تفسير أبي السعود إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

الأنعام آية {
سورة الأنعام
ممكية غير ست آيات أو ثلاث من قوله تعالى قُل تَعالُوا أَتلُ وهى مائة وخمس وستون آية
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

(3/104)


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)

{الحمد للَّهِ} تعليقُ الحمدِ المعرَّفِ بلام الحقيقة أولاً باسم الذات الذي عليه يدور كافةُ ما يوجبه من صفات الكمال وإليه يؤُول جميعُ نعوتِ الجلال والجمال للإيذان بأنه عز وجل هو المستحِقُّ له بذاته لما مر من اقاتضاء اختصاصِ الحقيقة به سبحانه لاقتصار جميعِ أفرادِها عليه بالطريق البرهاني ووصفه تعالى ثانياً بما يُنْبىء عن تفصيل بعض موجِباته المنتظمةِ في سلك الإجمالِ من عظائم الآثارِ وجلائلِ الأفعال من قولهِ عزَّ وجلَّ {الذي خلق السماوات والارض} للتنبيه على استحقاقه تعالى لهواستقلاله به باعتبار أفعاله العظائم وآلائِه الجِسام أيضاً وتخصيصُ خلقِهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العُلوية والسُفلية وعامةِ الآلاءِ الجليةِ والخفية التي أجلُها نعمةُ الوجودِ الكافية في إيجاب حمدِه تعالى على كل موجود فكيف بما يتفرَّع عليها من فنون النعم الأنفسية والآفاقية المنوطِ بها مصالحُ العبادِ في المعاش والمعادِ أي أنشأهما على ما هما عليه من النّمط الفائِق والطراز الرائق منطويَتَيْن من أنواع البدائعِ وأصنافِ الروائع على ما تتحيَّر فيه العقولُ والأفكار من تعاجيب العبر والآثار تبصرةً وذكرى لأولي الأبصار وجمعُ السموات لظهور تعدّدِ طبقاتِها واختلاف آثارها وحركاتِها وتقديمُها لشرفها وعلوِّ مكانها وتقدُّمها وجوداً على الأرض كما هي {وَجَعَلَ الظلمات والنور} عطْفٌ على خَلَق مترتب عليه لكون جعلهما مسبوقاً بخلق مَنْشَئِهما ومحلِّهما داخلٌ معه في حكم الإشعار بعِلَّة الحمد فكما أن خلق السموات والأرض وما بينهما لكونه أثراً عظيماً ونعمةً جليلة موجبٌ لاختصاص الحمد بخالقهما جل وعلا كذلك جعلُ الظلماتِ والنور لكونه أمراً خطيراً ونعمةً عظيمةً مقتضٍ لاختصاصه بجاعلهما والجمل هو الإنشاءُ والإبداعِ كالخلقِ خَلا أن ذلك مختصٌّ بالإنشاءِ التكوينيِّ وفيه مَعنى التقديرِ والتسويةِ وهذا عامٌّ له كَما في الآيةِ الكريمةِ وللتشريعيِّ أيضاً كما في قوله تعالى مَا جَعَلَ الله مِن بحيرة الاية وأما ما كان فهو إنباءٌ عن ملابسةِ مفعولِه بشيءٍ آخر بأن بكون فيهِ أولَهُ أوْ مِنْهُ أو نحوُ ذلكَ ملابسةً نصححة لأنْ يتوسَّطَ بينهُمَا شيءٌ من الظروفِ لغواً كانَ أو مستقراً لكنْ لا على أنْ يكونَ عُمدةً في الكلامِ بل قيداً فيهِ كما في قوله عز وجل وجعهل بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وقولُه تعالَى وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وقولِه تعالى واجعل لَّنَا مِن لدنك وليا

(3/104)


