إلا مجازا من تمكينه للعبد من اختيار أحدِ
الأمرين أو الأمورِ قبل أن يرتب عليه شيئاً هو من مباديه
العاديةِ كما مر والجملةُ جوابُ قسمِ محذوفٍ أيْ والله
لتُبلونَّ أي لتعاملن معاملة معملة المُختبَرِ ليَظهر ما عندكم
من الثبات على الحق والأعمالِ الحسنة وفائدةُ التوكيدِ إما
تحقيقُ معنى الابتلاءِ تهويناً للخطب وإما تحقيقُ وقوعِ
المبتلى به مبالغةً في الحث على مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن
التهيئو والاستعدادِ
{فِى أموالكم} بما يقع فيها من ضروب الآفاتِ المؤديةِ إلى
هلاكها وأما إنفاقُها في سبيل الخيرِ مطلقاً فلا يليق نظما في
سلك الابتلاءِ لما أنه من باب الإضعافِ لا من قبيل الإتلافِ
{وأَنفُسَكُمْ} بالقتل والأسرِ والجراحِ وما يرِدُ عليها من
أصناف المتاعبِ والمخاوفِ والشدائدِ ونحوِ ذلك وتقديمُ
الأموالِ لكثرة وقوعِ الهلكةِ فيها وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين
أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ أي من قبل إيتائِكم القرآنَ
وهم اليهودُ والنصارى عبّر عنهم بذلك للإشعار بمدار الشقاقِ
والإيذان بأن بعضَ ما يسمعونه منهم مستنِدٌ على زعمهم إلى
الكتاب كما في قوله تعالى {إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا}
(2/123)
الخ والتصريحُ بالقَبْلية لتأكيد الإشعارِ
وتقويةِ المدارِ فإن قِدَمَ نزولِ كتابِهم مما يؤيد تمسّكَهم
به
{وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً} من الطعن في الدين
الحنيف والقدحِ في أحكام الشرعِ الشريفِ وصدِّ من أراد أن
يؤمِنَ وتخطئةِ من آمن وما كان من كعب بنِ الأشرفِ وأضرابِه من
هجاء المؤمنين وتحريضِ المشركين على مضادة رسول الله صلى الله
عليه وسلم ونحو ذلكَ مما لا خيرَ فيه
{وَإِن تَصْبِرُواْ} أي على تلك الشدائد والبلوى عند ورودِها
وتقابلوها بحسن التجمُّل
{وَتَتَّقُواْ} أي تتبتلوا إلى الله تعالى بالكلية معرضين عما
سواه بالمرة بحيث يتساوى عندكم وصولُ المحبوب ولقاءُ المكروه
{فَإِنَّ ذلك} إشارةٌ إلى الصبر والتقوى وما فيه من معنى البعد
للإيذان بعلو درجتِهما وبُعدِ منزلتِهما وتوحيدُ حرفِ الخطابِ
إما باعتبار كلِّ واحدٍ من المُخاطبينَ وإما لأن المرادَ
بالخطاب مجرد التنبيه من غير ملاحظةِ خصوصيةِ أحوالِ المخاطبين
{مِنْ عَزْمِ الامور} من معزوماتها التي يتنافسُ فيها
المتنافسونَ أى مما يحب أن يعزِمَ عليه كلُّ أحدٍ لما فيه من
كمال المزيَّةِ والشرفِ أو مما عزَم الله تعالى عليه وأمر به
وبالغَ فيه يعني أن ذلك عزمةٌ من عَزَمات الله تعالى لا بد أن
تصبِروا وتتقوا والجملةُ تعليلٌ لجواب الشرط واقع موقعه كأنه
قيل وإن تصبرواوتتقوا فهو خيرٌ لكم أو فافعلوا أو فقد أحسنتم
أو فقد أصبتم فإن ذلك الخ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ إشارةً إلى
صبر المخاطَبين وتقواهم فالجملةُ حينئذٍ جوابُ الشرط وفي إبراز
الأمرِ بالصبر والتقوى في صورة الشرطيةِ من إظهار كمال اللطف
بالعبادة ما لا يَخفْى
(2/124)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ
ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا
يَشْتَرُونَ (187)
{وَإِذْ أَخَذَ الله} كلامٌ مستأنفٌ سيق
لبيان بعضِ أذِيّاتِهم وهو كِتمانُهم ما في كتابهم من شواهدِ
نبوتِه عليه الصلاةُ والسلامُ وغيرِها وإذْ منصوبٌ على
المفعوليةِ بمضمر أُمر به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم خاصة
بطريق تجريدِ الخطابِ إثرَ الخطابِ الشامل له عليه الصلاة
والسلام وللمؤمنين لكون مضمونِه من الوظائف الخاصةِ به عليه
الصلاة والسلام وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه
من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرِها
على ما مر بيانُه في تفسيرِ قولِه تعالى وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
للملائكة إنى جَاعِلٌ الخ أي اذكر وقت أخذِه تعالى
{ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب} وهم علماءُ اليهودِ والنصارى
ذُكروا بعنوان إيتاءِ الكتابِ مبالغةً في تقبيح حالِهم
{لَتُبَيّنُنَّهُ} حكايةٌ لما خوطبوا به والضميرُ للكتاب وهو
جوابٌ لقسم ينبئ عنه أخذُ الميثاقِ كأنه قيل لهم بالله
لتُبيِّنُنه
{للناس} تظرن جميعَ ما فيه من الأحكامِ والأخبارِ التي من
جُملتها أمرُ نبوتِه عليه الصلاةُ والسلامُ وهو المقصود
بالحكاية وقرئ بالياء لأنهم غُيَّب
{وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} عطفٌ على الجواب وإنما لم يؤكدْ بالنون
لكونه منفياً كما في قولك والله لا يقوم زيد وقيل اكتُفي
بالتأكيد في الأول لأنه تأكيدٌ له وقيلَ هُو حالٌ من ضمير
المخاطبين إما على إضمار مبتدإٍ بعد الواوِ أي وأنتم لا
تكتمونه وأما على رأي مَنْ جوز دخولَ الواوِ على المضارع
المنفيِّ عند وقوعِه حالاً أي لتبينُنّه غيرَ كاتمين والنهيُ
عن الكتمان بعد الأمرِ بالبيان
(2/124)
188 - آل عمران وإما للمبالغة في إيجاب
المأمورِ به وإما المرادَ بالبيان المأمورِ به ذكرُ الآياتِ
الناطقةِ بنبوتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبالكتمان
المنهيِّ عنه إلقاءُ التأويلاتِ الزائغةِ والشبهاتِ الباطلة
وقرئ بالياء كما قبله
{فَنَبَذُوهُ} النبذُ الرميُ والإبعادُ أي طرحوا ما أُخذ منهم
من الميثاق الموثقِ بفنون التأكيدِ وألقَوْه
{وَرَاء ظُهُورِهِمْ} ولم يراعوه ولم يلتفتوا إليه أصلاً فإن
نبذَ الشئ وراءَ الظهرِ مَثَلٌ في الاستهانة به والإعراضِ عنه
بالكلية كما أن جعلَه نُصبَ العينِ علمٌ في كمال العنايةِ به
وفيهِ من الدَلالة على تحتّم بيانِ الحقِّ على علماء الدين
وإظهارِ ما مُنحوه من العلم للناس أجمعين وحُرمةِ كتمانِه لغرض
من الأغراض الفاسدة أو لطمع في عرض من الأعراض الفانية الكاسدة
مالا يخفى وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من كتم علماً عن
أهله ألحجم بلجامٍ من نار وعن طاوس أنه قال لوهْب بن منبّه إني
