تفسير أبي السعود
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لَوْلَا يَنْهَاهُمُ
الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
{لَوْلاَ ينهاهم الربانيون والاحبار} قال
الحسن الربانيون علماء الإنجيل والأحبار علماء التوراة وقيل
كلهم في اليهود وهو تحضيضٌ للذين يقتديْ بهم أفناؤهم ويَعْلمون
قَباحةَ ما هم فيه وسوءَ مغبَّته على نهْيِ أسافلِهم عن ذلك مع
توبيخ لهم على تركه {عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت}
مع علمهم بقبحهما ومشاهدتهم لمباشرتهم لهما {لَبِئْسَ مَا
كَانُواْ يَصْنَعُونَ} وهذا أبلغ مما قيل في حق عامتهم لما أن
العمل لا يبلُغ درجة الصنع ما لم يتدرَّبْ فيه صاحبُه ولم
يحصُلْ فيه مهارة تامة ولذلك ذَمَّ به خواصَّهم ولأن ترك
الحسنة أقبحُ من مواقعة المعصية لأن النفس تلتذ بها وتميل
إليها ولا كذلك تركُ الإنكار عليها فكان جديراً بأبلغِ ذم وفيه
مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي عن المنكرات ما لاَ
يخفي وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهما أشد آية في القرآن وعن
الضحاك ما في القرآن آية خوف عندي منها
(3/57)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا
بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ
يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا
بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ
أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
{وَقَالَتِ اليهود} قال ابن عباس وعكرمة
والضحاك إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من
أكثر الناس
(3/57)
المائدة آية 64
مالاً وأخصبَهم ناحيةً فلما عصَوا الله سبحانه بأن كفروا
برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وكذبوه كف عنهم ما بسَطَ
عليهم فعند ذلك قال فنخاص بنُ عازوراء {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ}
وحيث لم ينكر عليه الآخرون ورضُوا به نُسبت تلك العظيمةُ إلى
الكل كما يقال بنُو فلان قتلُوا فلاناً وإنما القاتلُ واحدٌ
منهم وأرادوا بذلك لعنهم الله أنه تعالى مُمسك يقتِّر بالرزق
فإن كلاًّ من غَلِّ اليد وبسْطِها مجازٌ عن محض البخل والجود
من غير قصد في ذلك إلى إثبات يدٍ وغَلَ أو بسطٍ ألا يُرى أنهم
يستعملونه حيث لا يتصور فيه ذلك كما في قولِه جاد الحمى بَسْطَ
اليدين بوابل شكَرتْ نداهُ تِلاعُه ووِهادُهُ وقد سلك لبيد هذا
المسلكَ السديد حيث قال وغداةِ ريحٍ قد شهِدْتُ وقره غذ اصبحت
بيد السمال زِمامُها فإنه إنما أراد بذلك إثباتَ القدرة التامة
للمشال على التصرفِ في القَرَّة كيفما تشاء على طريقة المجاز
من غير أن يخطُرَ بباله أن يثبِتَ لها يدا ولا للقة زماماً
وأصله كناية فيمن يجوز عليه إرادة المعنى الحقيقي كما مر في
قوله تعالى وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة في سورة
آل عمران وقيل أرادوا ما حُكيَ عنُهم بقولِه تعالى لَّقَدْ
سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ
وَنَحْنُ أَغْنِيَاء {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاء عليهم بالبخل
المذموم والمسكَنة أو بالفقر والنَّكَد أو بغَلِّ الأيدي حقيقة
بأن يكونوا أسارى مغلولين في الدنيا ويُسحبوا إلى النار
بأغلالِها في الآخرة فتكون المطابقةُ حينئذ من حيث اللفظُ
وملاحظةُ المعنى الأصلي كما في سبّني سبّ الله دابرَه
{وَلُعِنُواْ} عطف على الدعاء الأول أي أُبعدوا من رحمة الله
تعالى {بِمَا قَالُواْ} أي بسبب ماقالوا من الكلمة الشنعاء
وقيل كلاهما خبر {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} عطفٌ على
مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي كلاّ ليس كذلك بل هو في غايةِ ما
يكونُ من الجود وإليه أُشير بتثنية اليد فإن أقصى ما ينتهِي
إليه هممُ الأسخياء أن يُعطوا ما يعطونه بكلتا يَدَيْهم وقيل
التثنية للتنبيه على منحه تعالى لنعمتي الدجنيا والآخرة وقيل
على إعطائه إكراماً وعلى إعطائه استدراجاً {يُنفِقُ كَيْفَ
يَشَاء} جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده وللتنبيه على
سرِّ ما ابتُلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم
وضلالِهم ذريعةً إلى الاجتراء على تلك الكَفْرة العظيمة
والمعنى والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تالبع
لمشيئته المبنيَّةِ على الحُكم التي عليَها يدورُ أمرُ المعاش
والمعاد وقد اقتضتِ الحكمةُ بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن
يضيِّقَ عليهم كما يشير إليه ما سيأتِي من قولِه عز وجل ولو
أنهم أقاموا التواراة والإنجيل الآية وطكيف ظرفٌ ليشاء والجملة
في محل النصب على الحالية من ضمير ينفق أي ينفق كائناً على أي
حال يشاء أي كائناً على مشيئته أي مريداً وتركُ ذكرِ ما ينفقه
لقصد التعميم {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً منهم} وهم علماؤهم
ورؤساهم {مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} مِن القرآن المستمل على هذه
الآيات وتقديمُ المفعول للاعتناء به وتخصيص الكثير منهم بهذا
الحكم لِما أن بعضهم ليس كذلك {مِن رَبّكَ} متعلق بأنزل كما أن
إليك كذلك وتأخيره عنه مع أن حق المبدا أن يتقدم على المنتهي
لاقتضاء المقامِ الاهتمامَ ببيان المنتهي لأن مدجار الزيادة هو
النزولُ إليه عليهِ السَّلامُ كَما في قوله تعالَى وَأَنزَلَ
لَكُمْ مّنَ السماء مَاء والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع
الإضافة إلى ضميره عليه السلام لتشريفه عليه السلام {طغيانا
وَكُفْراً} مفعول ثان للزيادة أي ليزييدنهم كغيانا على طغيانهم
وكفراً على كفرهم القديمين إما من حيث الشدةُ والغلوُّ وإما من
حيث الكمُ والكثرة إذ كلما نزلة ى ية كفروا بها فيزداد
طغيانُهم وكفرهم بحسب المقدار
(3/58)
المائدة آية 65 66
كما أن الطعامَ الصالح للأصِحّاء يزيد المرضى مرضاً
{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ} أي بين اليهود فإن بعضَهم جبْريةٌ
وبعضهم قدرية زوبعضهم مُرْجئة وبعضهم مشبِّهة {العداوة
والبغضاء} فلا يكاد تتوافق قلوبُهم ولا تتطابق أقوالهم والجملة
مبتدأ مَسوقة لإزاحة ما عسى يُتوهَّمُ من ذكر طغيانهم وكفرهم
من الاجتماع على أمرٍ يؤدِّي إلى الإضرار بالمسلمين قيل
العداوة والبغضاء أخصُّ من البغضاء لأن كل عدوَ مبغضٌ بلا عكسٍ
كليَ {إلى يَوْمِ القيامة} متعلقٌ بألقينا وقيل بالبغضاء
{كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله}
تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلةِ ما هم فيه إلى
المسلمين أي كلما أرادوا محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم
ورتبوا مبادِيَها وركِبوا في ذلك متنَ كلِّ صعب وذَلولٍ ردهم
الله تعالى وقهرهم أو كلما أرادوا حرب أحد غُلبوا فإنهم لما
خالفوا حكم التوراة سلط الله تعالى عليهم بُخْتَ نَصَّرَ ثم
أفسدوا فسلط الله عليهم فطرُسَ الروميّ ثم أفسدوا فسلط الله
عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين وللحرب إما
صل لأوقدوا أو متعلِّق بمحذوف وقع صفة لنار أي كائنة للحرب
{وَيَسْعَوْنَ فِى الارض فَسَاداً} أي يجتهدون في الكيد
للإسلام وأهله وإثار الشر والفتنة فيما بينهم مما يُغايرُ ما
عبَّر عنه بإيقاد نارِ الحرب وفسادا إما مفعول له أو في موقعِ
المصدر أي يسعون للفساد أو يسعون سعي فساد {والله لاَ يُحِبُّ
المفسدين} ولذلك أطفأ ثائرةَ إفسادهم واللام إما للجنس وهم
داخلون فيه دخولاً أولياً وإما للعهد ووضعُ المُظْهَرِ مَقام
الضمير للتعليل وبيانِ كونِهم راسخين في الإفساد
(3/59)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب} أي اليهودُ
والنصارى على أن المراد بالكتاب الجنسُ المنتظمُ للتوراة
والإنجيل وإنما ذكروا بذلك العنوان تأكيداً للتشنيع فإنّ
أهليةَ الكتاب توجب إيمانهم به وإقامتَهم له لا محالة فكفرُهم
به وعدمُ إقامتهم له وهم أهلهخ أقبحُ من كُلِّ قبيحٍ وأشنعُ من
كل شنيع فمفعول قوله تعالى {آمنوا} محذوف ثقةً بظهوره مما سبقَ
من قولِه تعالى هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أن آمنا بالله
وما أنزل إلينا وما أنزل مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ
فاسقون وما لَحِقَ من قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ
التوراة الخ أي ولو أنهم مع صدور ما صدَرَ عنهُم من فنون
الجنايات قولاً وفعلاً آمنوا بما نُفِيَ عنهم الإيمانُ به
فيندرج فيه فرضُ إيمانهم برسول اللله صلى الله عليه وسلم وأما
إرادةُ إيمانهم به صلى الله عليه وسلم خاصة فيأباها المقام لأن
ما ذُكر فيما سبَقَ وما لَحِق من كفرهم به صلى الله عليه وسلم
إنما ذُكر مشفوعاً بكفرهم بكتابهم أيضا قصدجا إلى الإلزام
والتبكيت ببيان أن الكفر به صلى الله عليه وسلم مستلزم الكفر
بكتابهم فحمل الإيمان ههنا على الإيمان به صلى الله عليه وسلم
خحاصة مُخِلٌّ بتجاوُب أطرافِ النظمِ الكريم {واتقوا} ما
عددجنا من معاصيهم التي من جُملتها مخالفةُ كتابهم
{لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سيئاتهم} التي اقترفوها وإنْ كانتْ في
غايةِ العِظَم ونهايةِ الكثرة ولم تؤاخذهم بها {ولادخلناهم} مع
ذلك {جنات النعيم} وتكرير اللام لتأكيدِ الوعد وفيه تنبيه على
كمال عِظَم ذنوبهم وكثرةِ معاصيهم وأن الإسلام يجبُّ ما قبله
من السيئات وإن جلَّتْ وجاوزت كلَّ حدَ معهود
(3/59)
وَلَوْ أَنَّهُمْ
أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة
والإنجيل} بمراعاة
(3/59)
المائدة آية 67
ما فيهما من الأحكامِ التي من جُملتها شواهدُ نبوة النبيِّ
صلَّى الله عليهِ وسلم ومبشراتُ بِعثتِه فإن إقامتهما إنما
تكون بلك لا بمراعاة جميعِ ما فيهما من الأحكام لانتساخِ
بعضِها بنزول القرآن فليست مراعات الكلِّ من إقامتهما في شيء
{وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ} من القرآن المجيد
المصدِّق لكتبهم وإيرادُه بهذا العنوان للإيذان بوجوب إقامته
عليهم لنزوله إليهم وللتصريح ببطلان ما كانوا يدّعونه من عدم
نزوله إلى بني غسرائيل وتقديمُ إليهم لما مر من قبل وفي إضافة
الربِّ إلى ضميرهم مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة وقيل
المراد بما أنزل إليهم كتب أنبياء بني إسرائيل مثلُ كتاب
شعياءوكتاب حتقوق وكتاب دانيال فإنها مملوءة بالبشارة بمبعثه
صلى الله عليه وسلم {لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ
أَرْجُلِهِم} أي لوسَّع عليهم أرزاقَهم بأن يُفيض عليهم بركاتِ
السماء والأرض أو بأن يكثر ثمراتِ الأشجار وغلالَ الزروع أو
بأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار فيجتنوا ما تهدّل منها من
رءوس الأشجار ويلتقطوا ما تساقط منها على الأرض وقيل المراد
المبالغة في شرح السَّعَة والخِصْب لا تعيينُ الجهتين كأنه قيل
لأكلوا من كل جهة ومفعول أكلوا محذوف لقصد التعميم أو للقصدِ
إلى نفسِ الفعلِ كما في قوله فلان يعطي ويمنع ومن في الموضعين
لابتداء الغاية في هاتين الشرطيتين من حثِّهم على ما ذكر من
الإيمان والتقوى والإقامةِ بالوعد بنيل سعادة الدارين وزجرِهم
عن الإخلال بما ذُكر ببيان إفضائِه إلى الحِرْمان عنها
وتنبيههم على أنَّ ما أصابَهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم
جناياتهم لا لقصورٍ في فيض الفياض ما لا يخفى {مّنْهُمْ
أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} جملة مستأنَفةٌ مبنيّةٌ على سؤال نشأ
من مضمون الجملتين المصدّرتين بحرف الامتناع الدالتين على
انتفاء الإيمان والاتقاءِ وإقامةِ الكتب المُنْزلة من أهل
الكتاب كأنه قيل هل كلُّهم كذلك مصرّون على عدم الإيمان الخ
فقيل منهم أمة مقتصدة إما على أن منهم مبتدأ باعتبار مضمونه أي
بعضهم أمة وإما بتقدير الموصوف أي بعضٌ كائنٌ منهم كما مر في
قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله الآية أي طاتفة
معتلده وهم المؤمنون منهم كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَم وأضرابه
وثمانيةٌ وأربعون من النصارى وقيل طائفة حالُهم أَممٌ في
عدجاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ}
مبتدأٌ لتخصُّصِه بالصفةِ خبرُه {سَاء مَا يَعْمَلُونَ} أي
مقولٌ في خقهم هذا القولُ أي بئسما يعملون وفيه معنى التعجب أي
ما أسوأ عملَهم من العِناد والمكابرةِ وتحريفِ الحق والإعراض
عنه والإفراطِ في العداوة وهم الأجلافُ المتعصبون ككعب من
الأشرف وأشباهه والروم
(3/60)
يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ
لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ (67)
{يا أيها الرسول} نودي صلى الله عليه وسلم
بعنوان الرسالة تشريفاً له وإيذانا بأنها موجبات الإتيانِ بما
أُمر به من متبليغ ما أُوحِيَ إليه {بَلّغْ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكَ} أي جميع مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن الأحكام وما يتعلق
بها كائناً ما كان وفي قولِه تعالى {مِن رَبّكَ} أي مالِكِ
أمورِك ومبلِّغِك إلى كمالك اللائقِ بك عِدَةٌ ضِمْنية بحفظه
صلى الله عليه وسلم وكَلاءته أي بلِّغْه غيرَ مراقب في ذلك أحد
ولا خائف أن ينالك مكروهٌ أبداً {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} ما
أُمرت به من تبليغ الجميع بالمعنى المذكور كما ينبىء عنه قوله
تعالى {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} فإن ما لا تتعلق به
الأحكام
(3/60)
المائدة آية 68
أصلاً من الأسرار الخفية ليست مما يُقصَدُ تبليغه إلى الناس أي
فما بلغت شيئاً من رسالته وانسلخْتَ مما شَرُفتَ به من عنوان
الرسالة بالمرة لِما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض فإذا لم
تؤدِّ بعضها فكأنك أغفلتَ أداءَها جميعاً كما أن من لم يؤمن
ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لإدلاء كلَ منها بما يُدليه
غيرها وكونُها لذلك في حكم شيءٍ واحد ولا ريب في أن الواحد لا
يكونُ مُبلَّغاً غيرَ ميبلغ مؤمَناً به غيرَ مؤمَنٍ به ولأن
كتمان بعضها إضاعةٌ لما أُدِّيَ منها كترك بعض أركان الصلاة
فإن غرض الدعوة ينتقض بذلك وقيل فكأنك ما بلغت شيئاً منها
كقوله تعالى فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً من حيث أن
كتمنان البعض والكل سواءٌ في الشناعة واستجلاب العقاب وقرىء
فما بلغت رسالاتي وعن ابن عباس رشي الله عنهما إن كتمت ى ية لم
تبلِّغْ رسالاتي وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني
الله برسالاته فضِقْتُ بها ذرعاً فأوحَى الله إلي إنْ لم
تبلِّغْ رسالاتي عذبتُك وضمِن لي العصمة فقوِيْتُ وذلك قوله
تعالى {والله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فإنَّه كما ترى عِدَةٌ
كريمةٌ بعصمته من لُحوق ضررهم بروحه العزيزِ باعثة له صلى الله
عليه وسلم على الجد في تحقيق ما أُمر بهِ من التبليغ غير مكترث
بعجاوتهم وكيدهم وعن أنسٌ رضيَ الله عنه أنه صلى الله عليه
وسلم كان يُحرَسُ حتى نزلت فأخرج رأسَه من قُبّةٍ أدم فقال
انصرفوا يأيها الناس فقد عصمني الله من الناس وقوله تعالى
{إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين} تعليل لعصمته تعالى
له صلى الله عليه وسلم أي لا يمكنهم مما يريدون بك من الإضرار
وإيرادُ الآية الكريمة في تضاعيف الآيات الواردة في حق أهل
الكتاب لِما أن الكل قوارعُ يسوء الكفارَ سماعُها ويشُقّ على
الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهتُهم بها وخصوصاً ما يتلوها من
النصِّ الناعي عليهم كمالَ ضلالتهم ولذلك أعيد الأمر فقيل
(3/61)
قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا
التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
{قل يا أهل الكتاب} مخاكبا للفريقين {لستم
على شيء} أي دينٍ يُعتدّ به ويليق بأن يسمى شيئاً لظهور
بُطلانه ووضوح فساده وفي هذا التعبير من التحقير والتصغير ما
لا غايةَ وراءَه {حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل} اي
تراعواهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها
دلائل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وشواهدُ نبوته فإن
إقامتهما إنما تكون بذلك وأما مراعاة أحكامهما المنسوخةِ فليست
من إقامتهما في شيء بل هي تعطيل لهما وردٌّ لشهادتهما لأنهما
شاهدان بنسخها وانتهاءِ وقت العمل بها لأن شهادتهما بصحة ما
ينسخها شهادةٌ بنسخها وخروجها عن كونها من أحكامهما وأن
أحكامهما ما قرره النبي الذي بشَّرَ فيهما ببعثته وذُكر في
تضاعيفهما نعُوتُه فإذن إقامتُهما بيانُ شواهدِ النبوة والعملُ
بما قررته الشريعة من الأحكام كما يفصحُ عنه قولُه تعالى {وما
أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} أي القرآن المجيد بالإيمان
به فإن إقامة الجميع لا تتأتَّى بغير ذلك وتقديم غقامة
الكتابين على إقامته مع أنها المقصودةُ بالذات لرعاية حقِّ
الشهادة واستنزالِهم عن رتبة الشِّقاق وإيرادُه بعنوان الإنزال
إليهم لما مرّ من التصريح بأنهم مأمورون بإقامته والإيمان به
كما لا يزعُمون من اختصاصه بالعرب وفي إضافة الربِّ إلى ضميرهم
ما أشيرَ إليهِ من اللطف في الدعوة وقيل امراد بما
(3/61)
المائدة آي 69
أنزل إليهم كتب أنبياء بني إسرائيلَ كما مر وقيل الكتبُ
الإلهية فإنها بأسرها آمرةٌ بالإيمان لمن صدَّقَتْه المعجزةُ
ناطقةٌ بوجوب الطاعة له رُوي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ
جماعةً من اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألست
تقرأ أن التوراة حقٌّ من عند الله تعالى فقال صلى الله عليه
وسلم بلى فقالوا فإنا مؤمنون بها ولا نؤمنُ بغيرها فنزلت وقوله
تعالى {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ
مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْراً} جملة مستأنَفةٌ مبيِّنةٌ لشدة
شكيمَتِهم وغُلوِّهم في المكابرةِ والعنادِ وعدمِ إفادة
التبليغ نفعاً وتصدريها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيق مدلولِها
والمرادُ بالكثير المذكور علماؤهم ورؤساؤهم ونسبةُ الإنزال إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسبته فيما مر إليهم للإنباء
عن انسلاخِهم عن تلك النسبة {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم
الكافرين} أي لا تتأسف ولا تحزن عليهم لإفراطهم في الطغيان
والكفر بما تُبلّغه إليهم فإن غائلتَه آيلةٌ إلهم وتبعته حائقة
بهم لا تتخطاهم وفي المؤمنين مندوحةٌ لك عنهم ووضعُ المُظْهر
موضعَ المُضمَرِ للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر
(3/62)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
{إن الذين آمنوا} كلام مستأنَفٌ مسوق
لترغيب مَنْ عدا المذكورين في الإيمان والعمل الصالح أي الذين
آمنوا بألسنتهم فقد وهم المنافقون وقيل أعمُّ من أن يُواطِئَها
قلوبُهم أولا {والذين هَادُواْ} أي دخلوا في اليهودية
{والصابئون والنصارى} جمعُ نَصْرانَ وقد مر تفصيله في سورةِ
البقرةِ وقوله تعالى الصابئون رفعٌ على الابتداء وخبرُه محذوف
والنيةُ به التأخرُ عما في حيّز إنّ والتقدير إن الذين آمنوا
والذين هادوا والنصارى حكمُهم كيتَ وكيتَ والصابئون كذلك كقوله
فإني وقيارٌ بها لغريبُ وقوله وإلا فاعلموا أَنّا وأنتم بُغاةٌ
ما بقِينا في شقاق خلا أنه وسَطٌ بين اسْمِ إنَّ وخبرِها
دلالةً على أن الصابئين مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان
كلِّها حيث قُبلت توبتُهم إن صحَّ منهم الإيمانُ والعملُ
الصالح فغيرُهم أولى بذلك وقيل الجملة الآتية خبرٌ للمبتدأ
المذكور وخبرُ إن مقدر كما في قوله نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راضٍ والرأْيُ مختلِفُ وقيل النصارى مرفوع على الابتداءِ
وقولُه تعالَى والصابئون عطفاً عليه وهو مع خبره عطفٌ على
الجملة المصدَّرة بإن ولا مَساغَ لعطفه وحده على محلِّ إنَّ
واسمِها لاشتنراط ذلك بالفراغ عن الخبر وإلا لارتفع الخبر بإن
والابتداء معاً واعتُذر عنه بأن ذلك إذا كان المذكورُ خبراً
لهما وأما إذا كان خبرُ المعطوف محذوفاً فلا محذورَ فيه ولا
على الضمير في هادوا لعدم التأكيد والفصل ولاستلزامه كونَ
الصابئين هُوداً وقرىء والصابيون بيان صريحة وبتخفيف الهمزة
وقرىء والصابون وهو من صبا يصبوا لأنهم صبَوْا إلى اتباع الهوى
والشهوات في دينهم وقرىء والصابئين وقرىء يأيها الذين آمنوا
والذين هادوا والصابئون وقوله تعالى {مَنْ آمن بالله واليوم
الآخر وَعَمِلَ صالحا} إما في محلِ الرفعِ على أنه مبتدأ خبره
{فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} والفاءُ
لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشرط وجمع الضمائر الأخيرة باعتبار
معنى الموصول كما أن إفرادَ ما في صلته باعتبار لفظه والجملة
(3/62)
المائدة آية 70
خبر إن والعائد إلى اسمها محذوف أي من آمن منهم وإما في محل
النصب على أنه بدل من اسم إن وما عُطف عليه والخبر قوله تعالى
فَلاَ خَوْفٌ والفاء كما في قوله عز وعلا إِنَّ الذين
فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ
عَذَابُ جَهَنَّمَ الآية فالمعنى على تقدير كون المراد بالذين
آمنوا المنافقين وهو الأظهر من أحدث من هذه الطوائف إيمانا
خالصا بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل
الكتاب فإنَّ ذلكَ بمعزلٍ من أن يكون إيماناً بهما وَعَمِلَ
