تفسير أبي السعود إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

سورة النساء مدنية وهي مائة وست وسبعون آية
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}

(2/137)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)

{يا أَيُّهَا الناس} خطابٌ يعمُّ حكمُه جميعَ المكلفين عند النزولِ ومَنْ سينتظِمُ في سلكهم من الموجودين حينئذٍ والحادثين بعدَ ذلك إلى يوم القيامةِ عند انتظامِهم فيه لكنْ لا بطريق الحقيقةِ فإن خطابَ المشافهةِ لا يتناول القاصرين عن درجة التكليفِ إلا عند الحنابلةِ بل إما بطريق تغليبِ الفريقِ الأولِ على الأخيرين وإما بطريق تعميمِ حُكمِه لهما بدليل خارجيَ فإن الإجماعَ منعقدٌ على أن آخِرَ الأمةِ مكلفٌ بما كُلّف به أولها كما ينبئ عنه قولُه عليه السلام الحلالُ ما جرى على لساني إلى يوم القيامة والحرامُ ما جرى على لساني إلى يوم القيامة وقد فُصل في موضعه وأما الأممُ الدارجةُ قبل النزول فلاحظ لهم في الخطاب لاختصاص الأوامرِ والنواهي بمن يُتصوَّر منه الامتثالُ وأما اندراجُهم في خطاب ما عداهما مما له دخلٌ في تأكيد التكليفِ وتقويةِ الإيجابِ فستعرِفُ حالَه ولفظُ النَّاسِ ينتظمُ الذكورَ والإناثَ حقيقةً وأما صيغةُ جمعِ المذكرِ في قوله تعالى
{اتقوا رَبَّكُمُ} فواردةٌ على طريقة التغليب لعدم تناولِها حقيقةً للإناث عند غيرِ الحنابلة وأما إدخالهن في الأمر بالتقوى بما ذُكر من الدليل الخارجيِّ وإن كان فيه مراعاةُ جانبِ الصيغةِ لكنه يستدعي تخصيصَ لفظِ النَّاسِ ببعض أفرادِه والمأمورُ به إما مطلقُ التقوى التي هي التجنبُ عن كلِّ ما يُؤثِمَ من فعلٍ أو تركٍ وإما التقوى فيما يتعلق بحقوق أبناءِ الجنسِ أي اتقوه في مخالفة أوامره ونواهيه على الإطلاقِ أو في مخالفة تكاليفه الواردة ههنا وأيًّا ما كان فالتعرضُ لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكيةِ والتربيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطبينَ لتأييدِ الأمرِ وتأكيدِ إيجابِ الامتثالِ به على طريقة الترغيبِ

(2/137)


والترهيبِ وكذا وصفُ الربَّ بقولِه تعالَى
{الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} فإن خلْقَه تعالى إياهم على هذا النمطِ البديعِ لإنبائه عن قدرة شاملةٍ لجميع المقدُورات التي من جُملتها عقابُهم على معاصيهم وعن نعمة كاملة لا يقادر قدرها من أَقْوى الدَّواعي إلى الاتقاء من موجبات نقمتهِ وأتمِّ الزواجرِ عن كُفران نعمته وكذا جعلُه تعالى إياهم صنوانا مفرغة من أرومةٍ واحدة هي نفسُ آدمَ عليه السَّلامُ من موجبات الاحترازِ عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوةِ وتعميمُ الخطابِ في ربّكم وخلقَكم للأمم السالفة أيضاً مع اختصاصه فيما قبلُ بالمأمورين بناءً على أن تذكيرَ شمولِ ربوبيته تعالى وخلقِه للكل من مؤكِّدات الأمرِ بالتقوى وموجباتِ الامتثالِ به تفكيك للنظم الكريمِ مع الاستغناء عنه لأن خلقَه تعالى للمأمورين من نفسُ آدمَ عليه السَّلامُ حيث كان بواسطة ما بينهم وبينه عليه السلام من الآباء والأمهاتِ كان التعرّضُ لخلقهم متضمِّناً للتعرّض لخلق الوسايطِ جميعاً وكذا التعرضُ لربوبيته تعالى لأصولهم قاطبةً لا سيما وقد نطقَ بذلك قوله عز وجل
{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فإنه معَ ما عُطف عليه صريحٌ في ذلك وهو معطوفٌ إما على مقدر ينبئ عنه سَوقُ الكلامِ لأن تفريع الفروعِ من أصل واحد يستدعي إنشاءَ ذلك الأصلِ لا محالة كأنَّه قيل خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة خلقها أولاً وخلق منها زوجَها إلخ وهو استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير وَحدةِ المبدأ وبيانِ كيفيةِ خلْقِهم منه وتفصيلِ ما أُجمل أولاً أو صفةٌ لنفسٍ مفيدةٌ لذلك وإما على خلقَكم داخلٌ معه في حيزِ الصلةِ مقررٌ ومبينٌ لما ذكر وإعادةُ الفعلِ مع جواز عطفِ مفعوله على مفعول الفعلِ الأول كما في قوله تعالى {يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} الخ لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت فإن الأولَ بطريق التفريعِ من الأصل والثاني بطريق الإنشاءِ من المادة فإن تعالى خلقَ حواءَ من ضِلْعِ آدمَ عليه السلام روى أنه عز وجل لما خلقه عليه السلام وأسكنه الجنة ألقى عليه النومَ فبينما هو بين النائمِ واليقظانِ خَلَق حواءَ من ضِلْع من أضلاعه اليسرى فلما انتبه وجدها عنده وتأخيرُ ذكرِ خلقِها عن ذكر خلقِهم لما أن تذكيرَ خلقهم أدخلُ في تحقيق ما هو المقصودُ من حملهم على الامتثال بالأمر بالتقوى من تذكير خلقها وتقديمُ الجار والمجرور للاعتناء ببيان مبدئيتهِ عليه السلام لها مع ما فيه من التَّشويقِ إلى المؤخرِ كما مر مراراً وإيرادُها بعنوان الزوجيةِ تمهيدٌ لما بعده من التناسل
{وَبَثَّ مِنْهُمَا} أي نشرَ من تلك النفس وزوجها المخلوقةِ منها بطريقِ التوالدِ والتناسلِ
{رِجَالاً كَثِيراً} نعت لرجالا مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ من الكثرةِ والإفرادِ باعتبار معنى الجمع أو العددِ وقيلَ هو نعتٌ لمصدرٍ مؤكدٍ للفعل أي بثاً كثيراً
{وَنِسَاء} أي كثيرة وتركُ التصريحِ بها للاكتفاء بالوصف المذكورِ وإيثارُهما على ذكوراً وإناثاً لتأكيد الكثرةِ والمبالغةِ فيها بترشيح كلِّ فردٍ من الأفراد المبثوثةِ لمبدئية غيره وقرئ وخالقٌ وباثٌّ على حذف المبتدأ أي وهو خالقٌ وباث
{واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ} تكريرٌ للأمر وتذكير لبعض آخَرَ من موجبات الامتثالِ به فإن سؤالَ بعضِهم بعضاً بالله تعالى بأن يقولوا أسألُك بالله وأنشُدك اللَّهَ على سبيل الاستعطافِ يقتضي الاتقاءَ من مخالفة أوامرِه ونواهيه وتعليقُ الاتقاءِ بالاسمِ الجليلِ لمزيد التأكيدِ والمبالغةِ في الحمل على الامتثال بتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة لوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته وتساءلون أصلُه تتساءلون فطُرحت إحدى التاءين تخفيفيا وقرئ بإدغام تاءِ التفاعلِ في السين لتقاربهما في الهمس

(2/138)


2 - النساء وقرئ تَسْألون من الثلاثي أي تسألون به غيرَكم وقد فسِّر به القراءةُ الأولى والثانية وحملُ صيغةِ التفاعلِ على اعتبار الجمعِ كما في قولك رأيت الهلال وتراءيناه وبه فسر عم يتساءلون على وجه وقرئ تَسَلون بنقل حركةِ الهمزةِ إلى السين
{والارحام} بالنَّصبِ عطفاً عَلى محلِّ الجارِّ والمجرورِ كقولك مررتُ بزيد وعمراً وينصره قراءةُ تساءلون به وبالأرحام فإنهم كانوا يقرُنونها في السؤال والمناشدةِ بالله عز وجل ويقولون أسألك بالله وبالرَّحمِ أو عطفاً على الاسم الجليلِ أي اتقوا اللَّهَ والأرحام وصلوها ولاتقطعوها فإن قطيعتها مما يجب أن يُتقّى وهو قولُ مجاهدٍ وقتادة والسدي والضحاك والفراءِ والزجاج وقد جَوّز الواحديُ نصبَه على الإغراء أي والزَموا الأرحام وصلوها وقرئ بالجر عطفاً على الضمير المجرور بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ تقديره والأرحامُ كذلك أي مما يُتقى أو يتساءل به ولقد نبه سبحانه وتعالى حيث قرنها باسمه الجليلِ على أن صلتَها بمكان منه كما في قوله تعالى {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه وبالوالدين إحسانا} وعنه عليه السلام الرحِمُ معلقةٌ بالعرش تقول مَنْ وَصَلني وصله اللَّهُ ومَنْ قَطَعني قَطَعَهُ اللَّه
{إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} أي مراقباً وهي صيغة مبالغة من رقَب يرقُب رَقْباً إذا أحدّ النظرَ لأمر يريد تحقيقَه أي حافظاً مطلعاً على جميع ما يصدر عنكم من الأفعال والأقوالِ وعلى ما في ضمائركم من النيات مُريداً لمجازاتكم بذلك وهو تعليلٌ للأمر ووجوبِ الامتثالِ به وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتأكيده وتقديمُ الجارِّ والمجرور لرعاية الفواصل

(2/139)


وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)

{وآتوا اليتامى أموالهم} شروعٌ في تفصيل مواردِ الاتقاءِ ومظانّةِ بتكليف ما يقابلها أمراً ونهيا عقيب الأمر ينفسه مرة بعد أخرى وتقديمُ ما يتعلق باليتامى لإظهار كمالِ العنايةِ بأمرهم ولملابستهم بالأرحام إذ الخِطابُ للأولياء والأوصياءِ وقلما تُفوَّض الوصايةُ إلى الأجانب واليتيمُ من مات أبوه من اليُتم وهو الانفرادُ ومنه الدرةُ اليتيمةُ وجمعُه على يتامى إما لأنه لما جرى مجرى السماء جمع على يتأتم ثم قُلب فقيل يتامى أو لأنه لما كان من وادي الآفاتِ جُمع على يَتْمى ثم جُمع يَتمى على يتامى والاشتقاقُ يقتضي صحةَ إطلاقِه على الكبار أيضاً واختصاصُه بالصغار مبنيٌّ على العُرف وأما قوله عليه السلام لا يُتمَ بعد الحُلُم فتعليمٌ للشريعة لا تعيينٌ لمعنى اللفظِ أي لا يجري على اليتيم بعده حكمُ الأيتام والمرادُ بإيتاء أموالِهم قطعُ المخاطَبين أطماعَهم الفارغةَ عنها وكفُّ أكُفِهم الخاطفةِ عن اختزالها وتركُها على حالها غيرَ مُتعرَّضٍ لها بسوء حتى تأتيَهم وتصلَ إليهم سالمة كما ينبئ عنه ما بعده من النهي عن التبدّل والأكلِ لا الإعطاءِ بالفعل فإنه مشروطٌ بالبلوغ وإيناسِ الرُشدِ على ما ينطِق به قوله تعالى {حتى إِذَا بَلَغُواْ} الآية وإنما عبّر عما ذُكر بالإيتاء مجازاً للإيذان بأنه ينبغي أن يكون مرادهم بذلك إيصالها إليهم لا مجردَ تركِ التعرّضِ لها فالمرادُ بهم إما الصغارُ على ما هو المتبادرُ والأمرُ خاصٌّ بمن يتولى أمرَهم من الأولياء والأوصياءِ وشمولُ حكمِه لأولياء مَن كان بالغاً عند نزولِ الآيةِ بطريق الدِلالةِ دون العبارة وأما من جرى عليه اليتمُ في الجملة مجازاً أعمُّ من

(2/139)


أن يكون كذلك عند النزولِ أو بالغاً فالأمرُ شامل أولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من حفظ أموالِهم والتحفظِ عن إضاعتها مطلقاً وأما وجوبُ الدفعِ إلى الكبار فمستفادٌ مما سيأتي من الأمر به وقيل المرادُ بهم الصغارُ وبالإيتاء الإعطاءُ في الزمان المسقبل وقيل أُطلق اسمُهم على الكبار بطريق الاتساعِ لقرب عهدِهم باليتم حثاً للأولياء على المسارعة إلى دفع أموالِهم إليهم أولَ ما بلغوا قبل أن يزولَ عنهم اسمُهم المعهودُ فالإيتاءُ بمعنى الإعطاءِ بالفعل ويأباهما ما سيأتِي من قولِه تعالى {وابتلوا اليتامى} الخ فإنَّ ما فيهِ من الأمر بالدفع واردٌ على وجه التكليفِ الابتدائيِّ لا على وجه تعيينِ وقتِه أو بيانِ شرطِه فقط كما هو مقتضى القولين وأما تعميمُ الاسمِ للصغار والكبارِ مجازاً بطريق التغليبِ مع تعميم الإيتاءِ للإيتاء حالاً وللإيتاء مآلاً وتعميمِ الخطابِ لأولياء كِلا الفريقين على أن مَنْ بلغ منهم فوليُّه مأمورٌ بالدفع إليه بالفعل وأن من لم يبلُغْ بعدُ فوليُّه مأمورٌ بالدفع إليه عند بلوغه رشيدا فمع ما سبق تكلفٌ لا يخفى فالأنسبُ ما تقدم من حمل إيتاءِ أموالهم إليهم على مايؤدى إليه من ترك التعرضِ لها بسوءٍ كما يلوحُ به التَّعبيرُ عن الإعطاء بالفعل بالدفع سواءٌ أريد باليتامى الصغار أوما يعمُّ الصغارَ والكبارَ حسبما ذُكر آنفاً وأما ما روي من أن رجلاً من غطَفان كان معه مال كثيرٌ لابن أخٍ له فلما بلغ طلب منه مالَه فمنعه فنزلت فلما سمِعها قال أطعنا الله وأطعنا الرسولَ نعوذ بالله من الحُوب الكبير فغيرُ قادحٍ في ذلك لما أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السببِ
{وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} نهيٌ عن أخذ مالِ اليتيمِ على الوجه المخصوصِ بعد النهي الضِّمني عن أخذه على الإطلاق وتبدل الشئ بالشئ واستبدالُه به أخذُ الأول بدلَ الثاني بعد أن كان حاصلاً له أو في شرف الحصولِ يُستعملان أبداً بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالباء كما في قوله تعالى {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان} الخ وقوله تعالى أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ وأما التبديلُ فيستعمل تارة كذلك كما في قولِه تعالى وبدلناهم بجنتيهم جَنَّتَيْنِ الخ وأخرى بالعكس كما في قولك بدلتُ الحلقةَ بالخاتم إذا أذبتَها وجعلتَها خاتماً نص عليه الأزهري وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعوليه بنفسِه كما في قولِه تعالى يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات والمرادُ بالخبيث والطيبِ إن كان هو الحرامُ والحلالُ فالمنهيُّ عنه استبدالُ مالِ اليتيمِ بمال أنفسهم مطلقا كما قاله الفراءُ والزجاجُ وقيل معناه لا تذَروا أموالَكم الحلالَ وتأكُلوا الحرامَ من أموالهم فالمنهيُّ عنه أكلُ مالِه مكان ما لهم المحقّقِ أو المقدّرِ وقيل هو اختزال ما له مكان حفظِه وأياً ما كان فإنما عبّر عنهما بهما تنفيراً عما أخذوه وترغيباً فيما أُعْطوُه وتصويراً لمعاملتهم بصورة مالا يصدُر عن العاقل وإن كان هو الردئ والجيدُ فموردُ النهي ما كانوا عليه من أخذ الجيّدِ من مال اليتيمِ وإعطاء الردئ من مال أنفسِهم وبه قال سعيدُ بنُ المسيِّب والنخعيُّ والزُّهري والسدي وتخصيصُ هذه المعاملةِ بالنهي لخروجها مَخرجَ العادةِ لا لإباحة ما عداها وأما التعبيرُ عنها بتبدُّل الخبيثِ بالطيب مع أنها تبديلُه به أو تبدلُ الطيبِ بالخبيث فللإيذان بأن الأولياءَ حقُّهم أن يكونوا في المعاوضات عاملين لليتيم لا لأنفسهم مُراعين لجانبه قاصدين لجلب المجلوبِ إليه مشترىً كان أو ثمناً لا لسَلَب المسلوبِ عنه
{وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم} نهيٌ عن منكر آخر كانوا يتعاطَوْنه أي لا تأكلوها مضمومةً إلى أموالكم ولا تُسوّوا بينهما وهذا حلالٌ وذاك حرامٌ وقد خُصَّ من ذلك مقدارُ أجرِ المثل عند كون

(2/140)


3 - النساء الولي فقيراً
{إِنَّهُ} أي الأكلُ المفهومُ من النهي
{كَانَ حُوباً} أي ذنباً عظيما وقرئ بفتح الحاء وهو مصدرُ حاب حوبا وقرئ حاباً وهو أيضاً مصدرٌ كقال قولاً وقالا
{كَبِيراً} مبالغةٌ في بيان عِظَمِ ذنبِ الأكلِ المذكورِ كأنه قيل من كبار الذنوب العظيمة لا من أفنائها

(2/141)


وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)

{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى} الإقساطُ العدلُ وقرئ بفتح التاء فقيل هو مِنْ قَسَط أي جار ولا مزيدةٌ كما في قولِه تعالى لّئَلاَّ يَعْلَمَ وقيل هو بمعنى أقسطَ فإن الزجاجَ حَكى أن قسَط يُستعمل استعمالَ أقسطَ والمرادُ بالخوف العلمُ كما في قوله تعالى {فمن خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا} عبّر عنه بذلك إيذاناً بكون المعلومِ مَخوفاً محذوراً لا معناه الحقيقي لأن الذي عُلّق به الجوابُ هو العلمُ بوقوع الجَورِ المَخوفِ لا الخوفُ منه وإلا لم يكنِ الأمرُ شاملاً لمن يُصِرُّ على الجور ولا يخافه وهذا شروعٌ في النَّهي عنِ منكر آخَرَ كانوا يباشرونه متعلقٌ بأنفس اليتامى أصالةً وبأموالهم تبعاً عَقيبَ النهي عما يتعلق بأموالهم خاصةً وتأخيرُه عنه لقلة وقوعِ المنهيِّ عنه بالنسبة إلى الأول ونزولِه منه بمنزلة المركب من المفرد وذلك أنهم كانوا يتزوّجون من تحِلُّ لهم من اليتامى اللاتي يلُونهنّ لكن لا لرغبة فيهن بل في مالهن ويُسيئون في الصحبة والمعاشرةِ ويتربّصون بهن أن يمُتْنَ فيرِثوهن وهذا قولُ الحسنِ وقيل هي اليتيمةُ تكون في حِجْر وليِّها فيرغب في مالها وجمالِها ويريد أن ينكِحَها بأدنى من سُنة نسائِها فنُهوا أن ينكِحوهن إلا أن يُقسِطوا لهن في إكمال الصَّداقِ وأُمروا أن ينحكوا ما سواهن من النساء وهذا قولُ الزهري روايةً عن عروةَ عن عائشةَ رضيَ الله عنها وأما اعتبارُ اجتماعِ عددِ كثيرٍ منهن كما أطبق عليه أكثرُ أهلِ التفسيرِ حيث قالوا كان الرجلُ يجد اليتيمةَ لها مالٌ وجمالٌ ويكون وليَّها فيتزوجها ضَناً بها عن غيره فربما اجتمعت عنده عشرٌ منهن الخ فلا يساعده الأمرُ بنكاح غيرِهن فإن المحذورَ حينئذ يندفع بتقليل عددهن وان خفتم ألا تعدِلوا في حق اليتامى إذا تزوجتم بهن بإساءة العِشرةِ أو بنقصِ الصَّداق
{فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ} ما موصولةٌ أو موصوفة ما بعدها صلتُها أو صفتها أو أُوثِرَت على مَنْ ذهاباً إلى الوصف وإيذاناً بأنه المقصودُ بالذات والغالبُ في الاعتبار لا بناءً على أن الإناثَ من العقلاء يجرين مَجرى غيرِ العقلاءِ لإخلاله بمقام الترغيبِ فيهن وقرأ ابنُ أبي عَبْلةَ من طاب ومِنْ في قولِه تعالَى
{مّنَ النساء} بيانيةٌ وقيل تبيضية والمرادُ بهن غيرُ اليتامى بشهادة قرينةِ المقامِ أي فانكحوا من استطابتها نفوسُكم من الأجنبيات وفي إيثار الأمرِ بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى مع أنه المقصودُ بالذات مزيدُ لطفٍ في استنزالهم عن ذلك فإن النفسَ مجبولةٌ على الحِرص على ما مُنِعت منه كما أن وصفَ النساءِ بالطيب على الوجه الذي أشير إليه فيه مبالغةٌ في الاستمالة إليهن والترغيبِ فيهن وكلُّ ذلك للاعتناء بصَرْفهم عن نكاح اليتامى وهو السرُّ في توجيه النهي الضمنيِّ إلى النكاح المُتَرقَّبِ مع أن سببَ النزولِ هو النكاحُ المحققُ لما فيه من المسارعة إلى دفع الشرِّ قبل وقوعِه

(2/141)


فرب واقعٍ لا يُرفع والمبالغةِ في بيان حالِ النكاحِ المحققِ فإن محظوريةَ المترقَّبِ حيث كانت للجَور المترقَّبِ فيه فمحظوريةُ المحقِّقِ مع تحقق الجَوْر فيه أولى وقيل المرادُ بالطيب الحِلُّ أي ما حل لكم شرعاً لأن ما استطابوه شاملٌ للمحرمات ولا مخصصَ له بمن عداهن وفيه فِرارٌ من محذور من محذور ووقوعٍ فيما هو أفضع منه لأن ماحل لهم مُجملٌ وقد تقرر أن النصَّ إذا تردد بين الإجمالِ والتخصيصِ يُحمل على الثاني لأن العالم المخصوصَ حجةٌ في غير محلّ التخصيصِ والمُجملُ ليس بحجة قبل ورودِ البيانِ أصلاً ولئن جُعل قوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الخ دالاً على التفصيل بناءً على ادعاء تقدّمِه في التنزيل فلْيُجْعل دالاً على التخصيص
{مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} معدولةٌ عن أعداد مكررةٍ غيرُ منصرفةٍ لما فيها من العدْلين عدلِها عن صِيَغها وعدلِها عن تكرُّرِها وقيل للعدل والصفةِ فإنها بُنيت صفاتٍ وإن لم تكن أصولها كذلك وقرئ وثُلَثَ ورُبَعَ على القصر من ثلاثَ ورُباعَ ومحلُّهن النَّصبِ على أنَّها حالٌ من فاعل طاب مؤكدةٌ لما أفاده وصفُ الطيّبِ من الترغيب فيهن والاستمالةِ إليهن بتوسيع دائرةِ الإذْنِ أى فانحكوا الطيباتِ لكم معدوداتٍ هذا العددَ ثنتين ثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً حسبما تريدون على معنى أن لكل واحدٍ منهم أن يختار أيَّ عددٍ شاء من الأعداد المذكورة لا أن بعضَها لبعض منهم وبعضَها لبعض آخرَ كما في قولك اقتسِموا هذه البَدْرةَ درهمين درهمين وثلاثا ثلاثا وأربعةً أربعة ولو أُفردت لفُهم منه تجويزُ الجمعِ بين تلك الأعدادِ دون التوزيعِ ولو ذكرت بكلمة أو لفات تجويزُ الاختلافِ في العدد هذا وقد قيل في تفسير الآيةِ الكريمةِ لما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالِهم من الحُوب الكبيرِ أخذ الأولياءُ يتحرّجون من ولايتهم خوفاً من لحوق الجوب بترك الإقساطِ مع أنهم كانوا لايتحرجون من ترك العدلِ في حقوق النساءِ حيث كان تحت الرجلِ منهم عشرٌ منهن فقيل لهم إن خفتم تركَ العدلِ في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها فخافوا أيضاً تركَ العدلِ بين النساءِ فقلِّلوا عددَ المنكوحاتِ لأن من تحرّج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكبٌ مثلَه فهو غيرُ متحرِّجٍ ولا تائبٍ عنه وقيل كانوا لا يتحرجون من الزنى وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى فقيل إن خفتم الجَوْرَ في حق اليتامى فخافوا الزنى فانكِحوا ما حل لكم من النساء ولا تحرموا حولَ المحرَّماتِ ولا يخفى أنه لا يساعدهما جزالةُ النظم الكريم لابتنائهما على تقدّم نزولِ الآيةِ الأولى وشيوعِها بين الناسِ مع ظهور توقفِ حُكمِها على ما بعدها من قوله تعالى وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم إلى قوله تعالى وكفى بالله حَسِيباً
{فإن خفتم ألا تَعْدِلُواْ} أي فيما بينهن ولو في أقل الأعدادِ المذكورةِ كما خِفتُموه في حق اليتامى أو كما لو تعدِلوا في حقهن أو كما لم تعدِلوا فيما فوق هذه الأعدادِ
{فواحدة} أي فالزَموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجميع بالكلية وقرئ بالرفع أي فالمُقنِعُ واحدةٌ أو فحسبُكم واحدةٌ
{أَوْ ما ملكت أيمانكم} أيمن السراري بالغةً ما بلغت من مراتب العددِ وهو عطفٌ على واحدةً على أن اللزومَ والاختيارَ فيه بطريق التسرِّي لا بطريق النكاحِ كما فيما عُطف عليه لا ستلزمه ورودَ ملكِ النكاحِ على ملك اليمينِ بموجب اتحادِ المخاطَبين في الموضعين بخلاف ما سيأتِي من قولِه تعالى {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} فإن المأمورَ بالنكاح هناك غيرُ المخاطَبين بملك اليمين وإنما سُوِّي في السهولة واليُسرِ بين الحرةِ الواحدةِ وبين السراري من غير حصرٍ في عدد لقلة تبعتهن

(2/142)


4 - النساء وخِفةِ مؤنتِهن وعدمِ وجوبِ القسم فيهن وقرئ او من مَلَكَتْ أيمانكم وما في القراءة المشهورةِ للإيذان بقصور رتبتِهن عن رتبة العقلاءِ
{ذلك} إشارةٌ إلى اختيار الواحدة والتسرى
{أدنى ألا تَعُولُواْ} العَول الميلُ من قولهم عال الميزانُ عَوْلاً إذا مال وعال في الحكم أي جار والمرادُ هنا الميلُ المحظورُ المقابلُ للعدل أي ما ذُكر من اختيار الواحدةِ والتسرّي أقربُ بالنسبةِ إلى ما عداهما من أن لا تميلوا ميلاً محظوراً لانتفائه رأساً بانتفاء محلِّه في الأول وانتفاءِ خطرِه في الثاني بخلاف اختيارِ العددِ في المهائر فإن الميلَ المحظورَ متوقَّعٌ فيه لتحقق المحل والخطر ومن ههنا تبين أن مدارَ الأمرِ هو عدمُ العولِ لا تحققُ العدلِ كما قيل وقد فُسِّر بأن لا يكثُر عيالُكم على أنه من عال الرجلُ عيالَه يعولُهم أي مانَهم فعبر عن كثرة العيال بكثرة المؤنة على طريقة الكناية ويؤيده قراءة أن لاتعيلوا من أعال الرجلُ إذا كثُر عيالُه ووجهُ كونِ التسري مَظِنَّةَ قلةِ العِيالِ مع جواز الاستكثارِ من السراري أنه يجوز العزلُ عنهن بغير رضاهن ولا كذلك المهائرُ والجملةُ مستأنفةٌ جارية مما قبلها مجرى التعليل

(2/143)


وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)

{وآتوا النساء} أي اللاتي أُمر بنكاحهن
{صدقاتهن} جمعُ صَدُقة كسمرة وهي المهر وقرئ بسكون الدالِ على التخفيف وبضم الصادِ وسكونِ الدال جمع صدقة كغرفة وبضمها على التوحيد وهو تثقيلُ صُدْقة كظُلُمة في ظُلْمة
{نِحْلَةً} قال ابنُ عبَّاسٍ وقتادةُ وابن جريج وابن زيد فريضةً من الله لأنها مما فرضه الله في النِحْلة أي المِلةِ والشِرْعة والديانةِ فانتصابُها على الحالية من الصَّدُقات أي أعطوهن مهورَهن حالَ كونِها فريضةً منه تعالى وقال الزجاجُ تديُّناً فانتصابُها على أنها مفعولٌ له أي أعطوهن ديانة وشرعة وقال الكلبي نحلةً أي هِبةً وعطيةً من الله تعالى وتفضّلاً منه عليهن فانتصابُه على الحالية منها أيضاً وقيل عطيةً من جهة الأزواجِ من نَحَله كذا إذا أعطاه إياه ووهبَه له عن طِيبةٍ من نفسه نِحْلةً ونُحْلاً والتعبير عن إيتاء المهورِ بالنِّحلة مع كونها واجبةً على الأزواج لإفادة معنى الإيتاءِ عن كمال الرضا وطيبِ الخاطرِ وانتصابُها على المصدرية لأن الإيتاءَ والنحلةَ بمعنى الإعطاءِ كأنه قيل وانحَلوا النساءَ صَدُقاتِهن نِحْلةً أي أعطوهن مهورَهن عن طيبةِ أنفسِكم أو على الحالية من ضمير أَتَوْا أي آتوهن صَدُقاتِهن ناحلين طيِّبي النفوسِ بالإعطاء أو من الصَّدُقات أي منحولةً مُعطاةً عن طيبة الأنفسِ فالخطابُ للأزواج وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخُذون مهورَ بناتِهم وكانوا يقولون هنيئاً لك النافجةُ لِمَن يولدُ له بنتٌ يعنون تأخُذ مَهرَها فتنفج به مالَك أي تعظّمه
{فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ} الضميرُ للصدُقات وتذكيرُه لإجرائه مُجرى ذلك فإنه قد يشار به إلى المتعدد كما في قوله عز وجل قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم بعد ذكر الشهواتِ المعدودةِ وقد رُوي عن رؤية أنه حين قيل له في قوله ... فيها خطواط من سوادٍ وبَلَق ... كأَنَّهُ فِي الجلدِ تَوْليعُ البهق ...
إن أردت الخطوطَ ينبغي أن تقول كأنها وإن أردت السوادَ والبلَقَ ينبغي أن تقول كأنهما قال لكني أردتُ كأن ذلك أو للصَّداق الواقعِ موقعَه صدُقاتِهن كأنه قيل وآتوا النساءَ صَداقَهن كما في قوله تعالى {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} حيث عَطفَ أكنْ على ما دلَّ عليه المذكورُ ووقع موقعَه كأنه قيلَ إنْ أخرتنِي أصَّدقْ وأكنْ واللامُ متعلقةٌ بالفعل وكذا عن لكن

(2/143)


50 - النساء بتضمينه معنى التجافي والتجاوزِ ومن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لشئ أي كائنٍ من الصَّداق وفيه بعثٌ لهن على تقليل الموهوبِ
{نَفْساً} تمييزٌ والتوحيدُ لما أنَّ المقصودَ بيانُ الجنس أي وإن وهَبْن لكم شيئاً من الصَّداق متجافياً عنه نفوسُهن طيباتٍ غيرَ مُخْبثاتٍ بما يَضطرُّهن إلى البذل من شكاسة أخلاقِكم وسوءِ معاشرتِكم لكن عَدَل عن لفظ الهبةِ والسماحةِ إلى مَا عليهِ النظمُ الكريمُ إيذاناً بأن العُمدة في الأمر إنما هو طيبُ النفسِ وتجافيها عن الموهوب بالمرة
{فَكُلُوهُ} أي فخذوا ذلك الشئ الذي طابت به نفوسُهن وتصرفوا فيه تملُّكاً وتخصيصُ الأكلِ بالذكر لأنه معظمُ وجوهِ التصرفاتِ المالية
{هَنِيئاً مَّرِيئاً} صفتان من هنُؤَ الطعامُ ومرُؤَ إذا كان سائغاً لا تنغيصَ فيه وقيل الهنئ الذي يلذه الأكل والمرئ ما يحمده عاقبتُه وقيل ما ينساغ في مجراه الذي هو المرء وهو ما بين الحُلْقوم إلى فم المعِدةِ سُمِّي بذلك لمروءِ الطعامِ فيه أي انسياغِه ونصبُهما على أنهما صفتانِ للمصدر أي أكلاً هنيئاً مريئاً أو على أنهما حالانِ من الضمير المنصوب أي كلوة وهو هنئ مرئ وقد يوقف على كلوه ويبتدأ هنيئاً مريئاً على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مُقامَ المصدرين كأنه قيل هنْأً ومَرْأً وهذه عبارةٌ عن التحليل والمبالغةِ في الإباحة وإزالة التبعية وروى أن ناساً كانوا يتأثمون أن يَقْبل أحدُهم من زوجته شيئاً مما ساقه إليها فنزلت

(2/144)


وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)

{وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم} رجوعٌ إلى بيان بقيةِ الأحكامِ المتعلقةِ بأموال اليتامى وتفصيلُ ما أُجمل فيما سبقَ من شرط إيتائِها ووقتِه وكيفيتِه إثرَ بيانِ بعضِ الأحكامِ المتعلقةِ بأنفسهن أعني نكاحَهن وبيانِ بعضِ الحقوقِ المتعلقةِ بغيرهن من الأجنبيات من حيث النفسُ ومن حيث المالُ استطراداً والخطابُ للأولياء نُهوا أن يؤتوا المبذرين من اليتامى أموالَهم مخافةَ أن يضيِّعوها وإنما أضيفت إليهم وهي لليتامى لا نظراً إلى كونها تحتَ ولايتِهم كما قيل فإنه غيرُ مصحِّحٍ لاتصافها بالوصف الآتي بل تنزيلاً لاختصاصها بأصحابها منزلةَ اختصاصِها بالأولياء فكأن أموالَهم عينُ أموالِهم لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسيِّ والنَّسَبي مبالغةً في حملهم على المحافظة عليها كما في قولِه تعالى {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} أي لا يقتُلْ بعضُكم بعضاً حيث عبّر عن بني نوعِهم بأنفسهم مبالغةً في زجرهم عن قتلهم فكأن قتلَهم قتلُ أنفسِهم وقد أيد ذلك حيث عبر عن جعلها مناطا لمعاش أصحابها بجعلها مناطاً لمعاشِ الأولياء فقيل
{التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} أي جعلها الله شيئاً تقومون به وتنتعشون على حذف المفعول الأول فلو ضيَّعتُموه لضِعْتم ثم زيد في المبالغة حتى جُعل ما به القيامُ قياماً فكأنها في أنفسها قيامُكم وانتعاشُكم وقيل إنما أضيفت إلى الأولياء لأنها من جنس ما يقيم به الناسُ معايشَهم حيث لم يُقصَدْ بها الخصوصيةُ الشخصيةُ بل الجنسيةُ التي هي معنى ما يقام به المعاشُ وتميل إليه القلوبُ ويُدّخر لأوقات الاحتياج وهي بهذا الاعتبارِ لا تختص باليتامى وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ بمعزل من حمل الأولياءِ على المحافظة المذكورةِ كيف لا والوحدةُ الجنسيةُ الماليةُ ليست مختصّةً بما بين أموال اليتامى وأموال

(2/144)


6 - النساء الأولياءِ بل هي متحققةٌ بين أموالِهم وأموالِ الأجانبِ فإذن لا وجهَ لاعتبارها أصلا وقرئ اللاتي واللواتي وقرئ قَيْماً بمعنى قياماً كما جاء عَوْذاً بمعنى عِياذاً وقرئ قِواماً بكسر القاف وهو ما يُقام به الشيءُ أو مصدر قاوم وقرئ بفتحها
{وارزقوهم فِيهَا واكسوهم} أي واجعلوها مكاناً لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا وتتربحوا حتى تكون نفقاتُهم من الأرباح لا من صُلْب المالِ وقيلَ الخطابُ لكلِّ أحدٍ كائناً مَنْ كان والمرادُ نهيُه عن أن يفوِّض أمرَ مالِه إلى من لا رُشدَ له من نسائه وأولادِه ووكلائِه وغير ذلك ولا يخفى أن ذلكَ مُخِلٌّ بجزالةِ النظمِ الكريم
{وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} أي كلاماً ليناً تطيب به نفوسُهم وعن سعيد بن جبير ومجاهد وابن جريج عِدوْهم عِدةً جميلةً بأن تقولوا إذا صلحتم ورسدتم سلَّمْنا إليكم أموالَكم وكلُّ ما سكَنت إليه النفسُ لحسنه شرعاً أو عقلاً من قول أو عمل فهو معروفٌ وما أنكَرَتْه لقُبحه شرعاً أو عقلاً فهو منكر

(2/145)


وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)