أرى الله سوف يعذبك بهذه الكتُب وقال والله لو كنتَ نبياً
فكتمتَ العلم كما تكتُمه لرأيت أن الله سيعذبك وعن محمد بن كعب
لا يحِلُّ لأحد من العماء أن يسكُت على علمه ولا يحِلُّ لجاهل
أن يسكُت على جهله حتى يسأل وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه ما أخذ
الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن
يُعلِّموا
{واشتروا بِهِ} أي بالكتاب الذي أُمروا ببيانه ونُهوا عن
كِتمانه فإن ذكرَ نبذِ الميثاقِ يدل على ذلك دَلالةً واضحةً
وإيقاعُ الفعل على الكل مع أن المرادَ به كتمُ بعضِه كدلائل
نبوتِه عليه الصلاةُ والسلامُ ونحوِها لما أن ذلك كتمٌ للكل
إذْ به يتم الكتابُ كما أن رفضَ بعضِ أركانِ الصلاة رفضٌ لكلها
أو بمنزلة كتمِ الكلِّ من حيث إنهما سيان في الشناعة واستجرار
العقاب كما في قوله تعالى {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا
بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} والاشتراءُ مستعارٌ لاستبدال متاعِ
الدنيا بما كتَموه أي تركوا ما أُمروا به وأخذوا بدله
{ثَمَناً قَلِيلاً} أي شيئاً تافهاً حقيراً من حُطام الدنيا
وأعراضِها وفي تصوير هذه المعاملةِ بعقد المعاوضةِ لاسيما
بالاشتراء المُؤْذِنِ بالرغبة في المأخوذ والإعراض عن المعطى
والتعبيرِ عن المشترى الذي هو العُمدةُ في العقد والمقصودُ
بالمعاملة بالثمن الذي شأنُه أن يكون وسيلة إليه وجعلِ الكتابِ
الذي حقُّه أن يتنافسَ فيه المتنافسون مصحوباً بالباء الداخلةِ
على الآلات والوسائلِ من نهاية الجزالةِ والدلالةِ على كمالِ
فظاعةِ حالِهم وغايةِ قبحها بإيثارهم الدنئ الحقير على الشريف
الخطيرِ وتعكيسِهم بجعلهم المقصِدَ الأصليَّ وسيلةً والوسيلةَ
مقصِداً ما لا يخفى جلالة شأنه ورفعةُ مكانِه
{فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} مَا نكرةٌ منصوبةٌ مفسرة لفاعل بئس
ويشترون صفتُه والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي بئس يشترونه ذلك
الثمن
(2/125)
لَا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ
يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ
بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
{لاَ تَحْسَبَنَّ} الخطابُ لرسول الله صلى
الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلُح له
{الذين يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ} أي بما فعلوا كما في قوله
تعالى إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ويدل عليه قراءة
أُبيّ يفرحون بما فعلوا وقرئ بما آتَوا بمعنى أعطَوا وبما
أوتوا أى أي بما أوتوه من علم التوراة قال ابن عباس رضي الله
عنُهمَا هُم اليهودُ حرفوا التوراةَ وفرِحوا بذلك وأحبوا أن
يوصفوا بالديانة والفضل رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه
وسلم سأل اليهود عن شئ مما في التوراة فكتموا
(2/125)
الحقَّ وأخبروه بخلافه وأرَوْه أنهم قد
صدقوه واستحمدوا إليه وفرِحوا بما فعلوا وقيل فرِحوا بكِتمان
النصوصِ الناطقة بنبوتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وأحبوا أن
يُحمَدوا بأنهم متبعون ملةَ إبراهيمَ عليه السلام فالموصولُ
عبارةٌ عن المذكورين أو عن مشاهيرهم وضع موضِعَ ضميرهم
والجملةُ مَسوقةٌ لبيان ما تستتبعُه أعمالُهم المحكيةُ من
العقاب الأخرويِّ إثرَ بيانِ قباحتِها وقد أُدمج فيها بيانُ
بعضٍ آخرَ من شنائعهم وهو إصرارهم على ماهم عليه من القبائح
وفرَحُهم بذلك ومحبتُهم لأن يوصَفوا بما ليس فيهم من الأوصاف
الجميلةِ وقد نُظم ذلك في سلك الصلةِ التي حقُّها أن تكونَ
معلومةَ الثبوتِ للموصولِ عند المخاطَبِ إيذاناً بشهرة
اتصافِهم بذلك وقيل هم قومٌ تخلّفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم
أو المصلحةَ في ذلك واستحمدوا به وقيل هم المنافقون كافةً وهو
الأنسبُ بظاهر قوله تعالى
{وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ}
لشهرةِ أنهم كانوا يفرحون بما فعلوا من إظهار الإيمانِ
وقلوبُهم مطمئنةٌ بالكفر ويستحمِدون إلى المسلمين بالإيمان وهم
عن فعله بألفِ معزل وكانوا يُظهرون محبةَ المؤمنين وهم في
الغايةِ القاصيةِ من العداوة فالموصولُ عبارةٌ عن طائفة
معهودةٍ من المذكورين وغيرِهم فإن أكثرَ المنافقين كانوا من
اليهود ولعل الأولى إجراءُ الموصولِ على عمومه شاملاً لكل من
يأتي بشيء من الحسنات فيفرحُ به فرحَ إعجابٍ ويوَدُّ أن يمدحَه
الناسُ بما هو عارٍ منه من الفضائل منتظماً للمعهودين انتظاماً
أولياً وأيّاً ما كانَ فهو مفعولٌ أولٌ لتحسبن وقوله تعالى
{فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ} تأكيدٌ له والفاءُ زائدةٌ والمفعولُ
الثاني قوله تعالى
{بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب} أي ملتبسين بنجاة منه على أن
المفازةَ مصدرٌ ميميٌ ولا يضُر تأنيثُها بالتاء لما أنها مبنية
عليها وليست للدلالة على الوحدة كما في قوله ... فلولا رجاءُ
النصرِ منك ورهبة ... عقابك قد كانوا لنا بالمواردِ ...
ولا سبيلَ إلى جعلِها اسمَ مكانٍ على أنَّ الجارَّ متعلِّق
بمحذوف وقع صفة لها أي بمفازة كائنةٍ من العذاب لأنها ليست من
العذاب وتقديرُ فعلٍ خاصَ ليصِحَّ به المعنى أي بمفازة
مُنْجيةٍ من العذاب مع كونه خلافَ الأصلِ تعسفٌ مستغنىً عنه
وقرئ بضم الباء في الفعلين على أن الخطابَ شاملٌ للمؤمنين أيضا
وقرئ بياء الغَيبة وفتحِ الباءِ فيهما على أن الفعلَ له عليه
الصلاة والسلام أو لكل أحد ممن يتأتى منه الحُسبان ومفعولاه
كما ذكر وقرئ بضم الباء في الثاني فقط على أن الفعلَ للموصول
والمفعولُ الأولُ محذوفٌ لكونه عينَ الفاعلِ والثاني بمفازة أي
لا يحسبَنّ الذين يفرحون أنفسَهم فائزين وقوله تعالى فلا
يحسبنهم تأكيدٌ للأول والفاءُ زائدةٌ كما مر ويجوزُ أن يُحملَ
الفعلُ الأولُ على حذف المفعولين معاً اختصاراً لدِلالة مفعولي
الثاني عليهما على عكس ما في قوله ... بأيِّ كتابٍ أو بأيةِ
سنة ... ترى حبَّهم عاراً عليَّ وتحسَبُ ...