عملاً صالحا حسبما يقتضيه الإيمانُ بهما فلا خوف عليهم حين
يخاف الكفار العقاب ولا هُمْ يَحْزَنُونَ حين يحزن المقصرون
على تضييع العمر وتفويت الثواب والمراد بيان جوام انتفائِهما
لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يُوهمه كونُ الخبرِ في الجملة
الثانية مضارِعاً لما مر مراراً لأن النفيَ وإن دخل على نفس
المضارع يُفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام وأما على تقدير
كون المراد بالذين آمنوا مطلقَ المتدينين بدين الإسلام
المخلِصين منهم والمنافقين فالمرادُ بمن آمن من اتصف منهم
بالإيمان الخالص بالمبدأ والمعاد على الإطلاق سواءٌ كان بطريق
الثبات والدوام عليه كما هو شأن المخلصين أو بطريق إحداثه
وإنشائه كما هو حالُ من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف
وفائدةُ التعميم للمخلصين المبالغةُ في ترغيب الباقين في
الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غيرُ مُخلَ بكونهم
أسوةً لأولئك الأقدمين الأعلام وأما ما قيل المعنى من كان منهم
في دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملاً
بمقتضى شرعه غمما لا سبيل إليه أصلا كما مرَّ تفصيلُه في سورة
البقرة
(3/63)
لَقَدْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا
كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ
فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إسرائيل}
كلام مبتدأ مسوقٌ لبيان بعضٍ آخرَ من جناياتهم المنادية
باستبعاد الإيمان منهم أي بالله لقد أخذنا ميثاقهم بالتوحيد
وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة
{وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً} ذوي عدد كثير وأولي شأن
خطير ليقررهم على مرعاة حقوق الميثاق ويُطْلعوهم على ما يأتون
ويذرون في دينهم ويتعهدوهم بالعظة والذكير وقولُه تعالى
{كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُهُمْ} جملة
شرطيةٌ مستأنَفةٌ وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ
الميثاق وإرسال الرسل وجواب الشرط محذوف كأنه قيل فمذا فعلوا
بالرسل فقيل كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تُحبه
أنفسهم المنهمكة في الغنى والفساد من الأحكام الحَقّة
والشرائعِ عَصَوْه وعادَوْه وقوله تعالى {فَرِيقاً كَذَّبُواْ
وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} جواب مستأنَفٌ عن استفسار كيفية ما
أظهروه من آثار المخالفة المفهومة من الشرطية على طريقة
الإجمال كأنه قيل كيف فعلوا بهم فقيل فريقاً منهم كذبوهم من
غير أن يتعرضوا لهم بشيء آخرَ من المَضارِّ وفريقاً آخر منهم
لم يكتفوا بتكذيبهم بل قتلوهم أيضاً وإنما أُوثر عليه صيغة
المضارعِ على حكايةِ الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتها الهائلة
للتعجيب منها وللتنبيه على أن ذلك دَيْدنُهم المستمرُّ
وللمحافظة على رءوس الآي الكريمة وتقديم فريقاً في الموضعين
للاهتمام به وتشويق السامع إلى ما فعلوا به لا للقصر هذا وأما
(3/63)
المائدة آية 71
جعلُ الشرطية صفةً لرسلاً كما ذهب إليه الجمهور فلا يساعده
المقام أصلاً ضرورةَ أن الجملة الخبرية إذا جُعلتْ صفةً أو
صلةً يُنسخ ما فيها من الحُكم وتُجعل عنواناً للموصوف تتمةً له
في إثباتِ أمرٍ آخَرَ له ولذلك يجب أن يكون الوصفُ معلومَ
الانتساب إلى الموصوف عند السامع قبل جعله وصفاً له ومن ههنا
قالُوا إن الصفاتِ قبلَ العلمِ بها أخبارٌ والأخبارُ بعد العلم
بها أوصافٌ ولا ريب في أن ما سيق له النظمُ إنما هو بيانُ أنهم
جعلوا كل من جاءهم من رسل الله تعالى عُرضةً للقتل أو التكذيب
حسبما يفيده جعلُها استئنافاً على أبلغِ وجه وآكله لا بيانُ
أنه تعالى أرسل إليهم رسلاً موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو
مقتضى جعلِها صفةً
(3/64)
وَحَسِبُوا أَلَّا
تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
{وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي
حسِب بنو إسرائيلَ أن لا يصيبَهم من الله تعالى بما أتَوْا من
الداهية الدهياء والخُطة الشنعاء بلاءٌ وعذاب وقرىء لا تكونُ
بالرفع عَلى أنَّ أنْ هيَ المخففةُ من أنّ واسمُها ضميرُ الشأن
المحذوف وأصله أنه لا تكون فتنةٌ وتعليقُ فعل الحُسْبان بها
وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته وأن بما في
حيِّزها سادٌّ مَسدَّ مفعوليه {فَعَمُواْ} عطف على حسِبوا
والفاء للدِلالة على ترتيبِ ما بعدها على ما قبلها أي أمِنوا
بأسَ الله تعالى فتمادَوْا في فُنون الغيِّ والفساد وعمُوا عن
الدين بعد ما هداهم الرسلُ إلى معالمه الظاهرة ويبنوا لهم
مناهجه الواضحة {وَصَمُّواْ} عن استماع الحق الذي ألقَوْه
عليهم ولذلك فعلوا بهم ما فعلوا وهذا إشارة إلى المرة الأولى
من مرّتَيْ إفساد بني إسرائيلَ حين خالفوا أحكام التوراة
وركِبوا المحارم وقتلوا شعياء وقيل حبسوا أرمياء عليهما السلام
لا إلى عبادتهم العجلَ كما قيل فإنها وإن كانت معصية عظيمة
ناشئة عن كماال العمَى والصمَم لكنها في عصر موسى عليه السلام
ولا تعلُّقَ لها بما حُكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاءهم
بعده عليه السلام بأعصار {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ} حين
تابوا ورجعوا عمَّا كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابلَ
دهراً طويلاً تحت قهر بُخْتَ نَصَّرَ أسارى في غاية الذل
والمهانة فوجه الله عز وجل ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت
المقس ليعمُرَه ونجّى بقايا بني إسرائيل من أسر بختَ نصَّرَ
بعد مهلكه وردَّهم إلى وطنهم وتراجَعَ من تفرق منهم في الأكتاف
فعَمَروه ثلاثين سنة فكثُروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه وقيل
لما ورث بهمن ابن اسفنديارَ المُلك من جدِّه كستاسف ألقى الله
عزَّ وجلَّ في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام وملّك عليهم
دانيال عليه السلام فاستولَوا على من كان فيها من أتباع بختَ
نصّر فقامت فيهم الأنبياءُ فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من
الحال وذلكَ قولُه تعالى ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة
عَلَيْهِمْ وأمَّا ما قيل من أن المراد قبولُ توبتهم عن عبادة
العجل فقد عرفت أن ذلك لا تعلُّق له بالمقامِ ولم يُسنِد
التوبةَ إليهم كسائر احوالهم من الحسابن والعمَى والصمم
تجافياً عن التصريح بنسبة الخير إليهم وإنما أشير إليها في ضمن
بيان توبته تعالى عليهم تمهيداً لبيان نقضهم إياها بقوله تعالى
{ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} وهو إشارة إلى المرة الآخرة من
مرّتيْ إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدُهم قتلَ
عيسى عليهم السلام لا إلى طلبهم الرؤية كما قيل لِما عرفت سره
فإن فنون
(3/64)
المائدة آية 72
الجناياتِ الصادرةِ عنهم لا تكاد تتناهى خلا أن انحصار ما حُكي
عنهم ههنا في المرتين وترتّبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم
السلام يقضي بأن المراد ما ذكرناه والله عنده علم الكتاب وقرىء
عُموا وصُمّوا بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم أي رماهم
وضربهم بالعمى والصمم كما يقال نَزَكتَهُ إذا ضربتَه
بالنَّيْزَك ورَكَبتَهُ إذا ضربتَه بركبتك وقوله تعالى
{كَثِيرٌ مّنْهُمْ} بدلٌ من الضمير في الفعلين وقيل خبرُ مبتدأ
محذوفٍ أي أولئك كثير منهم {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}
أي بما عملوا وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضية
استحضاراً لصورتها الفظيعة ورعايةً للفواصل والجملة تذييلٌ
أشير به إلى بطلان حُسْبانهم المذكور ووقوع العذاب مِنْ حَيْثُ
لَمْ يَحْتَسِبُواْ إشارةٌ إجمالية اكتُفيَ بها تعويلاً على ما
فُصِّل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيلَ والمعنى حسبوا أن لا
يصيبهم عذابٌ ففعلوا ما فعلوا من الجنايات العظيمة المستوجبة
لأشد العقوبات والله بصيرٌ بتفاصيلها فكيف لا يؤاخذهم بها ومن
أين لهم ذلك الحسبانُ الباطل ولقد وقع ذلك في المرة الأولى حيث
سلط الله تعالى بُخْتَ نصَّر عامل لهراسِبَ على بابل وقيل
جالوتَ الجزري وقيل سنجاريبَ من أهل نينوى والأول هو الأظهر
فاستولى على بيت المقدس فقتل من أهله أربعين ألفاً ممن يقرأ
التوراة وذهب بالبقية إلى أرضه فبقُوا هناك على أقصى ما يكونُ
من الذل والنكد إلى أن أحدثوا توبةً صحيحة فردهم الله عزَّ
وجلَّ إلى ما حكي عنهم من حسنِ الحال ثم عادوا إلى المرة
الآخرة من الإفساد فبعث الله تعالى عليهم الفرسَ فغزاهم ملكُ
بابلَ من ملوك الطوائف اسمُه خيدرود وقيل خيدروس ففعل بهم ما
فعل قيل دخل صاحب الجيش مذبحَ قرابينَهم فوجد فيه دماً يغلي
فسألهم فقالوا دمُ قربانٍ لم يقبل منا فقال ما صَدَقوني فقتل
عليه ألوفاً منهم ثم قال إنْ لم تصدُقوني ما تركت منكم أحداً
فقالوا إنه دمُ يحيى عليه السلام فقال بمثل هذا بنتقم الله
تعالى منكم ثم قال يحيى قد علم ربي وربُّك ما أصاب قومَك من
أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقيَ أحداً منهم فهدأ
(3/65)
لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا
اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ
فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ
النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله
هُوَ المسيح ابن مريم} شروع في تفصيل قبائح النصارى وإبطالِ
أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود وهؤلاء هم الذين قالوا
إن مريم ولدت غلها قيل هم الملكانية والمار يعقوبية منهم وقيل
هم اليعقوبية خاصة قالوا ومعنى هذا أن الله تعالى حل في ذات
عيسى واتحد بذاته تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً {وَقَالَ
المسيح} حالٌ من فاعل قالوا بتقدير قد مفيدةٌ لمزيد تقبيحِ
حالهم ببيان تكذبيهم للمسيح وعدم انزجارِهم عما أصروا عليه بما
أوعدهم به أي قالوا ذلك وقد قال المسيح مخاطباً لهم {يا بني
إسرائيل اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ} فإني عبدٌ مربوبٌ
مثلُكم فاعبدوا خالقي وخالقَكم {إٍِنَّهُ} أي الشأنَ {مَن
يُشْرِكْ بالله} أي شيئاً في عبادته أو فيما يختص به من صفات
الألوهية {فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة} فلن يدخلها
أبداً كما لا يصل المحرم عليه إلى
(3/65)
المائدة آية 73
المحرم فإنها دار الموحدين وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع
الإضمار لتهويل الأمر وتربية المهابة {وَمَأْوَاهُ النار}
فإنها هي المعدّة للمشركين وهذا بيان لابتلائهم بالعقاب غثر
بيانِ حرمانِهم الثوابَ {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} أي
مالهم من أحد ينصُرهم بإنقاذهم من النار إما بطريق المغالبة أو
بطريق الشفاعة والجمع لمراعاة المقابلة بالظالمين واللام إما
للعهد والجمع باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفراد في الضمائر
الثلاثة باعتبار لفظهار وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً
أولياً ووضعه على الأول موضع الضمير للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا
بالإشراك وعدلوا عن طريق الحق والجملةُ تذييلٌ مقرِّر لمَا
قبلَهُ وهُو إمَّا من تمامِ كلامِ عيسى عليه السلامُ وأما
واردٌ من جهته تعالى لمقالته عليه السلام وتقريراً لمضمونها
وقد قيل إنه من كلامه عز وجل على معنى أنهم ظلموا وعجلوا عن
سبيل الحق فيما تقوّلوا عَلَى عيسَى عليهِ السَّلامُ فلذلك لم
يساعدْهم عليه ولم ينصُرْ قولهم ورده أنكره وإن كانوا معظمين
له بذلك ورافعين من مقداره أو من قول عيسى عليه السلام على
معنى لا ينصركم أحد فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته
وبُعْده عن المعقول وأنت خبير بأن التعبيرَ عما حُكي عنه عليه
السلام من مقابلته لقولهم الباطل بصريح الرد والإنكار والوعيد
بحرمان الجنة ودخول النار بمجرد عدم مساعدته على ذلك ونفْي
نُصْرته له مع خُلوِّه عن الفائدة تصوير للقوي ل = بصورة
الضعيف وتهوين للخطب من مقام تهويله بل ربما يوهم ذلك بحسب
الظاهر ما لا يليق بشأنه عليه السلام من توهم المساعدةِ
والنُصرة لا سيما مع ملاحظة قوله وإن كانوا معظمين له الخ إلا
أن يحمل الكلامُ على التهكم بهم كذا وكذا الحالُ على تقديرِ
كونِه من تمام كلامِه عليه السلام فإن زجْرَه عليه السلام
إياهم عن قولهم الفاسد بما ذكره من عدم الناصرِ والمساعدِ بعد
زجره إياهم بما مر من الرد الأكيدِ والوعيدِ الشديد بمعزِلٍ من
الإفادة والتأثير ولا سبيل ههنا إلا الاعتذار بالتهكم
(3/66)
لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ
إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا
يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (73)
{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله
ثالث ثلاثة} شروع في بيان كفر طائفة أخرة منهم ومعنى قوله ثالث
ثلاثة ورابع أربعة ونحوُ ذلك أحدُ هذه الأعدادِ مطلقاً لا
الثالثُ والرابعُ خاصة ولذلك منع الجمهورُ أن ينصِبَ ما بعده
بأن يقال ثالثٌ ثلاثة ورابع أربعة وغنما ينصبه إذا كان ما بعده
دونه بمرتبة كما في قولك عشر تسعةً وتاسعٌ ثمانيةً قيل إنهم
يقولون إن الإلهية مشتركة بين الله سبحانه وتعالى وعيسى ومريم
وكلُّ واحد من هؤلاء إله ويؤكده قوله تعالى للمسيح أأنت قلت
للناس اتخذونمي وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله فقوله تعالى
ثالث ثلاثة أي أحد ثلاثةِ آلهة وهو المتبادر من ظاهرِ قولِه
تعالى {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد} أي والحالُ أنه ليس في
الوجود ذاتُ واجبٍ مستحق للعبادة من حيث إنه مبدأُ جميعِ
الموجودات إلا إله موصوفٌ بالوحدانية متعالٍ عن قَبول الشِرْكة
ومن مزيدة للاستغراق وقيل إنهم يقولون الله جوهرٌ واحدٌ ثلاثة
أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس وأنهم يريدون
بالأول الذات وقيل
(3/66)
المائدة 74 75
الوجود وبالثاني العلم وبالثالث الحياة فمعنى قوله تعالى وَمَا
مِنْ إله إِلاَّ إله واحد إلا إله واحد بالذات منزه عن شائبةِ
التعدد بوجهٍ من الوجوه {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا
يَقُولُونَ} من الكفر الشنيع ولم يوحّدوا وقوله تعالى
{لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ} جوابُ قسمٍ محذوف سادٌّ مسدَّ
جوابِ الشرط أي وبالله إن لم ينتهوا لميسنهم وإنَّما وضعَ
موضعَ ضميرِهم الموصولُ لتكرير الشهادة عليهم بالكفر فمن في
قوله تعالى {منهم} بيانية أو ليمسن الذين بقُوا منهم على ما
كانُوا عليهِ من الكفر فمن تبعيضية وإنما جيء بالفعل المنبىء
عن الحدوث تنبيهاً على أن الاستمرار عليه بعد ورود ما ينحى
عليه بالقلع من نص عيسى عليه السلام وغيره وكفر جديد وغلوٌّ
زائد على ما كانُوا عليهِ من أصل الكفر {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي
نوع شديد الألم من العذاب وهمزة الاستفهام في قوله تعالى
(3/67)
أَفَلَا يَتُوبُونَ
إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(74)
{أفلا يتوبون إلى الله
وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} لإنكار الواقع واستبعاده لا لإنكار
الوقوع وفيه تعجيب من إصرارهم والفاء للعطف على مقدر يقتضيه
المقامُ أي ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقاويل
الباطلة فلا يتوبون إلى الله تعالى ويستغفرونه بالتوحيد
والتنزيه عما نسبوه إليه من الاتحاد والحلول فمدارُ الإنكار
والتعجيب عدمُ الانتهاء وعدم التوبة معاً أو أيَسْمعون هذه
الشهاداتِ المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقيب ذلك
فمدارُهما عدم التوبة عَقيبَ تحقُّق ما يوجبها من سماع تلك
لقوارع الهائلة وقوله عز وجل {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} جملةٌ
حاليةٌ من فاعلِ يستغفرونه مؤكِّدةٌ للإنكار والتعجيب من
إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار أي والحالُ
أنَّه تعالَى مبالغٌ في المغفرة فيغفرُ لهم عند
استغفارهمويمنحهم من فضله
(3/67)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ
كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى
يُؤْفَكُونَ (75)
{مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ}
استئناف مَسوقٌ لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه وبيانِ حقيقة
حاله عليه السلام وحالِ أمه بالإشارة أولاً إلى أشرفِ ما لهما
من نعوت الكمالِ التي بها صارا من زمرة أكمل أفراد الجنس
وآخراً إلى الوصف المشترك بينهما وبين جميع أفرادِ البشر بل
أفراد الحيوان استنزالهم بطريق التدريج عن رتبة الإصرار على ما
تقوّلوا عليهما وإرشاداً لهم إلى التوبة والاستغفار أي هو
مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها وقوله تعالى {قد خلت من
قبله الرسل} صفة لرسول منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية فإن
خلو الرسلِ السالفةِ عليهم السلام منذر بخلوِّه المقتضي
لاستحالة ألوهيته أي ما هو إلا رسول كالرسل الخالية من قبله
خصه الله تعالى ببعضٍ من الآيات كما خص كلاًّ منهم ببعضٍ آخر
منها فإن أحيى الموتى على يده فقد أحيى العصا في يد موسى عليه
السلام وجعلت حية تسعى وهو أعجب منه وإن خُلق من غير أبٍ فقد
خَلَق آدمَ من غير أب ولا أم وهو أغرب منه وكل ذلك من جنابِه
عزَّ وجلَّ وإنما موسى وعيسى مظاهرُ لشئونه وأفعاله {وَأُمُّهُ
صِدّيقَةٌ} أي وما أمه أيضا كسائر النساء اللاتي يلازِمْن
الصدق أو التصديق ويبالغْن في الاتصاف به فما رتبتهما
(3/67)
المائدة آية 76 77
إلا رتبةُ بشرَيْن أحدُهما نبي والآخر صحابي فمن اين لكم أن
تصفوهما بما لا يوصف به سائر الأنبياء وخواصم {كَانَا
يَأْكُلاَنِ الطعام} استئناف مبين لما أشير إليه من كونهما
كسائر أفراد البشر في الاحتياج إلى ما يحتاج إليه كُلُّ فردٍ
من أفرادِه بل من أفراد الحيوان وقوله تعالى {انظر كَيْفَ نبين
لهم الايات} تعجيب من حال الذين يدّعون لهما الربوبية ولا
يرعوون عن ذلك بعد ما بيَّن لهم حقيقة حالهما بياناً لا يحوم
حوله شائبةُ ريب وكيف معمول لنبينُ والجملة في حين النصب معلقة
لا نظر أي انظر كيف نبين لهم الآيات الباهر المناديةَ ببطلان
ما تقوّلوا عليهما نداءً يكاد يسمعه صمُّ الجبال {ثُمَّ انظر
أنى يُؤْفَكُونَ} أي كيفَ يُصرفون عن استماعها والتأمل فيها
والكلام فيه كما فيما قبله وتكريرُ الأمر بالنظر للمبالغة في
التعجيب وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت أي إن بياننا
للآيات أمر بديع في بابه بالغٌ لأقاصي الغايات القاصيةِ من
التحقيق والإيضاح وإعراضُهم عنها مع انتفاء ما يصححه بالمرة
وتعاضُدِ ما يوجب قبولَها أعجبُ وأبدع
(3/68)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا
نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
قل أمرٌ له عليه الصَّلاةُ والسلام
بالإلزامهم وتبكيتِهم إثْرَ تعجيبه من أحوالهم {أَتَعْبُدُونَ
مِن دُونِ الله} أي متجاوزين إياه وتقديمُه عَلى قولِه تعالَى
{مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} لما مر مرارا
من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والموصول عبارةٌ عن
عيسى عليه السلام وإيثاره على كلمة مَنْ لتحقيق ما هو المراد
من كونه بمعزلٍ من الألوهية رأساً ببيان انتظامه عليه السلام
في سلك الأشياء التي لا قُدرةَ لها على شيء أصلاً وهو عليه
السلام وإن كان يملك ذلك بتمليكه تعالى إياه لكنه لا يملِكه من
ذاته ولا يملك مثل ما يُضِرُّ به الله تعالى من البلايا
والمصائب وما ينفع به من الصِّحة وتقديم الضرر على النفع لأن
التحرز عنه أهمُ من تحرّي النفع ولأن أدنى درجات التأثير دفع
الشر ثم جلب الحير وقوله تعالى {والله هُوَ السميع العليم} حال
من فاعل أتعبدون مؤكِّد للإنكار والتوبيخ ومقررللإلزام
والتبكيت والرابط هو الواو أي تشركون بالله تعالى ما لا يقدرُ
على شيءٍ من ضُرِّكم ونفعكم والحال أن الله تعالى هو المختص
بالإحاطة التامةِ بجميع المسموعات والمعلومات التي من جملتها
ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائغة والأعمال
السيئة وبالقدرة اللباهرة على جميعِ المقدُورات التي من جملتها
مَضارُّكم ومنافعُكم في الدنيا والآخرة
(3/68)
قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا
تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ
وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
{قل يا أهل الكتاب} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ
له إلى فريقي أهل الكتاب بطريق الالتفات على لسان النبيِّ
صلَّى الله عليهِ وسلم بعد إبطال مسلك كل منهما للمبالغة في
زجرهم عما سلكوه من المسلك الباطل وإرشادهم إلى الأَمَم
المنئاة {لا تغلوا فى دينكم} أي لا تتجاوزا الحد وهو نهي
للنصارى عن رفع عيسى عن رتبة الرسالة إلى ما تقوَّلوا في حقه
من العظيمة ولليهود عن وضعهم له عليه السَّلامُ عن رتبته
العلية إلى ما تقوَّلوا عليه من الكلمة الشنعاء وقيل هو خاص
بالنصارى كما في سورة النساء فذكَرَهم بعنوان أهلية الكتاب
لتذكير أن
(3/68)
المائدة آية 78 79
الإنجيل أيضاً ينهاهم عن الغلو وقوله تعالى {غَيْرَ الحق} نُصب
على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي لا تغلوا فى دينكم غلواً غيرَ