{وابتلوا اليتامى} شروعٌ في تعيين وقتِ تسليمِ أموالِ اليتامى إليهم وبيانِ شرطِه بعد الأمرِ بإيتائها على الإطلاق والنهيِ عنه عند كونِ أصحابِها سفهاءَ أي واختبروا من ليس منهم بيِّن السَّفَهِ قبل البلوغِ بتتبُّع أحوالِهم في صلاح الدينِ والاهتداءِ إلى ضبط المالِ وحسنِ التصرفِ فيه وجرِّبوهم بما يليق بحالهم فإن كانوا من أهل التجارةِ فبأن تعطوهم من المال ما يتصرفون فيه بيعا وابتياعا وإن كانوا ممن له ضِياعٌ وأهلٌ وخدَمٌ فبأن تعطوهم منه ما يصرفونه إلى نفقة عبيدِهم وخدمِهم وأُجَرائِهم وسائرِ مصارفِهم حتى تتبين لكم كيفيةُ أحوالِهم
{حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ} بأن يحتلموا لأنهم يصلُحون عنده للنكاح
{فإن آنستم} أي شاهدتم وتبينتم وقرئ أحَسْتم بمعنى أحسستم كما في قول من قال ... خلا أن العتاقَ من المطايا ... أحَسْنَ به وهنّ إليه شوُسُ ...
{مّنْهُمْ رُشْداً} أي اهتداءً إلى وجوه التصرفاتِ من غير عجز وتبذيرٍ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعول للاهتمام بالمقدَّمِ والتَّشويقِ إلى المؤخر أو للاعتداد بمبدئيته له والتنوينُ للدِلالة على كفاية رُشدٍ في الجملة وقرئ بفتح الراء والشين وبضمها
{فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم} من غير تأخيرٍ عن حد البلوغِ وفي إيثار الدفعِ على الإيتاء الواردِ في أول الأمرِ إيذانٌ بتفاوتهما بحسسب المعنى كما أُشيرَ إليهِ فيما سلف ونظم الآية الكريمة أن حتى هي التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله ... فما زالت القتلى تمُجُّ دماءَها ... بدِجلةَ حتى ماءُ دِجلةَ أشكلُ ... وما بعدها جملةٌ شرطيةٌ جُعلت غايةً للابتلاء وفعلُ الشرطِ بَلَغُواْ وجوابُه الشرطيةُ الثانيةُ كأنه قيل وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغِهم واستحقاقِهم دفعَ أموالِهم إليهم بشرط إيناسِ الرُشدِ وظاهرُ الآيةِ الكريمةِ أن من بلغ غيرَ رشيدٍ إما بالتبذير أو بالعجز لا يدفع إليه مالُه أبداً وبه أخذ أبو يوسفَ ومحمدٌ وقال أبو حنيفة ينتظر إلى خمس وعشرين سنةً لأن البلوغ بالسن ثماني عشرة سنةً فإذا زادت عليها سبعُ سنين وهي مدةٌ معتبرةٌ في أحوالِ الإنسانِ لما قالَه عليه الصَّلاةُ

(2/145)


7 - النساء والسلام مروهم بالصلاة لسبع دفع إليه مالَه أُونِسَ منه رشد أو لم يُؤْنَس
{وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} أي مسرفين ومبادرين كِبرَهم إو لإسرافكم ومبادرتِكم كِبرَهم تفرِّطون في إنفاقها وتقولون نُنفق كما نشتهي قبل أن يكبَرَ اليتامى فينتزعوها من أيدينا والجملة تأكيدٌ للأمر بالدفع وتقريرٌ لها وتمهيدٌ لما بعدَها من قوله تعالى
{وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} الخ أي من كان من الأولياء والأوصياءِ غنياً فليتنزَّهْ عن أكلها وليقنَعْ بما آتاه الله تعالى من الغنى والرزقِ إشفاقاً على اليتيم وإبقاءً على ماله
{وَمَن كَانَ} من الأولياء والأوصياءِ
{فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} بقدْر حاجتِه الضروريةِ وأُجرةِ سعيِه وخِدمتِه وفي لفظ الاستعفافِ والأكلِ بالمعروف ما يدل على أن للوصيّ حقاً لقيامه عليها عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له إن في حِجري يتيماً أفآكلُ من ماله قال بالمعروف غيرَ متأثِّلٍ مالاً ولا واقٍ مالَك بماله وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن وليَّ يتيمٍ قال له أفأشرب من لبن إبلِه قال إن كنت تبغي ضالّتَها وتلوطُ حوضَها وتهنأ جر باها وتسقيها يوم ورودِها فاشرَبْ غير مضل بنسل ولا ناهكٍ في الحلب وعن محمد بن كعب يتقرَّمُ كما تتقرّم البهيمة ويُنزِل نفسَه منزلةَ ألأجير فيما لابد منه وعن الشعبي يأكلُ من ماله بقدر ما يُعين فيه وعنه كالميتة يتناول عند الضرورة ويقضي وعن مجاهد يستسلف فإذا أيسرَ أدى وعن سعيد بن جبير أن شاء شرِب فضلَ اللبن وركِبَ الظهرَ ولبس ما يستُره من الثياب وأخَذَ القوتَ ولا يجاوزُه فإن أيسر قضاه وإن أعسر فهو في حل وعن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى منزلةَ وليَّ اليتيمِ إن استغنيتُ استعففتُ وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروف وإذا أيسرتُ قضيت واستعفَّ أبلغُ من عفّ كأنه يطلب زيادةَ العفة
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم} بعد ما راعيتم الشرائطَ المذكورةَ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عن المفعول الصريحِ للاهتمام به
{فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} بأنهم تَسَلَّموها وقبضوها وبرِئَتْ عنها ذممُكم لما أن ذلك أبعدُ من التهمة وأنفى للخصومة وأدخَلُ في الأمانة وبراءةِ الساحةِ وإن لم يكن ذلك واجباً عند أصحابنا فإن الوصيَّ مُصدِّقٌ في الدفع مع اليمين خلافاً لمالكٍ والشافعيِّ رحمهما الله
{وكفى بالله حَسِيباً} أي محاسباً فلا تُخالفوا ما أمركم به ولا تجاوزا ما حَدَّ لكم

(2/146)


لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)

{لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون} شروعٌ في بيان أحكامِ المواريثِ بعد بيانِ أحكامِ أموالِ اليتامى المنتقلةِ إليهم بالإرث والمرادُ بالأقربين المتوارثون منهم ومِنْ في مما متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لنصيبٌ أي لهم نصيبٌ كائنٌ مما ترَك وقد جُوِّز تعلُّقها بنصيب
{وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون} إيرادُ حكمِهن على الاستقلال دون الدرْجِ في تضاعيف أحكامِهم بأن يقالَ للرجال والنساءِ الخ للاعتناء بأمرهن والإيذانِ بأصالتهن في استحقاق الإرثِ والإشارةِ من أول الأمرِ إلى تفاوت ما بين نصيبَي الفريقين والمبالغةِ في إبطال حكمِ الجاهليةِ فإنهم ما كانوا يُورِّثون النساءَ والأطفالَ ويقولون إنما يرث مَنْ يحارِبُ ويذُبُّ عن الحَوْزة روي أن أوسَ بنَ ثابت الأنصاري

(2/146)


8 - 9 النساء خلف زوجته أم كحة وثلاث بنات فزوى ابنا عمِّه سويدٌ وعرفطةُ أو قتادةُ وعَرْفجةُ ميراثَه عنهن على سنة الجاهلية فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه فقال ارجِعي حتى أنظُر ما يُحدِثه الله تعالى فنزلت فأرسل إليهما إن الله قد جعل لهن نصيباً ولم يبيِّنْ فلا تُفرِّقا من مال أوسٍ شيئاً حتى يبين فنزل يوصيكم الله الخ فأعطى أم كحة الثمنَ والبناتِ الثلثين والباقي لا بنى العمِّ وهو دليلٌ على جواز تأخيرِ البيانِ عن الخطاب وقولُه تعالى
{مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} بدلٌ من مَا الأخيرةِ بإعادة الجارِّ وإليها يعود الضميرُ المجرورُ وهذا البدلُ مرادٌ في الجملة الأولى أيضاً محذوفٌ للتعويل على المذكور وفائدتُه دفعُ توهُّمِ اختصاص بعضِ الأموالِ ببعض الورثةِ كالخيل وآلاتِ الحربِ للرجال وتحقيقُ أن لكلَ من الفريقين حقاً من كلِّ ما جلَّ ودقَّ
{نَصِيباً مَّفْرُوضاً} نُصب على أنَّه مصدرٌ مؤكّدٌ كقوله تعالى {فَرِيضَةً مّنَ الله} كأنه قيل قسمةً مفروضةً أو على الحالية إذ المعنى ثبَت لهم نصيبٌ كائنٌ مما ترك الوالدان والاقربون حالَ كونِه مفروضاً أو على الاختصاصِ أيْ أعنِي نصيباً مقطوعاً مفروضاً واجباً لهم وفيه دليلٌ على أنَّ الوارثَ لو أعرض عن نصيبه لم يسقُطْ حقُّه

(2/147)


وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)

{وَإِذَا حَضَرَ القسمة} أي قسمةَ التركةِ وإنما قُدّمت مع كونها مفعولاً لأنها المبحوثُ عنها ولأن في الفاعل تعدداً فلو رُوعي الترتيب يفوت أطرافِ الكلام
{أُوْلُواْ القربى} ممن لا يرث
{واليتامى والمساكين} من الأجانب
{فارزقوهم مّنْهُ} أي أعطوهم شيئاً من المال المقسومِ المدلولِ عليه بالقسمة وقيل الضميرُ لما وهو أمرُ ندبٍ كُلف به البالغون من الورثة تطييبا لقوب الطوائفِ المذكورةِ وتصدقاً عليهم وقيل أمرُ وجوبٍ ثم اختلف في نَسْخه
{وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} وهو أن يدعوا لهم ويستقِلّوا ما أعطَوْهم ويعتذروا من ذلك ولا يُمنّوا عليهم

(2/147)


وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)

{وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا خَافُواْ عَلَيْهِمْ} أمرٌ للأوصياء بأن يخشَوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يُحبون أن يُفعلَ بذراريهم الضعافِ بعد وفاتِهم أو لمن حضر المريضَ من العُواد عند الإيصاء بأن يخشَوا ربَّهم أو يخشوا أولادَ المريضِ ويُشفقوا عليهم شفقتَهم على أولادهم فلا يتركوه أن يُضِرَّ بهم بصرف المالِ عنهم أو للورثة بالشفقة على من حضَر القسمةَ من ضعفاء الأقاربِ واليتامى والمساكينِ متصوّرين أنهم لو كانوا أولادَهم بقُوا خلفهم ضِعافاً مثلَهم هل يجوّزون حِرمانَهم أو للموصين بأن ينظُروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية ولو بما في حيزها صلةٌ للذين على معنى وليخشَ الذين حالُهم وصفتُهم أنهم لو شارفوا أن يخلّفوا ورثةً ضِعافاً خافوا عليهم الضياعَ وفي ترتيب الأمرِ عليه إشارةٌ إلى المقصود إلى المقصود منه والعلةِ فيه وبعث على

(2/147)


10 - 11 النساء الترحم وأن يُحب لأولاد غيرِه ما يحب لأولاد نفسِه وتهديدٌ للمخالف بحال أولادِه وقرئ ضعفاءَ وضعافي وضعافى
{فَلْيَتَّقُواّ الله} في ذلك والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلَها
{وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} أمرهم بالتقوى التي هي غايةُ الخشيةِ بعد ما أمرهم بها مراعاةً للمبدأ والمنتهى إذ لانفع للأول بدون الثاني ثم أمرهم بان بقولوا لليتامى مثلَ ما يقولون لأولاودهم بالشفقة وحُسنِ الأدبِ أو للمريض ما يصُده عن الإسراف في الوصية وتضييعِ الورثة ويذكره التوبةَ وكلمةَ الشهادةِ أو لحاضري القسمةِ عذراً ووعداً حسناً أو يقولوا في الوصية مالا يؤدّي إلى تجاوز الثلث وقوله تعالى

(2/148)


إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)

{إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} أي على وجه الظلمِ أو ظالمين استئناف جئ به لتقرير مضمونِ ما فُصِّل من الأوامر والنواهي
{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ} أي ملءَ بطونِهم
{نَارًا} أي ما يُجرُّ إلى النار ويؤدِّي إليها وعن أبي بردة أنه صلى الله عليه وسلم قال يبعث الله تعالى قوماً من قبورهم تتأجّج أفواهُهم ناراً فقيل من هم فقال عليه السلام ألم ترأن الله يقول إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً
{وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} أي سيدخُلون ناراً هائلةً مبْهمةَ الوصف وقرئ بضم الياء مخففاً ومشدداً من الإصلاء والتصلية يقال صِليَ النار قاسي حرَّها وصليته شويته وأصليته ألقيته فيها والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعَرتُ النارَ إذا ألهبتُها روي ان آكل مال اليتم يبعث يوم القيامةِ والدخانُ يخرج من قبره ومِنْ فيه وأنفِه وأُذنيه وعينيه فيعرف الناسُ أنه كان يأكلُ مالَ اليتيمِ في الدنيا وروي أنه لمَّا نزلتْ هذهِ الآيةُ ثقُل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمرُ على اليتامى فنزلَ قولُه تعالى وَإِن تُخَالِطُوهُمْ الأية

(2/148)


يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)

{يُوصِيكُمُ الله} شروعٌ في تفصيل أحكامِ المواريث المجلمة في قوله تعالى {لّلرّجَالِ نَصِيبٌ} الخ وأقسامُ الورثةِ ثلاثةٌ قسمٌ لا يسقُط بحال وهم الآباءُ والأولادُ والأزواج فهؤلاء قسمانِ والثالثُ الكلالة أي يأمركم ويعهَدُ إليكم
{فِى أولادكم} أولاد كلِّ واحدٍ منكم أي في شأن ميراثهم بدئ بهم لأنهم أقربُ الورثةِ إلى الميتِ وأكثرُهم بقاءً بعد المورِّث
{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} جملةٌ مستأنفةٌ جئ بها لتبيين الوصيةِ وتفسيرِها وقيل محلُّها النصبُ بيوصيكم على أن المعنى يفرِض عليكم ويشرَع لكم هذا الحُكمَ وهذا قريبٌ مما رآه الفراءُ فإنه يجري ما كان بمعنى القولِ من الأفعال مَجراه في حكاية الجملةِ بعدَه ونظيرُه

(2/148)


قولِه تعالى {وَعَدَ الله الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ} الآية وقولُه تعالى لِلذّكْرِ لا بد له من ضمير عائدٍ إلى الأولاد محذوفٍ ثقةً بظهوره كَما في قولِهم السمنُ مَنَوانِ بدرهم أي للذكر منهم وقيل الألفُ واللامُ قائمٌ مقامى والأصلُ لذكرهم ومِثلُ صفةٌ لموصوف محذوفٍ أي للذكر منهم حظ مثل حظُّ الأنثيين والبَداءةُ ببيان حكمِ الذكرِ لإظهار مَزيّتِه على الأنثى كما أنها المناطُ في تضعيف حظِّه وإيثارُ اسمَي الذكرِ والأنثى على ما ذُكر أولاً من الرجال والنساءِ للتنصيص على استواء الكبارِ والصغارِ من الفريقين في الاستحقاق من غير دخلٍ للبلوغ والكِبَرِ في ذلك أصلاً كما هو زعمُ أهلِ الجاهليةِ حيث كانوا لا يورِّثون الأطفالَ كالنساء
{فَإِن كُنَّ} أي الأولادُ والتأنيثُ باعتبار الخبرِ وهو قوله تعالى
{نِسَاء} أي خُلَّصاً ليس معهن ذكرٌ
{فَوْقَ اثنتين} خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ لنساءً أي نساءً زائداتٍ على اثنتين
{فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} أي المتوفى المدلولُ عليه بقرينة المقامِ
{وَإِن كَانَتْ} أي المولودةُ
{واحدة} أي امرأةً واحدةً ليس معها أخٌ ولا أختٌ وعدمُ التعرّضِ للموصوف لظهوره مما سبق
{فَلَهَا النصف} مما ترك وقرئ واحدةٌ على كان التامة واختلف في الثنتين فقال ابنُ عباس حكمُهما حكمُ الواحدةِ لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما وقال الجمهورُ حكمُهما حكمُ ما فوقهما لأنه تعالى لما بين حظَّ الذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان اقتضى ذلك أن فرضَهما الثلثان ثم لما أوهم ذلك أن يُزاد النصيبُ بزيادة العددِ رُدَّ ذلك بقوله تعالى {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين} ويؤيد ذلك أن البنتَ الواحدةَ لما استحقَّت الثُلُثَ مع أخيها الأقوى منها في الاستحقاق فلأَنْ تستحِقَّه مع مثلها أولى وأحرى وأن البنتين أمسُّ رَحِماً من الأختين وقد فرض الله لهما الثلثين حيث قال تعالى {فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ}
{وَلأَبَوَيْهِ} أي لأبوي الميت غُيِّر النظمُ الكريمُ لعدم اختصاصِ حُكمِه بما قبله من الصور
{لِكُلّ واحد مّنْهُمَا} بدلٌ منه بتكرير العاملِ وُسِّط بين المبتدإِ الذي هو قوله تعالى
{السدس} وبين خبرِه الذي هو لأبويه ونُقل الخبريةُ إليه تنصيصاً على استحقاق كلَ منهما السدسَ وتأكيداً له بالتفصيل بعد الإجمالِ وقرئ السدْسُ بسكون الدال تخفيفاً وكذلك الثلْثُ والربْعُ والثمْنُ
{مّمَّا تَرَكَ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من السدس والعاملُ الاستقرارُ المعتبرُ في الخبر أي كائناً مما ترك المتوفى
{إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} أو ولدُ ابن ذكرا كان أوانثى واحداً أو متعدداً غير أن الأبَ في صورة الأنوثةِ بعد ما أخذ فرضَه المذكورَ يأخذ ما بقيَ من ذوي الفروضِ بالعصوبة
{فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ} ولا ولدُ ابنٍ
{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} فحسْبُ
{فَلاِمّهِ الثلث} مما ترك والباقي للأب وإنما لم يُذكَرْ لعدم الحاجةِ إليه لأنه لما فُرض انحصارُ الوارثِ في أبويه وعُيِّن نصيبُ الأم عُلمَ أن الباقيَ للأب وتخصيصُ جانبِ الأمِّ بالذِكر وإحالةُ جانبِ الأبِ على دَلالة الحالِ مع حصولِ البيانِ بالعكس أيضاً لما أنَّ حظَّها أخصَرُ واستحقاقَه أتمُّ وأوفرُ أو لأن استحقاقَه بطريق العصوبةِ دون الفرضِ هذا إذا لم يكن معهما أحدُ الزوجين أما إذا كان معهما ذلك فللأم ثلثُ ما بقيَ بعد فرضِ أحدِهما لا ثلثُ الكلِّ كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما فإنه يُفضي إلى تفضيل الأمِّ على الأب مع كونه أقوى منها في الإرث بدليل إضعافِه عليها عند انفرادِهما عن أحد الزوجين وكونِه صاحبَ فرضٍ وعصبةٍ وذلك خلافُ وضعِ الشرع
{فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} أي عددٌ ممن له أخوةٌ من غير اعتبارِ التثليثِ سواءٌ كانت من جهة الأبوين أو من جهة أحدِهما وسواءٌ كانوا ذكوراً أو إناثاً

(2/149)


مختلطين وساء كان لهم ميراثٌ أو كانوا محجوبين بالأب
{فَلاِمِهِ السدس} وأما السدسُ الذي حجبوها عنه فهو للأب عند وجودِه ولهم عند عدمِه وعليه الجمهورُ وعند ابنِ عباس رضي الله عنهما أنه لهم على كلِّ حالٍ خلا أن هذا الحجبَ عنده لا يتحقق بما دون الثلاثِ وبالأخوات الخلص وقرئ فلإِمِّه بكسر الهمزةِ إتْباعاً لما قبلها
{مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ} خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ والجملةُ متعلقةٌ بما تقدم جميعاً لا بما يليها وحدَه أي هذه الأنصباءُ للورثة من بعد إخراجِ وصيةٍ
{يُوصِى بِهَا} أي الميت وقرئ مبنياً للمفعول مخففاً ومبنياً للفاعل مشددا وفائدةُ الوصفِ الترغيبُ في الوصية والندب إليها أودين عطفٌ على وصيةٍ إلا أنه غيرُ مقيدٍ بما قُيدتْ به من الوصف بل هو مُطلقٌ يتناول ما ثبت بالبينة أو الإقرارِ في الصحةِ وإيثارُ أَوْ المفيدةِ للإباحة على الواو للدِلالة على تساويهما في الوجوب وتقدُّمِهما على القِسْمة مجموعَيْن أو منفردَيْن وتقديمُ الوصيةِ على الديْن ذكراً مع تأخّرها عنه حُكماً لإظهار كمالِ العنايةِ بتنفيذها لكونها مظِنةً للتفريط في أدائها ولاطّرادها بخلاف الدَّين
{آباؤكم وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} الخطابُ للورثة فآباؤكم مبتدأ وأبناؤكم عطفٌ عليه ولا يدرون خبرُه وأيُّهم مبتدأٌ وأقربُ خبرُه ونفعاً نُصب على التمييز منه وهو منقول من الفاعلية كأنه قيل أيُّهم أقربُ لكم نفعُه والجملةُ في حيز النصبِ بلا تدرون والجملةُ الكبيرةُ اعتراضيةٌ مؤكِّدةٌ لوجوب تنفيذِ الوصيةِ أي أصولُكم وفروعُكم الذين يُتَوَفَّون لا تدرون أيُّهم أنفعُ لكم أمَنْ يوصي ببعض مالِه فيُعرِّضَكم لثواب الآخرةِ بتنفيذ وصيتِه أم مَنْ لا يوصي بشيء فيوفرَ عليكم عَرَضَ الدنيا وليس المرادُ بنفي الدرايةِ عنهم بيانَ اشتباهِ الأمرِ عليهم وكونَ أنفعيةِ كلَ من الأول والثاني في حيز الاحتمال عندهم من غير رجحانِ أحدِهما على الآخر كما في قولِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مثلُ أمتي مثلُ المطرِ لا يدرى أولُه خيرٌ أمْ آخرُه فإنَّ ذلكَ بمعزلٍ من إفادة التأكيدِ المذكورِ والترغيبِ في تنفيذ الوصيةِ بل تحقيقَ أنفعيةِ الأولِ في ضمن التعريضِ بأن لهم اعتقاداً بأنفعية الثاني مبنياً على عدم الدراية وقد أُشير إلى ذلك حيث عبر عن الأنفعية بأقربيه النفع تذكير المناط زعمِهم وتعييناً لمنشأ خطئِهم ومبالغةً في الترغيب المذكورِ بتصوير الثوابِ الآجلِ بصورة العاجل لما أن الطباعَ مجبولةٌ على حب الخيرِ الحاضرِ كأنه قيل لاتدرون أيُّهم أنفعُ لكم فتحكُمون نظراً إلى ظاهر الحالِ وقربِ المنالِ بأنفعية الثاني مع أن الأمرَ بخلافه فإن ثوابَ الآخرةِ لتحقق وصولِه إلى صاحبه ودوامِ تمتّعِه به مع غاية قصْرِ مدةِ ما بينهما من الحياة الدنيا أقربُ وأحضرُ وعرَضُ الدنيا لسرعة نفادِه وفنائِه أبعدُ وأقصى وقيل الخطابُ للمورِّثين والمعنى لاتعلمون من أنفعُ لكم ممن يرِثُكم من أصولكم وفروعِكم عاجلاً وآجلاً فتحَرَّوا في شأنهم ما أوصاكم الله تعالى به ولا تعمِدوا إلى تفضيلِ بعضٍ وحرمانِ بعض روي أن أحدَ المتوالدين إذا كان أرفعَ درجةً من الآخر في الجنة سأل الله تعالى أن يرفعَ إليه صاحبَه فيُرفعُ إليه بشفاعته قيل فالجملةُ الاعتراضيةُ حينئذ مؤكدةٌ لأمر القِسْمةِ وأنت خبيرٌ بأنه مُشعرٌ بأن مدارَ الإرثِ ما ذُكر من أقربيه النفع مع أنه العلاقةُ النسبية
{فَرِيضَةً مّنَ الله} نُصِبت نصْبَ مصدر مؤكد لفعل محذوف أي فرَض الله ذلك فرضاً أو لقوله تعالى {يُوصِيكُمُ الله} فإنه في معنى يأمركم ويفرِض عليكم
{إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} أي بالمصالح والرُّتَب
{حَكِيماً} في كلِّ ما قضَى وقدر فيدخُل فيه الأحكامُ المذكورة دخولا أوليا

(2/150)


12 - النساء

(2/151)


وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم} من المال شروعٌ في بيان أحكام القسم الثاني من الورثة ووجهُ تقديمِ حكمِ ميراثِ الرجالِ مما لاحاجة إلى ذكره
{إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ} أي ولد وارث من بطنه أو من صُلْب بنيها أو بني بنيها وإن سفَلَ ذكراً كان أو أنثى واحداً كان أو متعدداً لأن لفظ الولدِ ينتظِمُ الجميعَ منكم أو من غيركم والباقى لورثهتن من ذوى الفروض والعصبات أو غيرِهم ولبيت المالِ إن لم يكن لهن وارثٌ آخرُ أصلاً
{فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ} على نحو ما فُصِّل والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ذِكرَ تقديرِ عدمِ الولدِ وبيانِ حكمِه مستتبِعٌ لتقدير وجودِه وبيانِ حكمِه
{فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ} من المال والباقي لباقي الورثةِ
{مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ} متعلق بكلتا الصورتين لابما يليه وحده
{يُوصِينَ بِهَا} في محل الجرِّ على أنه صفةٌ لوصيةٍ وفائدتُها ما مر من ترغيب الميتِ في الوصية وحثِّ الورثةِ على تنفيذها
{أَوْ دَيْنٍ} عطفٌ على وصيةٍ سواءٌ كان ثبوتُه بالبينة أو بالإقرار وإيثارُ أَوْ على الواو لما ذكر من إبراز كمالِ العنايةِ بتنفيذها
{وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ} على التفصيل المذكورِ آنفاً والباقي لبقية ورثتِكم من أصحاب الفروضِ والعصباتِ أو ذوي الأرحامِ إو لبيت المالِ إن لم يكن لكم وارثٌ آخرُ أصلاً
{فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ} على النحو الذي فُصل
{فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم} من المال للباقين
{مّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} الكلامُ فيه كما فُصِّل في نظيرَيْه فُرض للرجل بحق الزواجِ ضعفُ ما فرض للمرأة كما في النسب لمزيَّته عليها وشرفِه الظاهِرِ ولذلك اختُص بتشريف الخطابِ وهكذا قياسُ كلِّ رجلٍ وامرأةٍ اشتركا في الجهة ولا يستثنى منه إلا أولادُ الأمِّ والمُعتِقُ والمعتقةُ وتستوي الواحدةُ والعددُ منهن في الربع والثمن
{وَإِن كَانَ رَجُلٌ} شروعٌ في بيان أحكامِ القسمِ الثالثِ من الورثة المحتمِلِ للسقوط ووجهُ تأخيرِه عن الأولَيْن بيِّنٌ والمرادُ بالرجل الميتُ وقوله تعالى
{يُورَثُ} على البناءِ للمفعولِ من ورِث لامن أَوْرث خبر كان أي يورث منه
{كلالة} الكلالةُ في الأصل مصدرٌ بمعنى الكَلالِ وهو ذهابُ القوةِ من الإعياء استُعيرت للقرابة من غير جهة الوالدِ والولد لضعفها بالإضافة إلى قرابتهما وتُطلق على من لم يخلِّفْ ولداً ولا والداً وعلى مَن ليس بوالد ولا ولد من المخلفين بمعنى ذي كلالة كما تطلق القَرابةُ على ذوي القرابة وقد جُوِّز كونُها صفةً كالهَجاجَة والفَقَاقة للأحمق فنصبُها إما على أنها مفعولٌ له أي يورثُ منه لأجل القرابةِ المذكورةِ أو على أنَّها حالٌ من ضمير

(2/151)


يورث أي حالَ كونِه ذا كلالةٍ أو على أنها خبرٌ لكان ويورث صفةٌ لرجل أي إن كان رجلٌ موروثٌ ذا كلالةٍ ليس له والدٌ ولا ولد وقرئ يُورِّثُ على البناء للفاعل مخففا ومشدا فانتصابُ كلالةً إما على أنَّها حالٌ من ضمير الفعلِ والمفعولُ محذوفٌ أي يورَث لأجل الكلالة
{أَو امرأة} عطف على رجلٌ مقيدٌ بما قُيِّد به أي أو امرأةٌ تورث كذلك ولعل فَصْلَ ذكرِها عن ذكره للإيذان بشرفه وأصالتِه في الأحكام
{وَلَهُ} أي للرجل ففيه تأكيدٌ للإيذان المذكورِ حيث لم يتعرَّضْ لها بعد جَرَيانِ ذكرِها أيضاً وقيل الضميرُ لكل منهما
{أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} أي من الأم فحسب وقد قرئ كذلك فإن أحكامَ بني الأعيانِ والعَلاّتِ هي التي ذُكرت في آخرِ السورةِ الكريمةِ والجملةُ في محل النصب على أنها حالٌ من ضمير يورَث أو من رجلٌ على تقدير كون يورث صفة له ومساقها لتصوير المسألةِ وذكرُ الكَلالةِ لتحقيق جريانِ الحكمِ المذكورِ وإن كان مع مَنْ ذُكر ورَثةٌ أخرى بطريق الكلالة وأما جرَيانُه في صورة وجودِ الأمِّ أو الجدةِ مع أن قرابتَهما ليست بطريق الكلالة فبالإجماع
{فَلِكُلّ واحد مّنْهُمَا} من الأخ والأختِ
{السدس} من غير تفضيلٍ للذكر على الأنثى لأن الإدلاء إلى الميت بمحض الأنوثة
{فإن كانوا أكثر من ذلك} أي أكثرَ من الأخ أو الأختِ المنفردَيْن بواحد أو بأكثرَ والفاءُ لما مرَّ منْ أنَّ ذكرَ احتمالِ الانفرادِ مستتبِعٌ لذكر احتمالِ التعدد
{فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثلث} يقتسمونه بالسوية والباقي لبقية الورثةِ من أصحاب الفروض والعصبات هذا وأمَّا تجويزُ أنْ يكونَ يُورَث في القراءة المشهورة مبنياً للمفعول من أورث على أن المرادَ به الوارث والمعنى وإن كان رجلٌ يجعل وارثاً لأجل الكلالةِ أو ذا كلالة ة أى غير والده أو ولده ولذلك الوارث أخ أأو أختٌ فلكل واحدٍ من ذلك الوراث وأخيه أو أختِه السدسُ فإن كانوا أكثر مِن ذلك أي من الاثنين بأن كانوا ثلاثةً أو أكثرَ فهم شركاءُ في الثلث الموزع للاثنين لايزاد عليه شئ فبمعزل من السَّداد أما أولاً فلأن المعتبرَ على ذلك التقدير إنما هي الأخوةُ بين الوارثِ وبين شريكِه في الإرث من أخيه أو أختِه لا ما بينه وبين مورِّثه من الأخوة التي عليها يترتبُ حكمُ الإرثِ وبها يتِمُّ تصويرُ المسألةِ وإنما المعتبرُ بينهما الوراثةُ بطريق الكلالةِ وهي عامةٌ لجميع صورِ القَراباتِ التي لا تكون بالولادة فلا يكون نصيبُه ولا نصيبُ شريكِه مما ذكر بعينه ومن ادَّعى اختصاصَها بالإخوة لأمَ متمسكاً بالإجماع على أن المراد بالكلالة ههنا أولادُ الأمِّ فقد اعترف ببطلان رأيه مِن حيثُ لاَ يحتسبُ كيف لا ومبناه إنما هو الإجماعُ على أن المرادَ بالأخوةِ في قوله تعالى {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} هو الإخوةُ لأم خاصةً حسبما شهِدت به القراءةُ المحْكيةُ والآيةُ الآتيةُ في آخرِ السورةِ الكريمةِ ولولا أن الرجلَ عبارةٌ عن الميت والأُخوّةُ معتبرةٌ بينه وبين ورثتِه لما أمكن كونُ الكلِّ أولادَ الأمِّ ثم إن الكلالةَ كما نبّهتُ عليه باقيةٌ على إطلاقها ليس فيها شائبةُ اختصاصٍ بأولاد الأمِّ فضلاً عن الإجماع على ذلك وإلا لاقتصر البيانُ على حكم صورةِ انحصارِ الورثةِ فيهم وإنما الإجماعُ فيما ذكر من أنَّ المرادَ بالأخ والأختِ مَنْ كان لأمَ خاصة وأنتخبير بأن ذلك في قوة الإجماعِ على أن يُورَثَ من ورِث لا من أورث فتدبروا أما ثانياً فلأنه يقتضي أن يكون المعتبرُ في استحقاق الورثةِ في الفرض المذكورِ إخوةً بعضَهم لبعض من جهة الأم لما ذُكر من الإجماع مع

(2/152)


13 - النساء ثبوت الاستحقاقِ على تقدير الأُخوةِ من الجهتين وأما ثالثاً فلأن حُكمَ صورةِ انفرادِ الوارثِ عن الأخ والأختِ يبقى حينئذ غيرَ مُبيِّنٍ وليس من ضرورة كونِ حظِّ كلَ منهما السدسَ عند الإجماع كونُه كذلك عند الانفراد ألا يرى أن حظ كلَ من الأختين الثلثُ عند الاجتماعِ والنصفُ عند الانفراد وأما رابعاً فلأن تخصيصَ أحد الورثة بالتورث وجعل غيره تابعا له فيه مع اتحادِ الكلِّ في الإدلاءِ إلى المُورِّث مما لا عهدَ به
{مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} الكلامُ فيه كالذي مر في نظائره خلا أن الدين ههنا موصوفٌ بوصف الوصيةِ جرياً على قاعدة تقييدِ المعطوفِ بما قُيِّد به المعطوفُ عليه لاتفاق الجمهورِ على اعتبار عدمِ المُضارَّةِ فيه أيضاً وذلك إنما يتحقق فيما ثبوتُه بالإقرار في المرض كأنه قيل أو دينٍ يوصى به
{غَيْرَ مُضَارّ} حالٌ من فاعل فعلٍ مُضمر يدلُّ عليه المذكورُ وما حُذف من المعطوف اعتماداً عليه كما أنّ رجالٌ في قوله تعالى {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال رِجَالٌ} على قراءة المبنيِّ للمفعول فاعل لفعل ينبى عنه المذكورُ ومن فاعل الفعلِ المذكورِ والمحذوفِ اكتفاءً به على قراءة البناءِ للفاعل أي يوصى بما ذكر من الوصية والدَّيْن حالَ كونِه غيرَ مضارَ للورثة أي بأن يوصيَ بما زاد على الثلث أو تكونُ الوصية لقصد الإضرارِ بهم دون القُربةِ وبأن يُقِرَّ في المرض بدَين كاذباً وتخصيصُ هذا القيدِ بهذا المقام لما أن الورثةَ مَظِنةٌ لتفريط الميتِ في حقهم
{وَصِيَّةً مّنَ الله} مصدرٌ مؤكدٌ لفعل محذوفٍ وتنوينُه للتفخيم ومن متعلقةٌ بمضمر وقع صفةً له مؤكدةً لفخامته الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي يوصيكم بذلك وصيةً كائنةً من الله كقوله تعالى {فَرِيضَةً مّنَ الله} ولعل السرَّ في تخصيص كلَ منهما بمحله الإشعارُ بما بين الأحكامِ المتعلقةِ بالأصول والفروعِ وبين الأحكامِ المتعلّقةِ بغيرهم من التفاوت حسب تفاوُتِ الفريضةِ والوصية وإن كانت كلتاهما واجبة المراعاةِ أو منصوبٌ بغيرَ مُضارَ على أنه مفعولٌ به فإنه اسمُ فاعلٍ معتمدٍ على ذي الحالِ أو منفيٌّ معنىً فيعمل في المفعول الصريحِ ويعضُده القراءةُ بالإضافة أي غيرَ مضارٍ لوصية اللَّهِ وعهدُه لا في شأن الأولادِ فقط كما قيلَ إذْ لا تعلقَ لهم بالمقام بل في شأن الورثةِ المذكورةِ ههنا فإن الأحكامَ المفصَّلةَ كلَّها مندرجةٌ تحت قوله تعالى {يُوصِيكُمُ الله} جاريةٌ مَجرى تفسيرِه وبيانه ومُضارّتُها الإخلالُ بحقوقهم ونقصُها بما ذُكر من الوصية بما زاد على الثلث والوصيةِ لقصد الإضرارِ دون القُربةِ والإقرارِ بالدين كاذباً وإيقاعُها على الوصية مع أنها واقعةٌ على الورثة حقيقةً كما في قوله يار سارق الليلة أهل الدار للمبالغة في الزجر عنها بإخراجها مخرج مضارة أمرالله تعالى ومضادَّتهِ وجعلُ الوصيةِ عبارةً عن الوصية بالثلث فما دونه يقتضي أن يكونَ غيرَ مضارَ حالاً من ضمير الفعلِ المتعلقِ بالوصية فقط وذلك يؤدي إلى الفصل بين الحالِ وعاملِها بأجنبيَ هو المعطوفُ على وصية مع أنه لا تنحسِمُ به مادةُ المضارة لبقاء الإفرار بالدين على إطلاقه
{والله عَلِيمٌ} بالمُضارِّ وغيرِه
{حَلِيمٌ} لا يُعاجلُ بالعقوبةِ فلا يَغترَّ بالإمهال وإيرادُ الاسمِ الجليلِ مع كفاية الإضمارِ لإدخال الروعةِ وتربيةِ المهابةِ