حيث حُذف فيه مفعولا الثاني لدَلالة مفعولي الأولِ عليهما أو
على أن الفعلَ الأول للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل حاسب
ومفعولُه الأولُ الموصولُ والثاني محذوفٌ لدَلالة مفعولِ
الفعلِ الثاني عليه والفعلُ الثاني مسندٌ إلى ضمير الموصولِ
والفاءُ للعطف لظهور تفرع عدم حُسبانِهم على عدم حُسبانِه عليه
السلام ومفعولاه الضميرُ المنصوب وقوله تعالى بِمَفَازَةٍ
وتصديرُ الوعيدِ بنهيهم عن الحسبان المذكورِ للتنبيه على
بُطلان آرائِهم الركيكةِ وقطعِ أطماعِهم الفارغةِ حيثُ كانُوا
يزعُمون أنَّهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرةِ كما نجَوْا به
من المؤاخذة الدنيويةِ وعليه كان مبني فرحِهم وأما نهيُه عليه
السلام فللتعريض بحسبانهم المذكور لالاحتمال وقوعِ الحُسبانِ
من جهته عليه السلام
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بعد ما أُشير
(2/126)
189 - 190 آل عمران إلى عدم نجاتِهم من
مطلق العذابِ حُقِّق أن لهم فردا منه لاغاية له في المدة
والشدة كما تلوحُ به الجملةُ الاسميةُ والتنكيرُ التفخيميُّ
والوصفُ
(2/127)
وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (189)
{وَللَّهِ} أي خاصةً
{مُلْكُ السماوات والارض} أي السلطانُ القاهرُ فيهما بحيث
يتصرف فيهما وفيما فيهما كيفما يشاء ويريد إيجاداً وإعداماً
إحياءً وإماتةً تعذيباً وإثابةً من غير أن يكون لغيره شائبة
دخل في شئ من ذلك بوجه من الوجوه فالجملةُ مقرِّرة لما قبلها
وقولُه تعالى
{والله على كُلّ شيء قدير} تقريرٌ لاختصاص مُلكِ العالَمِ
الجثماني المعبَّر عنه بقُطريه به سبحانه وتعالى فإن كونه
تعالى قادراً على الكل بحيث لا يشِذ من ملكوته شئ من الأشياء
يستدعي كونَ ما سواه كائناً ما كان مقدوراً له ومن ضرورته
اختصاصُ القدرةِ به تعالى واستحالةُ أن يشاركَه شئ من الأشياء
في القُدرة على شئ من الأشياءِ فضلاً عن المشاركة في ملك
السمواتِ والأرض وفيه تقريره لما مر من ثبوت العذابِ الأليمِ
لهم وعدمِ نجاتهم منه أثر تقرير وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في
موقع الإضمارِ لتربية المهابةِ والإشعار بمناط الحكم فإن شمول
القدرة لجميع الأشياء من أحكام الألولهية مع ما فيه من الإشعار
باستقلال كلَ من الجملتين بالتقرير
(2/127)
إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
{إن في خلق السماوات} جملةٌ مستأنفة سيقت
لتقرير ما سبق من اختصاصه تعالى بالسلطان القاهرِ والقُدرة
التامةِ صُدِّرت بكلمة التأكيدِ اعتناءً بتحقيق مضمونِها أي في
إنشائها على ما هي عليه في ذواتها وصفاتِها من الأمور التي
يَحار في فهم أجلاها العقولُ
{والارض} على ما هي عليه ذاتاً وصفةً
{واختلاف الليل والنهار} أي في تعاقُبهما في وجه الأرضِ وكونِ
كلَ منهما خِلْفةً للآخر بحسَب طلوعِ الشمسِ وغروبِها التابعين
لحركات لسموات وسكونِ الأرضِ أو في تفاوتهما بازدياد كلَ منهما
بانتقاص الآخرِ وانتقاصِه بازدياده باختلاف حالِ الشمسِ
بالنسبة إلينا قُرباً وبُعداً بحسب الأزمنةِ أو في اختلافهما
وتفاوتِهما بحسب الأمكنةِ إما في الطول والقِصَر فإن البلادَ
القريبةَ من القُطب الشماليِّ أيامُها الصيفيةُ أطولُ ولياليها
الصيفيةُ أقصرُ من أيام البلادِ البعيدةِ منه ولياليها وإما في
أنفسها فإن كرية الأرض تقتقض أن يكون بعض الوقات في بعضُ
الأماكنِ ليلاً وفي مقابله نهاراً وفي بعضها صباحاً وفي بعضها
ظهراً أو عصراً أو غيرَ ذلك والليلُ قيل إنه اسمُ جنسٍ يُفرَّق
بين واحدِه وجمعِه بالتاء كتمْر وتمرةٍ والليالي جمعُ جمعٍ
والصحيحُ أنه مفردٌ ولا يُحفظ له جمعٌ والليالي جمعُ ليلةٍ وهو
جمعٌ غريبٌ كأنهم توهموا أنها ليلاةٌ كما في كَيْكة وكياكي
كأنها جمعُ كيكاة والنهارُ اسمٌ لما بين طلوعِ الفجرِ وغروبِ
الشمسِ قاله الراغب وقال ابن فارس هو ضياءُ ما بينهما وتقديمُ
الليلِ على النهار إما لأنه الأصل فإن غُررَ الشهورِ تظهر في
الليالي وإما لتقدمه في الخلفية حسبما ينبئ عنه قوله تعالى
وآية لهم الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار أي نزيلُه منه فيخلُفه
{لاَيَاتٍ} اسمُ إن دخلته اللامُ لتأخره عن خبرها والتنكير
للتفخيم كماً وكيفاً أي لآياتٍ كثيرةً عظيمةٌ لا يُقادر قدرُها
دالةٌ على تعاجيب شعونه التي من جملتها ما مر من اختصاص
المُلكِ العظيمِ والقدرةُ التامةُ به سبحانه وعدم
(2/127)
191 - آل عمران التعرضِ لما ذُكر في سورةِ
البقرةِ من الفُلك والمطرِ وتصريفِ الرياحِ والسحابِ لما أن
المقصود ههنا بيانُ استبدادِه تعالى بما ذُكر من المُلك
والقدرةِ فاكتُفي بمعظم الشواهدِ الدالةِ على ذلك وأما هناك
فقد قُصِد في ضمن بيانِ اختصاصِه تعالى بالألوهية بيانُ
اتصافِه تعالى بالرحمة الواسعةِ فنُظمت دلائلُ الفضلِ والرحمةِ
في سلك دلائلِ التوحيدِ فإن ما فصل هناك من آيات رحمتِه تعالى
كما أنه آيات ألوهيتِه ووحدتِه
{لاِوْلِى الالباب} أي لذوي العقول المجلُوَّة الخالصةِ عن
شوائب الحسِّ والوهمِ المتجرِّدَين عن العلائق النفسانيةِ
المتخلّصين من العوائق الظُلمانيةِ المتأملين في أحوال
الحقائقِ وأحكامِ النعوتِ المراقبين في أطوار الملكِ وأسرارِ
الملكوتِ المتفكرين في بدائع صنائعِ الملِكِ الخلاق المتدبرين
في روائع حُكمِه المودَعةِ في الأنفس والآفاق الناظرين إلى
العالم بعين الاعتبارِ والشهودِ المتفحّصين عن حقيقة سرِّ
الحقِّ في كل موجود المثابرين على مراقبته وذِكراه غيرَ
ملتفتين إلى شئ مما سواه إلا من حيث إنه مرآةٌ لمشاهدة جمالِه
وآلةٌ لملاحظة صفاتِ كماله فإن كل كا ظهر في مظاهر الإبداعِ
وحضر محاضِرَ التكوينِ والاختراع سبيلٌ سوِيّ إلى عالم التوحيد
ودليلٌ قوي على الصانع المجيدِ ناطقٌ بآيات قدرتِه فهل من سامع
واعٍ ومخبِرٍ بأنباء علمِه وحكمتِه فهل له من داعٍ يكلم الناسَ
على قدر عقولِهم ويرُدّ جوابَهم بحسب مقولِهم يحاور تارة بأوضح
عبارةٍ ويلوّح أخرى بألطفِ إشارةٍ مراعياً في الحوار وإبهامهم
وتصريحهم وإن من شئ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاتفقهون
تَسْبِيحَهُمْ فتأمل في هذه الشئون والأسرارِ إن في ذلك لعبرة
لأولى البصار عن عائشةَ رضيَ الله عنها أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال هل لك يا عائشةُ أن تأذني لي الليلةَ في عبادة
ربي فقلت يا رسولَ الله إني لأُحِبُّ قُربَك وأحِبُّ هواك قد
أذِنت لك فقام إلى قِربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يُكثر من
صب الماءِ ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ
الدموعُ حِقْوَيه ثم جلس فحمِد الله تعالى وأثنى عليه وجعل
يبكي ثم رفع يديه يبكي حتى رأيت دموعَه قد بلت الأرضَ فأتاه
بلالٌ يؤْذِنه بصلاة الغداةِ فرآه يبكي فقالَ له يا رسولَ الله
أتبكي وقد غفَر الله لك مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وما تأخر
فقال يا بلال أفلا أكونُ عبداً شكورا ثم قال وما لى لا أبكي
وقد أنزل الله تعالى على في هذه الليلةِ {إن في خلق السماوات
والأرض} الخ ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وروي ويلٌ
لمن لاكها بين فكّيه ولم يتأملْها وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه أن
النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كان إذا قام من الليل يتسول ثم
ينظر إلى السماء ثم يقول {إن في خلق السماوات والأرض}
(2/128)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ (191)
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله} الموصولُ إما
موصولٌ بأولي الألباب مجرورٌ على أنه نعتٌ كاشفٌ له بما في حيز
الصلةِ وإما مفصولٌ عنه مرفوعٌ أو منصوبٌ على المدح أو مرفوعٌ
على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ وقيل هو مرفوعٌ على الابتداء
والخبرُ هو القولُ المقدرُ قبل قولِه تعالى رَبَّنَا وفيه من
تفكيك النظم الجليل مالا يخفى وأيا ما ما كان فقد أشير بما في
حيز صلته أن
(2/128)
المرادَ بهم الذين لا يغفُلون عنه تعالى في
عامة أوقاتِهم لاطمئنان قلوبِهم بذكره واستغراف سرائرِهم في
مراقبته لما أيقنوا بأنَّ كلَّ ما سواه فائضٌ منه وعائدٌ إليه
فلا يشاهدون حالاً من الأحوال في أنفسهم وإليه أُشير بقولِه
عزَّ وجلَّ
{قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبُهُمْ} ولا في الآفاق وإليه أشير
بما بعده إلا وهم يعاينون في ذلك شأنا من شئونه تعالى فالمرادُ
به ذكرُه تعالى مطلقاً سواءٌ كان ذلك من حيث الذاتُ أو من حيث
الصفاتُ والأفعالُ وسواءٌ قارنه الذكرُ اللساني أولا وأما ما
يُحكى عن ابن عمرَ وعروةَ بنِ الزبير وجماعة رضى الله عنهم من
أنهم خرجوا يوم العيدِ إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله تعالى
فقال بعضُهم أما قال الله تعالى {الذين يَذْكُرُونَ الله قياما
وَقُعُوداً} فقاموا يذكرون الله على أقدامهم فليس مرادُهم به
تفسيرَ الآيةِ وتحقيقَ مِصداقِها على التعيين وإنما أرادوا به
التبركَ بنوع موافقةٍ لها في ضمن الإيتان بفرد من أفرادِ
مدلولِها وأما حملُ الذكرِ على الصلاة في هذه الأحوالِ حسب
الاستطاعةِ كما قال عليه السلام لعِمرانَ بنِ الحصين صلِّ
قائماً فإن لم تستطعْ فعلى جنب تومئ إيماءً فمما لا يساعده
سباق لنظم الجليل ولا سياقة ولا قيام والقعودُ جمعُ قائمٍ
وقاعدٍ كنيام ورقدو جمع نائم وانتصابُهما على الحالية من ضمير
يذكرُون أي يذكرونه قائمين وقاعدين وقولُه تعالى وعلى
جُنُوبِهِمْ متعلقٌ بمحذوف معطوفٍ على الحالين أي وكائنين على
جنوبهم أي مضطجعين والمرادُ تعميمُ الذكرِ للأوقات كما مر
وتخصيصُ الأحوالِ المذكورةِ بالذكر ليس لتخصيص الذكرِ بها بل
لأنها الأحوالُ المعهودةُ التي لا يخلو عنها الإنسانُ غالباً
{وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السماوات} عطفٌ على
يَذَّكَّرُونَ منتظمٌ معه في حيز الصلةِ فلا محلَّ له من
الإعراب وقيل محلُّه النصبُ على أنَّهُ معطوف على الأحوال
السابقةِ وليس بظاهر وهو بيانٌ لتفكرهم في أفعاله سبحانه إثرَ
بيانِ تفكرِهم في ذاته تعالى على الإطلاق وإشارة إلى نتيجته
التي يؤدّي إليها من معرفة أحوالِ المعادِ حسبما نطقتْ به
ألسنةُ الرسلِ وآياتُ الكتبِ فكما أنها آياتٌ تشريعيةٌ هاديةٌ
للخلق إلى معرفته تعالى ووجوبِ طاعتِه كذلك المخلوقاتُ آياتٌ
تكوينيةٌ مرشدةٌ لهم إلى ذلك فالأُولى منبِّهاتٌ لهم على
الثانية ودواعٍ إلى الاستشهاد بها كهذه الآيةِ الكريمةِ
ونحوِها مما ورد في مواضعَ غيرِ محصورةٍ من التنزيل والثانيةُ
مؤيِّداتٌ للأولى وشواهدُ دالةٌ على صحة مضمونِها وحقّيةِ
مكنونِها فإن من تأمل في تضاعيف خلقِ العالَمِ على هذا النمطِ
البديعِ قضى باتصاف خالقِه تعالى بجميع ما نطقت به الرسلُ
والكتبُ من الوجوب الذاتيِّ والوَحدةِ الذاتيةِ والمُلك
القاهِرِ والقُدرةِ التامةِ والعلمِ الشاملِ والحِكمةِ
البالغةِ وغيرِ ذلك من صفات الكمالِ وحكمَ بأن مَن قدَر على
إنشائه بلا مثال يِحتذيه أو قانونٍ ينتحيه فهو على إعادته
بالبعث أقدرُ وحكمَ بأن ذلك ليس إلا لحكمة باهرةٍ هي جزاءُ
المكلَّفين بحسب استحقاقِهم المنوطِ بأعمالهم أي علومِهم
واعتقاداتِهم التابعةِ لأنظارهم فيما نُصب لهم من الحُجج
والدلائلِ والأَماراتِ والمَخايلِ وسائرِ أعمالِهم المتفرّعةِ
على ذلك فإنَّ العملَ غيرُ مختصَ بعمل الجوارحِ بل متناولٌ
للعمل القلبى بل هو أشرفُ أفراده لما أن لكلٍ من القلبِ
والقالَب عملا خاصا به ومن قضية كونِ الأولِ أشرفَ من
الثَّانِي كونُ عملِه أيضاً أشرفَ من عمله كيف ولا ولا عملَ
بدون معرفتِه تعالى التي هي أولُ الواجباتِ على العباد
والغايةُ
(2/129)
القُصوى من الخلق على ما نطق به عز وجل
{وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} أي
ليعرفونِ كما أَعرَب عنه قولُه عليه الصَّلاة والسلام يقول
الله تعالى كُنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أنْ أُعْرَفَ فخلقتُ
الخلقَ لأُعرف وإنما طريقُها النظرُ والتفكرُ فيما ذكر من
شئونه تعالى وقَد رُوِيَ عنْهُ عليهِ السلام أنَّهُ قالَ لا
تُفضِّلوني على يونسَ بنِ مَتَّى فإنَّهُ كانَ يُرفع لهُ كلَّ
يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرضِ قالُوا وإنَّما كانَ ذلكَ التفكّرَ
في أمر الله تعالى ولذلك قال عليه السلام لاعبادة مثلُ التفكر
وقد عرفت أنه مستتبِعٌ لتحقيق ما جاءت به الشريعةُ الحقةُ وإلا
لما فسَّر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قوله تعالى {وَهُوَ
الذى خلق السماوات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ
عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً} بقوله عليه الصلاة والسلام أيُكم أحسنُ عقلاً وأورَعُ
عن محارم الله تعالى فإن التورعَ عن محارمه سبحانه موقوفٌ على
معرفة الحلال والحرام المنوط بالكتاب والسنة فحينئذ تتصادقُ
الآياتُ التكوينيةُ وتتوافق الأدلةُ السمعيةُ والعقليةُ وهو
السرُّ في نظم ما حُكي عن المتفكرين من الأمور المستدعِيةِ
للإيمان بالشريعة في سلك نتيجةِ تفكُّرِهم كما ستقف عليه
وإظهارُ خلقِ السمواتِ والأرضِ مع كفاية الإضمارِ لإبراز كمالِ
العنايةِ ببيان حالِهم والإيذانِ بكون تفكرِهم على وجه
التحقيقِ والتفصيلِ وعدمِ التعرضِ لإدراج اختلافِ المَلَوْينِ
في سلك التفكر مع ذكره فيما سلف إما للإيذان بظهور اندراجِه
فيه لما أن ذلك من الأحوال التابعةِ لأحوال السمواتِ والأرضِ
كما أشير إليه وإما للإشعار بمسارعتهم إلى الحُكم بالنتيجة
بمجرد تفكرِهم في بعض الآياتِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى بَعْضٍ آخرَ
منها فِى إثبات المطلوب والخلقُ مصدرٌ على حاله أي يتفكرون في
إنشائهما وإبداعِهما بما فيهما من عجائبِ المصنوعات وقيل بمعنى
المخلوقِ على أن الإضافةَ بمعنى في أي يتفكرون فيما خُلق فيهما
أعمُّ من أن يكون بطريق الجزئيةِ منهما أو بطريق الحلولِ فيهما
أو على أنها بيانية
{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا} كلمةُ هذا إشارةٌ إلى
السموات والأرضِ متضمّنةٌ لضرب من التعظيم كما في قوله تعالى
إن هذا القرآن يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ والتذكيرُ لما
أنهما باعتبار تعلّقِ الخلقِ بهما في معنى المخلوق وباطلا إما
صفةٌ لمصدرٍ مؤكدٍ محذوفٍ أو حالٌ من المفعولِ بِه أي ما خلقتَ
هذا المخلوقَ البديعَ العظيمَ الشأنِ عبثاً عارياً عن الحكمة
خالياً عن المصلحة كما ينبئ عنه أوضاعُ الغافلين عن ذلك
المعرِضين عن التفكر فيه بل منتظما لحكم جليلية ومصالحَ عظيمةٍ
من جملتها أن يكون مداراً لمعايش العبادِ ومناراً يُرشدهم إلى
معرفة أحوالِ المبدأ والمعادِ حسبما أَفْصحت عنه الرسلُ
والكتبُ الإلهية كما تحققتَه مفصلاً والجملة بتمامها في حيز
النصب بقول مقدر هو على تقدير كونِ الموصول نعتا لأولي الألباب
استئنافٌ مبينٌ لنتيجة التفكرِ ومدلول الايات ناشئ مما سبق فإن
النفسَ عند سماعِ تخصيصِ الآياتِ المنصوبةِ في خلق العالمِ
بأولي الألباب ثم وصفَهم بذكر الله تعالَى والتفكرِ في محال
الآياتِ تبقى مترقبةً لما يظهر منهم من آثارها وأحكامِها
كأنَّه قيلَ فماذا يكونُ عند تفكرِهم في ذلك وماذا يترتب عليه
من النتيجة فقيل يقولون كيت وكيت مما ينبئ عن وقوفهم على سر
الخلقِ المؤدِّي إلى معرفة صدقِ الرسلِ وحقية الكُتب الناطقةِ
بتفاصيل الأحكامِ الشرعيةِ على التفصيل الذي وقفت عليه هذا
وأما جعلُه حالا من المستكنِّ في الفعل كما أطبقَ عليه
الجمهورُ فمما لا يساعده النظمِ الكريمِ لما أن مَا في حيزِ
الصِّلةِ وما هو قيدٌ له حقُّه أن يكون من مبادى
(2/130)
192 - 193 آل عمران الحُكمِ الذي أُجريَ
على الموصول ودواعي ثبوته له كذكرهم الله عزَّ وجلَّ في عامة
أوقاتِهم وتفكرِهم فِى خَلْقِ السموات والأرض فإنهما مما يؤدي
إلى اجتلاء تلك الآياتِ والاستدلالِ بها على المطلوب ولا ريب
في أن قولَهم ذلك ليس من مبادى الاستدلال المذكورِ بل من
نتائجه المترتبةِ عليه فاعتبارُه قيداً لما في حيّز الصلةِ مما
لا يليق بشأن التنزيلِ الجليلِ نعم هو حال من ذلك على تقدير
كونِ الموصولِ مرفوعاً أو منصوباً على المدح أو مرفوعاً على
أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف إذ لااشتباه في أن قولَهم ذلك من مبادى
مدحِهم ومحاسنُ مناقبهم وفي إبراز هذا القولِ في معرض الحالِ
دون الخبرِ إشعارٌ بمقارنته لتفكرهم من غيرِ تلعثمٍ وترددٍ في
ذلكَ وقولُه تعالَى
{سبحانك} أي تنزيهاً لك عما لا يليق بك من الأمور التي من
جملتها خلق مالا حكمة فيه اعتراض مؤكدة لمضمون ما قبله وممهد
لما بعده من قوله تعالى
{فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فإن معرفةَ سرِّ خلقِ العالمِ وما
فيه من الحكمةِ البالغةِ والغايةِ الحميدةِ والقيامَ بما
تقتضيه من الأعمال الصالحةِ وتنزيهَ الصانعِ تعالى عن العبث من
دواعي الاستعاذة مما يَحيق بالمُخلِّين بذلك من وجهين أحدُهما
الوقوفُ على تحقق العذابِ فالفاءُ لترتيبِ الدعاءِ عَلَى ما
ذُكر والثاني الاستعدادُ لقبول الدعاءِ فالفاءُ لترتيب
المدعوِّ أعني الوقايةَ على ذلك كأنه قيل وإذ قد عرَفنا سرَّك
وأطعنا أمرَك ونزّهناك عما لا ينبغي فقِنا عذابَ النارِ الذي
هو جزاءُ الذين لا يعرِفون ذلك
(2/131)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ
تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ
مِنْ أَنْصَارٍ (192)
{رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار
فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} مبالغةٌ في استدعاء الوقايةِ وبيانٌ
لسببه وتصديرُ الجملةِ بالنداء للمبالغةِ في التضرعِ والجُؤار
وتأكيدُها لإظهار كمالِ اليقينِ بمضمونها والإيذانِ بشدة
الخوفِ وإظهارُ النارِ في موضع الإضمارِ لتهويلِ أمرِها وذكرُ
الإدخالِ في مورد العذابِ لتعيين كيفيتِه وتبيينِ غاية فظاعتِه
قال الواحدي للإخزاء معانٍ متقاربةٌ يقال أخزاه الله أي أبعده
وقيل أهانه وقيل أهلكه وقيل فضحه قال ابن الأنباري الخزيُ لغةً
الهلاكُ بتلف أو بانقطاع حجةٍ أو بوقوع في بلاء والمعنى فقد
أخزيته خِزياً لا غايةَ وراءَه كقولهم من أدرك مرعى الضمان فقد