الحق أي غلواً باطلاً أو حالٌ من ضميرِ الفاعل أي لا تغلوا
مجاوزين الحق أو من دينكم أي لا تغلوا فى دينكم حال كونه
باطلاً وقيل نُصب على الاستثناء المتصل وقيل على المنقطع
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن
قَبْلُ} هم أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا من الفريقين أو من
النصارى على القولين قبل مبعث النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم
فير شريعتهم {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً} أي قوماً كثيراً ممن
شايعهم في الزيغ والضلال أو إضلالاً كثيراً والمفعولُ محذوف
{وَضَلُّواْ} عند بعثةِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وتوضيح
محجة الحق وتبين مناهجِ الإسلام {عَن سَوَاء السبيل} حين كذبوه
وحسدوه وبغَوْا عليه وقيل الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى
العقل والثاني إلى ضلالِهم عما جاء به الشرع
(3/69)
لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ
وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا
يَعْتَدُونَ (78)
{لُعِنَ الذين كَفَرُواْ} أي لعنهم الله عز
وجل وبناءُ الفعل للمفعولِ للجَرْي على سَنن الكبرياءِ {مِن
بني إسرائيل} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً منَ الموصولِ أو مِنْ
فاعل كفروا وقوله تعالى {على لسان داود وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ}
متعلق بلُعن أي لعنهم الله تعالى في الزبور والإنجيل على
لسانهمها وقيل إن أهل أَيْلةَ لما اعتدَوا في السبت دعا عليهم
داود عليه السلام وقال اللهم العنهم واجعلهم آيم فمسخهم الله
قردة وأصحابُ المائدة لمكا كفروا قال عيسى عليه السلام اللهم
عذِّبْ من كفر بعدما أكل من المائدة عذاباً لم تعذِّبْه أحداً
من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازيرَ
وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي {ذلك} إشارة إلى
اللعن المذكور وإيثارُه على الضمير للتنبيه على كمال ظهورِه
وامتيازِه عن نظائره وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهدة
وما فيه من معنى البعد للإيذان بكمال فظاعته وبعد درجته في
الشناعة والهول وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى {بِمَا عَصَواْ
وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} والجملة مستأنَفةٌ واقعة موقع الجواب
عما نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيل بأي سبب وقع ذلك فقيل ذلك
اللعنُ الهائل الفظيعُ بسبب عصيانهم واعتدائهم المستمر كما
يفيده الجمعُ بينَ صيغتي المَاضِي والمستقبل وينبىء عنه قوله
تعالى
(3/69)
كَانُوا لَا
يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا
يَفْعَلُونَ (79)
{كَانُواْ لاَ يتناهون عَن مُّنكَرٍ
فَعَلُوهُ} فإنه استئناف مفيد بعبارته لاستمرار عدم التناهي عن
المنكر ولا يمكن استمرارُه إلا باستمرار تعاطي المنكرات وليس
المراد بالتناهي أن ينْهَى كلُّ واحد منهم الآخَرَ عما يفعله
من المنكر كما هو المعنى المشهورُ لصيغة التفاعل بل مجرد صدور
النهي عن أشخاص متعددة من غير اعتبارِ أنْ يكون كلُّ واحدٍ
منهم ناهياً ومنهياً معاً كما في تراءَوْا الهلالَ وقيل
التناهي بمعنى الانتهاء يقال تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا
امتنع عنه وتركه فالجملة حينئذ مفسرةٌ لما قبلها من المعصية
والاعتداء ومفيدة لاستمرارهما صريحاً وعلى الأول مفيدة
لاستمرار انتفاء النهي عن المنكر بأن لا يوجد فيما بينهم من
يتولاه في وقتٍ من الأوقاتِ ومن ضرورته استمرارُ فعل المنكر
حسبما سبق وعلى كل تقدير فما يفيده تنكيرُ المنكر من الوحدة
(3/69)
المائدة آية 80 81
نوعية لا شخصية فلا يقدح وصفه بالفعل الماضي في تعلق انهي به
لِما أن متعلَّق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلقُ به
النهي والانتهاء من مطلق المنكر باعتبار تحقّقه في ضمن أيِّ
فردٍ كان من أفراده على أن المضي المعتبر في الصفة إنما هو
بالنسبة إلى زمان النزول لا إلى زمان النهي حتى يلزمَ كونُ
النهي بعد الفعل فلا حاجة إلى تقدير المعاودة أو المِثْل أو
جعلِ الفعل عبارةً عن الإرادة على أن المعاودة كالنهي لا تتعلق
بالمنكر المفعول فلا بد من المصير إلى أحد ما ذُكر من الوجهين
أو إلى تقدير المثل أو إلى جعل الفعل عبارة عن إرادته وفي كل
ذلك تعسفٌ لا يخفى {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} تقبيح
لسوء أعمالهم وتعجيب منه بالتوكيد القسمي كيف لا وقد أداهم إلى
ما شُرح من اللعن الكبير وليس في تسبُّبه بذلك دلالةٌ على خروج
كفرهم عن السببية مع الإشارةِ إلى سببيته له فيما سبقَ من
قولِه تعالى لُعِنَ الذين كَفَرُواْ فإن إجراءُ الحُكم على
الموصول مُشعرٌ بعِلِّية ما في حين الصلة له لما أن ما ذكر في
حين السببية مشتملٌ على كفرهم أيضاً
(3/70)
تَرَى كَثِيرًا
مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا
قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
{ترى كَثِيراً مّنْهُمْ} أي من أهل الكتاب
ككعبِ بن الأشرف وأضرابِه حيث خرجوا إلى مشركي مكةَ ليتّفقوا
على محاربة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم والرؤيةُ بصريةٌ
وقوله تعالى {يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ} حال من كثيراً
لكونه موصوفاً أي يوالون المشركين بُغضاً لرسول الله صلى الله
عليه وسلم والمؤمنين وقيل مِنْ منافقي أهل الكتاب يتولَّوْن
اليهود وهو قولُ ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا ومجاهدٌ والحسن
وقيل يوالون المشركين ويُصافوُنهم {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ
لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} لبئس شيئاً قدّموا ليَرِدوا عليه يوم
القيامة {أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ} هو المخصوصُ بالذم على
حذف المضاد وإقامةِ المضافِ إليهِ مُقامَهُ تنبيهاً على كمال
التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد ومبالغةً في الذم أي
موجبُ سُخطِه تعالى ومحله الرفع على الابتداء والجملة قبله
خبرُه والرابط عند من يشترطه هو العموم أو لا حاجة إليه لأن
الجملةَ عينُ المبتدأ أو على أنَّه خبرٌ لمبتدأ محذوف ينبىء
عنه الجملة المتقدمة كأنَّه قيلَ ما هُو أو أيُّ شيء هو فقيل
هو أنْ سخِط الله عليهم وقيل المخصوصُ بالذم محذوف وما اسم
تامٌّ معرفةٌ في محل رفع الفاعلية لفعل الذم وقدمت لهم أنفسهم
جملة في محلِ الرفعِ على أنها صفة للمخصوصِ بالذم قائمةٌ
مَقامه والتقدير لبئس الشيءُ شيءٌ قدّمتْه لهم أنفسُهم فقوله
تعالى أَن سَخِطَ الل عَلَيْهِمْ بدلٌ من شيء المحذوفِ وهذا
مذهب سيبويه {وَفِى العذاب} أي عذابَ جهنَم {هُمْ خالدون} أبد
الآبدين
(3/70)
وَلَوْ كَانُوا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ
مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ
فَاسِقُونَ (81)
{وَلَوْ كَانُواْ} أي الذين يتولون
المشركين من أهل الكتاب {يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ} أي
نبيهم {وَمَا أُنْزِلَ إليه} من الكتاب أولو كان المنافقون
يؤمنون بالله ونبينا إيماناً صحيحاً {مَا اتخذوهم} أي المشركين
أو اليهود {أَوْلِيَاء} فإن الإيمان بما ذُكر وازعٌ عن
تولِّيهم قطعاً {ولكن كَثِيراً مّنْهُمْ فاسقون} خارجونَ عن
الدين والإيمان بالله ونبيهم وكتابهم أو متمرِّدون في النفاق
مفرطون فيه
(3/70)
المائدة آية 82
(3/71)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ
آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ
مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا
يَسْتَكْبِرُونَ (82)
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً
للذين آمنوا اليهود والذين أَشْرَكُواْ} جملةٌ مستأنَفة مَسوقة
لتقرير ما قبلها من قبائح اليهود وعَراقتهم في الكفر وسائرِ
أحوالهم الشنيعة التي من جملتها موالاتُهم للمشركين أُكِّدت
بالتوكيد القسَميّ اعتناءً ببيان تحققِ مضمونها والخطابُ إمَّا
لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد صالح له إيذاناً
بأن حالهم مما لا يخفى على أحد من الناس والوُجدانُ متعدَ إلى
اثنين أحدُهما أشدُّ الناس والثاني اليهودُ وما عُطف عليه
وقيلَ بالعكس لأنهما في الأصل مبتدأٌ وخبرٌ مصب الفائدةِ هُوَ
الخبرُ لا المبتدأ ولا ضيرَ في التقديم والتأخير إذا دل على
الترتيب دليل وهههنا دليل واضح عليه وهو أن المقصودَ بيانُ كون
الطائفتين أشدَّ الناس عداوة للمؤمنين لا كونِ أشدِّهم عداوةً
لهم الطائفتين المذكورتين وأنت خبير بأنه بمعزلٍ من الدلالةِ
على ذلك كيف لا والإفادة في الصورة الثانية أتمّ وأكملُ مع
خلوها عن تعسُّف التقديم والتأخير غذ المعنى أنك إن قصدتَ أن
تعرِفَ من أشدُّ الناس عداوةً للمؤمنين وتتبعْتَ أحوالَ
الطوائف طُراً وأحطتَ بما لديهم خُبْراً وبالغْتَ في تعرُّف
أحوالهم الظاهرةِ والباطنة وسعَيْتَ في تطلُّب ما عندهم من
الأمور البارزة والكامنة لتجدن الأشدَّ تَيْنِك الطائفتين لا
غيرُ فتأملْ واللام الداخلة على الموصول متعلقةٌ بعداوةً
مقويةٌ لعملها ولا يضرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء مبنية عليها كما
في قولِه ورهبةً عقابَك وقيل متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لعداوة أي
كائنةً للذين آمنوا وصفهم الله تعالى بذلك لشدة شكيمتهم
وتضاعُف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد
وبعدهم عن التحقيق وتمرُّنهم على التمرّد والاستعصاء على
الأنبياء والاجتراء على تكذيبهم ومُناصَبَتِهم وفي تقديم
اليهود على المشركين بعد لَزِّهما في قَرنٍ واحد إشعارٌ
بتقدمهم عليهم في العداوة كما أن تقديمهم عليهم في قوله تعالى
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة وَمِنَ الذين
أَشْرَكُواْ إيذاناً بتقدُّمهم عليهم في الحرص {وَلَتَجِدَنَّ
أَقْرَبَهُمْ مودة للذين آمنوا} أعيد الموصولُ مع صلته رَوْماً
لزيادة التوضيح والبيان {الذين قالوا إنا نصارى} عبر عنهم بذلك
إشعار بقرب مودتهم حيث يدّعون أنهم أنصار الله وأوداء أهل الحق
وإن لم يظهروا اعتقدا حقية الإسلام وعلى هذه النكتنى مبنى
الوجه الثاني في تفسيرِ قولِه تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى
أَخَذْنَا ميثاقهم والكلام في مفعولي لتجدن وتعلق اللام كالذي
سبق والعجول عن جعْل ما فيه التفاوتُ بين الفريقين شيئاً
واحداً قد تفاوتا فيه بالشدة والضعف أو بالقرب والبعد بأن يقال
آخِراً ولتجدن أضعفَهم عداوة الخ أو بأن يقال أو لا لتجدن أبعد
الناس مودة الخ للإيذان بكمال تبايُن ما بينَ الفريقينِ من
التفاوتِ ببيان أن أحدَهما في أقصى مراتبِ أحدِ النقيضين
والآخَرَ في أقربِ مراتب النقيض الآخر {ذلك} أي كونهم أقربَ
مودةً للمؤمنين {بأن منهم} بسبب أن منهم {قِسّيسِينَ} وهم
علماءُ النصارى وعبّادهم ورؤساؤهم والقِسّيسُ صيغةُ مبالغةٍ من
تقَسَّسَ الشيءَ إذا تتبَّعه وطلبه بالليل سُموا به لمبالغتهم
في تتبع العلم قاله الراغب وقيل القَسُّ بفتح القاف تتبُّعُ
الشيء ومنه سمي عالم النصارى قسيساً لتتبعه العلم وقيل قصَّ
الأثرَ وقسه بمعنى وقيل
(3/71)
المائدة 83 84
إنه أعجمي وقال قُطرُبُ القِسّ والقِسّيسُ العالم بلغة الروم
وقيل ضيَّعت النصارى الإنجيلَ وما فيه وبقي منهم رجل يقال له
قسيسا لم يبدِّلْ دينه فمن راعى هديه ودينه قيل له قسيس
{وَرُهْبَاناً} وهو جمه راهب كراكب ورُكبان وفارس وفُرسان وقيل
إنه يطلق على الواحد وعلى الجمع وأُنشِدَ فيه قولُ من قول لو
عايَنَتْ رُهبانَ ديْرٍ في قُلَل لأقبل الرهبانُ يعدو ونزَلْ
والترهب التعبد في الصومعة قال الراغب الرهبانية الغلوُّ في
تحمل التعبد من فرط الخوف والتنكير لإفادة الكثرة ولا بد من
اعتبارها في القسيسين أيضاً إذ هي التي تدل على مودة جنس
النصارى للمؤمنين فإن اتصاف أفرادٍ كثيرة لجنسٍ بخصلةٍ مظِنةٌ
لاتصاف الجنس بها وإلا فمن السهود أيضاً قوم مهتدون ألا يُرى
إلى عبدُ اللَّه بنُ سَلاَم وأضرا به قال تعالى مّنْ أَهْلِ
الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيات الله آناء الليل
وَهُمْ يَسْجُدُونَ الخ لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين
من النصارى لم يتعدَّ حكمُهم إلى جنس اليهود {وَأَنَّهُمْ لاَ
يَسْتَكْبِرُونَ} عطف على أن منهم أي وبأنهم لا يستكبرون عن
قبول الحق إذا فهموا ويتواضعون ولا يتكبرون كاليهود وهذه
الخَصلةُ شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيّتُها لأقربيّتهم مودةً
للمؤمنين واضحة وفيه دليلٌ على أنَّ التواضع والإقبال على
العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودٌ وإن كان ذلك من كافر
(3/72)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا
أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا
آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
{وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى
الرسول} عطف على لا يستكبرون أي ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون وأن
أعينَهم تفيض من الدمع عند سماع الرقآن وهو بيانٌ لرقة قلوبهم
وشدة خشيتهم ومسارعتِهم إلى قبول الحق وعدم إبائهم إياه {تَرَى
أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} أي تمتلىء بالدمع فاستُعير
له الفيضُ الذي هو الانصبابُ عن امتلاءٍ مبالغةً أو جُعلت
أعينُهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها {مِمَّا عَرَفُواْ
مِنَ الحق} من الأُولى لابتداء الغايةِ والثانية تبعيضية لأن
ما عرفوه بعضُ الحق وحيث أبكاهم ذلك فما ظنك بهم لو عرفوا كله
وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة وقرىء تُرى أعينُهم على صيغة
المبني للمفعول {يقولون} استئن مبني على سؤال نشأ من حكاية
حالهم عند سماع القرآن كأنه قيل ماذا يقولون فقيل يقولون {ربنا
آمنا} بهذا أو بمن أنزل هذا عليه أو بهما وقيلَ حالٌ من
الضميرِ في عرفوا أو منَ الضميرِ المجرورِ في أعينهم لما أن
المضاف جزؤه كما في قوله تعالى وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم
مّنْ غِلّ إِخْوَانًا {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} أي الذين شهدوا
بأنه حق أو بنبوته أو مع أمته الذين هم شهداءُ على الأممِ يومَ
القيامةِ وإنما قالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك
(3/72)
وَمَا لَنَا لَا
نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ
أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
{وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا
جَاءنَا مِنَ الحق} كلام مستأنَفٌ قالوه تحقيقاً لإيمانهم
وتقريراً له بإنكار سبب انتفائه ونفيِه بالكلية على أنَّ قولَه
تعالى لاَ نُؤْمِنُ حال من الضمير في لنا والعاملُ ما فيه من
الاستقرارِ أيْ أيُّ شيءٍ حصل لنا
(3/72)
المائدة آية 85 87
غيرَ مؤمنينَ على توجيه الإنكارِ والنَّفي إلى السببِ
والمسبَّب جميعاً كَما في قوله تعالى ومالي لاَ أَعْبُدُ الذى
فَطَرَنِى ونظائرِه لا إلى السببِ فقط مع تحقق المسبب كما في
قوله تعالى فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وأمثاله فإنَّ همزةَ
الاستفهامِ كَما تكونُ تارةً لإنكارِ الواقعِ كَما في أتضرِبُ
أباكَ وأخرة لإنكار الوقوعِ كما في أأضربُ أبي كذلكَ ما
الاستفهاميةُ قد تكونُ لإنكارِ سببِ الواقعِ ونفْيِه فقطْ كما
في الآية الثانية وقولُه تعالى مَّا لَكُمْ لاَ تجون لِلَّهِ
وَقَاراً فيكونُ مضمونُ الجملةِ الحاليةِ محُققاً فإنَّ كلاً
من عدمِ الإيمانِ وعدمِ الرَّجاءِ أمرٌ محققٌ قد أنكر ونفي
سببه وقد يكون الإنكارُ سببَ الوقوعِ ونفيَه فيسريانِ إلى
المسببِ أيضاً كَما في الآية الأولى فيكونُ مضمونُ الجملةِ
الحاليةِ مفروضاً قطعاً فإنَّ عدمَ العبادةِ أمرٌ مفروضٌ حتماً
وقوله تعالى {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم
الصالحين} حال أخرى من الضمير المذكور بتقدير مبتدأ والعامل
فيها هو العامل في الأولى مقيداً بها أيْ أيُّ شيءٍ حصلَ لنا
غير مؤمنين ونحن نطمع في صحبة الصالحين أو من الضميرِ في لا
نؤمن على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم مع أنهم
يطمعون في صحبة المؤمنين وقيل معطوف على نؤمن على معنى وما لنا
نجمع بين ترك الإيمان وبين الطمع المذكور
(3/73)
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ
بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
{فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} أي عن
اعتقاد من قولك هذا قول فلان أن مُعتقدُه وقرىء فآتاهم الله
{جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا وذلك
جَزَاء المحسنين} أي الذينَ أحسنوا النظر والعمل أو الذين
اعتادوا الإحسان في الأمور والآيات الأربع رُوي أنَّها نزلتْ
في النجاشي وأصحابه بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
بكتابه فقرأه ثم دعا جعفرَ بنِ أبي طالبٍ والمهاجرين معه وأحضر
القسيسين والرهبان فأمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة
مريم فبكوا وآمنوا بالقرآن وقيل نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلاً
من قومه وفدوا على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم فقرأ
عليهم سورة مريم فبكَوا وآمنوا
(3/73)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا
أولئك أصحاب الجحيم} عطَفَ التكذيب بآيات الله على الكفر مع
أنه ضربٌ منه لِما أن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكَرهم
بمقابلة المصدِّقين بها جمعاً بين الترغيب والترهيب
(3/73)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ (87)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ
تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} أي ما طاب ولذ منه
كأنه لمّا تضمّن ما سلف من مدح النصارى على الترهيب ترغيب
المؤمنين في كسر النفس ورفض الشهوات عقّب ذلك بالنهي عن
الإفراط في الباب أي لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم أو لا
تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغةً منكم في العزم على تركها
تزهداً منكم وتقشفاً ورويَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
وصف القيامة لأصحابه يوماً فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار
فرقّوا واجتمعوا في بيت
(3/73)
المائدة آية 88 89
عثمانَ بنِ مظعونٍ واتفقوا على أن لا يزالوا صائمين وأن لا
يناموا على الفُرش ولا يأكلوا اللحم والودَك ولا يقرَبوا
النساء والطيِّب ويرفضوا الدنيا ويلْبَسوا المُسوح ويَسيحُوا
في الأرض ويجبوا مناكيرهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال لهم إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا
وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقو وأنام وأصوم وأُفطر وآكلُ
اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغِب عن سنتي فليس مني فنزلت
{وَلاَ تعتدوا} أي ولا تتعدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم
عليكم أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات أو جَعَلَ تحريمَ
الطيبات اعتداءً وظلماً فنهى عن مطلق الاعتداء ليدخُل تحته
النهيُ عن تحريمها دخولاً أولياً لوروده عَقيبه أو أريدَ ولا
تعتدوا بذلك {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} تعليل لما قبله
(3/74)
وَكُلُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
{وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا
طَيّباً} أي ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله فحلالاً مفعول كلوا
ووما رزقكم إما حال منه تقدمتْ عليه لكونِه نكرةً أو متعلق
بكلوا ومِنْ ابتدائية أو هو المفعول وحلالاً حالٌ منَ الموصولِ
أو مِنْ عائدِه المحذوف أو صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي أكلاً حلالاً
وعلى الوجوه كلها لو لم يقع الرزظق على الحرام لم يكن لذكر
الحلال فائدة زائدة {واتقوا الله الذى أَنتُم به مؤمنون}
توطكيد للوصية بما أَمَر به فإن الإيمانَ بهِ تعالى يوجب
المبالغة في التقوى والانتهاء عما نهى عنه
(3/74)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ
بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ
عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (89)
{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى
أيمانكم} اللغو في اليمين الساقطُ الذي لا يتعلق به حُكم وهو
عندنا أن يحلِف على شيء يظن أنه كذلك وليس كما يظن وهو قول
مجاهد قيل كانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظنِّ أنه قُربة
فلما نزل النهي قالوا كيف بأيماننا فنزلت وند الشافعي رحمه
اللله تعالوا ما يبدوا من المرء من غير قصد كقوله لا والله
وبلى والله وهو قول عائشةَ رضيَ الله تعالى عنها وفي أيمانكم
صلةُ يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر أو حال منه {ولكن
يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايمان} أي بتعقيدكم اليمان
وتوثيقها عليه بالقصد والنية والمعنى ولكن يؤاخذكم بما
عقّدتموه إذا حنِثتم أو بنَكْثِ ما عقّدتم فحُذِف للعلم به
وقرىء بالتخفيف وقرىء عاقدتم بمعنى عقدتم {فَكَفَّارَتُهُ} أي