(2/153)


تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)

{تِلْكَ} إشارةٌ إلى الأحكام التى تقدمت في شئون اليتامى والمواريث وغير

(2/153)


14 - 15 النساء ذلك
{حُدُودُ الله} أي شرائعه المحدودة التى لاتجوز مجاوزتُها
{وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} في جميع الأوامرِ والنواهي التي من جملتها ما فصل ههنا وإظهار الاسم الجليل لما ذكر آنفاً
{يُدْخِلْهُ جنات} نُصب على الظرفية عند الجمهورِ وعلى المفعولية عند الأخفشِ
{تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} صفةٌ لجنات منصوبة حسب انتصابِها
{خالدين فِيهَا} حالٌ مقدرةٌ من مفعول يدخِلْه وصيغةُ الجمعِ بالنظر إلى جمعية مَنْ بحسب المعنى كما أنَّ إفرادَ الضميرِ بالنظر إلى إفراده لفظاً
{وَذَلِكَ} إشارةٌ إِلى مَامرَّ من دخول الجناتِ الموصوفةِ بما ذكرَ على وجه الخلودِ وما فيه من معنى البعد للإيذانب كمال علوِّ درجتِه
{الفوز العظيم} الذِي لاَ وصف وراءَه وُصف الفوزُ وهو الظفرُ بالخير بالعظيم إما باعتبار مُتعلّقِه أو باعتبار ذاتهِ فإن الفوزَ بالعظيم عظيمٌ والجملةُ اعتراض

(2/154)


وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)

{وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} ولو في بعض الأوامرِ والنواهي قال مجاهد فيما اقتُصَّ من المواريث وقال عكرمة عن ابن عباس من لم يرضَ بقَسْم الله تعالى ويتعد ماقاله الله تعالى وقال الكلبي يعني ومن يكفرْ بقسمة اللَّهِ المواريثَ ويتعدَّ حدودَه استحلالاً والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ للمبالغة في الزجر بتهويل الأمرِ وتربيةِ المهابة
{وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} شرائعَه المحدودة في جميع الأحكامِ فيدخُل فيها ما نحن فيه دخولا أوليا
{يدخله} وقرئ بنون العظمةِ في الموضعين
{نَارًا} أي عظيمةً هائلةً لايقادر قدرُها
{خَالِداً فِيهَا} حال كما سبق ولعل إيثارَ الإفراد ههنا نظراً إلى ظاهر اللفظِ واختيارُ الجمعِ هناك نظراً إلى المعنى للإيذان بأن الخلودَ في دار الثوابِ بصفة الاجتماعِ أجلبُ للأنس كما أن الخلودَ في دار العذاب بصفة الانفرادِ أشدُّ في استجلاب الوحشة
{وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي وله مع عذاب الحريقِ الجُسماني عذابٌ آخرُ مُبهمٌ لايعرف كُنهُه وهو العذابُ الروحاني كما يُؤْذِنُ به وصفُه والجملةُ حالية

(2/154)


وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)

{واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة مِن نسائكم} شروع في بيان بعضٍ آخَرَ من الأحكام المتعلقةِ بالنساءِ إثرَ بيانِ أحكام المواريث والآتى جمعُ التي بحسب المعنى دون اللفظِ وقيل جمعٌ على غير قياسٍ والفاحشةُ الفَعلةُ القبيحةُ أريد بها الزنا لزيادة قُبحِه والإتيانُ الفعلُ والمباشرةُ يقال أتى الفاحشةَ أي فعلها وباشرها وكذا جاءها ورهَقها وغشِيَها وقرئ بالفاحشة فالإتيانُ بمعناه المشهورِ ومن متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل يأتين أي اللاَّتي يفعلْن الزنا كائناتٍ من نسائكم أي من أزواجكم كما في قوله تعالى {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ} وقوله تعالى {مّن نِّسَائِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وبه قال السدي
{فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ} خبر للموصول والفاء للدلالة على سببية مَا في حيزِ الصلةِ للحكم أي فاطلبوا أن يشهَدَ عليهن بإتيانها أربعةٌ من رجال المؤمنين وأحرارِهم
{فَإِن شَهِدُواْ} عليهن بذلك
{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى البيوت} أي فاحبِسوهن فيها واجعلوها سِجْناً عليهن
{حتى يَتَوَفَّاهُنَّ} أي إلى أن يستوفيَ أرواحَهن
{الموت} وفيه تهويلٌ للموت وإبرازٌ له في صورة من يتولى قبض الأرواح

(2/154)


16 - 17 النساء وتوفيها أو يتوفاهن ملائكةُ الموتِ
{أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} أي يشرع لهن حكماً خاصًّا بهن ولعل التعبيرَ عنه بالسبيل للإيذان بكونه طريقاً مسلوكاً فليس فيه دَلالةٌ على كونه أخفَّ من الحبس كما قاله أبو مسلم

(2/155)


وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)

{واللذان يأتيانها مِنكُمْ} هما الزاني والزانية بطرق التغليب قال السندي أُريد بهما البِكْران منهما كما ينبىء عنه كونُ عقوبتها أخفَّ من الحبس المخلّد وبذلك يندفع التكرار خلا أنه يبقى حكمُ الزاني المحصَنِ مبهماً لاختصاص العقوبةِ الأولى بالمحصنات وعدمِ ظُهورِ إلحاقهِ بأحد الحكمين دلالةٌ لخفاء الشِرْكة في المناط
{فآذوهما} أي بالتوبيخ والتقريعِ وقيل بالضرب بالنعال أيضا وظاهر أن إجراءَ هذا الحكمِ أيضاً إنما يكون بعد الثبوتِ لكنْ ترك ذكره تعويلاً على ما ذُكر آنفاً
{فَإِن تَابَا} عما فعلا من الفاحشة بسبب ما لقيا من زواجرِ الأذيةِ وقوارعِ التوبيخِ كما ينبئ عنه الفاء
{وَأَصْلَحَا} أي أعمالهما
{فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} بقطع الأذيةِ والتوبيخِ فإن التوبةَ والصلاحَ مما يمنع استحقاقَ الذمِّ والعقابِ وقد جُوِّز أن يكون الخطابُ للشهود الواقفين على هَناتهما ويراد بالإيذاء ذمُّهما وتعنيفُهما وتهديدُهما بالرفع إلى الولاة وبالإعراض عنهما تُرك التعرُّضُ لهما بالرفع إليهما قيل كانت عقوبةُ الفريقين المذكورين في أوائل الإسلامِ على مامر من التفصيل ثم نُسخ بالحدّ لما رُوي أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قال خُذوا عني خُذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً الثيبُ تُرجم والبِكرُ تُجلد وقيل هذه الآية سابقة على الأولى نزولاً وكانت عقوبةُ الزناةِ مطلقا الأذى ثم الحبسُ ثم الجلدُ ثم الرجمُ وقد جُوِّز أن يكون الأمرُ بالحبس غيرَ منسوخٍ بأن يُتركَ ذكرُ الحدِّ لكونه معلوماً بالكتاب والسنة ويوصى بإمساكهن في البيوت بعد إقامةِ الحدِّ صيانةً لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروجِ من البيوت والتعرُّضِ للرجال ولا يخفى أنه ممَّا لا يساعدُهُ النظمُ الكريمُ وقال أبو مسلم وقد عزاه إلى مجاهد إن الأولى في السّحّاقات وهذه في اللوّاطين وما في سورة النورِ في الزناة والزواني متمسكاً بأن المذكورَ في الولى صيغةُ الإناثِ خاصةً وفي الثانية صيغةُ الذكورِ ولا ضرورة إلى المصير إلى التغليب على أنه لا إمكانَ له في الأولى ويأباه الأمرُ باستشهاد الأربعةِ فإنه غيرُ معهودٍ في الشرع فيما عدا الزنا
{إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً} مبالغاً في قبول التوبةِ
{رَّحِيماً} واسعَ الرَّحمةِ وهو تعليلٌ للأمر بالإعراض

(2/155)


إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)

{إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} استئنافٌ مسوقٌ لبيان أن قبولَ التوبةِ من الله تعالى ليس على إطلاقه كما ينبئ عنه وصفُه تعالى بكونه تواباً رحيماً بل هو مقيدٌ بما سينطِق به النصُّ الكريمُ فقولُه تعالى التوبةُ مبتدأٌ وقوله تعالى
{لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء} خبرُه وقولُه تعالى على الله متعلقٌ بما تعلَّق بهِ الخبرُ من الاستقرار فإن تقديمُ الجار والمجرور على عامله المعنويِّ مما لا نزاعَ في جوازه وكذا الظرفُ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ضمير المبتدإ المستكنِّ فيما تعلقَ بهِ الخبرُ على رأي من جوَّز تقديمَ الحالِ على عاملها المعنويِّ عند كونِها ظرفاً

(2/155)


أو حرفَ جر كما سبق في تفسيرِ قولِه تعالى {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} وَأياً مَا كان فمَعنى كونِ التوبةِ عليه سبحانه صدورُ القَبولِ عنه تعالى وكلمةُ على للدلالة على التحقيق ألبتةَ بحكم جري العادةِ وبسق الوعدِ حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه وهذا مُراد مَنْ قال كلمةُ على بمعنى مِنْ وقيل هي بمعنى عند وعن الحسن يعني التوبةَ التي يقبلُها اللَّهُ تعالى وقيل هي التوبةُ التي أوجب الله تعالى على نفسه بفضله قبولَها وهذا يشير إلى أن قوله تعالى عَلَى الله صفةٌ للتوبة بتقديرر مُتعلَّقِه معرفةً على رأي من جوّز حذفَ الموصولِ مع بعض صلته أي إنما التوبةُ الكائنةُ على الله والمراد بالسؤ المعصيةُ صغيرةً كانت أو كبيرة وقيل الخبرُ على الله وقوله تعالى للذين متعلقٌ بما تعلَّق بهِ الخبرُ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الضَّمير المستكنِّ في مُتعلَّق الخبر وليس فيه ما في الوجه الأولِ من تقديم الحال على العامل المعنويِّ إلا أن الذي يقتضيهِ المقامُ ويستدعيهِ النظامُ هو الأولُ لما أنَّ ما قبلَهُ من وصفه تعالى بكونه تواباً رحيماً إنما يقتضي بيانَ اختصاصِ قبولِ التوبةِ منه تعالى بالمذكورين وذلك إنما يكونُ بجعل قولهِ تعالى للذين الخ خبراً ألا يُرى إلى قوله عز وجل {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} الخ فإنه ناطقٌ بما قلنا كأنه قيل إنما التوبة لهؤلاء لالهؤلاء
{بجهالة} متعلق يمحذوف وقع حالاً من فاعل يعملون أي يعملون السوءَ ملتبسين بها أي جاهلين سفهاءَ أو بيعملون على أن الباء سببية أي بعملونه بسبب الجهالةِ لأن ارتكابَ الذنبِ مما يدعو إليه الجهلُ وليس المرادُ به عدمَ العلمِ بكونه سوءاً بل عدمَ التفكرِ في العاقبة كما يفعله الجاهلُ قال قتادة اجتمع أصحابُ الرسول صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شئ عصى به ربَّه فهو جهالةٌ عمداً كان أو خطأ وعن مجاهد من عصى الله تعالى فهو جاهلٌ حتى ينزِعَ عن جهالته وقال الزجاج يعني بقوله بجهالة اختيارَهم اللذة الفانيةَ على اللذة الباقية
{ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} أي من زمان قريب وهو ما قبلَ حضورِ الموت كما ينبى عنه ما يسأتي من قوله تعالى حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت الخ فإنَّه صريحٌ في أن وقت الاختصار هو الوقتُ الذي لا تقبل فيه التوبةُ فبقيَ ماوراءه في حيِّز القَبول وعن ابن عباس رضي الله عنهما قبل أن ينزِلَ به سلطانُ الموتِ وعن الضحاك كلُّ توبةٍ قبل الموتِ فهو قريبٌ وعن إبراهيمَ النخعى مالم يُؤخَذْ بكَظَمِه وهو مجرى النفَس وروى أبو أيوبَ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أن اللَّهَ تعالى يقبل توبة العبد مالم يغرغر وعن عطاء ولو قبل موته بفُواق ناقة وعن الحسن أن إبليسَ قال حين أُهبط إلى الأرض وعزتِك لا أفارق ابنَ آدمَ ما دام روحُه في جسده فقال تعالى وعزتي لا أُغلق عليه باب التوبة مالم يُغرغِرْ ومن تبعيضيةٌ أي يتوبون بعضَ زمانٍ قريبٍ كأنه سمى مابين وجودِ المعصيةِ وبين حضورِ الموتِ زماناً قريباً ففي أي جُزءٍ تاب من أجزاء هذا الزمانِ فهو تائب
{فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى المذكورين من حيث اتصافُهم بما ذُكر وما فيهِ من معنى البُعد باعتبار كونِهم بانقضاء ذكرِهم في حكم البعيدِ والخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى
{يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} وما فيه من تكرير الإسناد لتقوية الحكم وهذا وعدٌ بقَبول توبتهم إثرَ بيانِ أن التوبة لهم والفاءُ للدِلالة على سببيتها للقَبول
{وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} مبالِغاً في العلمِ والحِكمةِ فيبني أحكامَه وأفعالَه على أساس الحِكمةِ والمصلحةِ والجملةُ اعتراضيةٌ مقررة لمضمون ما قبلها وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ للإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ فإنَّ الألوهية منشأ لاتصافه تعالى بصفات الكمالِ

(2/156)


18 - 19 النساء

(2/157)


وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)

{وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} تصريحٌ بما فُهم من قصر القَبولِ على توبة من تاب من قريب وزيادةُ تعيينٍ له ببيان أن توبةَ مَنْ عداهم بمنزلة العدمِ وجمعُ السيئاتِ باعتبار تكررِ وقوعِها في الزمان المديدلا لأن المراد جميعُ أنواعِها وبما مرّ من السوء نوعٌ منها
{حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الان} حتى حرفُ ابتداءٍ والجملةُ الشرطيةُ بعدها غايةٌ لما قبلها أي ليس قبولُ التوبةِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئاتِ إلى حضور موتِهم وقولهم حينئذٍ إني تبتُ الآنَ وذكرُ الآن لمزيد تعيينِ الوقتِ وإيثارُ قال على تاب لإسقاط ذلك عن درجة الاعتبارِ والتحاشي عن تسميته توبةً
{وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} عطفٌ على الموصول الذي قبله أي ليس قبولُ التوبةِ لهؤلاء ولا لهؤلاء وإنما ذُكر هؤلاء مع أنه لا توبةَ لهم رأساً مبالغة في بيان عدمِ قبولِ توبةِ المُسوِّفين وإيذاناً بأن وجودَها كعدمها بل في تكرير حرفِ النفيِ في المعطوف إشعارٌ خفيٌّ بكون حالِ المسوِّفين في عدم استتباعِ الجدوى أقوى من حال الذين يموتون على الكفر والمرادُ بالموصولَيْن إما الكفارُ خاصةً وإما الفساقُ وحدهم وتسميتُهم في الجملة الحاليةِ كفاراً للتغليظ كما في قوله تعالى {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين} وأما ما يعمُّ الفريقين جميعاً فالتسميةُ حينئذٍ للتغليب ويجوز أن يراد بالأول الفسقَةُ وبالثاني الكفرةُ ففيه مبالغةٌ أخرى
{أولئك} إشارةٌ إلى الفريقين وما فيه من معنى البعد للإيذان بترامي حالهم في الفظاعة وبُعدِ منزلتِهم في السوء وهو مبتدأٌ خبرُه
{أَعْتَدْنَا لَهُمْ} أي هيأنا لهم
{عَذَاباً أَلِيماً} تكريرُ الإسناد لما مر من تقوية الحكم وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بكون العذابِ مُعدًّا لهم وتنكير العذاب ووصفُه للتفخيم الذاتي والوصفي

(2/157)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لا يحل لكم أن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} كان الرَّجلُ إذا مات قريبُه يُلْقي ثوبَه على امرأته أو على خِبائها ويقول أَرِثُ امرأته كما أرث مالَه فيصير بذلك أحقَّ بها من كل أحدٍ ثم إن شاء تزوّجها بلا صَداقٍ غيرَ الصَّداقِ الأولِ وإن شاء زوَّجَها غيرَه وأخذ صَداقَها ولم يُعْطِها منه شيئاً وإن شاء عضلها لتفتدى بما ورِثَتْ من زوجها وإن ذهبت المرأةُ إلى أهلها قبل إلقاءِ الثوبِ فهي أحقُّ بنفسها فنُهوا عن ذلك وقيل لهم لا يحل لكم أن تأخذوا بطريق الإرثِ على زعمكم كما تُحازُ المواريثُ وهن كارهاتٌ لذلك أو مُكْرهاتٌ عليه وقرىء لاتحل بالتاء الفوقانية على أن أنْ ترثوا بمعنى الوراثة وقرئ كُرْهاً بضم الكاف وهي لغة كالضَّعْف والضُّعف وكان الرجلُ إذا تزوج امرأةً ولم تكن من حاجته حَبَسها مع سوء العِشرةِ والقهر وضيق عليها

(2/157)


20 - النساء لتفتدى منه بما لها وتختلِعَ فقيل لهم
{وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} عطفاً على ترِثوا ولا لتأكيد النفْي والخطابُ للأزواج والعضْلُ الحبسُ والتضييقُ ومنه عضَلت المرأةُ بولدها إذا اختنقت رحِمُها فخرج بعضُه وبقيَ بعضُه أي ولا أن تُضَيِّقوا عليهن
{لِتَذْهَبُواْ ببعض ما آتيتموهن} أي من الصَّداق بأن يدفعن إليكم بعضَه اضطراراً فتأخُذوه منهن وإنما لم يُتعرَّضْ لفعلهن إيذاناً بكونه بمنزلة العدمِ لصدوره عنهن اضطراراً وإنما عُبّر عن ذلك بالذهاب به لا بالأخذ ولا بالإذهاب للمبالغة في تقبيحه ببيان تضمُّنِه لأمرين كلٌّ منهما محظورٌ شنيعُ الأخذِ والإذهابِ منهن لأنه عبارةٌ عن الذهاب مستصحباً به
{إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} على صيغة الفاعلِ من بيَّن بمعنى تبين وقرئ على صيغة المفعولِ وعلى صيغة الفاعل من أبان بمعنى تبين أي بيِّنةِ القُبحِ من النشوز وشكاسةِ الخلُقِ وإيذاءِ الزوجِ وأهلِه بالبَذاء والسَّلاطةِ ويعضُده قراءة أُبي إلا أنْ يُفْحِشْن عليكُم وقيل الفاحشة الزنا وهو استئناءٌ من أعمِّ الأحوالِ أو أعمِّ الأوقاتِ أو أعمِّ العللِ أي ولا يحلِ لكم عضْلُهن في حالٍ من الأحوالِ أو في وقتٍ من الأوقات أولعلة من العِللِ إلا في حال إتيانِهن بفاحشة أو إلا في وقت إتيانِهن أو إلا لإتيانهن بها فإن السببَ حينئذٍ يكون من جهتهن وأنتم معذورن في طلب الخُلْع
{وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} خطابٌ للذين يُسيئون العشرة معهن والمعروف مالا يُنكِرُه الشرعُ والمروءةُ والمرادُ ههنا النَّصَفَةُ في المبيت والنفقةُ والإجمال في المقال ونحو ذلك
{فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} وسئِمْتم صُحبتَهن بمقتضى الطبيعةِ من غير أن يكون من قِبَلهن ما يُوجبُ ذلك من الأمور المذكورةِ فلا تفارِقوهن بمجرد كراهةِ النفسِ واصبِروا على معاشرتهن
{فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} علةٌ للجزاء أُقيمت مُقامه للإيذان بقوة استلزامِها إياه كأنه قيل فإن كرِهتُموهن فاصبِروا عليهن مع الكراهة فلعل لكم فيما تكرَهونه خيراً كثيراً ليس فيما تُحبّونه وعسى تامةٌ رافعةٌ لما بعدها مُستغنيةٌ عن تقدير الخبر أبي فقد قرَّبتْ كراهتُكم شيئاً وجعل اللَّهُ فيه خيراً كثيراً فإن النفسَ ربما تكره ما هو أصلحُ في الدين وأحمدُ عاقبةً وأدنى إلى الخير وتحبُّ ما هو بخلافه فليكنْ نظرُكم إلى ما فيه خيرٌ وصلاحٌ دون ما تهوى أنفسُكم وذكرُ الفعلِ الأولِ مع الاستغناء عنه وانحصارُ العلية في الثاني للتوسل إلى تعميم مفعولِه ليُفيدَ أن ترتيبَ الخيرِ الكثيرِ من الله تعالى ليس مخصوصاً بمكروه دون مكروهٍ بل هو سنةٌ إلهية جاريةٌ على الإطلاق حسَبَ اقتضاءِ الحكمةِ وأن ما نحن فيه مادةٌ من موادّها وفيهِ من المبالغةِ في الحمل على ترك المفارقةِ وتعميمِ الإرشادِ ما لايخفي وقرى ويجعلُ مرفوعاً على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف والجملة حاليةٌ تقديرُه وهو أي ذلك الشئ يجعل اللَّهُ فيه خيراً كثيراً وقيل تقديرُه واللَّهُ يجعل بوضع المُظهر موضِعَ المُضمرِ وتنوينُ خيراً لتفخيمه الذاتي ووصفُه بالكثرة لبيان فخامته الوصفية والمراد به ههنا الولدُ الصالحُ وقيل الأُلفةُ والمحبة

(2/158)


وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)

{وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ} أي تزوُّجَ امرأةٍ ترغبون فيها
{مَّكَانَ زَوْجٍ} ترغبون عنها بأن تُطلقوها
{وآتيتُمْ إحْدَاهُنَّ} أي إحدى الزوجاتِ فإن المرادَ بالزوج هو الجنس

(2/158)


21 - 22 النساء والجملةُ حاليةٌ بإضمار قد لامعطوفة على الشرط أي وقد آتيتم التي تريدون أن تطلقوها
{قِنْطَاراً} أي مالاً كثيراً
{فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ} أي من ذلك القنطارِ
{شَيْئاً} يسيراً فضلاً عن الكثير
{أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً} استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير النهْي والتنفيرِ عن المنهيِّ عنه والاستفهامُ للإنكار والتوبيخِ أي أتأخذونه باهتين وآثمين أو للبهتان والإثم فإن أحدَهم كان إذا تزوج امرأةً بَهَت التي تحته بفاحشة حتى يُلجِئَها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرِفه إلى تزوج الجديدةِ فنُهوا عن ذلك والبهتانُ الكذبُ الذي يبهَتُ المكذوبَ عليه ويُدهِشه وقد يستعمل في الفعل الباطلِ ولذلك فسر ههنا بالظلم وقوله عز وجل

(2/159)


وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)

{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} إنكارٌ لأخذه إثرَ إنكارٍ وتنفيرٌ عنه غب تنفيرٍ وقد بولغ فيه حيث وُجّه الإنكارُ إلى كيفية الأخذِ إيذاناً بأنه مما لا سبيل له إلى التحقق والوقوعِ أصلاً لأن ما يدخُل تحت الوجود لابد أن يكون على حال من الأحوال فإذا لم يكن لشيء حالٌ أصلاً لم يكن له حظٌّ من الوجود قطعاً وقوله عز وجل
{وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} حالٌ من فاعل تأخُذونه مفيدةٌ لتأكيد النكيرِ وتقريرِ الاستبعادِ أي على أيّ حالٍ أو في أي حالٍ تأخُذونه والحالُ أنه قد جرى بينكم وبينهن أحوالٌ منافيةٌ له من الخَلْوة وتقرُّرِ المَهرِ وثبوتِ حقِّ خِدْمتِهن لكم وغير ذلك
{وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً} عطفٌ على ما قبله داخلٌ في حُكمهِ أيْ أخذْنَ منكم عهداً وثيقاً وهو حقُّ الصحبةِ والمعاشرةِ أو ما أوثق اللَّهُ تعالى عليهم في شأنهن بقوله تعالى فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان أو ما أشار إليه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بقوله أخذتموهن بأمانة الله واستحللم فروجَهن بكلمة الله تعالى

(2/159)


وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)

{وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آباؤكم} شروعٌ في بيان من يحْرُم نكاحُها من النساء ومَنْ لا يحرُم وإنما خُصَّ هذا النكاحُ بالنهي ولم يُنْظَمْ في سلك نكاحِ المحرِّماتِ الآتيةِ مبالغةً في الزجر عنه حيث كانوا مُصِرِّين على تعاطيه قال ابنُ عباسٍ وجمهورُ المفسِّرين كان أهلُ الجاهليةِ يتزوّجون بأزواج آبائِهم فنُهوا عن ذلك واسمُ الآباءِ ينتظِمُ الأجدادَ مجازاً فتثبُت حرمةُ ما نكحوها نصاً وإجماعاً ويستقِلُّ في إثبات هذه الحُرمةِ نفس النكاحِ إذا كان صحيحاً وأما إذا كان فاسداً فلا بد في إثباتها من الوطء أو ما يجري مجراه من التقبيل والمسِّ بشهوة ونحوِهما بل هو المثبِتُ لها في الحقيقة حتى لو وقعَ شيءٌ من ذلكَ بحكم مِلكِ اليمينِ أو بالوجه المحرَّمِ تثبتُ به الحُرمةُ عندنا خلافاً للشافعي في المحرّم أي لا تنكحوا التي نكحها آباؤكم وإيثارُ مَا على مَنْ للذهاب إلى الوصف وقيل ما مصدريةٌ على إرادة المفعولِ من المصدر
{مّنَ النساء} بيانٌ لما نُكِح على الوجهين
{إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} استثناءٌ مما نكَحَ مفيدٌ للمبالغة في التحريم بإخراج الكلامِ مُخرَجَ التعليقِ بالمُحال على طريقةِ قولهِ ... ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفيهم ... بهن فُلولٌ من قراع الكتائبِ ... والمعنى لا تنكِحوا حلائلَ آبائِكم إلا من ماتت منهن والمقصودُ سدُّ طريقِ الإباحةِ بالكلية ونظيرُه قوله تعالى {حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط} وقيل هو استثناء مما يستلزِمُه النهي ويستوجبه مباشرةً المنهي عنه

(2/159)


23 - النساء كأنه قيل لا تنكِحوا ما نكح آباؤكم من النساء فإنه موجبٌ للعقاب إلا ما قد مضى فإنه معفوٌّ عنه وقيل هو استثناءٌ منقطعٌ معناه لكنْ ما قد سلف لا مؤاخذةَ عليه لا أنه مقرَّرٌ ويأباهما قولُه تعالى
{إِنَّهُ كَانَ فاحشة وَمَقْتاً} فإنه تعليلٌ للنهي وبيانٌ لكون المنهيِّ عنه في غاية القُبحِ مبغوضاً أشدَّ البُغضِ وأنه لم يزَلْ في حُكمِ الله تعالى وعلمِه موصوفاً بذلك ما رَخَّص فيه لأمة من الأمم فلا يلائم أن يُوسَّطَ بينهما ما يُهوِّن أمرَه من ترك المؤاخذة على ماسلف منه
{وَسَاء سَبِيلاً} في كلمة سَاء قولانِ أحدُهما أنها جاريةٌ مَجرى بئسَ في الذم والعملِ ففيها ضميرٌ مُبْهمٌ يفسِّره ما بعدَهُ والمخصوصُ بالذم محذوفٌ تقديرُه وساء سبيلاً سبيلُ ذلك النكاحِ كقوله تعالى بِئْسَ الشراب أي ذلك الماءُ وثانيهما أنها كسائر الأفعالِ وفيها ضميرٌ يعود إلى ما عاد إليه ضميرُ أَنَّهُ وسبيلاً تمييز والجملةُ إما مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب أو معطوفة على خبر كان محكيةٌ بقول مُضْمرٍ هو المعطوفُ في الحقيقة تقديرُه ومقولاً في حقه ساء سبيلاً فإن ألسنةَ الأممِ كافةً لم تزَلْ ناطفة بذلك في الأعصار والأمصار قيل مراتبُ القُبحِ ثلاثٌ القبحُ الشرعيُّ والقبحُ العقليُّ والقبحُ العاديُّ وقد وصف الله تعالى هذا النكاحَ بكل ذلك فقولُه تعالى فاحشة مرتبةُ قُبحِه العقليِّ وقولُه تعالى وَمَقْتاً مرتبةُ قبحِه الشرعيِّ وقولُه تعالى وَسَاء سَبِيلاً مرتبةُ قبحِه العاديِّ وما اجتمع فيه هذه المراتبُ فقد بلغَ أقصى مراتبِ القُبحِ

(2/160)


حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)

{حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وَبَنَاتُ الاخ وَبَنَاتُ الاخت} ليس المرادُ تحريمَ ذواتِهن بل تحريمَ نكاحِهن وما يُقصد به من التمتع بهن وبيانَ امتناعِ ورودِ مِلكِ النكاحِ عليهن وانتفاءِ محلِّيتِهن له رأسا وأما حرمةُ التمتُّع بهن بملك اليمينِ في الموادّ التي يُتصور فيها قرارُ المِلكِ كما في بعض المعطوفاتِ على تقدير رِقِّهن فثابتةٌ بدِلالة النصِّ لاتحاد المدارِ الذي هو عدمُ مَحلّيةِ أبضاعِهن للمِلْك لا بعبارته بشهادة سباقِ النظمِ الكريمِ وسياقِه وإنما لم يوجب المدارُ المذكورُ امتناعَ ورود ملك اليمين رأساً ولا حرمةَ سببِه الذي هو العقدُ أو ما يجري مَجراه كما أوجب حرمةَ عقدِ النكاحِ وامتناعَ ورودِ حُكمِه عليهن لأن مورِدَ مِلكِ اليمينِ ليس هو البُضعَ الذي هو مورِدُ ملكِ النكاحِ حتى يفوتَ بفوات مَحلِّيتِه له كملك النكاحِ فإنه حيث كان موردُه ذلك فات بفوات محلّيتِه له قطعاً وإنما مورِدُه الرقبةُ الموجودةُ في كل رقيق فيتحقق بتحقق محلِّه حتماً ثم يزول بوقوع العِتقِ في المواد التي سببُ حرمتِها محضُ القرابةِ النَّسَبية كالمذكورات ويبقى في البواقي على حاله مستتبِعاً لجميع

(2/160)


أحكامِه المقصودةِ منه شرعاً وأما حلُّ الوطءِ فليس من تلك الأحكامِ فلا ضيرَ في تخلُّفه عنه كما في المجوسية والأمهاتُ تعُمُّ الجداتِ وإن عَلَوْن والبناتُ تتناول بناتِهن وإن سفَلْن والأخواتُ ينتظِمْن الأخواتِ من الجهات الثلاثِ وكذا الباقياتُ والعمةُ كلُّ أنثى ولدَها مَنْ وَلدَ والدَك والخالةُ كلُّ أنثى ولدَها مَنْ ولدَ والدتَك قريباً أو بعيداً وبناتُ الأخِ وبنات الأخت تتناول القربى والبعدى
{وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مّنَ الرضاعة} نزّل الله تعالى الرَّضاعة منزلةَ النَسَب حتى سمَّى المُرضِعةَ أماً للرضيع والمراضعة أختاً وكذلك زوجُ المرضعةِ أبوه وأبواه جدّاه وأختُه عمتُه وكلُّ ولدٍ وُلد له من غير المُرْضِعة قبلَ الرّضاعِ وبعده فهم إخوتُه وأخواتُه لأبيه وأمُّ المرضعةِ جدتُه وأختُها خالتُه وكل من ولد من هذا الزوجِ فهم أخوانه وأخواتُه لأبيه وأمه ومِنْ ولدها من غيره فهم إخوتُه وأخواتُه لأمه ومنْهُ قولُه عليهِ السَّلامُ يحرُم من الرضاعة ما يحرُم من النَسَب وهو حكمٌ كليٌّ جارٍ على عمومه وأما أمُّ أخيه لأب وأختُ ابنِه لأم وأمُّ أمِّ ابنِه وأمُّ عمِّه وأمُّ خالِه لأب فليست حرمتُهن من جهة النسبِ حتى يحِلَّ بعمومه ضرورةَ حلِّهن في صور الرضاعِ بل من جهة المصاهرةِ ألا يُرى أن الأولى موطوءةُ أبيه والثانيةَ بنتُ موطوءتِه والثالثةَ أمُّ موطوءتِه والرابعةَ موطوءةُ جدِّه الصحيحِ والخامسةَ موطوءةُ جدِّه الفاسد
{وأمهات نِسَائِكُمْ} شروع في بيان المحرمات من جهة المصاهرةِ إثرَ بيان المحرَّماتِ من جهة الرَّضاعةِ التي لها لُحمةٌ كلُحمةِ النَسبِ والمرادُ بالنساء النكوحات على الإطلاق سواءٌ كن مدخولا بهن أولا وعليه جمهورُ العلماء روي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال في رجل تزوج امرأةً ثم طلقها قبل أن يدخل بها إنه لا بأس بأن يتزوجَ ابنتَها ولا يحِلُّ له أن يتزوجَ أمَّها وعن عمرَ وعِمرانَ بنِ الحصين رضيَ الله عنهما أنَّ الأمَّ تحرُم بنفس العقدِ وعن مسروقٍ هي مُرسلةٌ فأرسِلوا ما أرسلَ الله وعن ابن عباس أبهِموا ما أبهم الله خلا أنه روي عنه وعن علي وزيد وابنِ عمر وابن الزبير رضي الله عنهم أنهم قرءوا وأمهاتُ نسائِكم اللاتي دخلتم بهن وعن جابر روايتان وعن سعيد بن المسيب عن زيد أنه إذا ماتت عنده فأخذ ميراثَها كُره أن يخلُفَ على أمها وإذا طلقها قبل أن يدخُل بها فإن شاء فَعَل أقام الموتَ في ذلك مُقام الدخولِ كما قام مقامَه في باب المهرِ والعِدّةِ ويُلحقُ بهن الموطوءاتُ بوجه من الوجوه المعدودةِ فيما سبَق والممسوساتُ ونظائرُهن والأمهاتُ تعم المرضِعاتِ كما تعم الجداتِ حسبما ذكر
{وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِى حُجُورِكُمْ} الربائبُ جمعُ ربيية فعيل بمعنى مفعول والتَّاءُ للنقلِ إلى الاسميَّةِ والربيبُ ولدُ المرأةِ من آخَرَ سمي به لأنه يرُبُّه غالباً كما يرُبُّ ولدَه وإن لم يكن ذلك أمراً مطَّرِداً وهو المعنيُّ بكونهن في الحُجور فإن شأنهن الغالبَ المعتادَ أن يكنّ في حضانة أمهاتِهن تحت حماية أزواجهن لاكونهن كذلك بالفعل وفائدةُ وصفِهن بذلك تقويةُ عِلةِ الحُرمةِ وتكميلها كما أنها النُّكتةُ في إيرادهن باسم الربائبِ دون بناتِ النساءِ فإن كونَهن بصدد احتضانِهم لهن وفي شرف التقلّبِ في حجورهم وتحت حمايتِهم وتربيتِهم مما يقوِّي الملابسةَ والشبَهَ بينهن وبين أولادِهم ويستدعي إجراءَهن مُجرى بناتِهم لا تقييدُ الحرمةِ بكونهن في حجورهم بالفعل كما رُوي عن عليَ رضيَ الله عنه وبه أخذ داودُ ومذهبُ جمهورِ العلماءِ ما ذكر أولاً بخلاف ما في قوله تعالى
{مّن نِّسَائِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فإنه لتقييدها به قطعاً فإن

(2/161)


