{جَهَنَّمَ} وقولُه تعالى
{خَالِداً فِيهَا} حالٌ مقدّرةٌ من فاعل فعلٍ مقدرٍ يقتضيه
المقامُ كأنه قيل فجزاؤه أن يدخُلَ جهنَّم خالداً فيها
وقيلَ هُو حالٌ من ضمير يجزاها وقيل من مفعول جازه وأُيّد
ذلك بأنه أنسبُ بعطف ما بعده عليه لموافقته له صيغةً ولا
يخفى أن ما يُقدّر للحال أو العطف عليه حقُّه أن يكون مما
يقتضيه المقامُ اقتضاءً ظاهراً ويدل عليه الكلامُ دَلالةً
بينةً وظاهرٌ أن كونَ جزائِه ما ذُكر لا يقتضي وقوعَ
الجزاءِ البتةَ كما ستقف عليه حتى يُقدَّرَ يُجزاها أو
جازاه بطريق الإخبارِ عن وقوعه وأما قولُه تعالى
{وغضب الله عليه} فعطف على مقدر يدلُّ عليه الشرطيةُ
دِلالةً واضحةً كأنه قيل بطريق الاستئنافِ تقريراً
وتأكيداً لمضمونها حكمُ الله بأن جزاءَه ذلك وغضِب عليه أي
انتقم منه
{وَلَعَنَهُ}
أي أبعده عن الرحمة بجعل جزائِه ما ذكر وقيل هو وما بعده
معطوفٌ على الخبر بتقدير أنّ وحملُ الماضي على معنى
المستقبلِ كَما في قولِه تعالى {وَنُفِخَ فِى الصور}
ونظائرِه أي فجزاؤُه جهنمُّ وأن يغضَبَ الله عليه الخ
{وَأَعَدَّ لَهُ} في جهنم
{عَذَاباً عظيما} لا يقادر قدره ولِما ترى في الآية
الكريمةِ من التهديد الشديدِ والوعيدِ الأكيدِ وفنونِ
الإبراق والإرعادِ وقد تأيدت بما رُوي من الأخبار الشِّداد
كقوله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لَزَوالُ
الدُّنيا عند الله أهونُ من قتلِ مؤمن وقوله صلى الله عليه
وسلم لو أن رجلاً قُتل بالمشرق وآخَرُ رضِي بالمغرب
لأَشرَك في دمه وقوله صلى الله عليه وسلم من أعان على قتل
مؤمنٍ ولو بشَطْر كلمةٍ جاء يوم القيامةِ مكتوبٌ بين عينيه
آيسٌ من رحمة الله تعالى وبنحو ذلك من القوارع تمسكت
الخوارجُ والمعتزلةُ بها في خلود مَنْ قتل المؤمنَ عمداً
في النار ولا مُتمَسَّك لهم فيها إلا لِما قيل من أنها في
حق المستحِلِّ كما هو رأيُ عِكرِمةَ وأضرابِه بدليل أنها
نزلت في مقيسِ بنِ ضبابةَ الكِناني المرتدِّ حسبما مرت
حكايتُه فإن العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوص السببِ بل لأن
المرادَ بالخلود هو المكثُ الطويلُ لا الدوامُ لتظاهر
النصوصِ الناطقةِ بأن عصاةَ المؤمنين لا يدوم عذابُهم وما
رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لا توبةَ لقاتل
المؤمنِ عمداً وكذا ما روي عن سفيانَ أن أهلَ العلم كانوا
إذا سُئلوا قالوا لا توبةَ له محمول على الاقتداء بسنة
الله تعالى في التشديد والتغليظِ وعليه يُحمل ما روي عن
أنسٍ رضيَ الله تعالى عنه أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ
وسلم قال أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمنِ توبة كيفَ لاَ
وقد رُويَ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رجلاً سأله
ألِقاتلِ المؤمنِ توبةٌ قال لا وسأله آخَرُ ألقاتل المؤمن
توبةٌ فقال نعم فقيل له قلت لذلك كذا ولهذا كذا قال كان
الأولُ لم يقتُلْ بعد فقلت ما قلت كيلا يقتُلَ وكان هذا قد
قتل فقلت له ما قلت لئلا ييأسَ وقد روي عنه جوازُ المغفرةِ
بلا توبة أيضاً حيث قال في قوله تعالى فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ الآيةُ هي جزاؤُه فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له
ورُوي مرفوعا عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال هو
جزاؤُه إن جازاه وبه قال عونُ بنُ عبدِ اللَّهِ وبكرُ بنُ
عبدِ اللَّه وأبو صالح قالوا قد يقول الإنسانُ لمن يزجُره
عن أمر إن فعلتَه فجزاؤُك القتلُ والضربُ ثم إن لم يجازِه
بذلك لم يكن ذلك منه كذباً قال الواحدي والأصلُ في ذلك
إِنَّ الله عز وجل يجوزُ أن يُخلِفَ الوعيدَ وإن امتنع أن
يُخلِف الوعد بهذا وردت السنة عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم في حديث أنسٌ رضيَ الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم
قال من وعده الله تعالى على عمله ثواباً فهو مُنجِزُه له
ومن أوعده على عمله عِقاباً فهو بالخيار والتحقيقُ أنه لا
ضرورة إلى تفريع
(2/217)
94 - النساء ما نحن فيه على الأصل المذكورِ
لأنه إخبارٌ منه تعالى بأن جزاءَه ذلك لا بأنه يجزيه بذلك
كيفَ لا وقَدْ قالَ الله تعالى وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ
مّثْلُهَا ولو كان هذا إخباراً بأنه تعالى يجزي كلَّ سيئةٍ
بمثلها لعارض قوله تعالى {ويعفو عن كثير}
(2/218)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ
السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ
كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} إثرَ ما
بيّن حكمَ القتلِ بقسميه وأن ما يُتصوّر صدورُه عن المؤمن
إنما هو القتلُ خطأً شرَعَ في التحذير عَمَّا يؤدَّي إليهِ
منَ قلة المبالاةِ في الأمور
{إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله} أي سافرتم في الغزو
ولِمَا في إذا من معنى الشرطِ صُدِّر قولُه تعالى
{فتبينوا} بالفاء أى فاطلُبوا بيانَ الأمرِ في كل ما تأتون
وما تذرون ولا تعجَلوا فيه بغير تدبر وروية وقرئ فتثبّتوا
أي اطلُبوا إثباته وقوله تعالى
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام} نهيٌ
عما هو نتيجةٌ لترك المأمورِ به وتعيينٌ لمادّة مُهمّةٍ من
الموادّ التي يجب فيها التبيينُ وقرئ السِّلْمَ بغير ألف
وبكسر السين وسكون اللام أي لا تقولوا بغير تأمل لمن حياكم
بتحية الإسلامِ أو لمن ألقى إليكم مقاليدَ الاستسلام
والانقيادِ
{لَسْتَ مُؤْمِناً} وإنما أظهرتَ ما أظهرتَ متعوِّذاً بلِ
اقبَلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه وقرئ مُؤمَناً بالفتح
أي مبذولاً لك الأمانُ وهذا أنسبُ بالقراءتين الأخرتين
ولاقتصار على ذكر تحيةِ الإسلامِ في القراءة الأولى مع
كونها مقرونةً بكلمتي الشهادةِ كما سيأتي في سبب النزول
للمبالغة في النهي والزجرِ والتنبيهِ على كمال ظهورِ
خطئِهم ببيان أن تحية الإسلامِ كانت كافيةً في المُكافّة
والانزجارِ عن التعرض لصاحبها فكيف وهي مقرونةٌ بهما وقوله
تعالى
{تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا} حال من فاعل لاتقولوا
منبئ عما يحمِلُهم على العَجَلة وتركِ التأنّي لكن لا على
أن يكون النهيُ راجعاً إلى القيد فقط كما في قولك لا
تطلُبَ العلمَ تبتغي به الجاهَ بل إليهما جميعاً أي لا
تقولوا له ذلك حالَ كونِكم طالبين لمالِه الذي هو حُطامٌ
سريع النفاذ وقولُه تعالى
{فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} تعليلٌ للنهي عن
ابتغاء مالِه بما فيه من الوعد الضِّمني كأنه قيل لا
تبتغوا مالَه فعند الله مغانمُ كثيرةٌ يُغنِمُكموها
فيغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه وقولُه تعالى
{كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} تعليلٌ
للنهي عن القول المذكورِ ولعل تأخيرَه لما فيه من نوع
تفصيل ربَّما يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم
مع مافيه من مراعاة المقارنةِ بين التعليلِ السابقِ وبين
ما عُلِّل به كما في قوله تعالى {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ
وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ}
الخ وتقديمُ خبرِ كان للقصر المفيد لتأكيد المشابهةِ بين
طرفي التشبيهِ وذلك إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما
في حيز الصلةِ والفاء في فمن للعطف على كنتم أي مثلَ ذلك
الذي ألقى إليكم السلامَ كنتم أنتم أيضا في مبادى إسلامكم
لايظهر منكم للناس غيرُ ما ظهر منه لكم من تحية الإسلامِ
ونحوِها فمنّ الله عليكم بأن قبل منكم تلك المرتبةَ وعصَم
بها دماءَكم وأموالَكم ولم يأمُرْ بالتفحُّص عن سرائركم
والفاء في قوله تعالى
{فَتَبَيَّنُواْ}
(2/218)
فصيحةٌ أي إذا كان الأمرُ كذلك فاطلُبوا
بيانَ هذا الأمرِ البيِّنِ وقيسوا حالَه بحالكم وافعلوا به
ما فُعل بكم في أوائلِ أمورِكم من قَبول ظاهرِ الحالِ من
غيرِ وقوفٍ على تواطُؤِ الظاهِرِ والباطنِ هذا هو الذي
تقتضيهِ جزالةُ التنزيلِ وتستدعيه فخامة شأنه الجليل ومن
حسِبَ أن المعنى أولُ ما دخلتم في الإسلام سُمعت من
أفواهكم كلمةُ الشهادةِ فحصَّنَتْ دماءَكم وأموالَكم من
غير انتظارِ الاطلاعِ على مواطأة قلوبِكم لألسنتكم فمنّ
الله عليكم بالاستقامة والاشتهارِ بالإيمان والتقدّمِ فيه
وأنْ صِرْتم أعلاماً فيه فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في
الإسلام كما فُعل بكم وأن تعتبروا ظاهِرَ الإسلام في
المكافة ولا تقولوا الخ فقد أبعدَ عن الحق لأن المراد كما
عرفت أن تحصينَ الدماءِ والأموالِ حُكمٌ مترتِّبٌ على ما
فيه المماثلةُ بينه وبينهم من مجرد التفوُّه بكلمة الشهادة
وإظهارِ أن ترتُّبَه عليه في حقهم يقتضي ترتبه عليه في حقه
أيضاً إلزاماً لهم وإظهاراً لخطئهم ولا يخفى أن ذلك إنما
يتأتى بتفسيرٍ منه تعالى عليهم المترتب على كونهم مثلَه
بتحصين دمائِهم وأموالِهم حسبما ذكر حتى يظهرَ عندهم وجوبُ
تحصينِ دمِه ومالِه أيضاً بحكم المشاركةِ فيما يوجبه وحيث
لم يفعل ذلك بل فسره بما فسّره به لم يبقَ في النظم الكريم
ما يدل على ترتب تحصينِ دمائِهم وأموالِهم على ما ذكر
فمِنْ أين له أن يقول فحصَّنَتْ دماءَكم وأموالَكم حتى
يتأتى البيانُ وارتكابُ تقديرِه بناءً على اقتضاء ما ذُكر
في تفسير المنِّ إياه بناءً على أساس واهٍ كيف لا وإنما
ذِكرُه بصدد التفسيرِ وإن كان أمراً متفرعاً على ما فيه
المماثلةُ مبنياً عليه في حقهم لكنه ليس بحكم أريد إثباته
في وجوب بناءً على ثبوته في حقهم كالتحصين المذكورِ حتى
يستحقَّ أن يُتعرَّض له ولا بأمر له دخلٌ في وجوب اعتبارِ
ظاهرِ الإسلامِ من الداخلين فيه حتى يصِحَّ نظمُه في سلك
ما فُرِّع عليه قولُه فعليكم أن تفعلوا الخ وحملُ الكلامِ
على معنى أنكم في أول الأمرِ كنتم مثلَه في قصور الرتبة في
الإسلام فمنّ الله عليكم وبلغتم هذه الرتبةَ العاليةَ منه
فلا تستقصروا حالتَه نظراً إلى حالتكم هذه بل اعتدّوا بها
نظراً إلى حالتكم السابقةِ يردُّه أن قتلَه لم يكن
لاستقصار إسلامِه بل لتوهم عدمِ مطابقةِ قلبِه للسانه فإن
الآية الكريمة نزلت في شأن مرداس ابن نهيكٍ من أهل فدَكٍ
وكان قد أسلم ولم يُسلمْ من قومه غيرُه فغزتْهم سريةٌ
لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم غالب ابن فَضالةَ
الليثي فهربوا وبقيَ مرداسٌ لثقته بإسلامه فلما رأى الخيلَ
ألجأ غنمَه إلى عاقول من الجبل وصعِد فلما تلاحقوا وكبّروا
وأكبر وقال لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله السلامُ عليكم
فقتله أسامةُ بنُ زيدٍ واستاق غنمَه فأخبروا رسول الله صلى
الله عليه وسلم فوجَد وجْداً شديداً وقال قتلتموه إرادةَ
ما معه فقال أسامة بن زيد إنه قال بلسانه دون قلبِه وفي
رواية إنما قالها خوفاً من السلاح فقال صلى الله عليه وسلم
هلا شقَقْتَ عن قلبه وفي رواية أفلا شقَقْتَ عن قلبه ثم
قرأ الآيةَ على أسامةَ فقالَ يا رسولَ الله استغفِرْ لي
فقال كيف بلا إله إلا الله قال أسامة فما زال صلى الله
عليه وسلم يعيدُها حتى ودِدتُ أن لم أكن أسلمتُ إلا يومئذ
ثم استغفرَ لي وقال أعتِقْ رقبة وقيل نزلت في رجل قال
يارسول الله كنا نطلُب القومَ وقد هزمهم الله تعالى
فقصَدْتُ رجلاً فلما أحسَّ بالسيف قال إني مسلمٌ فقتلتُه
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أقتلتَ مسلماً قال إنه
كان متعوذا فقال صلى الله عليه وسلم أفلا شقَقْتَ عن قلبه
{إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} منَ الأعمالِ
الظاهرةِ والخفيةِ وبكيفياتها
{خَبِيراً} فيجازيكم بحسبها إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً
فشرٌّ فلا تتهاونوا في القتل واحتاطوا فيه والجملةُ تعليلٌ
لما قبلها بطريق الاستئناف وقرئ بفتح
(2/219)
95 - النساء إن على أنها معمولُه
لِتَبَيَّنوا أو عَلى حذفِ لامِ التعليلِ
(2/220)
لَا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ
الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى
الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ
الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى
الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
{لاَّ يَسْتَوِى القاعدون} بيانٌ لتفاوت
طبقاتِ المؤمنين بحسب تفاوتِ درجاتِ مساعيهم في الجهاد بعد
ما مر من الأمر به وتحريضِ المؤمنين عليه ليأنَفَ القاعدُ
عنه ويترفَّعَ بنفسه عن انحطاط رتبته فيهتزله رغبةً في
ارتفاع طبقتِه والمرادُ بهم الذين أُذِن لهم في القعود عن
الجهاد اكتفاءً بغيرهم قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
هم القاعدون عن بدْر والخارجون إليها وهو الظاهرُ الموافقُ
لتاريخ النزولِ لا ما روي عن مقاتل من أنهم الخارجون إلى
تبوك فإنه مما لا يوافقه التاريخُ ولا يساعده الحال إذ لم
يكن للمتخلّفين يومئذ هذه الرخصةُ وقولُه تعالى
{مِنَ المؤمنين} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من القاعدين أي
كائنين من المؤمنين وفائدتُها الإيذانُ من أولِ الأمرِ
بعدمِ إخلالِ وصفِ القعودِ بإيمانهم والإشعارُ بعلة
استحقاقِهم لما سيأتي من الحُسنى
{غَيْرُ أُوْلِى الضرر} صفة للقاعدون لجريانه مجرئ النكرةِ
حيث لم يُقصَدْ به قومٌ بأعيانهم أو بدل منه وقرئ بالنصب
على أنه حال منه أو استثناء وبالجر على أنه صفةٌ للمؤمنين
أو بدلٌ منه والضررُ المرضُ أو العاهةُ من عمىً أو عرَجٍ
أو زَمانةٍ أو نحوها وفي معناه العجزُ عن الأُهبة عن زيدِ
بنِ ثابتٍ رضي الله تعالى عنه أنه قال كنت إلى جنب رسول
الله صلى الله عليه وسلم فغشِيَتْه السكينةُ فوقعت فخِذُه
على فخذي حتى خشِيتُ أن ترُضَّها ثم سُرِّيَ عنه فقال
اكتبْ فكتبتُ لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين
والمجاهدون فقال ابنُ أمِّ مكتومٍ وكان أعمى يا رسول الله
وكيف بمن لا يستطيع الجهادَ من المؤمنين فغشيتْه السكينةُ
كذلك ثم سُرِّي عنه فقال اكتب {لاَّ} يَسْتَوِى القاعدون
مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر
{والمجاهدون} إيرادُهم بهذا العنوانِ دون الخروجِ المقابلِ
لوصف المعطوفِ عليه كما وقع في عبارة ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما وكذا تقييدُ المجاهدةِ بكونها
{فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ} لمدحهم بذلك
والإشعارِ بعلة استحقاقِهم لعلو المرتبةِ مع ما فيه من حسن
موقعِ السبيلِ في مقابلة القعودِ وتقديمِ القاعدين في
الذكر والإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ القصور الذى ينبئ
عنه عدمُ الاستواءِ من جهتِهِم لا من جهةِ مقابلِيهِم فإن
مفهومَ عدمِ الاستواءِ بين الشيئينِ المتفاوتينِ زيادةً
ونقصاناً وإن جازَ اعتبارُهُ بحسبِ زيادةُ الزائدِ لكنْ
المتبادرُ اعتبارُهُ بحسبِ قصورِ القاصر وعليهِ قولُه
تعالى {هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِى
الظلمات والنور} إلى غير ذلك وأما قولُهُ تعالى {هَلْ
يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ}
فلعلَّ تقديمَ الفاضلِ فيهِ لأنَّ صلَتَهُ ملكة لصلة
المفضول وقوله عز وجل
{فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى
القاعدين دَرَجَةً} استئناف مسوق لتفضيل ما بينَ الفريقينِ
من التفاضل المفهومِ من ذكر عدمِ استوائِهما إجمالاً ببيان
كيفيتِه وكمِّيتِه مبنيٌّ على سؤال ينساق إليه المقالُ
كأنه قيل كيف وقع ذلك فقيل الله الخ وأما تقديرُ ما لهم لا
يستووى فإنما يليق بجعل الاستئنافِ
(2/220)
96 - النساء تعليلاً لعدم الاستواءِ
مَسوقاً لإثباته وفيه تعكيس ظاهرٌ فإن الذي يحِقُّ أن
يكونَ مقصوداً بالذات إنما هو بيانُ تفاضُلِ الفريقين على
درجات متفاوتة وأما عدمُ استوائِهما فقُصارى أمرِه أن يكون
توطئةً لذكره ولامُ المجاهدين والقاعدين للعهد فقيدُ كونِ
الجهادِ في سبيل الله معتبرٌ في الأول كما أن قيدَ عدمِ
الضررِ معتبرٌ في الثاني ودرجة نُصب على المصدرية لوقوعها
موقعَ المرَّةِ من التفضيل أي فضل الله تفضيلةً أو على نزع
الخافض أي بدرجة وقيل على التمييز وقيل على الحالية من
المجاهدين أي ذوي درجةٍ وتنوينُها للتفخيم وقوله تعالى
{وَكُلاًّ} مفعولٌ أولٌ لما يعقُبه قُدّم عليه لإفادة
القصرِ تأكيداً للوعد أي كلَّ واحدٍ من المجاهدين
والقاعدين
{وَعَدَ الله الحسنى} أي المثوبةَ الحُسنى وهي الجنةُ لا
أحدَهما فقط كما في قولِه تعالى وأرسلناك لِلنَّاسِ
رَسُولاً على أن اللامَ متعلقةٌ برسولا والجملة اعتراض جئ
به تداركاً لما عسى يُوهِمَهُ تفضيلُ أحدِ الفريقين على
الآخَر من حرمانِ المفضول وقوله عز وجل
{وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين} عطفٌ على قوله
تعالى فَضَّلَ الله الخ واللامُ في الفريقين مُغْنيةٌ لهما
عن ذكر القيودِ التي تُركت على سبيل التدريجِ وقوله تعالى
{أَجْراً عَظِيماً} مصدرٌ مؤكّدٌ لفضّل على أنه بمعنى
أَجَر وإيثار على ما هو مصدرٌ من فعله للإشعار بكون ذلك
التفضيل أجرا لأعمالهم أو مفعولٌ ثانٍ له بتضمينه معنى
الإعطاءِ أي أعطاهم زيادةً على القاعدين أجراً عظيماً وقيل
هو منصوبٌ بنزعِ الخافضِ أي فضّلهم بأجر عظيم وقولُه تعالى
(2/221)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ
وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا (96)
{درجات} بدلٌ من أجراً بدلَ الكلِّ مبينٌ
لكمية التفضيلِ وقوله تعالى
{مِنْهُ} متعلق بمحذوف وقع صفة لدرجاتٍ دالةً على فخامتها
وجلالةِ قدْرِها أي درجاتٍ كائنةً منه تعالى قال ابن محير
يزهي سبعون درجةٍ ما بين كلِّ درجتين عدْوُ الفرسِ الجوادِ
المُضْمرِ سبعين خريفاً وقال السدي هي سبعُمائةِ درجةٍ وعن
أبي هريرةَ رضيَ الله عنه إن النبيِّ صلَّى الله عليهِ
وسلم قال إنَّ في الجنةِ مائةَ درجةٍ أعدها الله تعالى
للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بينَ السماءِ
والأرضِ ويجوز أن يكونَ انتصابُ درجاتٍ على المصدرية كما
في قولك ضربه أسواطاً أي ضرباتٍ كأنه قيل فضّلهم تفضيلات
وقوله تعالى
{وَمَغْفِرَةٌ} بدلٌ من أجراً بدلَ البعضِ لأن بعضَ الأجرِ
ليس من باب المغفرة أي مغفرة لَما يفرطُ منهم من الذنوب
التي لا سائرُ الحسناتِ التي يأتي بها القاعدون أيضاً حتى
تُعدَّ من خصائصهم وقولُه تعالى
{وَرَحْمَةً} بدل الكلِّ من أجرا مثل درجاتٍ ويجوز أن يكون
انتصابُهما بإضمار فعلِهما أي غَفَر لهم مغفرةً ورحِمَهم
رحمة هذا ولعل تكريرَ التفضيل بطريق العطف المنبئ عن
المغايرة وتقييدَه تارةً بدرجة وأخرى بدرجاتٍ مع اتحاد
المفضّلِ والمفضلِ عليه حسبما يقتضيه الكلامُ ويستدعيه حسن
النظام إما لتنزيل الاختلاف العنوانيِّ بين التفضيلين وبين
الدرجةِ والدرجاتِ منزلةَ الاختلافِ الذاتي تمهيداً لسلوك
طريقِ الإبهامِ ثمَّ التفسيرِ رَوْماً لمزيد التحقيقِ
والتقريرِ كما في قوله تعالى فلما جَاء أَمْرُنَا
نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ
مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ كأنه قيل
فضّل الله المجاهدين على القاعدين درجةٍ لا يقادَر قدرُها
ولا يُبلَغُ كُنهُها وحيث كان تحقّقُ هذا البونِ البعيدِ
بينهما مُوهِماً لحِرمان القاعدين قيل وَكُلاًّ وَعَدَ
الله الحسنى ثم أريد تفسيرُ ما أفاده
(2/221)
97 - النساء التنكيرُ بطريق الإبهامِ بحيث
يقطَعُ احتمالَ كونِه للوِحْدة فقيل ما قيل ولله درُّ شأنِ
التنزيلِ وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجةِ
والدرجاتِ على أن المرادَ بالتفضيل الأولِ ما خوّلهم الله
تعالى عاجلاً في الدنيا من الغنيمة والظَّفَر والذِكْرِ
الجميلِ الحقيقِ بكونه درجةً واحدةً وبالتفضيل الثاني ما
أنعم به في الآخرة من الدرجات العاليةِ الفائتةِ للحصر كما
ينبئ عنه تقديمُ الأولِ وتأخيرُ الثاني وتوسيطُ الوعدِ
بالجنة بينهما كأنه قيل وفضّلهم عليهم في الدنيا درجةً
واحدةً وفي الآخرة درجاتٍ لا تحصى وقد وُسِّط بينهما في
الذكر ما هو متوسِّط بينهما في الوجود أعني الواعد بالجنة
توضيحاً لحالهما ومسارعةً إلى تسلية المفضولِ والله سبحانه
أعلم هذا ما بين المجاهدين وبين القاعدين غيرِ أولي الضررِ
وأما أولوا الضررِ فهم مساوون للمجاهدين عند القائلين
بمفهوم الصفةِ وبأن الاستثناءَ من النفي إثباتٌ وأما عند
من لا يقول بذلك فلا دِلالة لعبارة النصِّ عليه وقد رُوي
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد خلّفتم في المدينة
أقواماً ما سِرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم
وهم الذين صحّت نياتُهم ونصَحَتْ جيوبُهم وكانت أفئدتُهم
تهوى إلى الجهاد وبهم ما يمنعهم من المسير من ضرار أو غيره
وبعبارة أخرى إن في المدينة لأقواماً ما سِرتم من مسير ولا
قطعتم من وادٍ إلا كانوا معكم فيه قالوا يا رسولَ الله وهم
بالمدينة قال نعم وهم بالمدينة حبَسهم العُذرُ قالوا هذه
المساواة مشروطة بشريطة أخرى سوى الضرر قذ ذكرت في قوله
تعالى {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى} إلى قوله
{إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} وقيل القاعدون
الأُوَلُ هم الأضراءُ والثاني غيرُهم وفيه من تفكيك النظمِ
الكريمِ مَا لاَ يخفى ولا ريب في أن الأضّراءَ من غيرهم
درجةً كما لا ريب في أنهم دون المجاهدين بحسب الدرجةِ
الدنيوية
{وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} تذليل مقرِّرٌ لما
وَعَد من المغفرة والرحمة
(2/222)
إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ
قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ
فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ
وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
{إن الذين توفاهم الملائكة} بيانٌ لحال
القاعدين عن الهجرة إثر بيانِ حالِ القاعدين عن الجهاد
وتوفاهم يحتمل أن يكون ماضيا ويؤيده قرأ توفتْهم وأن يكون
مضارعاً قد حُذف منه إحدى التاءينِ وأصلُه تتوفاهم على
حكايةِ الحالِ الماضيةِ والقصدِ إلى استحضار صورتِها
ويَعضده قراءةُ مَن قرأَ تُوَفاهم على مضارع وُفِّيَتْ
بمعنى أن الله تعالى يرفى الملائكةَ أنفسِهم فيتوفّونها أي
يمكنهم من استيفائها فيستوفونها
{ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} حالٌ من ضمير تَوَفاهم فإنه وإن
كان مضافاً إلى المعرفة إلا أنه نكرةٌ في الحقيقة لأن