الأنعام آية 1
الآيةَ فإنَّ كلَّ واحدٍ من هذهِ الظروفِ إمَّا متعلقٌ بنفسِ الجعلِ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعولِه تقدمتْ عليه لكونِه نكرةً وأياً ما كانَ فهو قيدٌ في الكلامِ حتَّى إذا اقتضَى الحالُ وقوعَه عمدةً فيه يكونُ الجعلُ متعدياً إلى اثنينِ هُو ثانيهما كما في قولِه تعالى يَجْعَلُونَ أصابعهم في آذانهم ورُبَّما يَشتبِهُ الأمرُ فيُظن أنا عمدةٌ فيهِ وهو في الحقيقة قيدٌ بأحدِ الوجهينِ كما سلفَ في قولِه تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً حيث قيل إن الظرف مفعولٌ ثان لجاعل وقد أشير هناك إلى أالذي يقضي به الذوق السليم وتقتضيه جزالةُ النظم الكريم أنه متعلقٌ بجاعل أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المفعول وأن المفعولَ الثانيَ هو خليفة وأن الأول محذوف على ما مر تفصيله وجمعُ الظلمات لظهور كثرةِ أسبابها ومَحالِّها عند الناس ومشاهدتهم لها على التَّفصيلِ وتقديمُها على النور لتقدم الإعدام على المَلَكات مع ما فيه من رعاية حسن المقابلة بين القرينتين وقوله تعالى {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} معطوفٌ على الجملة السابقة الناطقةِ بما مر من موجبات اختصاصِه تعالى بالحمد المستدعي لاقتصار العبادة عليه كما حُقِّق في تفسير الفاتحة الكريمة مَسوقٌ لإنكار ما عليه الكفرة واستبعادِه من مخالفتهم لمضمونها واجترائِهم على ما يَقْضي ببُطلانِه بديهةُ العقولِ والمعنى أنه تعالى كمختص باستحقاق الحمدِ والعبادةِ باعتبار ذاتِه وباعتبار ما فصَّل من شئونه العظيمة الخاصة به الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه ثم هؤلاء الكفرةُ لا يعملون بموجبه ويعدِلون به سبحانه أي يسوُّون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر الذي رأسُه الحمدُ مع كون كا ما سواه مخلوقاً له غيرَ متّصفٍ بشيء من مبادىء الحمد وكلمة ثم لاستبعاد الشرك بعد وضوحِ ما ذُكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه لا بعد بيانه بالآيات التنويلية والموصولُ عبارةٌ عن طائفةِ الكفار جارٍ مَجرى الاسمِ لهام من غير أن يُجعلَ كفرُهم بما يجبُ أنْ يُؤْمَنَ به كلاًّ أو بعضاً عنواناً للموضوع فإن ذلك مُخِلٌّ باستبعاد ما أُسند إليهم من الإشراك والباء متعلقة بيعدلون ووضعُ الربِّ موضعَ ضميرِه تعالى لزيادة التشنيع والتقبيح والتقديم لمزيد الاهتمامِ والمسارعةِ إلى تحقيق مدارِ الإنكار والاستبعادِ والمحافظةِ على الفواصل وتركُ المفعولِ لظهوره أو لتوجيه الإنكارِ إلى نفس الفعل يتنزيله منزلةَ اللازم إيذاناً بأنه المدارُ في الاستبعاد والاستنكار لا خصوصيةُ المفعول هذا هو الحقيقُ بجزالة التنزيل والخليقُ بفخامة شأنه الجليل وأما جعلُ الباء صلةً لكفروا على أنّ يعدلون من العدول والمعنى أن الله حقيقٌ بالحمد على ما خلقه نعمةً على العباد ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمتَه فيردّه أن كفرهم به تعالى لا سيَّما باعتبار ربوبيته تعالى لهم أشدُّ شناعةً وأعظمُ جنايةً من عدولهم عن حمده عز وجل ولتحققه مع إغفاله أيضاً فجعلُ أهونَ الشرَّيْن عُمدةً في الكلام مقصودُ الإفادة وإخراجُ أعظمِهما مُخرجَ القيدِ المفروغِ عنه مما لا عهدَ له في الكلام السديد فكيف بالنظم التنزيلي هَذا وقد قيلَ إنَّه معطوفٌ على خلق اتلسموات والمعنى أنه تعالى خلق ما خلق مما لا يقدِر عليه أحدٌ سواه ثم هم يعدلون به سبحانه ما لا يقدِر على شيءٍ منه لكن لا على قصد أنه صلةٌ مستقلة ليكونَ بمنزلة أن يقالَ الحمدُ لله الذي عدَلوا به بل على أنه داخلٌ تحت الصلة بحيث يكون الكلُّ صلةً واحدة كأنه قيل الحمد لله الذي كان منه تلك النعمُ العظامُ ثم من الكفرة والكفر وأنت خبير بأن ما ينتظِمُ في سلك الصلة المنبئةِ عن موجبات حمده عز