كلمةَ مِنْ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ربائبكم او من ضميرها المستكنِّ في الظرف لأنه لما وقع صلة تحمل ضميرا أي وربائبكم اللاتي استقرَرْنَ في حجوركم كائناتٍ من نسائكم الخ ولا مساغَ لجعلِه حالاً من أمهاتُ أو مما أضيفت هي إليه خاصةً وهو بيِّنٌ لا سِترةَ به ولا مع ما ذكر أولا ضرورةَ أن حاليتَه من ربائبكم أو من ضمير ما تقتضي كونَ كلمةِ مِنْ ابتدائيةً وحاليتُه من أمهاتُ أو من نسائكم تستدعي كونَها بيانيةً وادعاءُ كونِها اتصاليةً منتظمةٌ لمعنى الابتداءِ والبيان او جعل الموصول صفة للنساء مع اختلاف عاملَيْهما مما يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن أمثاله مع أنه سعيٌ في إسكات ما نطق به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم واتفق عليه الجمهورُ حسبما ذُكر فيما قبلُ وأما ما نقل من القراءة فضعيفةُ الروايةِ وعلى تقدير الصحةِ محمولةٌ على النسخ ومعنى الدخولِ بهن إدخالُهن السِّترَ والباءُ للتعدية وهي كنايةٌ عن الجماع كقولهم بنى عليها وضرَب عليها الحجابَ وفي حكمه اللمسُ ونظائرها كما مر
{فَإِن لَّمْ تكونوا} أي فيما فبل
{دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} أصلاً
{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي في نكاح الربائبِ وهو تصريحٌ بما أَشعَرَ به ما قبله والفاءُ الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن بيانَ حكمِ الدخولِ مستتبِعٌ لبيانِ حكمِ عدمِه
{وحلائل أَبْنَائِكُمُ} أي زوجاتُهم سُمّيت الزوجةُ حليلةً لحِلّها للزوج أو لحلولها في محله وقيل لَحِلّ كلَ منهما إزارَ صاحبِه وفي حكمهن مزْنياتُهم ومَن يجرين مَجراهن من الممسوسات ونظائرِهن وقولُه تعالى
{الذين مِنْ أصلابكم} لإخراج الأدعياءِ دون أبناءِ الأولادِ والأبناءِ من الرَّضاع فإنهم وإن سفلوا في حكم الأنباء الصلبية
{وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين} في حيز الرفعِ عطفاً على ما قبله من المحرمات والمرادُ به جمعُهما في النكاح لا في ملك اليمن وأما جمعُهما في الوطء بملك اليمن فملحقٌ به بطريق الدِلالةِ لاتحادهما في المدار ولقوله عليه الصلاة والسلام مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخرِ فلا يجمَعَنّ ماءَه في رحم أختين بخلاف نفسِ ملكِ اليمينِ فإنه ليس في معنى النكاحِ في الأفضاء إلى الوطء ولا مستلزِماً له ولذلك يصَحُّ شراءُ المجوسيةِ دون نكاحِها حتى لو وطئهما لايحل له وطءُ إحداهما حتى يحرُمَ عليه وطءُ الأخرى بسبب من الأسباب وكذا لو تزوج أختَ أَمَتِه الموطوءةِ لا يحل له وطء إحداهما حتى يحرم عليه الأخرى لأن المنكوحةَ موطوءةٌ حكماً فكأنه جمعهما وطأ وإسنادُ الحرمةِ إلى جمعهما لا إلى الثانية منهما بأن يقال وأخواتُ نسائِكم للاحتراز عن إفادة الحُرْمةِ المؤبدةِ كما في المحرماتِ السابقة ولكونه بمعزلٍ من الدِلالة على حرمة الجمعِ بينهما على سبيل المعية ويشترك في هذا الحكمِ الجمعُ بين المرأةِ وعمتِها ونظائرِها بل أولى فإن العمةَ والخالةَ بمنزلة الأمِّ فقوله عليه السلام لا تُنكحُ المرأةُ على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها من قبيل بيان التفسير لابيان التغييرِ وقيل هو مشهورٌ يجوز به الزيادةُ على الكتاب
{إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ ما قد مضى لاتؤاخذون به ولا سبيل إلى جعله متصلاً بقصد التأكيدِ والمبالغةِ كما مر فيما سلف لأن قوله تعالى
{إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} تعليلٌ لما أفاده الاستثناءُ فيتحتم الانقطاعُ وقال عطاء والسدي معناه إلا ما كان من يعقوبَ عليه السلام فإنه قد جمع بين ليا أمِّ يهوذا وبين راحيلَ أم يوسف عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وَلاَ يساعده التعليلُ لأن ما فعله يعقوبُ عليه السلام كان حلالاً في شريعته وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهما أهلُ الجاهليةِ يحرِّمون مَا حَرَّمَ الله

(2/162)


24 - النساء تعالى امرأة الأب والجمع بين الأختين وروى هشامُ بنُ عبدِ اللَّه عن محمد بنِ الحسنِ أنه قال كان أهلُ الجاهلية يعرِفون هذه المحرماتِ إلا اثنتين نكاحَ امرأةِ الأبِ والجمعَ بين الأختين ألا يُرى أنه قد عُقِّب النهيُ عن كل منهما بقوله تعالى إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ وهذا يُشير إلى كون الاستثناءِ فيهما على سَنن واحدٍ ويأباه اختلافُ التعليلين

(2/163)


وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)

{والمحصنات} بفتح الصاد وهن ذواتُ الأزواجِ أحصنهنّ التزوجُ أو الأزواجُ أو الأولياءُ أَعَفَّهن عن الوقوع في الحرام وقرئ على صيغةِ اسمِ الفاعلِ فإنهن أحصن فروجهن عن غير أزواجِهن أو أحصَنَّ أزواجَهن وقيل الصيغةُ للفاعل على القراءةِ الأولى أيضاً وفتحُ الصادِ محمولٌ على الشذوذ كما في نظيريه مُلقَح ومسهَب من القح وأسهب قيل ورد الإحصانُ في القرآن بإزاء أربعة معانٍ الأولُ التزوجُ كما في هذه الآية الكريمة الثاني العفةُ كما في قوله تعالى مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين الثالث الحريةُ كما في قوله تعالى ومن لم يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات والرابع الإسلامُ كما في قولِه تعالى فَإِذَا أُحْصِنَّ قيل في تفسيره أي أسلمن وهي معطوفةٌ على المحرمات السابقة وقوله تعالى
{مّنَ النساء} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً منها أي كائناتٍ من النساء وفائدتُه تأكيدُ عمومِها لا دفع توهُّمِ شمولِها للرجال بناءً على كونها صفةً للأنفس كما تُوهِّم
{إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} استثناءٌ من المحصَنات استثناءَ النوعِ من الجنس أي ملكتُموه وإسنادُ المِلكِ إلى الأَيْمان لما أن سببَه الغالبَ هو الصفةُ الواقعةُ بها وقد اشتهر ذلك في الأرقاء لاسيما في إناثهم وهن المراداتُ ههنا رعايةً للمقابلة بينه وبين مِلكِ النكاحِ الواردِ على الحرائر والتعبيرُ عنهن بما لإسقاطهن بما فيهن من قصور الرقِّ عن رتبة العقلاءِ وهي إما عامةٌ حسب عمومِ صلتِها فالاستثناءُ حينئذ ليس لإخراج جميعِ أفرادِها من حكم التحريمِ بطريق شمولِ النفي بل بطريق نفيِ الشمولِ المستلزِمِ لإخراج بعضِها أي حُرمت عليكم المحصَناتُ على الإطلاق إلا المحصناتِ اللاتي ملكتُموهن فإنهن لسن من المحرمات على الإطلاق بل فيهن من لايحرم نكاحُهن في الجملة وهن المسببات بغير أزواجِهن أو مطلقاً حسب اختلافِ الرأيين وإما خاصةٌ بالمذكورات فالمعنى حُرمت عليكم المحصناتُ إلا اللاتي سُبِين فإن نكاحَهن مشروعٌ في الجملة أي لغير مُلاّكِهن وأما حِلُّهن لهم بحكم ملكِ اليمينِ فمفهومٌ بدِلالة النصِّ لاتحاد المَناطِ لابعبارته لما عرفتَ من أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيانِ حرمةِ التمتعِ بالمحرمات المعدودةِ بحكم ملكِ النكاحِ وإنما ثبوتُ حرمةِ التمتعِ بهن بحكم ملك اليمن بطريق دِلالةِ النصِّ وذلك مما لا يجري فيه الاستثناءُ قطعاً وأما عدُّهن من ذوات الأزواج مع تحقق الفُرقةِ بينهن وبين أزواجهن قطعا بالتباين أو بالسبْي على اختلاف الرأيين فمبنيٌّ على اعتقاد الناسِ حيث كانوا حينئذ غافلين عن الفُرقة ألا يُرى إلى ما رُوي عن أبي سعيدٍ الخدريُّ رضيَ الله عنه من أنه قال أصبْنا يومَ أوطاس سبايا لهن أزواج فكرهنا أن تقع عليهن فسألنا النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وفي رواية عنه قلنا يا رسول الله كيف نقع على

(2/163)


نساء عرَفنا أنسابَهن وأزواجَهن فنزلت والمحصناتُ مّنَ النساء إِلاَّ مَا ملكت إيمانُكم فاستحللناهن وفي رواية أخرى عنه ونادى منادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ألا لاتوطأ حاملٌ حتى تضَعَ ولا حائلٌ حتى تحيضَ فأباح وطأَهن بعد الاستبراءِ وليس في ترتيب هذا الحكمِ على نزول الآيةِ الكريمةِ ما يدل على كونها مَسوقةً له فإن ذلك إنما يتوقف على إفادتها له بوجه من وجوه الدلالة على إفادتها بطريق العبارةِ أو نحوِها هذا وقد روي عن أبي سعيد رضيَ الله عنه أنَّه قال إنها نزلت في نساءٍ كنّ يهاجِرْن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهن أزواجٌ فيتزوجُهن بعضُ المسلمين ثم يقدَمُ أزواجُهن مهاجرين فنهى عن نكاحهن فالمحصناتُ حينئذ عبارةٌ عن مهاجرات يَتَحقق أو يُتوقع من أزواجهن الإسلامُ والمهاجَرَة ولذلك لم يزُلْ عنهن اسمُ الإحصان والنهى لتحريم المحقق وتعرُّفِ حالِ المتوقعِ وإلا فما عداهن بمعزل من الحُرمة واستحقاقِ إطلاقِ الاسمِ عليهن كيف لا وحين انقطعت العلاقةُ بين المسببة وزوجِها مع اتحادهما في الدين فلأَنْ تنقطِعَ ما بين المهاجِرَةِ وزوجِها أحقُّ وأولى كما يُفصح عنه قولُه عز وجل فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاهن حل لهم ولاهم يَحِلُّونَ لَهُنَّ الآية
{كتاب الله} مصدرٌ مؤكّدٌ أي كتَبَ الله
{عَلَيْكُمْ} تحريمَ هؤلاءِ كتاباً وفرضه فرضاً وقيل منصوبٌ على الإغراء بفعل مضمر أى مؤكد أي الزَموا كتابَ الله وعليكم متعلقٌ إما بالمصدر وإما بمحذوف وقع حالاً منه وقيل هو إغراءٌ آخَرُ مؤكدٌ لما قبله قد حُذف مفعولُه لدِلالة المذكورِ عليه أو بنفس عليكم على رأي من جوّز تقديمَ المنصوبِ في باب الإغراءِ كما في قوله ... يأيها امائح دَلْوي دونكا ... إني رأيتُ الناس يحمدونكا ...
وقرئ كُتُبُ الله بالجمع والرفع أي هذه فرائضُ الله عليكم وقرئ كتَبَ الله بلفظ الفعل
{وَأُحِلَّ لَكُمْ} عطفٌ على حُرّمت عليكم الخ وتوسيطُ قوله تعالى كتاب الله عَلَيْكُمْ بينهما للمبالغة في الحمل على المحافظة على المحرمات المذكورة وقرئ على صيغة المبنيِّ للفاعلِ فيكون معطوفاً على الفعل المقدّرِ وقيل بل على حرمت الخ فإنهما جملتانِ متقابلتانِ مؤسِّستانِ للتحريم والتحليلِ المنوطَيْن بأمر الله تعالى ولا ضير في اختلاف المُسندِ إليه بحسب الظاهِرِ لاسيما بعد ما أُكّدت الأولى بما يدل على أن المحرِّمَ هو الله تعالى
{مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} إشارةٌ إلى ما ذكر من المحرمات المعدودةِ أي أُحِلَّ لكم نِكاحُ ما سواهن انفراداً وجمعاً ولعل إيثارَ اسمِ الإشارةِ المتعرِّضِ لوصفِ المشارِ إليه وعنوانِه على الضمير المتعرِّضِ للذات فقط لتذكير ما في كل واحدةٍ منهن من العنوان الذي عليه يدور حُكمُ الحرمةِ فيُفهم مشاركةُ مَنْ في معناهن لهن فيها بطريق الدلالةِ فإن حرمةَ الجمعِ بين المرأةِ وعمتِها وبينها وبين خالتِها ليست بطريق العبارة بل بطريق الدِلالةِ كما سلف وقيل ليس المرادُ بالإحلالِ الإحلال مطلقاً أي على جميع الأحوالِ حتى يردَ أنه يلزمُ منه حِلُّ الجمعِ بين المرأةِ وعمتِها وبينها وبين خالتِها بل إنما هو إحلالُهن في الجملة أي على بعض الأحوالِ ولا ريب في حل نكاحِهن بطريق الانفرادِ ولا يقدَحُ في ذلك حرمتُه بطريق الجمع إلا يرى أن حرمةَ نكاحِ المعتدّةِ والمطلقةِ ثلاثاً والخامسةِ ونكاحِ الأمةِ على الحرة ونكاحِ الملاعنة لاتقدح في حل نكاحِهن بعد العدةِ وبعد التحليلِ وبعد تطليقِ الرابعةِ وانقضاءِ العدةِ وبعد تطليقِ الحرةِ وبعد إكذابِ الملاعِنِ نفسَه وأنت خبير بأن الحلَّ يجب أن يتعلق ههنا بما تعلق به الحرمةُ فيما سلف وقد تعلق ههنا بالجمع فلا بد أن يتعلق الحل به أيضاً
{أَن تَبْتَغُواْ} متعلق بالفعلين المذكورين على أنَّه

(2/164)


مفعول له لكن باعتبار ذاتِهما بل باعتبار بيانِهما وإظهارِهما أي بيّن لكم تحريمَ المحرماتِ المعدودةِ وإحلال ماسواهن إرادةَ أن تبتغوا بأموالكم والمفعولُ محذوفٌ أي تبتغوا النساءَ أو متروكٌ أي تفعلوا الابتغاءَ
{بأموالكم} بصَرْفها إلى مهورهن أو بدا اشتمالٍ مما وراءَ ذلكم بتقدير ضميرِ المفعولِ
{مُّحْصِنِينَ} حالٌ من فاعل تبتغوا والإحصانُ العفةُ وتحصينُ النفسِ عن الوقوع فيما يوجب اللومَ والعِقابَ
{غَيْرَ مسافحين} حال ثانية منه أو حالٌ من الضمير في محصِنين والسِفاحُ الزنا والفجورُ من السَّفْح الذي هو صبُّ المنيِّ سُمّي به لأنه الغرضُ منه ومفعولُ الفعلين محذوفٌ أي محصِنين فروجَكم غيرَ مسافحين الزّواني وهي في الحقيقة حالٌ مؤكدةٌ لأن المحصَنَ غيرُ مسافحٍ ألبتةَ وما في قوله تعالى
{فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} إما عبارةٌ عن النساء أو عما يتعلق بهن من الأفعال وعلى التقديرين فهي إما شرطيةٌ ما بعدها شرطُها وإما موصولةٌ ما بعدها صلتُها وأياً ما كان فهي مبتدأٌ خبرُها على تقدير كونِها شرطيةً إما فعلُ الشرطِ أو جوابُه أو كلاهما على الخلاف المعروفِ وعلى تقدير كونِها موصولةً قولُه تعالى
{فآتوهنَّ أجورهُنَّ} والفاءُ لتضمُّن الموصولِ معنى الشرطِ ثم على تقدير كونِها عبارةً عن النساء فالعائدُ إلى المبتدأ هو الضميرُ المنصوبُ في فآتوهن سواءٌ كانت شرطيةً أو موصولةً ومن بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ محلُّها النصبُ عَلى الحاليةِ منَ الضميرِ المجرورِ في به والمعنى فأيُّ فردٍ استمتعتم به أو فالفردُ الذي استمتعتم به حالَ كونِه من جنس النساءِ أو بعضِهن فآتوهن أجورهن وقد روعيَ تارةً جانبُ اللفظِ فأُفرِدَ الضميرُ أولاً وأخرى جانبُ المعنى فجمع ثانياً وثالثاً وأما على تقدير كونِها عبارةً عما يتعلق بهن فمن ابتدائيةٌ متعلقةٌ بالاستمتاع والعائدُ إلى المبتدأ محذوفٌ والمعنى أيُّ فعلٍ استمتعتم به من جهتهن من نكاح أو خلوةٍ أو نحوِهما أو فالفعلُ الذي استمتعتم به من قِبَلهن من الأفعال المذكورةِ فآتوهن أجورَهن لأجله أو بمقابلته والمرادُ بالأجور المهورُ فإنها أجورُ أبضاعِهن
{فَرِيضَةً} حالٌ من الأجور بمعنى مفروضةً أو نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي إيتاءً مفروضاً أو مصدرٌ مؤكدٌ أي فُرض ذلك فريضةً أي لهن عليكم
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ} أي لا إثمَ عليكم فيما تراضيتم به من الحط عن المهر أو الإبراءِ منه على طريقة قولِه تعالى {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ} إثرَ قوله تعالى {وآتوا النساء صدقاتهن} وقوله تعالى {إَّلا أَن يَعْفُونَ} وتعميمُه للزيادة على المسمى لايساعده رفعُ الجُناحِ عن الرجال لأنها ليست مَظِنةَ الجُناحِ إلا أن يجعل الخطاب للأزواج تغليباً فإن أخذَ الزيادةِ على المسمّى مظِنةُ الجُناحِ على الزوجة وقيل فيما تراضيتم به من نفقة ونحوِها وقيل من مقام أو فِراقٍ ولا يساعدُه قولُه تعالى
{مِن بَعْدِ الفريضة} إذ لا تعلقَ لهما بالفريضة إلا أن يكون الفِراقُ بطريق المخالعةِ وقيل نزلت في المتعة التي هي النكاحُ إلى وقت معلومٍ من يوم أو أكثرَ سُمِّيت بذلك لأن الغرضَ منها مجردُ الاستمتاعِ بالمرأة واستمتاعِها بما يُعطى وقد أبيحت ثلاثةَ أيامٍ حين فُتحت مكةَ شرَّفها الله تعَالَى ثم نُسخت لما روي أنه عليه السلام أباحها ثم أصبح يقول يا أيها الناسُ إني كنتُ أمرتُكم بالاستمتاع من هذه النساءِ ألا أنَّ الله حَرَّمَ ذلك إلى يومِ القيامةِ وقيلَ أُبيح مرتين وحُرِّم مرتين ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه رجَع عن القول بجوازه عند موتِه وقال اللهم إني أتوبُ إليك من قولي بالمتعة وقولي في الصرْف
{إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} في مصالح العبادِ
{حَكِيماً} فيما شرَع لهم من الأحكام ولذلك شرَع لكم هذه الأحكامَ اللائقة بحالكم

(2/165)


25 - النساء

(2/166)


وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

{ومن لم يستطع منكم} مَنْ إما شرطيةٌ ما بعدها شرطُها أو موصولةٌ ما بعدها صلتُها والظرفُ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل يستطِعْ أي حالَ كونِه منكم وقوله تعالى
{طولا} أو غنىً وسعة أي اعتلاءً ونيلا وأصله الزيادة أي اعتلاء والفضلُ مفعولٌ ليستطِعْ وَقَولُهُ عزَّ وَجَلَّ
{أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات} إما مفعولٌ صريح لطَولاً فإن أعمالَ المصدرِ المنوَّنِ شائعٌ ذائعٌ كما في قوله تعالى أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ كأنه قيل ومن لم يستطعْ منكم أن ينال نكاحَهن وإما بتقدير حرفِ الجرِّ أي ومن لم يستطع منكم غِنىً إلى نكاحهن أو لنكاحهن فالجارُّ في محل النصبِ صفةٌ لطولاً أي طَوْلاً مُوصِلاً إليه أو كائناً له أو على نكاحهن على أن الطَولَ بمعنى القُدرة في القاموس الطَّوْلُ والطائلُ والطائلةُ الفَضْلُ والقُدْرَةُ والغِنَى والسَّعَةُ ومحلُّ أن بعد حذفِ الجارِّ نَصْبٌ عند سيبويهِ والفراءِ وجرٌّ عند الكسائيِّ والأخفشِ وإما بدلٌ من طولاً لأن الطَوْلَ فضلٌ والنكاحُ قدرةٌ وإما مفعولٌ ليستطِعْ وطَوْلاً مصدرٌ مؤكدٌ له لأنه بمعناه إذ الاستطاعةُ هي الطَّوْلُ أو تمييزٌ أي ومن لم يستطع منكم نكاحهن استطاعته أو من جهة الطَوْل والغِنى أي لا من جهة الطبيعةِ والمزاجِ فإن عدمَ الاستطاعةِ من تلك الجهةِ لا تعلقَ له بالمقامِ والمرادُ بالمحصنات الحرائرُ بدليل مقابلتِهن بالمملوكات فإن حريتَهن أحصَنَتْهن عن ذل الرقِّ والابتذالِ وغيرِهما من صفات القصورِ والنقصان وقوله عز وجل
{فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} إما جوابٌ للشرط أو خبرٌ للموصول والفاءُ لتضمُّنه معنى الشرطِ والجارُّ متعلقٌ بفعل مقدرٍ حُذف مفعولُه وما موصولةٌ أي فلينكِح امرأةً أو أمةً من النوع الذي ملكتْه أيمانُكم وهو في الحقيقة متعلقٌ بمحذوف وقع صفة لذلك المفعول المحذوف ومِنْ تبعيضيةٌ أي فلينكِح امرأةً كائنةً من ذلك النوعِ وقيل مِنْ زائدةٌ والموصولُ مفعولٌ للفعل المقدر أي فلينكِحْ ما ملكتْه أيمانُكم وقولُه تعالى
{مّن فتياتكم المؤمنات} في محل النصب على الحالية من الضمير المقدر ملكت الراجعِ إلى ما وقيل هو المفعولُ للفعل المقدر على زيادة من ومما ملكتْ متعلقٌ بنفس الفعلِ ومن لابتداء الغايةِ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فتياتكم ومِنْ للتبعيض أي فلينكِحْ فتياتِكم كائناتٍ بعضَ ما ملكت أيمانُكم والمؤمناتِ صفةٌ لفتياتكم على كل تقدير وقيل هو المفعولُ للفعل المقدرِ ومما ملكت على ما تقدم آنفاً ومن فتياتكم حالٌ من العائد المحذوفِ وظاهرُ النظمِ الكريمِ يفيد عدمَ جواز نكاح الأمة للمستطيع كما ذهب اليه الشافعيِّ رحمَهُ الله تَعَالَى وعدم جوازِ نكاحِ الأمةِ الكتابيةِ أصلاً كما هو رأيُ أهلِ الحجازِ وقد جوزهما أبو حنيفة رحمه الله تعالى متمسكاً بالعمومات فمَحْمَلُ الشرطِ والوصفِ هو الأفضليةُ ولا

(2/166)


نِزاعَ فيها لأحد وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ومما وسع الله على هذه الأمةِ نكاحُ الأمةِ واليهوديةِ والنصرانيةِ وإن كان موسِراً وقولُه تعالى
{والله أَعْلَمُ بإيمانكم} جملة معترضة جئ بها لتأنيسهم بنكاح الإماءِ واستنزالِهم من رتبة الاستنكافِ منه ببيان أن مناطَ التفاضُل ومدارَ التفاخُرِ هو الإيمانُ دون الأحساب والأنسابِ على ما نطقَ به قولُه عز قائلا {يا أيها الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} والمعنى أنه تعالى أعلمُ منكم بمراتبكم في الإيمان الذي به تنتظِمُ أحوالُ العبادِ وعليه يدور فلَكُ المصالحِ في المعاش والمعادِ ولا تعلّقَ له بخصوص الحريةِ والرقِّ فرُبّ أمةً يفوق إيمانُها إيمانَ الحرائرِ وقولُه تعالى
{بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} إن أريد به الاتصالُ من حيث الدينُ فهو بيانٌ لتناسبهم من تلك الحيثيةِ إثرَ بيانِ تفاوتِهم في ذلك وإن أريد به الاتصالُ من حيث النسبُ فهو اعتراضٌ آخرُ مؤكدٌ للتأنيس من جهة أخرى والخطابُ في الموضعين إما لمن كما في الخطاب الذي يعقُبه قد روعيَ فيما سبق جانبُ اللفظ وههنا جانبُ المعنى والالتفاتُ للاهتمام بالترغيب والتأنيس وإما لغيرهم من المسلمين كالخِطابات السابقةِ لحصول الترغيبِ بخطابهم أيضاً وإياما كان فإعادةُ الأمرِ بالنكاح على وُجِّه الخطابِ في قولِه تعالَى
{فانكحوهن} مع انفهامه من قوله تعالى {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} حسبما ذُكر لزيادة الترغيبِ في نكاحهن وتقييدُه بقوله تعالى
{بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} وتصديرُه بالفاء للإيذان بترتبه على ما قبله أي وإذْ قد وقفتم على جلية الأمرِ فانكِحوهن بإذن مواليهن ولاتترفعوا عنهن وفي اشتراط إذنِ الموالي دون مباشرتِهم للعقد إشعارٌ بجواز مباشرتِهن له
{وآتوهنَّ أجُورَهُنَّ} أي مهورَهن
{بالمعروف} متعلقٌ بآتوهن أي أدّوا إليهن مهورَهن بغير مَطْلٍ وضِرارٍ وإلجاءٍ إلى الاقتضاء واللزِّ حسبما يقتضيه الشرعُ والعادةُ ومن ضرورته أن يكون الأداءُ إليهن بإذن الموالي فيكونُ ذكرُ إيتائِهن لبيان جوازِ الأداءِ إليهن لا لكون المهورِ لهن وقيل أصلُه آتُوا موالِيَهن فحُذف المضافُ وأُوصل الفعلُ إلى المضاف إليه
{محصنات} حال من مفعول فانكِحوهن أي حال كونِهن عفائفَ عن الزنا
{غَيْرَ مسافحات} حالٌ مؤكدةٌ أي غيرَ مجاهراتٍ به
{وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} عطفٌ على مسافحات ولا لتأكيد ما في غَيْرِ من معنى النفى الخدن الصاحُب قال أبو زيد الأخدن الأصدقاءُ على الفاحشة والواحد خِدنٌ وخَدين والجمعُ للمقابلة بالانقسام على معنى ان لا يكونَ لواحدة منهن خِدنٌ لا على مَعْنى أنَّ لا يكونَ لها أخدانٌ أي غيرَ مجاهراتٍ بالزنا ولا مُسِرّاتٍ له وكان الزنا في الجاهلية منقسماً إلى هذين القسمين
{فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي بالتزويج وقرئ على البناء للفاعل أي أحصن فروجهن أو أزواجَهن
{فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة} أي فعلْن فاحشةً وهى الزنا
{فعليهن} فثابت عليهن شرعاً
{نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} أي الحرائرِ الأبكارِ
{مّنَ العذاب} من الحد الذي هو جَلدُ مائةٍ فنصفُه خمسون كما هو كذلك قبل الإحصانِ فالمرادُ بيانُ عدمِ تفاوتِ حدِّهن بالإحصان كتفاوت حدِّ الحرائرِ فالفاءُ في فَإِنْ أَتَيْنَ جواب إذا والثانيةُ جوابُ إنْ والشرطُ الثاني مع جوابه مترتبٌ على وجود الأولِ كما في قولك إذا أتيتَني فإنْ لم أكرِمْك فعبدي حرٌّ
{ذلك} أي نكاحُ الإماءِ
{لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ} أي لمن خاف وقوعَه في الإثم الذي تؤدّي إليه غلبةُ الشهوةِ وأصلُ العنَتِ انكسارُ العظْمِ بعد الجبْرِ فاستُعير لكل مشقةٍ وضررٍ يعتري الإنسانَ بعد

(2/167)


26 - النساء صلاحِ حالِه ولا ضررَ أعظمُ من مُواقَعه المآثمِ بارتكاب أفحشِ القبائحِ وقيل أريد به الحدُّ لأنه إذا هَوِيَها يخشى أن يواقعها فيحد والأول هو اللائقُ بحال المؤمنِ دون الثاني لإبهامه أن المحذورَ عنده الحدُّ لا ما يوجبه
{وَأَن تَصْبِرُواْ} أي عن نكاحهن متعفِّفين كآفّين أنفسَكم عما تشتهيه من المعاصي
{خَيْرٌ لَّكُمْ} من نكاحهن وإن سبَقَت كلمةُ الرُّخصةِ فيه لما فيه من تعريض الولدِ للرق قال عمرُ رضي الله عنه أيُّما حرَ تزوّج بأمة فقد أرَقَّ نصفَه وقالَ سعيدُ بنُ جُبَيرٍ ما نكاحُ الأمةِ من الزنا إلا قريبٌ ولأن حقَّ المولى فيها أقوى فلا تخلُصُ للزوج خُلوصَ الحرائرِ ولأن المولى يقدِرُ على استخدامها كيفما يريد في السفر والحضَرِ وعلى بيعها للحاضرِ والبادي وفيه من اختلال حالِ الزوجِ وأولادِه مالا مزيدَ عليه ولأنها مُمتهنةٌ مبتذَلةٌ خرّاجةٌ ولاّجةٌ وذلك كلُّه ذلٌّ ومهانةٌ ساريةٌ إلى الناكح والعزةُ هي اللائقةُ بالمؤمنين ولأن مَهرَها لمولاها فلا تقدِر على التمتع به ولا على هِبته للزوج فلا ينتظم أمرُ المنزلِ وقد قال صلى الله عليه وسلم الحرائِرُ صلاحُ البيتِ والإماءُ هلاكُ البيتِ
{والله غَفُورٌ} مبالِغٌ في المغفرة فيغفرُ لمن لم يصبِرْ عن نكاحهن مافى ذلك من الأمور المنافيةِ لحال المؤمنين
{رَّحِيمٌ} مبالغٌ في الرحمة ولذلك رَخّص لكم في نكاحهن

(2/168)


يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)

{يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ} استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير ما سبق من الأحكام وبيانِ كونِها جاريةً على مناهج المهتدين من الأنبياء والصالحين قيل أصلُ النظمِ الكريمِ يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللامُ لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرداة ومفعولُ يبين محذوفٌ ثقةً بشهادة السباقِ والسياقِ أي يريد الله أن يبين لكم ما هو خفيٌ عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالِكم أو ما تعبَّدَكم به من الحلال والحرامِ وقيل مفعولُ يريد محذوفٌ تقديرُه يريد الله تشريعَ ما شرَع من التحريم والتحليلِ لأجل التبيينِ لكم وهذا مذهبُ البصريين ويعزى إلى سيبويهِ وقيل إن اللامَ بنفسها ناصبةٌ للفعل من غير إضمارِ أن وهي وما بعدها مفعولٌ للفعل المتقدمِ فإن اللامَ قد تقام مَقامَ أن في فعل الإرادةِ والأمرِ فيقال أؤدت لأذهبَ وأن أذهبَ وأمرتك لتقومَ وأن تقوم قال تعالى {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله} وفي موضع {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ} وقال تعالى {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} وفي موضع {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ} وفي آخر {وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي أن أعدل بينكم وهذا مذهبُ الكوفيين ومنعه البصريون وقالوا إن وظيفةَ اللامِ هي الجرُّ والنصبُ فيما قالوا بإضمار أن أي أُمِرنا بما أمرنا لنُسلم ويريدون ما يريدون ليطفئو وقيل يؤوّل الفعلُ الذي قبل اللامِ بمصدر مرفوعِ بالابتداء ويُجعل ما بعده خبراً له كما في تسمعُ بالمُعَيديِّ خيرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ أي أن تسمع به ويعزى به هذا الرأيُ إلى بعض البصْريين
{وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين من قبلكم} من الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم
{وَيَتُوبَ عليكم} إذا تبتم إليه تعالى عما يقع منكم من النقصير والتفريط في مراعاة ماكلفتموه من الشرائع فإن المكلفَ قلما يخلو من تقصير يستدعي تلافِيَه بالتوبة ويغفرُ لكم ذنوبَكم أو يُرشدُكم إلى ما يردعكم عن المعاصي ويحثُكم على التوبة أو إلى ما يكون كفارةً لسيئاتكم وليس الخطابُ لجميع المكلفين حتى يتخلفَ مراده تعالى عن إرادته فيمن لم يتُبْ منهم بل لطائفة معينةٍ حصَلت لهم هذه التوبةُ
{والله عَلِيمٌ} مبالغٌ في العلم بالأشياء التي من جملتها

(2/168)


27 - 28 29 النساء ما شرَع لكُم من الأحكام
{حَكِيمٌ} مُراعٍ في جميع أفعالِه الحكمةَ والمصلحةَ

(2/169)


وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)

{والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} جملةٌ مبتدأةٌ مَسوقةٌ لبيان كمالِ منفعةِ ما أراده الله تعالى وكمال مضرة مايريد الفجرة لا لبيان إراداته تعالى لتوبته عليهم حتى يكونَ من باب التكريرِ للتقرير ولذلك غُيّر الأسلوبُ إلى الجملة الاسميةِ دلالة على دوام الإرادةِ ولم يُفعلْ ذلك في قوله تعالى
{وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات} للإشارة إلى الحدوثِ وللإيماء إلى كمالِ المباينةِ مضموني الجملتين كما مر في قوله تعالى {الله ولي الذين آمنوا} الآية والمراد بمبتعى الشهواتِ الفَجَرةُ فإن اتّباعَها الائتمارُ بها وأما المتعاطي لما سوّغه الشرعُ من المشهيات دون غيرِه فهو متّبعٌ له لا لها وقيل هم اليهودُ والنصارى وقيل هم المجوسُ حيث كانوا يُحِلون الأخواتِ من الأب وبنات الخ وبناتِ الأختِ فلما حرَّمهن الله تعالى قالوا فإنكم تحلون بنت الخالة وبنت العمة مع أن العمةَ والخالةَ عليكم حرامٌ فانكِحوا بناتِ الأخِ والأختِ فنزلت
{أَن تَمِيلُواْ} عن الحق بموافقتهم على اتباع الشهواتِ واستحلالِ المحرماتِ وتكونوا زناةً مثلَهم وقرئ بالياء التحتانية والضميرُ للذين يتبعون الشهواتِ
{مَيْلاً عَظِيماً} أي بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئةً على نُدرة بلا استحلالٍ

(2/169)


يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)

{يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ} بما مر من الرخص ما في عهدتكم من مشاقّ التكاليفِ والجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب
{وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} عاجزاً عن مخالفة هواه غيرَ قادرٍ على مقابلة دواعيه وقواه حيث لا يصبِرُ عن اتباع الشهواتِ ولا يستخدم قواه في مشاقِّ الطاعاتِ وعن الحسن أن المرادَ ضَعفُ الخِلْقةِ ولا يساعده المقام فإن الجلمة اعتراضٌ تذييليٌّ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من التخفيف بالرُخصة في نكاح الإماءِ وليس لضعف البُنيةِ مدخلٌ في ذلك وإنما الذي يتعلق به التخفيفُ في العبادات الشاقةِ وقيل المراد به ضعفُه في أمر النساءِ خاصة حيث لا يصبِرُ عنهن وعن سعيد بن المسيِّب ما أيِسَ الشيطانُ من بني آدمَ قطُّ إلا أتاهم من قبل النساءِ فقد أتى عليَّ ثمانون سنةً وذهبت إحدى عينى وانا أعشوا بالأخرى وإن أخوفَ ما أخاف على فتنةُ النساءِ وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما وخَلَق الإنسانَ على البناء للفاعل والضمير له عز وجل وعنْهُ رضيَ الله عنْهُ ثماني آياتٍ في سورة النساء هنّ خيرٌ لهذه الأمةِ مما طلعت عليه الشمسُ وغربت {يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ} {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} {يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ} {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} {مَّا يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم}

(2/169)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل}

(2/169)


شروع في بيان بعض الحرماتِ المتعلقةِ بالأموال والأنفسِ إثرَ بيانِ الحرماتِ المتعلقةِ بالأبضاع وتصديرُ الخطابِ بالنداء والتنبيه لإظهار كمال العناية بمضمونه والمرادُ بالباطل ما يخالف الشرعَ كالغصب والسرقةِ والخيانةِ والقِمارِ وعقودِ الربا وغير ذلك مما لم يُبِحْه الشرعُ أي لا يأكل بعضكم أموال بعض بغير طريقٍ شرعي
{إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ} استثناءٌ منقطِعٌ وعن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لتجارةً أي إلا أن تكون التجارةُ تجارةً صادرةً عن تراض كما في قوله ... إذَا كان يوما ذا كواكب اشنعا ... أي إذا كان اليومُ يوما الخ أو الاأن تكون الأموالُ أموالَ تجارة وقرئ تجارةٌ بالرفعِ على أنَّ كانَ تامةٌ أي ولكن اقصِدوا كونَ تجارةً عن تراض أي وقوعَها أو ولكن وجودَ تجارةً عن تراض غيرِ منهيَ عنه وتخصيصها بالذكر من بيان سائرِ أسبابِ المُلكِ لكونها معظمها وأغلبها وقوعا وأوافقها لذوي المروءاتِ والمرادُ بالتراضي مراضاةُ المتبايعَيْن فيما تعاقدا عليه في حال المبايعةِ وقتَ الإيجابِ والقبولِ عندنا وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله حالة الاقتراق عن مجلس العقد
{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} أي مَنْ كان من جنسكم من المؤمنين فإن كلَّهم كنفس واحدة وعن الحسن لاتقتلوا إخوانَكم والتعبيرُ عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم بتصويره بصورةِ ما لا يكاد يفعلُه عاقلٌ أولا تُهلِكوا أنفسَكم بتعريضها للعقاب باقتراف ما يُفضي إليه فإنه القتل الحقيقى لها كما يُشعِرُ به إيرادُه عَقيبَ النهي عن أكل الحرامِ فيكونُ مقرَّراً للنهي السابق وقيل لاتقتلوا أنفسَكم بالبخْع كما يفعله بعضُ الجهلةِ أو بارتكاب ما يؤدي إلى القتل من الجنايات وقيل بإلقائها في التهلُكة وأُيِّد بما روى عن عمر بنِ العاص أنه تأوله بالتيمم لخوف البردِ فلم ينكر عليه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقرئ ولا تُقتِّلوا بالتشديد للتكثير وقد جُمع في التوصية بين حفظِ النفسِ وحفظِ المالِ لما أنه شقيقُها من حيثُ أنَّه سببٌ لقوامها وتحصيل كمالاته واستيفاءِ فضائلِها وتقديمُ النهي عن التعرض له لكثرة وقوعِه
{إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} تعليل للنهي بطريق الاستئنافِ أي مبالغاً في الرحمة والرأفةِ ولذلك نهاكم عما نهى فإن ذلك رحمةً عظيمةً لكم بالزجر عن المعاصي وللذين هم في معرِض التعرُّض لهم بحفظ أموالِهم وأنفسِهم وقيل معناه إنه كان بكم يا أمةَ محمدٍ رحيماً حيث أمرَ بني إسرائيلَ بقتلهم أنفسَهم ليكون توبةً لهم وتمحيصاً لخطاياهم ولم يكلِّفْكم تلك التكاليفَ الشاقةَ