المعنى على الانفصال وإن كان موصولاً في اللفظِ كما في
قولِه تعالى غَيْرَ مُحِلّى الصيد وهديا بالغ الكعبه وثانى
عِطْفِهِ أي مُحلّين الصّيدَ وبالغاً الكعبةَ وثانياً
عِطْفَه كأنه قيل ظالمين أنفسَهم وذلك بترك الهجرةِ
واختيارِ مجاورة الكفرة الموجبةِ للإخلال بأمور الدينِ
فإنها نزلتْ في ناسٍ من مكةَ قد أسلموا ولم يهاجروا حين
كانت الهجرةُ فريضة
{قَالُواْ} أي الملائكةُ للمُتوفَّيْن تقريراً لهم
بتقصيرهم في إظهار إسرمهم وإقامةِ أحكامِه من الصلاة
ونحوها وتوبيخها لهم بذلك
{فِيمَ كُنتُمْ} أي في أي شئ كنتم من أمور دينِكم
{قالوا} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية سؤالِ
الملائكةِ كأنه قيل فماذا قالوا في الجواب فقيل قالوا
متجانِفين عن الإقرار
(2/222)
98 - 99 النساء الصريحِ بما هُم فيه من
التقصير متعلِّلين بما يوجبه على زعمهم
{كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرض} أي في أرض مكةَ عاجزين
عن القيام بمواجب الدينِ فيما بين أهلِها
{قَالُواْ} إبطالاً لتعللهم وتبكيتاً لهم
{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا} إلى
قطر آخر منها تقدِرون فيه على إقامةِ أمورِ الدينِ كما
فعله من هاجر إلى المدينة وإلى الحبشة وأما حملُ تعلُّلِهم
على إظهار العجزِ عن الهجرة وجعلُ جوابِ الملائكةِ تكذيباً
لهم في ذلك فيردوه أن سببَ العجز عنها لا ينحصر في فُقدان
دار الهجرةِ بل قد يكون لعدم الاستطاعةِ للخروج بسب الفقرِ
أو لعدم تمكينِ الكفَرة منه فلا يكون بيانُ سعةِ الأرضِ
تكذيباً لهم ورداً عليهم بلْ لا بدَّ من بيان استطاعتِهم
أيضاً حتى يتم التبكيتُ وقيل كانت الطائفةُ المذكورة قد
خرجوا مع المشركين إلى بدرٍ منهم قيسُ بنُ الفاكِهِ بنِ
المغيرةِ وقيسُ بنُ الوليدِ بنِ المغيرة وأشباهُهما
فقُتلوا فيها فضَرَبت الملائكةُ وجوهم وأدبارهم وقالوا لهم
ماقالوا فيكون ذلك منهم تقريعاً وتوبيخاً لهم بما كانوا
فيه من مساعدة الكَفَرةِ وانتظامِهم في عسكرهم ويكون
جوابُهم بالاستضعاف تعلّلاً بأنهم كانوا مقهورين تحت
أيديهم وأنهم أخرجوا كارهين فرُدَّ عليهم بأنهم كانوا
بسبيل من الخلاص عن قهرهم متمكّنين من المهاجرة
{فَأُوْلَئِكَ} الذين حُكِيت أحوالُهم الفظيعةُ
{مَأْوَاهُمْ} أي في الآخرة
{جَهَنَّمُ} كما أن مأواهم في الدنيا دارُ الكفرِ لتركهم
الفريضةَ المحتومة فمأواهم مبتدأوجهنم خبره والجملة خبر
لأولئك وهذه الجملةُ خبرُ إن والفاءُ فيه لتضمُّن اسمِها
معنى الشرطِ وقولُه تعالى قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ حالٌ من
الملائكة بإضمار قد عند من يشترطه أو هو الخبرُ والعائدُ
منه محذوفٌ أي قالوا لهم والجملةُ المصدرةُ بالفاء معطوفةٌ
عليه مستنتَجَةٌ منه ومما في حيّزه
{وَسَاءتْ مَصِيراً} أى مصيرهم أي جهنم وفي الآية الكريمةِ
إرشادٌ إلى وجوب المهاجرة من موضع لايتمكن الرجلُ من إقامة
أمورِ دينِه بأي سبب كان وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ
وسلم من فرَّ بدينِه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض
استوجبت له الجنَّة وكان رفيقَ إبراهيمَ ونبيه محمدٍ صلَّى
الله عليهِ وسلم
(2/223)
إِلَّا
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا
يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)
{إِلاَّ المستضعفين} استثناءٌ منقطعٌ لعدم
دخولِهم في الموصول وضميرِه والإشارةِ إليه ومِنْ في قولِه
تعالَى
{من الرجال والنساء والولدان} متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً
من المستضعفين أي كائنين منهم وذِكرُ الوِلدان إن أريد بهم
المماليكُ أو المراهقون ظاهرٌ وأما إن أريد بهم الأطفالُ
فللمبالغة في أمر الهجرة وإبهام انها بحيث لو استطاعها
غيرُ المكلفين لوجبت عليهم والإشعارِ بأنهم لا محيصَ لهم
عنها البتة عليهم كما بلغوا حتى كأنها واجبةٌ عليهم قبل
البلوغِ لو استطاعوا وأن قومهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم
متى أمكنت وقوله تعالى
{لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}
صفةٌ للمستضعفين فإنَّ ما فيهِ من اللام ليس للتعريف أو
حالٌ منْهُ أو من الضميرِ المستكنِّ فيه وقيل تفسيرٌ لنفس
المستضعفين لكثرة وجوهِ الاستضعافِ واستطاعةُ الحيلةِ
وُجدانُ أسبابِ الهجرةِ ومباديها واهتداءُ السبيلِ معرفةُ
طريقِ الموضعِ المهاجَرِ إليه بنفسه أو بدليل
(2/223)
فَأُولَئِكَ عَسَى
اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا
غَفُورًا (99)
{فأولئك}
(2/223)
100 - 101 النساء إشارةٌ إلى المستضعفين
الموصوفينَ بما ذُكر من صفاتِ العجزِ
{عَسَى الله أَن يعفو عنهم} جئ بكلمة الإطماعِ ولفظِ
العفوِ إيذاناً بأن الهجرةَ من تأكُّدِ الوجوبِ بحيث ينبغي
أن يُعدَّ تركُها ممن تحقق عدمُ وجوبِها عليه ذنباً يجب
طلبُ العفوِ رجاءً وطمعاً لا جزماً وقطعاً
(2/224)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا
وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ
وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا (100)
{وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً} تذييلٌ
مقررٌ لمَا قبلَهُ
{وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الارض
مُرَاغَماً كَثِيراً} ترغيبٌ في المهاجَرَة وتأنيسٌ لها أي
يجدْ فيها متحوَّلاً ومهاجَراً وإنما عبّر عنه بذلك تأكيد
للترغيب لما فيه من الإشعار بكون ذلك المتجول بحيث يصل فيه
المهاجرُ من الخير والنعمةِ إلى ما يكون سبباً لرغم آنف
قومه الذين هاجروهم والرُّغمُ الذلُّ والهوانُ وأصلُه
لصوقُ الأنفِ بالرَّغام وهو التراب وقيل يجد فيها طريقاً
يراغِمُ بسلوكه قومَه أي يفارقهم على رَغم أنوفهم
{وسعة} أي من الرزق
{وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله
وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت} أي قبل أن يصل إلى
المقصِد وإن كان ذلك خارج بابه كما ينبئ عنه إيثارُ
الخروجِ من بيته على المهاجَرة وهو عطفٌ على فعل الشرطِ
وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ وقيل هو حركةُ
الهاءِ نُقلت إلى الكاف على نية الوقفِ كما في قوله ... من
عنزى سبنى لم أضربه عجيب والدهر كثير عجبه وقرى بالنصب على
إضمار أنْ كما في قوله وألحقُ بالحجاز فأستريحا ...
{فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} أي ثبت ذلك عنده
تعالى ثبوتَ الأمرِ الواجبِ رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم لما بَعَث بالآيات المتقدمةِ إلى مسلمي
مكةَ قال جُندُبُ بنُ ضَمْرةَ لبنيه وكان شيخاً كبيراً
احمِلوني فإني لستُ من المستضعفين وإني لأهتدي الطريقَ
والله لا أبيتُ الليلةَ بمكةَ فحمَلوه على سرير متوجِّهاً
إلى المدينة فلما بلغ التنعيمَ أشرفَ على الموت فصفق
بيمينه على شماله ثم قال اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايُعك
على ما بايعك رسولُك فمات حميداً فبلغ خبرُه أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لو تُوفيَ بالمدينة لكان
أتمَّ أجراً فنزلت قالوا كلُّ هجرةٍ في غرض دينيَ من طلبِ
علمٍ أو حجَ أو جهاد أونحو ذلك فهي هجرةٌ إلى الله عزَّ
وجلَّ وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم
{وَكَانَ الله غَفُوراً} مبالِغاً في المغفرة فيغفرُ له ما
فَرَط منه من الذنوبِ التي من جملتها القعودُ عن الهجرة
إلى وقت الخروجِ
{رَّحِيماً} مبالِغاً في الرحمة فيرحمه بإكمال ثوابِ
هجرتِه
(2/224)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ
كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأرض} شروعٌ في
بيانِ كيفيةِ الصلاةِ عند الضروراتِ من السفر ولقاءِ
العدوِّ والمرضِ والمطرِ وفيه تأكيدٌ لعزيمة المهاجِرِ على
المهاجَرة وترغيبٌ له فيها لما فيه من تخفيف أونه أي إذا
سافرتم أيَّ مسافرةٍ كانت ولذلك لم يُقيَّد بما قُيِّد به
المهاجَرة
{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أى حرج أو اثم
{أَن تَقْصُرُواْ} أي في أن تقصُروا والقصرُ خلافُ المد
يقال قصرت الشئ أي جعلته قصيراً بحذف بعضِ أجزائِه أو
أوصافِه فمُتعلَّقُ القصرِ حقيقةً إنما هو ذلك الشئ لا
بعضُه فإنه متعلَّقُ الحذف دون القصرو على هذا فقوله تعالى
(2/224)
{مِنَ الصلاة} ينبغي أن يكون مفعولاً
لتقصُروا على زيادة مِنْ حسبما رآه الأخفش وأما على تقديرِ
أنْ تكون تبعيضيةً ويكونَ المفعولُ محذوفاً كما هُو رأيُ
سيبويهِ أي شيئاً من الصلاة فينبغي أن يُصارَ إلى وصف
الجزءِ بصفة الكلِّ أو يرادَ بالقصر معنى الحبْس يقال قصرت
الشئ إذا حبستْه أو يرادَ بالصلاة الجنسُ ليكون المقصورُ
بعضاً منها وهي الرُّباعياتُ أي فليس عليكم جُناحٌ في أن
تقصروا بعضَ الصلاة بتنصيفها وقرئ تُقْصِروا من الإقصار
وتُقَصِّروا من التقصير والكل بمعنى وأدنى مدةِ السفرِ
الذي ينعلق به القصرُ عند أبي حنيفةَ مسيرةَ ثلاثةِ أيام
ولياليها بسير الإبلِ ومشيِ الأقدام بالاقتصاد وعند
الشافعيِّ مسيرةَ يومين وظاهرُ الآية الكريمة التخييرُ
وأفضليةُ الإتمام وبه تعلق الشافعيّ وبما رُوي عنِ النبيِّ
صلَّى الله عليه وسلم أنه أتم في السفر وعنْ عائشةَ رضيَ
الله عنها أنها أتمت تارةً وقصرت أخرى وعن عثمانُ رضيَ
الله عنْهُ أنَّه كان يُتمّ ويَقصُر وعندنا يجب القصرُ لا
محالة خلا أن بعضَ مشايخنا سماه عزيمةً وبعضُهم رُخصةَ
إسقاطٍ بحيث لا مساغ للإتمام لارخصة ترفيهٍ إذ لا معنى
للتخيير بين الأخفِّ والأثقلِ وهو قولُ عمرَ وعليَ وابن
عباس وابنِ عمرَ وجابر ورضوان الله عليهم وبه قال الحسنُ
وعمرُ بنُ عبد العزيز وقتادةُ وهو قول مالك وقد رُوي عن
عمر رضي الله عنه صلاةُ السفر ركعتانِ تمامٌ غيرُ قصرٍ على
لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وعن أنسٌ رضيَ الله عنه
خرجنا مع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من المدينة إلى
مكةَ فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة وعن
عمرانَ بنِ حُصين رضي الله عنه ما رأيت النبيِّ صلَّى الله
عليهِ وسلم يصلي في السفر إلا ركعتين وصلى بمكةَ ركعتين ثم
قال أتمُّوا فإنَّا قومٌ سَفْرٌ وحين سمع بن مسعود ان
عثمانُ رضيَ الله عنْهُ صلى بمِنىً أربعَ ركعاتٍ استرجع ثم
قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين
وصليت مع أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ بمنى ركعتين وصليت مع
عمر رضي الله عنه بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعاتٍ
ركعتان مُتقبَّلتان وقد اعتذر عثمانُ رضيَ الله عنْهُ عن
إتمامه بأنه تأهّل بمكة وعن الزهريّ أنه إنما أتمّ لأنه
أزمع الإقامةَ بمكة وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها أولُ ما
فُرضت الصلاةُ فُرضتْ ركعتين ركعتين فأُقِرَّت في السفر
وزيدت في الحضر وفي صحيح البخاري أنها قالت فرضَ الله
الصلاةَ حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضَر والسفر فأقرت
صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر وأما ماروى عنها من الإتمام
فقد اعتذرت عنه وقالت أنا أمُّ المؤمنين فحيث حللتُ فهي
داري وإنما ورد ذلك بنفي الجُناحِ لما أنهم ألِفوا
الإتمامَ فكانوا مظِنةَ أن يخطُر ببالهم أن عليهم نقصاناً
في القصر فصرح بنفي الجناحِ عنهم لتطيب به نفوسُهم
ويطمئنوا إليهِ كما في قولِه تعالى فَمَنْ حَجَّ البيت
أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا
مع أن ذلك الطوافَ واجبٌ عندنا ركنٌ عند الشافعيِّ وقوله
تعالى
{إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ} جوابُه
محذوفٌ لدِلالة مَا قبلَهُ عليهِ أيْ إنْ خفتم أن يتعرّضوا
لكم بما تكرهونه من القتال وغيرِه فليس عليكم جُناح الخ
وهو شرطٌ معتبرٌ في شرعية ما يُذكر بعده من صلاة الخوفِ
المؤداةِ بالجماعة وأما في حق مُطلقِ القصرِ فلا اعتبار له
اتفاقاً لتظاهُر السننِ على مشروعيته حسبما وقفت على
تفصيلها وقد ذكر الطحاويُّ في شرح الآثارِ مسنداً إلى يعلى
بن أميةَ أنه قال قلت لعمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه إنما
قال الله {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ
مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين
كَفَرُواْ} وقد
(2/225)
102 - النساء أمِن الناسُ فقال عمرُ رضي
الله عنه عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال صدقةٌ تصدّقَ الله بها عليكم فاقبَلوا
صدقتَه وفيه دليلٌ على عدم جوازِ الإكمالِ لأن التصدقَ بما
لا يحتمل التمليكَ إسقاطٌ محضٌ لا يحتمل الردَّ كما حُقّق
في موضعه ولا يُتَوهّمنّ أنه مخالفٌ للكتاب لأن التقييدَ
بالشرط عندنا إنما يدل على ثبوت الحُكمِ عند وجودِ الشرطِ
وأما عدمُه عند عدمه فساكت عنه فإن وجدَ له دليلٌ ثبت عنده
أيضاً وإلا يبقى على حاله لعدم تحققِ دليلِه لا لتحقق
دليلِ عدمِه وناهيك بما سمعتَ من الأدلة الواضحةِ وأما عند
القائلين بالمفهوم فلأنه إنما يدل على نفي الحُكمِ عند عدم
الشرط إذا لم يكن له فائدةٌ أخرى وقد خرج الشرط ههنا مخرجَ
الأغلبِ كما في قوله تعالى وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم
عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً بل نقول إن الآيةَ
الكريمةَ مجملةٌ في حق مقدارِ القصرِ وكيفيتِه وفي حق ما
يتعلقُ به من الصلوات وفي مقدار مدةِ الضربِ الذي نيط به
القصرُ فكل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من القصر في حال
الامن من وتخصيصِه بالرُباعيات على وجه التصنيف وبالضرب في
المدة المعينة بيانٌ لإجمال الكتابِ وقد قيل إن قوله تعالى
إِنْ خِفْتُمْ الخ متعلقٌ بما بعده من صلاة الخوفِ منفصلٌ
عما قبله فإنه روي عن أبي أيوبَ الأنصاري رضيَ الله عنه
أنَّه قال نزل قولُه تعالى وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الارض
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة
ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حولٍ فنزل إِنْ
خفتم الخ أي إن خفتم أن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ الخ وقد قرئ من الصلاة أن
يفتنكم بغير إن خفتم على أنَّه مفعولٌ له لما دل عليه
الكلامُ كأنه قيل شرُع لكم ذلك كراهةَ أن يفتنكم الخ فإن
استمرارَ الاشتغالِ بالصلاة مَظِنةٌ لاقتدارهم على إيقاع
الفتنةِ وقوله تعالى
{إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً}
تعليلٌ لذلك باعتبار تعلُّلِه بما ذُكر أو لما يُفهم من
الكلام من كون فتنتِهم متوقَّعةً فإن كمالَ عداوتِهم
للمؤمنين من موجبات التعرُّض لهم بسوء وقولُه تعالى
(2/226)
وَإِذَا كُنْتَ
فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ
فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ
وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا
فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ
فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ
كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا
حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا
مُهِينًا (102)
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} بيانٌ لما قبله من
النص المُجملِ الواردِ في مشروعية القصرِ بطريق التفريعِ
وتصويرٌ لكيفيته عند الضرورةِ التامةِ وتخصيصُ البيانِ
بهذه الصورة مع الاكتفاء فيما عداها بالبيان بطريق السنةِ
لمزيد حاجتِها إليه لما فيها من كثرة التغييرِ عن الهيئة
الاصلية ومن ههنا ظهر لك أن مورِدَ النصِّ الشريفِ على
المقصورة وحكمُ ما عداها مستفادٌ من حكمها والخطابُ لرسول
الله صلى الله عليه وسلم بطريق التجريدِ وبظاهره يَتعلّق
من لا يرى صلاةَ الخوف بعده صلى الله عليه وسلم ولا يخفى
أن الأئمةَ بعده نوابه صلى الله عليه وسلم قُوّامٌ بما كان
يقوم به فيتناولهم حكمُ الخطابِ الوارد له صلى الله عليه
وسلم كما في قوله تعالى خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً وقد
روي أن سعيدَ بنَ العاصِ لما أراد
(2/226)
أن يصلي بطيرستان صلاةَ الخوفِ قال من شهِد
منكم صلاةَ الخوفِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام
حُذيفةُ بنُ اليمانِ رضي الله عنه فوصف له ذلك فصلى بهم
كما وصَف وكان ذلك بحضرة الصحابةِ رضيَ الله عنُهم فلم
يُنْكِرْه أحدٌ فحل محلَّ الإجماعِ وروي في السنن أنهم
غزَوْا معَ عبد الرحمن بنِ سَمُرةَ بابل فصلى بهم صلاةَ
الخوفِ
{فأقمت لهم الصلاة} أي أردت أن تقيم بهم الصلاة
{فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ} بعد أن جعلتَهم
طائفتين ولتقِف الطائفةُ الأخرى بإزاء العدوِّ ليحرسوكم
منهم وإنما لم يصرَّحْ به لظهوره
{وَلْيَأْخُذُواْ} أي الطائفةُ القائمة معك
{أَسْلِحَتَهُمْ} أي لا يضعوها ولا يلقوها وإنما عبر عن
ذلك بالأخذ للإيذان بالاعتناء باستصحابها كأنهم يأخُذونها
ابتداءً
{فَإِذَا سَجَدُواْ} أي القائمون معك وأتمّوا الركعة
{فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ} أي فلينصرِفوا إلى
مقابلة العدوِّ للحراسة
{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ} بعدُ وهي
الطائفةُ الواقفة تجاه العدوِّ للحراسة وإنما لم تُعرَفْ
لما أنها لم تُذكرْ فيما قبل
{فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} الركعةَ الباقيةَ ولم يبيِّنْ في
الآية الكريمة حالَ الركعةِ الباقيةِ لكل من الطائفتين وقد
بُيِّن ذلك بالسنة حيث روى عن ابن عمرو ابن مسعود رضي الله
عنهم أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم حين صلى صلاةَ
الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعةً وبالطائفة الأخرى ركعةً
كَما في الآيةِ الكريمةِ ثم جاءت الطائفةُ الأولى وذهبت
هذه إلى مقابلة العدوِّ حتى قضت الأولى الركعة الأخيرةَ
بلا قراءة وسلّموا ثم جاءت الطائفةُ الأخرى وقضَوا الركعةَ
الأولى بقراءة حتى صار لكل طائفة ركعتان
{وَلْيَأْخُذُواْ} أي هذه الطائفة
{حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} لعل زيادة الأمرِ بالحذرِ
في هذه المرة لكونها مظِنّةً لوقوف الكَفَرة على كون
الطائفةِ القائمةِ مع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في
شغل شاغلً وأما قبلها فربما يظنونهم قائمين للحرب وتكليفُ
كلَ من الطائفتين بما ذكر لما أن الاشتغالَ بالصلاة مظنةٌ
لإلقاء السلاحِ والإعراض عن غيرها ومئنة لهجوم العدوِّ كما
ينطِقُ به قوله تعالى
{وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ
أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ
مَّيْلَةً واحدة} فإنه اسئناف مَسوقٌ لتعليل الأمرِ
المذكورِ والخطابُ للفريقين بطريق الالتفاتِ أي تمنَّوا أن
ينالوا غِرّةً وينتهزوا فرصةً فيشدّوا عليكم شدةً واحدةً
والمرادُ بالأمتعة ما يُتمتع به في الحرب لا مطلقاً وهذا
الأمر الموجوب لقوله تعالى
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن
مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ
أَسْلِحَتَكُمْ} حيث رُخّص لهم في وضعها إذا ثقُل عليهم
استصحابها بسبب المطر أو مرضٍ وأُمروا مع ذلك بالتيقظ
والاحتياطِ فقيل
{وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} لئلا يهجُمَ العدوُّ عليكم غِيلةً
روى الكلبيُّ عن أبي صالحٍ ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم غزا محاربا وبنى إنما فنزلوا ولا يرَوْن من العدو
أحداً فوضع الناسُ أسلحتَهم وخرج رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم لحاجة له وقد وضَع سلاحَه حتى قطع الواديَ والسماءُ
ترُشّ فحال الوادي بينه صلى الله عليه وسلم وبين أصحابِه
فجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فبصُرَ به غَوْرَثُ
بنُ الحرث المحاربي فقال قتلني الله إن لم أقتلْك ثم انحدر
من الجبل ومعه السيفُ فلم يشعُرْ به رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلا وهو قائمٌ على رأسه وقد سل سيفَه من
غِمْدِهِ فقال يا محمد من يعصِمك مني الآن فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم الله عز وجل ثم قال اللهم اكفِني غورث
بن الحرث بما شئت ثم أهوى بالسيفِ إلى رسولِ الله صلى الله
عليه وسلم ليضرِبه فأكبَّ لوجهه من زلخة زلخها بين كتفيه
فبدر سيفه فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأخذه ثم
قال يا غَوْرَثُ من يمنعك مني الآن قال لا أحد قال صلى
الله عليه وسلم تشهدُ أَن لاَّ إلَه إِلاَّ الله وأن
محمداً عبدُه ورسولُه وأعطيك سيفَك قال لا ولكن أشهد أن لا
أقاتِلَك أبداً ولا أُعينَ عليك عدواً
(2/227)
103 - 104 النساء فأعطاه رسول الله صلى
الله عليه وسلم سيفَه فقال غورثُ والله لأنت خيرٌ مني فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أحقُّ بذلك منك فرجَع
غَوْرَثُ إلى أصحابه فقصَّ عليهم قِصتَه فآمن بعضُهم قال
وسكن الوادي فقطع عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى
أصحابه وأخبرهم بالخبر وقوله تعالى
{إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً} تعليلٌ
للأمر بأخذ الحذرِ أعد لهم عذاباً مهيناً بأن يخذُلهم
وينصُرَكم عليهم فاهتموا بأموركم ولا تُهمِلوا في مباشرة
الأسباب كى يحل بهم عذابُه بأيديكم وقيل لما كان الأمرُ
بالحذر من العدو مُوهماً لتوقّع غلبتِه واعتزازِه نُفي ذلك
الإيهامُ بأن الله تعالى ينصُرهم ويُهين عدوَّهم لتقوى
قلوبُهم
(2/228)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ
الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا
وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة} أي صلاةَ
الخوفِ أي أديتموها على الوجه المبيّنِ وفرَغتم منها
{فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ} أي
فداوموا على ذكر الله تعالى وحافِظوا على مراقبته
ومناجاتِه ودعائِه في جميعِ الأحوالِ حَتَّى في حال
المسايفة والقتالِ كما في قوله تعالى إِذَا لَقِيتُمْ
فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ
{فَإِذَا اطمأننتم} سكنَت قلوبُكم من الخوف وأمنتم بعد ما
وضعت الحربُ أوزارَها
{فأقِيمُوا الصَّلاةَ} أي الصلاةَ التي دخل وقتُها حينئذ
أي أدُّوها بتعديل أركانِها ومراعاةِ شرائطِها وقيل