(3/105)


الأنعام آية 2 جل حقُّه أن يكونَ له دخلٌ في ذلك الإنباء ولو في الجملة ولا ريب في أن كفرهم بمعزلٍ منه وادعاءُ أن له دَخْلاً فيه لدلالته على كمال الجود كأنه قيل الحمد لله الذي أنعم بمثل هذه النعمِ العِظام على من لا يحمَده تعسّفٌ لا يساعده النظام وتعكيسٌ يأباه المقام كيف لا ومَساقُ النظم الكريم كما تُفصِحُ عنه الآياتُ الآتية تشنيعُ الكفرة وتوبيخُهم ببيانِ غايةِ إساءتِهم مع نهاية إحسانه تعالى إليهم لا بيانِ نهايةِ إحسانه تعالى غليهم مع غاية إساءتهم في حقه تعالى كما يقتضيه الادعاءُ المذكور وبهذا اتضح أنه لا سبيلَ إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه لما أن حقَّ الصلة أن تكون غيرَ مقصودةِ الإفادة فما ظنُّك بما هو من روادفها وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام فتأمل وكن على الحق المبين

(3/106)


هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)

{هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان بطلان كفرهم بالبعث مع مشاهدتهم لما يوجب الإيمانَ به إثرَ بيانِ بطلانِ إشراكِهم به تعالى مع معاينتهم لموجِبات توحيدِه وتخصيصُ خلقِهم بالذكر من بين سائر دلائل صِحةِ البعث مع أن ما كر من خلقِ السمواتِ والأرضِ من أوضحها وأظهرها كما ورد في قولِه تعالى أَوَلَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم لما أن محل النزاعِ بعثُهم فدلالةُ بدءِ خلقهم على ذلك أظهروهم بشئون أنفسهم أعرفُ والتعامي عن الحجة النيِّرة أقبح والالتفاتُ لمزيد التشنيع والتوبيخ أي ابتدأ خلقَكم منه فإنه المادة الأولى للكل لما أنه منشأ آدم الذي هو ابو البشر وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطَبين لا إلى آدمَ عليه السَّلامُ وهو المخلوقُ منه حقيقةً بأن يقال هو الذي خلق أباكم الخ مع كقاية علمهم بخلقه عليهالسلام منه في إيجاب الإيمانِ بالبعثِ وبطلانِ الامتراءِ لتوضيحِ منهاجِ القياس وللمبالغة في إزاحةِ الاشتباه والالتباس مع ما فيه من تحقيق الحق والتنبيه على حكمةٍ خفية هي أن كلَّ فردٍ من أفراد البشر له حظٌّ من إنشائه عليه السلام منه حيث لم تكن فطرتُه البديعةُ مقصورة على لا نفسه بل كانت أُنموذَجاً منطوياً على فطرة سائرِ آحادِ الجنس انطواءً إجمالياً مستتبِعاً لجَرَيان آثارِها على الكل فكان خلقَه عليه السلام من الطين خلقا لكل أحد من فروعه منه ولمّا كان خلقُه على هذا النمطِ الساري إلى جميع أفراد ذريتِه أبدعَ من أن يكون ذلك مقصوراً على نفسه كما هو المفهومُ من نسبة الخق المذكورِ إليه وأدلَّ على عِظَم قُدرة الخلاق العليم وكمالِ علمِه وحكمتِه وكان ابتداءُ حال المخاطَبين أولى بأن يكون معيار لانتهائها فَعلَ ما فعل ولله درُّ شأنِ التنزيلِ وعلى هذا السرِّ مدارُ قوله تعالى وَلَقَدْ خلقناكم ثو صورناكم الخ وقوله تعالى وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً كما سيأتي وقيل المعنى خلق أباكم منه على حذف المضاف وقيل معنى خلقهم منه خلقهم من النطفة الحاصلةِ من الأغذية المتكوِّنة من الأرض وأيا ما كان ففيه من وضوحِ الدلالةِ على كمال قدرتِه تعالى على البعثِ ما لا يخفَى فإنَّ من قدَرَ على غحياء ما لم يشَمَّ رائحةَ الحياة قط كان على إحياءِ ما قارنها مدةً أظهرَ قدرة {ثُمَّ قَضَى} أي كتب لموتِ كلِّ واحد منكم أَجَلاً خاصاً له أي أحدا معيناً من الزمان يفنى عند حلولِه لا محالة وكلمة ثم للإيذان بتفاوزت ما بين خلقِهم وبين تقديرِ آجالِهم حسبما تقتضيه الحِكَم البالغة {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} أي حدٌّ معينٌ لبعثكم جميعاً وهو مبتدأ لتخصُّصه بالصفة كما في قوله تعالى وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ ولوقوعِه