فكفارةُ نكْثِه وهي الفعلة التي من شأنِها أنْ تكفّرَ الخطيئة
وتسترها واستدل بظاهره على جواز التكفير قبل الحِنْث وعندنا لا
يجوز ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين ورأى
غيرَها خيراً فليأتِ الذي هو خيرٌ ثم لْيُكفِّرْ عن يمينه
{إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ} أي من أقصَدِه في النوع أو المقدار وهو نصفُ صاعٍ
منْ بُر لكلِّ مسكين ومحلُّه النصبُ لأنه صفةُ مفعول
(3/74)
المائدة آية 90
محذوف تقديرُه أن تُطعموا عشرة مساكينَ طعاماً كائناً من أوسط
ما تطعمون أو الرفعُ عَلى أنَّه بدل منإطعام وأهلون جمعُ أهلٍ
كأَرَضون جمع أرض جمع أرض وقرىء أهاليكم بسكون الياء على لغة
من يسكنها في الحالات الثلاث كالألف وهذا أيضاً جمع أهلٍ
كالأراضي في جمع أرض والليالي في جمع ليل وقيل جمع أهلاة {أَوْ
كِسْوَتُهُمْ} عطف على إطعامُ أو على محلَّ من أوسط على تقدير
كونِه بدلاً من إطعام وهو ثوب يغطي العورة وقيل ثوب جامع قميص
أو رداء أو إزار وقُرىء بضمِّ الكافِ وهي لغة كقدرة في قُدوة
وإسوة في أُسوة وقرىء أو كأُسوتهم على أن الكافُ في محل الرفعِ
تقديره أو إطعامهم كأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم
غسرافا وتقتيراً تواسون بينهم وبينهم إن لم تُطعموهم الأوسط
{أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي أو إعتاقُ إنسان كيفما كان وشرط
الشافعي رضي الله تعالى عنه فيه الإيمان قياساً على كفارة
القتل ومعنى أو غيجاب إحدى الخصال مطلقاً وخيارُ التعيين
للمكلف {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أيْ شيئاً من الأمور المذكورة
{فَصِيَامُ} أي فكفارتُه صيام {ثلاثة أَيَّامٍ} والتتابع شرط
عندنا لقراءة ثلاثة أيام متتابعات والشافعي رضي الله عنه لا
يرى الشواذ حجة {ذلك} أي الذي ذُكرَ {كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا
حَلَفْتُمْ} أي وحنِثْتم {واحفظوا أيمانكم} بأن تضِنوا بها ولا
تبذُلوها كما يُشعر بهِ قولُه تعالى إِذَا حَلَفْتُمْ وقيل بأن
تَبَرّوا فيها ما استطعتم ولم يفُتْ بها خير أو بأن تكفروها
إذا حنِثتم وقيل احفظوها كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاوناً بها
{كذلك} غشارة لي مصدر الفعل الآتي لا إلى تبيينٍ آخَرَ مفهومٍ
مما سبق والكاف مقحمةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من
الفخامة ومحله في الأصلِ النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ
وأصل التقدير يبين الله تبييناً كائناً مثلَ ذلك التبيين
فقُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً
للنكتة المذكورة فصل نفسَ المصدر لا نعتاً له وقد مر تفصيله في
قوله تعالى وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا أي ذلك البيان
البديع {يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} أعلام شريعته وأحكامه لا
بياناً أدنى منه وتقديم لكم على المفعول لما مر مراراً
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم
المخرج
(3/75)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِنَّمَا
الخمر والميسر والانصاب} أي الأصنامُ المنصوبةُ للعبادة
{والازلام} سلف تفسيرها في أوائل السورةِ الكريمة {رِجْسٌ} قذر
تعاف عنه العقول وإفراده لأنه خبرُ الخمر وخبرُ المعطوفات
محذوفٌ ثقةً بالمذكور أو المضاف محذة وف أي شأن الخمر والميسر
إلخ {رجس مِنْ عَمَلِ الشيطان} في محلِ الرفعِ على أنه صفةُ
رجس أي كائن من عمله لأنه مسبَّبٌ من تسويله وتزيينه
{فاجتنبوه} الرجس أو ما ذكر {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي
راجين فلاحكم وقيل لكي تفلحوا بالاجتناب عنه وقد مرَّ تحقيقُه
في تفسير قولِه تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ولقد أُكِّد
تحريم الخمر والميسر في هذه الآية الكريمة بفنون التأكيد حيث
صُدِّرت الجملة بإنما وقُرِنا بالأصنام والأزلام وسُمِّيا
رجساً من عمل الشيطان تنبيهاً على أن تعاطيهما شرٌّ بحْتٌ
وأَمَر بالاجتناب عن عينهما وجعل ذلك
(3/75)
المائدة آية 91 93
سببا يرجى منه الفلاح فيكون ارتكابهما خَيبة ومَحْقة ثم قرر
ذلك بيان ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية
للتحريم فقيل
(3/76)
إِنَّمَا يُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ (91)
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ
بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِى الخمر والميسر} وهو إشارة إلى
مفاسدهما الدنيوية {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ
الصلاة} إشارة إلى مفاسدهما الدينية وتخصيصُهما بإعادة الذكر
وشرح ما فيهما من الوبال للتنبيه على أن المقصود بيانُ حالهما
وذكرُ الأصنام والأزلام للدلالة على أنهما مثلُهما في الحرمة
والشرارة لقوله صلى الله عليه وسلم شارب الخمر كعابد الوثن
وتخصيصُ الصلاة بالإفراد مع دخولها في الذكر للتعظيم والإشعار
بأن الصادَّ عنها كالصادِّ عن الإيمان لما أنها عِمادُه ثم
أعيد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتَّباً على ما تقدم
من أصناف الصوارف فقيل {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} أيذاناً
بأن الأمر في الزجر والتحذير وكشفِ ما فيهما من المفاسد
والشرور قد بلغ الغاية وأن الأعذارَ قد انقطعت بالكلية
(3/76)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
(92)
{وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول}
عطف على اجتنبوه أي أطيعوهما في جميع ما أمرا به ونهيا عنه
{واحذروا} أي مخالفتَهما في ذلك فيدخل فيه مخالفةُ أمرِهما
ونهْيِهما في الخمر والميسر دخولاً أولياً {فَإِن توليتم} أي
أعرضتم عن الامتثال بما أُمرتم به من الاجتناب عن الخمر
والميسر وعن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم
والاحترازِ عن مخالفتهما {فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا
البلاغ المبين} وقد فعل ذلك بكما لا مزيد عليه وخرج عن عُهدة
الرسالة أيَّ خروج وقامت عليكم الحجة وانتهت الأعذار وانقطعت
العلل وما بقي بعذ ذلك إلا العقاب وفيه من عظم التهديد وشدة
الوعيد ما لا يخفى وأما ما قيل من أن المعنى فاعلموا أنكم لم
تضُروا بتولِّيكم الرسولَ لأنه ما كُلّف إلا البلاغَ المبينَ
بالآيات وقد فعل وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كُلِّفتموه
فلا يساعده المقام إذ لا يُتوهم منهم ادعاءُ أنهم بتوليهم
يضرونه صلى الله عليه وسلم حتى يردَ عليهم بأنهم لا يضرونه
وإنما يضرون أنفسهم
(3/76)
لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا
طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا
وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
{ليس على الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} أي إثم وحرج {فِيمَا طَعِمُواْ} أي
تناولوا أكلاً أو شرباً فإن استعماله في الشرب أيضاً مستفيضٌ
منه قوله تعالى ومن لم يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى قيل لما
أنزل الله تعالى تحريم الخمر بعد غزوة الأحزاب قال رجال من
أصحابِ النبيِّ عليهِ الصلاةَ والسلام أصيب فلان يوم بدر وفلان
يوم أحد وهو يشربونها ونحن نشهد أنهم في الجنة وفي رواية أخرى
لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم
يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهو يشربون الخمر
ويأكلون الميسر وفي
(3/76)
المائدة
رواية أخرى قال أبُو بكرٍ رضيَ الله تعالى عنه يا رسولَ الله
كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار فنزلت
وليست كلمة ما في طعموا عبارةً عن المباحات خاصة وإلا لزم
تقييد غباحتها باتقاء ما عداها من المحرمات لقوله تعالى {إِذَا
مَا اتقوا} واللازمُ منْتفٍ بالضرورة بل هي عبارة على عمومها
موصولوة كانت أو موصوفة وإنما تخصصت بذلك القيد الطارىء عليها
والمعنى ليس عليهم جُناحٌ فيما تناولوه من المأكول والمشروب
كائناً ما كان إذا اتقَوْا أنْ يكونَ في ذلكَ شيء من المحرمات
وإلا لم يكن نفْيُ الجُناح في كل ما طعموه بل في بعضه ولا
محذورَ فيه إذِ اللازمُ منه تقييد غباحة الكل بأن لا يكون فيه
محرم لا تقيد إباحة بعضه باتقاء بعضٍ آخرَ منه كما هو اللازمُ
من الأول {وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} أي واستمروا على
الإيمان والأعمال الصالحة وقوله تعالى {ثُمَّ اتَّقَواْ} عطف
على اتقوا داخلٌ معه في حيِّز الشرط أي اتقوا ما حُرّم عليهم
بعد ذلك مع كونه مباحاً فيما سبق {وآمنوا} أي بتحريمه وتقديم
الاتقاء عليه إما للاعتناء به أو لأنه الذي يدل على التحريم
الحادث الذي هو المؤمن به واستمروا على الإيمان {ثُمَّ
اتَّقَواْ} أي ما حرم عليهم بعد ذلك مما كان مباحاً من قبل على
أن المشروط بالاتقاء في كل مرة غباحة كل ما طعِموه في ذلك
الوقت لا إباحةُ كل ما طعموه قبله لانتساخ إباحةِ بعضِه حينئذ
{وَأَحْسِنُواْ} أي عملوا الأعمالَ الحسنةَ الجميلة المنظمة
لجميع ما ذكر من الأعمال القلبية والقالبية وليس تخصيص هذه
المرات بالذكر لتخصيص الحكم بها بل لبيان التعدد والتكرر
بالغاً ما بلغ والمعنى أنهم إذا اتقوا المحرمات واستمروا على
ما هم عليه من الإيمان والأعمالِ الصالحةِ وكانوا في طاعة الله
ومراعاةِ أوامرِه ونواهيه بحيث كلما حرِّم عليهم شيء من
المباحات اتقَوْه ثم وثم فلا جناح عليهم فيما طعموه في كل مرة
من المطاعم والمشارب إذ ليس فيها شيء محرم عند طُعْمِه وأنت
خبير بأن ما عدا اتنقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة
لا دخْلَ لها في انتفاء الجُناح وإنما ذكرت في حين إذا شهادةً
باتصاف الذين سُئل عن حالهم بها ومدحاً لهم بذلك وحمداً
لأحوالهم وقد أُشير إلى ذلك حيث جُعلت تلك الصفاتُ تبعاً
للاتقاء في كل مرةٍ تمييزاً بينها وبين ما له دخل في الحكم فإن
مَساقَ النظمُ الكريم بطريق العبارة وإن كان لبيان حال
المصنفين بما ذُكِرَ من النعوتِ فيما سيأتي بقضية كلمة إذا ما
لكنه قد أُخرج مُخْرَجَ الجواب عن حال الماضين لأثبات الحكم في
حقهم في ضمن التشريع الكلي على الوجه البرهانيّ بطريق دلالة
النص بناءً على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها فكأنه قيل ليس
عليهم جمناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعنه تعالى مع ما لَهُم
منَ الصفات الحميدة بحيث كلما أمِروا بشيء تلقَّوْه بالامتثال
وإنما كانوا يتعاطَوْن الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمها
إذا ذاك ولو حُرما في عصرهم لاتقوهما بالمرة هذا وقد قيل
التكريرُ باعتبار الأوقات الثلاثة أو باعتبار الحالات الثلاث
استعمالِ الإنسان التقوى بينه وبين نفسه وبينه وبين الناس وبين
الله عز وجل ولذلك جيءَ بالإحسان في الكرة الثالثة بدلَ
الإيمان إشارة إلى ما قله عليه الصلاة والسلام في تفسيره أو
باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والوسط والمنتهى أو باعتبار ما
يُتَّقى فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقياً من العقاب
والشبُهاتِ توقياً من الوقوع في الحرام وبعضَ المباحات حفظاً
للنفس عن الخِسة وتهذيباً لها عن دنَس الطبيعة وقيل التكريرُ
لمجرد التأكيد كما في قوله تعالى كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ونظائرِه وقيل المرادُ بالأول
اتقاءُ الكفر وبالثاني
(3/77)
المائدة آية 94
اتقاءُ الكبائر وبالثالث اتقاءُ الصغائر ولا ريب في أنه لا
تعلُّقَ لهذه الاعتبارات بالمَقام فأَحسِنِ التأمل {والله
يُحِبُّ المحسنين} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله أبلغَ تقرير
(3/78)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ
الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ
اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ
ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ
لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ والله
ليُعامِلَّنكم معاملة من يختبركم لبتعرف أحوالَكم {بِشَىْء
مّنَ الصيد} أي من صيدِ البَرّ مأكولا أو غير مأكول ما عجا
المستثنياتِ من الفواسق فاللام للعَهْد نزلت عام الحُدَيْبية
ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم مُحرِمون كانت الوحوش تغشاهم في
رحالهم بحيث كانوا متمكنين من صيدِها أخذاً بأيديهم وطعناً
برماحهم وذلك قوله تعالى {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ورماحكم}
فهمُّوا بأخذها فنزلت ورُوي أنه عَنَّ لهم حمارُ وحشٍ فحمل
عليه أبو اليَسَر بنُ عمرو فطعنه برمحه وقتله فقيل له قتلته
وأنت مُحرم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن ذلك
فأنزل الله تعالى الآية فالتأكيد القَسَميُّ في ليبلونكم إنما
هو لتحقيق أن ما وقع من عدم توحُّش الصيد عنهم ليس إلا
لابتلائهم لا لتحقيق وقوعِ المبتلى به كما لو كان النزول قبل
الابتلاء وتنكير شيء للتحقير المُؤْذِن بأنَّ ذلك ليس من
الفِتن الهائلة التي تزِلُّ فيها أقدامُ الراسخين كالابتلاء
بقتل الأنفس وإتلافِ الأموال وإنما هو من قبيل ما باتلي به
أهلُ أَيْلَةَ من صيد البحر وفائدتُه التنبيهُ على أن من لم
يتثبت في مثل هذا كيف يتثبت عند شدائد المحن فمن في قوله تعالى
من الصيد بيانية قطعاً أي بشيء حقير هو الصيد وجعلُها تبعيضيةً
يقتضي اعتبارَ قِلَّته وحقارته بالنسبة إلى كل الصيد لا
بالنسبة إلى عظائم البلايا فيَعْرَى الكلامُ عن التنبيه
المذكور {لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب} أي ليتميز
الخائفُ من عقابه الأخروي وهو غائبٌ مترقبٌ لقوة إيمانه فلا
يتعرض للصيد ممن لا يخافه كذلك لضعف إيمانه فيُقدم عليه وإنما
عبر عنْ ذلك بعلم الله تعالى اللازم له إيذاناً بمدار الجزاءِ
ثواباً وعقاباً فإنه أدْخَلُ في حملهم على الخوف وقيل المعنى
ليتعلق علمه تعالى يمن يخافه بالفعل فإن علمه تعالى بأنه
سيخافه وإن كان متعلقاً به قبل خوفه لكنّ تعلُّقَه بأنه خائف
بالفعل وهو الذي يدور عليه أمرُ الجزاء إنما يكون عند تحقق
الخوف بالفعل وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ والتقدير ليعلم أولياءَ
الله وقرىء ليُعلِمَ من الإعلام على حذف المفعول الأول أي
ليُعْلِمَ الله عباده الخ والعلمُ على القراءتين متعدَ إلى
واحد وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتربية المهابةِ
وإدخالِ الروعة {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك} أي بعد بيانِ أن ما
وقع ابتلاءٌ منْ جهتِه تعالَى لِما ذُكر من الحِكمة لا بعد
تحريمِه أو النهي عنه كما قاله بعضهم إذ النهي والتحريم ليس
أمراً حادثاً يترتب عليه الشرطية بالفاء ولا بعد الابتلاء كما
اختاره آخرون لأن نفس الابتلاء لا يصلح مداراً لتشديد العذاب
بل ربما يتوهم كونُه عذراً مسوِّغاً لتخفيفه وإنما الموجب
للتشديد بيانُ كونه ابتلاءً لأن الاعتداء بعد ذلك مكابرةٌ
صريحة وعدمُ مبالاةٍ بتدبير الله تعالى وخروجٌ عن طاعته
وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية أي فمن تعرض للصيد بعد ما بينا
أن ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحُّشه منهم ابتلاءٌ مؤدَ إلى
تمييز المطيع من العاصي {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(3/78)
لما ذكر من أنه مكابرة محضة ولأن من لا
يملك زمام نفسه ولا يراعي حكم الله تعالى في أمثال هذه البلايا
الهيِّنة لا يكاد يُراعيه في عظائم المداحض والمراد بالعذاب
الأليم عذاب الدارين قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
يُوسَعُ ظهرُه وبطنه جَلداً وينزع ثيابه
(3/79)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا
قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ
هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ
مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ
أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ
فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
(95)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} شروعٌ في
بيان ما يتدارك به الاعتداءُ من الأحكام إثر بيانِ ما يلحقه من
العذاب والتصريح بالنهي في قوله تعالى {لاَ تَقْتُلُواْ الصيد
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} مع كونه معلوماً لا سيما من قوله تعالى
غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ لتأكيد الحرمة وترتيب
ما يعقبُه عليه واللام في الصيد للعهد حسبما سلف وحُرُم جمع
حَرام وهو المُحرم وإن كان في الحِل وفي حكمه من في الحَرَم
وإن كان حَلالاً كرُدُح جمع رداح والجملة حالٌ من فاعل لا
تقتلوا أي لا تقتلوه وأنتم محرمون {وَمَن قَتَلَهُ} أي الصيد
المعهود وذِكرُ القتل في الموضعين دون الذبح اللذان بكونه في
حكمه الميتة {منكم} متعلق بمحذوفوقع حالاً من فاعل قتله أي
كائناً منكم {مُّتَعَمّداً} حال منه أيضا ذاكراً لإحرامه
عالماً بحُرمة قتل ما يقتله والتقييدُ بالتعمّد مع أن محظوراتِ
الإحرام يستوي فيها العمْدُ والخطأ لِما أنَّ الآيةَ نزلتْ في
المتعمِّد كما مرَّ من قصة أبي اليَسَر ولأن الأصل فعلُ
المتعمّد والخطأ لاحقٌ به للتغليظ وعن الزُهري نزل الكتاب
بالعمد وورد السنة بالخطأ وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه لا
أرى في الخطأ شيئاً أخذاً باشتراط التعمّد في الآية وهو قول
داودَ عن مجاهد والحسن أن المراد بالتعمد هو تعمدُ القتل مع
نسيان الإحرام أما إذا قتله عمدا وهو ذاكر لإحرامه فلا حكم
عليه وأمره إلى الله عزَّ وجلَّ لأنه أعظمُ من أن يكون له
كفارة {فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ} برفعهما أي فعليه جزاءٌ
مماثلٌ لما قتله وقرىء برفع الأول ونصب الثاني على إعمال
المصدر وقرىء بجرِّ الثاني على إضافته إلى مفعوله وقرىء فجزاؤه
مثلُ ما قتل على الابتدجاء واخبرية وقرىء بنصبهما على تقدير
فليجْزِ جزاءً أو فعليه أن يجزى جزاءً مثلَ ما قتل والمرادُ به
عند أبي حنيفة وأي يوسف رضي الله عنهما المثل باعتبار القيمة
يوم الصيد حيث صِيدَ أو في أقرب الأماكن إليه فإن بلغَت قيمتُه
قيمةَ هدْيٍ يُخير الجاني بين أن يشتري بها ما قيمته قيمةَ
الصيد فيُهدِيَه إلى الحرم وبين أن يشتريَ بها طعاماً فيُعطيَ
كل مسكينٍ نصفُ صاعٍ منْ بر أو صاعامن غيره وبين أن يصوم عن
طعام كل مسكين يوما فإن فضل مالا يبلغُ طعامَ مسكين تصدّق به
أو صام عنه يوماً كاملاً إذ لم يُعهد في الشرع صومُ ما دونه
فيكون قوله تعالى {مِنَ النعم} بياناً للهدْي المشترى بالقيمة
على أحد وجوه اتخيير فإنَّ من فعل ذلك يصدق علبيه أنه جزىء
بمثل ما قتل من النعم وعند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى
ومن يرى رأيهما هو المِثْلُ باعتبار الخِلْقة والهيئة لأن الله
تعالى أوجب مثلَ المقتول مقيداً بالنعم فمن اعتبر
(3/79)
المائدة آية 95
المِثْل بالقيمة فقد خالف النص وعن الصحابةِ رضيَ الله عنُهم
أنهم أوجبوا في النَّعامة بدنةً وفي الظبْيِ شاةً وفي حمار
الوَحش بقرَةً وفي الأرنب عَناقاً وعن النبيِّ صلَّى الله
عليهِ وسلم أنه قال الضبُع صيدٌ وفيه شاةٌ إذا قتله محرم ولنا
أن النصَّ أوجبَ المثْل والمِثْلُ المطلق في الكتاب والسنة
وإجماعِ الأمة والمعقولِ يُراد به إما المثلُ صورةً ومعنى وإما
المثلُ صورةً بلا معنى فلا اعتبارَ له في الشرع أصلاً وإذا لم
يمكن إرادةُ الأول إجماعاً تعيّنت إرادةُ الثاني لكونه معهودا
في الشرح كما في حقوق العباد ألا يرى أن المماثلة بين أفراد
نوعٍ واحد مع كونها في غاية القوة والظهور لم يعتبْرها الشرع
ولم يجعل الحيوانَ عند الإتلاف مضموناً بفردٍ آخَرَ من نوعه
مماثلٍ له في عامة الأوصاف بل مضموناً بقيمتِه مع أن المنصوص
عليه في أمثاله إنما هو المثل قال تعالى فاعتدوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ فحيث لم تُعتبرْ تلك المماثلةُ
القويةُ مع تيسُّر معرفتها وسهولة مراعاتها فلئلا تُعتبرُ ما
بين أفراد أنواع مختلفةٍ من المماثلة الضعيفة الخفيةِ مع صعوبة
مأخذِها وتعسُّرِ المحافظة عليها أولى وأحرى ولأن القيمة قد
أريدت فيما لا نظيرَ له إجماعاً فلم يبق غيرُه مراداً إذْ لا
عمومَ للمشترَك في مواقع الإثبات والمراد بالمرويِّ إيجابُ
النظير باعتبار القيمة لا باعتنبار العيب ثم الموجبُ الأصليُّ
للجناية والجزاءِ المماثلِ للمقتول إنما هو قيمتُه لكن لا
باعتبار أن يعنمد الجاني إليها فيصرِفَها إلى المصارف ابتداءً
بل باعتبار أن يجعلَها معياراً فيقدِّرَ بها إحدى الخصال
الثلاث فيُقِيمَها مُقامها فقوله تعالى مّثْلُ مَا قَتَلَ وصفٌ
لازم للجزاء غيرُ مفارِقٍ عنه بحال وأما قوله تعالى مِنَ النعم
فوصفٌ له معتبرٌ في ثاني الحال بناءً على وصفه الأول والذي هو
المعيارُ له ولِما بعده من الطعام والصيام فحقُّهما أن يُعطفا
على الوصف المفارِق لا على الوصف اللازم فضلاً عن العطف على
الموصوف كما سيأتي بإذن الله تعالى ومما يرشدك إلى أن المراد
بالمثل هو القيمة قوله عز وجل {يَحْكُمُ بِهِ} أي بمثل ما قتل
{ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} أي حكَمان عادلان من المسلمين لكنْ لا
لأن التقويمَ هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد من العُدول
دون الأشياء المشاهدةَ التي يستوي في معرفتها كلُّ أحد من
الناس فإن ذلك ناشىء من الغفلةِ عما أرادوا بما به المماثلة بل