المرادُ بالذكر في الأحوال الثلاثةِ الصلاةُ فيها أى فإذ
أردتم أداءَ الصلاةِ فصلّوا قِياماً عند المسايفةِ وقعوداً
جاثين على الرّكَب عند المراماةِ وعلى جنوبكم مُثخَنين
بالجِراح فإذا اطمأننتم في الجملة فاقضُوا ما صليتم في تلك
الأحوالِ التي هي أحوال القلقِ والانزعاجِ وهو رأى الشافعى
رحمه الله وفيه من البعد مالا يخفى
{إنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً
مَوْقُوتاً} أى فرضا مؤقتا قال مجاهدٌ وقّته الله عليهم
فلا بد من إقامتها في حالة الخوفِ أيضاً على الوجه
المشروحِ وقيل مفروضاً مقدّراً في الحضَر أربَعَ ركعاتٍ
وفي السفر ركعتين فلا بد أن تؤدى في كل وقتٍ حسبما قُدِّر
فيه
(2/228)
وَلَا تَهِنُوا فِي
ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ
فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ
مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا
حَكِيمًا (104)
{وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابتغاء القوم} أى
لاتضعفوا ولاتتوانوا في طلب الكفارِ بالقتال والتعرّضِ لهم
بالحِراب وقوله تعالى
{إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ
كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ
يَرْجُونَ} تعليلٌ للنهي وتشجيعٌ لهم أي ليس ما تقاسونه من
الآلام مختصاً بكم بل هو مشترَكٌ بينكم وبينهم ثم إنهم
يصبِرون على ذلك فما لكم لاتصبرون مع أنكم أولى به منهم
حيث ترجُون من الله من إظهار دينِكم على سائر الأديانِ ومن
الثواب في الآخرة مالا يخطر ببالهم وقرئ أن تكونوا بفتح
الهمزة أى لاتهنوا لأن تكونوا تألمون وقوله تعالى
فَإِنَّهُمْ تعليلٌ للنهي عن الوهن لأجله والآيةُ نزلت في
بدرٍ الصُّغرى
{وَكَانَ الله عَلِيماً} مبالِغاً في العلم فيعلم أعمالَكم
وضمائرَكم
{حَكِيماً} فيما يأمُر وينهى فجِدُّوا في الامتثال بذلك
فإن فيه عواقب حميدة
(2/228)
105 - 106 107 108 النساء
(2/229)
إِنَّا أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ
لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق}
رُوي أن رجلاً من الأنصار يقال له طُعمةُ بنُ أُبيرِقَ من
بني ظفَرٍ سرَق دِرعاً من جاره قتادةَ بنِ النعمانِ في
جرابِ دقيقٍ فجعل الدقيقُ ينْتثِرُ من خَرْقٍ فيه فخبأها
عند زيد بنِ السمين اليهودي فالتمست الدرعَ عند طعمةَ فلم
توجد وحلف ما أخذها وما لَه بها علمٌ فتركوه واتبعوا أثرَ
الدقيقِ حتى انتهى إلى منزل اليهوديِّ فأخذوها فقال دفعها
إليّ طعمةُ وشهِد له ناسٌ من اليهود فقالت بنو ظفر انطلقوا
بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يجادل عن
صاحبهم وشهِدوا ببراءته وسرقةِ اليهوديِّ فهمّ رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم أن يفعل فنزلت وروي أن طعمةَ هرب إلى
مكةَ وارتدّ ونقَبَ حائطاً بمكةَ ليسرِقَ أهلَه فسقَط
الحائطُ عليه فقتله وقيل نزل على رجل من بني سليم من أهل
مكة يقال له الحجّاجُ بنُ علاط فنقَبَ بيتَه فسقط عليه
حجرٌ فلم يستطِع الدخولَ ولا الخروجَ فأخذ ليقتل فقيل دعه
فإنه قد لجأ إليك فتركه وأخرجوه من مكةَ فالتحق بتجارٍ من
قضاعةَ نحوَ الشام فنزلوا منزلاً فسرق بعضَ متاعِهم وهرب
فأخذوه ورجموه بالحجارة حتى قتلوه وقيل إنه ركب سفينةً إلى
جُدّة فسرَق فيها كيساً فيه دنانيرُ فأُخذ وألقيَ في البحر
{لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله} أي بما
عرّفك وأوحى به إليك
{وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ} أي لأجلهم والذبِّ عنهم وهم
طُعمةُ ومن يُعينُه من قومه أو هو ومن يسير بسيرته
{خَصِيماً} مخاصماً للبرآء أي لاتخاصم اليهودَ لأجلهم
والنهيُ معطوفٌ على أمر ينسحب عليه النظمُ الكريمُ كأنه
قيل فاحكم به ولا تكن الخ
(2/229)
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
{واستغفر الله} مما هممتَ به تعويلاً على
شهادتهم
{إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} مُبالغاً في
المغفرةِ والرحمةِ لمن يستغفره
(2/229)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ
الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
{وَلاَ تجادل عَنِ الذين يَخْتَانُونَ
أَنفُسَهُمْ} أي يخونونها بالمعصية كقوله تعالى عَلِمَ
الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ جُعلت
معصيةُ العُصاةِ خيانةً منهم لأنفسهم كما جُعلت ظلماً لها
لرجوع ضررِها إليهم والمرادُ بالموصول إما طعمةٌ وأمثالُه
وأما هو ومن عاونه وشهد ببراءته من قومه فإنهم شركاء له في
الإثم والخيانةِ
{إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً} مُفرِطاً في
الخيانة مُصِراً عليها
{أَثِيماً} منهمكاً فيه وتعليقُ عدمِ المحبةِ الذي هو
كنايةٌ عن البغضِ والسُّخطِ بالمبالِغ في الخيانة والإثمِ
ليس لتخصيصه به بل لبيان إفراطِ طُعمةَ وقومِه فيهما
(2/229)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ
النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ
مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ
الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا
(108)
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس} يستترون منهم
حياءً وخوفاً من ضررهم
{وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله} أيْ لا يستحيون منه
سبحانه وتعالى وهو أحقُّ بأن يُستحيا منه ويُخافَ من عقابه
{وَهُوَ مَعَهُمْ} عالمٌ بهم وبأحوالهم فلا طريق إلى
(2/229)
109 - 110 111 112 النساء
الاستخفاء سوى تركِ ما يستقبِحُه ويؤاخِذُ به
{إِذْ يُبَيّتُونَ} يدبرون ويزورون
{مَا لاَ يَرْضَى مِنَ القول} مِنْ رمى البرئ والحلِفِ
الكاذب وشهادةِ الزور
{وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ} من الأعمال الظاهرةِ
والخافية
{مُحِيطاً} لا يعزُب عنه شئ منها ولا يفوت
(2/230)
هَا أَنْتُمْ
هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
{ها أنتم هؤلاء} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له
إليهم بطريقِ الالتفاتِ إيذاناً بأنَّ تعديد جنايتهم يوجب
مشافهتَهم بالتوبيخ والتقريعِ والجملةُ مبتدأٌ وخبرٌ
وقولُه تعالَى
{جادلتم عَنْهُمْ فِى الحياة الدنيا} جملةٌ مبيِّنةٌ لوقوع
أولاءِ خبراً ويجوز أن يكون أولاءِ اسماً موصولاً بمعنى
الذين وجادلتم الخ صلة له والمجادَلةُ أشدُّ المخاصَمَة
والمعنى هَبُوا أنكم خاصمتم عن طُعمةَ وأمثالِه في الدنيا
{فَمَن يجادل الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة} فمن يخاصم
عنهم يومئذ عند تعذيبهم وعقابِهم
{أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} حافظاً ومحامياً
من بأس الله تعالى وانتقامه
(2/230)
وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
{وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً} قبيحاً يسوء به
غيره كما فعلَ طُعمة بقتادةَ واليهوديِّ
{أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بما يختص به كالحلِف الكاذبِ
وقيل السوء مادون الشرك والظلم الشركِ وقيل هما الصغيرةُ
والكبيرة
{ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله} بالتوبة الصادقة
{يَجِدِ الله غفورا} لذنوبه كائنة ماكانت
{رَّحِيماً} متفضّلاً عليه وفيه مزيدُ ترغيبٍ لطعمةَ
وقومِه في التوبة والاستغفارِ لما أن مشاهَدةَ التائبِ
لآثار المغفرةِ والرحمةِ نعمةٌ زائدةٌ كما مر
(2/230)
وَمَنْ يَكْسِبْ
إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ
اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
{وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً} من الآثام
{فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ} حيث لا يتعدّى ضررُه
ووبالُه إلى غيره فليحترز عن تعريضها للعقاب والعذابِ
عاجلاً وآجلاً
{وَكَانَ الله عَلِيماً} مُبالغاً في العلم
{حَكِيماً} مراعياً للحكمة في كل ما قَدَّر وقضى ولذلك لا
يحمل وازِرَةٌ وزرَ أخرى
(2/230)
وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ
احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
{وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً} صغيرة أو مالا
عمْدَ فيه من الذنوب وقرئ ومن يَكِسِّبْ بكسر الكاف وتشديد
السين وأصله يكتسب
{أَوْ إِثْماً} كبيرةً أو ما كان من عمد
{ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} أي يقذِفْ به ويُسنده وتوحيد الضمير
مع تعدد المرجِعِ لمكان أَوْ وتذكيره لتغليب الإثم على
الخطيئة كأنه قيل ثم يرم بأحدهما وقرئ يرمِ بهما وقيل
الضمير للكسبِ المدلولِ عليه بقوله تعالى يَكْسِبْ وثُمَّ
للتراخِي في الرتبةِ
{بَرِيئاً} أي مما رماه به ليُحمِّلَه عقوبتَه العاجلةَ
كما فعله طعمةُ بزيدٍ
{فَقَدِ احتمل} أي بما فعل من تحميل جريرته على البرئ
{بهتانا} وهو الكذِبُ على الغير بما يُبَهتُ منه
ويُتَحيَّر عند سَماعِه لفظاعته وهولِه وقيل هو الكذبُ
الذي يُتحيَّر في عِظَمه
{وَإِثْماً مُّبِيناً} أي بيناً فاحشاً وهو صفة لإثماً وقد
اكتُفي في بيان عِظَمِ البهتانِ بالتنكير التفخيميّ
(2/230)
113 - النساء
كأنه قيل بهتاناً لا يقادَرُ قدرُه وإثماً مبيناً على أن
وصفَ الإثمِ بما ذُكر بمنزلة وصفِ البهتانِ به لأنهما
عبارةٌ عن أمر واحد هو رمى البرئ بجناية نفسِه قد عبّر عنه
بهما تهويلاً لأمره وتفظيعاً لحاله فمدارُ العِظَم
والفخامةِ كونُ المرميِّ به للرامي فإن رمى البرئ بجناية
ما خطيئةً كانت أو إثماً بهتانٌ وإثمٌ في نفسه أما كونُه
بهتاناً فظاهرٌ وأما كونُه إثماً فلأن كونَ الذنبِ بالنسبة
إلى مَنْ فعله خطيئةً لا يلزم منه كونُه بالنسبة إلى مَنْ
نسبه الى البرئ منه أيضاً كذلك بل لا يجوزُ ذلك قطعاً كيف
لا وهو كذِبٌ محرَّمٌ في جميع الأديانِ فهو في نفسه بهتانٌ
وإثمٌ لا محالةَ وبكون تلك الجنايةِ للرامي يتضاعفُ ذلك
شدةً ويزداد قُبحاً لكنْ لا لانضمام جنايتِه المكسوبة الى
رمى البرئ وإلا لكان الرميُ بغير جناية مثله في العظم ولا
لمجرد اشتماله على تبرئة نفسه الخاطئة وإلا لكان الرميُ
بغير جنايةٍ مع تبرئةِ نفسِه كذلك في العِظَم بل لاشتماله
على قصد تحميلِ جنايته على البرئ وإجراءِ عقوبتِها عليه
كما ينبئ عنه إيثارُ الاحتمالِ على الاكتساب ونحوِه لما
فيه من الإيذان بانعكاس تقديرِه على ما فيه من الإشعار
بثِقَل الوِزرِ وصعوبةِ الأمرِ نعم بما ذُكر من انضمام
كسبِه وتبرئةِ نفسه الى رمى البرئ تزداد الجنايةُ قبحاً
لكنّ تلك الزيادةَ وصفٌ للمجموع لا للإثم
(2/231)
وَلَوْلَا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا
أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ
مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ
عَظِيمًا (113)
{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ
وَرَحْمَتُهُ} بإعلامك ما هم عليه بالوحي وتنبيهِك على
الحق وقيل بالنبوة والعِصمة
{لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ} أي منْ بني ظفَر وهم
الذابّون عن طُعمةَ وقد جوز أن يكون المراد بالطائفة
كلَّهم ويكونُ الضميرُ راجعاً إلى الناس وقيل هم وفدُ بني
ثقيفٍ قدِموا على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم
وقالوا جئناك لنبايعَك على أن لا تكسِرَ أصنامَنا ولا
تعشِّرَنا فردّهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
{أَن يُضِلُّوكَ} أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق مع علمهم
بكُنه الأمرِ والجملةُ جوابُ لولا وإنما نفى همَّهم مع أن
المنفيَّ إنما هو تأثيرُه فقط إيذاناً بانتفاء تأثيرِه
بالكلية وقيل المراد هو الهمُّ المؤثّر ولا ريب في انتفائه
حقيقةً وقيل الجوابُ محذوفٌ أي لأضلوك وقوله تعالى
لَهَمَّتْ جملةٌ مستأنفةٌ أي لقد همت طائفة الخ
{وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} لاقتصار وبالِ مكرِهم
عليهم من غير أن يصيبك منهم شئ والجملةُ اعتراضٌ وقولُه
تعالى
{وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء} عطفٌ عليه ومحلُّ الجارِّ
والمجرور النصبُ على المصدرية أي وما يضرونك شيئاً من
الضرر لما أنه تعالى عاصمُك وأما ما خطرَ ببالك فكان عملاً
منك بظاهر الحالِ ثقةً بأقوال القائلين من غير أن يخطُر
ببالك أن الحقيقةَ على خلاف ذلك
{وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة} أي القرآنَ
الجامعَ بين العنوانين وقيل المرادُ بالحكمة السنة
{وَعَلَّمَكَ} بالوحي من خفيّات الأمورِ التي من جملتها
وجوهُ إبطالِ كيدِ المنافقين أو من أمور الدين وأحكامِ
الشرع
{مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} ذلك إلى وقت التعليم
{وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} إذ لا فضلَ أعظمُ
من النبوة العامةِ ووالرياسة التامّة
(2/231)
114 - 115
(2/232)
لَا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ
أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ
نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
{لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن
نَّجْوَاهُمْ} أي في كثير من تناجي الناسِ
{إِلاَّ مَنْ أَمَرَ} أي إلا في نجوى مَنْ أمرَ
{بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} وقيل المرادُ بالنجوى
المتناجون بطريق المجازِ وقيل النجوى جمع نجى نقله
الكرماني وأيَّاً ما كان فالاستثناءُ متصلٌ ويجوز
الانقطاعُ أيضاً على معنى لكنْ مَنْ أمر بصدقة الخ ففي
نجواه الخير والمعروفُ كلُّ ما يستحسنه الشرعُ ولا يُنكره
العقلُ فينتظم أصنافَ الجميلِ وفنونَ أعمالِ البِرِّ وقد
فُسِّر ههنا بالقرض وإعاثة الملهوف وصدقةِ التطوعِ على أن
المراد بالصدقة الواجبة
{أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس} عندوقوع المشاقة والمعاداة
بينهم من غير أن يجاوزَ في ذلك حدودَ الشرعِ الشريفِ وبين
إما متعلقٌ بنفس إصلاحٍ يقال أصلحتُ بين القوم أو بمحذوف
هو صفةٌ له أي كائنٍ بين الناسِ عن أبي أيوب الأنصاري رضي
الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له
ألا أدلك على صدقةٍ خيرٍ لك من حمر النعم فقال بلى يا
رسولَ الله قالَ تُصلح بين الناسِ إذا تفاسدوا وتُقرِّب
بينهم إذا تباعدوا قالوا ولعل السرَّ في إفراد هذه
الأقسامِ الثلاثةِ بالذكر أن عملَ الخيرِ المتعدِّي إلى
الناس إما لإيصال المنفعةِ أو لدفع المضرَّةِ والمنفعةُ
إما جُسمانية كإعطاء المالِ واليه الإشارة إلى قولِه تعالى
إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بصدفة وإما روحانيةٌ وإليه الإشارةُ
بالأمر بالمعروف وأما دفعُ الضرر فقد أشير إليه بقوله
تعالى أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس
{وَمَن يَفْعَلْ ذلك} إشارةٌ إلى الأمور المذكورةِ أعني
الصدقةَ والمعروفَ والأصلاح فإنه يشاربه إلى متعدد وما فيه
من معنى البعد مع قُرب العهدِ بها للإيذان ببُعد منزلتِها
ورفعةِ شأنِها وترتيبُ الوعدِ على فعلها إثرَ بيانِ خيريةِ
الأمرِ بها لما أن المقصودَ الأصليَّ هو الترغيبُ في الفعل
وبيانُ خيريةِ الأمرِ به للدِلالة على خيريته بالطريق
الأولى لما أن مدارَ حُسنِ الأمرِ وقُبحِه حسنُ المأمورِ
به وقبحُه فحيث ثبت خيريةُ الأمرِ بالأمور المذكورةِ
فخيريةُ فعلِها أثبتُ وفيه تحريضٌ للأمر بها على فعلها أو
إشارةٌ إلى الأمر بها كأنه قيل ومن يأمْر بها والكلامُ في
ترتيب الوعدِ على فعلها كالذي مر في الخيرية فإن استتباع
الأمر بها للأجر العظيمِ إنما هو لكونه ذريعة إلى فعلها
فاستتباعُه له أولى وأحقُّ
{ابتغاء مَرْضَاتَ الله} علةٌ للفعل والتقييدُ به لأن
الأعمالَ بالنيات وأن من فعل خيراً لغير ذلك لم يستحِقَّ
به غيرَ الحِرْمان
{فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} بنون العظمةِ على الالتفات وقرئ
بالياء
{أَجْراً عَظِيماً} يقصُر عنه الوصفُ
(2/232)
وَمَنْ يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
{وَمَن يُشَاقِقِ الرسول} التعرُّض لعنوان
الرسالةِ لإظهارِ كمالِ شناعةِ ما اجترءوا عليه من
المُشاقة والمخالفةِ وتعليلِ الحُكمِ الآتي بذلك
{مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى} ظهر له الحق
بالوقوف على المعجزات الدالة على نبوته
{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} أي غيرَ ما هم
مستمرون عليه من عقد وعمل وهو الدين القيم
{نُوَلّهِ مَا تولى}
(2/232)
أي نجعله والياً لِمَا تولاه من الضلال
ونخذُله بأن نُخلِّيَ بينه وبين ما اختاره
{وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} أي ندخله إياها وقرئ بفتح النون من
صَلاه
{وَسَاءتْ مَصِيراً} أي جهنمُ وفيها دِلالةٌ على حجية
الإجماعِ وحُرمةِ مخالفتِه
(2/233)
إِنَّ اللَّهَ لَا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} قد مر
تفسيرُه فيما سبق وهو تكريرٌ للتأكيد والتشديد أو لقصة
طُعمةَ وقد مرّ موتُه كافراً ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي
الله تعالى عنهما أن شيخاً من العرب جاء إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال إني شيخٌ منهمِكٌ في الذنوب إلا أني
لم أشرِكْ بالله شيئاً منذ عرفتُه وآمنتُ به ولم أتخذ من
دونه ولياً ولم أواقع المعاصيَ جراءةً على الله تعالى وما
توهّمتُ طرفةَ عينٍ أني أُعجِزُ الله هرباً وإني لنادم
تائبٌ مستغفرٌ فما ترى حالي عند الله تعالى فنزلت
{وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بعيدا} عن الحق
فإن الشركَ أعظمُ أنواعِ الضلالةِ وأبعدُها عن الصواب
والاستقامةِ كما أنه افتراءٌ وإثمٌ عظيمٌ ولذلك جُعل
الجزاءُ في هذه الشرطيةِ فقد ضل الخ وفيما سبق فقد افترى
إثماً عظيما حسبما يقتضيهِ سياقُ النظمِ الكريمِ وسياقُه
(2/233)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا
شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
{إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} أي ما يعبدون
من دونه عز وجل
{إِلاَّ إناثا} يعني اللاتَ والعُزَّى ومناةَ ونحوَها عن
الحسن أنه لم يكن من أحياء العربِ حيٌّ إلا كان لهم صنمٌ
يعبُدونه يسمُّونه أنثى بني فلان قيل لأنهم كانوا يقولون
في أصنامهم هن بناتُ الله وقيل لأنهم كانوا يُلْبِسونها
أنواعَ الحَلْي ويزينونها على هيآت النِّسوانِ وقيل
المرادُ الملائكةُ لقولهم الملائكةُ بناتُ الله وقيل
تسميتُها إناثاً لتأنيث أسمائِها أو لأنها في الأصل جمادٌ
والجماداتُ تؤنَّثُ من حيث أنها ضاهت الإناثَ لانفعالها
وإيرادُها بهذا الاسم للتنبيه على فرط حماقةِ عَبَدتِها
وتناهي جهلِهم والإناثُ جمع أنثى كرِباب وربى وقرئ على
التوحيد وأُنُثاً أيضاً على أنه جمع أنيث كقليب وقلُب أو
جمع إناث كثمار وثمر وقرئ وثنا واثنا بالتخفيف والتثقيل
جمع وثن كقولك أسد وأسد وآسد على الأصل وقلبِ الواو ألفاً
نحو أُجوه في وجوه
{وَإِن يَدْعُونَ} وما يعبدون بعبادتها
{إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً} إذ هو الذي أمرهم بعبادتها
وأغراهم عليها فكانت طاعتُهم له عبادةً والمَريد والمارد
هو الذى لا يعلق بخير وأصلُ التركيبِ للملاسة ومنه صرحٌ
مُمرّد وشجرةٌ مرداءُ للتي تناثر ورقُها
(2/233)
لَعَنَهُ اللَّهُ
وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا
مَفْرُوضًا (118)
{لَّعَنَهُ الله} صفةٌ ثانيةٌ لشيطاناً
{وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً
مَّفْرُوضاً} عطفٌ على الجملة المتقدمةِ أي شيطاناً مريداً
جامعاً بين لعنةِ الله وهذا القولِ الشنيعِ الصادرِ عنه
عند اللعنِ ولقد برهن على أن عبادةَ الأصنام غايةُ الضلال
بطريق التعليلِ بأن ما يعبدونها ينفعل ولا
(2/233)
119 - 120 121 النساء
يفعل فعلاً اختيارياً وذلك ينافي الألوهيةَ غايةَ
المنافاةِ ثم استُدل عليه بأن ذلك عبادةٌ للشيطان وهو
أفظعُ الضلالِ من وجوه ثلاثةٍ الأولُ أنه منهمكٌ في الغي
لا يكاد يعلق بشئ من الخير والهدى فتكون طاعتُه ضلالاً
بعيداً عن الحق والثاني أنه ملعونٌ لضلاله فلا تستتبعُ
مطاوعتُه سوى اللعنِ والضلالِ والثالثُ أنه في غاية السعي
في إهلاكهم وإضلالِهم فموالاةُ مَنْ هذا شأنُه غايةُ
الضلالِ فضلاً عن عبادته والمفروضُ المقطوعُ أي نصيباً
قُدّر لي وفُرض من قولِهم فرَضَ له في العطاء
(2/234)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ
آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ
خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا
(119)
{وَلاَضِلَّنَّهُمْ وَلامَنّيَنَّهُمْ}
الأمانيَّ الباطلةَ كطول الحياة وأن لا بعْثَ ولا عقابَ
ونحوَ ذلك
{ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام} أي فلَيقْطَعُنَّها بموجب
أمري ويشُقُّنّها من غير تلعثم في ذلك ولا تأخير وذلك ما
كانت العرب تفعله فيه بالبحائر والسوائب
{وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ} ممتثلين به
{خَلَقَ الله} عن نهجه صورةً أو صفةً وينتظم فيه ما قيل من
فقءِ عين الحامي وخِصاءِ العبيدِ والوشمِ والوشْرِ ونحوِ
ذلك وعمومُ اللفظِ يمنع الخِصاءَ مطلقاً لكن الفقهاء
رخّصوا في البهائم لمكان الحاجةِ وهذه الجملُ المحكيةُ عن
اللعين مما نطق به لسانُه مقالاً أو حالاً وما فيها من
اللامات كلَّها للقَسَم والمأمورُ به في الموضعين محذوفٌ
ثقةً بدلالة النظمِ عليه
{وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مّن دُونِ الله} بإيثار
ما يدعوا إليه على ما أمر الله تعالى به ومجاوزتِه عن
طاعةِ الله تعالَى إلى طاعته
{فَقَدْ خَسِرَ خسرانا مبينا} لأنه ضيَّع رأسَ مالِه
بالكلية واستبدل بمكانه من الجنة مكانَه من النار
(2/234)
يَعِدُهُمْ
وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا
غُرُورًا (120)
{يعدهم} أى مالا يكاد يُنجِزُه
{وَيُمَنّيهِمْ} أي الأمانيَّ الفارغةَ أو يفعل لهم الوعدَ
والتمنيةَ على طريقة فلان يُعطي ويمنَعُ والضميران لمَنْ
والجمعُ باعتبارِ معناهَا كما أن الإفراد في يتخذ وخسر
باعتبار لفظها
{وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} وهو إظهارُ
النفعِ فيما فيه الضررُ وهذا الوعدُ إما بإلقاء الخواطرِ
الفاسدةِ أو بألسنة أوليائِه وغروراً إما مفعولٌ ثانٍ