(3/106)


الأنعام آية 3
في موقع التفصيل كما في قول من قال إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق وشقٌ عنْدنا لم يُحَوَّلِ وتنوينُه لتفخيم شأنه وتهويلِ أمره لذلك أُوثر تقديمُه على الخبر الذي هو {عِندَهُ} مع أن الشائعَ المستفيضَ هو التأخير كما في قولك عندي كلامٌ حقٌّ ولي كتابٌ نفيسٌ كأنه قيل وأيُّ أجلٍ مسمى مُثْبتٍ معينٍ في علمه لا يتغيرُ ولا يقفُ على وقت حلولِه أحدٌ لا مجملاً ولا مفصّلاً وأما أجلُ الموت فمعلومٌ إجمالاً وتقريباً بناءً على ظهور أَماراتِه أو على ما هو المعتادُ في أعمار الإنسان وتسميتُه أجلاً إنما هي باعتبار كونِه غايةً لمدة لُبْثهم في القبور لا باعتبار كونِه مبدأً لمدةِ القيامة كما أن مدار التسمية في الأجل الأول هو كونُه آخِرُ مدة الحياةَ لا كونُه أولِ مدةِ الممات لِما أن الأجلَ في اللغة عبارةٌ عن آخِرِ المدة لا عن أولها وقيل الأجلُ الأول ما بين الخلق والموت الثاني ما بين الموت والبعث مكن البرزخ فإن الأجل كما يُطلق على آخِرِ المدة يُطلق على كلِّها وهو الأوفق لما روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ الله تعالى قضى لكل أحدٍ أجلين أجلاً من مولده إلى موته وأجلاً من موته إلى مبعثه فإن كان بَرّاً تقياً وَصولاً للرحِم زيد له من أجل البعث في أجَل العمر وإن كان فاجراً قاطعاً نُقِصَ من أجل العُمُر وزيد في أجلى البعث وذلك قوله تعالى وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب فمعنى عدم تغير الأجل حينئذ عدمُ تغيُّر آخره والأولُ هو الأشهرُ الأليقُ بتفخيم الأجل الثاني المنوطِ باختصاصه بعلمه تعالى والأنسبُ بتهويله المبنيِّ على مقارنته للطامّة الكبرى فإن كونَ بعضِه معلوماً للخلق ومُضِيِّه من غير أن يقعَ فيه شيءٌ من الدواهي كما يستلزمه الحملُ على المعنى الثاني مُخِلٌّ بذلك قطعاً ومعنى زيادةِ الأجل ونقصِه فيما رُوي تأخيرُ الأجل الأول وتقديمُه {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} استبعادٌ واستنكارٌ لامترائهم في البعث بعد معابنتهم لما ذُكر من الحُجج الباهرة الدالةِ عليه أي تمترون في وقوعه وتحقّقِه في نفسه مع مشاهدتكم في أنفسِكم من الشواهدِ ما يقطع مادةَ الامتراءِ بالكلية فإن مَنْ قدَر على إفاضة الحياة وما يتفرَّع عليها من العلم والقدرة وسائِرِ الكمالاتِ البشرية على مادةٍ غيرِ مستعدّةٍ لشيء منها أصلاً كان أوضح اقتدار على إفاضتها على مادةٍ قد استعدت لها وقارنَتْها مدة ومن ههنا تبين أن ما قيل من أن الأجلَ الأولَ هو النومُ والثانيَ هو الموتُ أو أن الأول أجل الماضيين والثاني أجل الباقيين أو أن الأول مقدارُ ما مضى من عُمُر كلِّ أحدٍ والثانيَ مقدارُ ما بقِيَ منه مما لا وجهَ لَهُ أصلاً لما رأيتَ مِنْ أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ استبعادُ امترائهم في البعث الذي عبَّر عن وقته بالأجل المسمّى فحيثُ أُريد به أحد ما ذُكِرَ منَ الأمورِ الثلاثة ففي أيِّ شيء يمترون ووصْفُهم بالامتراء الذي هو الشكُّ وتوجيهُ الاستبعاد إليه مع أنهم جازمون بانتفاءِ البعث مُصِرّون على إنكاره كما يُنْبىء عنه قولهم أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أئنا لمبعوثوتن ونظائرُه للدلالة على أن جزمَهم المذكورَ في أقصى مراتبِ الاستبعاد والاستنكار وقوله تعالى