لأن ما جعلوه مدار المماثلة بين الصيد وبين النَّعم من ضربِ
مشاكَلةٍ ومضاهاة في بعض الأوصاف والهيئات مع تحقق التبايُن
بينهما في بقية الأحوال مما لا يَهتدي إليه من أساطينِ أئمة
االاجتهاد وصناديدِ أهل الهداية والإرشاد إلا المؤيدون بالقوة
القدسية ألا يُرى أن الإمام الشافعي رضي الله عنه أوجب في قتل
الحمامة شاةً بناء على ما أثبتَ بينهما من المماثلة من حيث إن
كلا منهما يعُبّ ويهدِر مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات
كما بين الضّبّ والنون فكيف يُفوَّضُ معرفةُ أمثالِ هذه
الدقائق العويصة إلى رأي عجلين من آحاد الناس على أن الحكم
بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص فبعد ما عُيِّن
بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد نوعٌ من أنواع النعم يتم الحُكم
ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجةٌ إلى حكمٍ أصلاً وقرىء
يحكم به ذو عدل على إرادة جنس العادل دون الوَحْدة وقيل بل على
إرادة الإمام والجملة صفة لجزاءٌ أو حالٌ منهُ لتخصُّصه بالصفة
وقوله تعالى {هَدْياً} حالٌ مقدرة من الضمير في به أو من جزاء
لما ذكر من تخصصه بالصفة أو بدلٌ من مثل فيمن نصبه أو مِنْ
محله فيمن جرَّه أو نصبٌ على المصدر أي يهديه هدياً والجملة
صفة أخرى لجزاء {بالغ الكعبة} صفةٌ لهدياً لأن الإضافة غير
حقيقية {أَوْ كَفَّارَةٌ} عطف على محل من النعم على أنه خبر
(3/80)
المائدة آية 96
مبتدأ محذوف والجملةُ صفة ثانية لجزاء كما أشير إليه وقوله
تعالى {طَعَامُ مساكين} عطفُ بيانٍ لكفارةٌ عند من لا يخصصه
بالمعارف أو بدلٌ منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام مساكين
وقوله تعالى {أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً} عطف على طعام الخ كأنه
قيل فعليه جزاءٌ مماثلٌ للمقتول هو من النَّعم أو طعامُ
مساكينَ أو صيامُ ايام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفاً
لازماً للجزاء يقدَّر به الهدْي والطعام والصيام أما الأولان
فبلا واسطة وأما الثالث فبواسطة الثاني فيختار الجاني كلاًّ
منها بدلاً من الآخرَيْن هذا وقد قيلَ إنَّ قوله تعالى أَوْ
كَفَّارَةٌ عطف على جزاء فلا يبقى حينئذ في النظم الكريم ما
يقدَّر به الطعام والصيام والإلتجاء إلى إلى القيامس على
الهدْي تعسفٌ لا يخفى هذا على قراءة جزاء بالرفع وعلى سائر
القراءات فقوله تعالى أَوْ كَفَّارَةٌ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ
والجملةُ معطوفة على جملة هو من النعم وقرىء أو كفارةُ طعامِ
مساكين بالإضافة لتبيين نوع الكفارة وقرىء طعامُ مِسْكين على
أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس وقرىء أو عِدْل بكسر
العين والفرق بينهما أن عَدلَ الشيء ما عادله من غير جنسه
كالصوم والإطعام وعِدْلَه ما عُدِل به في المقدار كأن المفتوح
تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول وذلك إشارة إلى الطعام
وصياما تمييز للعَدْل والخيار في ذلك للجاني عند أبي حنيفة
وأبي يوسف رحمهما الله وللحَكَمين عند محمد رحمه الله
{لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} متعلق بالاستقرارِ في الجارِّ
والمجرور أي فعليه جزاءٌ ليذوق الخ وقيل بفعل يدل عليه الكلامُ
كأنَّه قيل شرع ذلك عليه ليذوق وبال أمره أي سوءَ عاقبةِ
هَتْكه لحُرمة الإحرامِ والوبال في الأصل المكروهُ والضررُ
الذي ينال في العاقبة من عمل سوء لثِقَله ومنه قوله تعالى
فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً ومنه الطعام الوبيلُ وهو الذي لا
تستمرِئُه المَعِدة {عَفَا الله عَمَّا سَلَف} من قتل الصيد
مُحرِماً قبل أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل عما
سلف منه في الجاهلية لأنهم كانوا متعبَّدين بشرائع من قبلهم
وكان الصيد فيها محرّماً {وَمَنْ عَادَ} إلى قتل الصيد بعد
النهي عنه وهو محرم {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} خبرُ مبتدأٍ
محذوفٍ تقديرُه فهو ينتقم الله منه ولذلك دخلت الفاء كقوله
تعالى فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ
رَهَقاً أي فذلك لا يخاف الخ وقوله تعالى وَمَن كَفَرَ
فَأُمَتّعُهُ أي فأنا أمتعه والمراد بالانتقام التعذيبُ في
الآخرة وأما الكفارة فعن عطاءٍ وإبراهيمَ وسعيدِ بن جبير
والحسن أنها واجبة على العائد وعن ابن عباس رضي الله عنهما
وشُريح أنه لا كفارة عليه تعلقاً بالظاهر {والله عَزِيزٌ} غالب
لا يُغالَب {ذُو انتقام} شديد فينتقم ممن أصر على المعصية
والاعتداء
(3/81)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ
الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
{أُحِلَّ لَكُمُ} الخطاب للمُحْرمين
{صَيْدُ البحر} أي ما يصاد في المياه كلها بحراً كان أو نهراً
أو غديراً وهو ما لا يعيش إلا في الماء مأكولاً أو غير مأكول
{وَطَعَامُهُ} أي وما يُطْعَم من صيده وهو تخصيص بعد تعميم
والمعنى أحل لكم التعرّضُ لجميع ما يصاد في المياه والانتفاعُ
به وأكلُ ما يؤكل منه وهو السمك عندنا وعند ابن أبي ليلى جميعُ
ما يصاد فيه على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيدُ حيوانِ
البحر وأن تطعموه وقرىء
(3/81)
المائدة آية 97
وطُعْمه وقيل صيدُ البحر ما صيد فيه وطعامُه ما قذمه أو نَضَب
عنه {متاعا لَّكُمْ} نُصِب على أنَّه مفعولٌ له مختص بالطعام
كما أن نافلة في قوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ إسحق وَيَعْقُوبَ
نَافِلَةً حالٌ مختصة بيعقوبَ عليه السلام أي أحل لكم طعامه
تمتيعاً للمقيمين منكم يأكلونه طرياً {وَلِلسَّيَّارَةِ} منكم
يتزودونه قَديداً وقيل نسب على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لفعل مقدر
أي متّعكم به متاعاً وقيل مؤكد لمعنى أُحل لكم فإنه في قوة
متّعكم به تمتيعاً كقوله تعالى كتاب الله عَلَيْكُمْ {وَحُرّمَ
عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر} وقرىء على بناء الفعلِ للفاعل ونسب
صيدَ البر وهو ما يُفْرِخُ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض
الأوقات كطير الماء {مَا دُمْتُمْ حُرُماً} أي محرمين وقرىء
بكسر الدال من دامَ يدامُ وظاهرُه يوجب حرمة ما صاده الحَلالُ
على المُحرم وإن لم يكن له مَدْخلٌ فيه وهو قول عمر وابنُ
عبَّاسٍ رضي الله عنهم وعن أبي هريرة وعطاءٍ ومجاهدٍ وسعيدِ
بنِ جُبير رَضِيَ الله عنهُم أنَّهُ يحلُّ له أكلُ ماصاده
الحلالُ وإن صاده لأجله إذا لم يُشِرْ إليه ولم يُدلَّ عليه
وكذا ما ذبحه قبل إحرامِه وهو مذهبُ أبي حنيفةَ لأن الخِطاب
للمحرمين فكأنه قيل وحرم عليكم ما صِدتُّم في البر فيَخرُج منه
مَصيدُ غيرهم وعند مالك والشافعي وأحمد لا يباح ما صِيدَ له
{واتقوا الله} فيما نهاكُم عنْهُ أو في جميع المعاصي التي من
جُمْلتِها ذلكَ {الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} لا إلى غيره حتى
يُتَوهَّمَ الخلاصُ من أخذه تعالى بالالتجاء إليه
(3/82)
جَعَلَ اللَّهُ
الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ
وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(97)
{جَعَلَ الله الكعبة} قال مجاهد سميت كعبها
لكونها مُكَعبّةً مُربَّعة وقيل لانفرادها من البناء وقيل
لارتفاعها من الأرض ونتوئها وقوله تعالى {البيت الحرام} عطفُ
بيانٍ على جهة المدح دون التوضيح كما تجىء الصفة وقيل مفعولٌ
ثانٍ لجعل وقوله تعالى {قِيَاماً لّلنَّاسِ} نُصبَ على الحال
ويرده عطف ما بعده على المفعول الأول كما سيجيء بل هذا هو
المفعول الثاني وقيل الجعلُ بمعنى الإنشاءِ والخلق وهو حال كما
مر ومعنى كونه قياماً لهم أنه مدارٌ لقيام أمر دينهم ودنياهم
إذ هو سببٌ لانتعاشهم في أمور معاشِهم ومَعادِهم يلوذ به
الخائفُ ويأمَن فيه الضعيف ويربح فيه التجار ويتوجه إليه
الحجاج والعُمّار وقرىء قِيَماً على أنه مصدر على وزن شِبَع
أُعلَّ عينه بما أُعلَّ في فعله {والشهر الحرام} أي الذي يؤدى
فيه الحجُ وهو ذو الحجة وقيل جنس الشهر الحرام وهو وما بعده
عطف على الكعبة فالمفعول الثاني محذوف ثقةً بما مر أي وجعل
الشهر الحرام {والهدى والقلائد} أيضاً قياماً لهم والمرادُ
بالقلائد ذواتُ القلائد وهي البُدْنُ خُصّت بالذكر لأن الثواب
فيها أكثر وبهاءَ الحجَّ بها أظهر {ذلك} إشارة إلى الجعل
المذكور خاصة أو مع ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره
ومحلُّه النصبُ بفعل مقدر يدل عليه السياق وهو العامل في اللام
بعده أي شرَعَ ذلك {لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في
السماوات وَمَا فِي الارض} فإن تشريع هذه الشرائعِ
المستَتْبِعةِ لدفع المضارِّ الدينية والدنيوية قبل وقوعها
وجلبِ المنافع الأولوية والأخروية من أوضحِ الدلائلِ على حكمة
الشارع وعدمِ خروجِ شيء عن علمه المحيط وقوله تعالى {وَأَنَّ
الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ}
(3/82)
المائدة آية 98 100
تعمبيم إثْرَ تخصيصٍ للتأكيد ويجوز أن يراد بما قي السموات
والأرض الأعيانُ الموجودة فيهما وبكل شيء الأمورُ المتعلقة
بتلك الموجودات من العوارض والأحوال التي هي من قَبيل المعاني
(3/83)
اعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(98)
{اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} وعيد
لمن انتهك محارِمَه أو أصر على ذلك وقوله تعالى {وَأَنَّ الله
غفور رحيم} وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى أو أقلع عن
الانتهاك بعد تعاطيه ووجهُ تقديمِ الوعيد ظاهر
(3/83)
مَا عَلَى الرَّسُولِ
إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا
تَكْتُمُونَ (99)
{مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} تشديد
في إيجاب القيام بما أَمَرَ به أي الرسول قد أتى بما وجب عليه
من التَّبليغِ بما لا مزيدَ عليهِ وقامت عليه الحجة ولزمتكم
الطاعة فلا عذر لكم من بعد في التفريط {والله يَعْلَمُ مَا
تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} فيؤاخذكم بذلك نقيرا أو قطميرا
(3/83)
قُلْ لَا يَسْتَوِي
الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ
الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
{قُل لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب} حكم
عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين الرديء من الأشخاص
والأعمال والأموال وبين جيِّدها قَصَد به الترغيب في جيِّد كل
منها والتحذيرَ عن رديئها وإن كان سببَ النزول شريحُ بن ضبة
البكريُّ الذي مرت قصته في تفسيرِ قولِه تعالى يأيها الذين
آمنوا لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله الخ وقيل نزل في رجل سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الخمر كانت تجارتي وإني
اعتقدت من بيعها مالاً فهل ينفعني من ذلك المال إن عمِلت فيه
بطاعة الله تعالى فقال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إن
أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدِلْ جَناحَ بعوضة إن الله
لا يقبل إلا الطيب وقال عطاءٌ والحسن رضي الله عنهما الخبيث
والطيب الحرامُ والحلال وتقديم الخبيث في الذكر للإشعار من
أولِ الأمرِ بأنَّ القصورَ الذي ينبىءُ عنه عدم الاسواء فيه لا
في مقابِلِه فإن مفهومَ عدمِ الاستواءِ بين الشيئينِ
المتفاوتينِ زيادةً ونقصاناً وإن جازَ اعتبارُهُ بحسبِ زيادةُ
الزائدِ لكنْ المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر كما في قوله
تعالى هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير إلى غير ذلك وأما قولُهُ
تعالى هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ
يَعْلَمُونَ فلعلَّ تقديمَ الفاضلِ فيه لما أن صلَتَهُ ملكةٌ
لصلةِ المفضولِ {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} أي وإن
أسرك كثرته والخطاب لكل واحد من الذين أُمر النبيِّ صلَّى الله
عليهِ وسلم بخطابهم والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدَّر
وقيل للحال وقد مر أي لو لم تُعجِبْك كثرة الخبيث ولو أعجبتك
وكلتاهما في موقع الحالِ من فاعل لا يستوي أي لا يستويان
كائنين على كل حالٍ مفروض كما في قولك أحسِنْ إلى فلان وإن
أساء إليك أي أحسِنْ إليه إن لم يسىء إليك وإن أساء إليك أي
كائناً على كلِّ حال مفروض وقد حُذفت الأولى حذفا مطَّرداً
لدلالة الثَّانيةِ عليها دِلالةً واضحةً فإن الشيء إذا تحقق مع
المعارِض فلأن يتحقق بدونه أولى وعلى هذا السرِّ يدور ما في لو
وإن الوصليتين من المبالغة والتأكيد وجواب لو محذوف في
الجملتين لدلالة ما قبلهما عليه وسيأتي تمام
(3/83)
المائدة آية 101
تحقيقه في مواقعَ عديدةٍ بإذنِ الله عزَّ وجلَّ {فاتقوا الله
يا أُوْلِى الالباب} أي في تحرِّي الخبيث وإن كثر وآثِروا عليه
الطيِّب وإن قلّ فإن مدارَ الاعتبار هو الجُودة والرداءةُ لا
الكثرةُ والقِلة فالمحمودُ القليلُ خيرٌ من المذموم الكثير بل
كلما كثر الخبيثُ كان أخبثَ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} راجين
أن تنالوا الفلاح
(3/84)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ
لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ
الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ
غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لا تسألوا
عن أشياء} هو اسمُ جمعٍ على رأي الخليل وسيبويه وجمهور
البصريين كطرفاء وقصباء أصله شيآه بهمزتين بينهما ألف فقُلبت
الكلمة بتقديم لامها على فائها فصار وزنها لفعاء ومُنعت الصرفَ
لألف التأنيث الممدودة وقيل هو جمع شيْء على أنه مخفف من شيء
كهَيْنٍ مخففٌ من هيِّن والأصل أشيئاه كأهوناء بزنة أفعِلاء
فاجتمعت همزتان لام الكلمة والتي للتأنيث إذ الألف كالهمزة
فخففت الكلمة بأن قلبت الهمزة الأولى ياءً لانكسار ما قبلها
فصارت أشيياء فاجتمعت ياءان أولاهما عين الكلمة فحذفت تخفيفا
فصارت أشياء وزنها أفلاء ومُنعت الصرفَ لألف التأنيث وقيل إنما
حذفت من أشيِياءَ الياءُ المنقلبةُ من الهمزة التي هي لام
الكلمة وفتحت الياء المقصورة لتسلم ألف الجمع فوزنها أفعاء
وقوله تعالى {إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} صفةٌ لأشياء
داعيةٌ إلى الانتهاء عن السؤال نها وحيث كانت المَساءةُ في هذه
الشرطية معلقةً بإبدائها لا بالسؤال عنها عُقّبت بشرطية أخرى
ناطقةٍ باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجِبِ للمحظور قطعاً
فقيل {وإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ ينزلُ القُرْآن تُبْدَ
لَكُم} أي تلك الأشياء الموجِبة للمَساءة بالوحي كما ينبىء عنه
تقييدُ السؤال بحينِ التنزيل والمراد بها ما يشُق عليهم
ويغمُهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقون بها والأسرارِ
الخفية التي يفتضحون بها بظهورها ونحوُ ذلكَ مما لا خيرَ فيه
فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستَتْبِعٌ لإبدائها كذلك
السؤالُ عن تلك التكاليف مستتبعٌ لإيجابها عليهم بطريق التشديد
لإساءتهم الأدب واجترائِهم على المسألة والمراجعة وتجاوزِهم
عما يليق بشأنهم من الاستسلام لأمرِ الله عزَّ وجلَّ من غير
بحث فيه ولا تعرّضٍ لكيفيته وكمِّيته أي لا تُكثروا مُساءلةَ
رسول الله صلى الله عليه وسلم عما لا يَعْنيكم من نحو تكاليف
شاقة وعليكم إن أفتاكم بها وكلفكم إياها حسبما أُوحيَ إليه ولم
تطيقوا بها نحو بعضِ أمورٍ مستورة تكرهون بروزها وذلك ما رُوي
عن عليَ رضيَ الله عنه أنَّه قال خطبنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم فحمِد الله تعالى وأثنى عليه ثمَّ قالَ إنَّ الله
تعالى كتَب عليكم الحجَّ فقام رجل من بني أسدٍ يقال لهُ عكاشة
ابن محسن وقيل هو سُراقة بنُ مالك فقال أفي كل عامٍ يا رسول
الله فأعرضَ عنه حتى أعاد مسألتَه ثلاثَ مرات فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ويحك وما يُؤْمِنُك أن اقول نعم لوجبت ولو
وجبتْ ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاترُكوني ما تركتكم فإنما
هلَك من كان قبلَكم بكثرة سؤالِهم واختلافِهم على أنبيائهم
فإذا أمرتُكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتُكم عن شيء
فاجتنبوه ومِثلُ ما رُوي عن أنسٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما
أنه سأل الناسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياءَ حتى
أحفَوْه في المسألة فقام صلى الله عليه وسلم مغضبا خطيبا
(3/84)
المائدة آية 101
فحمِد الله تعالى وأثنى عليه وقال سلوني فوالله ما تسألوني عن
شيءٍ ما دُمْت في مقامي هذا إلا بيّنتُه لكم فأشفق اصحاب
النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أن يكون بين يَدَيْ أمرٍ قد
حضَر قال أنسٌ رضيَ الله عنه فجعلتُ ألتفتُ يميناً وشِمالاً
فلا أجدُ رجلاً إلا وهو لافٌّ رأسَه في ثوبه يبكي فقام رجل من
قريشٍ من بني سَهْمٍ يقال له عبدُ اللَّه بنُ حُذافة وكان إذا
لاحى الرجال يدعى إلى غير أبيه وقال يا نبيَّ الله مَنْ أبي
فقال صلى الله عليه وسلم أبوك حذافةُ بنُ قيسٍ الزهري وقام
آخرُ وقال أين أبي قال صلى الله عليه وسلم في النار ثم قام عمر
رضي الله عنه فقال رضِينا بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً
وبمحمدٍ رسولاً نبياً نعوذ بالله تعالى من الفتن إنا حديثو
عهدٍ بجاهلية وشِرْكٍ فاعفُ عنا يا رسول الله فسكن غضبه صلى
الله عليه وسلم {عَفَا الله عَنْهَا} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أن
نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتِهم عن المَساءة بل لأنها في
نفسها معصيةٌ مستتبِعةٌ للمؤاخذة وقد عفا عنها وفيه مِنْ حثّهم
على الجِدّ في الانتهاء عنها ما لا يخفى وضميرُ عنها للمسألة
المدلول عليها بلا تسألوا أي عفا الله تعالى عن مسائلِكم
السالفةِ حيث لم يفرِضْ عليكم الحج في كل عام جزاءً بمسألتكم
وتجاوَزَ عن عقوبتكم الأخروية بسائر مسائلكم فلا تعودوا إلى
مثلها وأما جعلُه صفةً أخرى لأشياء على أن الضمير لها بمعنى لا
تسألوا عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلّفْكم إياها فمما لا
سبيلَ إليه اصلا لاقتدائه أن يكون الحجُّ قد فُرض أولاً في كل
عام ثم نسخ بطرق العفو وأن يكون ذلك معلوماً للمخاطَبين ضرورةَ
أن حقَّ الوصف أن يكونَ معلومَ الثُبوت للموصوف عند المخاطب
قبل جعلِه وصفاً له وكلاهما ضروريُّ الانتفاء قطعاً على أنه
يستدعي اختصاصَ النهْي بمسألة الحجِّ ونحوِها إن سلِمَ وقوعُها
مع أن النظم الكريمَ صريحٌ في أنه مَسوق للنهي عن السؤال عن
الأشياء التي التي يسوؤُهم إبداؤُها سواءٌ كانت من قبيل
الأحكام والتكاليفِ الموجبة لِمَساءتهم بإنشائها وإيحابها بسبب
السؤال عقوبة وتجديدا كمسألة الحج لولا عفوُه تعالى عنها أو من
قبيل الأمور الواقعةِ قبل السؤال الموجبةِ للمساءة بالإخبار
بها كمسألة مَنْ قال أين أبي إن قلتَ تلك الأشياءُ غير مُوجبةٍ
للمَساءة البتةَ بل هي محتمِلةٌ لإيجاب المَسرَّة أيضاً لأن
إيجابَها للأولى إن كانت من حيث وجودُها فهي من حيث عدمُها
موجبةٌ للأخرى قطعاً وليست إحدى الحيثيتَيْن محقّقةً عند
السائل وإنما غَرَضُه من السؤال ظهورُها كيف كانت بل ظهورُها
بحيثية إيجابها للمسرة فلم يعبر عنها بحيثية إيجابها للمَساءة
قلتُ لتحقيق المنهيِّ عنه كما ستعرِفه مع ما فيه من تأكيد
النهْي وتشديدِه لأن تلك الحيثيةَ هي الموجبةُ للانتهاء
والانزجار لا حيثيةُ إيجابِها للمسرة ولا حيثيةُ تردّدِها بين
الإيجابين إن قيل الشرطية الثانية ناطقةٌ بأن السؤالَ عن تلك
الأشياء الموجبة للمساءة مستلزمٌ لإبدائها البتةَ كما مر فلا
تخلَّفَ الإبداءُ عن السؤال في مسئلة الحج حيث لم يُفرَضْ في
كل عام قلنا لوقوع السؤال قبل ورودِ النهي وما ذُكر في الشرطية
إنما هو السؤال الواقعُ بعد وروده إذ هو الموجبُ للتغليظ
والتشديد ولا تخلُّفَ فيه إن قيل ما ذكرتَه إنما يتمشى فيم إذا
كان السؤالُ عن الأمور المترددةِ بين الوقوع وعدمِه كما ذُكرَ
من التكاليف الشاقةِ وأما إذا كان عن الأمور الواقعةِ قبله فلا
يكادُ يتسنّى لأن ما يتعلق به الإبداءُ هو الذي وقع في نفس
الأمرِ ولا مرد له سواء كان السؤالُ قبل النهي أو بعده وقد
يكون الواقع ما يوجب المسرة كما في مسئلة عبد الله بن حذافة
فيكون هو الذي يتعلق به الإبداء لا غيره فيتعين للتخلف حتماً
قلنا لا احتمالَ للتخلف فضلاً عن التعيُّن فإن المنهيَّ عنه في
الحقيقة إنما هو السؤالُ عن الأشياء الموجبة
(3/85)
المائدة 102 103
للمَساءة الواقعةِ في نفس الأمر قبل السؤال كسؤال من قال أين
أبي لا عما يعمها وغيرهما مما ليس بواقع لكنه محتمِلٌ للوقوع
عند المكلفين حتى يلزمَ التخلّفُ في صورةِ عدم الوقوع وجملة
الكلام أن مدلول النظمُ الكريم بطريق العبارة إنما هو النهيُ
عن السؤال عن الأشياء التي يوجبُ إبداؤها المساءة البتنة إما
بأن تكون تلك الأشياءُ بعَرَضية الوقوعِ فتُبدَى عند السؤال
بطريق الإنشاء عقوبةً وتشديداً كما في صورة كونِها من قبيل
التكاليف الشافة وإما بأن تكون تلك الأشياءُ بعَرَضية الوقوعِ
فتُبدَى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبةً وتشديداكما في صورة
كونِها من قبيل التكاليف الشافة وإما بأن تكون واقعةً في نفس
الأمر قبل السؤال فتُبدى عنده بطريق الإخبار بها فالتخلفُ
ممتنِعٌ في الصورتين معاً ومنشأ توهّمِه عدمُ الفرق بين المنهي
عنه وبين غيرِه بناءً على عدم امتياز ما هو موجودٌ أو بعَرَضية