للوعد أو مفعولٌ لأجله أونعت لمصدر محذوفٍ أي وعداً ذا
غرورٍ أو مصدرٌ على غير لفظِ المصدرِ لأنّ يَعِدُهُمْ في
قوة يغرّهم بوعده والجملةُ اعتراضٌ وعدمُ التعرّضِ للتمنية
لأنها بابٌ من الوعد
(2/234)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
{أولئك} إشارةٌ إلى أولياء الشيطان وما فيه
من معنى البُعد للإشعارِ ببُعد منزلتِهم في الخُسران وهو
مبتدأٌ وقولُه تعالى
{مَأْوَاهُمْ} مبتدأٌ ثانٍ وقولُه تعالَى
{جَهَنَّمُ} خبرٌ للثانِي والجملةُ خبرٌ للأولِ
{وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} أي معدِلاً ومهرَباً
من حاص الحمارُ إذا عدَل وقيل خلَص ونجا وقيل الحَيْصُ هو
الروغان بنفور وعنها متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من محيصاً
أي كائناً عنها ولا مَساغَ لتعلُّقه بمحيصاً أما إذا كان
اسمَ مكانٍ فظاهرٌ وأما إذا كان مصدراً فلأنه لا يعملُ
فيما قبلَهُ
(2/234)
122 - 123 النساء
(2/235)
وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ
قِيلًا (122)
{والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات}
مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى
{سندخلهم جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين
فِيهَا أَبَداً} قرَن وعيدَ الكفرةِ بوعد المؤمنين زيادةً
لمَسرَّة هؤلاءِ ومَساءةِ أولئك
{وَعْدَ الله حَقّا} أي وعَده وعداً وحقَّ ذلك حقاً
فالأولُ مؤكدٌ لنفسه لأن مضمونَ الجملةِ الاسميةِ وعدٌ
والثاني مؤكدٌ لغيره ويجوز أن ينتصِبَ الموصولُ بمضمر
يفسِّره ما بعده وينتصب وَعَدَ الله بقوله تعالى
سَنُدْخِلُهُمْ لأنه في معنى نعِدُهم إدخالَ جناتٍ الخ
وحقاً على أنه حال من المصدر
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} جملةٌ مؤكدةٌ بليغةٌ
والمقصودُ من الآية معارضَةُ مواعيدِ الشيطانِ الكاذبةِ
لقرنائه بوعد الله الصادقِ لأوليائه والمبالغةُ في تأكيده
ترغيباً للعباد في تحصيله والقيلُ مصدرٌ كالقول والقال
وقال ابنُ السِّكِّيتِ القيلُ والقالُ اسمانِ لا مصدرانِ
ونصبُه على التمييز وقرئ بإشمام الصادِ وكذا كلُّ صادٍ
ساكنةٍ بعدها دالٌ
(2/235)
لَيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ
يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
{لَّيْسَ بأمانيكم وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ
الكتاب} أي ليس ما وعد الله تعالى من الثواب يحصُل
بأمانيكم إيها المسلمون ولا بأمانيِّ أهلِ الكتابِ وإنما
يحصُل بالإيمان والعملِ الصالحِ ولعل نظمَ أمانيِّ أهلِ
الكتابِ في سلك أمانيِّ المسلمين مع ظهور حالِها للإيذان
بعدم إجداءِ أمانيِّ المسلمين أصلاً كما في قوله تعالى
وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ كما سلف وعن الحسن
ليس الإيمانُ بالتمنِّي ولكنْ ما وقر في القلب وصدّقه
العملُ إن قوماً ألهتْهم أمانيُّ المغفرةِ حتى خرجوا من
الدنيا ولا حسنةَ لهم وقالوا نُحسِنُ الظنَّ بالله وكذَبوا
لو أحسنوا الظنَّ به لأحسنوا العملَ وقيل إن المسلمين
وأهلَ الكتاب افتخروا فقال أهلُ الكتاب نبيُّنا قبل
نبيِّكم وكتابُنا قبل كتابِكم فنحن أولى بالله تعالى منكم
فقال المسلمون نحنُ أولى منكم نبيُّنا خاتمُ النبيين
وكتابُنا يقضي على الكتب المتقدمةِ فنزلت وقيل الخطابُ
للمشركين ويؤيده تقدّمُ ذكرِهم أي ليس الأمرُ بأمانيِّ
المشركين وهو قولُهم لا جَنةَ ولا نارَ وقولُهم إنْ كانَ
الأمرُ كَما يزعُم هؤلاء لنكونَنّ خيراً منهم وأحسنَ حالاً
وقولُهم لأوتين مالاً وولداً ولا أمانيِّ أهلِ الكتاب وهو
قولُهم لنْ يدخلَ الجنةَ إلاَّ من كان هودا أو نصارى
وقولُهم لَن تَمَسَّنَا النار إلا أياما معدودة ثم قرر ذلك
بقوله تعالى
{مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} عاجلاً أو آجلاً لما
رُوي أَنَّهُ لمَّا نزلتْ قال أبُو بكرٍ رضيَ الله تعالى
عنه فمن ينجو مع هذا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم أما تحزنُ أو تمرَضُ أو يصيبُك البلاء قال بلى
يا رسولَ الله قالَ هو ذاك
{وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله} أي مجاوزاً لموالاة
الله ونُصرتِه
{وَلِيّاً} يواليه
{وَلاَ نَصِيراً} ينصُره في دفع العذاب عنه
(2/235)
124 - 125 النساء
(2/236)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ
نَقِيرًا (124)
{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} أي بعضَها
أو شيئاً منها فإن كلَّ أحدٍ لا يتمكن من كلها وليس
مكلَّفاً بها
{من ذَكَرٍ أَوْ أنثى} في موضع الحالِ من المستكنِّ في
يَعْمَلُ ومن للبيان أو من الصالحات فمن للابتداء أي
كائنةً من ذكر الخ
{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} حالٌ شرَط اقترانَ العملِ بها في
استدعاء الثوابِ المذكورِ تنبيهاً على أنه لا اعتدادَ به
دونه
{فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ بعنوان اتصافِه بالإيمان
والعملِ الصالحِ والجمعُ باعتبار معناها كما أنَّ الإفرادَ
فيما سبقَ باعتبار لفظِها وما فيهِ من معنى البعدِ لما
مرَّ غيرَ مرَّةٍ من الإشعار بعلوِّ رُتبةِ المُشَارِ
إليهِ وبُعد منزلتِه في الشَّرفِ
{يَدْخُلُونَ الجنة} وقرئ يُدخَلون مبنياً للمفعول من
الإدخال
{وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} لا يُنقصون شيئاً حقيراً من
ثواب أعمالِهم فإن النقيرَ عَلَم في القلة والحَقارةِ وإذا
لم يُنقص ثوابُ المطيعِ فلأَنْ لا يزادَ عقابُ العاصي أولى
وأحرى كيف لا والمجازي أرحمُ الراحمين وهو السرُّ في
الاقتصار على ذكره عَقيبَ الثواب
(2/236)
وَمَنْ أَحْسَنُ
دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ
وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ
اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أسلم وجهه
لله} أي أخلص نفسَه له تعالى لا يعرِف له رباً سواه وقيل
بذل وجهَه له في السجود وقيل أخلص عمله له عز وجل وقيل
فوّض أمرَه إليه تعالى وهذا إنكارٌ واستبعادٌ لأن يكون
أحدٌ أحسنَ ديناً ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإن لم يكن
سبكُ التركيب متعرضاً لإنكار المساواة ونفيها يُرشِدُك
إليه العُرفُ المطّردُ والاستعمالُ الفاشي فإنه إذا قيل
مَنْ أكرم من فلان أولا أفضلَ من فلان فالمرادُ به حتماً
أنه أكرمُ من كل كريم وأفضل من كل فاضلٍ وعليه مساقُ قوله
تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى ونظائرِه وديناً نُصب
على التمييز من أحسنُ منقولٌ من المبتدأ والتقديرُ ومن
دينُه أحسنُ من دين مَنْ أسلم الخ فالتفضيلُ في الحقيقة
جارٍ بين الدينين لا بين صاحبيهما ففيه تنبيهٌ على أن ذلك
أقصى ما تنتهي إليه القوةُ البشرية
{وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي آتٍ بالحسنات تاركٌ للسيئات أو آتٍ
بالأعمال الصالحة على الوجه اللائقِ الذي هو حسنُها
الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتي وقد فسره صلى الله عليه
وسلم بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ
تراهُ فإنَّه يراكَ والجملة حال من فاعل أسلم
{واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم} الموافقةُ لدين الإسلامِ
المتّفق عل صحتها وقبولِها
{حَنِيفاً} مائلاً عن الأديان الزائغةِ وهو حالٌ من فاعلِ
اتبع أو من إبراهيم
{واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً} اصطفاه وخصَّه بكرامات
تُشبه كراماتِ الخليلِ عند خليله واظهاره صلى الله عليه
وسلم في مواقع الإضمار لتفخيم شأنِه والتنصيصِ على أنه
الممدوحُ وتأكيدِ استقلالِ الجملةِ الاعتراضية والخُلّةُ
من الخِلال فإنه ودٌّ تخلَّل النفسَ وخالطَها وقيل من
الخَلَل فإن كلَّ واحدٍ من الخليلين يسد خلَلَ الآخَر أو
من الخل وهو الطريقُ في الرمل فإنهما يتوافقان في الطريقة
أو من الخَلّة
(2/236)
126 - 127 النساء
بمعنى الخَصْلة فإنهما يتوافقان في الخِصال وفائدةُ
الاعتراضِ جملة من جملتها الترغيبُ في اتباع ملتِه عليه
السلام فإن من بلغ من الزُّلفى عند الله تعالى مَبْلغاً
مصحِّحاً لتسميته خليلاً حقيقٌ بأن يكون اتباعُ طريقته أهم
مايمتد إليه أعناقُ الهِمم وأشرفَ ما يَرمُق نحوه أحداقُ
الأمم قيلَ إنَّه عليه الصلاةُ والسلام بَعث إلى خليل له
بمصرَ في أزمة أصابت الناسَ يمتارُ منه فقال خليلُه لو كان
إبراهيمُ يطلب المِيرةَ لنفسه لفعلت ولكنه يُريدها للأضياف
وقد أصابنا ما أصاب الناسَ من الشدة فرجَع غِلمانُه عليه
الصلاة والسلام فاجتازوا ببطحاء لينة فملئوا منها الغرائرَ
حياءً من الناس وجاؤا بها إلى منزل إبراهيمَ عليه
الصَّلاةُ والسَّلامُ وألقَوْها فيه وتفرّقوا وجاء أحدُهم
فأخبر إبراهيمَ بالقصة فاغتم لذلك غماً شديداً لاسيما
لاجتماع الناسِ ببابه رجاءَ الطعام فغلبه عيناه وعمَدت
سارةُ إلى الغرائر فإذا فيها أجودُ ما يكون من الحُوَّارَى
فاختبزت وفي رواية فأطعمت الناس وانتبه إبراهيم عليه
السلام فاشتم رائحةَ الخبزِ فقال من أين لكم قالت سارة من
خليلك المِصريِّ فقال بل من عند خليلى الله عز وجل فسماه
الله تعالى خليلاً
(2/237)
وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
{ولله ما في السماوات وَمَا فِي الارض}
جملةٌ مبتدأةٌ سيقت لتقريرٍ وجوبِ طاعة الله تعالى على أهل
السموات والأرض ببين أن جميعَ ما فيهما من الموجوداتِ له
تعالى خَلْقاً وملكا لايخرج عن ملكوته شئ منها فيجازي
كلاًّ بموجب أعماله خيرا وشرا وقيل لبيان أن اتخاذَه عز
وجل لإبراهيمَ عليه السلام خليلاً ليس لاحتياجه سبحانه إلى
ذلك في شأنٍ من شئونه كما هو دأبُ الآدميين فإن مدار
خُلَّتِهم افتقارُ بعضِهم إلى بعض في مصالحهم بل لمجرد
تكرمتِه وتشريفِه عليه السلام وقيل لبيان أن الخُلة لا
تخرجه عن رتبة العبوديةِ وقيل لبيان أن اصطفاءَه عليه
السلام للخُلّة بمحض مشيئته تعالى أى تعالى ما فيهما
جميعاً يختار منهما ما يشاء وقوله عز وجل
{وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء مُّحِيطاً} تذييلٌ مقرِّرٌ
لمضمون ماقبله على الوجوه المذكورةِ فإن إحاطتَه تعالى
علماً وقُدرةً بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جملتها ما فيهما
من المكلفين وأعمالِهم مما يقرِّرُ ذلك أكملَ تقرير
(2/237)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي
النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا
يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى
النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ
لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا
لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء} أي في حقهن
على الإطلاق كما ينبئ عنه الأحكامُ الآتية لا في حق
ميراثِهن خاصة فإنه صلى الله عليه وسلم قد سُئل عن أحوال
كثيرةٍ مما يتعلق بهن فما بُيِّن حكمُه فيما سلف أحيل
بيانُه على ماورد في ذلك من الكتاب ومالم يبين حكمه بعد
ههنا وذلك قوله تعالى
{قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عليكم فى
الكتاب} بإسناد الإفتاءِ الذي هو تبيين المُبهم وتوضيحُ
المُشكلِ إليه تعالى وإلى ما تُليَ من الكتاب فيما سبق
باعتبارين على طريقة قولِك أغناني زيدٌ وعطاؤُه بعطف مَا
على المبتدأ أو ضميرِه في الخبر لمكان الفصلِ بالمفعول
والجارِّ
(2/237)
والمجرور وإيثارُ صيغة المضارعِ للإيذان
باستمرار التلاوةِ ودوامِها فِى الكتاب إما متعلقٌ بيُتلى
أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المستكنّ فيه أي يتلى كائناً فيه
ويجوز أن يكون ما يتلى عليكم مبتدأً وفي الكتاب خبرُه على
أن المرادَ به اللوحُ المحفوظُ والجملةُ معترضةٌ مسوقةٌ
لبيان عِظَمِ شأن المتلوِّ عليهم وأن العدلَ في الحقوق
المبينة فيه من عظائم الأمورِ التى تجب مراعاتها والمحافظة
عليها فما يتلى حينئذ متناولٌ لما تُليَ وما سيتلى ويجوز
أن يكون مجروراً على القسم المنبئ عن تعظيم المقسَم به
وتفخيمِه كأنه قيل قل الله يُفتيكم فيهن وأُقسِم بما يتلى
عليكم في الكتاب فالمرادُ بقوله تعالى يُفْتِيكُمْ بيانُه
السابقُ واللاحقُ ولا مساغَ لعطفه على المجرور من فيهن
لاختلاله لفظاً ومعنى وقولُه تعالى
{فِى يتامى النساء} على الوجه الأولِ وهو الأظهرُ متعلقٌ
بيتلى أي ما يتلى عليكم في شأنهن وعلى الأخيرين بدلٌ من
فيهن وهذه الإضافةُ بمعنى من لأنها إضافة الشئ إلى جنسه
وقرئ ييامى على قلب همزةِ أيامى ياءً
{اللاتى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} أي ما
فُرض لهن من الميراث وغيره
{وَتَرْغَبُونَ} عطفٌ على الصلة عطفَ جملةٍ مُثبتةٍ على
جملة منفية وقيل حال من فاعل تؤتونهن بتأويل وأنتم ترغبون
ولاريب في أنه لا يظهر لتقييدِ عدمِ الإيتاءِ بذلك فائدةٌ
إلا إذا أريد بما كُتب لهن صَداقُهن
{أَن تَنكِحُوهُنَّ} أي في ان تنكحوهن لالأجل التمتعِ بهن
بل لأكل ما لهن أوفي أن تنكحوهن بغير إكمالِ الصَّداقِ
وذلك ما رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ رضيَ الله تعالى عنها من
أنها اليتيمةُ تكون في حجر وليها هو وليِّها فيرغب في
مالها وجمالِها ويريد أن ينكِحَها بأدنى من سُنة نسائِها
فنُهوا أن ينكِحوهن إلا أن يُقسِطوا لهن في إكمال
الصَّداقِ أو عن أن تنكحوهن وذلك ماروى عنها رضيَ الله
عنْهَا أنَّها يتيمةٌ يرغب وليُّها عن نكاحها ولا
يُنكِحُها فيعضُلها طمعاً في ميراثها وفي رواية عنها رضى
الله عنه هو الرجلُ يكون عنده يتيمة ووارثُها وشريكُها في
المال حتى في العِذْق فيرغب أن ينكِحَها ويكره أن
يزوِّجَها رجلاً فيَشرُكَه في ماله بما شرَكَتْه فيعضُلها
فالمرادُ بما كُتب لهن على الوجه الأولِ والأخير ميراثُهن
وبما يتلى في حقهن قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم
وقولُه تعالى وَلاَ تَأْكُلُوهَا ونحوُهما من النصوص
الدالةِ على عدم التعرّضِ لأموالهم وعلى الوجه الثاني
صَداقُهن وبما يتلى فيهن قولهِ تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ أَن
لا تُقْسِطُواْ فِى اليتامى الآية
{والمستضعفين مِنَ الولدان} عطفٌ على يتامى النساءِ وما
يتلى في حقهم قولُه تعالى يُوصِيكُمُ الله الخ وقد كانوا
في الجاهلية لا يورِّثونهم كما لا يورِّثون النساءَ وإنما
يورِّثون الرجالَ القوام بالأمور رُوي أن عيينةَ بنَ حصنٍ
الفزاريَّ جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
أُخبرنا بأنك تعطي الابنةَ النصفَ والأختَ النصفَ وإنما
كنا نورِّث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة فقال صلى الله
عليه وسلم كذلك أُمِرْتُ
{وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} بالجر عطفٌ على ما قبله
وما يتلى في حقهم قولُه تعالى وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث
بالطيب وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم ونحوُ ذلك
مما لا يكاد يحصر هذا على تقديرِ كونِ فِى يتامى النساء
متعلقاً بيتلى وأما على تقدير كونِه بدلاً من فيهن فالوجهُ
نصبُه عطفاً على موضع فِيهِنَّ أي يفتيكم أن تقوموا ويجوز
نصبُه بإضمار فعلٍ أي ويأمركم وهو خطابٌ للولاة أو
للأولياء والأوصياءِ
{وَمَا تَفْعَلُواْ} في حقوق المذكورين
{مّنْ خَيْرٍ} حسبما أُمرتم به أو ما تفعلوه من خير على
الإطلاق فيندرجُ فيه ما يتعلق بهم اندراجاً أولياً
{فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً} فيجازيكم بحسبه
(2/238)
128 - النساء
(2/239)
وَإِنِ امْرَأَةٌ
خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ
وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
{وَإِنِ امرأة خافت} شروعٌ في بيان ما لم
يُبيَّن فيما سلف من الأحكام أي إن توقعت امرأةٌ
{مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً} أي تجافياً عنها وترفّعاً عن
صحبتها كراهةً لها ومنعاً لحقوقها
{أَوْ إِعْرَاضاً} بأن يُقِلَّ محادثَتَها ومؤانستَها لما
يقتضي ذلك من الدواعي والأسباب
{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} حينئذ
{أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} أي في أن يصلحا
بينهما بأن تحط له المَهرَ أو بعضَه أو القَسْمَ كما فعلت
سَودةُ بنتُ زَمعةٍ حين كرِهت أن يفارِقَها رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم فوهبت يومها لعائشة رضيَ الله عْنُها أو
بأن تهَبَ له شيئا تستميله وقرئ يَصّالحا من يتصالحا
ويصَّلِحا من يصطلحا ويُصالِحا من المفاعلة وصُلحاً إما
منصوبٌ بالفعل المذكورِ على كل تقديرٍ على أنه مصدرٌ منه
بحذف الزوائدِ وقد يُعبّر عنه باسم المصدرِ كأنه قيل
إصلاحاً أو تصلحا أو إصطلاحا حسبما قرئ الفعل أو بفعل
مترتبٍ على المذكور أي فيُصلِح حالَهما صلحاً وبينهما ظرفٌ
للفعل أو حال من صُلحاً والتعرُّضُ لنفي الجُناحِ عنهما مع
أنه ليسَ من جانبها الأخذُ الذي هو المَظِنَّةُ للجُناح
لبيان أن هذا الصلحَ ليس من قبيل الرَّشوةِ المحرمة للمعطي
والآخذ
{والصلح خَيْرٌ} أي من الفُرقة أو من سوء العِشرةِ أو من
الخصومة فاللامُ للعهد أو هو خيرٌ من الخيور فاللامُ للجنس
والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما فبله وكذا قوله تعالى
{وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} أي جعلت حاضرةً له مطبوعةً
عليه لا تنفك عنه أبداً فلا المرأةُ تسمح بحقوقها من الرجل
ولا الرجلُ يجود بحسن المعاشرةِ مع دمامتها فإن فيه
تحقيقاً للصلح وتقريراً له بحثِّ كلَ منهما عليه لكنْ لا
بالنظر إلى حال نفسِه فإن ذلك يستدعي التمادي في المماكسة
والشقاقِ بل بالنظر إلى حال صاحبِه فإن شحَّ نفسِ الرجلِ
وعدمَ ميلِها عن حالتها الجِبِلِّية بغير استمالةٍ مما
يحمِل المرأةَ على بذل بعض حقوقِها إليه لاستمالته وكذا
شحُّ نفسِها بحقوقها مما يحمل الرجلَ على أن يقتنع من
قِبَلها بشيء يسير ولا يُكلّفَها بذلَ الكثيرِ فيتحقق بذلك
الصلح
{وَإِن تُحْسِنُواْ} في العِشرة
{وَتَتَّقُواْ} النشوز والإعراض وإن تعاضدت الأسبابِ
الداعيةِ إليهما وتصبِروا على ذلك مراعاةً لحقوق الصُّحبةِ
ولم تَضْطَرُّوهن إلى بذل شئ من حقوقهن
{فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي من الإحسان
والتقوى أو بما تعملون جميعاً فيدخُل ذلك فيه دخولاً
أولياً
{خبيرا} فيجازيكم ويثيبكم على ذلك البتةَ لاستحالة أن
يُضيِّعَ أجرَ المحسنين وفي خطاب الأزواجِ بطريق الالتفاتِ
والتعبيرِ عن رعاية حقوقِهن بالإحسان ولفظِ التقوى المنبئ
عن كون النشوزِ والإعراض مما يُتوقى منه وترتيبِ الوعدِ
الكريمِ عليه من لطف الاستمالةِ والترغيب في حسن المعاملة
مالا يخفى رُوِيَ أنَّها نزلتْ في عَمرةَ بنتِ محمدِ بنِ
مَسلمةَ وزوجِها سعدِ بنِ الربيع تزوّجها وهي شابةٌ فلما
علاها الكِبَرُ تزوج شابةً وآثرها عليها وجفاها فأتت رسولَ
الله صلى الله عليه وسلم وشكت إليه ذلك وقيل نزلتْ في أبي
السائب كانت له امرأةٌ قد كبِرَت وله منها أولادٌ فأراد أن
يطلقَها ويتزوجَ غيرَها فقالت لا تُطلِّقَني ودعني على
أولادي فاقسِمْ لي من كل شهرين إن شئت وإن شئت فلا تقسِمْ
لي فقال إن كان
(2/239)
129 - 130 131 النساء
يصلُح ذلك فهو أحبُّ إلي فأتى رسولَ الله صلى الله عليه
وسلم فذكر له ذلك فنزلت
(2/240)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ
فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا
كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ
اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ
بَيْنَ النساء} أي مُحال أن تقدورا على أن تعدِلوا بينهن
بحيث لا يقع ميلٌ ما إلى جانب إحداهن في شأن من الشئون
البتةَ وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقسِمُ بين
نسائِه فيعدِلُ ثم يقول اللهم هذا قَسْمي فيما أملِك فلا
تؤاخِذْني فيما تملِكُ ولا أملِكُ وفي رواية وأنت أعلم بما
لاأملك يعني فرطَ محبتِه لعائشة رضى الله عنها
{وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أي على إقامة العدلِ وبالغتم في ذلك
{فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} أي فلا تجوروا على المرغوب
عنها كلَّ الجَوْرِ واعدِلوا ما استطعتم فإن عجْزَكم عن
حقيقة العدلِ إنما يصحح عدمَ تكليفِكم بها لا بما دونها من
المراتب الداخلةِ تحت استطاعتِكم
{فَتَذَرُوهَا} أي التي مِلْتم عنها
{كالمعلقة} التي ليست ذاتَ بعلٍ أو مطلقة وقرئ كالمسجونة
وفي الحديث مَنْ كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم
القيامة وأحدُ شِقَّيه مائلٌ
{وَإِن تُصْلِحُواْ} ما كنتم تُفسِدون من أمورهن
{وَتَتَّقُواْ} الميلَ فيما يستقبل
{فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً} يغفرُ لكم ما فرَط منكُم من
الميل
{رَّحِيماً} يتفضل عليكم برحمته
(2/240)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا
يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ
وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
{وإن يتفرقا} وقرئ يتفارقا أي وإن يفارقْ
كلٌّ منهما صاحبَه بأن لم يتفِقْ بينهما وِفاقٌ بوجه ما من
الصلح وغيرِه
{يُغْنِ الله كُلاًّ} منهما أي يجعلْه مستغنياً عن الآخر
ويكفيه مُهمّاتِه
{مّن سَعَتِهِ} من غناه وقُدرته وفيه زجرٌ لهما عن
المفارقة رُغماً لصاحبه
{وَكَانَ الله واسعا حَكِيماً} مقتدراً متْقِناً في أفعاله
وأحكامِه وقولُه تعالى
(2/240)
وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا
فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
{ولله ما في السماوات وَمَا فِي الأرض} أي
من الموجوداتِ كائناً ما كانَ منْ الخلائق وأرزاقُهم وغيرُ
ذلك جملةٌ مستأنفةٌ منبّهةٌ على كمال سعتِه وعِظَم قدرتِه
{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب من
قَبْلِكُمْ} أي أمرناهم في كتابهم وهم اليهودُ والنصارى
ومَنْ قبلهم من الأمم واللامُ في الكتاب للجنس ومن متعلقة
بوصّينا أو بأوتوا
{وإياكم} عطف على الموصول
{أَنِ اتقوا الله} أي وصينا كلا منكم بأن اتقوا الله على
أنَّ أنْ مصدريةٌ حذف عنها الجارُّ ويجوز أن تكون مفسِّرةً
لأن التوصيةَ في معنى القولِ فقوله تعالى
{وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ ما في السماوات وَمَا
فِي الارض} حينئذ من تتمة القولِ المحكيِّ أي ولقد قلنا