(3/107)


وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)

{وَهُوَ الله} جملةٌ من مبتدإٍ وخبر معطوفةٌ على ما قبلها مَسوقةٌ لبيان شمول أحكام الهيته تعالى لجميع المخبوقات وإحاطةِ علمِه بتفاصيلِ أحوال العباد وأعمالِهم المؤديةِ إلى الجزاء غثر الإشارةِ إلى تحقّق المعادِ في تضاعيفِ بيانِ كيفية خلقهم وتقدير آجالهم قوله تعالى {في السماوات وَفِى الارض} متعلقٌ بالمعنى

(3/107)


الأنعام آية 4
الوصفيِّ الذي يُنبىء عنْهُ الاسم الجليل إما باعتبار أصلِ اشتقاقِه وكونِه علماً للمعبودِ بالحق كأنه قيل وهو لمعبود فيهما وإما باعتبار أنه اسمٌ اشتهر بما اشتهرَتْ به الذاتُ من صفات الكمال فلو حظ معه منها ما يقتضيه المقامُ من المالكية الكليةِ والتصرُّفِ الكامل حسبما تقتضيه المشيئةِ المبنيةِ على الحِكَم البالغة فعُلّق به الظرفُ من تلك الحيثية فصار كأنه قبل وهو المالكُ أو المتصرفُ المدبِّرُ فيهما كما في قوله تعالى وَهُوَ الذى فِى السماء إله وَفِى الأرض إله وليس المرادَ بما ذُكر مَن الاعتبارَيْن أن الاسمَ الجليلَ يُحملُ على معناه اللغويِّ أو على معنى المالك أو المتصرِّف أو نحوِ ذلك بل مجردُ ملاحظة أحدِ المعاني المذكورة في ضمنه كما لوحظ معَ اسْم الأسد في قوله أسدٌ عليَّ الخ ما اشتهرَ به من وصف الجَراءة التي اشتهر بها مُسمَّاه فجرى مجرى جرىءعلى وبهذا تبين أن ما قيل بصدد التصوير والتفسير أي هو المعروفُ بذلك في السموات وفى الارض أو هو المعروفُ المشتهرُ بالصفات الكمالية أو هو المعروف بالإلهية فيهما أو نحوُ ذلك بمعزلٍ من التحقيق فإن المعتبرَ مع الاسم هو نفس الوصف البذي اشتهر به غذ هو الذي يقتضيه المقامُ حسبما بيّن آنفاً لاشتهاره به ألا يُرى أن كلمة عليّ في المثال المذكور لا يمكن تعليقُها باشتهار الاسم بالجَراءة قطعاً وقيل هو متعلِّقٌ بما يفيده التركيبُ الحَصْريُّ من التوحّد والتفرّد كأنه قيل وهو المتوحِّدُ بالإلهية فيهما وقيل بما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه خاصة كأنَّه قيلَ وهُو الذي يقال له الله فيهما لا يُشرك به شيءٌ في هذا الاسم على