(2/170)


وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)

{وَمَن يَفْعَلْ ذلك} إشارةٌ إلى القتل خاصةً أو لما قبله من أكل الأموالِ وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهما في الفساد
{عدوانا وَظُلْماً} أي إفراطاً في التجاوز عن الحد وإتياناً بما لا يستحقّه وقيل أُريد بالعدوان التعدّي على الغير بالظلم الظلمُ على النفس بتعريضها للعقاب ومحلُّها النصبُ عَلى الحاليّةِ أو على العلية أى معتديا وظالما أوللعدوان والظلم وقرئ عدوانا بكسر العين
{فَسَوْفَ نُصْلِيهِ} جوابٌ للشرط أى ندخله وقرئ بالتشديد من صلّى وبفتح النون من صَلاة يَصْليه ومنه شاةٌ مَصْليةٌ ويُصليه بالياء والضمير لله تعالى أو لذلك من حيث غنه سببٌ للصَّلْي
{نَارًا} أي ناراً مخصوصةً هائلةً شديدةَ العذابِ
{وَكَانَ ذلك} أي إصلاؤُه النار
{عَلَى الله يَسِيراً} لتحقق الداعي وعدمِ الصارفِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ بطريق الالتفات لتربيةِ المهابةِ وتأكيدِ استقلالِ الاعتراضِ التذييليِّ

(2/170)


31 - 32 النساء

(2/171)


إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)

{إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} أي كبائرَ الذنوبِ التي نهاكم الشرعُ عنها مما ذكر ههنا ومالم يذكر وقرئ كبيرَ على إرادة الجنسِ
{نُكَفّرْ عَنْكُمْ} بنون العظمةِ على طريقة الالتفات وقرئ بالياء بالإسنادِ إليه تعالى والتكفير إما طة المستحَقِّ من العقاب بثوابٍ أزيد أو بتوبة أي نغفِرْ لكم
{سَيّئَاتِكُمْ} صغائرَكم ونمحُها عنكم قال المفسرون الصلاةُ إلى الصلاة والجمعةُ إلى الجمعة ورمضانُ إلى رمضانَ مكفِّراتٌ لما بينهن من الصغائر إذا اجتُنِبَت الكبائرُ واختلف في الكبائر والأقربُ أن الكبيرةَ كلُّ ذنبٍ رتّب الشارعُ عليه الحدَّ او صرح بالوعيد وقيل ما عُلم حرمتُه بقاطع وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنها سبعٌ الإشراكُ بالله تعالى وقتلُ النفسِ التي حرمها الله تعالى وقذفُ المحصناتِ وأكلُ مالِ اليتيمِ والربا والفِرارُ من الزحف وعقوقُ الوالدين وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه التعقب بعد الهجرةِ مكان عقوقِ الوالدين وزاد ابنُ عمر رضى الله عنهما السحرَ واستحلالَ البيتِ الحرامِ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال له الكبائر سبعٌ قال هي إلى سبعمائةٍ أقربُ منها إلى سبع روى عنه إلى سبعين إذْ لا صغيرةَ مع الإصرار ولا كبيرةَ مع الاستغفار وقيل أريد به أنواعُ الشركِ لقوله تعالى {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} وقيل صِغرُ الذنوب وكِبَرُها بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها وبحسب فاعلِها بل بحسب الأوقاتِ والأماكنِ أيضاً فأكبرُ الكبائرِ الشركُ وأصغر الصغار حديثُ النفسِ وما بينهما وسايط يصدق عليه الأمر أن فمن عن له أمر أن منها ودعت نفسُه إليهما بحيث لا يتمالك فكفّها عن أكبرهما كُفّر عنه ما ارتكبه لمااستحق على اجتناب الأكبرِ من الثواب
{وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً} بضم الميم اسمُ مكانٍ هو الجنة
{كَرِيماً} أي حسَناً مَرْضياً أو مصدرٌ ميميٌّ أي إدخالاً مع كرامةً وقرئ بفتح الميم وهو أيضاً يحتمل المكانَ والمصدر ونصبُه على الثاني بفعل مقدرٍ مطاوِعٍ للمذكور أي ندخلكم فتدخلون مدخلاً أو دخولاً كريماً كما في قوله ... وعضةُ دهر يأبن مروانَ لم تَدَع ... مِنَ المالِ إلا مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ ...
أيْ لَم تدعَ فلم يبْقَ إلا مسحتٌ الخ

(2/171)


وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)

{وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} أي عليكم ولعل إيثارَ الإبهامِ عليه للتفادي عن المواجهة بما يشُقُّ عليهم قال القفال لما نهاهم الله تعالى عن أكل أموالِ الناسِ بالباطل وقتلِ الأنفسِ عقّبه بالنهي عَمَّا يؤدَّي إليهِ منَ الطمع في أموالهم وتمنّيها وقيل نهاهم أولاً عن التعرض لأموالهم بالجوارح ثم عن التعرّض لها بالقلب على سبيل الحسدِ لتطهير أعمالِهم الظاهرةِ والباطنةِ فالمعنى لاتتمنوا ما أعطاه الله تعالى بعضَكم من الأمور الدنيويةِ كالجاه والمالِ وغيرِ ذلك مما يجري فيه التنافسُ دونكم فإن ذلك قسمةٌ من الله تعالى صادرةٌ عن تدبير لائقٍ بأحوال العبادِ مترتبٍ على الإحاطة بجلائل شئونهم ودقائقِها فعلى كلّ أحدٍ من المفضّل عليهم أن يرضى بما قسم الله له ولا يتمنى حظَّ المفضَّلِ ولا يحسُده عليه لما أنه معارَضةٌ لحكمِ القدر المؤسس على

(2/171)


33 - النساء الحكم البالغة لالأن عدمه خير له ولالأنه لو كان خلافَه لكان مفسدةً له كما قيلَ إذْ لا يساعدُه ما سيأتي من الأمر بالسؤال من فضله تعالى فإنه ناطِقٌ بأن المنهيَّ عنه تمنى نصيب الغير لاتمنى مازاد على نصيبه مطلقاً هذا وقد قيل لما جعل الله تعالى في الميراث للذكر مثلُ حظ الأنثيين قالت النساءُ نحن أحوجُ أن يكون لنا سهمانِ وللرجال سهمٌ واحد لأنا ضعفاءُ وهم أقوياءُ وأقدرُ على طلب المعاشِ منا فنزلت وهذا هو الأنسبُ بتعليل النهى بقوله عز وجل
{لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبوا وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبن} فإنه صريحٌ في جريان التمني بين فريقي الرجالِ والنساءِ ولعل صيغةَ المذكرِ في النهى لما عبر عنهن بالبعض والمعنى لكلَ من الفريقين في الميراث نصيبٌ معينُ المقدارِ مما أصابه بحسَب استعدادِه وقد عُبّر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارةِ التبعيةِ المبنيةِ على تشبيه اقتضاءِ حالِه لنصيبه باكتسابه إياه تأكيداً لاستحقاق كلَ منهما لنصيبه وتقويةً لاختصاصه به بحيث لايتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجبه الانتهاءُ عن التمني المذكور وقوله تعالى
{واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} عطفٌ على النهي وتوسيطُ التعليلِ بينهما لتقرير الانتهاءِ مع ما فيه من الترغيب في الامتثالِ بالأمر كأنه قيل لاتتمنوا ما يختصُّ بغيركم من نصيبه المكتَسبِ له واسألوا الله تعالى من خزائن نعمة التى لانفاد لها وحُذف المفعولُ الثاني للتعميم أي واسألوه ما تريدون فإنه تعالى يعطيكُموه أو لكونه معلوماً من السياق أي واسألوه مثلَه وقيل مِنْ زائدةٌ والتقديرُ واسألوه فضلَه وقد جاءَ في الحديثِ لا يتمنّينّ أحدُكم مالَ أخيه ولكن ليقل اللهم ارزُقني اللهم أعطِني مثلَه وعن ابن مسعود رضي الله عنْهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال سَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ فإنَّهُ يُحِبُّ أن يُسألَ وأفضلُ العبادةِ انتظارُ الفرجِ وحملُ النصيبِ على الأجر الأُخرويِّ وإبقاءُ الاكتسابِ على حقيقته بجعل سببِ النزولِ ما رُوي أن أم سلمة رضيَ الله عَنْهَا قالتْ ليت الله كتب علينا الجهادَ كما كتبه على الرجال فيكونَ لنا من الأجر مثلُ ما لَهم على أن المعنى لكلَ من الفريقين نصيبٌ خاصٌّ به من الأجر مترتبٌ على عمله فللرجال أجرٌ بمقابلة ما يليقُ بهم من الأعمال كالجهاد ونحوه وللنساء أجرٌ بمقابلة ما يليق بهن من الأعمال كحفظ حقوق الأزواج ونحوه فلا تتمنى النساءُ خصوصيةَ أجرِ الرجالِ ولْيَسألْنَ من خزائن رحمتِه تعالى ما يليق بحالهن من الأجر لا يساعده سياقُ النظمِ الكريمِ المتعلق بالمواريث وفضائلِ الرجالِ
{إِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً} ولذلك جعل الناسَ على طبقات ورفَع بعضَهم على بعض درجاتٍ حسب مراتبِ استعداداتِهم الفائضةِ عليهم بموجب المشيئةِ المبنيةِ على الحِكَم الأبيةِ

(2/172)


وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)

{وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون} جملةٌ مبتدأةٌ مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلها ولكلَ مفعولٌ ثانٍ لجعلنا قُدّم عليه لتأكيد الشمولِ ودفعِ توهُّمِ تعلقِ الجهل بالبعض دون البعض كما في قوله تعالى {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} أي ولكل تركةٍ جعلنا ورثة متفاوتةً في الدرجة يلونها ويُحرِزون منها أنصباءَهم بحسب استحقاقِهم المنوطِ بما بينهم وبين المورِّثِ من العلاقة ومما ترك بيانٌ لكلَ قد فُصل بينهما بما عمل فيه

(2/172)


34 - النساء كما فُصِّل في قولِه تعالى {قُلْ أَغَيْرَ الله أتخذ وليا فاطر السماوات والارض} بين لفظِ الجلالةِ وبين صفتِه بالعامل فيما أضيف إليه أعني غيرَ أو ولكل قومٍ جعلناهم مواليَ أي وراثا نصيبٌ معينٌ مغايرٌ لنصيب قومٍ آخرين مما ترك الوالدان والأقربون على أن جعلنا مواليَ صفةٌ لكلَ والضميرُ الراجعُ إليه محذوفٌ والكلامُ مبتدأٌ وخبرٌ على طريقة قولك لكلِّ مَنْ خلقه الله إنساناً من رزق الله أي حظٌّ منه وأما ما قيل من أن المعنى لكل أحدٍ جعلنا موالي مما ترك أي وُرّاثاً منه على أنَّ مِنْ صلةُ موالي لأنه في معنى الوارث ضميرٌ مستكنٌّ عائدٌ إلى كل وقولُه تعالى {الوالدان والاقربون} استئنافٌ مفسرٌ للموالي كأنه قيل مَنْ هم فقيل الوالدان الخ ففيه تفكيكٌ للنظم الكريمِ لأن ببيان الموالي بما ذُكر يفوتُ الإبهامُ المصحِّحُ لاعتبار التفاوتِ بينهم وبه يتحقق الانتظامُ كما أشير إليه في تقرير الوجهين الأولَيْن مع ما فيه من خروج الأولادِ من الموالي إذ لا يتناولهم الأقربون كما لا يتناول الوالدين
{والذين عَقَدَتْ أيمانكم} هم موالي الموالاةِ كان الحليف يورث السدسَ من مال حليفِه فنُسخ بقوله تعالى وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ وعند أبي حنيفةَ رحمَهُ الله إذا أسلم رجلٌ على يد رجلٍ وتعاقدا على أن يرثَه ويعقِلَ عنه صح وعليه عقْلُه وله إرثُه إن لم يكن له وارثٌ أصلاً وإسنادُ العقدِ إلى الأَيْمان لأن المعتادَ هو المماسحةُ بها عند العقدِ والمعنى عقَدَتْ أيمانكم وما سحتموه وهو مبتدأ مضمن لمعنى الشرطِ ولذلك صُدِّر الخبر أعني قوله تعالى
{فآتوهم نصيبهم} بالفاء أو منصوبٌ بمضمر يفسّره ما بعده كقولك زيداً فاضرِبْه أو مرفوعٌ معطوفٌ على الوالدان والأقربون وقوله تعالى فآتوهم الخ جملةٌ مبيِّنةٌ للجملة قبلها ومؤكِّدةٌ لها والضميرُ للموالي
{إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء} منَ الأشياء التي من جملتها الإيْتاءُ والمنعُ
{شَهِيداً} ففيه وعدٌ ووعيد

(2/173)


الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)

{الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النساء} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ سببِ استحقاقِ الرجالِ الزيادةَ في الميراث تفصيلاً إثرَ بيانِ تفاوتِ استحقاقِهم إجمالاً وإيرادُ الجملةِ اسميةً والخبرِ على صيغة المبالغةِ للإيذان بعراقتهم في الاتصاف بما أُسند إليهم ورسوخِهم فيه أي شأنُهم القيامُ عليهن بالأمر والنهْي قيامَ الولاةِ على الرعية وعلل ذلك بأمرين وهبيٌّ وكسبيٌّ فقيل
{بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} الباءُ سببيةٌ متعلقة بقوامون أوبمحذوف وقع حالاً من ضميره وما مصدريةٌ والضميرُ البارزُ لكِلا الفريقين تغليباً أي قوامون عليهن بسبب تفضبل الله تعالى إياهم عليهن أو ملتبسين بتفضيله تعالى الخ ووضعُ البعضِ موضِعَ الضميرين للإشعار بغاية ظهورِ الأمرِ وعدمِ الحاجةِ إلى التصريحِ بالمفضّل والمفضّل عليه أصلا ولمثل ذلك لم يصرَّحْ بما به التفضيلُ من صفات كمالِه التي هي كمالُ العقلِ وحسنُ التدبيرِ ورزانةُ الرأي ومزيدُ القوة في الأعمال والطاعاتِ ولذلك خُصّوا بالنبوة والإمامةِ والولايةِ وإقامةِ الشعائرِ والشهادةِ في جميع القضايا ووجوبِ الجهادِ والجمعةِ وغير ذلك
{وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أموالهم}

(2/173)


الباءُ متعلقةٌ بما تعلقت به الأولى وما مصدريةٌ أو موصولةٌ حُذف عائدُها من الصلة ومِنْ تبعيضيةٌ أو ابتدائيةٌ متعلقةٌ بأنفقوا أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً منَ العائدِ المحذوفِ أيْ وبسبب إنفاقِهم من أموالِهم أو بسبب ما أنفقوه من أموالهم أو كائناً من أموالهم وهو ما أنفقوه من المَهر والنفقة روى أن سعد ابن الربيعِ أحدَ نقباءِ الأنصارِ رضي الله عنهم نشَزَت عليه امرأتُه حبيبةُ بنتُ زيدِ بنِ أبي زُهير فلَطَمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا فقال عليه السلام لتقتصَّ منه فنزلت فقال عليه السلام أردْنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراده الله خيرٌ
{فالصالحات} شروعٌ في تفصيل أحوالِهن وبيانِ كيفية القيامِ عليهن بحسب اختلافِ أحوالِهن أي فالصالحاتُ منهن
{قانتات} أي مطيعاتٌ لله تعالى قائماتٌ بحقوق الأزواج
{حافظات للغيب} أى لموجب الغيبِ أي لما يجب عليهن حفظُه في حال غيبةِ الأزواجِ من الفروج والأموال عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم خيرُ النساءِ امرأةٌ إن نظَرتَ إليها سرّتْك وإن أمرتها أطاعتْك وإذا غِبت عنها حفِظَتْك في مالها ونفسها وتلا الآية وقيل لأسرارهم وإضافةُ المالِ إليها ى للإشعار بأن مالَه في حق التصرفِ في حكم مالِها كما في قوله تعالى ولا تؤتوا السفاء أموالكم الآية
{بِمَا حَفِظَ الله} ما مصدرية أي بحفظه تعالى إياهم بالأمر بحفظ الغيبِ والحثِّ عليه بالوعد والوعيد والتوفيقِ له أو موصولةٌ أي بالذي حفِظَ الله لهن عليهم من المَهر والنفقةِ والقيامِ بحفظهن والذبِّ عنهن وقرئ بما حفِظ الله بالنصب على حذفِ المضافِ أي بالأمر الذي حفِظ حقَّ الله تعالى وطاعتَه وهو التعفف والشفقة على الرحال
{واللاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} خطابٌ للأزواج وإرشادٌ لهم إلى طريق القيام عليهن والخوفُ حالةٌ تحصُل في القلب عند حدوثِ أمرٍ مكروهٍ أو عند الظنِّ أو العلمِ بحدوثه وقد يُراد به أحدُهما أي تظنون عِصيانَهن وترفُّعَهن عن مطاوعتكم من النشَز وهو المرتفع من الأرض
{فَعِظُوهُنَّ} فانصحوهن بالترغيب والترهيب
{واهجروهن} بعد ذلك إن لم ينفَع الوعظُ والنصيحةُ
{فِى المضاجع} أي في المراقد فلا تُدْخِلوهن تحت اللحف ولا تباشِروهن فيكون كنايةً عن الجمع وقيل المضاجعُ المبايتُ أي لا تبايتوهن وقرئ في المضْجَع وفي المُضْطجع
{واضربوهن} أن لم ينجح ما فعلتم من العظة والهُجران ضرباً غيرَ مبرِّحٍ ولا شائنٍ
{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} بذلك كما هو الظاهرُ لأنه منتهى ما يعد زاجراً
{فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} بالتوبيخ والأذيةِ أي فأزيلوا عنهن التعرّضَ واجعلوا ما كان منهن كأنه لم يكن فإنَّ التائبَ منَ الذنبِ كمنْ لا ذنبَ لَهُ
{إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} فاحذَروه فإنه تعالى أقدرُ عليكم منكم على مَنْ تحت أيديكم أو أنه تعالى على علو شأنِه يتجاوز عن سيئاتكم ويتوبُ عليكم عند توبتِكم فأنتم أحقُّ بالعفو عن أزواجكم عند إطاعتهن لكم أوأنه يتعالى ويكبُر أن يظلمَ أحداً أو ينقُصَ حقَّه وعدمُ التعرضِ لعدم إطاعتِهن لهم للإيذان بأن ذلك ليسَ ممَّا ينبغِي أنْ يتحققَ أو يُفرضَ تحققُه وأن الذي يُتوقع منهن ويليق بشأنهن لاسيما بعد ما كان من الزواجر هو الإطاعةُ ولذلك صُدِّرت الشرطيةُ بالفاء المُنْبئةِ عن سببية ما قبلَها لما بعدَها

(2/174)


وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)

{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى الحكام واردٌ على بناء

(2/174)


36 - النساء الأمرِ على التقدير المسكوتِ عنه أعني عدمَ الإطاعةِ المؤدِّي إلى المخاصمة والمرافعةِ إليهم والشقاقُ المخالفةُ إما لأن كلاً منهما يريد ما يشُق على الآخر وإما لأن كلاً منهما في شِق أي جانبٍ غيرِ شق الآخر والخوف ههنا بمعنى العلم قاله ابن عباس والجزمُ بوجود الشقاقِ لا ينافي بعثَ الحَكَمين لأنه لرجاء إزالته لالتعرف وجودِه بالفعل وقيل بمعنى الظن وضمير الثنية للزوجين وإن لم يجْرِ لهما ذكر لجرى مايدل عليها وإضافةُ الشقاقِ إلى الظرف إما على إجرائه مُجرى المفعولِ به كما في قوله ... يا سارق الليلة ... أو مُجرى الفاعل كما في قولك نهارُه صائمٌ أي إن علمتم أو ظننتم تأكّدَ المخالفةِ بحيث لا يقدِر الزوجُ على إزالتها
{فابعثوا} أي إلى الزوجين لإصلاح ذاتِ البَينِ
{حُكْمًا} رجلاً وسطاً صالحاً للحكومة والإصلاحِ
{مّنْ أَهْلِهِ} من أهل الزوج
{وَحَكَماً} آخرَ على صفة الأولِ
{مّنْ أَهْلِهَا} فإن الأقاربَ أعرفُ ببواطن الأحوالِ وأطلبُ للصلاح وهذا على وجه الاستحبابِ فلو نُصِبا من الأجانب جاز واختلف في أنهما هل يليان الجمعَ والتفريقَ إن رأيا ذلك فقيل لهما ذلك وهو المروى عن عليَ رضيَ الله عنه وبه قال الشعبيُّ وعن الحسن يَجمعان ولا يفرِّقان وقال مالكٌ لهما أن يتخالعا إن كان الصلاحُ فيه
{إِن يُرِيدَا} أي الحَكَمان
{إصلاحا} أي إن قصدا إصلاحَ ذاتِ البينِ وكانت نيتُهما صحيحةً وقلوبُهما ناصحةً لوجه الله تعالى
{يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا} يوقِع بين الزوجين الموافقةَ والأُلفةَ وألقى في نفوسهما المودةَ والرأفةَ وعدمُ التعرضِ لذكر عدمِ إرادتِهما الإصلاحَ لما ذُكر من الإيذان بأن ذلك ليسَ ممَّا ينبغِي أنْ يُفرَضُ صدورُه عنهما وأن الذي يليق بشأنهما ويُتوَقّعُ صدورُه عنهما هو إرادةُ الإصلاحِ وفيه مزيدُ ترغيبٍ للحَكَمين في الإصلاح وتحذير عن المساهلة كيلا يُنسَبَ اختلالُ الأمرِ إلى عدم إرادتِهما فإن الشرطيةَ الناطقة بدور أن وجودِ التوفيقِ على وجود الإرادةِ منبئةٌ عن دوران عدمِه على عدمها وقيل كلا الضميرين للحكَمين أي إن قصد الإصلاحِ يوفقِ الله بينهما فتتّفقَ كلمتُهما ويحصُلَ مقصودُهما وقيل كلاهما للزوجين أي إن أرادا إصلاحَ ما بينَهما من الشقاق أوقع الله تعالى بينهما الأُلفةَ والوِفاقَ وفيه تنبيهٌ على أن من أصلح نيتَه فيما يتوخاه وفقه الله لمبتغاه
{إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} بالظواهر والبواطنِ فيعلم كيف يرفعُ الشقاقَ ويوقعُ الوفاقَ

(2/175)


وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)

{واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} كلامٌ مبتدأٌ مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بحقوق الوالدين والأقاربِ ونحوِهم إثرَ بيانِ الأحكامِ المتعلقةِ بحقوق الأ زروج صُدِّر بما يتعلق بحقوق الله عز وجل التي هي آكَدُ الحقوقِ وأعظمهما تنبيهاً على جلالة شأنِ حقوقِ الوالدين بنظمها في سلكها كما في سائر المواقعِ وشيئاً نصب على أنه مفعول أى لاتشركوا به شيئاً من الأشياء صنماً أو غيرَه أو على أنَّه مصدرٌ أي لاتشركوا به شيئاً من الإشراك جلياً أو خفياً
{وبالوالدين إحسانا} أى أحسنوا بهما إحسانا

(2/175)


37 - 38 النساء
{وَبِذِى القربى} أي بصاحب القرابةِ من أخ أو عمَ أو خالٍ أو نحو ذلك
{واليتامى والمساكين} من الأجانب
{والجار ذِى القربى} أي الذي قرُب جواره وقيل الذي له مع الجِوار قُربٌ واتصال بنسب أودين وقرئ بالنصب على الاختصاص تعظيماً لحق الجارِ ذي القربى
{والجار الجنب} أي البعيدِ أو الذي لا قرابةَ له وعنه عليه الصلاة والسلام الجيرانُ ثلاثةٌ فجارٌ له ثلاثةُ حقوقٍ حقُّ الجِوارِ وحقُّ القرابةِ وحق الإسلامِ وجارٌ له حقان حقُّ الجوارِ وحقُّ الإسلام وجارٌ له حقٌّ واحدٌ وهو حقُّ الجِوارِ وهو الجارُ من أهل الكتاب وقرئ والجار الجنب
{والصاحب بالجنب} أي الرفيقِ في أمر حسنٍ كتعلُّم وتصرُّف وصناعةٍ وسفرٍ فإنه صحِبَك وحصل بجانبك ومنهم من قعد بجنبك في مسجد أو مجلسٍ أو غيرِ ذلك من أدنى صحبةٍ التَأَمَتْ بينك وبينه وقيل هي المرأةُ
{وابن السبيل} هو المسافرُ المنقطِعُ به أو الضيفُ
{وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم} من العبيدِ والإماءِ
{إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً} أي متكبراً يأنف عن أقاربه وجيرانِه وأصحابه ولايلتفت إليهم
{فَخُوراً} يتفاخرُ عليهم والجملةُ تعليلٌ للأمر السابق

(2/176)


الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} بضم الباءِ وسكون الخاء وقرئ بفتح الأولِ وبفتحهما وبضمِّهما والموصولُ بدلٌ من قوله تعالى من كان أونصب على الذم أو رفعٌ عليه أي هم الذين أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ تقديرُه الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون أحقّاءُ بكل مَلامةٍ
{ويكتمون ما آتاهم الله من فَضْلِهِ} أي من المال والغِنى أو من نعوته عليه السلام التي بيّنها لهم في التوراة وهو أنسبُ بأمرهم للناس بالبخل فإن أحبارَهم كانوا يكتُمونها ويأمرون أعقابَهم بكتمها
{وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً} وُضع الظاهرُ موضعَ المُضمرِ إشعاراً بأن مَنْ هذا شأنُه فهو كافرٌ بنعمة الله تعالى ومن كان كافراً بنعمة الله تعالى فله عذابٌ يُهينُه كما أهان النعمةَ بالبخل والإخفاءِ والآيةُ نزلت في طائفة من اليهود وكانوا يقولون للأنصار بطريق النصيحةِ لاتنفقوا أموالَكم فإنا نخشى عليكم الفقرَ وقيل في الذين كتموا نعتَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبلها

(2/176)


وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)

{والذين يُنْفِقُونَ أموالهم رِئَاء الناس} أي للفَخار وليقالَ ما أسخاهم وما أجْودَهم لا لابتغاء وجهِ الله تعالى وهو عطفٌ على الذين يبخلون أو على الكافرين وإنما شاركوهم في الذم والوعيدِ لأن البخل والسَّرَفَ الذي هو الإنفاقُ فيما لا ينبغي من حيث إنهما طرفا تفريطٍ وإفراطٍ سواءٌ في القُبح واستتباعِ اللائمةِ والذمِّ ويجوز أن يكون العطفُ بناءً على إجراء التغايُرِ الوصفيِّ مُجرى التغايُرِ الذاتيِّ كما في قولِه ... إلى الملكِ القَرمِ وابنِ الهُمام ... وليثِ الكتائبِ في المزدَحَمْ ...
اومبتدأ خبرُه محذوفٌ يدلُّ عليه قوله تعالى وَمَن يَكُنِ الخ كأنه قيل والذين يُنْفِقُونَ أموالهم رِئَاء الناس
{وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر}

(2/176)


39 - 40 النساء ليتحرَّوْا بالإنفاق مراضِيَه تعالى وثوابَه وهم مشركو مكةَ المنفقون أموالَهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل المنافقون
{وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً} أي فقرينُهم الشيطانُ وإنما حُذف للإيذان بظهوره واستغنائِه عن التَّصريح به والمرادُ به إبليسُ وأعوانُه حيث حملوها على تلك القبائحِ وزيَّنوها لهم كما في قوله تعالى {إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين} ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن الشيطانَ يُقرَنُ بهم في النار

(2/177)


وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)

{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} أي على من ذُكر من الطوائف
{لو آمنوا بالله واليوم الاخر وَأَنفَقُواْ من ما رَزَقَهُمُ الله} أي ابتغاءَ لوجه الله تعالى وإنَّما لم يصرَّحْ به تعويلاً على التفصيل السابقِ واكتفاءً بذكر الإيمانِ بالله واليومِ الآخرِ فإنه يقتضي أن يكون الإنفاقُ لابتغاء وجهِه تعالى وطلَبِ ثوابه الْبتةَ أي ماالذى عليهم أو وأي تَبعةٍ ووبالٍ عليهم في الإيمان بالله والإنفاقِ في سبيله وهو توبيخٌ لهم على الجهل بمكان المنفعةِ والاعتقادِ في الشئ بخلاف ما هو عليه وتحريضٌ على التفكر لطلب الجوابِ لعله يؤدّي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلةِ والعوائدِ الجميلةِ وتنبيهٌ على أن المدعو إلى أمر لاضرر فيه ينبغي أن يُجيبَ إليه احتياطاً فكيف إذا كان فيه منافع لاتحصى وتقديم الإيمان بهما لأهمية في نفسه ولعدم الاعتدادِ بالإنفاق بدونه وأما تقديمُ إنفاقِهم رئاءَ الناسِ على عدم إيمانِهم بهما مع كون المؤخَّرِ أقبحَ من المقدَّمِ فلرعاية المناسبةِ بين إنفاقِهم ذلك وبين ما قبله من بُخلهم وأمرِهم للناس به
{وَكَانَ الله بِهِم} وبأحوالهم المحقّقةِ
{عَلِيماً} فهو وعيدٌ لهم بالعقاب أو بأعمالهم المفروضة فهو بيان لإثابته تعالى إياهم لو كانوا قد آمنوا وأنفقوا كما ينبئ عنه قوله تعالى

(2/177)


إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)

{إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} المثقالُ مِفعالٌ من الثِقْل كالمقدار من القدْر وانتصابُه على أنه نعتٌ للمفعول قائمٌ مَقامَه سواءٌ كان الظلمُ بمعنى النقصِ أو بمعنى وضعِ الشئ في غير موضعِه أي لا ينقُص من الأجر ولايزيد في العقاب شيئاً مقدارَ ذرةٍ أو على أنه نعتٌ للنصدر المحذوفِ نائبٌ منابَه أي لا يظلم ظلماً مقدارَ ذرةٍ وهي النملةُ الصغيرةُ أو كلُّ جزءٍ من أجزاءِ الهَباءِ في الكُوَّة وهو الأنسبُ بمقام المبالغةِ فإن قِلَّته في الثقل أظهرُ من قلة النملة فيه وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أدخَلَ يدَه في التراب ثم نفَخ فيه فقال كل واحد من هؤلاء ذرة
{وَإِن تَكُ حَسَنَةً} أي وإن تك مثقالَ ذرةٍ حسنةً أنَّث لتأنيث الخبرِ أو لإضافته إلى الذرة وحُذِف النونُ من غير قياسٍ تشبيهاً بحروف العلةِ وتخفيفاً لكثرة الاستعمال وقرئ حسَنةٌ بالرفعِ على أنَّ كانَ تامةٌ
{يضاعفها} أي يضاعفْ ثوابَها جعل ذلك مضاعفةً لنفس الحسَنةِ تنبيهاً على كمال الاتصالِ بينهما كأنهما شئ واحد وقرئ يُضْعِفْها وكلاهما بمعنى واحد وقرئ نُضاعِفْها بنون العظمةِ على طريقة الالتفات عن عثمانَ النهدي أنه قال لأبي هريرةَ رضيَ الله عنه بلغني عنك أنك تقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله تعالى يعطي عبدَه المؤمنَ بالحسنة ألفَ ألفِ حسنةٍ قال أبو هريرة لابل سمعته صلى الله عليه وسلم يقول

(2/177)


41 - 42 النساء يُعطيه ألفَيْ ألفِ حسنةٍ ثم تلاَ هذهِ الآيةَ الكريمة والمرادُ الكثرةُ لا التحديد
{وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ} ويعطِ صاحِبَها من عنده على نهج التفضُّلِ زائداً على ما وعده في مقابلة العملِ
{أَجْراً عَظِيماً} عطاء جزيلاً وإنما سماه أجراً لكونه تابعاً للأجر مَزيداً عليه

(2/178)


فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)

{فَكَيْفَ} محلُّها إما الرفعُ على أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ وإما النصبُ بفعل محذوفٍ على التشبيه بالحال كما هُو رأيُ سيبويهِ أو على التشبيه بالظرف كما هو رأيُ الأخفشِ أى فكيف حالُ هؤلاءِ الكفرةِ من اليَّهودِ والنَّصارَى وغيرِهم أو كيف يصنعون
{إِذَا جِئْنَا} يومَ القيامة
مِن كُلّ أمَّةٍ منَ الأُممِ {بِشَهِيدٍ} يشهد عليهم بكا كانوا عليه من فساد العقائدِ وقبائحِ الأعمالِ وهو نبيُّهم كما في قوله تعالى {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} والعاملُ في الظرف مضمونُ المبتدأ والخبرِ من هول الأمرِ وعِظَمِ الشأنِ أو الفعلُ المقدرُ ومِنْ متعلقةٌ بجئنا
{وَجِئْنَا بِكَ} يا محمد
{على هَؤُلاء} إشارةٌ إلى الشهداء المدلولِ عليهم بما ذكر
{شَهِيداً} تشهَدُ على صدقهم لعلمك بعقائدهم لاستجماع شرعِك لمجامعِ قواعدِهم وقيل إلى المكذبين المستفهَمِ عن حالهم تشهد عليهم بالكفر والعصيانِ كما يشهد سائرُ الأنبياء على أممهم وقيل إلى المؤمنين كما في قوله تعالى {لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}

(2/178)


يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)

{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول} استئنافٌ لبيان حالِهم التي أُشير إلى شدتها وفظاعتها بقوله تعالى فَكَيْفَ فإن أريد بهم المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالتعبير عنهم بالموصول لاسيما بعد الإشارة إليهم بهولاء لذمِّهم بما في حيزِ الصلةِ والإشعارِ بعلة ما اعتراهم من الحال الفظيعةِ والأمرِ الهائلِ وإيرادُه عليه السلام بعنوان الرسالةِ لتشريفه وزيادةِ تقبيحِ حالِ مكذّبيه فإن حق الرسول أن يؤمن به ويطاع لاأن يُكفَرَ به ويعصى وإن أريد بهم جنسُ الكفرَةِ فهم داخلونَ في زُمرتهم دُخولاً أولياء والمرادُ بالرسول حينئذ الجنسُ المنتظِمُ للنبي عليه السلام انتظاما أولياً وأيّاً ما كانَ ففيه من تهويل الأمر وتفظيع الحال مالا يقادَر قدرُه وقوله تعالى وَعَصَوُاْ عطفٌ على كفروا داخلٌ معه في الصلة والمرادُ معاصيهم المغايرةُ لكفرهم ففيه دلالةٌ على أنَّ الكفارَ مخاطَبون بفروع الشرائعِ في حق المؤاخذةِ وقيلَ حالٌ منْ ضميرِ كفروا وقيل صلةٌ لموصول آخرَ أي يودّ في ذلك اليومِ الذين جمعوا بين الكفرِ وعصيانِ الرسولِ أو الذين كفروا وقد عصَوُا الرسول أو الذين كفروا والذين عصوا الرسول ولو في قوله تعالى
{لَوْ تسوى بِهِمُ الارض} إن جعلت مصدرية فالجلمة مفعولٌ ليوَدّ أي يودون أن يُدفنوا فتُسوَّى بهم الأرضُ كالموتى وقيل يودّون أنهم لم يُبْعثوا أو لم يحلقوا وكأنهم والأرضَ سواءٌ وقيل تصير البهائمُ تراباً فيودّون حالها وإن جعلت جارية على بابها فالمفعولُ محذوفٌ لدِلالة الجملةِ عليه أي يودون تسوية الأرض وجوابُ لو أيضاً محذوفٌ إيذاناً بغاية ظهورِه أي لسُرُّوا بذلك وقوله تعالى
{وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} عطف على يود أي ولا يقدِرون على كتمانه لأن جوارحَهم تشهد عليهم وقيل الواو للحال