أدرك أي المرعى الذي لا مرى على بعدَه وفيه من الإشعار بفظاعة
العذاب الروحاني مالا يخفى وقولُه تعالى
{وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} تذييلٌ لإظهار نهايةِ فظاعةِ
حالِهم ببيان خلودِ عذابِهم بفُقدان من ينصُرهم ويقوم بتخليصهم
وغرضُهم تأكيدُ الاستدعاءِ ووضعُ الظالمين موضعَ ضميرِ
المُدخَلين لذمهم والإشعارِ بتعليل دخولِهم النارَ بظلمهم
ووضعِهم الأشياءَ في غير مواضعِها وجمعُ الأنصارِ بالنظر إلى
جمع الظالمين أي ما لظالم من الظالمين نصيرٌ من الأنصار
والمرادُ به من ينصُر بالمدافعة والقهر فليس في الآية دِلالةٌ
على نفي الشفاعةِ على أن المرادَ بالظالمين هم الكفارُ
(2/131)
رَبَّنَا إِنَّنَا
سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا
بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ
الْأَبْرَارِ (193)
{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً
يُنَادِى للإيمان} حكايةٌ لدعاء آخرَ لهم مبنيٌّ على تأملهم في
الدليل السمعيِّ بعد حكايةِ دعائِهم السابقِ البمنى على التفكر
في الأدلة العقليةِ وتصديرُ مقدمةِ الدعاءِ بالنداء لإظهار
كمالِ الضراعةِ والابتهال
(2/131)
194 - آل عمران والتأكيدُ للإيذان بصدور
المقالِ عنهم بوفور الرغبةِ وكمالِ النشاطِ والمرادُ بالنداء
الدعاءُ وتعديتُهما بإلى لتضمُّنهما معنى الإنهاء وباللام
لاشتمالهما على معنى الاختصاص والمراد بالمنادى الرسول صلى
الله عليه وسلم وتنوينُه للتفخيم وإيثارُه على الداعي للدلالة
على كمال اعتنائِه بشأن الدعوةِ وتبليغِها إلى الداني والقاصي
لما فيه من الأيذان برفع الصوت وينادى صفةٌ لمنادياً عند
الجمهورِ كما في قولك سمعتُ رجلاً يقول كيت وكيت ولو كان
معرفةً لكان حالاً منه كما إذا قلت سمعت زيداً يقول الخ
ومفعولٌ ثانٍ لسمعنا عند الفارسي وأتباعِه وهذا أسلوبٌ بديعٌ
يُصار إليه للمبالغة في تحقيق السماعِ والإيذانِ بوقوعه بلا
واسطةٍ عند صدورِ المسموعِ عن المتكلم وللتوسل إلى تفصيله
واستحضارِ صورتِه وقد اختص النظمُ الكريمُ بمزية زائدةٍ على
ذلك حيث عبَّر عن المسموع منه بالمنادي ثم وصف بالنداء للإيمان
على طريقة قولك سمعت متكلماً يتكلم بالحِكمة لما أنَّ التفسيرَ
بعدَ الإبهامِ والتقييدَ بعد الإطلاقِ أوقعُ عند النفسِ وأجدرُ
بالقبول وقيل المنادي القرآنُ العظيمُ
{أنْ آمِنُوا} أي آمنوا على أن أن تفسيريةٌ أو بأنْ آمِنوا على
أنها مصدريةٌ
{بِرَبّكُمْ} بما لكم ومتولى أموركم ومبلغكم ومبلِّغِكم إلى
الكمال وفي إطلاق الإيمان ثم قييده تفخيم لشأنه
{فآمنا} أي فامتثلنا بأمره وأجبنا نداءَه
{رَبَّنَا} تكريرٌ للتضرُّع وإظهارٌ لكمال الخضوعِ وعرضٌ
للاعتراف بربوبيته مع الإيمان بهِ والفاءُ في قولِه تعالى
{فاغفر لنا} لترتيب المغفرةِ أو الدعاءِ بها على الإيمان به
تعالى والإقرار بربوبيته فإن ذلك من دواعي المغفرةِ والدعاءِ
بها
{ذُنُوبَنَا} أي كبائرها فإن الإيمان يجُبُّ ما قبله
{وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا} أي صغائرَنا فإنها مكفَّرةٌ عن
مجتنب الكبائرَ
{وَتَوَفَّنَا مَعَ الابرار} أي مخصوصين بصُحبتهم مغتنمين
لجوارهم معدودين من زُمرتهم وفيه إشعارٌ بأنهم كانوا يحبون
لقاءَ الله ومن أحب لقاءَ الله أحب الله لقاءَه والأبرارُ جمع
بارَ أو بَرَ كأصحاب وأرباب
(2/132)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا
وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
{ربنا وآتنا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ}
حكايةٌ لدعاءٍ آخرَ لهم مسبوقٍ بما قبله معطوفٍ عليه لتأخّر
التحليةِ عن التخلية وتكريرُ النداء لما مر مرارا والمراد
بالموعود الثواب وعلى إما متعلقةٌ بالوعد كما في قولك وعد الله
الجنةَ على الطاعة أي وعدتَنا على تصديق رسلِك أو بمحذوف وقع
صفةٌ لمصدرٍ مؤكدٍ محذوفٍ أي وعدتنا وعداً كائناً على ألسنة
رسلِك وقيل التقديرُ منزلاً على رسلك أو محمولاً على رسلك ولا
يخفى أن تقديرَ الأفعالِ الخاصةِ في مثل هذه المواقعِ تعسفٌ
وجمعُ الرسلِ مع أن المناديَ هو الرسول صلى الله عليه وسلم
وحده لما أن دعوتَه عليه السلام لاسيما في باب التوحيدِ وما
أجمع عليه الكلُّ من الشرائع منطويةٌ على دعوة الكلِّ فتصديقُه
تصديقٌ لهم عليهم السلام كيف لا وقد أخذ منهم الميثاقَ
بالإيمان به عليه السلام لقوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ الله
ميثاق النبيين لَمَا آتيتكم مّن كتاب} الآية وكذا الموعودُ على
لسانه من الثواب موعودٌ على ألسنة الكلِّ وإيثارُ الجمعِ
لإظهار كمال الثقة بانجاز الموعود بناءً على كثرة الشهود
{وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} قصَدوا بذلك تذكيرَ وعدِه
تعالى بقوله يَوْمٌ لاَّ يخزِى الله النَّبىّ والَّذِينَ
آمنُوا مَعَهُ مُظْهرين أنهم ممن آمن معه رجاءً للانتظام في
سلكهم يومئذ وقولُه تعالى
{إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} تعليلٌ لتحقيق ما نَظَموا في
سلك الدعاءِ وهذه الدعواتُ وما في تضاعيفها من كمالِ الضراعة
(2/132)
195 - آل عمران والابتهالِ ليست لخوفهم من
إخلاف الميعادِ بل لخوفهم من أن لا يكونوا من جملة الموعودين
بتغير الحالِ وسوءِ الخاتمةِ والمآلِ فمرجِعُها إلى الدعاء
بالتثبيت أو للمبالغة في التعبُّد والخشوعِ والميعادُ الوعدُ
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه البعثُ بعد الموت وفي الآثار
عن جعفر الصادق من حزبه أمرٌ فقال ربنا خمسَ مراتٍ أنجاه
اللَّهُ مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الآية
(2/133)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ
هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي
سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
{فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} الاستجابةُ
بمعنى الإجابة وقال تاجُ القراء الإجابة عامةٌ والاستجابة خاصة
بإعطاء المسئول وتتعدى باللام وبنفسها كما في قوله ... فلم
يستجبْهُ عند ذاك مُجيبُ ...