الوجه الذي سبق من اعتبار معنى التوحّد أو القول في فحوى الكلام بطريق الاستتباع لا على حمل الاسم الجليل على معنى المتوحِّد بالإلهية أو على تقدير القول وقد جوَّز أن يكون الظرفُ خبراً ثانياً على أن كونَه سبحانه فيهما عبارةٌ عن كونه تعالى مبالِغاً في العلم بما فيهما بناءً على تنزيل علمِه المقدس عن حصول الصور والأشباح لكونه حضورياً منزلةَ كونِه تعالى فيهما وتصويرُه به على طريقة التمثيل المبنيِّ على تشبيه حالةِ علمه تعالى بما فيهما بحالة كونه تعالى فيهما فإن العالَم إذا كان في مكانٍ كان عالِماً به وبما فيه على وجهٍ لا يخفى عليه منه شيء فعلى هذا يكون قوله عز وجل {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} أي ما أسرَرْتُموه وما جهرتم به من الأقوال وما أسررتموه وما أعلنتموه كائناً ما كانَ منْ الأقوال والأعمال بياناً وتقريراً لمضمونه وتحقيقاً للمعنى المراد منه وتعليق علمه عز وجل بما ذُكر خاصةً مع شموله لجميع ما فيهما حسبما تفيدُه الجملةُ السابقة لانسياق النظمِ الكريم إلى بيان حال المخاطبين وكذا على الوجه الثاني فإن ملاحظةَ الاسم الجليلِ من حيث المالكيةُ الكلية والتصرفُ الكاملُ الجاري على النمط المذكور مستتبعةٌ لملاحظة علمِه المحيطِ حتماً فيكونُ هذا بياناً وتقريراً له بلا ريب وأما على الأوجه الثلاثة الباقية فلا سبيل إلى كونه بياناً لكن لا لِما قيلَ من أنه لا دلالةَ لاستواء السرِّ والجهر في علمه تعالى على ما اعتُبر فيهما من المعبودية والاختصاص بهذا الاسم إذ ربما يُعبد ويُختصّ به من ليس له كمالُ العلم فإنه باطل قطعاً إذ المراد بمال ذكر هو المعبوديةُ بالحق والاختصاصُ بالاسم الجليل ولا ريبَ في أنَّهما مما لا يتصور فيمن ليس له كمالُ العلم بديهةً لأن ما ذُكر من العلمِ غيرُ معتبرٍ في مدلول شيءٍ من المعبودية بالحق والاختصاصِ بالاسم حتى يكونَ هذا بياناً له وبهذا تبين أنه ليس ببيانٍ على الوجه الثالث أيضاً لما أن التوحدَ بالإلهية لا يُعتبر في مفهومه العلمَ الكاملَ ليكون هذا بياناً له بل هو معتبرٌ فيما صدَق عليه المتوحِّد وذلك غيرُ كاف

(3/108)