الوجود من تلك الأشياء في نفس الأمر وما ليس كذلك عند المكلفين
وملاحظتهم للكل باحتمال الوجود والعدم وفائدةُ هذا الإبهام
الانتهاءُ عن السؤال عن تلك الأشياء على الإطلاق حِذارَ إبداء
المكروه {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّر
لعفوه تعالى أي مبالغٌ في مغفرة الذنوب والإغضاءِ عن المعاصي
ولذلك عفا عنكم ولم يؤاخِذْكم بعقوبة ما فَرَط منكم
(3/86)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ
مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ} أي سألوا هذه
المسألةَ لكنْ لا عينَها بل مثلَها في كونها محظورةً
ومستتْبِعة للوبال وعدمُ التصريح بالمثل للمبالغة في
التَّحذيرِ {مِن قَبْلِكُمْ} متعلق بسألها {ثُمَّ أَصْبَحُواْ
بِهَا} أي بسببها أو بمرجوعها {كافرين} فإن بني إسرائيلَ كانوا
يستفتون أنبياءَهم في أشياءَ فإذا أُمروا بها تركوها فهلكوا
(3/86)
مَا جَعَلَ اللَّهُ
مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ
وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
{مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ
سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} ردٌّ وإبطال لما
ابتدعه أهلُ الجاهلية حيث كانوا إذا نُتِجَت الناقةُ خمسةَ
أبطنٍ آخرُها ذكرٌ بَحروا أُذنها أي شقُّوها وحرَّموا ركوبها
ودَرَّها ولا تُطرد عن ماءٍ ولا عن مرعى وكان يقول الرجل إذا
قدِمْت من سفري أو برِئْتُ من مرضي فناقتي سائبةٌ وجعلَها
كالبَحيرة في تحريم الانتفاعِ بها وقيل كان الرجل إذا أعتق
عبداً قال هو سائبة فلا عقْلَ بينهما ولا ميراث وإذا ولَدت
الشاةُ أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم وإن ولدت
ذكراً وأنثى قالوا وصَلَتْ أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم
وإذا نُتجت من صُلب الفحل عشَرةَ أبطُنٍ قالوا قد حمَى ظهرَه
فلا يُركب ولا يُحمل عليه ولا يُمنع من ماء ولا مرعى ومعنى ما
جعل ما شرع وما وضع ولذلك عُدِّيَ إلى مفعول واحد هو بَحيرة
وما عطف عليها ومن مزيد لتأكيد النفي فإن الجعلَ التكوينيَّ
كما يجيء تارة متعدياً إلى مفعولين وأخرى إلى واحدٍ كذلك
الجعلُ التشريعيُّ يجيء مرة متعدياً إلى مفعولينِ كما في قوله
تعالى جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لّلنَّاسِ
وأخرى إلى واحد كَما في الآيةِ الكريمةِ {ولكن الذين كَفَرُواْ
يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون
الله أمرنا بهذا وإمامُهم عمْروُ بنُ لُحَيَ فإنه أولُ مَنْ
فعلَ هذهِ الأفاعيلَ الباطلة هذا شأن رؤسائهم وكُبرَائهم
{وَأَكْثَرُهُمُ} وهم أراذلُهم الذين يتبعونهم من
(3/86)
المائدة آية 104 105
معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يشهد به سياقُ النظم
الكريم {لاَ يَعْقِلُونَ} أنه افتراء باطلٌ حتى يخالفوهم
ويهتدوا إلى الحق بأنفسهم فيبقَوْن في أسر التقليد وهذا بيان
لقصور عقولِهم وعجزِهم عن الاهتداء بأنفسهم وقوله عز وجل
(3/87)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ
قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ
كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ
(104)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي للذين عبَّر
عنهم بأكثرُهم على سبيل الهداية والإرشاد {تَعَالَوْاْ إلى مَا
أَنزَلَ الله} من الكتاب المبين للحلال والحرام {وَإِلَى
الرسول} الذي أُنزل هو عليه لتقفوا على حقيقة الحال وتُميِّزوا
الحرامَ من الحلال {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عليه
آباءنا} بيان لعنادهم واستعصائهم على الهدى إلى الحق
وانقيادِهم للداعي إلى الضلال {أولو كَانَ آبَاؤُهم لاَ
يَعْقِلُونَ شيئا ولا يهتدون} قيل الواو للحال دخلت عليها
الهمزة للإنكار والتعجيب أي أحَسْبُهم ذلك ولو كان آباؤهم
جَهَلةً ضالين وقيل للعطف على شرطية أخرى مقدّرة قبلها وهو
الأظهر والتقدير أحَسْبهم ذلك أو أيقولون هذا القولَ لو لم يكن
آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا من الدين ولا يهتدون للصواب
ولو كانوا لا يعلمون الخ وكلتاهما في موقعِ الحالِ أي أحسْبُهم
ما وجدوا عليه آباءهم كائنين على كل حالٍ مفروض وقد حذفت
الأولى في الباب حذفا مطَّرداً لدلالة الثَّانيةِ عليها دلالةً
واضحةً كيف لا وإنَّ الشيءَ إذا تحقق عند المانِع فلأَنْ
يتحققَ عند عدمِه أولى كما في قولك أحسِنْ إلى فلان وإن أساء
إليك أي أحسِنْ إليه إن لم يسىء إليك وإن أساء أي أحسن إليه
كائناً على كلِّ حال مفروض وقد حذفت الأولى لدلالةِ الثانية
عليها دَلالة ظاهرةً إذِ الإحسانُ حيث أُمِر به عند المانع
فلأَنْ يُؤْمَرَ به عند عدمه أولى وعلى هذا السرِّ يدورُ ما في
إنْ ولو الوصليتين من المبالغة والتأكيد وجوابُ لو محذوفٌ
لدلالة ما سبقَ عليه أي لَّوْ كَانَ آبَاؤُهم لاَ يعلمون شيئا
ولا يهتدون حسبُهم ذلك أو يقولون ذلك وما في لو من معنى
الامتناع والاستبعاد إنما هو بالنظر إلى زعمهم لا إلى نفس
الأمر وفائدتُه المبالغةُ في الإنكار والتعجيب ببيان أن ما
قالوه موجبٌ للإنكار والتعجيب إذا كان كونُ آبائهم جَهلةً
ضالين في حيز الاحتمال البعيد فكيف إذا كان ذلك واقعاً لا ريبَ
فيه وقيل مآلُ الوجهين واحدٌ لأن الجملة المقدرة حالٌ فكذا ما
عُطف عليها وأنت خبيرٌ بأن الحالَ على الوجه الأخير مجموعُ
الجملتين لا الأخيرةُ فقط وأن الواو للعطف لا للحال وقد مر
التحقيق في قوله تعالى أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهم لاَ
يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ فتدبر
(3/87)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ
مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ
جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ} أي الزموا أمرَ أنفسِكم وإصلاحِها وقُرِىءَ
بالرفعِ على الابتداءِ أي واجبة عليكم أنفسُكم وقوله عز وجل
{لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} إما مجزومٌ على
أنه جوابٌ للأمر أو نهْيٌ مؤكِّد له وإنما ضُمَّتِ الراء
إتباعاً لضمِّه الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة إذِ
الأصلُ لا يضْرُرْكم ويؤيده القراءةُ بفتح الراء وقراءةُ مَنْ
قرأ لا يضِرْكم بكسر الضاد وضمها من ضار يضيره ويضوره وإما
مرفوع على أنه كلام
(3/87)
المائدة آية 106
مستأنفٌ في موقع التعليل لما قبله ويعضُده قراءةُ مَن قرأَ لا
يضيرُكم أي لا يضركم ضلالُ مَنْ ضل إذا كنتم مهتدين ولا
يُتوهَّمَنَّ أن فيه رخصةً في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر مع استطاعتهما كيف لا ومن جملة الاهتداء أن يُنكَر على
المنكَر حسْبما تفي به الطاقة قال صلى الله عليه وسلم من رأي
منكم منكراً فاستطاع أن يغيره فليغيْره بيده فإن لم يستطع
فبلسانه فإن لم يستطِعْ فبقلبه وقد روي أن الصديقَ رضي الله
تعالى عنه قال يوماً على المنبر يأيها الناس إنكم تقرأون هذه
الآيةَ وتضعونها غيرَ موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعتُ رسول
الله صلى الله عليه وسلم إن الناس إذا رأو منكراً فلم يغيِّروه
عمهم الله بعقاب فأمُروا بالمعروف وانهَوْا عن المنكر ولا
تغتروا بقولِ الله عزَّ وجلَّ يأيها الذين آمنوا الخ فيقول
أحدكم عليَّ نفسي والله لتأمُرنّ بالمعروف وتنهَوُنّ عن المنكر
أو ليستعلمن الله عليكم شرارَكم فيسومونكم سوء العذاب ثم
ليدعُوَنَّ خيارُكم فلا يستجابُ لهم وعنه صلى الله عليه وسلم
ما من قوم عُمل فيهم منكرٌ أو سُن فيهم قبيحٌ فلم يغيِّروه ولم
ينكروه إلا وحقٌّ على الله تعالَى أنْ يعُمَّهم بالعقوبة
جميعاً ثم لا يستجابُ لهم والآية نزلت لما كان المؤمنون
يتحسَّرون على الكفرة وكانوا يتمنون إيمانهم وهم من الضلال
بحيث لا يكادون يرعَوون عنه بالأمر والنهي وقيل كان الرجل إذا
أسلم لاموُه وقالوا له سفّهتَ آباءك وضلّلتهم أي نسبتهم إلى
السَّفاهة والضلال فنزلت تسليةً له بأن ضلال آبائه لا يضرُّه
ولا يَشينُه {إِلَى الله} لا إلى أحدٍ سواه {مَرْجِعُكُمْ}
رجوعُكم يوم القيامة {جَمِيعاً} بحيث لا يتخلفَ عنه أحدٌ من
المهتدين وغيرِهم فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
{في الدنيا} من أعمال الهداية والضلال فهو وعد ووعيد للفريقين
وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخَذُ بعمل غيره
(3/88)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا
عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ
تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ
بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ
كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا
إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} استئناف
مَسوقٌ لبيان الأحكامِ المتعلقة بأمور دنياهم إثرَ بيانِ
الأحوال المتعلقةِ بأمور دينهم وتصديره بحر في النداءِ
والتنبيه لإظهار كمالِ العناية بمضمونه وقوله عز وجل {شهادة
بَيْنِكُمْ} بالرفع والإضافة إلى الظرف توسعاً إما باعتبار
جَرَيانِها بينهم أو باعتبار تعلّقِها بما يجري بينهم من
الخصومات مبتدأ وقوله تعالى {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت}
أي شارفه وظهرت علائمُه ظرفٌ لها وتقديم المفعول لإفادة كمال
تمكن الفاعل عند النفس وقت ورودِه عليها فإنه أدخلُ في تهوين
أمر الموت وقولُه تعالى {حِينَ الوصية} بدلٌ منه لا ظرف للموت
كما تُوُهِّم ولا لحضوره كما قيل فإن في الإبدال تنبيهاً على
أن الوصية من المَهَمّات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها
المسلم ويذهَلَ عنها وقوله تعالى {اثنان} خبرٌ للمبتدأ بتقدير
المضاف أي شهادةُ بينكم حينئذ شهادةُ اثنين أو فاعلُ شهادةُ
بينكم على أن خبرها محذوف أي فيما نزل عليكم أن يشهد بينكم
اثنان وقرىء شهادةٌ بالرفع والتنوين والإعرابُ كما سبق وقرىء
شهادة بالنصب
(3/88)
المائدة آية 106
والتنوين على أن عاملها مضمر هو العامل في اثنان أيضاً أي
ليُقِمْ شهادةً بينكم اثنان {ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} أي من
أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت وأنصح له وأقرب إلى تحرِّي ما
هو أصلح له وقيل من المسلمين وهما صفتان لاثنان {أَوْ آخَرَان}
عطف على اثنان تابع له فيما ذُكر من الخبرية والفاعلية أي أو
شهادةُ آخَرَيْن أو أن يشهد بينكم آخران أو ليقم شهادةً بينكم
آخران وقوله تعالى {مِنْ غَيْرِكُمْ} صفةٌ لآخَران أي كائنان
من غيركم أي من الأجانب وقيل من أهل الذمة وقد كان ذلك في بدء
الإسلام لعزة وجود المسلمين لا سيما في السفر ثم نسخ وعن مكحول
أنه نسخها قوله تعالى وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ
{إِنْ أَنتُمْ} مرفوعٌ بمُضْمرٍ يفسرُه ما بعده تقديره إن
ضربتم فلما حُذف الفعل انفصل الضمير وهذا رأيُ جمهور
البَصْريين وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأٌ بناءً على
جواز وقوعِ المبتدأ بعد إنْ الشرطية كجواز وقوعِه بعد إذا
فقوله تعالى {ضَرَبْتُمْ فِى الارض} أي سافرتم فيها لا محلَّ
له من الإعراب عند الأولين لكونه مفسِّراً ومرفوع على الخبرية
عند الباقين وقوله تعالى فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت عطفٌ
على الشرطية وجوابُه محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه أي إن سافرتم
فقاربَكم الأجلُ حينئذ وما معكم من الأقارب أو من أهل الإسلام
مَنْ يتولى أمرَ الشهادة كما هو الغالب المعتاد في الأسفار
فليشهد آخرانِ أو فاستشهدوا آخَرَيْن أو فالشاهدانِ آخرانِ كذا
قيل والأنسب أن يقدر عين ماسبق أي فآخرانِ على معنى شهادةُ
بينِكم شهادةُ آخَرَيْن أو فأَنْ يشهَدَ آخران على الوجوه
المذكورة ثمَةَ وقوله تعالى {تَحْبِسُونَهُمَا} استئنافٌ وقعَ
جوابا عما نشأ من اشتراط العدالة كأنه قيل فكيف نصنع إنِ
ارْتبْنا بالشاهدين فقيل تحبِسونهما أي تقفونهما وتصبرونهما
للتحليف {من بعد الصلاة} وقيل هو صفة لآخران والشرط بجوابه
المحذوف اعتراضٌ فائدته الدلالة على أن اللائق إشهادُ الأقارب
أو أهلِ الإسلام وأما إشهادُ الآخَرِين فعند الضرورة المُلجئةِ
إليه وأنت خبير بأنه يقتضي اختصاصَ الحبس بالآخرين مع شموله
للأولين أيضاً قطعاً على أن اعتبارَ اتصافهما بذلك يأباه مقامُ
الأمر بإشهادهماإذ مآلُه فآخرانِ شأنُهما الحبسُ والتحْليف وإن
أمكن إتمام التقريب باعتبار قَيدِ الارتياب بهما كما يفيده
الاعتراضُ الآتي والمرادُ بالصلاة صلاةُ العصر وعدمُ تعيينها
لتعيُّنِها عندهم بالتحْليف بعدها لأنه وقت اجتماع الناس ووقت
تصادُمِ ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار ولأن جميع أهل الأديان
يعظّمونه ويجتنبون فيه الحلِفَ الكاذب وقد رُويَ أن النبيَّ
صلى الله عليه وسلم وقتئذ حلّف من حلف كما سيأتي وقيل بعد أي
صلاة كانت لأنها داعيةٌ إلى النطق بالصدق وناهيةٌ عن الكذِب
والزور إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفحشاء والمنكر
{فيقسمان بالله} عطف على تحبسونهما وقوله تعالى {إِنِ ارتبتم}
شرطية محذوفةُ الجواب لدلالة ما سبق من الحبس والإقسام عليه
سيقت من جهته تعالى معترِضةً بين القسمَ وجوابِه للتنبيه على
اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب أي إن ارتاب بهما
الوارِثُ منكم بخيانةٍ وأخذِ شيءٍ من التركة فاحبِسوهما
وحلِّفوهما بالله وقولُه تعالى {لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً}
جوابٌ للقسم وليس هذا من قبيل ما اجتمع فيه قَسَمٌ وشرط
فاكتُفِيَ بذكر جوابِ سابقِهما عن جواب الآخر كما هو الواقع
غالباً فإن ذلك إنما يكون عند سدِّ جواب السابق مَسدَّ جوابِ
اللاحق لاتحاد مضمونهما كما
(3/89)
المائدة 107
في قولك والله إن أتيتَني لأكرمنك ولا ريب في استحالة ذلك ههنا
لأن القسم وجوابه كلاهما وقد عرفت أن الشرط من جهته تعالى
والاجتراء هو استبدال السلعة بالثمن أي أخذها بدلا منه لا
بذلُه لتحصيلها كما قيل وإن كان مستلزِماً له فإن المعتبرَ في
عقد الشراء ومفهومِه هو الجلبُ دون السلب المعتبر في عقد البيع
ثم استُعير لأخذ شيءٍ بإزالة ما عنده عيناً كان أو معنى على
وجه الرغبة في المأخوذ والإعراض عن الزائل كما هو المعتبرُ في
المستعار منه حسبما مرَّ تفصيلُه في قولِهِ تعالى أولئك الذين
اشتروا الضلالة بالهدى والضمير في به لله والمعنى لا نأخذ
لأنفسنا بدلا من الله أي من رحمته عرضا من الدنيا بأن نهتِكَها
ونُزيلَها بالحلف الكاذب أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال
وقيل الضمير للقسم فلا بُدَّ من تقدير مضافٍ البتةَ أي لا
نستبدل بصحة القسم بالله أي لا نأخذ لأنفسنا بدلاً منها عرضا
من الدنيا بأن نُزيلَ عنه وصفَ الصدق ونصفَه بالكذب أي لا نحلف
كاذبين كما ذكر وإلا فلا سِدادَ للمعنى سواءٌ أريد به القسمُ
الصادقُ أو الكاذب أما إن أريدَ به الكاذبُ فلأنه يفوِّتُ
حينئذ ما هو المعتبرُ في الاستعارة من كون الزائل شيئاً
مرغوباً فيه عند الحالف كحُرمة اسمِ الله تعالى ووصفِ الصحة
والصدق في القسم ولا ريب في أن القسم الكاذبَ ليس كذلك وأما إن
أريد به الصادقُ فلأنه وإن أمكن أن يُتوسَّلَ باستعمالِه إلى
عرض الدنيا كالقم الكاذب لكن لا محظور فيه وأما التوسلُ إليه
بترك استعماله فلا إمكان له ههنا حتى يصح التبرؤ منه وإنما
يُتوسَّلُ إليه باستعمال القسم الكاذب وليس استعمالُه من لوازم
ترْكِ استعم الالصادق ضرورةَ جوازِ تركِهما معاً حتى يتصور
دجعل ما أخذ بتركِ استعمالِ الصادق كما في صوره تقديرِ المضاف
فإن إزالةَ وصْفِ الصدق عن القسم مع بقاء الموصوفِ مستلزِمةٌ
لثبوت وصفِ الكذِب له البتة فتأمل وقوله تعالى {وَلَوْ كَانَ}
أي المقسَمُ له المدلولُ عليه بفحوى الكلام {ذَا قربى} أي
قريباً منا تأكيد لتبرئهم ما لالحف كاذباً ومبالغةٌ في التنزه
عنه كأنهما قالا لا نأخذ لأنفسنا بدلا من حُرمة اسمه تعالى
مالاً ولو انضمَّ إليه رعايةُ جانبِ الأقرباء فكيف إذا لم يكنْ
كذلك وصيانةُ أنفسِهما وإن كانت أهمَّ من رعاية الأقرباء لكنها
ليست ضميمةً للمال بل هي راجعة إليه وجواب لو محذوفٌ ثقة
بدلالة ما سبق عليه أي لا نشترى به ثمنا والجملة معطوفة على
أخرى مثلِها كما فُصِّل في تفسيرِ قولِه تعالى وَلَوْ أعجبك
الخ وقوله عز وجل {وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله} أي الشهادة التي
أمرَنا الله تعالى بلإقامتها معطوفٌ على لا نشتري به داخلٌ معه
في حكم القسم وعن الشعبي أنه وَقَفَ على شهادة ثم ابتدأ آلله
بالمد على حذف حرف االقسم وتعويض حرف الاستفهام منه وبغير مد
كقولهم الله لأفعلن {إنا إذا لمن الاثمين} أي إن كتمناها وقرىء
لملائمين بحذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على اللام وإدخال النون
فيها
(3/90)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى
أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ
مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ
الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا
أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا
لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
{فَإِنْ عُثِرَ} أي اطُّلع بعد التحليف
{على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً} حسبما اعترفا به بقولهما إنا
إذاً لمن الآثمين أي فعلا ما يوجبُ إثماً من تحريف وطكتم بأن
ظهر
(3/90)
المائدة آية 107
بأيديهما شيءٌ من التركة وادَّعيا استحقاقَهما له بوجهٍ من
الوجوه كما وقع في سبب النزول حسبما سيأتي {فَآخَرَانِ} أي
رجلان آخران وهو مبتدأ خبرُه {يقومان مقامهما} ولا محظور في
الفصل بالخبر بين المبتدأ وبين وَصفِه الذي هو الجارُّ
والمجرور بعده أي يقومان مَقام اللذين عُثر على خيانتهما وليس
المراد بمقامهما مقامَ أداءِ الشهادة التي تولَّياها ولم
يؤدِّياها كما هي بل هو مقام الحبس والتحليف على الوجه المذكور
لإظهار الحق وإبراز كذِبهما فيما ادعيا من استحقاقهما لما في
أيديهما {مِنَ الذين استحق} على البناء للفاعل على قراءة عليَ
وابنِ عباس وأُبيَ رضي الله عنهم أي من أهل الميت الذين استحق
{عَلَيْهِمُ الاوليان} من بينهم أي الأقربانِ إلى الميت
الوارثانِ له الأحقانِ بالشهادة أي باليمين كما ستعرفه ومفعولُ
استحق محذوفٌ أي استحقا عليهم أن يجرِّدوهما للقيام بها لأنها
حقُّهما ويُظهروا بهما كذِبَ الكاذبَيْن وهما في الحقيقة
الآخرانِ القائمان مَقام الأوَّلَيْن على وُضع المُظْهر مقامَ
المُضْمَر وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ وهو الأظهر أي من
الذين استُحق عليهم الإثمُ أي جُنيَ عليهم وهم أهلُ الميت
وعشيرتُه فالأَوْليان مرفوعٌ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف كأنه
قيل ومن هما فقيل الأوليان أو هو بدلٌ من الضمير في يقومان أو
من آخران وقد جوِّز ارتفاعَه باستَحق على حذفِ المضافِ أي
استحقّ عليهم انتدابُ الأوَّلَيْن منهم للشهادة وقرىء
الأولِّين على أنهم صفة للذين الخ مجرور أو منصوبٌ على المدحِ
ومعنى الأولية التقدمُ على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها
وقرىء الأوليين على التثنية وانتصابُه على المدح وقرىء الأولان
{فَيُقْسِمَانِ بالله} عطف على يقومان {لشهادتنا} المرادُ
بالشهادة اليمينُ كما في قوله تعالى فشهادة أَحَدِهِمْ
أَرْبَعُ شهادات بالله أي لَيَمينُنا على أنهما كاذبان فيما
ادَّعيا من الاستحقاق مع كونِها حقةً صادقةً في نفسها
{أَحَقُّ} بالقبول {مِن شهادتهما} أي من يمينهما مع كونها
كاذبةً في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقُهما للإثم
ويمينُنا منزهةٌ عن الرَّيْب والرِّيبة فصيغةُ التفضيلِ مع
أنَّه لا حقيةَ في يمينهما رأساً إنما هي لإمكان قَبولِها في
الجُملة باعتبار احتمالِ صدقِهما في ادعاء تملُّكِهما لما ظهر
في أيديهما {وَمَا اعتدينا} عطفٌ على جوابِ القسمِ أيْ ما
تجاوزنا فيها الحقَّ أو ما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما {إنا
إذا لَّمِنَ الظالمين} استئنافٌ مقرَّرٌ لما قبله أي إنا إنِ
اعتدَيْنا في يميننا لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله
تعالى وعذابه بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى أو لمن الواضعين
الحقَّ في غير موضعه ومعنى النظم الكريم أن المُحتَضَرَ ينبغي
أن يُشهدَ على وصيته عدلين من ذوِي نسبِه أو دينه فإن لم
يجدْهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم ثم إن وقع ارتيابٌ
بهما أقسما على أنهما ما كتما من الشهادة ولا من التركة شيئاً
بالتغليظ في الوقت فإنِ اطُّلعَ بعد ذلك على كذبهما بأن ظهر
بأيديهما شيءٌ من التركة وادعيا تملُّكه من جهة الميت حلفَ
الورثةُ وعُمل بأيْمانهم ولعل تخصيص الاثنين لخصوص الواقعة
فإنه رُوي أن تميمَ بنَ أوسٍ الداري وعديَّ بنَ يزيد خرجا إلى
الشام للتجارة وكانا حينئذ نصْرانيين ومعهما بديلُ بنُ أبي
مريم مولى عمْرو بنِ العاص وكان مسلماً مهاجراً فلما قدِموا
الشامَ مرضَ بديلٌ فكتب كتاباً فيه جميعُ ما معه وطرحه في
متاعِه ولم يخبرْهما بذلك وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعَه إلى
أهله ومات ففتشاه فوجدا فيه إناءً من فضة وزْنُه ثلثمائةِ
مثقالٍ منقوشاً بالذهب فغيَّباه ودفعا المتاعَ إلى أهله
فأصابوا فيه الكتاب فطلبوا منهما الإناءَ فقالا ما ندري إنما
أوصى إلينا بشيءٍ وأمرَنا أن ندفعه إليكم