لهم ولكم اتقوا الله وإن تكفروا إلى آخر الآية وعلى تقدير
كونِ أنْ مصدرية مبني الكلام إرادة القول أي أمرناهم
وإياكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم إن تكفروا الآية وقيل هي
جملةٌ مستأنفةٌ خوطب بها هذه الأمة وأيما ما كان فالمترتبُ
على كفرهم ليس مضمونَ قولِه تعالى فإن لله الآية بل هو
الأمرُ بعلمه كأنه قيل وإن تكفروا فاعلَموا إِنَّ للَّهِ
مَا فِى السموات وما في الأرض
(2/240)
132 - 133 134 النساء
من الخلائق قاطبةً مفتقرون إليه في الوجود وسائرِ النعمِ
المتفرِّعةِ عليه لا يستغنون عن فيضه طرفةَ عينٍ فحقُّه أن
يُطاع ولا يعصى ويتقى عقابُه ويجى ثوابُه وقد قرر ذلك
بقوله تعالى
{وَكَانَ الله غَنِيّاً} أي عن الخلق وعبادتِهم
{حَمِيداً} محموداً في ذاته حمِدوه أو لم يحْمَدوه فلا
يتضرر بكفرهم ومعاصيهم كما لا ينتفع بشكرهم وتقواهم وإنما
وصّاهم بالتقوى لرحمته لا لحاجته
(2/241)
وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ
وَكِيلًا (132)
{ولله ما في السماوات وَمَا فِي الارض}
كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ للمخاطبين توطئةً لما بعده من الشرطية
غيرُ داخلٍ تحت القول المحكيِّ أي له سبحانه ما فيهما من
الخلائق خلقاً ومُلكاً يتصرف فيهم كيفما يشاء إيجاداً
وإعداماً وإحياءً وإماتة
{وكفى بالله وَكِيلاً} في تدبير أمورِ الكلِّ وكلِّ الأمور
فلا بد من أن يُتوكلَ عَلَيْهِ لا على أحد سواه
(2/241)
إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس}
أي يُفْنِكم ويستأصِلْكم بالمرة
{وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} أي يوجد دفعةً مكانكم قوماً آخرين
من البشر أو خلقاً آخرين مكانَ الإنسِ ومفعولُ المشئية
محذوفٌ لكونه مضمونَ الجزاءِ أي إن يشأ إفناءَكم وإيجادَ
آخرين يذهبْكم الخ يعني أن إبقاءَكم على أما أنتم عليه من
العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم ولعدم تعلقِ مشيئته
المبنية على الحكم البالغةِ بإفنائكم لا لعجزه سبحانه
تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً
{وَكَانَ الله على ذلك} أي على إفناءكم بالمرة وإيجاد
آخرين دفعة مكانكم
{قديرا} بليغ القدرة وفيه لا سيما في توسيط الخطابِ بين
الجزاءِ وما عُطف عليهِ من تشديد التهديد ما لا يخفى وقيل
هو خطاب لمن عادى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من العرب
أي إن يشأ يُمِتْكم ويأتِ بأناس آخرين يوالونه فمعناه هو
معنى قوله تعالى وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً
غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم ويروى أنها لما
نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر
سلمانَ وقال إنهم قومُ هذا يريد أبناءَ فارسَ
(2/241)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ
ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
{مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا}
كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة
{فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والاخرة} أي فعنده تعالى
ثوابُهما له إن أراده فما له يطلُب أخسَّهما فليطلُبْهما
كمن يقول ربنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً أو
لِيَطلُبْ أشرفَهما فإن من جاهد خالصاً لوجهِ الله تعالى
لم تُخطِئْه الغنيمةُ وله في الآخرة ما هي في جنبه كلا شئ
أي فعند الله ثوابُ الدارين فيعطي كلاًّ ما يريده كقوله
تعالى مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرةِ نَزِدْ لَهُ فِى
حَرْثِهِ الآية
{وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً} عالماً بجميع المسموعاتِ
والمُبصَرات فيندرج فيها ما صدَر عنهُم من الأقوال
والأعمالِ المتعلقةِ بمراداتهم اندراجاً اوليا
(2/241)
135 - 136 النساء
(2/242)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ
الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا
أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا
تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا
أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرًا (135)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ كُونُواْ
قَوَّامِينَ بالقسط} مبالِغين في العدْل وإقامةِ القسطِ في
جميع الأمورِ مجتهدين في ذلك حقَّ الاجتهاد
{شهداء لله} بالحق تقيمون شهاداتِكم لوجه الله تعالى وهو
خبرٌ ثانٍ وقيلَ حَالٌ
{وَلَوْ على أنفسكم} أى ولو كانت الشهادةُ على أنفسكم بأن
تُقِرُّوا عليها على أن الشهادةَ عبارةٌ عن الإخبار بحق
الغيرِ سواءٌ كان ذلك عليه أو على ثالث بأن يكون الشهادةُ
مستتبِعةً لضرر ينالكم من جهة المشهودِ عليه
{أَوِ الوالدين والاقربين} أي ولو كان على والدِيكم
وأقاربِكم
{إِن يَكُنَّ} أي المشهودُ عليه
{غنيا} ينبغى في العادة رضاه ويتقى سَخَطُه
{أَوْ فَقَيراً} يُترحّم عليه غالبا وقرئ إن يكن غنيٌّ أو
فقيرٌ على أنَّ كانَ تامةٌ وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة
قوله تعالى
{فالله أولى بهما} عليه أى فلا تمنعوا عنها طلباً لرضا
الغِنى أو ترحماً على الفقير فإن الله تعالى أَولى بجنسي
الغنيِّ والفقير المدلولِ عليهما بما ذكر ولولا أن
الشهادةَ عليهما مصلحةٌ لهما لما شرعها وقرئ أَوْلى بهم
{فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ} أي مخافةَ أن
تعدِلوا عن الحق فإن اتباعَ الهوى من مظانِّ الجَوْرِ الذي
حقُّه أن يُخافَ ويُحذر وقيل كراهةَ أن تعدِلوا بين الناسِ
أو إرادةَ أن تعدِلوا عن الحق
{وَإِن تَلْوُواْ} أي ألسنتَكم عن شهادة الحقِّ أو حكومةِ
العدلُ بأن تأتوا بها لا على وجهها وقرئ وإن تلُوا من
الولاية والتصدي أي وإن وَلِيتم إقامةَ الشهادة
{أَوْ تُعْرِضُواْ} أي عن إقامتها رأساً
{فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} مِن لَيِّ
الألسنةِ والإعراضِ بالكلية أو من جميعِ الأعمالِ التي من
جُملتها ما ذكر
{خَبِيراً} فيجازيكم لا محالة على ذلك فهو على القراءة
المشهورةِ وعيدٌ محضٌ وعلى القراءة الأخيرةِ متضمِّنٌ
للوعيد
(2/242)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ
وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ
يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا
(136)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} خطابٌ
لكافة المسلمين فمعنى قولِه تعالى
{آمنُوا بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذى نَزَّلَ على
رَسُولِهِ والكتاب الذى أَنَزلَ مِن قَبْلُ} اثبُتوا على
الإيمان بذلك وداوموا عليه وازدادوا فيه طُمأْنينةً
ويقيناً أو آمِنوا بما ذكر مفصلا بناء على أن إيمانَ
بعضِهم إجماليٌّ والمرادُ بالكتاب الثاني الجنسُ المنتظِمُ
لجميعِ الكتبِ السماوية لقوله تعالى وكتبه بالإيمان به
الإيمانُ بأن كلَّ كتاب من تلك الكتبِ مُنزَّلٌ منه تعالى
على رسول معينٍ لإرشاد أمتِه إلى ما شرَع لهم من الدين
بالأومر والنواهي لكن لا على أن مدارَ الإيمانِ بكل واحد
من تلك الكتب خصوصيةُ ذلك الكتابِ ولا على أن أحكامَ تلك
الكتبِ وشرائعَها باقيةٌ بالكلية ولا على أن الباقيَ منها
معتبرٌ بالإضافة إليها بل على أن الإيمانَ بالكل
(2/242)
137 - 138 النساء
مندرجٌ تحت الإيمانِ بالكتاب المنزلِ على رسوله وأن أحكامَ
كلَ منها كانت حقة ثابتة إلى ورود ما نسخها وأن ما لم ينسخ
منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتةٌ من حيث إنها من
أحكام هذا الكتاب الجليلِ المصونِ عن النسخ والتبديلِ كما
مر في تفسير خاتمةِ سورة البقرةِ وقرئ نُزل وأُنزل على
البناء للمفعول وقيل هو خطابٌ لؤمنى أهل الكتاب لما أنَّ
عبدَ اللَّه بنَ سلام وابنَ أختِه سلامةَ وابنَ أخيه
سَلَمةَ وأسَداً وأُسيداً ابنى كعبٍ وثعلبةَ بنَ قيسٍ
ويامينَ بنَ يامينَ أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقالوا يا رسولَ الله أنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى
والتوراةِ وعزيرٍ ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فقال صلى
الله عليه وسلم بل آمِنوا بالله ورسولِه محمدٍ وكتابه
القرآنِ وبكل كتابٍ كان قبله فقالوا لا نفعل فنزلت فآمنوا
كلُّهم فأمرهم بالإيمان بالكتاب المتناوِلِ للتوراة مع
أنهم مؤمنون بها من قبلُ ليس لكون المرادِ بالإيمان ما
يعُمّ إنشاءَه والثباتَ عليه ولالأن متعلَّقَ الأمر حقيقةً
هو الإيمانُ بما عداها كأنه قيل آمِنوا بالكل ولا تخُصُّوه
بالبعض بل لأن المأمور به إنما هو الإيمانُ بها في ضمن
الإيمانِ بالقرآن على الوجه الذي أشير إليه آنفاً لا
إيمانُهم السابقُ ولأن فيه حملاً لهم على التسوية بينهما
وبين سائر الكتبِ في التصديق لاشتراك الكلِّ فيما يوجبه
وهو النزولُ من عند الله تعالى وقيل خطابٌ لأهل الكتابين
فالمعنى آمنوا بالكل لا ببعض دون بعض وأمر كل طائفةٍ
بالإيمان بكتابه في ضمن الأمرِ بالإيمان بجنس الكتابِ لما
ذكر وقيل هو للمنافقين فالمعنى آمِنوا بقلوبكم لا بألسنتكم
فقط
{ومن يكفر بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم
الاخر} أى بشئ من ذلك
{فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً} عن المقصِد بحيث لا يكاد
يعود إلى طريقه وزيادةُ الملائكةِ واليومِ الآخرِ في جانب
الكفر لما أن بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمانُ أصلاً
وجمعُ الكتبِ والرسلِ لما أن الكفرَ بكتاب أو برسول كفرٌ
بالكل وتقديمُ الرسولِ فيما سبق لذكر الكتابِ بعنوان كونِه
منزلاً عليه وتقديمُ الملائكة والكتبِ على الرسل لأنهم
وسايط بين الله عزَّ وجلَّ وبيّن الرسلِ في إنزال الكتب
(2/243)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا
ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ
لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
{إن الذين آمنوا} قال قتادة هم اليهودُ
آمنوا بموسى
{ثُمَّ كَفَرُواْ} بعبادتهم العجلَ
{ثُمَّ آمنوا} عند عَودِه إليهم
{ثُمَّ كَفَرُواْ} بعيسى والإنجيل
{ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم
وقيل هم قومٌ تكررَ منهم الارتدادُ وأصرّوا على الكفر
وازدادوا تمادياً في الغي
{لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ
لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} لما أنه يُستبعد منهم أن يتوبوا
عن الكفر ويثبُتوا على الإيمان فإن قلوبَهم قد ضربت بالكفر
وتمرّنت على الرِّدة وكان الإيمانُ عندهم أهونَ شئ وأدونه
لاانهم لو أخلصوا الإيمانَ لم يُقبل منهم ولم يغفَرْ لهم
وخبرُ كان محذوفٌ أي مريداً ليغفر لهم وقوله عز وجل
(2/243)
بَشِّرِ
الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
{بَشّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً
أَلِيماً} يدل على أن المرادَ بالمذكورين الذين آمنوا في
الظاهر نِفاقاً وكفروا في السر مرةً بعد أخرى ثم ازدادوا
كفرا ونفاقا ووضع
(2/243)
139 - 140 النساء بشر موضع أنذر تهكماً بهم
(2/244)
الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ
فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
{الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء}
في محل النصبِ أو الرفعُ على الذم بمعنى أريد بهم الذين
أوهم الذين وقيل نُصب على أنه صفةٌ للمنافقين وقوله تعالى
{مِن دُونِ المؤمنين} حال من فاعل يتخذون أي يتخذون
الكفرةَ أنصاراً متجاوزين ولايةَ المؤمنين وكانوا يوالونهم
ويقول بعضُهم لبعض لايتم أمر محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم
فتولَّوا اليهود
{أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة} إنكارٌ لرأيهم وإبطالٌ له
وبيانٌ لخيبة رجائِهم وقطعٌ لأطماعهم الفارغةِ والجملةُ
معترضةٌ مقررةٌ لما قبلها أي أيطلُبون بموالاة الكَفرةِ
القوةَ والغلبة قال الواحدي أصلُ العزة الشدةُ ومنه قيل
للأرض الشديدة الصُلبة عَزازٌ وقوله تعالى
{فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} تعليلٌ لما يفيده
الاستفهامُ الإنكاريُّ من بُطلانِ رأيِهم وخَيبةُ رجائِهم
فإن انحصارَ جميعِ أفرادِ العزةِ في جنابه عز وعلا بحيث لا
ينالها إلا أولياؤُه الذين كُتب لهم العزةُ والغَلَبةُ قال
تعالَى وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
يقضي ببطلان التعززِ بغيره سبحانه وتعالى واستحالةِ
الانتفاعِ به وقيل هو جوابُ شرطٍ محذوفٍ كإنَّه قيل إن
يبتغوا عندهم عزة فإن العزةَ لله وجميعاً حال من المستكن
في قوله تعالى لِلَّهِ لاعتماده على المبتدأ
(2/244)
وَقَدْ نَزَّلَ
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ
اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا
تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ
غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ
جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ
جَمِيعًا (140)
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ} خطابٌ
للمنافقين بطريق الالتفاتِ مفيدٌ لتشديد التوبيخ الذى
بستدعيه تعداد جناياتهم وقرئ مبنَّياً للمفعولِ من
التَّنزيلِ والإنزالِ ونزَلَ أيضاً مخففاً والجملةُ حالٌ
من ضمير يتخذون أيضاً مفيدةٌ لكمال قباحةِ حالِهم ونهاية
استعصائِهم عليه سبحانه بييان أنهم فعلُوا ما فعلُوا من
موالاة الكفرة مع تحقق ما يمنعهم من ذلك وهو وردود النهي
الصريحِ عن مجالستهم المستلزمِ للنهي عن موالاتهم على
أبلغِ وجهٍ وآكدِه إثرَ بيانِ انتفاءِ ما يدعوهم إليه
بالجملة المعترضة كأنه قيل تتخذونهم أولياءَ والحالُ أنَّه
تعالَى قد نزّل عليكم قبل هذا بمكة
{فِى الكتاب} أي القرآن الكريم
{أن إذا سمعتم آياتِ الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ
بِهَا فلا تقعدوا معهم حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غيره}
وذلك قوله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِى
آياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ الآية وهذا يقتضي الانزجارَ عن
مجالستهم في تلك الحالة القبيحةِ فكيف بموالاتهم
والاعتزازِ بهم وأنْ هي المخففةُ من أنَّ وضميرُ الشأنِ
الذي هو اسمُها محذوفٌ والجملةُ الشرطية خبرُها وقولُه
تعالى يَكْفُرُ بِهَا حالٌ من آياتِ الله وقوله تعالى
وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا عطفٌ عليهِ داخلٌ في حكم الحاليةِ
وإضافةُ الآياتِ إلى الاسمِ الجليلِ لتشريفها وإبانةِ
خطرِها وتهويلِ أمر الكفرِ بها أي نزل عليكم في الكتاب أنه
إذا سمعتم آياتِ الله مكفوراً بها ومستهزَأً بها وفيه
دِلالةٌ على أن المنزلَ على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم
وإن خوطب به خاصةً منزلٌ على الأمة وأن مدارَ الإعراضِ
عنهم هو العلمُ بخوضهم في الآيات ولذلك عبّر عن ذلك تارة
بالرؤية
(2/244)
141 - 142 النساء وأخرى بالسماع وأن
المرادَ بالإعراض إظهارُ المخالفةِ بالقيام عن مجالسهم لا
الإعراضُ بالقلب أو بالوجه فقط والضميرُ في معهم للكفرة
المدلولِ عليهم بقولِه تعالى يُكَفَرُ بِهَا
وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا
{إنكم إذا مّثْلُهُمْ} جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لتعليل النهي
غيرُ داخلةٍ تحت التنزيلِ وإذن ملغاةٌ عن العمل لوقوعها
بين المبتدأ والخبر أي لا تقعدوا معهم في ذلك الوقتِ إنكم
إن فعلتموه كنتم مثلَهم في الكفر واستتباعِ العذابِ
وإفرادُ المثلِ لأنه كالمصدر أو للاستغناء بالإضافة إلى
الجمع وقرئ شاذاً مثلَهم بالفتح لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ
كما في قوله تعالى مّثْلَ ماانكم تَنطِقُونَ وقيلَ هو
منصوبٌ على الظرفية أي في مثل حالهم
وقوله تعالى {إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِى
جَهَنَّمَ جَمِيعاً} تعليلٌ لكونهم مثلَهم في الكفر ببيان
ما يستلزمه من شِرْكتهم لهم في العذاب والمرادُ بالمنافقين
إما المخاطَبون وقد وُضع موضِعَ ضميرهم المظهر تسجيلاً
بنفاقهم وتعليلاً للحكم بمأخذ الاشتقاقِ وإما الجنسُ وهم
داخلون تحته دخولاً أولياً وتقديمُ المنافقين على الكافرين
لتشديد الوعيدِ على المخاطبين ونصبُ جميعاً مثلُ ما قبله
(2/245)
الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ
اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ
لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا
(141)
{الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} تلوينٌ
للخطاب وتوجيهٌ له إلى المؤمنين بتعديد بعضٍ آخرَ من
جنايات المنافقين وقبائحِهم وهو إما بدلٌ من الذين يتخذون
أو صفةٌ للمنافقين فقط إذ هم المتربصون دون الكافرين أو
موفوع أو منصوبٌ على الذمِّ أي ينتظرون أمرَكم وما يحدُث
لكم من ظفَر أو إخفاقٍ والفاء في قوله تعالى
{فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ الله} لترتيب مضمونِه على
ما قبلها فإن حكايةَ تربُّصِهم مستتبعة لحاية ما يقع بعد
ذلك كما أن نفس التربُّص يستدعي شيئاً ينتظر المتربَّصُ
وقوعَه
{قَالُواْ} أي لكم
{أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} أي مُظاهرين لكم فأسهموا لنا في
الغنيمة
{وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ} من الحرب فإنها سِجالٌ
{قَالُواْ} أي للكفرة
{أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} أي ألم نغلِبْكم ونتمكنْ
من قتالكم وأسرِكم فأبقَينا عليكم
{وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ المؤمنين} بأن ثبّطناهم عنكم وخيّلنا
لهم ما ضَعُفَت به قلوبُهم ومرِضوا في قتالكم وتوانَينا في
مظاهرتهم وإلا لكنتم نُهبةً للنوائب فهاتوا نصيباً لنا مما
أصبتم وتسميةُ ظفرِ المسلمين فتحاً وما للكافرين نصيباً
لتعظيم شأنِ المسلمين وتخسيس حظ الكافرين وقرئ ونمنعَكم
بإضمار أن
{فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} حكماً يليق
بشأن كلَ منكم من الثواب والعقاب وأما في الدنيا فقد
أُجريَ على من تفوه بكلمة الإسلام حُكمُه ولم يضع السيفَ
على من تكلم بها نفاقاً
{وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً}
حينئذ كما قد يجعل ذلك في الدنيا بطريق الابتلاءِ
والاستدراجِ أو في الدنيا على أن المرادَ بالسبيل الحجة
(2/245)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا
إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ
وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
{إِنَّ المنافقين يخادعون الله وَهُوَ
خَادِعُهُمْ} كلام مبتدأٌ سيق لبيان طرف
(2/245)
143 - 144 النساء آخرَ من قبائح أعمالِهم
أي يفعلون ما يفعل المخادِعُ من إظهار الإيمانِ وإبطال
نقيضِه والله فاعلٌ بهم ما يفعل الغالبُ في الخدّاع حيث
تركهم في الدنيا معصومي الدماء والأموالِ وَأَعَدَّ لَهُمْ
في الآخرة الدرك الأسفل من النار وقد مر التحقيق في صدر
سورةِ البقرةِ وقيل يُعطَوْن على الصراط نوراً كما يعطى
المؤمنون فيمضون بنورهم ثم يُطفأ نورُهم ويبقى نورُ
المؤمنين فينادون انظُرونا نقتبِسْ من نوركم
{وإذا قَامُوا إلَى الصَّلاةِ قَامُوا كسالى} متثاقلين
كالمكره على الفعل وقرئ بفتح الكاف وهما جَمْعا كسلان
{يراؤون الناس} ليحسَبوهم مؤمنين والمراءاةُ مفاعلة بمعنى
التفعيل كنَعِم وناعم أو للمقابلة فإن المرئى يُري غيرَه
عملَه وهو يُريه استحسانَه والجملةُ إمَّا استئنافٌ مبنيٌّ
على سؤال نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيل فماذا يريدون بقيامهم
إليها كُسالى فقيل يراءون إلخ أو حالٌ من ضمير قاموا
{وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً} عطف على يراءون
أي لا يذكرونه سبحانه إلا ذكراً قليلاً وهو ذكرُهم باللسان
فإنه بالإضافة إلى الذكر بالقلب قليلٌ أو إلا زماناً
قليلاً أو لا يصلّون إلا قليلاً لأنهم لايصلون إلا بمر أى
من الناس وذلك قليلٌ وقيل لا يذكرونه تعالى في الصلاة إلا
قليلاً عند التكبيرِ والتسليمِ
(2/246)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ
ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك} حال من فاعل
يراءون أو منصوبٌ على الذمِّ وذلك إشارةٌ إلى الإيمان
والكفرِ المدلولِ عليهما بمعونة المقامِ أى مرددين بينهما
متحيرين قد ذبذبهم الشيطانُ وحقيقةُ المذبذبِ ما يُذَبّ
ويُدفع عن كِلا الجانبين مرةً بعد أخرى وقرئ بكسر الذالِ
أي مذَبْذِبين قلوبَهم أو رأيَهم أو دينهم او هو بمعنى
متذبذبين كما جاء صلصل بمعنى نصلصل وفي مصحف ابن مسعودٍ
رضي الله عنه متذبذبين وقرئ مدبدبين بالدال غير المعجمة
وكأن المعنى أخذ بهم تارة في دُبَّةٍ أي طريقة وأخرى في
أخرى
{لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إلى هؤلاء} اى لامنسوبين إلى
المؤمنين ولا منسوبين إلى الكافرين أولا صائرين إلى
الأولين ولا إلى الآخَرين فمحلُّه النصبُ على أنه حال من
ضمير مذبذبين أو على أنه بدلٌ منه أو بيان وتفسيرله
{وَمَن يُضْلِلِ الله} لعدم استعدادِه للهداية والتوفيق
{فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} موصِلاً إلى الحق والصواب
فضلاً عن أن تهديه إليه والخطابُ لكلِّ من يصلُح له كائناً
من كانَ
(2/246)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ
تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين}
نُهوا عن موالاة الكفرةِ صريحاً وإن كان في بيان حال
المنافقين مزجرة عن ذلك مبالغةً في الزجر والتحذير
{أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ
سُلْطَاناً مُّبِيناً} أي أتريدون بذلك أن تجعلوا لله
عليكم حجةً بيّنةً على أنكم منافقون فإن موالاتَهم أوضحُ
أدلةِ النفاقِ أو سلطاناً يُسلِّط عليكم عقابَه وتوجيهُ
الإنكار إلى الإرادة دون متعلَّقِها بأن يقال أتجعلون
المبالغة في إنكارِه وتهويلِ أمرِه ببيان أنه مما لا يصدُر
عن العاقل إرادتُه فضلاً عن صدور نفسِه كما في قوله عز وجل
أم تريدون أن تسألوا رسولكم
(2/246)
135 - 146 147 148 النساء
(2/247)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ
لَهُمْ نَصِيرًا (145)
{إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرَكِ
الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وهو الطبقة التى فى قعر جهنم
وإنما كان كذلك لأنهم أخبث الكفرة حيث ضموا إلى الكفر
الاستهزاء بالإسلام وأهله وخداعهم وأما قوله صلى الله عليه
وسلم ثلاثٌ من كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه
مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان ونحوه
فمن باب التشديد والتهديد والتغليظ مبالغة فى الزجر وتسمية
طبقاتها السبع دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض
وقرئ بفتح الراء وهو لغة كالسطر والسطر ويعضده أن جمعه
أدراك
{ولن تجد لهم نصيراً} يخلصهم منه والخطاب كما سبق
(2/247)
إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَجْرًا عَظِيمًا (146)
{إلا الذين تابوا} أي عن النفاق وهو
استثناء من المنافقين بل من ضميرهم فى الخبر
{وأصلحوا} ما أفسدوا من أحوالهم فى حال النفاق
{واعتصموا بالله} أى وثقوا به وتمسكوا بدينه
{وأخلصوا دينهم} أى جعلوه خالصاً
{لله} لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه
{فأولئك} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز
الصلةِ وما فيهِ منْ مَعْنى البُعدِ للإيذانِ ببعدِ
المنزلة وعلو الطبقة
{مع المؤمنين} أى المؤمنين المعهودين الذين لم يصدر عنهم
نفاق أصلا منذ آمنوا وإلا فهم أيضاً مؤمنون أى معهم فى
الدرجات العالية من الجنة وقد بين ذلك بقوله تعالى
{وسوف يؤت الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً} لا يُقادر قدره
فيساهمونهم فيه
(2/247)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ
بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ
اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
{ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم}
استئناف مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجوداً وعدماً إنما هو
كفرهم لاشئ آخر فيكون مقرراً لما قبله من إثابتهم عن
توبيتهم وما استفهامية مفيدة للنفى على أبلغِ وجهٍ وآكدِه
أى أى شئ يفعل الله سبحانه بتعذيبكم أيتشفى به من الغيظ أم
يدرك به الثأر أم يستجلب به نفعاً أم يستدفع به ضرراً كما
هو شأن الملوك وهو الغنى المتعالى عن أمثال ذلك وإنما
هوأمر يقتضيه كفركم فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر انتفى
التعذيب لامحالة وتقديم الشكر على الإيمان لما أنه طريق
موصل إليه فإن النظر يدرك أولا ما عليه من النعم الأنفسية
والافاقية فيشكر شكراً مبهماً ثم يترقى إلى معرفة المنعم
فيؤمن به وجوابُ الشرط محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه
{وكان الله شاكراً} الشكر من الله سبحانه هو الرضا باليسير
من طاعة عباده وأضعاف الثواب بمقابلته
{عَلِيماً} مُبالغاً في العلمِ بجميعِ المعلوماتِ التي
مِنْ جملتها شكركم وإيمانكم فيستحيل أن لا يوفيكم أجوركم
(2/247)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
{لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ
القول} عدمُ محبتِه تعالى لشيء كنايةٌ عن سَخَطه والباءُ
متعلقةٌ بالجهر 148 ومِنْ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من السوء أي
لا يحب الله تعالى أن يجهرَ أحدٌ بالسوء كائناً من القول
{إَلاَّ مَن ظَلَمَ}
(2/247)
أي إلا جهرَ مَن ظُلم بأن يدعُوَ على ظالمه
أو يَتظلَّمَ منه ويذكرَه بما فيه من السوء فإن ذلك غيرُ
مسخوط عنده سبحانه وقيل هو أن يبدأ بالشتيمة فيردَّ على
الشاتم وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ الآية وقيل ضاف
رجلا قوماً فلم يُطعِموه فاشتكاهم فعوتب على الشكاية فنزلت
وقرئ إلا من ظَلَم على البناء للفاعل فالاستثناءُ منقطِعٌ
أي ولكنِ الظالمُ يرتكب مالا يُحبه الله تعالى فيجهر
بالسوء
{وَكَانَ الله سَمِيعاً} لجميع المسوعات فيندرجُ فيها
كلامُ المظلومِ والظالم
{عَلِيماً} بجميعِ المعلوماتِ التي مِنْ جملتها حالُ
المظلومِ والظالم فالجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لما يفيده
الاستثناء
(2/248)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا
أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
{إِن تُبْدُواْ خَيْراً} أيَّ خير كان من
القوال والأفعالِ
{أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء} مع ما سُوِّغ
لكم من مؤاخذة المسئ والتنصيص عليه مع اندراجه في إبداء
الخيرِ وإخفائه لما أنه الحقيقُ بالبيان وإنما ذُكر إبداءُ
الخير وإخفاؤه بطريق التسبيب له كما ينبئ عنه قولُه عزَّ
وجلَّ
{فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} فإن إيرادَه في
معرِض جوابِ الشرطِ يدل على أن العُمدة هو العفوُ مع
القدرة أي كان مبالِغاً في العفو مع كمال قدرتِه على
المؤاخذة وقال الحسن يعفو عن الجانين مع قدرته على
الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسُنة الله تعالى وقال الكلبي
هو أقدر على عفو ذنوبِكم منكم على عفو ذنوبِ مَنْ ظلمكم
وقيل عفُوّاً عمن عفا قديراً على إيصال الثوابِ إليه
(2/248)
إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ
نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)
{إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله
وَرُسُلِهِ} أي يؤدِّي إليه مذهبهم ويقتضيه رأيهم لاانهم
يصرحون بذلك كما ينبئ عنه قولُه تعالى
{وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ} أي
بأن يؤمنوا به تعالى ويكفُروا بهم لكن لا بأن يصرِّحوا
بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبةً بل بطريق الاستلزامِ
كما يحكيه قوله تعالى
{وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} أي
نؤمن ببعض الأنبياءِ ونكفُر ببعضهم كما قالت اليهود نؤمن
بموسى والتوراةِ وعزيرٍ ونكفر بما وراء ذلك وما ذاك إلا
كفرٌ بالله تعالى ورسُلِه وتفريقٌ بين الله تعالى ورسُله
في الإيمان لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياءِ
عليهم السلام وما من نبيَ من الأنبياء إلا وقد أخبر قومَه
بحقية دين نبينا محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وعليهم أجعين
فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى أيضاً من
حيث لايحتسب
{وَيُرِيدُونَ} بقولهم ذلك
{أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك} أي بين الإيمان والكفرِ
{سَبِيلاً} يسلُكونه مع أنه لا واسطةَ بينهما قطعاً إذِ
الحق لا يختلف وماذا بعد الحقِّ إلا الضلال
(2/248)
أُولَئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
عَذَابًا مُهِينًا (151)
{أولئك} الموصوفون بالصفات القبيحةِ
{هُمُ الكافرون} الكاملون في الكفر لا عبرة بمايدعونه
ويسمونه إيماناً أصلاً
{حَقّاً} مصدرٌ مؤكدٌ لمضمون الجملةِ أي حَقَّ ذلك أي
كونُهم كاملين في الكفر حقاً أو صفةٌ لمصدر الكافرين أي هم
الذين كفروا حقا أى
(2/248)
152 - 153 النساء ثابتاً يقيناً لا ريب فيه
{وَأَعْتَدْنَا للكافرين} أي لَهم وإنما وُضع المُظهرُ
مكان المضمر ذما وتذكيراً لوصفهم أو لجميع الكافرين وهم
داخلونَ في زُمرتهم دخولا أولياء
{عَذَاباً مُّهِيناً} سيذوقونه عند حلوله
(2/249)
وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
{والذين آمنوا بالله وَرُسُلِهِ} أي على
الوجه الذي بُيّن في تفسيرِ قولِه تعالى يَأَيُّهَا الذين
آمنوا آمنوابالله وَرَسُولِهِ الآية
{وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} بأن يؤمنوا
ببعضهم ويكفروا بآخَرين كما فعله الكفرة ودخولُ بَيْنَ على
أحد قد مرَّ تحقيقُه في سورة البقرة بما لا مزيدَ عليهِ
{أولئك} المنعوتون بالنعوت الجليلةِ المذكورةِ
{سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} الموعودةَ لهم وتصديرُه
بسوف لتأكيد الوعدِ والدلالةِ على إنه كائنٌ لا محالةَ وإن
تراخى وقرئ نُؤتيهم بنون العظمة
{وَكَانَ الله غَفُوراً} لما فرَط منهم
{رَّحِيماً} مبالغاً في الرحمة عليهم بتضعيف حسناتِهم
(2/249)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ
الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ
السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ
فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا
عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ
عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء} نزلت في أحبار اليهودِ حين
قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت نبياً فأتِنا
بكتاب من السماء جملةً كما أتى به موسى عليه الصلاة
والسلام وقيل كتاباً محرَّراً بخطَ سماويَ على اللوح كما
نزلت التوراةُ أو كتاباً نعايته حين يَنزِل أوْ كتاباً
إلينا بأعياننا بأنك رسولُ الله وما كان مقصِدُهم بهذه
العظيمة إلا التحكمَ والتعنّتَ قال الحسنُ ولو سألوه لكي
يتبيَّنوا الحقَّ أعطاهم وفيما آتاهم كفاية
{فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك} جوابُ شرطٍ
مقدّر أى إن استكبرت ماسألوه منك فقد سألوا موسى شيئا اكبر
وقيل تعليلٌ للجوابِ أي فلا تُبالِ بسؤالهم فقد سألوا موسى
أكبر وهذه المسألةُ وإن صدَرت عن أسلافهم لكنهم لما كانوا
مقتدين بهم في كلِّ ما يأتُون وما يذرون أُسنِدت إليهم
والمعنى أن لهم في ذلك عِرْقاً راسخاً وأن ما اقترحوا عليك
ليس أولَ جهالاتِهم
{فقالوا أرنا الله جهرة} أي أرِناه نَرَهُ جهرةً أي
عِياناً أو مجاهرين معاينين له والفاءُ تفسيريةٌ
{فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} أي النارُ التى جاءت من السماء
فأهلكتهم وقرئ الصعقةُ
{بِظُلْمِهِمْ} أي بسبب ظلمِهم وهو تعنتُهم وسؤالُهم لما
يستحيل في تلك الحالةِ التي كانوا عليها وذلك لا يقتضي
امتناعَ الرؤيةِ مطلقاً
{ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات}
أي المعجزاتِ التى أظهرها لفرعون من العصا واليدِ البيضاءِ
وفلْقِ البحر وغيرِها لاالتوراة لأنها لم تنزلْ عليهم بعد
{فَعَفَوْنَا عَن ذلك} ولم نستأصِلْهم وكانوا أحقاءَ به
قيل هذا استدعاءٌ لهم إلى التوبة كأنه قيل إن أولئك أجرموا
تابوا فعفونا عنهم فتوبوا أنتم أيضاً حتى نعفو عنكم
{وآتينا موسى سلطانا مبينا} سلطانا ظاهرا عليهم حيث أمرهم
بأن يقتُلوا
(2/249)
154 - 155 النساء أنفسَهم توبةً عن معصيتهم
(2/250)
وَرَفَعْنَا
فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ
ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا
تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا
غَلِيظًا (154)
{وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بميثاقهم}
أي بسبب ميثاقِهم ليُعطوه على ماروى أنهم امتنعوا عن قبول
شريعة التوراة فرفع الله تعالى عليهم الطور فقبلوها أو
ليخافوا فلا ينقضوه على ما روي أنهم هموا بنقضه فرفع الله
تعالى عليهم الجبل فخافوا وأقلعوا عن النقض وهو الأنسبُ
بما سيأتي من قولهِ عزَّ وجلَّ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ
ميثاقا غَلِيظاً
{وَقُلْنَا لَهُمُ} على لسان موسى عليه السلام والطورُ مظل
عليهم
{ادخلوا الباب} قال قتادة كنا نحدَّث أنه بابٌ من أبواب
بيتِ المقدس وقيل هو إيليا وقيل هو أريحا وقيل هو اسمُ
قريةٍ وقيل بابُ القُبة التي كانوا يصلون إليها فإنهم لم
يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام
{سُجَّدًا} أي متطامنين خاضعين
{وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ} أي لاتظلموا باصطياد
الحيتانِ
{فِى السبت} وقرئ لاتعتدوا بفتح العين وتشديد الدال على أن
أصله تعتدوا فأدغمت التاءُ في الدال لتقاربهما في المخرج
بعد نقل حركتها إلى العين
{وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ} على الامتثال بما كُلّفوه
{ميثاقا غَلِيظاً} مؤكداً وهو العهدُ الذي أخذه الله عليهم
في التوراة قيل إنهم أعطَوا الميثاقَ على أنهم إن همّوا
بالرجوع عن الدين فالله تعالى يعذِّبهم بأي أنواع العذاب
أراد
(2/250)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ
مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ
الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا
غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا
يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
{فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} ما مزيدةٌ
للتأكيد أو نكرةٌ تامةٌ ونقضُهم بدلٌ منها والباءُ متعلقةٌ
بفعل محذوفٍ أي فبسبب نقضِهم ميثاقَهم ذلك فعلْنا بهمْ مَا
فعلنَا من اللعن والمسخِ وغيرِهما من العقوبات النازلةِ
عليهم أو على أعقابهم روي أنهم اعتَدَوا في السبت في عهد
داودَ عليه السلام فلُعنوا ومُسِخوا قِردةً وقيل متعلقةٌ
بحَرَّمْنا على أنَّ قولَه تعالى فَبِظُلْمٍ بدلٌ من قوله
تعالى فيما وما عطف عليه فيكون التحريمُ معلّلاً بالكل ولا
يخفى أن قولَهم إنا قتلنا المسيحَ وقولَهم على مريمَ
البهتانُ متأخرٌ عن التحريم ولامساغ لتعلّقها بما دل عليه
قوله تعالى بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ لأنه
رد لقولهم قُلُوبُنَا غُلْفٌ فيكون من صلة قولِه تعالى
وَقَوْلِهِمْ المعطوفِ على المجرور فلا يعمل في جاره
{وكفرهم بآيات الله} أي بالقرآن أو بما في كتابهم
{وَقَتْلِهِمُ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ} كزكريا ويحيى
عليهما السلام
{وَقَوْلِهِمْ قلوبنا غلف} جمع أغلف أي هي مغشاةٌ بأغشية
جبلية لايكاد يصل إليها ماجاء به محمدٍ صلَّى الله عليهِ
وسلم أو هو تخفيفُ غُلُفٌ جمع غِلاف أي هي أوعيةٌ للعلوم
فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره قاله ابن عباس وعطاء وقال
الكلبي يعنون أن قلوبَنا بحيث لا يصل إليها حديث إلا وعته
ولو كان في حديثك خير لوعته أيضا
{بل طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} كلامٌ معترِضٌ
بين المعطوفَين جئ به على وجه الاستطرادِ مسارعةً إلى رد
زعمِهم الفاسدِ أي ليس كفرُهم وعدمُ وصولِ الحقِّ إلى
قلوبهم لكونها غُلفاً بحسب الجِبِلّة بل الأمرُ بالعكس حيث
ختم الله عليها بسبب كفرهم أو ليست قلوبهم كما زعموابل هي
مطبوع عليها
(2/250)
156 - 157 النساء بسبب كفرِهم
{فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} منهم كعبدِ اللَّهِ
بنِ سَلاَم وأضرابه أو إلا إيماناً قليلاً لا يُعبأ به
(2/251)
وَبِكُفْرِهِمْ
وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
{وَبِكُفْرِهِمْ} أي بعيسى عليه السلام وهو
عطفٌ على قولهم وإعادةُ الجارِّ لطول ما بينهما بالاستطراد
وقد جُوِّز عطفُه على بكفرهم فيكون هو ما عُطف عليه من
أسباب الطبعِ وقيل هذا المجموعُ معطوفٌ على مجموع ما قبلَه
وتكريرُ ذكر الكفرِ للإيذان بتكرُّر كفرِهم حيث كفروا
بموسى ثم بعيسى ثم بمحمَّدٍ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ
{وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً} لا يقادَر
قدرُه حيث نسبوها إلى ما هي عنه بألف منزل
(2/251)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا
قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ
اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ
لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ
مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ
الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح
عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله} نظمُ قولِهم هذا في سلك
سائر جناياتِهم التي نُعيت عليهم ليس لمجرد كونِه كذباً بل
لتضمُّنه لابتهاجهم بقتل النبيِّ عليه السلام والاستهزاءِ
به فإن وصفَهم له بعنوان الرسالةِ إنما هو بطريق التهكّم
به عليهِ السَّلامُ كَما في قوله تعالى يا أيها الذى
نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر الخ ولإنبائه عن ذكرهم له عليه
السلام بالوجه القبيحِ على ما قيلَ من أن ذلك وُضِع للذكر
جميل من جهته تعالى مكان ذكرهم القبيح وقيل نعت له عليه
السلام من جهته تعالى مدحاً له ورفعاً لمحله عليه السلام
وإظهاراً لغاية جَراءتِهم في تصدِّيهم لقتله ونهايةِ
وقاحتِهم في افتخارهم بذلك
{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} حالٌ واعتراض
{ولكن شُبّهَ لَهُمْ} رُوي أنَّ رهطاً مِنْ اليهود سبُّوه
عليه السلام وأُمَّه فدعا عليهم فمسخهم الله تعالى قردةً
وخنازيرَ فأجمعت اليهودُ على قتله فأخبره الله تعالى بأنه
يرفعه إلى السماء فقال لأصحابه أيُّكم يرضى بأن يُلقى عليه
شبهي فيقتل فيصلب ويدخُلَ الجنة فقال رجل منهم أنا فألقَى
الله تعالى عليه شبَهَه فقتل وصُلب وقيل كان رجل ينافق
عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتلَه قال أنا أدلُّكم عليه
فدخل بيتَ عيسى عليه السلام فرُفعَ عيسى عليه السلام
وأُلقي شبَهُه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون
أنه عيسى عليه السلام وقيل إن طيطانوس اليهوديَّ دخل بيتاً
كان هو فيه فلم يجده فألقى الله تعالى عليه شبَهه فلما خرج
ظُن أنه عيسى عليه السلام فأُخذ وقُتل وأمثالُ هذه
الخوارقِ لا تستبعد في عصر النبوةِ وقيل إن اليهودَ لما
همّوا بقتله عليه السلام فرفعه الله تعالى إلى السماء خاف
رؤساءُ اليهودِ من وقوع الفتنةِ بين عوامِّهم فأخذوا
إنسانا فقتلوه وصلبوه ولبّسوا على الناس وأظهروا لهم أنه
هو المسيحُ وما كانوا يعرفونه إلا بالاسم لعدم مخالطتِه
عليه السلام لهم إلا قليلا وشبه مسندا إلى الجار والمجرور
كأنه قيل ولكن وقع لهم التشبيهُ بين عيسى عليه السلام
والمقتول أوفى الأمر على قول من قال لم يُقتَلْ أحدٌ ولكنِ
أُرجِفَ بقتله فشاع بين الناسِ أو إلى ضمير المقتولِ
لدِلالة إِنَّا قَتَلْنَا على أن ثمَّ مقتولاً
{وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ} أي في شأن عيسى عليه السلام
فإنه لما وقعت تلك الواقعةُ اختلف الناسُ فقال بعضُ اليهود
إنه كان كذبا فقتلناه حتماً وتردد آخرون فقال بعضُهم إن
كان هذا عيسى
(2/251)
158 - 159 النساء فأين صاحبُنا وقال بعضُهم
الوجهُ وجهُ عيسى والبدنُ بدنُ صاحبِنا وقال مَنْ سمِع منه
عليه السلام إن الله يرفعني إلى السماء إنه رُفع إلى
السماء وقال قوم صُلب الناسوتُ وصعِدَ اللاهوت
{لَفِى شَكّ مّنْهُ} لفي تردد والشكُ كما يطلق على ما لم
يترجح أحدُ طرفيه يُطلق على مطلق الترددِ وعلى ما يقابل
العلم ولذلكَ أُكِّدَ بقولِه تعالى
{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن} استثناءٌ
منقطعٌ أي لكنهم يتبعون الظن ويجوز أن يفسَّر الشكُ بالجهل
والعلمُ بالاعتقاد الذي تسمن إليه النفسُ جزماً كان أو
غيرَه فالاستثناءُ حينئذ متصلٌ
{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أي قتلاً يقيناً كما زعموا
بقولهم إنا قتلنا المسيحَ وقيل معناه وما علموه يقيناً كما
في قوله من قال كذاك تُخبِرُ عنها العالماتُ بها وقد
قَتَلْتُ بعلمي ذلكم يقَناً من قولهم قتلتُ الشيءَ علماً
ونحَرتُه علماً إذا تَبالغَ علمُك فيه وفيه تهكمٌ بهم
لإشعاره بعلمهم في الجملة وقد نُفيَ ذلك عنهم بالكلية
(2/252)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ
إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
{بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} رد وإنكار
لقتله وإثبات الرفعة
{وَكَانَ الله عَزِيزاً} لا يغالَب فيما يريده
{حَكِيماً} في جميع أفعالِه فيدخُل فيها تدبيراتُه تعالى
في أمر عيسى عليه السلام دخولاً أولياً
(2/252)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
{وإن من أهل الكتابِ} أي من اليهود
والنصارى وقوله تعالى
{إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} جملةٌ
قَسَمية وقعت صفةً لموصوف محذوفٍ إليه يرجع الضميرُ الثاني
والأول لعيسى عليه السلام أي وما من أهل الكتاب أحدٌ إلا
ليؤمِنَنّ بعيسى عليه السلام قبل أن تَزهَقَ روحُه بأنه
عبدُ الله ورسولُه ولات حين إيمان لانقطاع وقت التكليف
ويعضده بأنه قرئ ليؤمنن قبل موتهم بضم النون لِما أن أحداً
في معنى الجمعِ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهُمَا أنَّه
فسّره كذلك فقال له عِكرِمة فإن أتاه رجلٌ فضَرَبَ عُنقَه
قال لا تخرُجُ نفسُه حتى يُحرِّك بها شفتيه قال فإن خرَّ
من فوق بيت أو احترق أو أكله سبُعٌ قال يتكلم بها في
الهواء ولا تخرُجُ روحُه حتى يؤمِنَ به وعن شهرِ بنِ
حَوْشبَ قال لي الحجاج آيةٌ ما قرأتُها إلا تَخالَج في
نفسي شيءٌ منها يعني هذه الآيةَ وقال إني أوتى بالأسير من
اليهود والنصارى فأضربُ عُنقَه فلا أسمعُ منه ذلك فقلت إن
اليهوديَّ إذا حضره الموتُ ضربت الملائكةُ دُبُرَه ووجهَه
وقالوا يا عدوَّ الله أتاك عيسى عليه السلام نبياً فكذبتَ
به فيقول آمنتُ أنه عبدٌ نبيٌّ وتقول للنصراني أتاك عيسى
عليه السلام نبياً فزعمتَ أنه الله وابن الله فيؤمنُ أنه
عبدُ الله ورسولُه حيث لا ينفعه إيمانُه قال وكان متكئا
فاستولا جالساً فنظر إليَّ وقال ممن سمعتَ هذا قلت حدثني
محمدُ بنُ عليَ بنِ الحنفيةِ فأخذ ينكُث الأرضَ بقضيبه ثم
قال لقد أخذتُها من عين صافية والإخبارُ بحالهم هذه وعيدٌ
لهم وتحريضٌ على المسارعة إلى الإيمان به قبل أن يُضْطروا
إليه مع انتفاء جدواه وقيل كلا الضميرين لعيسى والمعنى وما
من أهل الكتاب الموجودين عند نزولِ عيسى عليه السلام أحدٌ
إلا ليؤمنن به قبل موته روي أنه عليه السلام ينزِلُ من
السماء في آخر الزمانِ فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا
يؤمنُ به حتى تكونَ الملةُ واحدةً وهي ملةُ الإسلام ويُهلك
الله في زمانه الدجالَ وتقعُ الأمنة
(2/252)
160 - 161 162 النساء حتى ترتعَ الأسودُ مع
الإبلِ والنمورُ مع البقر والذئاب مع الغنم ويعلب الصبيانُ
بالحيّاتِ ويلبث في الأرض أربعين سنةً ثم يتوفى ويصلي عليه
المسلمون ويدفِنونه وقيل الضميرُ الأولُ يرجِعُ إلى الله
تعالى وقيل إلى محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم
{وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ} أي عيسى عليه السلام
{عَلَيْهِمْ} على أهل الكتاب {شَهِيداً} فيشهد على اليهود
بالتكذيب وعلى النصارى بأنهم دعَوْه ابن الله تعالَى الله
عن ذلكَ علواً كبيراً
(2/253)
فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ
أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
كَثِيرًا (160)
{فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ} لعل
ذكرَهم بهذا العنوانِ للإيذان بكمالِ عِظَمِ ظلمهم بتذكير
وقوعه بعد أن هادُوا أي تابوا من عبادة العجلِ مثلَ تلك
التوبةِ الهائلةِ المشروطةِ ببخْع النفوسِ إثرَ بيانِ
عِظَمِه في حد ذاتِه بالتنوين التفخيميِّ أي بسبب ظلمٍ
عظيمٍ خارجٍ عن حدود الإشباه والإشكال الصادر عنهم
{حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} ولِمن
قبلَهم لا بشيء غيرِه كما زعموا فإنهم كانوا كلما ارتكبوا
معصيةً من المعاصي التي اقترفوها يُحرَّم عليهم نوعٌ من
الطيبات التي كانت محلَّلةً لهم ولمن تقدّمهم من أسلافهم
عُقوبةً لهم وكانوا مع ذلك يفترون على الله سبحانه ويقولون
لسنا بأولِ مَنْ حرمت عليه وإنما كان على نوح وإبراهيم من
بعدَهما حتى انتهى الأمرُ إلينا فكذبهم الله عزَّ وجلَّ في
مواقعَ كثيرةٍ وبكّتهم بقوله تعالى كلك الطعام كَانَ
حِلاًّ لّبَنِى إسرائيلَ إلا ما حرم اسرائيل على نَفْسِهِ
مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة
فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين أي في ادعاكم أنه تحريم قديم
روي أنه عليه السلام لما كلفهم إخراجَ التوراةِ لم يجسُرْ
أحدٌ على إخراجها لِما أن كونَ التحريمِ بظلمهم كان
مسطوراً فيها فبُهتوا وانقلبوا صاغرين
{وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً} أي ناساً كثيراً
أو صداً كثيراً
(2/253)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا
وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ
بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا (161)
{وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ
عَنْهُ} فإن الربا كان محرَّماً عليهم كما هو محرَّمٌ
علينا وفيه دليلٌ على أنَّ النهيَ يدل على حرمة المنهيِّ
عنه
{وَأَكْلِهِمْ أموالَ الناس بالباطل} بالرّشوة وسائرِ
الوجوهِ المحرَّمةِ
{وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ} أي للمُصِرِّين على
الكفر لا لمن تاب وآمن من بينهم
{عَذَاباً أَلِيماً} سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا في
الدنيا عقوبةَ التحريم
(2/253)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ
بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
{لكن الراسخون فى العلم مِنْهُمْ} استدراكٌ
من قولِه تعالَى وَأَعْتَدْنَا الخ وبيانٌ لكون بعضِهم على
خلاف حالهم عاجلاً أو آجلاً أي لكن الثابتون في العلم منهم
المُتقِنون المستبصِرون فيه غيرُ التابعين للظن كأولئك
الجَهَلة والمرادُ بهم عبدُ اللَّه بنُ سلام وأصحابُه
{والمؤمنون}
أي منهم وصفوا بالإيمان بعد ما وُصِفوا بما يوجبُه من
الرسوخ في العلم بطريق العطف المنبئ عن المغايرة بين
المعطوفَين تنزيلاً للاختلاف العنوانيِّ منزلةَ الاختلافِ
الذاتيِّ وقوله تعالى
{يؤمنون بما أنزل إليك وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} حال من
المؤمنون مبيِّنةٌ لكيفية إيمانِهم وقيل اعتراضٌ مؤكدٌ لما
قبله وقوله عز وجل
{والمقيمين الصلاة} قيل نُصب بإضمار
(2/253)
163 - النساء فعلى تقديرُه وأعني المقيمين
الصلاةَ على أن الجملةَ معترضةٌ بين المبتدأ والخبرِ وقيل
هُو عطفٌ على ما أزل إليك على أن المرادَ بهم الأنبياءُ
عليهم السلام أي يؤمنون بالكتب وبالأنبياء أو الملائكة قال
مكي أي ويؤمنون بالملائكة الذين صفتهم إثامة الصلاةِ لقوله
تعالى يُسَبّحُونَ الليلَ والنهارَ لاَ يَفْتُرُونَ وقيل
عطفٌ على الكافِ في إليك أي يؤمنون بما أنزل إليه وإلى
المقيمين الصلاة وقرئ بالرفع على أنه معطوفٌ على المؤمنون
بناءً على ما مر من تنزيل التغاير العنواني في منزلة
التغاير الذاتي وكاذ الحالُ فيما سيأتي من المعطوفَين فإن
قوله تعالى
{والمؤتون الزكاة} عطفٌ على المؤمنون مع اتحاد الكلِّ
ذاتاً وكذا الكلامُ في قولِه تعالى
{والمؤمنون بالله واليوم الاخر} فإن المراد بالكل مؤمنو
أهلِ الكتابِ قد وُصِفوا أولاً بكونهم راسِخين في علم
الكتابِ إيذاناً بأن ذلك موجبٌ للإيمان حتماً وأن مَنْ
عداهم إنما بقُوا مُصرِّين على الكفر لعدم رسوخِهم فيه ثم
بكونهم مؤمنين بجميع الكتبِ المنزلةِ على الأنبياء ثم
بكونهم عاملين بما فيها من الشَّرائعِ والأحكامِ واكتُفي
من بينها بذكر إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ المستتبعين
لسائر العباداتِ البدنيةِ والماليةِ ثم بكونهم مؤمنين
بالمبدأ والمعادِ تحقيقاً لحيازتهم الإيمانَ بقطريه
وإحاطتِهم به من طرفيه وتعريضاً بأن مَنْ عداهُم من أهلِ
الكتابِ ليسوا بمؤمنين بواحد منهما حقيقةً فإنهم بقولهم
عزيرٌ ابنُ الله مشركون بالله سبحانه وبقولهم لن تمسنا
النارُ إلا أياماً معدودةً كافرون باليوم الآخِرِ وقولُه
تعالى
{أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتصافِهم بما عُدِّد من
الصفات الجميلةِ وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلوّ
درجتِهم وبُعدِ منزلَتهِم في الفضلِ وهو مبتدأُ وقولُه
تعالى
{سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} خبرُه والجملةُ خبرٌ
للمبتدأ الذي هو الراسخون وما عطف عليه والسينُ لتأكيد
الوعدِ وتنكيرُ الأجرِ للتفخيم وهذا أنسبُ بتجاوُبِ طرَفي
الاستدراكِ حيث أُوعِد الأولون بالعذاب الأليم ووُعِد
الآخَرون بالأجر العظيم كأنه قيل إثر قولِه تعالى
وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً لكنِ
المؤمنون منهم سنؤتيهم أجراً عظيماً وأما ما اجتح إليه
الجمهورُ من جعل قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ
إِلَيْكَ الخ خبراً للمبتدأففي كمال السداد خلا أنه غير
معترض لتقابل الطرفين وقرئ سيؤتيهم بالياء مراعاةً لظاهر
قوله تعالى والمؤمنون بالله
(2/254)
إِنَّا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ
مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ
وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ
وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا
أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ} جوابٌ لأهل
الكتابِ عن سؤالهم رسولَ الله عليه الصلاة والسلام إن
ينزلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء واحتجاجٌ عليهم بأنه
ليس بِدْعاً من الرسل وإنما شأنُه في حقيقة الإرسالِ وأصلِ
الوحي كشأن سائرِ مشاهيرِ الأنبياءِ الذين لا ريب لأحد في
نبوَّتهم والكافُ في محل النصب على أنه نعب لمصدر محذوفٍ
أي إيحاءً مثلَ إيحائِنا إلى نوح أو على أنه
(2/254)
164 - النساء حالٌ من ذلك المصدرِ المقدر
معرّفاً كما هُو رأيُ سيبويهِ أي أوحينا الايحاءَ حال
كونِه مشبهاً بإيحائنا الخ ومن بعدِه متعلقٌ بأوحينا وإنما
بدئ بذكر نوحٍ لأنه أبو البشر وأولُ نبيَ شرَع الله تعالى
على لسانه الشرائعَ والأحكامَ وأولُ نبيَ عُذّبت أمتُه
لردهم دعوتَه وقد أهلك الله بدعائه أهلَ الأرضِ
{وَأَوْحَيْنَا إلى إبراهيم} عطفٌ على أوحينا إلى نوح
داخلٌ معه في حكم التشبيهِ أي وكما أوحينا إلى إبراهيم
{وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط} وهم أولادُ يعقوبَ
عليهم السلام
{وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وهارون وسليمان} خُصوا بالذكر
مع ظهور انتظامِهم في سلك النبيين تشريفاً لهم وإظهاراً
لفضلهم كما في قوله تعالى مَن كَانَ عدوا لله وملائكته
وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال وتصريحاً بمن ينتمي إليهم
اليهودُ من الأنبياء وتكريرُ الفعلِ لمزيد تقريرِ الإيحاء
والتنبيهِ على أنهم طائفةٌ خاصةٌ مستقلةٌ بنوع مخصوصٍ من
الوحي
{وآتينا داود زَبُوراً} قال القرطبي كان فيه مائة وخمسون
ليس فيها حكم من الأحكام إنما هي حِكَمٌ ومواعظُ وتحميدٌ
وتمجيدٌ وثناءٌ على الله تعالى وقرئ بضم الزاءِ وهو جمعُ
زِبْرٍ بمعنى مزبور والجملةُ عطف على أوحينا داخلٌ في حكمه
لأن إيتاءَ الزبورِ من باب الإيحاءِ أي وكما آتينا داودَ
زبورا وإيثاره على وأوحينا إلى داود لتحقيق المماثلة في
أمر خاصَ هو إيتاءُ الكتابِ بعد تحقيقِها في مطلق الإيحاءِ
ثم أشير إلى تحقيقها في أمر لازمٍ لهما لزوماً كلياً وهو
الإرسال فإن قوله تعالى
(2/255)
وَرُسُلًا قَدْ
قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ
نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى
تَكْلِيمًا (164)
{وَرُسُلاً} نُصب بمضمر يدل عليه أوحينا
معطوفٍ عليهِ داخلٌ معه في حكم التشبيهِ كما قبله أي وكما
أرسلنا رسلاً لا بما يفسِّره قولُه تعالى
{قَدْ قصصناهم عَلَيْكَ} أي وقصصنا رسلاً كما قالوا
وفرّعوا عليه إنَّ قولَه تعالَى قَدْ قصصناهم على الوجه
الأول منصوبٌ على أنه صفةٌ لرسلاً وعلى الوجه الثاني لا
محلَّ له من الإعراب فإنه مما لا سبيل إليه كما ستقف عليه
وقرئ برفع رسلٌ وقولُه تعالى
{مِن قَبْلُ} متعلقٌ بقصصنا أي قصصنا من قبلِ هذه السورةِ
أو اليوم
{وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} عطفٌ على رسلاً
منصوبٌ بناصبه وقيل كلاهما منصوبٌ بنزع الخافضِ والتقديرُ
كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نوحٍ وإلى الرسل الخ والحقُّ أن
يكون انتصابُهما بأرسلنا فإن فيه تحقيقاً للمماثلة بين
شأنِه عليه الصلاةُ والسلام وبين شؤونِ من يعترفون بنبوته
من الأنبياءِ عليهم السلام في مطلق الإيحاءِ ثم في إيتاءِ
الكتابِ ثم في الإرسال فإن قوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ منتظِمٌ بمعنى آتيناك وأرسلناك حتماً كأنه قيل
إنا أوحينا إلى إبراهيمَ ومَنْ بعده وآتيناك وأرسلناك
حتماً كأنه قيل إنا أوحينا إليك إيحاءً مثلَ ما أوحينا إلى
نوح ومثلَ ما أوحينا إلى إبراهيمَ ومَنْ بعده وآتيناك
الفرقانَ إيتاءً مثلَ ما آتينا داودَ زبوراً وأرسلناك
إرسالاً مثلَ ما أرسلنا رسلاً قد قصصناهم عليك من قبل
رسلنا وآخرين لم نقصُصْهم عليك من غير تفاوت بيك وبينهم في
حقيقة الإيحاءِ وأصلِ الإرسالِ فما للكفرة يسألونك شيئاً
لم يُعطَه أحدٌ من هؤلاء الرسلِ عليهم السلام ومنْ ههُنا
اتضحَ أنَّ رسلاً لا يمكن نصبُه بقصصنا فإن ناصبه أنْ
يكونَ معطوفاً على أوحينا داخلاً معه في حكم التشبيه الذي
عليه يدورُ فلَكُ الاحتجاجِ على الكفرة ولا ريب في أن
قصصنا لا تعلُّقَ له بشيء من الإيحاء والإيتاءِ حتى يمكنَ
اعتبارُه في ضمن
(2/255)
165 - النساء قوله تعالى إِنَّا
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثم يعتبرُ بينه وبين المذكورِ
مماثلةٌ مصحِّحةٌ للتشبيه على أن تقديرَه في رسلاً الأوّلِ
يقتضي تقديرَ نفيِه في الثاني وذلك أشدُّ استحالةً وأظهرُ
بطلاناً
{وَكَلَّمَ الله موسى} برفع الجلالةِ ونصبِ موسى وقرئ على
القلب وقوله تعالى
{تَكْلِيماً} مصدرٌ مؤكدٌ رافعٌ لاحتمال المجازِ قال
الفراء العربُ تسمِّي ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريق
وصَل مالم يؤكَّدْ بالمصدر فإذا أُكّد به لم يكنْ إلا
حقيقةُ الكلامِ والجملةُ إما معطوفةٌ على قولِه تعالى
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ عطفَ القصةِ على القصة لا على
آتينا وما عطف عليه وإما حالٌ بتقدير قد كما ينبئ عنه
تغييرُ الأسلوبِ بالالتفات والمعنى أن التكليمَ بغير
واسطةٍ منتهى مراتبِ الوحي خُصَّ به موسى من بينهم فلم يكن
ذلك قادحاً في نبوة سائرِ الانبياء علهم السلام فكيف
يُتوَّهم كونُ نزول التوراة عليه عليه السلام جملةً قادحاً
في صحة نبوةِ من أنزل عليه الكتابُ مفصلاً مع ظهور أن
نزولُها كذلك لما آمنوا بها ومع ذلك ما آمنوا بها إلا بعد
اللئيا والتي وقد فضل الله تعالى نبينا محمدٍ صلَّى الله
عليهِ وسلم بأن أعطاه مثلَ ما أعطى كلَّ واحدٍ منهم صلى
الله عليه وسلم تسليماً كثيراً
(2/256)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا
حَكِيمًا (165)
{رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} نُصب
على المدحِ أو بإضمار أرسلنا أو على الحال بأن يكون رسلاً
موطئاً لما بعده أو على البداية من رُسلاً الأولِ أي
مبشرين لأهل الطاعةِ بالجنة ومنذرين للعُصاة بالنار
{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ} أي
مَعذرةٌ يعتذرون بها قائلين لَوْلا أرسلتَ إِلَيْنَا
رَسُولاً فيبينَ لنا شرائعَك ويعلمنا مالم نكن مالم نكن
نعلم من أحكامك لقصور القوةِ البشريةِ عن إدراك كلياتِها
كما في قوله عز وجل وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن
قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا
رَسُولاً فنتبع آياتك الآية وإنما سُمِّيت حجةً مع استحالة
أن يكون لأحد عليه سبحانه حجةٌ في فعل من أفعاله بل له أن
يفعلَ ما يشاءُ كما يشاءُ للتنبيه على أن المعذرةَ في
القَبول عنده تعالى بمقتضى كرمِه ورحمتِه لعباده بمنزلة
الحجةِ القاطعةِ التي لا مرد لها ولذلك قال تعالى وَمَا
كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً قال النبيِّ
صلَّى الله عليهِ وسلم ما أحدٌ أغيرُ مِنَ الله تعالى
ولذلك حرَّم الفواحشَ ما ظهرَ منها وما بطن وما أحدٌ أحبُّ
إليه المدحُ من الله تعالى ولذلك مدح نفسَه وما أحدٌ أحبُّ
إليه العذر من الله تعالى ولذلك أرسلَ الرسلَ وأنزلَ
الكتُب فاللامُ متعلقةٌ بأرسلنا وقيل بقوله تعالى
مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وحجةٌ اسمُ كان وللناس خبرُها
وعلى الله متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من حجة كائنةً على
الله أو هو الخبرُ وللناس حالٌ على الوجه المذكور ويجوز أن
يتعلق كلٌّ منهما بما تعلقَ به الآخرُ الذي هو الخبرُ ولا
يجوز التعلقُ بحجة لأن المعمول المصدر لا يتقدم عليه وقوله
تعالى
{بَعْدَ الرسل} أي بعد إرسالِهم وتبليغِ الشرائعِ إلى
الأمم على ألسنتهم متعلقٌ بحجة أو بمحذوف وقع صفة لها لأن
الظروف يوصف بها الأحداثُ كما يُخبر بها عنها نحو القتالُ
يومُ الجمعة
{وَكَانَ الله عَزِيزاً} لا يغالَب في أمرٍ من أمورِه ومن
قضيته الامتناعُ عن الإجابة إلى مسألة المتعنّتين
{حَكِيماً} في جميع أفعالِه التي من جملتها إرسالُ الرسلِ
وإنزالُ الكتبِ فإن تعدد الرسل والكتب واختلافها في كيفية
النزولِ وتغايُرَها
(2/256)
166 - 167 168 النساء في بعض الشرائعِ
والأحكامِ إنما لتفاوت طبقاتِ الأممِ في الأحوال التي
عليها يدورُ فلكُ التكليفِ فكما أنه سبحانه وتعالى برَأَهم
على أنحاءَ شتى وأطوارٍ متباينةٍ حسبما تقتضيه الحِكمةُ
التكوينيةُ كذلك تعبّدهم بما يليق بشأنهم وتقتضيه أحوالُهم
المتخالفةُ واستعداداتُهم المتغايرةُ من الشرائع والأحكامِ
حسبما تستدعيه الحِكمةُ التشريعيةُ وراعى في إرسال الرسلِ
وإنزالِ الكتبِ وغيرِ ذلكَ من الأمورِ المتعلقةِ بمعاشهم
ومعادِهم ما فيه مصلحتُهم فسؤالُ تنزيلِ الكتابِ جملةً
اقتراحٌ فاسدٌ إذ حينئذ تتعاقم التكاليفُ فيثقُل على
المكلَّف قَبولُها والخروجُ عن عُهدتها وأما التنزيلُ
المُنَجَّم الواقعُ حسب الأمورِ الداعيةِ إليه فهو أيسرُ
قَبولاً وأسهلُ امتثالاً
(2/257)
لَكِنِ اللَّهُ
يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ
وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا
(166)
{لكن الله يَشْهَدُ} بتخفيف النون ورفع
الجلالة وقرئ بتشديد النونِ ونصبِ الجلالةِ وهو استدراك
عما يُفهم مما قبله كأنهم لما تعنّتوا عليه بما سبق من
السؤال واحتَجّ عليهم بقوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ كما أَوْحَيْنَا الخ قيل إنهم لا يشهدون بذلك
لكنَّ الله يشهد
{بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} على البناء للفاعل وقرئ على
البناء للمفعولِ والباءُ صلةٌ للشهادة أي يشهد بحقية مَا
أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن القرآن المعجزِ الناطِقِ بنبوتك وقيل
لمَّا نزل قوله تعالى إنا أوحينا إِلَيْكَ قالوا ما نشهد
لك بهذا فنزل لكنِ الله يشهد
{أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي ملتبساً بعلمه الخاصِّ الذي لا
يعلمه غيرُه وهو تأليفُه على نمط بديعٍ يَعجِز عنه كلُّ
بليغٍ أو بعلمه بحال مَنْ أنزله عليه واستعدادِه لاقتباس
الأنوارِ القدسية أو بعلمه الذي يحتاج إليه الناسُ في
معاشهم ومعادِهم فالجارُّ والمجرورُ على الأولَينِ حالٌ من
الفاعل وعلى الثالث من المفعولِ والجملةُ في موقع التفسير
لما قبلها وقرئ نزله وقوله تعالى
{والملائكة يشهدون} أي بذلك مبتدأوخبر والجملة عطفٌ على ما
قبلَها وقيل حالٌ من مفعول أنزله أي أنزله والملائكةُ
يشهدون بصدقه وحقِّيتِه
{وكفى بالله شَهِيداً} على صحة نُبوّتِك حيث نصَبَ لها
معجزاتٍ باهرةً وحججاً ظاهرةً مغْنيةً عن الاستشهاد بغيرها
(2/257)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا
ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} أي بما أنزل الله
تعالى وشهِد به أو بكلِّ ما يجبُ الإيمانُ به وهو داخلٌ
فيه دخولاً أولياً والمرادُ بهم اليهودُ حيث كفروا به
{وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} وهو دينُ الإسلام مَنْ أراد
سلوكَه بقولهم ما نعرِف صفةَ محمدٍ في كتابنا وقرئ صُدُّوا
مبنياً للمفعول
{قَدْ ضَلُّواْ} بما فعلُوا منَ الكفرِ والصدِّ عن طريق
الحق
{ضلالا بَعِيداً} لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلالِ ولأن
المُضِل يكون أعرقَ في الضلال وأبعدَ من الإقلاع عنه
(2/257)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ
لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} أي بما ذكر آنفاً
{وَظَلَمُواْ} أي محمدا صلى الله عليه وسلم بإنكار نبوّتِه
وكتمانِ نعوتِه الجليلةِ ووضعِ غيرِها مكانَها أو الناسَ
بصدهم عما فيه صلاحُهم في المعاش والمعاد
{لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} لاستحالة تعلّقِ
المغفرةِ بالكافر
{وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طريقا}
(2/257)
169 - 170 النساء
(2/258)
إِلَّا طَرِيقَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرًا (169)
{إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ} لعدم
استعدادِهم للهداية إلى الحق والأعمالِ الصالحةِ التي هي
طريقُ الجنةِ والمرادُ بالهداية المفهومةِ من الاستثناء
بطريق الإشارةِ خلقُه تعالى لأعمالهم السيئة المؤديةِ بهم
إلى جهنم عند صرف قددرتهم واختيارِهم إلى اكتسابها أو
سوقُهم إليها يوم القيامة بواسطة الملائكةِ والطريقُ على
عمومه والاستثناءُ متصل وقيل خاصٌّ بطريق الحقِّ
والاستثناءُ منقطع
{خالدين فِيهَا} حالٌ مقدرةٌ من الضمير المنصوب والعاملُ
فيها ما دل عليه الاستثناءُ دلالةً واضحةً كأنه قيل
يُدخلهم جهنمَ خالدين فيها الخ وقوله تعالى
{أَبَدًا} نصبٌ على الظرفية رافعٌ لاحتمال حملِ الخلودِ
على المكث الطويل
{وَكَانَ ذلك} أي جعلهم خالدين في جهنم
{عَلَى الله يَسِيراً} لاستحالة أن يتعذّر عليه شيءٌ من
مراداته تعالى
(2/258)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ
فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ
اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
{يا أيها الناس} بعد ما حكَى لرسول الله
صلى الله عليه وسلم تعللَ اليهودِ بالأباطيل واقتراحَهم
الباطلَ تعنتاً وردّ عليهم ذلك بتحقيق نبوتِه عليه الصلاةُ
والسلامُ وتقريرِ رسالتِه ببيان أن شأنِه عليه الصلاةُ
والسلام في أمر الوحي والإرسالِ كشئون من يعترفون بنبوته
من مشاهيرِ الأنبياءِ عليهم السلام وأكد ذلك بشهادته
سبحانه وشهادة الملائكة أمر المكلفون كافةً على طريق
تلوينِ الخطابِ بالإيمان بذلك أمراً مشفوعاً بالوعد
بالإجابة والوعيدِ على الرد تنبيهاً على أن الحجةَ قد
لزِمَت ولم يبقَ بعد ذلك لأحد عذرٌ في عدم القبول وقوله عز
وجل
{قَدْ جَاءكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبّكُمْ} تكريرٌ
للشهادة وتقريرٌ لحقية المشهودِ به وتمهيدٌ لما يعقُبه من
الأمر بالإيمان وإيرادُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ
بعنوان الرسالةِ لتأكيد وجوبِ طاعتِه والمرادُ بالحق هو
القرآنُ الكريمُ والباء متعلقةٌ بجاءكم فهي للتعدية أو
بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الرسول أي ملتبساً بالحق ومِنْ
أيضاً متعلقةٌ إما بالعقل وإمَّا بمحذوفٍ هو حالٌ من الحق
أي جاءكم به من عنده تعالى أو جاءكم بالحق ومِنْ أيضاً
متعلقةٌ إما بالفعل وإمَّا بمحذوفٍ هو حالٌ من الحق أي
جاءكم به من عنده تعالى أو جاءكم بالحق كائناً من عندِه
تعالَى والتعّرضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير
المخاطَبين للإيذان بأن ذلك لتربيتهم وتبليغِهم إلى كمالهم
اللائقِ بهم ترغيباً لهم في الامتثال بما بعده من الأمر
والفاء في قوله عز وجل
{فَآمِنُواْ} للدِلالة على إيجاب ما قبلَها لما بعدَها أي
فآمنوا به وبما ءجاء به من الحق وقولُه تعالى
{خَيْراً لَّكُمْ} منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ لفعل واجبِ
الإضمار كما هو رأيُ الخليل وسيبويهِ أي اقصِدوا أو ائتوا
أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر أو على أنه نعتٌ
لمصدر محذوف كما هو في رأي الفراء أي آمنوا إيماناً خيراً
لكم أو على أنَّه خبرُ كان المضمرةِ الواقعةِ جواباً للأمر
لاجزاء للشرط الصناعيّ وهو رأيُ الكسائي وأبي عبيدةَ أي
يكنِ الإيمانُ خيراً لكم
{وَإِن تَكْفُرُواْ} أي أن تُصِرُّوا وتستمروا على الكفر
به
{فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السماوات والارض} من الموجودات
سواء كانت داخلةً في حقيقتهما وبذلك يُعلم حالُ أنفسِهما
على أبلغِ وجهٍ وآكدِه أو خارجة عنهما متسقرة فيهما من
العُقلاء وغيرِهم فيدخلُ في جملتهم المخاطَبون دخولاً
أولياً أي كلُّها له عز وجل
(2/258)
171 - النساء خلقا وملكا وتصرفا لا يخرُج
من ملكوته وقهرِه شيءٌ منها فمَنْ هذا شأنُه فهو قادرٌ على
تعذيبكم بكفركم لا محالة أو فمن كان كذلك فهو غنيٌّ عنكم
وعن غيركم لا يتضرّر بكفركم ولا ينتفع بإيمانكم وقيل فمَنْ
كان كذلك فله عبيدٌ يعبُدونه وينقادون لأمره
{وَكَانَ الله عَلِيماً} مُبالغاً في العلم فهو أعلم