(2/178)


43 - النساء أى يودون ان يدفنون في الأرض وهم لايكتمون منه تعالى حديثاً ولا يكذبونه بقولهم والله رنبا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ إذ رُوي أنهم إذا قالوا ذلك ختمَ الله على افواهم فتشهدُ عليهم جوارحُهم فيشتد الأمرُ عليهم فيتمنَّوْن أن تسوى بهم الأرض وقرئ تَسَّوَّى على أن أصله تتسوى فأُدغم التاءُ في السين وقرئ تَسَوَّى بحذف التاء الثانية يقال سويته فتسوى

(2/179)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} لما نُهوا فيما سلف عن الإشراك به تعالى نهوا ههنا عَمَّا يؤدَّي إليهِ منَ حيث لايحتسبون فإنه روى أن عبدَ الرحمن بنُ عوف رضى الله عنه صنع طعاماً وشراباً حين كانت الخمرُ مباحةً فدعا نفرا منَ الصحابةِ رضيَ الله عنهم فأكلوا وشربوا حتى ثمِلوا وجاء وقتُ صلاةِ المغربِ فتقدم أحدهمليصلى بهم فقرأ أعبُدُ ما تعبدون فنزلت وتصديرُ الكلامِ بحر في النداءِ والتنبيهِ للمبالغة في حملهم على العمل بموجب النهيُ عن قُربان المساجدِ لقوله عليه السلام جنِّبوا مساجدَكم صِبيانَكم ومجانينَكم ويأباه قوله تعالى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ فالمعنى لا تُقيموها في حالة السُكرِ حتى تعلموا قبل الشروعِ ما تقولونه إذْ بتلك التجرِبةِ يظهر أنهم يعلمون ما سيقرءونه في الصلاة وحملُ ما تقولون على ما في الصلاة يستدعي تقدُّمَ الشروعِ فيها على غاية النهي وحملُ العلمِ على ما بالقوة على معنى حتى تكونوا بحيث تعلمون ما ستقرءون في الصلاة تطويلٌ بلا طائل لأن تلك الحيثيةِ إنما تظهرُ بما ذُكر من التجربة على إيثارَ ما تقولون على ما تقرءون حينئذ يكون عارياً عن الداعي وقيل المرادُ بالسكر سُكرُ النعاسِ وغلبةُ النوم وأيا ما كان فليس مرجِعُ النهي هو المقيدُ مع كأنه قيل يأيها الذين آمنوا لاتسكروا في أوقات الصلاة وقد روي أنهم كانوا بعد مانزلت الآيةُ لا يشربون الخمرَ في أوقات الصلاة فإذا صلَّوُا العِشاءَ شرِبوها فلا يُصْبحون إلا وقد ذهب عنهم السكرُ وعلموا ما يقولون {وَلاَ جُنُباً} عطفٌ على قوله تعالى وَأَنتُمْ سكارى فإنه في حيز النصب كأنه قيل لاتقربوا الصلاةَ سكارى ولا جنباً والجنبُ من أصابه الجنابةُ يستوي فيه المذكرُ والمؤنثُ والواحدُ والجمع لجَرَيانه مجرى المصدر
{إِلاَّ عَابِرِى سبِيلِ} استثناء مفرغ من أعم الأحوالِ محلُّه النصبُ على أنَّهُ حال من ضمير لاتقربوا باعتبار تقيُّدِه بالحال الثانيةِ دون الأولى والعاملُ فيه فعلُ النهي أي لا تقربوا الصلاةَ جُنباً في حال من الحوال إلا حالَ كونِكم مسافرين على معنى أن في حالة السفرِ ينتهي حكمُ النهي لكن لا بطريق شمولِ النفْي لجميع صورِها بل بطريق نفي الشمول في الجلمة من غير دلالة على انتفاء خصوصيةِ البعضِ المنتفي ولا على بقاء خصوصيةِ

(2/179)


البعضِ الباقي ولا على ثبوت نقيضِه لا كلياً ولا جزئياً فإن الاستثناءَ لا يدل على ذلك عبارةً نعم يشير إلى مخالفة حكمِ ما بعده لما قبله إشارةً إجماليةً يكتفى بها في المقامات الخِطابيةِ لا في إثبات الأحكامِ الشرعيةِ فإن مَلاكَ الأمرِ في ذلك إنما هو الدليلُ وقد ورد عَقيبَه على طريقة البيانِ وقيل هو صفةٌ لجنُباً على أن إلى بعنى غير أي وإلاجنبا غيرَ عابري سبيل ومن حَملَ الصلاةَ على مواضعها فسر العبور بالا جيتاز بها وجوّز للجنب عُبورَ المسجدِ وبه قال الشافعيُّ رحمَهُ الله وعندَنا لا يجوز ذلك إلا أن يكون الماءُ أو الطريقُ فيه وقيل إن رجالاً من الأنصار كانت أبوابُهم في المسجد وكان يُصيبهم الجنابةُ ولا يجدون ممرّاً إلا في المسجد فرُخِّص لهم ذلك
{حتى تَغْتَسِلُواْ} غايةٌ للنهي عن قُربان الصلاةِ حالةَ الجنابة ولعل تقديم الاستشاء عليه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأن حكمَ النهي في هذه الصورةِ ليس على الإطلاق كما في صورة السُّكرِ تشويقاً إلى البيان وروما لزبادة تقرّرِه في الأذهان وفي الآية الكريمةِ إشارةٌ إلى أن المصلِّي حقُّه أن يتحرَّزَ عما يُلْهيه ويشغَلُ قلبَه وأن يزكيَ نفسَه عما يدنسها ولايكتفى بأدنى مراتبِ التزكية عند إمكان أعاليها
{وَإِنْ كُنتُم مرضى} شروعٌ في تفصيل ما أجمل في الاستئناف وبيانِ ما هُوَ في حُكمِ المستثنى من الأعذار والاقتصارُ فيما قبلُ على استئناء السفرِ مع مشاركة الباقي له في حكم الترخيصِ للإشعار بأنه العذرُ الغالبُ المنبئ عن الضرورة التي عليَها يدورُ أمرُ الرُخصةِ كأنه قيل ولا جنباً إلا مضْطرين وإليه مرجِعُ ما قيل من أنه جُعل عابري سبيلٍ كنايةً عن مطلق المعذورين والمرادُ بالمرض ما يمنع من استعمال الماءِ مطلقاً سواءٌ كان ذلك بتعذر الوصول التي إليه أو بتعذر استعمالِه
{أَوْ على سَفَرٍ} عطفٌ على مرضى أي أو كنتم على سفر ما طال أو قصُر وإيرادُه صريحاً مع سبق ذكرُه بطريق الاستثناءِ لبناء الحكمِ الشرعيِّ عليه وبيانِ كيفيتِه فإن الاستثناءَ كما أشير إليه بمعزلٍ من الدِلالة على ثبوته فضلاً عن الدِلالة على كيفيته وتقديمُ المرضِ عليه للإيذان بأصالته واستقلالِه بأحكام لا توجد في غيره كالاشتداد باستعمال الماءِ ونحوِه
{أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط} هو المكانُ الغائرُ المطمئنُّ والمجئ منه كنايةٌ عن الحدث لأن المعتاد أن مَنْ يريدُه يذهب إليه ليُوارِيَ شخصَه عن أعين الناس وإسناد المجئ منه إلى واحد منهم من المخاطبين دونهم للتفادي عن التصريح بنسبتهم إلى ما يُستحيا منه أو يُستهجن التصريحُ به وكذلك إيثارُ الكنايةِ فيما عُطف عليه من قولهِ عزَّ وجلَّ
{أَوْ لامستم النساء} على التصريح بالجِماع ونظمُهما في سلك سَبَبَيْ سقوطِ الطهارةِ والمصيرُ إلى التيمم مع كونهما سببَيْ وجوبِها ليس باعتبار أنفسِهما بل باعتبار قيدِهما المستفادِ من قوله تعالى
{فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} بل هو السببُ في الحقيقة وإنما ذُكرا تمهيداً له وتنبيهاً على أنه سببٌ للرخصة بعد انعقادِ سببِ الطهارةِ الصغرى والكبرى كأنه قيل أو لم تكونوا مرضى أو مسافرين بل كنتم فاقدين للماء بسبب من الأسباب معَ تحققِ ما يُوجبُ استعمالَه وتخصيصُ ذكرِه بهذه الصورة مع أنه معتبرٌ في صورة المرضِ والسفرِ أيضاً لنُدرة وقوعِه فيها واستغنائِهما عن ذكره إما لأن الجنابة معتبرةٌ فيهما قطعاً فيُعلم من حكمها حكمُ الحدثِ الأصغرِ بدِلالة النصِّ لأن تقديرَ النظمِ لا تقربوا الصلاة في حال الجناية إلا حالَ كونِكم مسافرين فإن كنتم كذلك أو كنتم مرضى الخ وإما لِما قيل من أن عمومَ إعوازِ الماءِ في حق المسافرِ غالبٌ والعجزُ عن استعمال الماءِ القائمِ مَقامَ عدمِه في حق المريض مغنٍ عن ذكره لفظاً وما قيل من أن هذا القيدَ راجعٌ إلى الكل وأن قيدَ وجوبِ التطهرِ المكنى عنه بالمجئ من الغائط والملامسة

(2/180)


44 - النساء معتبرٌ في الكل ممَّا لا يساعدُهُ النظمُ الكريم
{فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً} فتعمَّدوا شيئاً من وجه الأرضِ طاهراً قال الزجاجُ الصعيدُ وجهُ الأرضِ تراباً أو غيرَه وإن كان صخراً لا ترابَ عليه لو ضرب المتيممُ يدَه عليه ومسَحَ لكان ذلك طَهورَه وهو مذهبُ أبي حنيفةَ رحمَهُ الله وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله لا بد أن يعلَقَ باليد شئ من التراب
{فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} أي إلى المِرْفقين لما روى أنه صلى الله عليه وسلم تيمّم ومسح يديه إلى مِرْفقيه ولأنه بدلٌ من الوضوء فيتقدر بقَدَره
{إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} تعليلٌ للترخيص والتيسيرِ وتقريرٌ لهما فإن مَنْ عادتُه المستمرَّةُ أن يعفوَ عن الخاطئين ويغفرَ للمذنبين لا بد أن يكون ميسِّراً لا معسراً وقيل هو كنايةٌ عنهما فإن الترفيهَ والمسامحةَ من روادف العفوِ وتوابعِ الغُفران

(2/181)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} كلام مسأنف مسوق لتعجيب المؤمنين من سوء حالِهم والتحذيرِ عن موالاتهم والخطابُ لكلِّ مَنْ يتأتَّى منْهُ الرؤيةُ من المؤمنين وتوجيهُه إليه ههنا مع توجيهه فيما بعدُ إلى الكل معاً للإيذان بكمال شهرةِ شناعةِ حالِهم وأنها بلغتْ من الظُّهورِ إلى حيث يتعجّبُ منها كلُّ مِنْ يراها والرؤيةُ بَصَريةٌ أي ألم تنظُرْ إليهم فإنهم أحقا أن تشاهِدَهم وتتعجب من أحوالهم وتجويزُ كونِها قلبيةً على أن إلى لتضمنها معنى الانتهاءِ لما فعلوه يأباه مقامُ تشهيرِ شنائعِهم ونظمِها في سلك الأمورِ المشاهدةِ والمرادُ بهم أحبارُ اليهود روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهُما أنها نزلت في حَبْريْنِ من أحبار اليهودِ كانا يأتيان رأسَ المنافقين عبدَ اللَّه بنَ أُبيَ ورهطَه يُثبِّطانِهم عن الإسلام وعنْهُ رضيَ الله عنْهُ أيضاً أنها نزلت في رُفاعةَ بنِ زيدٍ ومالكِ بنِ دخشم كانا إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لَوَيا لسانَهما وعاباه والمرادُ بالكتاب هو التوراةُ وحملُه على جنس الكتابِ المنتظِمِ لها انتظاماً أولياً تطويلٌ للمسافة وبالذي أوتوه ما بُيِّن لهم فيها من الأحكام والعُلومِ التي من جملتها ما علِموه من نعوت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وحقيقة الإسلام والتعبير عنه بالنصيب المنبئ عن كونه حقاً من حقوقهم التي يجب مراعاتها والمحافظةُ عليها للإيذان بكمال ركاكةِ آرائِهم حيث ضيّعوه تضييعاً وتنوينُه تفخيميٌّ مؤيدٌ للتشنيع عليهم والتعجيبِ من حاله فالتعبيرُ عنهُمْ بالموصولِ للتنبيهِ بما في حيز الصلة على كمال شناعتِهم والإشعارِ بمكان ما طُويَ ذكرُه في المعامله المحكمية عنهم من الهدى الذي هو أحدُ العِوَضَيْنِ وكلمةُ مِنْ متعلقةٌ إما بأُوتوا أو بمحذوف وقع صفة لنصيباً مبينةً لفخامته الإضافيةِ إثر بيان فخامته الذاتية أي نصيباً كائناً من الكتاب وقوله تعالى
{يَشْتَرُونَ الضلالة} قيل هو حالٌ مقدرةٌ منْ واوِ أُوتُواْ ولا ريب في أن اعتبار تقدير اشترائِهم وأنت خبيرٌ بأنه خالٍ عن إفادة أن مادةَ التشنيعِ والتعجيبِ هو الاشتراءُ المذكورُ وما عُطف عليه والذي تقتضيهِ جزالةُ النظمِ الكريمِ أنه استئنافٌ مبينٌ لمناط التشنيعِ ومدارِ التعجيبِ المفهومَيْن من صدر الكلامِ على وجه الإجمالِ والإبهام مبنى على سئوال نشأَ منْهُ كأنَّه قيلَ ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم فقيل يأخذون الضلالةَ ويترُكون ما أُوتوه من الهداية وإنما طوى المتروك لغاية ظهورِ الأمرِ لا سيما بعد الإشعار المذكورِ والتعبيرُ عن ذلك بالاشتراء الذي هو عبارةٌ عن

(2/181)


45 - 46 النساء استبدال السلعة بالثمن أي أخذِها بدلاً منه أخذاً ناشئاً عن الرغبة فيها والإعراضِ عنه للإيذان بكمال رغبتِهم في الضلالة التي حقُّها أن يُعرَضَ عنها كلَّ الإعراضِ وإعراضِهم عن الهداية التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ وفيه من التسجيل على نهاية سخافةِ عقولِهم وغايةِ ركاكةِ آرائِهم ما لا يَخفْى حيثُ صُوِّرت حالُهم بصورة ما لا يكادُ يتعاطاه أحدٌ ممن له أدنى تمييزٍ وليس المرادُ بالضلالة جنسَها الحاصلَ لهم من قبلُ حتى يخل بمعنى الاشتراء المنبئ عن تأخُّرِها عنه بل هو فردُها الكاملُ وهو عنادُهم وتماديهم في الكفر بعد ما علموا بشأن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وتيقنوا بحقِّية دينه وأنه هو النبيُّ العربيُّ المبشَّرُ به في التوراة ولا ريب في أن هذه الرتبةَ لم تكن حاصلةً لهم قبل ذلك وقد مرَّ في أوائل سُورة البقرة
{وَيُرِيدُونَ} عطفٌ على يشترون شريكٌ له في بيان محل التشنيع والتعجيب وصيغةُ المضارعِ فيهما للدِلالة على الاستمرار التجددي فإن تجددَ حُكمِ اشترائِهم المذكورِ وتكررَ العملِ بموجبه في قوة تجدّدِ نفسِه وتكرُّرِه أي لا يكتفون بضلال أنفسِهم بل يريدون بما فعلوا من كتمان نعوتِه عليه السلام
{أَن تَضِلُّواْ} أنتم أيضاً أيها المؤمنون
{السبيل} المستقيمَ الموصِلَ إلى الحقِّ

(2/182)


وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)

{والله أَعْلَمُ} أي منكم
{بِأَعْدَائِكُمْ} جميعاً ومن جملتهم هؤلاءِ وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون بكم لتكونوا على حذر منهم ومن مخالطتهم أو هو أعلمُ بحالهم ومآلِ أمرِهم والجملةُ معترضةٌ لتقرير إرادتِهم المذكورةِ
{وكفى بالله وَلِيّاً} في جميع أمورِكم ومصالِحِكم
{وكفى بالله نَصِيراً} في كل المواطنِ فثِقوا به واكتفُوا بولايته ونُصرتِه ولا تتولوا ولا تُبالوا بهم وبما يسومونَكم من السوء فإنه تعالى يكفيكم مكرَهم وشرَّهم ففيه وعدٌ ووعيدٌ والباءُ مزيدةٌ في فاعل كفَى لتأكيد الاتصالِ الإسناديِّ بالاتصال الإضافيِّ وتكريرُ الفعلِ في الجملتين مع إظهار الجلالةِ في مقام الإضمارِ لا سيما في الثاني لتقوية استقلالها المناسب للإعتراض وتأكيد كفياتة عز وجل في كلَ من الولاية والنصرة والإ شعار بعلّيتهما فإن الألوهية من موجباتهما لا محالة

(2/182)


مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)

{مّنَ الذين هَادُواْ} قيل هو بيانٌ لأعدائكم وما بينهما اعتراضٌ وفيه أنه لا وجهَ لتخصيص علمِه سبحانه بطائفة من أعدائهم لا سيما في معرِض الاعتراضِ الذي حقُّه العمومُ والإطلاقُ وانتظامُ ما هو المقصودُ في المقام انتظاماً أولياً كما أشير إليه وقيل هو صلة لنصير أي ينصرُكم من الذين هادوا كما في قوله تعالى {فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله} وفيه ما فيه من تحجير واسعِ نُصرتِه عز وجل مع أنه لا داعيَ إلى وضعَ الموصولِ موضِعَ ضميرِ الأعداءِ لأن مَا في حيزِ الصلةِ ليس بوصفٍ ملائمٍ للنصر وقيل هو خبرُ مبتدإٍ محذوف وقع قوله تعالى
{يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} صفةٌ له أي من الذين هادوا قومٌ أو فريق يحرفون الخ وفيه أنه يقتضي كونَ الفريقِ السابقِ بمعزل من التحريف الذي هو المصداقُ لاشترائهم في الحقيقة فالذي يليق بشأن

(2/182)


التنزيلِ الجليلِ أنه بيانٌ للموصول الأولِ المتناولِ بحسب المفهومِ لأهل الكتابين قد وُسِّط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناءِ ببيان محلِّ التشنيعِ والتعجيبِ والمسارعةِ إلى تنفير المؤمنين منهم وتحذيرِهم عن مخالطتهم والاهتمامِ بحملهم على الثقة بالله عز وجل والاكتفاءِ بولايته ونُصرتِه وأن قولَه تعالى يُحَرّفُونَ وما عُطف عليه بيانٌ لاشترائهم المذكورِ وتفصيلٌ لفنون ضلالتِهم وقدر وعيت في النظم الكريمِ طريقةُ التفسيرَ بعدَ الإبهامِ والتفصيلِ إثر الإجمال وما لزيادة تقريرٍ يقتضيه الحالُ والكَلِمُ اسمُ جنسٍ واحدُه كلِمةٌ كتَمْر وتمرة وتذكيرُ ضميرِه باعتبار إفرادِه لفظاً وجمعيةُ مواضعِه باعتبار تعدُّدِه معنى وقرئ بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفبف كلمة وقرئ يحرِّفون الكلامَ والمرادُ به ههنا إما ما في التوراة خاصةً وإما ما هو أعمُّ منه ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودةِ الصادرةِ عنهم في أثناء المحاورة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مساغَ لإرادة تلك الكلماتِ خاصة بأن يُجعلَ عطفُ قولِه تعالى
{وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} الخ على ما قبله عطفاً تفسيرياً لما ستقف على سره فإن أريد به الأولُ كما هو رأيُ الجمهورِ فتحريفُه إزالتُه عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم في نعت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أسمرُ رَبعةٌ عن موضعه في التوراة بأن وضعوا مكانه آدمُ طُوالٌ وكتحريفهم الرجمَ بوضعهم بدله الحدَّ أو صرفِه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى مالا صِحةَ له بالتأويلات الزائغةِ الملائمةِ لشهواتهم الباطلةِ وإن أُريد به الثاني فلا بد من أن يُرادَ بمواضعه ما يليق به مطلقاً سواءٌ كان ذلك بتعيينه تعالى صريحاً كمواضِعِ ما في التوراة أو بتعيين العقلِ أو الدين كمواضع غيره وأياما كان فقولُهم سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ينبغي أن يجريَ على إطلاقه من غير تقييدٍ بزمان أو مكانٍ ولا تخصيصٍ بمادة دون مادةٍ بل وأن يُحمَلَ على ما هو أعمُّ من القول الحقيقيِّ ومما يُترجِم عنه عِنادُهم ومكابَرتُهم ليندرجَ فيه ما نَطقَتْ به ألسنةُ حالِهم عند تحريفِ التوراةِ فإن من لا يتفوّه بتلك العظيمةِ لا يكادُ يتجاسرُ على مثل هذه الجنايةُ وإلا فحملُه على ما قالوه في مجلس النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من القبائح خاصةً يستدعي اختصاصَ حُكمِ الشرطيةِ الآتيةِ وما بعدها بهن من غير تعرُّضٍ لتحريفهم التوراةَ مع أنه معظم جنايتهم المعدودة ومن ههنا انكشف لك السرُّ الموعودُ فتأمل أي يقولون في كل أمرٍ مخالفٍ لأهوائهم الفاسدةِ سواءٌ كان بمحضر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أولا بلسان المقالِ أو الحال سمعنا وعصينا عِناداً وتحقيقاً للمخالفة وقوله تعالى
{واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} عطف على سمِعنا وعصينا داخلٌ تحت القولِ أي ويقولون ذلك في أثناء مخاطبته صلى الله عليه وسلم خاصةً وهو كلامٌ ذو وجهين محتمِلٌ للشر بأن يحمل على معنى اسمع حالَ كونِك غيرَ مسمَعٍ كلاماً أصلاً بصمم أو موت أي مدعواً عليك بلا سمِعْتَ أو غيرَ مسمَعٍ كلاماً ترضاه فحينئذ يجوز أن يكون نصبُه على المفعولية وللخير بأن يُحمل على اسمَعْ منا غير مسمع مكروها كانوا يخاطبون به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم استهزاءً به مُظْهرين له صلى الله عليه وسلم إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون في أنفسهم المعنى الأولَ مطمئنون به
{وراعنا} عطفٌ على اسمَعْ غيرَ مسمَعٍ أي ويقولون في أثناء خطابهم له صلى الله عليه وسلم هذا أيضاً يوردون كلاًّ من العظائمِ الثلاثِ في مواقعها وهي أيضاً كلمةٌ ذاتُ وجهينِ محتملة للخير بحملها على معنى ارقُبْنا وانظرنا نكلمك وللشر يحملها على السبّ بالرُّعونة أي الحَمق أو بإجرائها مجرى ما يُشبِهُها من كلمة عبرانيةٍ أو سريانية كانوا يتسابُّون بها وهي راعينا كانوا يخاطبونه صلى الله عليه وسلم بذلك ينوون الشتيمةَ والإهانةَ ويُظهرون التوقيرَ والاحترامَ ومصيرُهم إلى مسلك النفاقِ في

(2/183)


القولين الأخيرَين مع تصريحهم بالعصيان في الأول لما قالوا من أن جميعَ الكفرةِ كانوا يواجهونه بالكفر والعصيانِ ولا يواجهونه بالسبِّ ودُعاءِ السوءِ وقيل كانوا يقولون الأولَ فيما بينهم وقيل يجوز أن لا ينطِقوا بذلك ولكنهم لمّا لم يؤمنوا به جعلوا كأنهم نطَقوا به
{لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} أي فتْلاً بها وصرفاً للكلام عن نهجه إلى نسبة السبِّ حيث وضعوا غير مسمع موضع لا أسمعت مكروهاً وأجْرَوا راعِنا المشابِهةَ لراعينا مُجْرى انظُرنا أو فتلاً بها وضمّاً لما يُظهرونه من الدعاء والتوقير إلى ما يُضمِرونه من السبِّ والتحقير
{وَطَعْناً فِى الدين} أي قدحاً فيه بالإسنهزاء والسخرية وانتصابهما على العلية ليقولون باعتبار تعلّقِه بالقولين الأخيرين أي يقولون ذلك لصرف الكلامِ عن وجهه إلى السب والطعن في الدين أو على الحالية أي لاوين وطاعنين في الدين
{وَلَوْ أَنَّهُمْ} عندما سمعوا شيئاً من أوامرِ الله تعالى ونواهيه
{قَالُواْ} بلسانِ المقالِ أو بلسانِ الحالِ مكانَ قولِهم سمعنا وعصَينا
{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} إنما أعيد سمِعْنا مع أنه متحقِّقٌ في كلامهم وإنما الحاجةُ إلى وضْعِ أطعنا مكانَ عصينا لا للتنبيه على عدم اعتبارِه بل على اعتبار عدمه كيف لا وسماعُهم سماعُ الرد ومرادهم بحكايته إعلام عِصيانَهم للأمر بعد سماعِه والوقوفِ عليه فلا بد من إزالته وإقامةِ سماعِ القَبول مُقامَه
{واسمع} أي لو قالوا عند مخاطبةِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بدلَ قولِهم اسمَعْ غيرَ مُسمَعٍ اسمع
{وانظرنا} أي ولو قالوا ذلك بدلَ قولِهم راعِنا ولم يدُسّوا تحت كلامِهم شراً وفساداً أي لو ثبت أنهم قالوا هذا مكانَ ما قالوا من الأقوال
{لَكَانَ} قولُهم ذلك
{خَيْراً لَّهُمْ} مما قالوا
{وَأَقْوَمُ} أي أعدلَ وأسدَّ في نفسه وصيغةُ التفضيلِ إما على بابها واعتبارِ أصلِ الفضلِ في المفضَّلِ عليه بناءً على اعتقادهم أو بطريق التهكمِ وإما بمعنى اسمِ الفاعلِ وإنما قُدّم في البيان حالُه بالنسبة إليهم على حاله في نفسه لأن هِممَهم مقصورةٌ على ما ينفعهم
{وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} أي ولكن لم يقولوا ذلك واستمرُّوا على كفرهم فخذلهم الله تعالى وأبعدَهم عن الهدى بسبب كفرِهم بذلك
{فَلاَ يُؤْمِنُونَ} بعد ذلك
{إِلاَّ قَلِيلاً} قيل أي إلا إيماناً قليلاً لا يُعبأ به وهو الإيمانُ ببعض الكتُبِ والرسلِ أو إلا زماناً قليلاً وهو زمانُ الاحتضارِ فإنهم يؤمنون حين لا ينفعُهم الإيمانُ قال تعالى وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وكلاهما ليس بإيمان قطعاً وقد جُوِّز أن يراد بالقِلة العدمُ بالكُلِّية على طريقةِ قوله تعالى لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى أي إن كان الإيمانُ المعدومُ إيماناً فهم يُحدِثون شيئاً من الإيمان فهو في المعنى تعليقٌ بالمحال وأنت خبيرٌ بأن الكلَّ يأباه ما يعقُبه من الأمر بالإيمان بالقرآنِ الناطقِ بهذا لإفضائه إلى التكليف بالمُحال الذي هو إيمانُهم بعدم إيمانِهم المستمرِّ أما على الوجه الأخيرِ فظاهرٌ وأمَّا على الأولينِ فلأنَّ أمرَهم بالإيمان المُنْجَزِ بجميع الكتبِ والرسلِ تكليفٌ لهم بإيمانهم بعدم إيمانِهم إلى وقت الاحتضارِ فالوجهُ أن يُحملَ القليلُ على من يؤمن بعد ذلك لكن لا يجعل المستثنى منه ضمير الفاعل في لا يؤمنون لإفضائه إلى وقوعِ إيمانِ مَنْ لعنه الله تعالى وخَذَله مع ما فيه من نسبة القراء إلى الاتفاق على غير المختارِ بل بجعله ضميرَ المفعولِ في لعنهم أي ولكن لعنهم الله إلا فريقاً قليلاً فإنه تعالى لم يلعنْهم فلم ينسَدَّ عليهم بابُ الإيمانِ وقد آمن بعد ذلك فريقٌ من الأحبار كعبدِ اللَّه بنِ سَلاَم وكعبٍ وأضرابِهما كما سيأتي

(2/184)


47 - النساء

(2/185)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)

{يا أيها الذين أُوتُواْ الكتاب} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إما إلى من حُكِيتْ أحوالُهم وأقوالُهم خاصةً بطريق الالتفاتِ ووصفُهم تارةً بإيتاء الكتابِ أي التوراةِ وأخرى بإيتاء نصيبٍ منها لتوفية كلَ من المقامَين حقَّه فإن المقصودَ فيما سبق بيانُ أخذِهم الضلالةَ وإزالةُ ما أُوتوه بمقابلتها بالتحريف وليس ما أزالوه بذلك كلَّها حتى يوصَفوا بإيتائه بل هو بعضُها فوُصِفوا بإيتائه وأما ههنا فالمقصودُ تأكيدُ إيجابِ الامتثالِ بالأمر الذي يعقُبه والتحذيرُ عن مخالفته من حيث أن الإيمانَ بالمصدَّق موجِبٌ للإيمان بما يصدِّقه والكفرَ بالثاني مقتضٍ للكفر بالأول قطعاً ولا ريب في أن المحذورَ عندهم إنما هو لزومُ الكفرِ بالتوراة نفسِها لا ببعضها وذلك إنما يتحقق بجعل القرآنِ مصدِّقاً لكلها وإن كان مناطُ التصديقِ بعضاً منها ضرورةَ أن مصدِّقَ البعضِ مصدَّقٌ للكل المتضمِّن له حتماً وإما إليهم وإلى غيرهم قاطبةً وهو الأظهر وأياما كان فتفصيلُ ما فُصّل لمّا كان من مظانّ إقلاعِ كل من الفريقين عمَّا كانوا عليه من الضلالة عقّب ذلك بالأمر بالمبادرة إلى سلوك محَجّة الهدايةِ مشفوعاً بالوعيد الشديدِ على المخالفة فقيل
{آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} من القرآن عبّر عنه بالموصولِ تشريفاً له بما في حيز الصلةِ وتحقيقاً لكونه من عنده عز وجل
{مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ} من التوراة عبر عنها بذلك للإيذان بكمالِ وقوفِهم على حقيقة الحالِ فإن المعيَّةَ المستدعية لدوام تلاوتها وتكرير المراجعةِ إليها من موجبات العثور على ما في تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكون القرآنِ مصدِّقاً لها ومعنى تصديقِه إياها نزولُه حسبما نُعِتَ لهم فيها أو كونُه موافقاً لها في القصص والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدلِ بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وأما ما يتراءى من مخالفته لها في جزئيات الأحكامِ بسبب تفاوتِ الأممِ والأعصارِ فليست بمخالفة في الحقيقة بل هي عينُ الموافقة من حيث إن كلا منها حق بالإضافة إلى عصره متضمِّنٌ للحكمة التي عليها يدورُ فَلَكُ التشريعِ حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدّمَ قطعاً ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي
{مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} متعلقٌ بالأمر مفيدٌ للمسارعة إلى الامتثال به والجِدِّ في الانتهاء عن مخالفته بما فيه من الوعيد الشديدِ الواردِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه حيث لم يعلَّقْ وقوعُ المتوعَّدِ به بالمخالفة ولم يصرَّحْ بوقوعه عندها تنبيهاً على أن ذلك أمرٌ محقَّقٌ غنيَ عنِ الإخبارِ بهِ وأنه على شرف الوقوعِ متوجِّهٌ نحوَ المخاطَبين وفي تنكير الوجوهِ المفيدِ للتكثير تهويلٌ للخطب وفي إبهامها لطف بالمخاطبين وحسن استدعاء لهم إلى الإيمان وأصلُ الطمسِ محوُ الآثارِ وإزالةُ الأعلام أي آمنوا من قبل أن نمحُوَ تخطيطَ صورِها ونزيلَ آثارَها قال ابن عباس رضي الله عنهما نجعلها كخُفّ البعيرِ أو كحافر الدابةِ وقال قتادة والضحاك نُعْميها كقوله تعالى {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} وقيل نجعلها منابتَ الشعرِ كوجوه القِردة
{فَنَرُدَّهَا على أدبارها} فنجعلَها على هيئة أدبارِها وأقفائِها مطموسةً مثلَها فالفاءُ للتسبيب أو نُنَكّسَها بعد الطمسِ فنردَّها إلى موضع

(2/185)


الأقفاءِ والأقفاءَ إلى موضعها وقد اكتُفيَ بذكر أشدِّهما فالفاءُ للتعقيب وقيل المرادُ بالوجوه الوجهاءُ على أن الطمْسَ بمعنى مُطلقِ التغييرِ أيْ مِنْ قبلِ أنْ نغيِّرَ أحوالَ وُجَهائِهم فنسلُبَ إقبالَهم ووجاهتَهم ونكسُوَهم صَغاراً وإدباراً أو نردَّهم من حيث جاءوا منه وهي أذرِعاتُ الشام فالمرادُ بذلك إجلاءُ بني النضيرِ ولا يخفى أنه لا يساعدُه مقامُ تشديدِ الوعيدِ وتعميمِ التهديدِ للجميع فالوجهُ ما سبق من الوجوه وقد اختُلف في أن الوعيدَ هل كان بوقوعه في الدنيا أو في الآخرة فقيل كان بوقوعه في الدنيا ويؤيده ما رُوي أنَّ عبدَ الله ابن سلامٍ رضي الله تعالى عنه لما قدِم من الشام وقد سمع هذه الآيةَ أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتيَ أهلَه فأسلم وقال يا رسولَ الله ما كنت أرى أن أصِلَ إليك حتى يتحوّلَ وجهي إلى قفايَ وفي رواية جاء إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ويدُه على وجهه وأسلم وقال ما قال وكذا ما رُوي أن عمرَ رضي الله عنه قرأ هذه الآيةَ على كعب الأحبارِ فقال كعبٌ يا رب آمنتُ يا ربِّ أسلمتُ مخافةَ أن يصيبَه وعيدُها ثم اختلفوا فقيل إنه مُنتَظَرٌ بعْدُ ولابد من طمسٍ في اليهود ومسخٍ وهو قولُ المبرِّد وفيه أن انصرافَ العذابِ الموعودِ عن أوائلهم وهم الذين باشروا أسبابَ نزولِه وموجباتِ حلولِه حيث شاهدوا شواهد النبوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذبوها وفي التوراة فحرّفوها وأصرُّوا على الكفر والضلالةِ وتعلَّقَ بهم خِطابُ المشافهةِ بالوعيد ثم نزولَه على من وُجد بعد مئاتٍ من السنين من أعقابهم الضالّين بإضلالهم العالَمين بما مهّدوا من قوانين الغِوايةِ بعيدٌ من حكمة الله تعالى العزيزِ الحكيم وقيل إن وقوعَه كان مشروطاً بعدمِ الإيمانِ وقد آمن من أحبارهم المذكورانِ وأضرابُهما فلم يقعْ وفيه أن إسلامَ بعضِهم إن لم يكن سبباً لتأكد نزولِ العذابِ على الباقين لتشديدهم النكيرَ والعِنادَ بعد ازديادِ الحقِّ وضوحاً وقيامِ الحجةِ عليهم بشهادة أماثلِهم العدولِ فلا أقل من أن لا يكونَ سبباً لرفعه عنهم وقيل كان الوعيدُ بوقوع أحدِ الأمرين كما ينطِقُ به قوله تعالى
{أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت} فإن لم يقعِ الأمرُ الأولُ فلا نزاعَ في وقوع الثاني كيف لا وهم ملعونون بكل لسانٍ في كل زمانٍ وتفسيرُ اللعن بالمسخ ليس بمقرَّرٍ الْبتّةَ وأنت خبير بأن المتبادرَ من اللعن المشبَه بلعن أصحابِ السبت هو المسخُ وليس في عطفه على الطمس والردِّ على الأدبارِ شائبةُ دلالةٍ على عدم إرادةِ المسخِ ضرورة أنه تغييرٌ مغايرٌ لما عُطف عليهِ عَلى أنَّ المتوعَّدَ به لا بد أن يكون أمراً حادثاً مترتباً على الوعيد محذوراً عندهم ليكون مَزْجرةً عن مخالفة الأمرِ ولم يُعهَدْ أنه وقع عليهم لعنٌ بهذا الوصف إنما الواقعُ عليهم ما تداولته الألسنةُ من اللعن المستمرِّ الذي ألِفُوه وهو بمعزل من صلاحية أن يكونَ حكماً لهذا الوعيدِ أو مزجرةً للعنيد وقيل إنما كان الوعيدُ بوقوع ما ذُكر في الآخرة عند الحشرِ وسيقع فيها لا محالةَ أحدُ الأمرين أو كلاهما على سبيل التوزيعِ وأمَّا ما رُوِيَ عن عبدُ اللَّه بنِ سَلاَم وكعبٍ فمبنيٌّ على الاحتياط اللائقِ بشأنهما والحق أن النظمَ الكريمَ ليس بنص في أحد الوجهين بل المتبادرُ منه بحسب المقامِ هو الأولُ لأنه أدخلُ في الزجر وعليه مبنيٌّ ما روي عن الحَبْرين لكن لمّا لم يتضِحْ وقوعُه عُلم أن المرادَ هو الثاني والله تعالى أعلم وأياً ما كان فلعل السرَّ في تخصيصهم بهذه العقوبةِ من بين العقوباتِ مراعاةُ المشاكلةِ بينهما وبين ما أوجبها من جنايتهم التي هي التحريفُ والتغييرُ والله هو العليمُ الخبير
{وَكَانَ أَمْرُ الله} أي ما أمر به كائناً ما كانَ أو أمرُه بإيقاع شئ ما من الأشياء
{مَفْعُولاً} نافذاً كائناً لا محالة فيدخُل فيه ما أُوعِدْتم به