الأنعام آية 4 5
في البيانية وقيل هو خبرٌ بعد خبرٍ عند من يجوز كون الخبر الثاني جملةً كما في قوله تعالى فغذا هي حية تسعة وقيل هو الخبر والاسمُ الجليل بدلٌ من هو وبه يتعلق الظرف المتقدم ويكفي في ذلك كونُ المعلوم فيهما كما في قولك رميتُ الصيدَ في الحرَم إذا كان هو فيه وأنت خارجَه ولعل جعْلَ سرهم جهرهم فيهما لتوسيع الدائرة وتصويرِ أنه لاَ يعزُب عنْ علمِه شيءٌ منهما في أي مكان كان لا لأنهما قد يكونان في السموات أيضاً وتعميمُ الخطاب لأهلها تعسُّفٌ لا يخفى {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي ما تفعلونه لجلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ من الأعمال المكتسَبةِ بالقلوب أو بالجوارح سراً أو علانية وتخصيصُها بالذِّكرِ مع اندراجها فيما سبق على التفسير الثاني للسر والجهر لإظهار كمال الاعتناء بها لأنها التي يتعلق بها الجزاءُ وهو السرُّ في إعادة يعلم

(3/109)


وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)

{وما تأتيُهم من آيةٍ من آيات رَبّهِمْ} كلام مستأنَفٌ واردٌ لبيان كفرهم بآيات الله وإعراضِهم عنها بالكلية بعد ما بيّن في الآية الأولى إشراكهم باللخه سبحانه وإعراضَهم عن بعض آيات التوحيد وفي الآية الاثنية امتراؤهم في البعث وإعراضَهم عن بعض ى ياته والالتفاتُ للإشعار بأن ذكْرَ قبائحِهم قد اقتضى أن يضرِبَ عنهم الخطابَ صفحاً وتعددُ جناياتهم لغيرهم ذماً لهم وتقبيحاً لحالهم فما نافية وصيغة المضارع لحطكاية الحال الماضية أو للدلالة على الاستمرار التجددي ومِنْ الأُولى مزيدةٌ للاستغراقِ والثاني تبعيضيةٌ واقعةٌ مع مجرورِها صفةً لآيةٍ وإضافةُ الآيات إلى اسم الرب المضافِ إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتْبِعِ لتهويل ما اجترُءوا عليه في حقِّها والمراد بها إمَّا الآياتُ التنزيليةُ فإتيانها نزولا والمعنى ما ينزِلُ إليهم آيةٌ من الآيات القرآنيةَ التي من جملتها هاتيك الآياتُ الناطقةُ بما فُصِّل من بدائعِ صنعِ الله عز وجل المُنْبئةِ عن جَرَيان أحكام ألوهيتِه تعالى على كافة الكائنات وإحاطةِ علمه بجميع أحوال الخق وأعمالهم الموجبةِ للإقبال عليها والإيمانِ بها {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي على وجه التكذيبِ والاستهزاء كما ستقف عليه وأما الآياتُ التكوينيةُ الشاملةُ للمعجزات وغيرِها من تعاجيبِ المصنوعاتِ فإتيانُها ظهورُها لهم والمعنى ما يظهر لهم ى ية من الآيات التكوينيةِ التي من جملتها ما ذكر من جلائل شئونه تعالى الشاهة بوحدانيته إلا كانوا عنها معرضين تاركين للنظر الصحيحِ فيها المؤدِّي إلى الإيمان بمُكوِّنها وإيثارُه على أن يقال إلاَّ أعرضُوا عنها كما وقع مثلُه في قوله تعالى وَإِن يَرَوْاْ آية يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ للدلالة على استمرارهم على الإعراضِ حسَبَ استمرارِ إتيانِ الآياتِ وعن متعلقةٌ بمعرضين قُدِّمت عليه مراعاة للفاواصل والجملة في محل النصب على أنَّها حالٌ من مفعولِ تأتي أو من فاعلِه المتخحصص بالوصف لاشتمالِها على ضمير كل منهما وأياً ما كان ففيها دلالة بينةٌ على كمال مسارعتهم إلى الإعراض وإيقاعهم له في آنِ الإتيان كما يُفصح عنه كلمةُ لما في قولِهِ تعالَى