وهو عطفٌ على الاستئنافِ المقدَّرِ فيما سلف مترتبٌ على ما في
حيِّزِه من الأدعية كما أن قوله عز وجل ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ
ظَلَمُواْ الخ عطفٌ على قيل المقدَّرِ قبل الآنَ أي قيل لهم
آلآْنَ آمنتم به ثم قيل الآية وكما أن قوله تعالى في سُورة
الاعراف على قُلُوبِهِمْ معطوفٌ على ما دلَّ عليه معنى أَوَ
لَمْ يَهْدِ الخ كأنه قيل يغفُلون عن الهداية ونطبع ونطيع الخ
ولا ضيرَ في اختلافهما صيغةً لما أن صيغةَ المستقبلِ هناك
للدِلالة على الاستمرار المناسبِ لمقام الدعاء وصيغة الماضي
ههنا للإيذان بتحقق الاستجابةِ وتقرّرِها كما لا ضير في
الاختلاف بين قوله تعالى إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ وبين
ما عُطف عليه من قوله تعالى فاستجاب لَكُمْ كما سيأتي ويجوزُ
أنْ يكونَ معطوفاً على مضمَرٍ ينساق إليه الذهنُ أي دَعَوا
بهذه الأدعيةِ فاستجاب الخ وأما على تقرير كونِ المقدرِ حالاً
فهو عطفٌ على يتفكرون باعتبار مقارنتِه لما وقع حالاً من فاعله
أعني قوله تعالى ربنا ربنا الخ فإن الاستجابةَ مترتبةٌ على
دَعَواتهم لا على مجرد تفكّرِهم وحيث كانت هي من أوصافهم
الجميلةِ المترتبةِ على أعمالهم بالآخرة استحقت الانتظامَ في
سلك محاسِنهم المعدودةِ في أثناء مدحِهم وأما على تقدير كون
الموصول نعتا لأولي الألباب فلا مَساغَ لهذا العطفِ أصلا لما
عرفتَ من أنَّ حقَّ مَا في حيِّز الصلةِ أن يكون من مبادي
جَرَيانِ الحُكمِ على الموصول وقد عرفت أن دَعَواتِهم السابقةَ
ليست كذلك فأين الاستجابةُ المتأخرةُ عنها وفي التعرض لعنوان
الربوبية المنبئةِ عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى
ضميرهم من تشريفهم واظهار اللطف بهم مالا يخفى
{أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ} أي بأني وهكذا
قرأ أُبيٌّ رضي الله عنه والباءُ للسببية كأنه قيل فاستجاب لهم
ربُّهم بسبب لأنه لا يُضيع عملَ عامل منهم أي سُنّتُه السنيةُ
مستمرَّةٌ على ذلك والالتفاتُ إلى التكلم والخطابُ لإظهار
كمالِ الاعتناءِ بشأن الاستجابةِ وتشريفِ الداعين بشرف الخطاب
والمرادُ تأكيدُها ببيان سببها والإشعارُ بأن مدارَها أعمالهم
التي قدموها على الدعاء لا مجردُ الدعاءِ وتعميمُ الوعدِ لسائر
العاملين وإن لم يبلُغوا درجةَ أولي الألبابِ لتأكيد استجابةِ
الدعواتِ المذكورةِ والتعبيرُ عن ترْك الإثابةِ بالإضاعة مع
أنه ليس بإضاعة حقيقية إذ الأعمالُ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى
يلزَم من تخلفه
(2/133)
عنها ضياعُها لبيانِ كمالِ نزاهتِه تعالَى
عنْ ذلكَ بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنْهُ من القبائح
وإبرازِ الإثابةِ في معرِض الأمور الواجبةِ عليه وقرئ
بكسرالهمزة على إرادةِ القولِ أيْ قائلاً إني الخ فلا التفات
حينئذ وقرئ لا أُضيِّع بالتشديد ومِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً
لعامل أي عاملٍ كائنٍ منكم وقولُه تعالى
{من ذَكَرٍ أَوْ أنثى} بيانٌ لعامل وتأكيدٌ لعمومه وقوله تعالى
{بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} جملةٌ معترضةٌ مبينةٌ لسبب انتظامِ
النساءِ في سلك الرجالِ في الوعد فإن كونَ كلَ منهما من الآخَر
لتشعُّبهما من أصل واحدٍ أو لفرط الاتصالِ بينهما أو لاتفاقهما
في الدين والعمل مما يستدعي الشركةَ والاتحادَ في ذلك روي أن
أمَّ سلمة رضيَ الله عَنْهَا قالتْ لرسول الله صلى الله عليه
وسلم إني أسمعُ اللَّهَ تعالى يذكرُ الرجالَ في الهجرة ولا
يذكرُ النساءَ فنزلت وقوله تعالى
{فالذين هاجروا} ضربُ تفصيلٍ لَما أُجمل في العمل وتعدادٌ لبعض
أحاسنِ أفرادِه على وجه المدحِ والتعظيمِ أي فالذين هاجروا
الشركَ أو الأوطانَ والعشائرَ للدين وقوله تعالى
{وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم} على الأول عبارةٌ عن نفس الهجرةِ
وعلى الثاني عن كيفيتها وكونِها بالقسر والاضطرار
{وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى} أي بسبب إيمانهم بالله ومن أجله وهو
متناولٌ لكل أذيةٍ نالتهم من قِبَل المشركين
{وَقَاتِلُواْ} أي الكفارَ في سبيلِ اللَّهِ تعالى
{وَقُتّلُواْ} استُشهدوا في القتال وقرئ بالعكس لِما أن الواوَ
لا تستدعي الترتيبَ أو لأن المرادَ قتلُ بعضِهم وقتالُ آخَرين
إذ ليس المعنى على اتصاف كلِّ فردٍ من أفراد الموصولِ المذكورِ
بكل واحدٍ مما ذكر في حيز الصلة بل على اتصاف الكلِّ بالكل في
الجملة سواءً كان ذلك باتصاف كلِّ فردٍ من الموصول بواحدٍ من
الأوصافِ المذكورةِ أو بإثنين منها أو بأكثرَ إما بطريق
التوزيعِ أو بطريق حذفِ بعضِ الموصولاتِ من البين كما هو رأيُ
الكوفيِّينَ كيف لا ولو أُدير الحُكمُ على اتصاف كلِّ فردٍ
بالكل لكان قد أُضيع عملُ من اتصف بالبعض وقرئ وقتِّلوا
بالتشديد
{لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ
واللَّهِ لأكفِّرن والجملةُ القسميةُ خبرٌ للمبتدأ الذي هُوَ
الموصولُ وهذا تصريحٌ بوعد ما سأله الداعون بخصوصه بعد ما
وَعَد ذلك عموماً وقوله تعالى
{وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار}
إشارة إلى ما عبَّر عنه الداعون فيما قبلُ بقولهم وآتنا مَا
وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وتفسيرٌ له
{ثَوَاباً} مصدرٌ مؤكِّدٌ لما قبله فإن تكفيرَ السيئاتِ
وإدخالَ الجنَّةِ في معنى الإثابة وقوله تعالى
{مِنْ عِندِ الله} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ له مبينةٌ لشرفه أي
لأُثيبنَّهم إثابةً كائنةً أو تثويباً كائناً من عنده تعالى
بالغاً إلى المرتبة القاصية من الشرف وقوله تعالى
{والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب} اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما
قبله والاسمُ الجليلُ مبتدأٌ خبرُه عنده وحسنُ الثوابِ مرتفعٌ
بالظرف على الفاعليةِ لاعتمادِه على المبتدأ وهو مبتدأٌ ثانٍ
والظرفُ خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول والعنديةُ عبارةٌ
عن الاختصاص به تعالى مثلُ كونِه بقدرته تعالى وفضلِه بحيث لا
يقدِرُ عليه غيرُه بحال شيءٍ يكون بحضرة أحدٍ لا يدَ عليه
لغيره فالاختصاصُ مستفادٌ من التمثيل سواءٌ جُعل عنده خبراً
مقدماً لحسن الثوابِ أولا وفي تصدير الوعدِ الكريمِ بعدم
إضاعةِ العملِ ثم تعقيبه بمثل هذا الإحسانِ الذي لا يُقَادرُ
قدرُه من لُطف المسلكِ المنبئ عن عظم شأنِ المحسِنِ ما لا يخفى
(2/134)
196 - 197 198 آل عمران
(2/135)
لَا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
{لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين
كَفَرُواْ فِى البلاد} بيانٌ لقبح ما أوتي الكفرةُ من حظوظ
الدنيا وكشفٌ عن حقارة شأنِها وسوءِ مَغَبَّتِها إثرَ بيانِ
حُسنِ ما أوتيَ المؤمنون من الثواب والخطاب للنبي صلى الله
عليه وسلم على أن المرادَ تثبيتهُ على ما هو عليه كقوله تعالَى
{فَلاَ تُطِعِ المكذبين} أو على أنَّ المرادَ نهيُ المؤمنين
كما يُوجَّهُ الخطابُ إلى مَدارِهِ القومِ ورؤسائِهِم والمرادُ
أفناؤهم أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب من المؤمنين والنهيُ
للمخاطب وإنما جُعل للتقلب مبالغةً أي لا تنظُر إلى ما عليه
الكفرةُ من السعة ووفورِ الحظِّ ولا تغترَّ بظاهر ما ترى منهم
من التبسّط في المكاسب والمتاجرِ والمزارع روي أن بعضَ
المؤمنين كانوا يرَوْن المشركين في رخاء ولين عيشٍ فيقولون إن
أعداءَ اللَّهِ تعالى فيما نرى من الخير وقد هلَكْنا من الجوع
والجهد فنزلت وقرئ ولا غرنك بالنون الخفيفة
(2/135)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
{متاع قَلِيلٌ} خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي هو
متاعٌ قليلٌ لا قدرَ له في جنب ما ذُكر من ثواب اللَّهِ تعالى
قال عليه السلام ما الدنيا في الآخرة إلا مثلُ ما يجعل أحدُكم
أصبَعَه في اليمّ فلينظُر بم يرجِعُ فإذن لا يُجدي وجودُه
لواجديه ولا يضُرُّ فقدانُه لفاقديه
{ثُمَّ مَأْوَاهُمْ} أي مصيرُهم الذي يأوون إليه لا يبرَحونه
{جَهَنَّمُ} التي لا يوصف عذابُها وقوله تعالى
{وَبِئْسَ المهاد} ذمٌّ لها وإيذانٌ بأن مصيرَهم إليها مما
جنته أنفسُهم وكسبتْه أيديهم والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي بئس ما
مَهدوا لأنفسهم جهنَّمُ
(2/135)
لَكِنِ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
{لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جنات
تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا} بيانٌ لكمال
حسنِ حالِ المؤمنين غِبَّ بيانٍ وتكريرٌ له إثر قرير مع زيادة
خلودِهم في الجنَّاتِ ليتم بذلك سرورُهم ويزدادَ تبجُّحُهم
ويتكاملَ به سوءُ حالِ الكفرةِ وإيرادُ التقوى في حيز الصلةِ
للإشعار بكون الخصالِ المذكورةِ من باب التقوى والمرادُ به
الاتقاءُ من الشرك والمعاصي فالموصولُ مبتدأ والظرفُ خبرُه
وجناتٌ مرتفعٌ به على الفاعليةِ لاعتماده على المبتدإ أو
الظرفُ خبرٌ لجناتٌ والجملةُ خبرٌ للموصول وخالدين فِيهَا أي
في الجنات حالٌ مقدرةٌ من الضمير أو من جناتٌ لتخصّصها بالوصف
والعاملُ ما في الظرف من معنى الاستقرارِ
{نُزُلاٍ مّنْ عِندِ الله} وقرئ بسكون الزاي وهو ما يُعدّ
للنازلِ من طعام وشرابٍ وغيرِهما قال أبو الشعر الضبي ... وكنا
إذا الجبارُ بالجيش ضافنا ... جعلنا القَنا والمرهفاتِ له
نُزْلا ...