(2/186)


48 - 49 النساء دخولاً أولياً فالجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما سبق ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضعَ الضميرِ بطريق الالتفاتِ لتربيةِ المهابةِ وتعليلِ الحكمِ وتقوية ما في الاعتراض من الاستقلال

(2/187)


إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)

{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من الوعيد وتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأمر بالإيمان ببيان استحالةِ المغفرةِ بدونه فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من التحريف ويطمَعون في المغفرة كما في قوله تعالى {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى} أي على التحريف {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} والمرادُ بالشرك مُطلقُ الكفرِ المنتظمِ لكفر اليهودِ انتظاماً أولياً فإن الشرْعَ قد نص على إشراك أهلِ الكتابِ قاطبةً وقضى بخلود أصنافِ الكفرةِ في النار ونزولُه في حق اليهود كما قال مقاتل وهو الأنسبُ بسياقِ النظمِ الكريم وسياقِه لا يقتضي اختصاصَه بكفرهم بل يكفي اندراجُه فيه قطعاً بل لا وجهَ له أصلا لاقتضائه جوازَ مغفرةِ ما دون كفرِهم في الشدة من أنواع الكفرِ أي لا يغفِرُ الكفرَ لمن اتصف به بلا توبةٍ وإيمانٍ لأن الحكمةَ التشريعيةَ مقتضيةٌ لسدّ بابِ الكفرِ وجوازُ مغفرتِه بلا إيمان مما يؤدّي إلى فتحه ولأن ظلماتِ الكفرِ والمعاصي إنما يسترها نورُ الإيمانِ فمن لم يكن له إيمانٌ لم يغفَرْ له شيءٌ من الكفر والمعاصي
{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} عطفٌ على خبر إن وذلك إشارةٌ إلى الشرك وما فيه من معنى البُعدِ مع قُربه في الذكر للإيذان ببُعدِ درجتِه وكونِه في أقصى مراتبِ القُبحِ أي ويغفر ما دونه في القبح من المعاصي صغيرةً كانت أو كبيرةً تفضلاً من لدنه وإحساناً من غير توبةٍ عنها لكن لا لكل أحدٍ بل
{لِمَن يَشَاء} أي لِمَن يَشَاء أنْ يغفرَ له ممن اتصف به فقط لا بما فوقه فإن مغفرتَهما لمن اتصف بهما سواءٌ في استحالة الدخولِ تحت المشيئةِ المبْنيةِ على الحكمةِ التشريعيةِ فإن اختصاصَ مغفرةِ المعاصي من غير توبةٍ بأهل الإيمان من الترغيبِ فيه والزجْرِ عن الكفر ومن علق المشيئةَ بكلا الفعلين وجعل الموصولَ الأولَ عبارةً عمن لم يتُبْ والثاني عمن تاب فقد ضل سواء الصواب كيف لا وإن مساقَ النظمِ الكريمِ لإظهار كمالِ عِظَمِ جريمةِ الكفرِ وامتيازِه عن سائر المعاصي ببيان استحالةِ مغفرتِه وجوازِ مغفرتِها فلو كان الجوازُ على تقدير التوبةِ لم يظهَرْ بينهما فرقٌ للإجماع على مغفرتهما بالتوبة ولم يحصُلْ ما هو المقصودُ من الزجر البليغِ عن الكفر والطغيانِ والحملِ على التوبة والإيمان
{وَمَن يُشْرِكْ بالله} إظهارُ الاسمِ الجليل في موضعِ الإضمارِ لزيادةِ تقبيحِ الإشراكِ وتفظيعِ حالِ من يتصف به
{فقد افترى إثما عظيما} أي افترى واختلق مرتكباً إثماً لا يقادَر قدْرُه ويُستحقر دونه جميعُ الآثامِ فلا تتعلق به المغفرةُ قطعاً

(2/187)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} تعجيبٌ من حالهم المنافيةِ لِما هم عليه من الكفر والطغيانِ والمرادُ بهم اليهودُ الذين يقولونَ نحنُ أبناءُ الله وأحبّاؤُه وقيل ناسٌ من اليهود جاءوا بأطفالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا هل على هؤلاء ذنب فقال صلى الله عليه وسلم لا قالوا ما نحن إلا كهيئتهم ما عمِلنا بالنهار كفر

(2/187)


50 - 51 سورة النساء عنا بالليل وما عمِلنا بالليل كُفّر عنا بالنهار أي انظُر إليهم فتعجَّبْ من ادعائهم أنهم أزكياءُ عندِ الله تعالى معَ ما هم عليه من الكفر والإثمِ العظيمِ أو من ادعائهم التكفيرَ مع استحالة أن يُغفرَ للكافر شيءٌ من كفره أو معاصيه وفيه تحذيرٌ من إعجاب المرءِ بنفسه وبعمله
{بل الله يزكى من يَشَاء} عطفٌ على مقدَّر ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنه قيل هم لا يزكونها في الحقيقة لكَذِبهم وبُطلان اعتقادِهم بل الله يزكي من يشاء تزكيتَه ممن يستأهِلُها من المرتَضَيْن من عباده المؤمنين إذ هو العليمُ الخبيرُ بما ينطوي عليه البشرُ من المحاسن والمساوي وقد وصفهم الله بما هم متصفون به من القبائح وأصلُ التزكيةِ نفيُ ما يستقبح بالفعل أو القول
{وَلاَ يُظْلَمُونَ} عطفٌ على جملةٍ قد حُذفت تعويلاً على دِلالة الحالِ عليها وإيذاناً بأنها غنيةٌ عن الذكر أي يعاقَبون بتلك الفَعلةِ القبيحةِ ولا يظلمون في ذلك العقاب
{فَتِيلاً} أي أدنى ظُلمٍ وأصغرَه وهو الخيطُ الذي في شِقّ النواةِ يُضرب به المثل في القلة والحقارة وقيل التقديرُ يثاب المزكّون ولا يُنقص من ثوابهم شيءٌ أصلاً ولا يساعده مقامُ الوعيد

(2/188)


انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)

{انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} كَيْفَ نُصب إما على التشبيه بالظرف أوبالحال على الخلاف المشهورِ بين سيبويه والأخفشِ والعاملُ يفترون وبه تتعلق على أي في أي حال أو على أي حالٍ يفترون عليه تعالى الكَذِب والمرادُ بيان شناعةِ تلك الحالِ وكمالُ فظاعتِها والجملةُ في محل النصبِ بعد نزعِ الخافض والنظر متعلق بها وهو تعجيب إثر تعجيبٌ وتنبيهٌ على أن ما ارتكبوه متضمت لأمرين عظيمين موجبين للتعجب إدعاؤُهم الاتصافَ بما هم متّصفون بنقيضه وافتراؤُهم على الله سبحانه فإن ادعاءهم الزكاء عنده تعالى متضمِّنٌ لادعائهم قبولَ الله وارتضاءَه إياهم تعالى عن ذلك علوا كبير ولكون هذا أشنعَ من الأول جُرماً وأعظمَ قبحاً لما فيه من نسبته سبحانه وتعالى إلى ما يستحيل عليه بالكلية من قَبول الكفرِ وارتضائِه لعباده ومغفرةِ كفرِ الكافرِ وسائرِ معاصيه وُجِّه النظرُ إلى كيفيته تشديداً للتشنيع وتأكيداً للتعجيب والتصريحُ بالكذب مع أن الافتراءَ لا يكون إلا كذبا لللبالغة في تقبيح حالِهم
{وكفى بِهِ} أي بافترائهم هذا من حيث هو افتراءٌ عليه تعالى مع قطع النظرِ عن مقارنته لتزكية أنفسِهم وسائرِ آثامِهم العظامِ
{إِثْماً مُّبِيناً} ظاهراً بيّناً كونه إثماً والمعنى كفى ذلك وحدَه في كونهم أشدَّ إثماً من كل كَفارٍ أثيم أو في استحقاقهم لأشدِّ العقوباتِ لما مر سرُّه وجعلُ الضميرِ لزعمهم مما لا مساغَ له لإخلاله بتهويل أمرِ الافتراءِ فتدبرْ

(2/188)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} تعجيب من حال أخرى لهم ووصفُهم بما ذكر من إيتاء النصيبِ لما مر من منافاته لما صدَر عنهم من القبائح وقولُه عز وجل
{يؤمنون بالجبت والطاغوت} اسئناف مُبينٌ لمادة التعجب مبنيٌّ على سؤال ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنَّه قيل ماذا يفعلون حين يُنظَر إليهم فقيل يؤمنون الخ والجبتُ الأصنامُ وكلُّ ما عُبد من دونِ الله تعالَى فقيل أصلُه الجِبسُ وهو الذي

(2/188)


52 - 53 النساء لاخير عنده فأبدل السين تاءً وقيل الجبتُ الساحرُ بلغة الحبشة والطاغوتُ الشيطانُ قيل هو في الأصل كل ما يُطغي الإنسان روي أن حُيَيَّ بنَ أخطبَ وكعبَ بنَ الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكةَ في سبعين راكباً من اليهود ليحالفوا قريشاً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقُضوا العهدَ الذي كان بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم فقالوا أنتم أهل الكتاب وأنتم أقربُ إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا نطمئنَّ إليكم ففعلوا فهذا إيمانُهم بالجبت والطاغوتِ لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعو إبليسَ فيما فعلوا وقال أبو سفيانَ لكعبٍ إنك امرُؤٌ تقرأ الكتابَ وتعلم ونحن أُميون لا نعلم فأيُنا أهدى طريقاً نحن أم محمدٌ فقال ماذا يقول محمد قال يأمر بعباة الله وحدَه وينهي عن الشرك قال ومادينكم قالوا نحن ولاةُ البيتِ نسقى الحاج ونقرئ الضيفَ ونفُكّ العانيَ وذكروا أفعالَهم فقال أنتم أهدى سبيلاً وذلك قولُه تعالى
{وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي لأجلهم وفي حقّهم
{هَؤُلاء} يعنونهم
{أهدى من الذين آمنوا سبيلا} أي أقومُ ديناً وأرشدُ طريقة وإبرادهم بعنوان الإيمانِ ليس من قِبلَ القائلين بل من جهة الله تعالى تعريفاً لهم بالوصف الجميلِ وتخطئةً لمن رجّح عليهم المتصفين بأقبح القبائح

(2/189)


أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)

{أولئك} غشارة إلى القائلين وما فيه من معنى البعد مع قربهم في الذكر للإشعار ببُعد منزلِتهم في الضلال وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى
{الذين لَعَنَهُمُ الله} أيْ أبعدهم عن رحمته وطردهم والجملةُ مستأنفةٌ لبيان حالِهم وإظهارِ مصيرِهم ومآلِهم
{وَمَن يَلْعَنِ الله} أي يُبعده عن رحمته
{فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} يدفع عنه العذابَ دنيويا كان أو أخرويا لابشفاعة ولا بغيرها وفيه تنصيصٌ على حِرمانهم مما طلبوا من قريش وفي كلمة لن وتوجيهِ الخطابِ إلى كل أحد ممن يتسنى له الخطاب وتوحيد النصر مُنكّراً والتعبيرِ عن عدمه بعدم الوجدان المنبئ عن سبق الطلبِ مُسنداً إلى المخاطبَ العامِّ من الدِلالة على حِرمانهم الأبديِّ بالكلية ما لا يخفى

(2/189)


أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)

{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك} شروعٌ في تفصيلِ بعضٍ آخرَ من قبائحهم وأمْ منقطعةٌ وما فيها من بل للإضراب والانتقالِ من ذمهم بتزكيتهم أنفسَهم وغيرِها مما حُكي عنهم إلى ذمهم بادّعائهم نصيباً من الملك وبُخلِهم المفرِطِ وشحهم البالغ والهزه لإنكار أن يكون لهم ما يدّعونه وإبطالِ ما زعموا أن المُلك سيصير إليهم وقولُه تعالى
{فَإذاَ لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً} بيانٌ لعدم استحقاقِهم له بل لاستحقاقهم الحِرمانَ منه بسب أنهم من البخل والدناءةِ بحيث لو أوتوا شيئاً من ذلك لما أعطَوا الناسَ منه أقلَّ قليلٍ ومن حق مَنْ أوتي المُلكَ أن يُؤثِرَ الغيرَ بشئ منه فالفاءُ للسببية الجزائيةِ لشرط محذوفٍ أي إن جُعل لهم نصيبٌ منه فإذن لا يؤتون الناسَ مقدار ونقير وهو ما في ظهر النواة من النقرة ويضرب به المثل في القلة والحقارةِ وهذا هو البيانُ الكاشفُ عن كُنه حالِهم وإذا كان شأنُهم كذلك وهم مُلوكٌ فما ظنُّك بهم وهو أذلاءُ متفاقرون ويجوز أن لا تكون الهمزةُ لإنكار الوقوعِ بل لإنكار الواقعِ والتوبيخِ عليه أي لعدِّه مُنكراً غيرَ لائقٍ بالوقوع على أن الفاءَ للعطف والإنكارُ متوجهٌ إلى مجموع المعطوفَين على معنى ألهمْ نصيبٌ وافرٌ من الملك حيث

(2/189)


54 - 55 النساء كانوا أصحابَ أموالٍ وبساتينَ وقصورٍ مَشيدةٍ كالملوك فلا يؤتون الناسَ مع ذلك نقيراً كما تقول لغنيَ لا يراعي أباه ألك هذا القدرُ من المال فلا تُنفقُ على أبيك شيئاً وفائدةُ إذن تأكيدُ الإنكارِ والتوبيخِ حيث يجعلون ثبوتَ النصيبِ سبباً للمنع مع كونِه سبباً للإعطاء وهي مُلغاةٌ عن العمل كأنه قيل فلا يؤتون الناس إذن وقرئ فإذن لا يؤتون بالنصيب على إعمالها

(2/190)


أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)

{أمْ يَحْسُدُونَ الناس} منقطعةٌ أيضاً مفيدةٌ للانتقال من توبيخهم بما سبق إلى توبيخهم بالحسد الذي هو شر الرذائل وأقبحها لاسيما على ما هم بمعزل من استحقاقه واللام في الناس للعهد والإشارةِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وحملُه على الجنس إيذانا بحيازتهم الكمالات البشريةِ قاطبةً فكأنهم هم الناس لا غيره لا يلائمه ذكرُ حديثِ آلِ إبراهيمَ فإن ذلك لتذكير ما بينَ الفريقينِ من العلامة الموجبةِ لاشتراكهما في استحقاق الفضل والهزة لإنكار الواقعِ واستقباحِه فإنهم كانوا يطمعون أن يكون النبيُّ الموعودُ منهم فلما خصَّ الله تعالى بتلك الكرامةِ غيرَهم حسدوهم أي بل أيحسُدونهم
{على مَا آتاهم الله من فضله} يعني النبوةَ والكتابَ وازديادَ العزِّ والنصرِ يوماً فيوماً وقوله تعالى تعالى
{فقد آتينا} تعليلٌ للإنكار والاستقباحِ وإلزامٌ لهم بما هومسلم عندهم وحسمٌ لمادة حسَدِهم واستبعادِهم المبنيَّيْن على توهّم عدمِ استحقاقِ المحسودِ لِما أوتيَ من الفضل ببيان استحقاقِه له بطريق الوراثةِ كابراً عن كابر وإجراءُ الكلامِ على سَنن الكبرياءِ بطريق الالتفاتِ لإظهار كمالِ العنايةِ بالأمر والمعنى أن حسدَهم المذكورَ في غاية القبحِ والبُطلانِ فإنا قد آتينا من قبلِ هذا
{آل إبراهيم} الذين هم أسلافُ محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم أو أبناءُ أعمامِه
{الكتاب والحكمة} أى النبوة
{وآتيناهم} مع ذلك
{مُّلْكاً عَظِيماً} لا يقادَر قدرُه فكيف يستبعدون نوبته صلى الله عليه وسلم ويحسُدونه على إيتائها وتكريرُ الإيتاء لما يقيتضيه مقامُ التفضيلِ مع الإشعار بما بين النبوةِ والمُلكِ من المغايرة فإن أريد به الإيتاءُ بالذات فالمرادُ بآل إبراهيمَ أنبياؤهم خاصة والضميرُ المنصوبُ في الفعل الثاني لبعضهم إما بحذف المضافِ أو بطريق الاستخدامِ لما أن المُلكَ لم يُؤتَ كلَّهم قال ابن عباس رضي الله عنهما الملكُ في آل إبراهيمَ مُلكُ يوسفَ وداودَ وسليمانَ عليهم السلام وإن أريد به ما يعُمّه وغيرَه من الإيتاء بالواسطةِ وهو اللائقُ بالمقام والأوفقُ لما قبله من نسبة إيتاءِ الفضلِ إلى الناس فالمرادُ بآل إبراهيمَ كلُّهم فإن تشريفَ البعضِ بما ذُكر من إيتاء النبوةِ والمُلكِ تشريفٌ للكل لاعتنائهم بآثاره واقتباسِهم من أنواره وفي تفصيل ما أُوتوه وتكريرِ الفعلِ ووصفِ المُلكِ بالعظم وتنكيره التفخيمى منن تأكيد الإلزامِ وتشديدِ الإنكارِ مالا يخفى هذا هو المتبادرُ من النظم الكريمِ وإليه جنحَ جمهورُ أئمةِ التفسيرِ لكن الظاهرَ حينئذٍ أنْ يكونَ قولُه تعالى

(2/190)


فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)

{فمنهم من آمن بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} حكايةً لما صدر عن أسلافهم عقيب وقع المحكيِّ من غير أن يكون له دخل في الإلزام الذي سيق له الكلامُ أي فمن جنس

(2/190)


56 - النساء هؤلاءِ الحاسدين وآبائِهم مَن آمن بما أوتي آلُ إبراهيمَ ومنهم من أعرضَ عنه وأما جعلُ الضميرين لما ذُكر من حديث آلِ إبراهيمَ فيستدعي تراخيَ الآيةِ الكريمةِ عما قبلها نزولاً كيف لا وحكايةُ إيمانهم بالحديث المذكور وإعراضهم عنه بصيفة الماضي إنما يُتصوّر بعد وقوع الإيمانِ والإعراضِ المتأخِّرَين عن سماع الحديثِ المتأخرِ عن نزوله وكذا جعلُهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إذِ الظاهرُ بيانُ حالِهم بعد هذا الإلزامِ وحملُه على حكاية حاهلم السابقة لاتساعده الفاءُ المرتبةُ لما بعدها على ما قبلها ولا يبعُد كلَّ البعدِ أن تكون الهمزةُ لتقرير حسدِهم وتوبيخِهم بذلك ويكونَ قولُه تعالة فقد آتينا الآية تعليلاً له بدِلالته على إعراضهم عما أوتي آلُ إبراهيم وإن لم يُذكرْ كونُه بطريق الحسدِ كأنه قيل بل أيحسُدون الناسَ على ما آتاهم الله من فضله ولا يؤمنون به وذلك دِيدنُهم المستمرُّ فإنا قد آتينا آلَ إبراهيمَ ما آتينا فمنهم أي من جنسهم مَنْ آمن بما آتيناهم ومنهم من أعرض عنه ولم يؤمن به والله سبحانه أعلمُ وفيه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم
{وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} ناراً مسعرةً يعذّبون بها والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها

(2/191)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)

{إن الذين كفروا بآياتنا} إن أريد بهم الذين كفروا برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم فالمرادُ بالآيات إما القرآنُ أوما يعُمّ كلَّه وبعضَه أو ما يعم سائرَ معجزاتِه إيضاً وإن أريد بهم الجنسُ المتناولُ لهم تناولاً أولياً فالمرادُ بالآيات ما يعم المذكوراتِ وسائرَ الشواهدِ التي أوتيَها الأنبياءُ عليهم السلام
{سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً} قال سيبويهِ سوف كلمةٌ تُذكر للتهديد والوعيدِ وينوبُ عنها السينُ وقد يُذكران في الوعد فيفيدانِ التأكيدِ أي نُدخلهم ناراً عظيمةً هائلة
{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} أي احترقت وكلما ظرفُ زمانٍ والعامل فيه
{بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا} من قَبيل بدّله بخوفه أمناً لا من قبيل يبدل الله سئاتهم حسناتٍ أي أعطيناهم مكانَ كلِّ جلدٍ محترقٍ عند احتراقِه جلداً جديداً مغايراً للمحترق صورةً وإن كان عينَه مادةً بأن يُزالَ عنه الاحتراقُ ليعودَ إحساسُه للعذاب والجملةُ في محل النصب على أنها حالٌ من ضمير نُصليهم وقد جوز كونها لناراً على حذف العائدِ أي كلما نضِجت فيها جلودُهم فمعنى قولِه تعالى
{ليذوقوا العذاب} ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك لللعزيز أعزَّك الله وقيل يخلُق مكانَه جلداً آخرَ والعذابُ للنفس العاصيةِ لا لآلة إدراكِها قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يُبدَّلون جلوداً بيضاءَ كأمثال القراطيسِ وروي أن هذه الآيةَ قُرئت عند عمرَ رضي الله تعالى عنه فقال للقارئ أعِدْها فأعادها وكان عنده معاذُ بنُ جبلٍ فقال معاذٌ عندي تفسيرُها يُبَدّل في ساعةٍ مائةَ مرةٍ فقال عمرُ رضي الله عنه هكذا سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول وقال الحسنُ تأكلُهم النارُ كلَّ يومٍ سبعين ألفِ مرةٍ كلما أكلتْهم قيل لهم عودوا فيعودون كما كانوا ورَوَى أبُو هُريرةَ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أن بين منكِبَي الكافرِ مسيرةَ ثلاثةِ أيامٍ للراكبِ المسرعِ وعن أبي هريرة أنه قال قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ضِرْسُ الكافرِ أو نابُ الكافرمثل أحُدٍ وغِلَظُ جلدِه مسيرةُ ثلاثةِ أيامٍ والتعبيرُ عن إدراك العذابِ بالذوق ليس لبيان قلته بل

(2/191)


57 - 58 النساء لبيان أن إحساسَهم بالعذاب في كل مرةٍ كإحساس الذائقِ بالمذوق من حيثُ إنَّه لا يدخُله نقصانٌ لدوام الملابَسةِ إو للإشعار بمرارة العذابِ مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيرِه من حيث إن القوةَ الذائقة أشد الحواس تأثيرا أو على سِرايته للباطن ولعل السرَّ في تبديل الجلودِ مع قدرتِه تعالى على إبقاء إدراكِ العذابِ وذوقِه بحاله مع الاحتراق ومع إبقاء أبدانِهم على حالها مَصونةً عن الاحتراق أن النفسَ ربما تتوهّم زوالَ الإدراكِ بالاحتراق ولا تستبعد كلَّ الاستبعادِ أن تكون مصونةً عن التألم والعذابِ بصيانة بدنِها عن الاحتراق
{إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً} لا يمتنع عليه ما يريده ولا يمانعه أحدٌ
{حَكِيماً} يعاقِب مَنْ يعاقبه على وَفق حكمتِه والجملةُ تعليلٌ لما قبلها من الإصلاء والتبديلِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ بطريق الالتفاتِ لتهويل الأمرِ وتربية المهابةِ وتعليلِ الحكم فإن عنوانَ الألوهيةِ مناطٌ لجميع صفاتِ كمالِه تعالى

(2/192)


وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)

{والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات} عُقِّب بيانُ سوء حال الكفرة بيان ببيان حُسنِ حالِ المؤمنين تكميلاً لِمَساءة الأولين ومسرَّةِ الآخَرين أي الذين آمنوا بآياتنا وعمِلوا بمقتضياتها وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى
{سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} وقرئ سيُدخِلُهم بالياء رداً على الاسم الجليلِ وفي السين تأكيدٌ للوعد
{خالدين فِيهَا أَبَداً} حالٌ مقدّرةٌ من الضميرِ المنصوبِ في سندخلهم وقوله عز وعلا
{لَّهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} أي مما في نساء الدنيا من الأحوال المستقذَرةِ البدنية والأدناسِ الطبيعية في محل النصب على أنه حال من جناتٍ أو حالٌ ثانيةٌ من الضمير المنصوبِ أو على أنه صفةٌ لجناتٍ بعد صفةٍ أو في محلِ الرفعِ على أنه خبرٌ للموصول بعد خبرٍ
{وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} أي فيْناناً لا جَوْبَ فيه دائماً لا تنسَخُه شمسٌ اللهم ارزُقنا ذلك بفضلك وكرمِك يا أرحمَ الراحمين والظليلُ صفةٌ مشتقةٌ من لفظ الظلِّ للتأكيد كما في ليلٌ ألْيلُ ويوم أيوم وقرئ يُدخلهم بالياء وهو عطفٌ على سيُدخِلهم لا على أنه غيرُ الإدخالِ الأولِ بالذات بل بالعنوان كما في قوله تعالى {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}

(2/192)


إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)

{إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا} في تصدير الكلامِ بكلمة التحقيقِ وإظهارِ الاسمِ الجليلِ وإيرادِ الأمرِ على صورة الإخبارِ من الفخامة وتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ به والدِلالةِ على الاعتناء بشأنه ما لا مزيدَ عليه وهو خطابٌ يعُمّ حكمُه المكلفين قاطبة كما أن الأماناتِ تعمُّ جميعَ الحقوقِ المتعلقةِ بذمهم من حقوق الله تعالى وحقوقِ العبادِ سواءٌ كانت فعليةً أو قوليةً إو اعتقاديةً وإن ورد في شأن عثمانَ بنِ طلحة ابن عبدِ الدارِ سادنِ الكعبةِ المعظمةِ وذلكَ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حين دخل مكةَ يوم الفتح أغلق عثمانُ رضيَ الله عنْهُ بابَ الكعبةِ وصعِدَ السطحَ وأبى أن يدفعَ المِفتاحَ إليه وقال لو علمت أنه رسولُ الله لم

(2/192)


59 - النساء أمنعْه فلوى عليُّ بنُ أبي طالبٍ يدَه وأخذه منه وفتح ودخل النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباسُ أن يُعطِيَه المفتاحَ ويجمعَ له السِقاية والسِدانة فنزلت فأمر علياً أن يُردَّه إلى عثمانَ ويعتذرَ إليه فقال عثمان لعليّ أكرهتَ وآذيتَ ثم جئت ترفو فقال لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآناً فقرأ عليه الآية فقال عثمانُ أشهدُ أَن لاَّ إلَه إِلاَّ الله وأشهدُ أنَّ محمداً رسول الله فهبَط جبريلُ عليه الصلاة والسلام وأخبر رسمل الله صلى الله عليه وسلم أن السِّدانةَ في أولاد عثمان أبدا وقرئ الأمانةَ على التوحيد والمرادُ الجنسُ لا المعهودُ وقيل هو أمرٌ للولاة بأداء الحقوقِ المتعلقةِ بذمهم من المناصب وغيرها إلى مستحقها كما أن قوله تعالى
{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} أمرٌ لهم بإيصال الحقوقِ المتعلقةِ بذمم الغيرِ إلى أصحابها وحيث كان المأمورُ به ههنا مختصاً بوقت المرافعةِ قُيِّد به بخلاف المأمورِ به أو لا فإنه لما لم يتعلَّقْ بوقت دون وقت أُطلق إطلاقاً فقوله تعالى أَن تَحْكُمُواْ عطفٌ على أن تؤدوا قد فُصِل بين العاطفِ والمعطوفِ بالظرف المعمولِ له عند الكوفيين والمقدرُ يدل هو عليه عند البصريين لأن مَا بعد إنَّ لا يعملُ فيما قبلَها عندهم أي وإن تحكموا إذا حكمتم الخ وقولُه تعالى بالعدل متعلقٌ بتحكموا أو بمقدرٍ وقع حالاً من فاعلِه أيْ ملتبسينَ بالعدل والإنصاف {إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِه} مَا إما منصوبةٌ موصوفةٌ بيعظكم به أو مرفوعةٌ موصولةٌ به كأنه قيل نعم شيئاً يعظكم به أو نعم الشئ الذي يعظكم به والمخصوصُ بالمدح محذوفٌ أي نِعِمّاً يعطكم به ذلك وهو المأمورُ به من أداء الأماناتِ والعدلِ في الحكومات وقرىء نَعِمّاً بفتح النون والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها متضمنه لمزبد لطف بالمخاطبين وحسن استدعاء لهم إلى الامتثال بالأمر وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابة {إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً} لأقوالكم {بَصِيراً} بأفعالكم فهو وعدٌ ووعيدٌ وإظهارُ الجلالةِ لما ذُكر آنفاً فإن فيه تأكيداً لكلَ من الوعد والوعيد

(2/193)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} بعد ما أمر الولاةَ بطريق العمومِ أو بطريق الخصوصِ بأداء الأماناتِ والعدلِ في الحكومات أمرَ سائرَ الناسِ بطاعتهم لكنْ لا مطلقاً بل في ضمن طاعة الله تعالى وطاعة رسول اله صلى الله عليه وسلم حيث قيل
{أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الامر مِنْكُمْ} وهم أمراءُ الحقِّ وولاةُ العدلِ كالخلفاء الراشدين ومن يقتدي بهم من المهتدين وأما أمراءُ الجَوْرِ فبمعزل من استحقاق العطفِ على الله تعالى والرسولِ صلى الله عليه وسلم في وجوب الطاعةِ لهم وقيل هم علماءُ الشرعِ لقوله تعالى {وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرسول وإلى أولى الامر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ويأباهُ قولُه تعالى
{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى الله} إذ ليس للمقلد أن ينازعَ المجتهدَ في حكمه إلا أن يجعل الخطاب لأولي الأمر بطريق الالتفاتِ وفيه بعد وتصدير الشرطية بالفاء لترتبها على ما قبلها فإن بيانَ حكمِ طاعةِ أولي الأمرِ عند موافقتِها لطاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يستدعي بيانَ حكمِها عند المخالفةِ أي إن اختلفتم أنتم وأولوا الأمرِ منكم في أمرٍ من أمورِ الدِّين فراجعوا فيه إلى كتاب الله
{والرسول} أي إلى سنته وقد استدل

(2/193)


60 - النساء به منكرو القياسِ وهو في الحقيقة دليلٌ على حجيته كيف لاورد المختلَفِ فيه إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناءِ عليه وهو المَعنيُّ بالقياس ويؤيده الأمرُ به بعد الأمرِ بطاعة الله تعالى وبطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يدل على أن الأحكامَ ثلاثةٌ ثابتٌ بالكتاب وثابتٌ بالسنة وثابتٌ بالرد إليهما بالقياس
{إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر} متعلقٌ بالأمر الأخيرِ الواردِ في محل النزاعِ إذ هو المحتاجُ إلى التحذير من المخالفة وجوابُ الشرطِ محذوفٌ عند جمهورِ البصريين ثقةً بدِلالة المذكورِ عليهِ أيْ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليومِ الآخرِ فردوه الخ فإن الإيمانَ بهما يوجب ذلك أما الإيمانُ بالله تعالى فظاهرٌ وأما الإيمانُ باليوم الآخرِ فلما فيه من العقاب على المخالفة
{ذلك} أي الرد المأمورُ به
{خَيْرٌ} لكم وأصلح
{وَأَحْسَنُ} في نفسه
{تَأْوِيلاً} أي عاقبةً ومآلاً وتقديمُ خيْريّتِه لهم على أحسنيته في نفسه لما مر من تعلق أنظارِهم بما ينفعهم والمرادُ بيانُ اتصافِه في نفسه بالخيرية الكاملة في حد ذاتِه من غير اعتبار فضلِه على شئ يشاركه في أصل الخيريةِ والحسن كما ينبئ عنه التحذيرُ السابق

(2/194)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يزعمون أنهم آمنوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} تلوينٌ للخطابِ وتوجيهٌ له إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تعجيباً له من حال الذين يخالفون مامر من الأمر المحتومِ ولا يطيعونالله ولا رسولَه ووصفُهم بادعاء الإيمانِ بالقرآن وبما أنزل من قبله أعني التوراةَ لتأكيد التعجيبِ وتشديدِ التوبيخِ والاستقباح ببيان كمالِ المبايَنةِ بين دعواهم وبين ما صدر عنهم وقرئ الفعلانِ على البناء للفاعل وقوله عز وجل {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت} استئنافٌ سيق لبيان محلِّ التعجيبِ مبنيٌّ على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنَّه قيلَ ماذَا يفعلونَ فقيل يريدون الخ روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ منافقاً خاصَم يهودياً فدعاه اليهوديُّ إلى رسول اله صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافِقُ إلى كعبِ بنِ الأشرفِ ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودى فلم يرض به المنافق فدعاه إلى عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه فقال اليهودى قضى لى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرضى بقضائه فقال عمرُ للمنافق أهكذا قال نعم فقال عمرُ مكانَكما حتى أخرُجَ إليكما فدخل فاشتمل على سيفه ثم خرج فضربَ به عُنقَ المنافق حتى بَرَد ثم قال هكذا أقضي لمن لم يرضَ بقضاء الله وقضاء رسولِه فنزلت فهبط جبريل عليه الصلاة والسلام وقال إن عمرَ فرَّق بين الحقِّ والباطلِ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت الفاروقُ فالطاغوتُ كعبُ بنُ الأشرفِ سُمِّيَ به لإفراطه في الطغيان وعداوةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على التشبيه بالشيطان والتسميةِ باسمه أو جُعل اختيارُ التحاكمِ إلى غير النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم على التحاكم إليه تحاكماً إلى الشيطان وقال الضحاك المرادُ بالطاغوت كَهَنةُ اليهودِ وسَحَرتُهم وعن الشعبي أن المنافقَ دعا خصمَه إلى كاهن في جُهَينةَ فتحاكما إليه وعن السدي أن الحادثةَ وقعت في قتيلٍ بين بني قُريظةَ والنَّضِير فتحاكم المسلمون من الفريقين إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وأبى المنافقون منهما إلا التحاكمَ إلى أبي بُرْدةَ الكاهنِ الأسلميِّ فتحاكموا إليه فيكون الاقتصار حينئذ

(2/194)


61 - 62 النساء في معرِض التعجيبِ والاستقباحِ على ذِكر إرادةِ التحاكمِ دون نفسِه مع وقوعِه أيضاً للتنبيه على أن إرادتَه مِمَّا يُقْضَى منه العجَبَ ولا ينبغي أن يدخُلَ تحت الوقوعِ فما ظنُّك بنفسه وهذا أنسبُ بوصف المنافقين بادّعاء الإيمانِ بالتوراة فإنه كما يقتضي كونَهم من منافقي اليهودِ يقتضي كون ماصدر عنهم من التحاكم ظاهِرَ المنافاة لا دعاء الإيمانِ بالتوراة وليس التحاكمُ إلى كعبِ بنِ الأشرفِ بهذه المثابةِ من الظهور وأيضاً فالمتبادِرُ من قوله تعالى
{وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} كونُهم مأمورين بكفره في الكتابين وما ذاك إلا الشيطانُ وأولياؤُه المشهورون بولاته كالكَهنة ونظائرِهم لا مَنْ عداهم ممن لم يشتهِرْ بذلك وقرئ أَن يَكْفُرُواْ بِهَا على أن الطاغوتَ جمعٌ كما في قوله تعالى {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُم} والجملةُ حالٌ من ضمير يريدون مفيدةٌ لتأكيد التعجيبِ وتشديد الاستقباحِ كالوصف السابقِ وقولُه عز وجل
{وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضلالا بَعِيداً} عطفٌ على يريدون داخلٌ في حُكمِ التعجيبِ فإن اتّباعَهم لمن يريد إضلالَهم وإعراضَهم عمن يريد هدايتَهم أعجبُ من كل عجيب وضلالا وإما مصدرٌ مؤكدِّ للفعل المذكور بحذفِ الزوائدِ كَما في قولُه تعالَى وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا أي إضلالاً بعيداً وإمَّا مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعله المدلولِ عليه بالفعل المذكورِ أى فيضلوا إضلالا وأياما كان فوصفُه بالبُعد الذي هو نُعِت موصوفُه للمبالغة وقولُه تعالى

(2/195)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول} تكملةٌ لمادة التعجيبِ ببيان إعراضِهم صريحاً عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسولِه إثرَ بيانِ إعراضِهم عن ذلك في ضمن التحاكُمِ إلى الطاغوت وقرئ تعالوا بضمِّ الَّلامِ على أنَّه حذفُ لامِ الفعلِ تخفيفاً كما في قولهم ما باليت بالةً أصلُها بالِية كعافية وكما قالوا في آية أن أصلُها آيِيَة فحُذفت اللام ووقعت واوُ الجمعِ بعد اللامِ في تعالى فضُمت فصار تعالُوا ومنه قول أهلِ مكةَ للمرأة تعالِي بكسر اللام وعليه قولُ أبي فراس الحمداني ... أيا جارتى ما أنصف الدهرُ بيننا ... تعالَيْ أُقاسمْك الهمومَ تعالِي ...