(3/91)
المائدة آية 108
ففعلنا وما لنا بالإناء من علم فرفعوهما إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فنزل يأيها الذين أآمنوا الآية فاستحلَفَهما
بعد صلاة العصر عند المِنْبر بالله الذي لا إلَه إِلاَّ هو
أنهما لم يخْتانا شيئاً مما دَفَع ولا كتما فحلَفا على ذلك
فخلى صلى الله عليه وسلم سبيلهما ثم إن الإناءَ وُجد بمكةَ
فقال مَنْ بيده اشتريتُه من تميم وعدي وقيل لما طالت المدةُ
أظهراه فبلغ ذلك بني سهمٍ فطلبوه منهما فقالا كنا اشتريناه من
بديل فقالوا ألم نقلْ لكما هل باع صاحبُنا من متاعه شيئاً
فقلتما لا قالا ما كان لنا بينة فكر هنا أن نقربه فرفعوهما إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله عز وجل فَإِنْ عُثِرَ
الآية فقام عمروُ بنُ العاص والمطَّلِبُ بنُ أبي وداعةَ
السَّهْميان فحلفا بالله بعد العصر أنهما كَذَبا وخانا فدفع
الإناءَ إليهما وفي رواية إلى أولياء الميت واعلم أنهما إن
كانا وارثين لبديل فلا نسخ إلا في وصف اليمين فإن الوارثَ لا
يُحَلَّفُ على البَتات وإلا فهو منسوخ
(3/92)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ
يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ
تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
(108)
{ذلك} كلامٌ مستأنفٌ سيقَ لبيانِ أن ما
ذُكر مستتبِعٌ للمنافع واردٌ على مقتضى الحِكمة والمصلحة أي
الحُكم الذي تقدم تفصيلُه {أدنى أن يأتوا بالشهادة على
وَجْهِهَا} أي أقربُ إلى أن يؤدِّيَ الشهودُ الشهادةَ على
وجهها الذي تحمَّلوها عليه من غير تحريفٍ ولا خيانة خوفاً من
العذاب الأخروي وهذه كما ترى حكمةُ شَرْعيةِ التحليفِ بالتغليظ
المذكور وقوله تعالى {أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ
أيمانهم} بيانٌ لحِكمة شرعيةِ ردِّ اليمين على الورثة معطوفٌ
على مقدَّرٍ ينبأ عنه المقامُ كأنه قيل ذلك أدنى أن يأتوا
بالشهادة على وجهها ويخافوا عذابَ الآخرة بسبب اليمين الكاذبة
أو يخافوا الافتضاحِ على رؤوس الأشهاد بإبطال أيمانهم والعملِ
بأَيْمان الورثة فينزجروا عن الخيانة المؤدية إليه فأيُّ
الخوفين وقع حصل المقصِدُ الذي هو الإتيانُ بالشهادة على وجهها
وقيل هو عطفٌ على يأتوا على معنى أن ذلك أقربُ إلى أن يأتوا
بالشهادة على وجهها أو إلى أن يخافوا الافتضاحَ برد اليمين على
الورثة فلا يحلِفوا على موجَب شهادتِهم إنْ لم يأتوا بها على
وجهها فيظهرُ كذبُهم بنكولهم وأما ما قيل من أن المعنى أن ذلك
أقربُ إلى أحد الأمرين اللذين أيُّهما وقع كان فيه الصلاح
أداءُ الشهادة على الصدق والامتناعُ عن أدائها على الكذب
فيأباه المقام إذ لا تعلّق له بالحادثة أصلاً ضرورةَ أن
الشاهدَ مضطرٌّ فيها إلى الجواب فالامتناعُ عن الشهادة الكاذبة
مستلزمٌ للإتيان بالصادقة قطعاً فليس هناك أمران أيُّهما وقع
كان فيه الصلاحُ حتى يَتوسَّطَ بينهما كلمةُ أو وإنما يتأتى
ذلك في شهودٍ لم يُتَّهموا بخيانة على أن إضافةَ الامتناع عن
الشهادة الكاذبة إلى خوف رد اليمين على الورثة ونِسبةَ
الإتيانِ بالصادقة إلى غيره مع أن ما يقتضي أحدُهما يقتضي
الآخَرُ لا محالة تحكُّمٌ بحْتٌ فتأمل {واتقوا الله} في مخالفة
أحكامه التي من جملتها هذا الحكمُ {واسمعوا} ما تؤمرون به
كائناً ما كانَ سمعَ طاعةٍ وقَبول {والله لاَ يَهْدِى القوم
الفاسقين} الخارجين عن الطاعة أي فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم
فاسقين والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين أي إلى طريق الجنةِ
أو إلى ما فيه نفعهم
(3/92)
المائدة آية 109
(3/93)
يَوْمَ يَجْمَعُ
اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا
عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
{يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} نصب على
أنَّهُ بدلُ اشتمالٍ من مفعول اتقوا لما بينهما من الملابسة
فإن مدار البدلية ليس ملابسةَ الظرفية والمظروفية ونحوِها فقط
بل هو تعلّقٌ ما مُصحِّحٌ لانتقال الذهن من المُبدلَ منه إلى
البَدَل بوجه إجماليَ كما فيما نحن فيه فإن كونَه تعالى خالقَ
الأشياء كافةً مالكَ يومِ الدين خاصةً كافٍ في الباب مع أن
الأمرَ بتقوى الله تعالى يتبادر منه إلى الذهن أن المتقى أيُّ
شأنٍ من شئونه وأيُّ فعلٍ من أفعاله وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ
به يتحقق الاشتمال أي اتقوا عقاب الله فحينئذ يجوزُ انتصابُه
منه بطريق الظرفية وقيل منصوبٌ بمضمرٍ معطوفٍ على اتقوا وما
عُطف عليه أي واحذروا أو اذكروا يوم الخ فإن تذكير ذلك اليوم
الهائل مما يُضْطرُّهم إلى تقوى الله عز وجل وتلقِّي أمره بسمع
الإجابة والطاعة وقيل هو ظرفٌ لقولِهِ تَعَالى لاَّ يَهِدِّى
أي لا يهديهم يومئذ إلى طريق الجنة كما يهدي إليه المؤمنين
وقيل منصوب بقوله تعالى واسمعوا بحذف مضاف أي اسمعوا خبرَ ذلك
اليوم وقيل منصوب بفعل مؤخّرٍ قد حُذف للدلالة على ضيق العبارة
عن شرحه وبيانه لكمال فظاعةِ ما يقع فيهِ من الطَّامةِ
التَّامةِ والدواهي العامة كأنه قيل يَوْمَ يَجْمَعُ الله
الرسل فيقول الخ يكونُ من الأحوالِ والأهوال مالا يفي ببيانه
نطاقُ المقال وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمار لتربية
المهابةِ وتشديد التهويل وتخصيصُ الرسل بالذكر ليس لاختصاص
الجمع بهم دون الأمم كيف لا وذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ
الناس وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وقد قال الله تعالى يَوْمَ ندعو
كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم بل لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان
بعدمِ الحاجة إلى التَّصريحِ بجمعِ غيرِهم بناءً على ظهور
كونهم أتباعاً لهم ولإظهار سقوطِ منزلتهم وعدم لياقتهم
بالانتظام في سلك جمع السرل كيف لا وهم عليهم السلام يُجمعون
على وجه الإجلال وأولئك يسحبون على وجوههم بالأغلال
{فَيَقُولُ} لهم مشيراً إلى خروجهم عن عُهدة الرسالة كما ينبغي
حسبما يُعربُ عنه تخصيصُ السؤال بجواب الأمم إعراباً واضحا إلا
لصدر الخطاب بأن يقال هل بلغتنم رسالاتي وماذا في قولِه عزَّ
وجلَّ {مَاذَا أَجَبْتُمُ} عبارةٌ عن مصدر الفعل فهو نصْبٌ على
المصدرية أيْ أيَّ إجابةٍ أُجبتم من جهة أُممِكم إجابةَ قَبول
أو إجابةَ قَبول أو إجابةَ رد وقيل عبارة عن الجواب فهو في محل
النصب بعد حذف الجارِّ عنه أيْ بأيِّ جوابٍ أجبتم وعلى
التقديرين ففي توجيه السؤال عما صدرَ عنهم وهم شهودٌ إلى
الرُّسلِ عليهم السَّلامُ كسؤال الموءودة بمَحْضرٍ من الوائد
والعدولِ عن إسناد الجواب إليهم بأن يقال ماذا أجابوا من
الأنباء عن كمال تحقيرِ شأنهم وشدة الغيظ والسُّخط عليهم ما لا
يخفي {قالوا} استئنماف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه
قيل فماذا يقول الرسل عليهم السلام هنالك فقيل يقولون {لاَ
عِلْمَ لَنَا} وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التقرر والتحقق كما
في قوله تعالى وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب الاعراف ونظائرِهما
وإنما يقولون ذلك تفويضاً للأمر إلى علمه تعالى وإحاطتِه بما
اعتراهم من جهتهم من مقاساة الأهوال ومعاناة الهموم والأوجال
وعَرْضاً لعجزهم عن بيانه لكثرته وفظاعتِه {إِنَّكَ أَنتَ
علامُ الغيوب} تعليل لذلك أي فتعلَمُ ما أجابوا وأظهروا لنا
وما لم نعلمْه مما أضمَروه في قلوبهم وفيه إظهارٌ للشَّكاةِ
وردّ للأمر إلى علمه تعالى بما لَقُوا من قبلهم من
(3/93)
المائدة آية 110
الخطوب وكابدوا من الكروب والتجاءٌ إلى ربهم في الانتقام منهم
وقيل المعنى لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا وإنما الحكم للخاتمة
ورُدَّ ذلك بأنهم يعرفونهم بسيماهم فكيف يخفى عليهم أمرُهم
وأنت خبير بأن مُرادهم حينئذ أن بعضهم كانوا في زمانهم على
الحق ثم صاروا كَفَرة وعن ابن عباس ومجاهد والسدي رضي الله
عنهم أنهم يفزَعون من أول الأمر ويذهَلون عن الجواب ثم يجيبون
بعد ما ثابت إليهم عقولُهم بالشهادة على أممهم ولا يلائمه
التعليل المذكور وقيل المرادُ به المبالغةُ في تحقيق فضيحتهم
وقرىء علامَ الغيوب بالنصب على النداء أو الاختصاص بالمدح على
أنَّ الكلامَ قد تمَّ عند قولِه تعالى أَنتَ أي إنك أنت
المنعوتُ بنعوتِ كمالِك المعروفُ بذلك
(3/94)
إِذْ قَالَ اللَّهُ
يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى
وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي
فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ
الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ
الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
{إذ قال الله يا عِيسَى ابن مَرْيَمَ}
شروعٌ في بيان ما جرى بينه تعالى وبين واحد من الرسل المجموعين
من المفاوضة على التفصيلِ إثرَ بيان ما جرى بينه تعالى وبين
الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأُنموذج لتفاصيلِ أحوال
الباقين وتخصيصُ شأن عيسى عليه السلام بالبيان تفصيلاً من بين
شئون سائر الرسل عليهم السلام مع دلالتها على كمال هو ل ذلك
اليوم ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل لما أنه شأنه عليه
السلامُ متعلِّقٌ بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نُعِيتْ
عليهم في السورة الكريمة جناياتُهم فتفصيلُه أعظمُ عليهم
وأجلبُ لحسرتهم وندامتِهم وأفتُّ في أعضادهم وأدخَلُ في صرفهم
عن غيهم وعنادهم وإذ بدلٌ من يومَ يجمع الله الخ وصيغة الماضي
لما ذُكر من الدلالة على تحقق الوقوع وإظهارُ الاسمِ الجليلِ
في مقام الإضمار لما مر من المبالغة في التهويل وكلمة على في
قوله تعالى {اذكر نِعْمَتِى عَلَيْكَ وعلى والدتك} متعلقة بنفس
النعمة إن جُعلت مصدراً أي اذكر إنعامي عليكما أو بمحذوفٍ هو
حالٌ منها إنْ جُعلت اسماً أي اذكر نعمتي كائنة عليكما وليس
المرادُ بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك
التعديد تكليفَه عليه السلام شكرَها والقيامَ بمواجبها ولاتَ
حينَ تكليف مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوانه أيَّ
خروج بل إظهارَ أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه
الله تعالى اعتداداً بها وتلذذا بذكرها على رءوس الأشهاد لتكون
حكايةُ ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخاً ومزجرةً
للكفرة المختلفين في شأنه عليه السلام إفراطاً وتفريطاً
وإبطالاً لقولهما جميعاً {إِذْ أَيَّدتُّكَ} ظرف لنعمتي أي
اذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لك أو حال منها أي اذكرها كائنة
وقت تأييدي لك وقرىء آيدتُك والمعنى واحد أي قويتك {بِرُوحِ
القدس} بجبريلَ عليه السلام لتثبيت الحجة
(3/94)
المائدة آية 110
أو باكلام الذي يحيى به الدين وإضافته إلى القدس لأنه سبب
الطهر عن أوضار الآثام أو يحيى به الموتى أو النفوسُ حياةً
أبدية وقيل الأرواحُ مختلفةُ الحقائق فمنها طاهرةٌ نورانية
ومنها خبيثةٌ ظُلمانية ومنها مشرقةٌ ومنها كَدِرةٌ ومنها حُرة
ومنها نذْلة وكان روحه عليه السلام طاهرةً مشرقةً نورانية
عُلوية وأيا ما كان غهو نعمة عليهما {تُكَلّمُ الناس فِى المهد
وَكَهْلاً} استئناف مبين لتأييده عليه السلام أو حال من الكاف
وذكر تكليمه عليه السلام في حال الكهولة لبيان أن كلامه عليه
السلام في تينك الحالتين كان على نسق واحد بديعٍ صادراً عن
كمال العقل مقارِناً لرزانة الرأي والتدبير به واستدل على أنه
عليه السلام سينزِل من السماء لِما أنه عليه السلامُ رفع قبل
التكهُّل قال ابن عباس رضي الله عنهما أرسله الله تعالى وهو
ابن ثلاثين سنة ومكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه اللع = هـ
تعالى إليه {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب} عطف على قوله تعالى
إِذْ أَيَّدتُّكَ منصوب بما نصبه أي اذكر نعمتي عليكما وقت
تعليمي لك والكتاب {والحكمة} أي جنسهما {والتوراة والإنجيل}
خُصا بالذكر مما تناوله الكتابُ والحكمةُ إظهاراً لشرفهما وقيل
الخطُّ والحكمةُ الكلام اتلمحكم الصواب {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ
الطين كَهَيْئَةِ الطير} أي تُصوَّر منه هيئةً مماثلة لهيئة
الطير {بِإِذْنِى} بتسهيلي وتيسيري لا على أنْ يكونَ الخلقُ
صادراً عنه عليه السلام حقيقة بل على أن يظهر ذلك يده عليه
السلام عند مباشرة السباب مع كون الخلق حقيقةً لله تعالى كما
قيل عنه قوله تعالى {فَتَنفُخُ فِيهَا} أي في الهيئة المصوَّرة
{فَتَكُونُ} أي تلك الهيئة {طَيْراً بِإِذْنِى} فإن إذنه تعالى
لو لم يكن عبارةً عن تكوينه تعالى للطير بل عن محضِ تيسيره مع
صدور الفعل حقيقةً عما أُسند إليه لكان هذا تكوّناً من جهة
الهيئة وتكريرُ قوله بِإِذْنِى في الطير مع كونه شيئاً واحداً
للتنبيهِ على أنَّ كلاً من التصوير والنفخ أمرٌ معظّم بديعٌ لا
يتسنى ولا يترتب عليه شيء إلا بإذنه تعالى {وتبرئ الاكمه
والابرص بِإِذْنِى} عطف على تخلُق {وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى
بِإِذْنِى} عطف على إذ تخلق أعيد فيه إذْ لكون إخراج الموتى من
قبورهم لا سيما بعد ما صارت رميماً معجزةً باهرةً ونعمةً جليلة
حقيقةً بتذكير وقتها صريحاً قيل أخرج سامَ بنَ نوح ورجلين
وامرأةً وجاريةً وتكرير قوله بإذنى في المواضع الأربعة
للاعتناء بتحقيق الحق ببيان أن تلك الخوارقَ ليست من قبل عيسى
عليه الصلاة والسلام بل من جهته سبحانه قد أظهرها على يديه
معجزةً له ونعمةً خصَّها به وأما ذكرُه في سورة آلِ عِمرانَ
مرتين لما أن ذلك موضعُ الإخبار وهذا موضعُ تعداد النعم
{وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إسرائيل عَنكَ} عطف على إذ تخرج أي
منعت الهود الذين أرادوا بك السوء عن التعرُّض لك {إِذْ
جِئْتَهُمْ بالبينات} بالمعجزات الواضحة ممَّا ذُكر ومَا لم
يُذكر كالإخبار بما يأكلون وما يدّخِرون في بيوتهم ونحوِ ذلك
وهو ظرفٌ لكففت لكن لا باعتبار المجيء بها فقط بل باعتبار ما
يعقبُه منْ قولِه تعالى {فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ
إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} فإن قولهم ذلك مما يدل على
أنهم قصدوا اغتيالَه عليه السلام المُحوِجَ إلى الكف أي
كففتُهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئِك إياهم بالبينات وإنما
وضع ضميرِهم الموصولُ لذمِّهم بما في حيِّز الصلة فكلمة من
بيانية وهذا إشارةٌ إلى ما جاءَ به والتذكير لأن إشارتهم إلى
ما رأَوْه من نفس المسمّى من حيث هو أو من حيث هو سحر لا من
حيث هو مسمى بالبينات وقرىء إن هذا إلا ساحر
(3/95)
المائدة آية 111 112
مبين فهذا حينئذ إشارة إلى عيسى عليه السلام
(3/96)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ
إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا
آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} عطف
على ما قبله من أخواتها الواقعةِ ظروفاً للنعمة التي أُمر
بذكرها وهي وإن كانت في الحقيقة عينُ ما يُفيده الجمل التي
أضيف إليها تلك الظروفُ من التأييد بروح القدس وتعليم الكتاب
والحكمة وسائرِ الخوارق المعدودة لكنها لمغايَرَتها لها
بعنوانٍ منْبىءٍ عن غاية الإحسان أُمر بذكرها من تلك الحيثية
وجُعلت عاملةً في تلك الظروف لكفاية المغايَرَة الاعتبارية في
تحقيق ما اعتُبر في مدلول كلمةِ إذ من تعدد النسبة فإنه ظرف
موضوعٌ لزمان نسبتين ماضيتين واقعتين فيه إحداهما معلومةُ
الوقوعِ فيه للمخاطَب دون الأخرى فيُراد إفادةُ وقوعها أيضاً
له فيضاف إلى الجملة المفيدة للنسبة الأولى ويجعل ظرفاً
معمولاً للنسبة الثانية ثم قد تكون المغايَرةُ بين النسبتين
بالذات كما في قولك اذكر إحساني إليك إذ أحسنتَ إليّ تريد
تنبيهَ المخاطَب على وقوع إحسانك إليه وقت وقوع إحسانه إليك
وهما نسبتان متغايرتان بالذات وقد تكون بالاعتبار كما في قولك
اذكرإحساني إليك غذ منعتُك من المعصية تريد تنبيهه على كون
منعه إحساناً إليه لا على إحسانٍ آخرَ واقعٍ حينئذ ومن هذا
القبيل عامةُ ما وقع في التنزيل من قوله تعالى يا قوم اذكروا
نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء
وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً الآية وقولِه تعالى يايها الذين آمنوا
اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن
يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنكُمْ إلى غير ذلك من النظائر ومعنى إيحائه تعالى إليهم
أمرُه تعالى إياهم في الإنجيل على لسانه عليه السلام وقيل
إلهامُه تعالى إياهم كما في قوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ
موسى وأنْ في قولِه تعالَى {إن آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي}
مفسِّرة لما في الإيحاء من معنى القول وقيل مصدرية وإيرادعه
عليه السلام بعنون الرسالة للتنبيه على كيفية الإيمان به عليه
السلام كأنه قيل ى منوا بوحدانيتي في الألوهية والربوبية
وبرسالة رسولي ولا تُزيِّلوه عن حيِّزه حطّاً ولا رفعاً وقولُه
تعالى {قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من سوق الكلام
كأنه قيل فماذا قالوا حين أوحِيَ إليهم ذلك فقيل قالوا {آمنّا}
أي بما ذُكر من وحدانيته تعالى وبرسالة رسولِه كما يُؤذِنُ به
قولهم {واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} أي مخلِصون في إيماننا
مِنْ أَسْلَمَ وجهَه لِلَّهِ وهذا القولُ منهم بمقتضى وحيه
تعالى وأمرِه لهم بذلك نعمةٌ جليلة كسائر النعمم الفائضة عليه
عليه الصلاة والسلام وكل ذلك نعمةٌ على والدته أيضاً رُوي أنه
عليه السلام لما علم أنه سيُؤمر بذكر هاتيك النعم العِظامِ جعل
يلبَسُ الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئاً لغد يقول لكل يوم
رزقُه لم يكن له بيت فيخرَبَ ولا ولد فيموتَ أينما أمسى بات
(3/96)
إِذْ قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ
رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ
قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
{إِذْ قَالَ الحواريون} كلامٌ مستأنفٌ
مَسوقٌ لبيانِ بعض ما جَرَى بينَهُ عليهِ السلام وبين قومه
منقطعٌ عما قبله كما يُنبىء عنه الإظهارُ في موقعِ الإضمارِ
وإذ منصوبٌ بمضمرٍ خُوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم بطريق
تلوين الخطاب والالتفات لكن لا لأن الخطاب السابق لعيسى عليه
(3/96)
المائدة آية 113
السلام فإنه ليس بخطاب وإنما هو حكايةُ خطاب بل لأن الخطابَ
لمن خوطب بقوله تعالى واتقوا الله الآية فتأمل كأنه قيل للنبي
صلى الله عليه وسلم عَقيبَ حكايةِ ما صدرَ عن الحواريين من
المقالة المعجودة من نعمِ الله تعالَى الفائضة عَلَى عيسَى
عليهِ السَّلامُ اذكُر للناس وقت قولهم الخ وقيل هو ظرف لقالوا
أريد به التنبيهُ على أن ادعاءَهم الإيمانَ والإخلاصَ لم يكن
عن تحقيقٍ وإيقان ولا يساعده النظمُ الكريم {يا عيسى ابن
مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا
مَائِدَةً مّنَ السماء} اختلف في أنهم هل كانوا مؤمنين أو لا
فقيل كانوا كافرين شاكّين في قدرةَ الله تعالى على ما ذَكَروا
وفي صدْقِ عيسى عليه السلام كاذبين في دعوى الإيمان والإخلاص
وقيل كانوا مؤمنين وسؤالُهم للاطمئنان والتثبّت لا لإزاحة الشك
وهل يستطيع سؤال عن الفعل دون القدرة عليه تعبيراً عنه بلازمه
وقيل الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة لا على ما
تقتضيه القدرة وقيل المعنى هل يطيع ربك بمعنى هل يجيبك واستطاع
بمعنى أطاع كاستجاب بمعنى أجاب وقرىء هل تستطيعُ ربَّك أي سؤال
ربك والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارفٍ يصرِفك عنه وهي قراءة
علي وعائشةَ وابن عباس ومعاذ رضي الله عنهم وسعيدِ بن جبير في
آخرين والمائدة الخِوانُ الذي عليه الطعام من مالده إذا أعطاه
ورفدَه كأنها تَميدُ مَنْ تُقدَّم إليه ونظيرُه قولهم شجرة
مطعمة وقال أبو عبيد هي فاعلة بمعنى مفعول كعيشة راضية {قال}
أاستئناف مبني على سؤال ناشىءٍ مما قبله كأنه قيل فماذا قال
لهم عيسى عليه السلام حين قالوا ذلك فقيل قال {اتقوا الله} أي
من أمثال هذا السؤال {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي بكمال قدرته
تعالى وبصِحّة نبوتي أو إن صَدَقتم في ادّعاء الإيمانِ
والإسلام فإنَّ ذلكَ ممَّا يوجبُ التقوى والاجتناب عن أمثال
هذه الاقتراحات وقيل أمرهم بالتقوى ليصير ذلك ذريعة لحصول
المسئول كقوله تعالَى وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ
مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يحتسبُ وقوله تعالى
يأَيُّهَا الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة
(3/97)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ
نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ
قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ
(113)
{قَالُواْ} استئنافٌ كما سبق {نريد أن نأكل
منها} تمهيدُ عذرٍ وبيانٍ لِمَا دعاهم إلى السؤال أي لسنا نريد
بالسؤال إزاحةَ شُبهتِنا في قدرته سبحانه على تنزيلها أو في
صحة نبوتك حتى يقدحَ ذلك في الإيمان والتقوى بل نريد أن نأكلَ
منها أي أكلَ تبرّكٍ وقيل أكلَ حاجةٍ وتمتُّع {وَتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُنَا} بكمال قدرته تعالى وإن كنا مؤمنين به من قبل فإن
انضمامَ علم المشاهدةِ إلى العلم الاستدلالي مما يوجب ازديادَ
الطُمأنينة وقوةَ اليقين {وَنَعْلَمَ} أي علماً يقينياً لا