وانتصابُه عَلى الحاليةِ من جنات لتخصصها بالوصف والعامل فيه
ما في الظرف من معنى الاستقرارِ وقيل هو مصدرٌ مؤكدٌ كأنه قيل
رِزقاً أو عطاءً من عند الله
{وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ} مبتدأٌ وخبرٌ وقولُه تعالَى
{لّلابْرَارِ} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لخيرٌ أي ما عنده تعالى
من الأمور المذكورةِ الدائمةِ خيرٌ كائنٌ للأبرار أي مما يتقلب
فيه الفجارُ من المتاع القليلِ الزائلِ والتعبيرُ عنهم
بالأبرار للإشعار بأن الصفاتِ المعدودَة من أعمال البرِّ كما
أنها من قبيل التقوى والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها
(2/135)
199 - 200 آل عمران
(2/136)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا
يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ
لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ
الْحِسَابِ (199)
{وإن من أهل الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله}
جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لبيان أن أهلَ الكتابِ ليس كلُّهم كمن
حُكِيت هَناتُهم من نبذ الميثاقِ وتحريفِ الكتابِ وغير ذلك بل
منهم من له مناقبُ جليلةٌ قيل هم عبدُ اللَّهِ ابن سلامٍ
وأصحابُه وقيل هم أربعون من أهل نجرانَ واثنان وثلاثون من
الحبشةِ وثمانيةٌ من الروم كانوا نصارى فأسلموا وقيل المرادُ
به أصحْمةُ النجاشيُّ فإنه لما مات نعاه جبريلُ إلى النبي عليه
السلام فقال عليه السلام أخرُجوا فصلُّوا على أخٍ لكم ماتَ
بغير أرضكم فخرج إلى البقيع فنظر إلى أرض الحبشةِ فأبصر سريرَ
النجاشيِّ وصلى عليه واستغفر له فقال المنافقون انظُروا إلى
هذا يصلي على عِلْج نصراني لم يرَه قطُّ وليس على دينه فنزلت
وإنما دخلت لامُ الابتداءِ على اسم إنّ لفصل الظرفِ بينهما كما
في قوله تعالى وإن مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ
{وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ} من القرآن
{وما أنزل إليهم} من الكتابَين وتأخيرُ إيمانِهم بهما عن
إيمانهم بالقرآن في الذكر مع أن الأمرَ بالعكس في الوجود لما
أنه عيارٌ ومهيمِن عليهما فإن إيمانَهم بهما إنما يُعتبر
بتبعية إيمانِهم به إذ لا عبرةَ بأحكامهما المنسوخةِ وما لم
يُنسَخْ منها إنما يعتبر من حيث ثبوتُه بالقرآن ولتعلّق ما
بعده بهما والمرادُ بإيمانهم بهما إيمانُهم بهما من غير تحريفٍ
ولا كَتْمٍ كما هو دَيدَنُ المحرِّفين وأتباعِهم من العامة
{خاشعين للَّهِ} حالٌ من فاعل يؤمن والجمعُ باعتبار المعنى
{لا يشترون بآيات الله ثَمَناً قَلِيلاً} تصريحٌ بمخالفتهم
للمحرِّفين والجملةُ حالٌ كما قبله ونظمُها في سلك محاسِنهم
ليس من حيث عدمُ الاشتراءِ فقط بل لتضمُّن ذلك لإظهار ما في
الكتابَيْن من شواهد نبوته عليه السلام
{أولئك} إشارةٌ إليهم من حيث اتصافُهم بما عُدّ من صفاتهم
الحميدةِ وما فيه من معنى البُعد للدِلالة على علو رتبتِهم
وبُعد منزلتِهم في الشرف والفضيلةِ وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه
تعالى
{لَهُمْ} وقوله
{أَجْرَهُمْ} أي المختصُّ بهم الموعودُ لهم بقوله تعالَى
{أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} وقولهِ تعالى
{يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} مرتفعٌ بالظرف على
الفاعليةِ أو على الابتداء والظرفُ خبره والجلة خبره لأولئك
وقوله تعالى
{عِندَ رَبّهِمْ} نُصب على الحالية من أجرُهم والمرادُ به
التشريفُ كالصفة
{إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} لنفوذ علمِه بجميع الأشياءِ فهو
عالمٌ بما يستحقه كلُّ عاملٍ من الأجر منْ غيرِ حاجةٍ إلى تأمل
والمرادُ بيانُ سرعةِ وصولِ الأجر الموعودِ إليهم
(2/136)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} إثرَ ما
بيّن في تضاعيفِ السورةِ الكريمةِ فنونَ الحُكم والأحكامِ
خُتمت بما يوجب المحافظة عليها فقيل
{اصبروا} أي على مشاقِّ الطاعاتِ وغيرِ ذلك من المكاره
والشدائدِ
{وَصَابِرُواْ} أي غالبوا أعداءَ اللَّهِ تعالى بالصبر في
مواطن الحروبِ وأعدى عدوِّكم بالصبر على مخالفة الهوى وتخصيصُ
المصابرةِ بالأمر بعد الأمرِ بمطلق الصبرِ لكونها أشدَّ منه
وأشقَّ
{وَرَابِطُواْ} أي أقيموا في الثغور رابطين خيلَكم فيها
مترصِّدين للغزو مستعدّين له قال تعالى {وَمِن رّبَاطِ الخيل
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله}
(2/136)
{وعدوكم} وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم مَنْ رابط يوماً
وليلةً في سبيل اللَّهِ كان كعَدْل صيامِ شهرِ رمضانَ وقيامه
ولا يُفطِرُ ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة
{واتقوا الله} في مخالفة أمرِه على الإطلاق فيندرجُ فيه ما ذكر
في تضاعيفِ السورةِ الكريمةِ اندراجاً أولياً
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} كي تنتظِموا في زُمرة المفلحين
الفائزينَ بكلِّ مطلوبٍ الناجينَ من كل الكروب عنِ النبيِّ
صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ آلِ عِمرانَ أعطيَ
بكل آيةٍ منها أماناً على جسر جهنم وعنه صلى الله عليه وسلم من
قرأ السورةَ التي يُذكر فيها آلُ عمرانَ يوم الجمعة صلى عليه
وملائكتُه حتى تُحجَبَ الشَّمسُ والله أعلم |