{رَأَيْتَ المنافقين} إظهارُ المنافقين في مقام الإضمارِ للتسجيل عليهم بالنفاق وذمّهم به والإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ والرؤيةُ بصَريةٌ وقوله تعالى
{يَصُدُّونَ عَنكَ} حالٌ من المنافقين وقيل الرؤيةُ قلبيةٌ والجملةُ مفعولٌ ثانٍ لها والأول وهو الأنسبُ بظهور حالِهم وقولُه تعالى
{صُدُوداً} مصدرٌ مؤكدٌ لفعله أي يُعرِضون عنك إعراضاً وأيَّ إعراضٍ وقيل هو اسمٌ للمصدر الذي هو الصدُّ والأظهرُ أنه مصدرٌ لصدَّ اللازمِ والصدُّ مصدرٌ للمتعدي يقال صَدَّ عنه صُدوداً أي أعرض عنه وصدَّه عنه صداً أي منعه منه وقوله تعالى

(2/195)


فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)

{فَكَيْفَ} شروعٌ في بيان غائلة جنايتهم المَحْكيةِ ووخامةِ عاقبتِها أي كيف يكون حالُهم
{إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ} أي وقتَ إصابةِ المصيبةِ إياهم بافتضاحهم بظهور نفاقِهم
{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بسببِ ما عمِلوا من الجنايات التي من جُملتها التحاكمُ إلى الطاغوت والإعراضُ عن حكمك
{ثُمَّ جاؤوك} للاعتذار عما صنعوا

(2/195)


63 - 64 النساء من القبائح وهو عطفٌ على أصابتهم والمرادُ تفظيعُ حالهم وتهويل مادهمهم من الخطب واعتراهم من شدة الأمرِ عند إصابةِ المصيبة وعند المجئ للاعتذار
{يَحْلِفُونَ بالله} حالٌ من فاعل جاءوك
{إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الفصلَ بالوجه الحسَنِ والتوفيقِ بين الخصمين ولم نُرِدْ مخالفة لك ولاتسخطا لحكمك فلا تؤاخِذْنا بما فعلنا وهذا وعيدٌ لهم على ما فعلوا وأنهم سيندمون عليه حين لاينفعهم الندمُ ولا يغني عنهم الاعتذارُ وقيل جاء أولياءُ المنافقِ يطلُبون بدمه وقد أهدره الله تعالى فقالوا ما أردنا أي ما أراد صاحبُنا المقتولُ بالتحاكم إلى عمرَ رضي الله عنه تعالى إلا أن يُحسِن إليه ويوفِّقَ بينه وبين خصمِه

(2/196)


أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)

{أولئك} إشارةٌ إلى المنافقين وما فيه من معنى البُعد للتَّنبيهِ على بُعد منزلتِهم في الكفر والنفاقِ وهو مبتدأٌ خبرُه
{الذين يَعْلَمُ الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ} أي من فنون الشرور والفسادات المنافيةِ لما أظهروا لك من الأكاذيب
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} جوابُ شرطٍ محذوفٍ أيْ إذا كان حالُهم كذلك فأعرِضْ عن قَبول معذرتِهم وقيل عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم ولا تُظهِرْ لهم علمَك بما في بواطنهم ولاتهتك سترَهم حتى يبقَوْا على وجَلٍ وحذر
{وَعِظْهُمْ} أي ازجُرْهم عن النفاق والكيد
{وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ} في حق أنفسِهم الخبيثةِ وقلوبِهم المُنْطويةِ على الشرور التي يعلمها الله تعالى أو في أنفسهم خالياً بهم ليس معهم غيرُهم مُسارّاً بالنصيحة لأنها في السرّ أنجَعُ
{قَوْلاً بَلِيغاً} مؤثراً واصِلاً إلى كُنه المرادِ مطابقاً لما سيق له من المقصود فالظرفُ على التقديرين متعلقٌ بالأمر وقيل متعلقٌ ببليغاً على رأي من يُجيز تقديمَ معمولِ الصفةِ على الموصوف أي قل لهم قولاً بليغاً في أنفسهم مؤثراً في قلوبهم يغتنمون به اغتناما ويستشعرون منه الخوفَ استشعاراً وهو التوعُّدُ بالقتل والاستئصالِ والإيذانُ بأن ما في قلوبِهِم منَ مكنونات الشرِّ والنفاقِ غيرُ خافٍ على الله تعالى وأن ذلك مستوجِبٌ لأشد العقوباتِ وإنما هذه المكافأةُ والتأخيرُ لإظهارهم الإيمانَ والطاعةَ وإضمارِهم الكفرَ ولئن أظهروا الشقاقَ وبرَزوا بأشخاصهم من نفق النفاق لَيَمسَّنهم العذابُ أَنَّ الله شديدُ العقاب

(2/196)


وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله) كلامٌ مبتدأٌ جيءَ به تمهيداً لبيان خطئِهم في الاشتغال بسَتر جنايتِهم بالاعتذار بالأباطيل وعدمِ تلافيها بالتوبة أي وما أرسلنا رسولاً من الرسل لشئ من الأشياء إلا ليُطاعَ بسبب إذنِه تعالى في طاعته وأمرِه المرسلَ إليهم بأن يُطيعوه ويتبعوه لأنه مؤدَ عنه تعالى فطاعتُه طاعةُ الله تعالى ومعصيتُه معصيتُه تعالى مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله أو بتيسير الله تعالى وتوفيقِه في طاعته
{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} وعرضوها لعذاب على عذاب النفاقِ بترك طاعتِك والتحاكمِ إلى غيرك
{جاؤوك} من غير تأخير كما يُفصح عنه تقديمُ الظرفِ متوسِّلين بك في التنصُّل عن جنايتهم القديمةِ والحادثةِ ولم يزدادوا جنايةً على جناية بالقصد إلى سترها

(2/196)


65 - النساء بالاعتذار الباطل والإيمان الفاجر
{فاستغفروا الله} بالتوبة والإخلاصِ وبالغوا في التضرُّع إليك حتى انتصبت شفيعا لهم إلى الله تعالى واستغفرْتَ لهم وإنما قيل
{واستغفر لَهُمُ الرسول} على طريقة لالتفات تفخيماً لشأن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً لاستغفاره وتنبيهاً على أن شفاعتَه في حيِّز القَبول
{لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً} لعَلِموه مبالغاً في القبول توبتهم والتفضّل عليهم بالرحمة وإن فُسّر الوُجدانُ بالمصادفة كان قوله تعالى تَواباً حالا ورحيما بدل منه أو حالاً من الضمير فيه وأيا ما كان ففيه فضلُ ترغيبٍ للسامعين في المسارعة إلى التوبة والاستغفارِ ومزيدُ تنديمٍ لأولئك المنافقين على ما صنعوا لما أن ظهورَ تباشيرِ قَبولِ التوبةِ وحصولَ الرحمةِ لهم ومشاهدتَهم لآثارهما نعمةٌ زائدةٌ عليهما موجبةٌ لكمال الرغبة في تحصليها وتمامِ الحسرةِ على فواتها

(2/197)


فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)

{فَلاَ وَرَبّكَ} أي فوربِّك ولا مزيدةٌ لتأكيد معنى القَسَمِ لا لتأكيد النفيِ في جوابه أعني قولَه {لاَ يُؤْمِنُونَ} لأنها تزادُ في الإثبات أيضاً كَما في قولِه تَعَالَى {فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم} ونظائرِه
{حتى يُحَكّمُوكَ} أي يتحاكموا إليك ويترافعوا إليك وإنما جئ بصيغة التحكيمِ مع أنه صلى الله عليه وسلم حاكمٌ بأمر الله سبحانه إيذاناً بأن حقَّهم أن يجعلوه حَكَماً فيما بينهم ويرْضَوا بحكمه وإن قُطع النظرُ عن كونه حاكماً على الإطلاق
{فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي فيما اختَلف بينهم من الأمور واختَلط ومنه الشجرُ لتداخُل أغصانه
{ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ} عطفٌ على مقدَّر ينساقُ إليهِ الكلامُ أي فتقضي بينهم ثم لا يجدوا
{فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً} ضِيقاً
{مّمَّا قَضَيْتَ} أي مما قضيت به أو من قضائك وقيل شكاً من أجله إذا الشاكُّ في ضيق من أمره
{وَيُسَلّمُواْ} أي ينقادوا لأمرك ويُذعِنوا له
{تَسْلِيماً} تأكيدٌ للفعل بمنزلة تكريرِه أي تسليماً تاماً بظاهرهم وباطنِهم يقال سَلَّم لأمرِ الله وأسلم له بمعنىً وحقيقتُه سلّم نفسَه له إذا جعلها سالمةً له خالصةً أي ينقادوا لحكمك انقياداً لا شُبهةَ فيه بظاهرهم وباطنهم وقيل نزلت في شأن المنافق واليهودى وقيل في شأن الزبيرِ ورجلٍ من الأنصار حين اختصما إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في شِراجٍ من الحرة كانا يسقيان بها النخلَ فقال صلى الله عليه وسلم اسقِ يا زبيرُ ثم أرسلِ الماءَ إلى جارك فغضب الأنصارى وقال لأن كان ابنَ عمتِك فتغير وجهُ رسولِ الله ثم قال اسقِ يا زبيرُ ثم احبِس الماءَ حتى يرجِعَ إلى الجُدُر واستوفِ حقّك ثم أرسلْه إلى جارك كان قد أشار على الزبير برأي فيه سعةٌ له ولخصمه فلما أحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم مستوعب للزبير حقَّه في صريح الحُكم ثم خرجا فمرّا على المقدار بن السود فقال لمن القضاءُ فقال الأنصاريُّ قضى لابن عمتِه ولوى شِدْقَه ففطِن يهوديٌّ كان مع المقداد فقال قاتل الله هؤلاءِ يشهدون أنه رسولُ الله ثم يتّهمونه في قضاء يقضي بينهم وايمُ الله لقد أذنبنا ذنباً مرة في حياة موسى فدعانا إلى التوبة منه وقال اقتُلوا أنفسَكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربِّنا حتى رضيَ عنا فقال ثابتُ بنُ قَيْسِ بنِ شماس أما والله إن الله ليعلم مني الصدقَ لو أمرني محمدٌ أن أقتُلَ نفسي لقتلتُها وروي أنه قال ذلك ثابتٌ وابنُ مسعودٍ وعمارُ بن ياسر

(2/197)


66 - 67 68 69 النساء رضى الله عنهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيدِه إنَّ من أمتي رجالاً الإيمانُ أثبتُ في قلوبهم من الجبال الرواسي فنزلت في شأن هؤلاء

(2/198)


وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)

{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دياركم} أي لو أوجبْنا عليهم مثلَ ما أوجبنا على نبى إسرائيلَ من قتلهم أنفسَهم أو خروجهم من ديارهم حين استتابتِهم من عبادة العجل وأن مصدرية أو مفسرة لأن كتبنا في معنى أمَرْنا
{مَّا فَعَلُوهُ} أي المكتوبَ المدلولَ عليه بكتبْنا أو أحدِ مصدرَي الفعلين
{إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ} أي إلا أناسٌ قليلٌ منهم وهم المخلِصون من المؤمنين وروي عن عمر رضيَ الله عنه أنَّه قال والله لو أمَرَنا ربُّنا لفعلْنا والحمدُ لله الذي لم يفعلْ بنا ذلك وقيل معنى اقتُلوا أنفسَكم تعرَّضوا بها للقتل بالجهاد وهو بعيدٌ وقرئ إلا قليلاً بالنصب على الاستثناء أوإلا فِعلاً قليلاً
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعتِه والانقيادِ لما يراه ويحكم به ظاهراوباطنا وسُمِّيت أوامرُ الله تعالى ونواهيه مواعظ لاقترانهما بالوعد والوعيد
{لَكَانَ} أي فعلُهم ذلك
{خَيْراً لَّهُمْ} عاجلاً وآجلاً
{وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} لهم على الإيمان وأبعدَ من الاضطراب فيه وأشدَّ تثبيتاً لثواب أعمالِهم

(2/198)


وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)

{وَإِذاً لاتيناهم مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً} جوابٌ لسؤالٍ مقدرٍ كأنَّه قيل وماذا يكون لهم بعد التثبيتِ فقيل وإذن لو ثبتوا لآتيناهم فإن إذن جوابٌ وجزاءٌ

(2/198)


وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)

{ولهديناهم صراطا مُّسْتَقِيماً} يصِلون بسلوكه إلى عالم القدسِ ويفتح لهم أبوابَ الغيبِ قال صلى الله عليه وسلم من عمِل بما علِم ورَّثه الله تعالى علمَ مالم يعلَمْ

(2/198)


وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)

{وَمَن يُطِعِ الله والرسول} كلامٌ مستأنفٌ فيه فضلُ ترغيبٍ في الطاعة ومزيدُ تشويقٍ إليها ببيان أن نتيجتَها أقصى ما يَنتهي إليه هممُ الأممِ وأرفعُ ما يمتدُّ إليه أعناقُ عزائمِهم من مجاورة أعظمِ الخلائقِ مقداراً وأرفعِهم مناراً متضمِّنٌ لتفسير ما أُبهم في جواب الشرطيةِ السابقةِ وتفصيل مااجمل فيه والمرادُ بالطاعة هو الانقيادُ التامُّ والامتثالُ الكاملُ لجميع الأوامرِ والنواهي
{فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى المطيعين والجمعُ باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفرادَ في فعل الشرطِ باعتبار لفظِها وما فيهِ من معنى البعد مع القُرب في الذكر للإيذان بعلوّ درجتِهم وبُعد منزلتِهم في الشرف وهو مبتدأٌ خبرُه
{مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} والجملةُ جوابُ الشرطِ وتركُ ذكرِ المنعَمِ به للإشعار بقصور العبارةِ عن تفصيله وبيانِه
{مّنَ النبيين} بيانٌ للمنعَم عليهم والتعرّضُ لمعيّة سائرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ مع أنَّ الكلامَ في بيان حكمِ طاعةِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم لجريان ذكرهم في

(2/198)


70 - النساء سبب النزولِ مع ما فيه من الإشارة إلى أن طاعته صلى الله عليه وسلم متضمِّنةٌ لطاعتهم لاشتمالِ شريعتِه على شرائعهم التي لا تتغيرُ بتغيّر الأعصار رُوي أن نفراً من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالوا يا نبيَّ الله إن صِرْنا إلى الجنة تفضُلُنا بدرجات النبوةِ فلا نراك وقال الشعبي جاء رجلٌ من الأنصار إلى رسول الله وهو يبكي فقال ما يُبكيك يا فلان فقالَ يا رسولَ الله بالله الذي لا إلَه إِلاَّ هو لأنت أحبُّ إليّ من نفسي وأهلي ومالي وولدي وإني لأذكرُك وأنا في أهلي فيأخذُني مثلُ الجنونِ حتى أراك وذكرتُ موتي وأنك ترقع مع النبيين وإني إن أُدخِلْتُ الجنةَ كنتُ في منزلة أدنى من منزلتك فلم يرد النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فنزلتْ وروي أن ثوبانَ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديدَ الحبِّ له عليه الصلاة والسلام قليلَ الصبرِ عنه فأتاه يوماً وقد تغيّر وجهُه ونحُل جِسمُه وعُرف الحزُنُ في وجهه فسأله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن حاله فقالَ يا رسولَ الله ما بي من وجع غير إني إذا لم أراك اشتقتُ إليك واستوحشتُ وحشةً شديدةً حتى ألقاك فذكرت الآخرةَ فخِفتُ أن لا أراك هناك لأني عرفتُ أنك ترفع مع النبيين وإن أُدخِلْتُ الجنةَ كنتُ في منزلة دون منزلِك وإن لم أُدْخَلْ فذاك حين لا أراك أبداً فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده لا يؤمنُ عبدٌ حتى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وأبويه وأهلِه وولدِه والناسِ أجمعين وحُكي ذلك عن جماعة منَ الصحابةِ رضيَ الله عنهم وروي أن أنساً قالَ يا رسولَ الله الرجلْ يحب قوماً ولمّا يلحَقْ بهم قال عليه الصلاة والسلام المرءُ مع من أحبّ
{والصديقين} أي المتقدمين في تصديقهم المبالغين في الصدق والإخلاصِ في الأقوال والأفعالِ وهم أفاضلُ أصحابِ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام وأماثلُ خواصِّهم المقربين كأبي بكرٍ الصدِّيقِ رضيَ الله عنه
{والشهداء} الذين بذلوا أرواحَهم في طاعة الله تعالى وإعلاءِ كلمتِه
{والصالحين} الصارفين أعمارَهم في طاعته وأموالَهم في مرضاته وليس المرادُ بالمعية الاتحادَ في الدرجة ولا مطلقَ الاشتراكِ في دخول الجنةِ بل كونَهم فيها بحيث يتمكن كلُّ واحدٍ منهم من رؤية الآخرَ وزيارتِه متى أراد وإن بعُد ما بينهما من المسافةِ
{وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} الرفيقُ الصاحبُ مأخوذ من الرِّفق وهو لِينُ الجانبِ واللَّطافةُ في المعاشرة قولاً وفعلاً فإن جُعل أولئك إشارة إلى النبين ومَنْ بعدَهم على أنَّ ما فيهِ من معنى البعدِ لما مرَّ مرارا فرفيقاً إما تمييزٌ أو حالٌ على مَعنْى أنَّهم وصفوا بالحسن من وجهة كونِهم رُفقاءَ للمطيعين أو حال كونهم رفقاء لهم وإفرادُه لما أنه كالصِّديق والخليط والرسولُ يستوِي فيه الواحدُ والمتعددُ أو لأنه أريد حُسنُ كلِّ واحدٍ منهم رفيقاً وإن جعل إشارةً إلى المطيعين فهو تمييزٌ على معنى أنهم وُصفوا بحُسن الرفيقِ من النبيين ومَنْ بعدهم لا بنفس الحُسن فلا يجوز دخول من عليه كما يجوز في الوجه الأولِ والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمَا قبلَهُ مؤكدٌ للترغيب والتشويقِ قيل فيه معنى التعجب كأنه قيل وما أحسنَ أولئك رفيقاً ولاستقلاله بمعنى التعجب قرئ وحسن بسكون السين

(2/199)


ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)

{ذلك} إشارة إلى ما للمطيعين من عظيم الأجرِ ومزيدِ الهدايةِ ومرافقةِ هؤلاءِ المُنعَمِ عليهم أو إلى فضلهم ومزيتههم وما فيه من معنى البُعدِ للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعد منزلتِه في الشرفِ وهو مبتدأُ وقولُه تعالى
{الفضل} صفتُه وقولُه تعالى
{مِنَ الله} خبرُه أي ذلك الفضلُ العظيمُ من الله

(2/199)


71 - 72 73 النساء تعالى لا من غيرِه أو الفضل خبره ومن الله متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً منه والعاملُ فيه معنى الإشارةِ أي ذلك الذي ذكر الفضل كائناً من الله تعالى لا أن أعمالَ المكلفين توجبه
{وكفى بالله عليما} بحزاء من أطاعه وبمقادير الفضلِ واستحقاق اهله

(2/200)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ} الحِذْرُ والحذَرُ واحدٌ كالإثرْ والأثَرِ والشِبْهِ والشَّبَهِ أي تيقظوا واحترزوا من العدو ولا تُمْكِنوه من أنفسكم يقال أخذ حِذْرَه إذا تيقظ واحترز من المَخُوف كأنه جعَلَ الحذَرَ آلتَه التي يقي بها نفسَه وقيل هو ما يُحذر به من السلاح والحزمِ أي استعدوا للعدو
{فانفروا} بكسر الفاءِ وقرئ بضمها أي اخرُجوا إلى الجهاد عند خروجِكم
{ثُبَاتٍ} جمعُ ثُبةٍ وهي الجماعةُ من الرجال فوق العشَرةِ ووزنها في الأصل فُعَلة كحُطَمة حُذفت لامُها وعوِّض عنها تاءُ التأنيثِ وهل هي واوٌ أو ياء فيه قولان قيل إنها مشتقةٌ من ثبا يثبو كحلا يحلو أي اجتمعَ وقيل من ثبَيْتُ على الرجل إذا أثنيت عليه كأنك جمعتَ محاسنَه ويُجمع أيضاً على ثُبينَ جبراً لما حُذف من عَجْزه ومحلُّها النصبُ على الحالية أي انفِروا جماعاتٍ متفرقةً سَرِيةً بعد سرية
{أَوِ انفروا جَمِيعاً} أي مجتمعين كوكبةً واحدةً ولا تتخاذلوا فتُلقوا بأنفسكم إلى التهلُكة

(2/200)


وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)

{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ} أي ليتثاقَلَنّ وليتَخَلَّفَنَّ عن الجهاد من بطّأ بمعنى أبطأ كعتّم بمعنى أعتم والخطابُ لعسكر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كلِّهم المؤمنين منهم والمنافقين والمُبَطِّئون منافقوهم الذين تثاقلوا وتخلّفوا عن الجهاد أو ليبطِّئن غيرَه ويُثَبِّطَنه مِنْ بطَّأ منقولاً من بطُؤ كثقّل من ثقُل كما بطّأ ابنُ أُبيَ ناساً يوم أُحُد والأولُ أنسبُ لما بعده واللامُ الأولى للابتداء دخلت على اسم إنّ للفصل بالخبر والثانيةُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ والقسمُ بجوابه صلةُ مَنْ والراجعُ إليه ما استكنّ في ليبطِّئنَّ والتقديرُ وإن منكم لمَنْ أُقسم بالله ليبطِّئن
{فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ} كقتل وهزيمة
{قال} أي المبطئ فرحاً بصنعه وحامداً لرأيه
{قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَىَّ} أي بالقعود
{إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً} أي حاضراً في المعركة فيصيبني ما أصابهم والفاءُ في الشرطية لترتيب مضمونِها على ما قبلها فإن ذِكرَ التبطئةِ مستتبِعٌ لذكر ما يترتب عليها كما أن نفس التبطئة مستدعية لشئ ينتظر المبطئ وقوعَه

(2/200)


وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)

{وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ} كفتح وغنيمة
{مِنَ الله} متعلقٌ بأصابكم أو بمحذوف وقع صفة لفضل أي كائنٍ من الله تعالى ونسبة إصابةِ الفضلِ إلى جناب الله تعالى دون إصابةِ المصيبةِ من العادات الشريفةِ التنزيليةِ كما في قوله سبحانه وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وتقديمُ الشرطيةِ الأولى لِما أن مضمونَها لمقصِدهم أوفقُ وأَثرَ نفاقِهم فيها أظهرُ
{لَّيَقُولَنَّ} ندامةً على تثبطه وقعودِه وتهالُكاً على حُطام الدنيا وتحسُّراً على فواته وقرئ ليقولُنَّ بضم اللام إعادةً للضمير إلى مَعْنى مَنْ وقولُه تعالى
{كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ}

(2/200)


اعتراضٌ وُسِّط بين الفعلِ ومفعوله الذى هو
{يا ليتني كنتُ معهم فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} لئلا يُفهمَ من مطلع كلامِه أن تمنِّيَهُ لمعيّة المؤمنين لنُصرتهم ومظاهَرتِهم حسبما يقتضيه ما في البين من المودة بل هو للحِرص على المال كما ينطِق به آخِرُه وليس إثباتُ المودةِ في البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكّمِ وقيل الجملةُ التشبيهيةُ حالٌ من ضمير ليقولَن أي ليقولن مشبها بمن لامودة بينكم وبينه وقيل هي داخلةٌ في المقول أي ليقولن المثبط من المنافقين وضَعَفة المؤمنين كأن لم تكن بينكم وبين محمدٍ مودةٌ حيث لم يستصحِبْكم في الغزو حتى تفوزا بما فاز ياليتنى كنتُ معهم وغرضُه إلقاءُ العدواة بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام وتأكيدُها وكأنْ مخففةٌ من الثقيلةِ واسمُها ضميرُ الشأنِ وهو محذوف وقرئ لم يكن بالياء والبمادى في ياليتنى محذوفٌ أي يا قومُ قيا يا أُطلق للتنبيه على الاتساع وقولُه تعالى فَأَفُوزَ نصب على جواب التنمنى وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أي فأنا أفوزُ في ذلك الوقتِ أو على أنه معطوفٌ على كنت داخلٌ معه تحت التمني

(2/201)


فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)

{فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله} قدِّم الظرفُ على الفاعل للاهتمام به
{الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالاخرة} أي يبيعونها بها وهم المؤمنون فالفاءُ جوابُ شرطٍ مقدرٍ أي إن بطّأ هؤلاءِ عن القتال فليقاتِلِ المُخلِصون الباذلون أنفسَهم في طلب الآخرةِ أو الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة وهم االمبطئون فالفاءُ للتعقيب أي لِيترُكوا ما كانوا عليه من التثبيط والنفاق وليعقبوه بالقتال في سبيل الله
{وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} بنون العظمةِ التفاتاً
{أَجْراً عَظِيماً} لا يقادَرُ قَدْرُه وتعقيبُ القتالِ بأحد الأمرين للإشعار بأن المجاهدَ حقُّه أن يوطِّن نفسَه بإحدى الحسنيين ولا يُخطِرَ بباله القسمَ الثالثَ أصلاً وتقديمُ القتلِ للإيذان بتقدّمه في استتباع الأجرِ روى أبو هريرةَ رضيَ الله عنه إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال تكفّل الله تعالى لمن جاهد في سبيله لايخرجه إلا جهادٌ في سبيله وتصديقُ كلمتِه أن يُدخِلَه الجنةَ أو يُرجِعَه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة

(2/201)


وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)

{وَمَا لَكُمْ} خطابٌ للمأمورين بالقتال على طريقة الالتفاتِ مبالغةً في التحريض عليه وتأكيداً لوجوبه وهو مبتدأٌ وخبر وقوله عز وجل
{لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله} حالٌ عاملُها ما في الظرف من معنى الفعلِ والاستفهامُ للإنكار والنفي أى أى شئ لكم غيرَ مقاتِلين أي لا عذرَ لكُم في تركِ المقاتلة
{والمستضعفين} عطفٌ على اسم الله أي في سبيل المستضعفين وهو تخليصُهم من الأسر وصونُهم عن العدو أو على السبيل بحذف المضافِ أي في

(2/201)


76 - النساء خلاص المستضعفين ويجوز نصبُه على الاختصاص فإن سبيلَ الله يعُمّ أبوابَ الخيرِ وتخليص ضعفه المؤمنين من أيدي الكفرةِ أعظمُها وأخصُّها
{مِنَ الرجال والنساء والولدان} بيانٌ للمستضعفين أو حالٌ منهم وهم المسلمون الذين بقُوا بمكةَ لصدّ المشركين أو لضعفهم عن الهجرة مستذَلّين ممتَهنين وإنما ذُكر الوِلْدان معهم تكميلا للاستعطاف واستجلاب المرحمة وتنبيهاً على تناهي ظلمِ المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيانَ لإرغام آبائِهم وأمهاتِهم وإيذاناً بإجابة الدعاءِ الآتي واقترابِ زمانِ الخَلاصِ ببيان شِرْكتِهم في التضرعِ إِلى الله تعالى كلُّ ذلك للمبالغةِ في الحثِّ على القتال وقيل المرادُ بالوِلدان العبيدُ والإماءُ إذ يقال لهما الوليدُ والوليدةُ وقد غلَب الذكورُ على الإناث فاطلق الوالدن على الولائد أيضاً
{الذين} محلُّه الجرُّ على أنه صفةٌ للمستضعفين أو لما في حيز البيانِ أو النصبُ على الاختصاص {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا} بالشرك الذي هو ظلمٌ عظيمٌ وبأذِيَّة المسلمين وهي مكةُ والظالم صفتها وتذكيرة لتذكير ما أسند إليه فإن اسمَ الفاعلِ والمفعولِ إذا أُجريَ على غيرِ مَن هُو له كان كالفعل في التذكير والتأنيثِ بحسب ما عمِل فيه واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً كلا الجارَّيْنِ متعلقٌ باجْعل لاختلاف معنييهما وتقديمُ المجرورين على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بهما وإبرازِ الرغبةِ في المؤخَّر بتقديمِ أحوالِه فإن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ عما هو من أحواله المُرَغّبة فيه كما يورث شوقَ السامعِ إلى وروده ينبئ عن كمال رغبةِ المتكلّمِ فيه واعتنائِه بحصوله لا محالة وتقديمُ اللامِ على مِنْ للمسارعة إلى إبراز كون المسئول نافعاً لهم مرغوباً فيه لديهم ويجوزُ أن تتعلقَ كلمةُ مِن بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ولياً قُدِّمت عليهِ لكونِه نكرةٌ وكذا الكلامُ في قولِه تعالى
{واجعل لَّنَا مِن لدنك نَصِيراً} قال ابن عباس رضي الله عنهما أي ولِّ علينا والياً من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفَظ علينا دينَنا وشَرْعَنا وينصُرنا على أعدائنا ولقد استجاب الله عز وجل دعاءَهم حيث يسّر لبعضهم الخروجَ إلى المدينة وجعل لمن بقيَ منهم خيرَ وليَ وأعزَّ ناصِر ففتح مكةَ على يدي نبيِّه صلى الله عليه وسلم فتولاهم أيَّ تولَ ونصرهم أيةَ نُصرةٍ ثم استعمل عليهم عتابَ بنَ أسيد فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعزَّ أهلِها وقيل المرادُ واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ ولايةً ونُصرةً أي كن أنت وليَّنا وناصِرَنا وتكريرُ الفعلِ ومتعلِّقَيْه للمبالغة في التضرع والابتهال

(2/202)


الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)

{الذين آمنوا يقاتلون فِى سَبِيلِ الله} كلامٌ مبتدأٌ سيق لترغيب المؤمنين في القتال وتشجيعِهم ببيان كمالِ قوتِهم بإمداد الله تعالى ونُصرتِه وغايةِ ضعفِ أعدائِهم أي المؤمنون إنما يقاتلون في دين الله الحقِّ الموصِلِ لهم إلى الله عزَّ وجلَّ وفي إعلاء كلمتِه فهو وليُّهم وناصرُهم لا محالة
{والذين كَفَرُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الطاغوت} أي فيما يوصِلُهم إلى الشيطان فلا ناصرَ لهم سواه والفاءُ في قوله تعالى
{فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان} لبيان استتباعِ ما قبلَها لما بعدَها وذكرهم بهذا العُنوانِ للدِلالة عَلى أنَّ ذلكَ نتيجةٌ لقتالهم في سبيل الشيطانِ والإشعارِ بأن المؤمنين أولياءُ الله تعالى لما أن قتالَهم في سبيله وكل

(2/202)


77 - النساء ذلك لتأكيد رغبةِ المؤمنين في القتال وتقويةِ عزائمِهم عليه فإن ولايةِ الله تعالى عَلَمٌ في العزة والقوة كما أن ولايةَ الشيطانِ مَثَلٌ في الذلة والضَّعفِ كأنَّه قيلَ إذَا كانَ الأمرُ كذلك فقاتلوا يا أولياء الله أولياءَ الشيطانِ ثم صرح بالتعليل فقيل
{إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً} أي في حد ذاتِه فكيف بالقياس إلى قُدرةِ الله تعالى ولم يتعرّضْ لبيان قوةِ جنابِه تعالى إيذاناً بظهورها قالوا فائدةُ إدخالِ كان في أمثالِ هذهِ المواقعِ التأكيدُ ببيان أنه منذ كان كان كذلك فالمعنى أن كيدَ الشيطانِ منذ كان موصوفاً بالضعف

(2/203)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من إحجامهم عن القتال مع إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ راغبين فيه حِراصاً عليه بحيث كادوا يباشرونه كما ينبئ عنه الأمرُ بكفّ الأيدي فإن ذلك مُشعرٌ بكونهم بصدد بسطِها إلى العدو بحيث يكادون يسطون بهم قال الكلبي إن جماعةً من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم منهم عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ الزُّهري والمقداد بنُ الأسودِ الكنديُّ وقُدامةُ بنُ مظعونٍ الجُمَحي وسعدُ بنُ أبي وقاص الزُّهري رضي اله تعالى عنهم كانوا يلقَوْن من مشركي مكةَ قبل الهجرةِ أذى شديداً فيشكون ذلك إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ويقولون ائذنْ لنا في قتالهم ويقول لهم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كُفّوا أيديَكم
{وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاة} فإني لم أُومْر بقتالهم وبناءُ القولِ للمفعول مع أن القائلَ هو النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم للإيذان بكون ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى ولأن المقصودَ بالذات والمعتبرَ في التعجيب إنما هو كمالُ رغبتهم في القتال وكونههم بحيث احتاجوا إلى النهي عنه وإنما ذُكر في حيز الصِّلةِ الأمرُ بكف الأيدي لتحقيقه وتصويرِه على طريقة الكنايةِ فلا يتعلق ببيان خصوصة الأمرِ غرضٌ وكانوا في مدة إقامتِهم بمكةَ مستمرِّين على تلك الحالةِ فلما هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأُمروا بالقتال في وقعة بدرٍ كرِهَه بعضُهم وشق ذلك عليه لكن لاشكا في الدين ولا رغبةً بل نفوراً عن الإخطار بالأرواح وخوفاً من الموت بموجَب الجِبِلَّة البشريةِ وذلك قولُه تعالى
{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} الخ وهو عطفٌ على قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ باعتبار مدلولِه الكنائيِّ إذْ حينئذٍ يتحقق التبايُنُ بين مدلولَي المعطوفَين وعليه يدور أمرُ التعجيبِ كأنه قيل أَلَمْ ترَ إِلَى الذين كانوا حِراصاً على القتال فلما كُتب عليهم كرِهَه بعضُهم وقولُه تعالى
{إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس} جوابُ لمّا على أن فريقٌ مبتدأٌ ومنهم متعلقٌ بمحذوف وقع صفة له ويخشَوْن خبرُه وتصديرُه بإذا المفاجَأةِ لبيان مسارعتِهم إلى الخشية آثِرَ ذي أثيرٍ من غيرِ تلعثمٍ وترددٍ أي فاجأ فريقٌ منهم أن يخشوا الكفارَ أن يقتلوهم ولعل توجيهَ التعجيبِ إلى الكل مع صدور الخشيةِ عن بعضهم للإيذان بأنه ما كان ينبغي أن يصدُر عن أحدهم ما ينافي حالتَهم الأولى وقولُه تعالى
{كَخَشْيَةِ الله} مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ محلُّه النصبُ على أنَّهُ حال من فاعل يخشَون أي يخشَوْنهم مُشْبِهين لأهل خشيةِ الله تعالى وقوله تعالى
{أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} عطفٌ عليه بمعنى أو أشدَّ خشيةً من أهل

(2/203)


78 - النساء خشيةِ الله أو على أنَّه مصدرٌ مؤكدٌ على جعل الخشيةِ ذاتَ خشيةٍ مبالغةً كما في جدّ جِدُّه أي يخشَوْنهم خشيةً مثلَ خشيةِ الله أو خشيةً أشدَّ خشيةً من خشية الله وأياً ما كان فكلمةُ أو إما للتنويع على معنى أن خشيةَ بعضِهم كخشية الله وخشيةَ بعضِهم أشدُّ منها وإما للإبهام على السامع وهو قريبٌ مما في قوله تعالى وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أو يزيدون يعني أن من يبصرهم يقول إنَّهم مائةِ ألفٍ أو يزيدونَ
{وَقَالُواْ} عطف على جوابُ لمّا أي فلما كتب عليهم القتال فاجأ فريقٌ منهم خشيةَ الناسِ وقالوا
{رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال} في هذا الوقتِ لا على وجه الاعتراضِ على حكمه تعالى والإنكارِ لإيجابه بل على طريق تمنِّي التخفيفِ
{لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} استزادةٌ في مُدة الكفِّ واستمهالٌ إلى وقت آخرَ حذراً من الموت وقد جُوِّز أن يكون هذا مما نَطَقت به ألسنةُ حالِهم من غير أن يتفوهوا به صريحاً
{قُلْ} أي تزهيداً لهم فيما يؤمِّلونه بالقعود من المتاع الفاني وترغيباً فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي
{متاع الدنيا} أي ما يُتَمتّع ويُنتفع به في الدنيا
{قَلِيلٌ} سريعُ التقضِّي وشيكُ الانصرامِ وإن أُخِّرتم إلى ذلك الأجلِ
{والاخرة} أي ثوابُها الذي من جملته الثوابُ المنوطُ بالقتال
{خَيْرٌ} أي لكم من ذلك المتاعِ القليلِ لكثرته وعدمِ انقطاعِه وصفائِه عن الكدورات وإنما قيل
{لِمَنِ اتقى} حثاً لهم على اتقاء العصيان والإحلال بمواجب التكليفِ
{وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلام أي تُجزَوْن فيها ولا تُنقَصون إدنى شئ من أجور أعمالِكم التي منْ جُملتِها مسعاكم في شأن القتالِ فلا ترغبوا عنه والفتيلُ ما في شق النواةِ من الخيط يضرب به المثل في القلة والحقارة وقرئ يظلمون بالياء إعادةً للضمير إلى ظاهر مَنْ

(2/204)