يحوم حوله شائبةُ شُبهةٍ أصلاً وقرىء ليُعْلَمَ على البناء
للمفعول {أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} أنْ هيَ المخففةُ منَ أن وضمير
الشأن محذوف أي ونعلم أنه قد صدقتنا في دعوى النبوة وأن الله
يُجيب دعوتنا وإن كنا عالمين بذلك من قبل {وَنَكُونَ عَلَيْهَا
مِنَ الشاهدين} نشهد عليها عند الذين لم يحضُروها من بني
إسرائيل ليزدادَ المؤمنون منهم بشهادتنا طُمأنينةً ويقيناً
ويؤمنَ بسببها كفارُهم أو من الشاهدين للعَيْن دون السامعين
للخبر وعليها متعلقٌ بالشاهدين إن جُعل اللامُ للتعريف وبيانٌ
لما يشهدون عليه
(3/97)
المائدة 114 115
إن جُعلتْ موصولة كأنه قيل على أي شهيد يشهدون فقيل عليها فإن
ما يتعلق بالصلة لا يتقدم على الموصول أو هو حالٌ من اسم كان
أو هو متعلق بمحذوف يفسره من الشاهدين
(3/98)
قَالَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً
مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا
وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
(114)
{قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ} لما رأى عليه
السلام أن لهم غَرَضاً صحيحاً في ذلك وأنهم لا يُقلعون عنه
أزمعَ على استدعائها واستنزالها وأراد أن يُلزِمَهم الحجةَ
بكمالها رُوي أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل ولبس المِسْح وصلى
ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصرَه ثم قال {اللهم ربنا} ناداه سبحانه
وتعالى مرتين مرةً بوصف الألوهية الجامعةِ لجميع الكمالات
ومرةً بوصف الربوبية المُنْبئةِ عن التربية إظهارا لغاية
التضرّع ومبالغةً في الاستدعاء {أُنزِلَ عَلَيْنَا} تقديمُ
الظرف على قوله {مَائِدَةً} لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم
والتشويق إلى المؤخر وقوله {مّنَ السماء} متعلق بأنزل أو
بمحذوفٍ هو صفةٌ لمائدة أي كائنةً من السماء نازلةً منها وقوله
{تَكُونُ لَنَا عِيداً} في محل النصبُ على أنَّه صفةٌ لمائدة
واسم تكون ضمير المائدة وخبرها إما عيدا ولنا حالٌ منه أو من
ضمير تكون عند من يجوِّز إعمالَها في الحال وإما لنا وعيداً
حال من الضمير في لنا لأنه وقع خبراً فيحمِلُ ضميراً أو من
ضمير تكون عند من يرى ذلك أن يكون يومُ نزولها عيداً نعظمه
وإنما أُسند ذلك إلى المائدة لأن شرَفَ اليوم مستعار من شرفها
وقيل العيدُ السرورُ العائد ولذلك سمِّيَ يومُ العيد عيداً
وقرىء تكن بالجزم على جواب الأمر كما في قوله تعالى فَهَبْ لِى
مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى خلا أن قراءةَ الجزم هناك
متواترة وههنا من الشواذ {لأولنا وآخرنا} بدل من لنا بإعادة
العامل أي عيداً لمتقدمينا ومتأخرينا رُوي أنها نزلت يوم الأحد
ولذلك اتخذخ النصارى عيداً وقيل للرؤساء منا والأتباع وقيل
يأكل منها أولُنا وآخرُنا وقرىء لأُولانا وأُخْرانا بمعنى
الأمة والطائفة {وآية} عطف على عيجا {منك} متعلقٌ بمحذوفٍ هو
صفةٌ لآية أي كائنةً منك دالةً على كمال قدرتك وصحةِ نبوتي
{وارزقنا} أي المائدة أو الشكرعليها {وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين}
تذييلٌ جارٍ مَجْرى التعليل أي خيرُ من يرزق لأنه خالقُ
الأرزاق ومعطيها بلا عِوَض وفي إقباله عليه السلام على الدعاء
بتكرير النداء المُنْبىءِ عن كمال الضراعة والابتهال وزيادته
مالم يخطُرْ ببال السائلين من الأمور الدَّاعيةِ إلى الإجابة
والقَبول دلالةٌ واضحةٌ على أنهم كانوا مؤمنين وأن سؤالهم كان
لتحصيل الطمأنينة كما في قولِ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ رب
أرني كيف تحيى الموتى وإلا لما قبل اعتذارهم بما ذكروه ولما
اضاف غليه من عنده ما يؤكده ويقربه إلى القبول
(3/98)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي
مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ
فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ
الْعَالَمِينَ (115)
{قَالَ الله} استئناف كما سبق {إِنّى
مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ} ورودُ الإجابة منه تعالى بصيغة
التفعيل المُنْبئة عن التكثير مع كون الدعاء منه عليه السلام
بصيغة الإفعال لإظهار كمال
(3/98)
المائدة آية 115
اللطف والإحسان كما في قوله تعالى قُلِ الله يُنَجّيكُمْ
مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ الخ بعد قوله تعالى لَّئِنْ أنجانا
مِنْ هذه الخ مع ما فيه من مراعاة ما وقعَ في عبارة السائلين
وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعلِ خبرِها اسماً تحقيقٌ
للوعد وإيذان بأنه تعالى منجزٌ له لا محالة من غير صارفٍ
يَثنيه ولا مانعٍ يَلويه وإشعارٌ بالاستمرار أي إني منزلُ
المائدة عليكم مراتٍ كثيرة وقرىء بالتخفيف وقيل الإنزالُ
والتنزيلُ بمعنى واحد {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ} أي بعد تنزيلها
{مّنكُمْ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل يكفرْ {فَإِنّى
أُعَذّبُهُ} بسبب كفره بعد معاينة هذه الآيةِ الباهرة
{عَذَاباً} اسم مصدرٍ بمعنى التعذيب وقيل مصدر بحذف الزوائد
وانتصابه على المصدرية بالتقديرين المذكورين وجَوَّز أن يكون
مفعولاً به على الاتساع وقوله تعالى {لاَّ أُعَذّبُهُ} في محل
النصبُ على أنَّه صفةٌ لعذاباً والضمير له أي أعذبه تعذيباً لا
أعذب مثل ذلك التعذيب {أَحَداً مّن العالمين} أي من عالَمِي
زمانِهم أو من العالمين جميعاً قيل لما سمعوا هذا الوعيد
الشديد خافوا أن يكفر بعضُهم فاستعفَوْا وقالوا لا نريدها فلم
تنزِلْ وبه قال مجاهدٌ والحسن رحمهما الله والصحيحُ الذي عليه
جماعير الأمة ومشاهيرُ الأئمة أنها قد نزلت روي أنه عليه
السلام لما دعا بما دعا وأُجيب بما أجيب إذا بسفْرةٍ حمراءَ
نزلت بين غمامتين غمامةٌ من فوقها وغمامةٌ من تحتها وهم ينظرون
إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال
اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمةً للعالمين ولا
تجعلها مُثْلةً وعقوبة ثم قام وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل
وقال بسم الله خيرِ الرازقين فإذا سَمَكةٌ مشوية بلا فلوس ولا
شَوْك تسيل دسَماً وعند رأسها مِلْحٌ وعند ذنبها خَلٌّ وحولها
من ألوان البقول ما خلا الكُرَّاثَ وإذا خمسةُ أرغفةٍ على واحد
منها زيتونٌ وعلى الثاني عَسَلٌ وعلى الثالث سَمْنٌ وعلى
الرابع جُبْنٌ وعلى الخامس قدَيدٌ فقال شمعون رأس الحوالريين
يا روحَ الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة قال ليس منهما
ولكنه شيء اخترعه الله تعالى بالقُدرة العالية كلوا ما سألتم
واشكروا يُمدِدْكم الله ويزِدْكم من فضله فقالوا يا روحَ الله
لو أَرَيتَنا من هذه الآية آيةً أخرى فقال يا سمكةُ احْيَيْ
بإذنِ الله فاضطربت ثم قال لها عُودي كما كنت فعادَتْ مشويةً
ثم طارت المائدة ثكم عصو فمسخو قردةً وخنازيرَ وقيل كانت
تأتيهم أربعين يوماً غِباً يجتمع عليها الفقراء والأغنياء
والصغار والكبار يأكلون حتى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون في
ظلها ولم يأكل منها فقير إلا غَنِيَ مدةَ عُمُرِه ولا مريضٌ
إلا برِىءَ ولم يمرَضْ أبداً ثم أوحى اللَّهُ تعالى إلى عيسى
عليه الصلاة والسلام أنِ اجعلْ مائدتي في الفقراء والمرضَى دون
الأغنياء والأصحاء فاضطربت الناسُ لذلك فمُسِخَ منهم من مُسِخَ
فأصبحوا خنازيرَ يسعَوْن في الطرقات والكُناسات ويأكلون
العَذِرة في الحُشوش فلما رأى الناس ذلك فزِعوا إلى عيسى عليه
والسلام وبكوا على الممسوخين فلما أبصرت الخنازيرُ عيسى عليه
السلام بكتْ وجعلت تطيف به وجعل يدعوهم بأسمائهم واحد بعد واحد
فيبكون ويسيرون برءوسهم ولا يقدِرون على الكلام فعاشوا ثلاثةَ
أيام ثم هلَكوا ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ
عيسى عليه السلام قالا لهم صوموا ثلاثين يوماً ثم سَلوا الله
ما شئتم يُعطِكم فصاموا فلما فرَغوا قالوا إنا لو عمِلنا لأحدٍ
فقضَيْنا عملَه لأطعَمَنا وسألوا الله تعالى المائدة فأقبلت
الملائكةُ بمائدة يحمِلونها عليها سبعةُ أرغفةٍ وسبعةُ أحواتٍ
حتى وضعتْها بين أيديهم فأكل منها آخِرُ الناس كما أكل منها
أولهم قال طكعب نزلت منكوسةً تطير بها
(3/99)
المائدة آية 1167
الملائكةُ بين السماء والأرض عليها كلُّ الطعام إلا اللحمَ
وقال قتادة كان عليها ثمرٌ من ثمار الجنة وقال عطيةُ العوفي
نزلت من السماء سمكةٌ فيها طعمُ كل شيء وقال الكلبي نزلت سمكةٌ
وخمسةُ أرغفةٍ فأكلوا ما شاء الله تعالى والناس ألفٌ ونيِّفٌ
فلما رجعوا إلى قُراهم ونشروا الحديث ضحك منهم من لم يشهَدْ
وقالوا ويحكم إنما سحر أعينك فمن أراد الله به الخيرَ ثبّته
على بصيرة ومن أراد فتنته رجَع إلى كفره فمُسخوا خنازيرَ
فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يتوالدوا ولم يأكُلوا ولم
يشربوا وكذلك كلُّ ممسوخ
(3/100)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ
يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ
اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ
سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي
بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا
فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
{وإذ قال الله يا عيسى ابن مَرْيَمَ} معطوف
على إذ قال الحواريون منصوب بما نصبه من المضمر المخاطب به
النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم أو بمُضمر مستقلَ معطوفٍ على
ذلك أي اذكُرْ للناس وقت قولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ له عليهِ
السَّلامُ في الآخرة توبيخاً للكَفَرة وتبكيتاً لهم بإقراره
عليه السلام على رءوس الأشهاد بالعبودية وأمرُه لهم بعبادته عز
وجل وصيغة الماضي لما مرَّ من الدِلالة على التحقق والوقوع
{أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين} الاتخاذُ
إما متعدَ إلى مفعولين فإلهين ثانيهما وإما إلى واحدٍ فهو حالٌ
من المفعول وليس مدارُ أصل الكلامِ أن القول متيَقَّنٌ
والاستفهامَ لتعيين القائل كما هو المتبادَرُ من إيلاء الهمزو
المُبتدأ على الاستعمال الفاشي وعليه قوله تعالى أأنت فعلت هذا
بآلهتنا ونظائرُه بل على أن المتيقَّنَ هو الاتخاذُ
والاستفهامُ لتعيين أنه بأمره عليه السلام أو من تلقاءِ
أنفسِهم كما في قوله تعالى أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أو هُمْ
ضَلُّوا السبيل وقوله تعالى {مِن دُونِ الله} متعلق بالاتخاذ
ومحله النصب على اية حال من فاعله أي متجاوزين الله أو بمحذوفٍ
هو صفة لإلهين أي كائنيْن من دونه تعالى وأيا ما كان فالمرادُ
اتخاذُهما بطريق إشراكهما به سبحانه كما في قوله تعالى وَمِنَ
الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أندادا وقوله عز وجل
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ
يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله إلى قوله
سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ إذْ به يتأتّى التوبيخُ
ويتسنّى التقريعُ والتبكيت ومَنْ توهم أن ذلك بطريق الاستقلال
ثم اعتذر عنه بأن النصارى يعتقدون أن المعجزاتِ التي ظهرت على
يد عيسى ومريمَ عليهما الصلاة والسلام لم يخلُقْها الله تعالى
بل هم خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين
مستقلَّيْن ولم يتخذوه تعالى إلها في حق ذلك البعض فقد أبعد عن
الحق بمراحِلَ وأما من تعمق فقال إن عبادته تعالى مع عبادة
غيره كلا عبادةٍ فمن عبده تعالى مع عبادتهما كأنه عبدهما ولم
يعبُده تعالى فقد غفَل عما يجد به واشتغل بما لا يَعْنيه كدأب
مَنْ قبلةَ فإن توبيخهم إنما يحصُل بما يعتقدونه ويعترفون به
صريحاً لا بما يلزَمُه بضربٍ من التأويل وإظهارُ الاسم الجليل
لكونه في حيِّز القولِ المُسند إلى عيسى عليه السلام {قَالَ}
استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل فماذا يقول
عيسى عليه السلام حينئذ فقيل يقول وإيثارُ صيغة الماضي لما مرّ
مراراً {سبحانك} سبحان عَلمٌ للتسبيح وانتصابُه على المصدريّةِ
ولا يكاد يذكر ناصبه
(3/100)
المائدة آية 117
وفيهِ من المبالغةِ في التنزيه من حيث الاشتقاقُ من السبْح
الذي هو الذهابُ وافبعاد في الأرض ومن جهة النَّقلِ إلى صيغة
التَّفعيلِ ومن جهة العدولِ من المصدر إلى الاسمِ الموضوع له
خاصةً المشيرِ إلى الحقيقةِ الحاضرةِ في الذِّهنِ ومن جهة
إقامتهِ مُقامَ المصدرِ مع الفعل ما لا يخفى أي أنزهك تنزيهاً
لائقاً بك من أن أقول ذلك أو من أن يقالَ في حقك ذلك وأما
تقديرُ مِن أنْ يكونَ لك شريكٌ في الألوهية فلا يساعده سياق
النظم الكريم وسياقُه وَقَوْلُه تعالى {مَا يَكُونُ لِى أَنْ
أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ} استئنافٌ مقرِّر للتنزيه ومبين
للمنزه منه وما عبارة عن القول المذكور أي ما يستقيم وما ينبغي
لي أن أقول قولاً لا يحِقّ لي أن أقوله وإيثارُ ليس على الفعل
المنفيِّ لظهور دلالتِه على استمرار انتفاءِ الحقية وإفادةِ
التأكيد بما في حيزه من الباء فإن اسمه ضميرُه العائد إلى ما
وخبرَه بحق والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين كما في سُقياً
لك ونحوه وقوله تعالى {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}
استئناف مقرِّرٌ لعدم صدورَ القولِ المذكورِ عنه عليه السلام
بالطريق البرهاني فإن صدورَه عنه مستلزِمٌ لعلمه تعالى به
قطعاً فحيثُ انتفى علمُه تعالى به انتفى صدورُه عنه حتماً
ضرورةَ أن عدمَ اللازم مستلزِمٌ لعدم الملزوم {تَعْلَمُ مَا
فِى نَفْسِى} استئنافٌ جارٍ مجرى التَّعليلِ لما قبله كأنه قيل
لأنك تعلم ما أُخفيه في نفسي فكيف بما أُعلنُه وقوله تعالى
{وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ} بيانٌ للواقع وإظهارٌ
لقصوره أي ولا أعلم مات تُخفيه من معلوماتك وقوله فِى نَفْسِكَ
للمشاكلة وقيل المرادُ بالنفس هو الذاتُ ونسبةُ المعلومات
إليها لما أنها مرجعُ الصفات التي من جملتها العلمُ لمتعلق بها
فلم يكن كنسبتها إلى الحقيقة وقوله تعالى {إِنَّكَ أَنتَ علامُ
الغيوب} تعليلٌ لمضمون الجملتين منطوقاً ومفهوماً وقوله تعالى
(3/101)
مَا قُلْتُ لَهُمْ
إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي
وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ
فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ
وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى
بِهِ} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما صدر عنه قد أُدرج فيه عدمَ
صدورِ القول المذكورِ عنه على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه حيثُ حكم
بانتفاء صدور جميع الأقوالِ المغايِرَةِ للمأمور به فدخل فيه
انتفاء صدور القولِ المذكور دخولاً أولياً أي ما أمرتُهم إلا
بما أمرتني به وزإنما قيل ما قلت لهم نزولاً على قضية حسن
الأدب ومراعاةً لما ورد في الاستفهام وقولُهُ تعالَى {أَنِ
اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ} تفسيرٌ للمأمور به وقيل عطفُ
بيانٍ للضمير في به وقيل بدلٌ منه وليس من شرط البدل جوازُ
طرحِ المُبْدَل منه مُطلقاً ليلزَمَ بقاءُ الموصول بلا عائد
وقيل خبر مضمر او مفعول مثل عو أو أعني {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ
شَهِيداً} رقيباً أراعي أحوالهم وأحمِلُهم على العمل بموجب
أمرك وأمنعهم عن المخالفة أو مشاهداً لأحوالهم من كفر وإيمان
{مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} ما مصدرية ظرفية تقدَّر بمصدرٍ مضافٍ
إليه زمانٌ ودمت صلتها أي كنت شهيداً عليهم مدة دوامي فيما
بينهم {فَلَمَّا توفيتني} بالرفع إلى السمالء كما في قوله
تعالى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ فإن التوفيَ أخذُ
الشيء وافياً والموتُ نوع منه قال تعالى الله يَتَوَفَّى
الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا
{كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} لا غيرَك فأنت ضميرُ
الفصل أو تأكيدٌ وقرىء الرقيبُ بالرفع على أنه خبرُ أنت
والجملة خبرٌ لكان وعليهم
(3/101)
المائدة آية 118 119
متعلق به أي أنت كنت الحافظَ لأعمالهم والمراقبَ فمنعت من أدرت
عِصْمتَه عن المخالفة بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها
بإرسال الرسل وإنزال الآياتِ وخذَلْتَ من خذلتَ من الضالين قال
ما قالوا {وَأَنتَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ} اعتراضٌ تذييليٌّ
مقرِّرٌ لما قبله وفيهِ إيذانٌ بأنَّه تعالَى كان هو الشهيدَ
على الكل حين كونِه عليه السلام فيما بينهم وعلى متعلقةٌ بشهيد
والتقديم لمراعاة الفاصلة
(3/102)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ
فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
{إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}
وقد استحقوا ذلك حيث عبدوا غيرك {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ
فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز} أي القويُّ القادرِ على جميع
المقدوراتِ ومن جملتهات الثوابُ والعقاب {الحكيم} الذي لا
يُريد ولا يفعلُ إلا ما فيهِ حكمةٌ ومصلحةٌ فإن المغفرة
مستحسَنة لكل مجرم فإن عذّبت فعدلٌ وإن غفرت ففَضْلٌ وعدمُ
غفرانِ الشرك إنما هو بمقتضى الوعيد فلا امتناعَ فيه لذاته
ليمنعَ الترديد وقيل الترديدُ بالنسبة إلى فرقتين والمعنى إن
تعذبْهم أي مَنْ كفر منهم وإن تغفرْ لهم أي من آمن منهم
(3/102)
قَالَ اللَّهُ هَذَا
يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
{قَالَ الله} كلامٌ مستأنَفٌ خَتَم به
حكايةَ ما حُكيَ مما يقعُ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسلَ عليهم
الصَّلاةُ والسَّلامُ وأُشير إلى نتيجته ومآله أي يقولُ الله
تعالَى يومئذ عَقيبَ جواب عيسى عليه السلام مشيراً إلى صدقه في
ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم وصيغة الماضي لما مر
في نظائره مراراً وقوله تعالى {هذا} غشارة إلى ذلك اليوم وهو
مبتدأ خبرُه ما بعده أي هذا اليوم الذي حُكيَ بعضُ ما يقع فيه
إجمالاً وبعضُه تفصيلاً {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين} بالرفع
والإضافة والمراد بالصادقين كما يُنبىء عنه الاسمُ المستمرّون
في الدارين على الصدق في الأمور الدينية التي معظمُها التوحيدُ
الذي نحن بصدده والشرائعُ والأحكام المتعلقة به من الرسل
الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك وبه تحصُل الشهادةُ
بصِدْق عيسى عليه السلام ومن المم المصدِّقين لهم المقتدين بهم
عقدا وعملا به يتحقق المقصودُ بالحكاية من ترغيب السامعين في
الإيمان برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم لا كلِّ من صدَقَ في
أي شيء كان ضرورةَ أن الجانِيَ المعترِفَ في الدنيا بجِنايته
لا ينفعه يومئذ واعتبارُ استمراره في الدارين مع أنه لا حاجة
إليه كما عرفت ولا دخل له في استتباع النفع والجزاء مما لا
وجهَ لَهُ وهذه القراءةُ هي التي أطبق عليها الجمهورُ وهي
الأليق بسياق النظم الكريم وسياقه وقد قرىء يومَ بالنصب إما
على أنه ظرف لقال فهذا حينئذ إشارةٌ إلى قوله تعالى أَأَنتَ
قُلتَ الخ وإما على أنه خبرٌ لهذا فهو حينئذ إشارة إلى جواب
عيسى عليه السلام أي هذا الجواب منه عليه السلام واقعٌ يوم
ينفع الخ أو إلى السؤال والجواب معاً وقيل هو خبر ولكنه بني
على الفتح وليس بصحيح عند البصريين لأنه مضافٌ إلى متمكنَ
وقرىء يومٌ بالرفع والتنوين كقوله تعالى واتقوا يَوْمًا لاَّ
تَجْزِى الآية {لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار
خالدين فِيهَا أَبَداً} استئناف مَسوقٌ لبيان النفع المذكور
كأنه قيل
(3/102)
المائدة آية 120
ما لهم من النفع فقيل لهم نعيمٌ دائم وثوابٌ خالد وقولُه
تَعَالى {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} استئنافٌ آخر لبيان انه عز
وجل أفاض عليهم غيرَ ما ذُكر من الجنات ما لا قدْرَ لها عنده
وهو رضوانُه الذي لا غايةَ وراءَه كما ينبىء عنه قوله تعالى
{وَرَضُواْ عَنْهُ} إذ لا شيء أعزُّ منه حتى يمتدَّ إليه
أعناقُ الهممِ {وذلك} إشارةٌ إلى نيل رضوانه تعالى وقيل إلى
نيل الكل {الفوز العظيم} لما أن عِظَمَ شأنِ الفوز تابعٌ
لعِظَم شأن المطلوب الذي تعلّق به الفوز وقد عرفت أن لا مطلبَ
وراء ذلك أصلاً وقوله تعالى
(3/103)
لِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
{لله ملك السماوات والارض وَمَا فِيهِنَّ}
تحقيقٌ للحقِّ وتنبيهٌ على كذِب النصارى وفسادِ ما زعَموا في
حق المسيحِ وأمِّه أي له تعالى خاصة مُلْكُ السموات والأرض وما
فيهما من العُقلاء وغيرِهم يتصرَّفُ فيها كيف يشاء إيجاد
وإعداماً وإحياءً وإماتة وأمراً ونهياً من غير أن يكون لشيء من
الأشياء مدخلٌ في ذلك وفي غيثار ما على من المختصة بالعقلاء
على تقدير تناولها للكل مراعاةٌ للأصل وإشارةٌ إلى تساوي
الفريقين في استحالة الربوبية حسَب تساويهما في تحقيق
المربوبية وعلى تقدير اختصاصِها بغير العقلاء تنبيهٌ على كمال
قصورهم عن رتبة الألوهية وإهانة بهم بتغليب غيرِهم عليهم
{وَهُوَ على كُلّ شَىْء قدير} منَ الأشياءِ {قَدِيرٌ} مبالِغٌ
في القُدرة عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة
المائدة أُعطِيَ من الأجر عشرَ حسنات ومُحيَ عنه عشرُ سيئات
ورُفع له عشرُ درجات بعدد كل يهوديَ ونصرانيَ يتنفس في الدنيا
(3/103)
|