بأحوال الكلِّ فيدخُل في ذلك علمُه تعالى بكفرهم دخولاً
أولياً
{حَكِيماً} مراعياً للحِكمة في جميع أفعالِه التي من
جملتها تعذيبُه تعالى إياهم بكفرهم
(2/259)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ
إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى
مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ
إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ
لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
{ياْ أَهْلِ الكتاب} تجريدٌ للخطاب وتخصيصٌ
له بالنصارى زجراً لهم عمَّا هُم عليهِ من الكفر والضلال
{لا تغلوا فى دينكم} بالإفراط في رفع شأنِ عيسى عليه
السلام وادعاءِ ألوهيتِه وأما غلوُّ اليهودِ في حط رتبتِه
عليه السلام ورميِهم له بأنه وُلد لغير رَشْدةٍ فقد نعى
عليهم ذلك فيما سبق
{وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} أي لا تصِفوه
بما يستحيل اتصافُه به من الحلول والاتحادِ واتخاذِ
الصاحبةِ والولدِ بل نزّهوه عن جميع ذلك
{إِنَّمَا المسيح} قد مر تفسير في سورة آل عمران وقرئ بكسر
الميم وتشديد السين كالسِّكّيت على صيغة المبالغة وهو
مبتدأُ وقولُه تعالى
{عِيسَى} بدلٌ منه أو عطفُ بيانٍ له وقولُه تعالى
{رَسُولِ الله} خبرٌ للمبتدأ والجملةُ مستأنفةٌ مسوقةٌ
لتعليل النهي عن القول الباطلِ المستلزِم للأمر بضده أعني
الحقَّ أي إنه مقصورٌ على رتبة الرسالةِ لا يتخطاها
{وَكَلِمَتُهُ} عطف على رسولُ الله أي مُكوَّن بكلمته
وأمرِه الذي هو كنْ من غير واسطةِ أبٍ ولا نطفة
{ألقاها إلى مَرْيَمَ} أي أوصلها إليها وحصلها فيها بنفخ
جبريلَ عليه السلام وقيل أعلمها إياها وأخبرَها بها بطريق
البِشارةِ وذلك قولُه تعالى إِنَّ الله يُبَشّرُكِ
بِكَلِمَةٍ مّنْهُ اسمه المسيح عيس بن مَرْيَمَ وقيل
الجملةُ حالٌ من ضميره عليه السلام المستكنِّ فيما دل عليه
وكلمتُه من معنى المشتق الذي هو العاملُ فيها وقد مقدَّرة
معها
{وَرُوحٌ مّنْهُ} قيل هو الذي نفخ جبريلُ عليهِ السَّلامُ
في دِرْع مريم فحملت بإذن الله تعالى سُمِّي النفخُ روحاً
لأنه ريحٌ تخرج من الروح ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً لا
تبعيضية كما زعمت النصارى يُحكى أن طبيباً حاذقاً نصرانياً
للرشيد ناظر عليَّ بن حسين الواقدي المروزي ذاتَ يوم فقال
له إن في كتابكم ما يدلُّ على إنَّ عيسَى عليهِ السَّلامُ
جزءٌ منه تعالى وتلا هذه الآية فقرأ الواقديُّ وَسَخَّرَ
لَكُمْ مَا فِي السموات وَمَا فى الأرض جَمِيعاً مّنْهُ
فقال إذن يلزم أن يكونَ جميعُ تلك الأشياء جزءا من الله
تعالى علواً كبيراً فانقطع النصرانيُّ فأسلم وفرِح الرشيدُ
فرحاً شديداً ووصل الواقديَّ بصلة فاخرة وهي متعلقةٌ
بمحذوف وقع صفة لروح أي كائنةٌ من جهته تعالى جعلت منه
تعالى وإن كانت بنفخ جبريلَ عليه السلام لكون النفخِ بأمره
سبحانه وقيل سُمِّي روحاً لإحيائه الأمواتَ وقيل لإحيائه
القلوبَ كما سمي به القرآن
(2/259)
172 - النساء لذلك في قوله تعالى
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا
وقيل أريد بالروح الذي أُوحيَ إلى مريمَ بالبشارة وقيل جرت
العادةُ بأنهم إذا أرادوا وف شيءٍ بغاية الطهارة والنظافة
ق الوا إنه روحٌ فلما كان عيسى عليه السلام متكوِّناً من
النفخ لا من النطفة وُصِف بالروح وتقديمُ كونِه عليه
السلام رسولَ الله في الذكر مع تأخّره عن كونه كلمتَه
تعالى وروحاً منه في الوجود لتحقيق الحقِّ من أول الأمرِ
بما هو نصٌّ فيه غيرُ محتملٍ للتأويل وتعيينُ مآلِ ما
يحتمله وسدِّ بابِ التأويلِ الزائغ
{فآمِنُوا باللهِ} وخُصّوه بالألوهية
{وَرُسُلِهِ} أجمعين وصِفوهم بالرسالة ولا تُخرجوا بعضَهم
عن سلكهم بوصفه بالألوهية
{وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة} أي الألهةُ ثلاثةٌ الله والمسيحُ
ومريم كما ينبئ عنه قوله تعالى أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ
اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله ثلاثةٌ إن صح أنهم
يقولون الله جوهر واحدٌ ثلاثةُ أقانيمَ أقنومُ الأب وأقنوم
الابن وأقنوم الروح القدس وأنهم يريدون بالأول الذات وقيل
الوجود وبالثاني العلمَ وبالثالث الحياةَ
{انتهوا} أي عن التثليث
{خَيْراً لَّكُمْ} قد مر وجوهُ انتصابِه
{إِنَّمَا الله إله واحد} أي بالذات مُنزَّه عن التعدد
بوجهٍ من الوجوه فالله مبتدأوإله خبرُه وواحدٌ نعتٌ أي
منفردٌ في ألوهيته
{سبحانه أن يكون له ولد} أي أسبّحه تسبيحاً من ذلك فإنه
إنما يُتصوَّر فيمن يماثله شيءٌ ويتطرق إليه فناء والله
سبحانه منزه عن أمثاله وقرئ إنْ يكونُ أي سبحانه ما يكون
له ولد وقوله تعالى
{لَّهُ مَا في السماوات وَمَا فِي الارض} جملةٌ مستأنفةٌ
مسوقةٌ لتعليل التنزيهِ وتقريرِه أي له مَا فِيهمَا مِنَ
الموجوداتِ خلقاً وملكا وتصرفا لا يخرج عن ملكوته شيءٌ من
الأشياء التي من جملتها عيسى عليه السلام فكيف يُتوَّهم
كونُه ولداً له تعالى
{وكفى بالله وَكِيلاً} إليه يكل كل الخلق مورهم وهو غني عن
العالمين فأنى يُتصوَّر في حقه اتخاذُ الولدِ الذي هو شأن
المعجزة المحتاجين في تدبير أمورِهم إلى من يَخلُفهم ويقوم
مقامهم
(2/260)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا
الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ
عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ
جَمِيعًا (172)
{لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح} استئنافٌ مقررٌ
لما سبقَ من التنزيه والاستنكافُ الأنَفةُ والترفعُ من
نكفتَ الدمعَ إذا نجيته عن وجهك بالأصبع أي لن يأنف ولن
يترفع
{أن يكون عبدا لله} أي أن يكون عبداً له تعالى مستمراً على
عبادته وطاعتِه حسبما هو وظيفةُ العبودية كيف وإن ذلك أقصى
مراتبِ الشرفِ والاقتصارُ على ذكر عدمِ استنكافِه عليه
السلام عنه مع أن شأنه عليه السلام المباهاةُ به كما يدل
عليه أحوالُه ويُفصِحُ عنه أقواله أو لا يُرى أن أولَ
مقالةٍ قالها للناس قوله إِنّى عَبْدُ الله آتاني الكتاب
وجعلني نبيا لوقوعه في موقع الجوابِ عما قاله الكفرة روي
إن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَ
تَعيبُ صاحبَنا قال ومن صاحبُكم قالوا عيسى قال وأيُّ شيء
أقول قالوا تقول إنه عبدٌ الله قال إنه ليس بعار أن يكون
عبداً لله قالوا بلى فنزلت وهو السرُّ في جعل المستنكَفِ
عنه كونَه عليه السلام عبداً له تعالى دون أن يقال عن
عبادة الله ونحوُ ذلك مع إفادة فائدةٍ جليلةٍ هي كمالُ
نزاهتِه عليه السلام عن الاستنكافِ بالكلية فإن كونَه
عبداً له تعالى مستمرة لدوام العبادةِ قطعاً فعدمُ
الاستنكافِ عنه مستلزِمٌ لعدم الاستنكافِ
(2/260)
عن عبادته تعالى كما أشير إليه بخلاف
عبادتِه تعالى فإنها حالةٌ متجدِّدة غيرُ مستلزِمةٍ للدوام
يكفي في اتصاف موصوفها بها تحققها مرةً فعدمُ الاستنكافِ
عنها لا يستلزم عن دوامها
{ولا الملائكة المقربون} عطفٌ على المسيح أي ولا يستنكف
الملائكةُ المقربون أن يكونوا عبيداً لله تعالى وقيل أن
أريد بالملائكة كلُّ واحد منهم لم يُحتَجْ إلى التقدير
واحتَجّ بالآية من زعم فضلَ الملائكةِ على الأنبياءِ عليهم
السلامُ وقال مسافة لرد النصارى في رفع المسيحِ عن مقام
العبوديةِ وذلك يقتضي أن يكون المعطوفُ أعلى درجةً من
المعطوف عليه حتى يكون عدمُ استنكافِهم مستلزماً لعدم
استنكافِه عليه السلام وأجيب بأن مناطَ كفرِ النصارى
ورفعِهم له عليه السَّلامُ عن رتبة العبوديةِ لمّا كان
اختصاصُه عليه السلام وامتيازُه عن سائر أفرادِ البشرِ
بالولادة من غير أب وبالعلم من المغيبات وبالرفع إلى
السماء عُطف على عدم استنكافِه عن عبوديته تعالى عدمُ
استنكافِ مَنْ هو أعلى درجةً منه فيما ذكر فإن الملائكةَ
مخلوقون من غير أبٍ ولا أمَ وعالمون بما لا يعلمه البشرُ
من المغيبات ومَقارُّهم السمواتُ العلا ولا نزاعَ لأحد في
علو درجتِهم من هذه الحيثيةِ وإنما النزاعُ في علوّها من
حيث كثرةُ الثوابِ على الطاعات وبأن اآية ليست للرد على
النصارى فقط بل على عبَدة الملائكةِ أيضاً فلا اتجاه لما
قالوا حينئذ وإنْ سَلِم اختصاصُها بالرد على النصارى فلعله
أُريد بالعطف المبالغةُ باعتبار التكثيرِ والتفصيلِ لا
باعتبار التكبيرِ والتفضيلِ كما في قولك أصبح الأميرُ لا
يخالفه رئيسٌ ولا مرءوس ولئن سُلّم إرادةُ التفضيلِ فغايةُ
الأمرِ الدلالةُ على أفضلية المقربين منهم وهم الكروبيون
الذين حول العرشِ أو من هو أعلى منهم رتبةً من الملائكةِ
عليهمِ السَّلامُ على المسيح من الأنبياءِ عليهم السلام
وليس يلزم من ذلك فضل أحدِ الجنسين على الآخر مطلقاً وهل
التشاجرُ إلا فيه
{وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} أي عن طاعته فيشمل
جميعَ الكفرةِ لعدم طاعتهم الثبوت للكفرة فإن عدم طاعتِهم
له تعالى ممَّا لا سبيلَ لهم إن إنكار اتصافهم به إن قيل
لم عبّر عن عدم طاعتِهم له تعالى بالاستنكاف عنها مع أن
ذلك منهم كان بطريق إنكارِ كونِ الأمرِ منْ جهتِه تعالَى
لا بطريق الاستنكافِ قلنا لأنهم كانوا يستنكفون عن طاعة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل هو الإستنكاف عن طاعةِ
الله تعالَى إذ لا أمرَ له عليه الصَّلاةُ والسلام سوى
أمرِه تعالى مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله
{وَيَسْتَكْبِرْ} الاستكبارُ الأنَفةُ عما لا ينبغي أن
يُؤنَفَ عنه وأصلُه طلبُ الكِبْر لنفسه بغير استحقاقٍ له
لا بمعنى طلب تحصيلِه مع اعتقاد عدمِ حصولِه فيه بل بمعنى
عدِّ نفسِه كبيراً واعتقادِه كذلك وإنما عبَّر عنه بما
يدلُّ على الطلب للإيذان بأن مآلَه محضُ الطلبِ بدون حصولِ
المطلوب وقد عبر عن مثل ذلك بنفس الطلبِ في قولِه تعالَى
يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا فإنهم
ما كانوا يطلبون ثبوتَ العِوِجِ لسبيل الله مع اعتقادهم
لاستقامتها بل كانوا يعدّونها ويعتقدونها مُعْوجّةً
ويحكمون بذلك ولكن عبّر عن ذلك بالطلب لِما ذكر من الإشعار
بأن ليس هناك شيءٌ سوى الطلبِ والاستكبارِ دون الاستنكافِ
المنبئ عن توهم لحقوق العارِ والنقصِ من المستنكَفِ عنه
{فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} أي المستنكِفين
ومقابليهم المدلولَ عليه بذكر عدمُ استنكافِ المسيحِ
والملائكةِ عليهم السلام وقد تُرك ذكرُ أحدِ الفريقين في
المفصل تعويلاً على إنباء التفصيل عنه وثقة
(2/261)
173 - 174 النساء بظهور اقتضاءِ حشرِ
أحدِهما لحشر الآخرِ ضرورةَ عمومِ الحشرِ للخلائق كافةً
كما تُرك ذكرُ أحدِ الفريقين في التفصيل عند قوله تعالى
فَأَمَّا الذين آمنوا بالله الآية مع عموم الخطابِ لهما
اعتماداً على ظهور اقتضاءِ إثابةِ أحدِهما لعقاب الآخر
ضرورةَ شمولِ الجزاءِ للكل وقيل الضميرُ للمستنكفين وهناك
مقدر اقتضاءِ إثابةِ أحدِهما لعقاب الآخر ضرورةَ شمولِ
الجزاءِ للكل وقيل الضميرُ للمستنكِفين وهناك مقدَّرٌ
معطوفٌ عليه والتقدير فسيحشرهم وغيرهم وقيل المعنى
فسيحشرهم إليه يوم يحشرُ العبادَ لمجازاتهم وفيه أن
الأنسبَ بالتفصيلِ الآتي اعتبارُ حشرِ الكلِّ في الإجمال
على نهج واحد وقرئ فسيحشرهم بنونِ العظمةِ بطريقِ
الالتفاتِ
(2/262)
فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ
أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا
الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
{فأما الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ} بيانٌ لحال الفريق المطوي ذكرُه في الإجمال
قُدّم على بيان حالِ ما يقابله إبانةً لفضله ومسارعةً إلى
بيان كونه حشرِه أيضاً معتبراً في الإجمال وإيرادُه بعنوان
الإيمانِ والعملِ الصالحِ لا بوصف عدمِ الاستنكافِ
المناسبِ لما قبله وما بعده للتنبيه على أنه المستتبِعُ
لما يعقبه من الثمرات
{فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ} من غير أن ينقُص منها شيئاً
أصلاً
{وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} بتضعيفها أضعافا مضاعفة
وبإعطاء ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَر على قلب
بشر
6 - {وَأَمَّا الذين استنكفوا} أي عن عبادته عز وجل
{واستكبروا فَيُعَذّبُهُمْ} بسبب استنكافِهم واستكبارِهم
{عَذَاباً أَلِيماً} لا يُحيط به الوصفُ
{وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وليا} بلى أمورَهم
ويدبّر مصالحَهم
{وَلاَ نصيرا} بنصرهم من بأسه تعالى وينجِّيهم من عذابه
(2/262)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
{يَا أَيُّهَا الناس} تلوينٌ للخطاب
وتوجيهٌ له إلى كافة المكلفين إثرَ بيانِ بطلانِ ما عليه
الكفرةُ من فنون والضلالِ وإلزامِهم بالبراهين القاطعةِ
التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبالِ وإزاحةِ شُبَهِهم الواهيةِ
بالبينات الواضحةِ وتنبيهٌ لهم على أن الحجةَ قد تمت فلم
يبقَ بعد ذلك علةٌ لمتعلِّلٍ ولا عُذرٌ لمعتذر
{قَدْ جَاءكُمُ} أي وصل إليكم وتقرَّرَ في قلوبكم بحيث لا
سبيلَ لكم إلى الإنكار
{بُرْهَانَ} البرهانُ ما يُبرهَنُ به على المطلوب والمرادُ
به القرآنُ الدالُّ على صحة نبوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ
وسلم المُثبِتُ لِما فيهِ من الأحكامِ التي من جُملتها ما
أشير إليه مما أثبتته الآياتُ الكريمةُ من حقية الحقِّ
وبُطلانِ الباطل ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله تعالى
عنهما أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم عبَّر عنه به لما
معه من المعجزات التي تشهد بصدقه وقيل هو المعجزاتُ التي
أظهرها وقيل هو دينُ الحقِّ الذي أتى به وقوله تعالى
{مِنْ رَّبّكُمْ} إما متعلق بجاءكم أو بمحذوف وقع صفةً
مشرّفةً لبرهانٌ مؤكدة لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ
الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنٌ منه تعالى على أن
مِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً وقد جُوِّز على الثاني كونُها
تبعيضيةً بحذف المضافِ أي كائنٌ من براهينِ ربِّكم
والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ
المخاطبينَ لإظهار اللُّطفِ بهم والإيذانِ بأن مجيئَه
إليهم لتربيتهم وتكميلِهم
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} أريد به أيضاً
القرآنُ الكريمُ عبّر عنه تارة بالبُرهان لما أشير إليه
آنفا وأخرى بالنور المنير بنفسه المنوَّرِ لغيره إيذاناً
(2/262)
175 - 175 النساء بأنه بيِّنٌ بنفسه مستغنٍ
في ثبوت حقِّيتِه وكونِه من عندِ الله تعالى بإعجازه غيرُ
محتاجٍ إلى غيره مبينٌ لغيره من الأمور المذكورةِ وإشعاراً
بهدايته للخلق ووإخراجهم من ظلمات الكفرِ إلى نور الإيمانِ
وقد سلك به مسلك العطفِ المبنيِّ على تغايُر الطرفين
تنزيلاً للمغايرة العُنوانيةِ منزلةَ المغايَرَةِ الذاتية
وعبر عن ملابسته للمخاطَبين تارةً بالمجيء المسنَدِ إليه
المنبء عن كمال قوتِه في البرهانية كأنه يجيء بنفسه
فيُثبِتُ أحكامَه من غير أن يجيءَ به أحدٌ على شُبَه
الكفرةِ بالإبطال وأخرى بالإنزال الموُقَعِ عليه الملائمِ
لحيثية كونِه نوراً توقيرا له باعتبار كلِّ واحدٍ من
عنوانية حظِّه اللائقِ به وإسنادُ إنزالِه إليه تعالى
بطريق الالتفاتِ لكمال تشريفِه هذا على تقديرِ كونِ
البرهانِ عبارةً عن القرآن العظيمِ وأما على تقدير كونِه
عبارةً عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن المعجزات
الظاهرةِ على يده أو عن الدينِ الحقِّ فالأمرُ هيِّنٌ
وقولُه تعالى إِلَيْكُمْ متعلقٌ بإنزالنا فإن إنزالَه
بالذات وإن كان إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لكنه
منزلٌ إليهم أيضاً بواسطته عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ
وإنَّما اعتبر حاله لإظهار كمالِ اللطفِ بهم والتصريح
بوصوله إليهم مبالغا في الإعذار وتقديمُه على المفعولِ
الصريحِ مع أن حقَّه التأخرُ عنه لما مر غيرَ مرة من
الاهتمامِ بما قُدِّمَ والتشويق إلى ما أُخِّر وللمحافظة
على فواصلِ الآي الكريمة
(2/263)
فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ
فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ
صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
{فأما الذين آمنوا بالله} حسبما يوجبُه
البرهانُ الذي أتاهم
{واعتصموا بِهِ} أي عصَموا به أنفسَهم مما يُرديها من زيغ
الشيطان وغيره
{فسيدخلهم في رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ} قال ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما هي الجنةُ وما يتفضل عليهم مما لا عينٌ
رأتْ ولا أذن سمعت ولا خطَر على قلب بشر وعبّر عن إفاضة
الفضلِ بالإدخال على طريقةِ قوله علفتُها تِبْناً وماء
باردا وتنوينُ رحمةً وفضلٍ تفخيميٌّ ومنه متعلقٌ بمحذوف
وقع صفة مشرِّفة لرحمة
{وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ} أي إلى الله عزَّ وجلَّ وقيل إلى
الموعود وقيل إلى عبادته
{صراطا مُّسْتَقِيماً} هو الإسلامُ والطاعةُ في الدنيا
وطريقُ الجنةِ في الآخرة وتقديمُ ذكرِ الوعد بإدخال الجنةِ
على الوعد بالهداية إليها على خلاف الترتيبِ في الوجود بين
الموعودَين للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصلي قبل
انتصابُ صِراطاً على أنه مفعولٌ لفعل محذوف ينبئ عنه
يهديهم أي يعرِفهم صراطاً مستقيماً
(2/263)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا
تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ
فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ
مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً
فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (176)
{يَسْتَفْتُونَكَ} أي في الكلالة استُغني
عن ذكره بوروده في قوله تعالى
{قل الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة} وقد مر تفسيرُها في
مطلع السورةِ الكريمةِ والمستفتي جابر بن عبد الله رضي
الله تعالى عنه يروى
(2/263)
أنه أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في
طريقمكة عام حَجةِ الوداعِ فقال إن لي أختاً فكم آخذُ من
ميراثها إن ماتت وقيل كان مريضاً فعاده رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال إني كَلالةٌ فكيف أصنع في مالي وروي عنه
رضيَ الله عنه أنَّه قال عادني رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم وأنا مريضٌ لا أعقِل فتوضأ وصبَّ من وَضوئه عليَّ
فعقَلْت فقلت يا رسولَ الله لمن الميراثُ وإنما يرثني
كلالةٌ فنزلت وقولُه تعالى
{إِن امرؤ هَلَكَ} استئنافٌ مبينٌ للفُتيا وارتفع امرؤ أنه
مفسِّرٌ للمحذوف غيرُ مقصودٍ في الكلام أي إن هلَك امرؤٌ
غيرُ ذي ولد ذكراً كان أو أنثى واقتُصر على ذكر عدمِ
الولدِ مع أن عدم الولد أيضاً معتبرٌ في الكلالة ثقةً
بظهور الأمرِ ودَلالةِ تفصيل الورثةِ عليه وقوله تعالى
{وله أخت} عطف على قوله تعالى لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ أو حالٌ
والمرادُ بالأخت من ليست لأم فقط فإن فرضَها السدسُ وقد مر
بيانُه في صدرِ السورةِ الكريمةِ
{فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} أي بالفرض والباقي للعصبة
أولها بالردد إن لم يكن له عَصَبة
{وَهُوَ} أي المرءُ المفروضُ
{يَرِثُهَا} أي أختَه المفروضةَ إن فُرض هلاكُها مع بقائه
{إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ} ذكراً كان أو أنثى
فالمرادُ بإرثه لها إحرازُ جميعِ ما لها إذ هو المشروطُ
بانتفاء الولدِ بالكلية لا إرثُه لها في الجملة فإنه يتحقق
مع وجود بنتِها وليس في الآية ما يدل على سقوط الإخوةِ
بغير الولدِ ولا على عدمِ سقوطِهم وإنما دلت على سقوطهم مع
الأب السنة الشريفة
{فَإِن كَانَتَا اثنتين} عطفٌ على الشرطية الأولى أي
اثنتين فصاعداً
{فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ} الضميرُ لمن يرث
بالأخُوّة والتأنيثُ والتثنيةُ باعتبار المعنى قيل وفائدةُ
الإخبارِ عنها باثنتين مع دَلالة ألفِ التثنية على
الاثْنَيْنِيّة التنبيهُ عَلى أنَّ المعتبرَ في اختلاف
الحُكْمِ هو العددُ دون الصِغَر والكِبَر وغيرِهما
{وَإِن كَانُواْ} أي من يرث بطريق الأخُوّة
{إِخْوَةً} أي مختلطة
{رّجَالاً وَنِسَاء} بدلٌ من إخوةٍ والأصلُ وإن كانوا
إخوةً وأخواتٍ فغلَبَ المذكرُ على المؤنث
{فَلِلذَّكَرِ} أي فللذكر منهم
{مِثْلُ حَظِ الانثيين} يقتسمون التركةَ على طريقة
التعصيبِ وهذا آخر ما أُنزل من كتاب الله تعالى في الأحكام
روي أن الصِّدِّيقِ رضي الله تعالى عنه قال في خطبته ألا
إن الآيةَ التي أنزلَهَا الله تعالَى في سورة النساءِ في
الفرائض فأولها الولد والوالد وثانيها في الزوج والزوجة
والأخُوَّة من الأم والآيةُ التي خَتَم بها السورةَ في
الأخوة والأخوات لأبوين أو لأب والآيةُ التي خَتَم بها
سورةَ الأنفالِ أنزلها في أولي الأرحام
{يُبَيّنُ الله لَكُمْ} أي حكمَ الكلالةِ أو أحكامَه
وشرائعَه التي من جملتها حِكَمُها
{أَن تَضِلُّواْ} أي كراهةَ أن تضلوا في ذلك وهذا رأيُ
البصريين صرّح به المبرَّدُ وذهب الكسائيُّ والفراءُ
وغيرُهما من الكوفيين إلى تقدير اللام في طرفي أن أي لئلا
تَزُولاَ وقال أبو عبيد رويتُ للكسائي حديثَ ابنِ عُمر رضي
الله تعالى عنهما وهو لا يدعُوَنّ أحدُكم على ولده أن
يوافقَ من الله إجابةً أي لئلا يوافقَ فاستحسنه وليس ما
ذُكر من الآيةِ والحديثِ نصاً فيما ذهب إليه الكسائي
وأضرابُه فإن التقديرَ فيهما عند البصْريين كراهةَ أن
تزولا وكراهةَ أن يوافِقَ الخ وقيل ليس هناك حذفٌ ولا
تقديرٌ وإنما هو مفعولُ يبيِّن أي يُبين لكم ضلالَكم الذي
هو من شأنكم إذا خُلِّيتم وطباعَكم لتحترزوا
(2/264)
عنه وتتحرَّوا خلافَه وأنتُ خبيرٌ بأنَّ
ذلكَ إنما يليق بيما إذا كان بيانُه تعالى تعيين على طريقة
مواقع الخطأ والضلالِ من غير تصريح بما هو الحقُّ والصواب
وليس كذلك
{والله بِكُلّ شيءٍ} من الأشياء التي من جملتها أحوالُكم
المتعلقةُ بمحياكم ومماتِكم
{عَلِيمٌ} مبالِغٌ في العلمِ فيبيِّنُ لكم ما فيه مصلحتُكم
ومنفعتُكم عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ
سورةَ النساءِ فكأنما تصدّق على كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ ورِث
ميراثاً وأُعطي من الأجر كمن اشترى محررا وبرئ من الشرك
وكان في مشيئة الله تعالى من الذين يُتجاوز عنهم والله
أعلم
(2/265)