(3/109)


فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)

{فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ} فإن الحق عبارةٌ عن القرآن الذي أعرضوا عنه حين أعرضوا عن كل آية آية منه عبر بذلك إبانةً لكمال قُبح ما فعلوا به فإن تكذيب الحقِّ مما لا يتصور صدوره

(3/109)


الأنعام آية 6
عن أح والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكنْ لاَ على أنَّها شيءٌ مغايِرٌ له في الحقيقة واقعٌ عَقيبَه أو حاصلٌ بسببه بل على أنَّ الأول وهو عينُ الثاني حقيقة وإنَّما الترتيبُ بحسَب التغايُرِ الاعتباريِّ وقد لتحقيقِ ذلك المعنى كما في قوله تعالى فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً بعد قوله تعالى وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فإن ما جاءوه أي فعلوه من الظلم والزور عينُ قولِهم المَحْكِيّ لكنه لما كان مُغايراً له مفهوماً وأشنَعَ منه حالاً رُتِّبَ عليه بالفاء ترتيبَ اللازم على الملزوم تَهويلاً لأمره كذلك مفهومُ التكذيب بالحق حيث كان أشنعَ من مفهوم الإعراضِ المذكورِ أُخرِجَ مُخرَجَ اللازم البيِّنِ البُطلان فرُتِّبَ عليه بالفاء إظهاراً لغاية بُطلانه ثم قُيد ذلك بكونه بلا تأمل تأكيداً لشناعته وتمهيداً لبيان أن ما كذبوا به إثر ذي أثير عواقبُ جليلةٌ ستبدو لهم البتة والمعنى أنهم حيث أعرضوا عن تلك الآيات عند إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن تكذيبُه أصلاً من غير أن يتدبروا في حاله ومآله ويقِفوا على ما في تضاعيفِه من الشواهد الموجبةِ لتصديقه كقوله تعالى بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بعلمه ولما يأتهم تَأْوِيلِهِ كما يُنْبىء عنه قوله تعالى {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون} فإن ما عبارةٌ عن الحق المذكور عبر عنه بذلك تهويلاً لأمره بإبهامه وتعليلاً للحكم بما في حيز الصلة وإنباؤه عبارةٌ عما سيَحيقُ بهم من العقوبات العاجلة التي نطَقت بها آياتُ الوعيد وفي لفظ الأنباء إيذانٌ بغاية العِظَم لِما أن النَّبأَ لا يُطلق إلا على خبرٍ عظيمِ الوقع وحملُها على العقوبات الآجلةِ أو على ظهور الإسلام وعلو كلمته يأباه الآيات الآتية وسوف لتأكيد مضمونِ الجملة وتقريرهِ أي فسيأتيهم البتةَ وإن تأخرَ مِصْداقُ أنباء الشيءِ الذي كانُوا يكذِّبون بهِ قَبلُ مِنْ غير أن يتدبروا في عواقبه وإنما قيل يستهزءون إيذانا بأن تكذيهم كان مقروناً بالاستهزاء كما أشير إليه هذا على أن يراد بالآيات القرآنيةُ وهو الأظهر وأما إنْ أُريد بها الآياتُ التكوينيةُ فالفاءُ داخلةٌ على عِلَّة جوابِ شرطٍ محذوف والإعراضُ على حقيقته كأنه قيل إن كانوا معرضين عن تلك الآيات فلا تعجبْ فقد فعلوا بما هو أعظمُ منها ما هو أعظمُ من الإعراض حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات ولا مَساغَ لحمل الآيات في هذا الوجه على كلها أصلاً وأما ما قيل من أن المعنى أنهم لمّا كانوا معرِضين عن الآيات كلِّها كذبوا بالقرآن فمِمّا ينبغِي تنزيهُ التنزيلِ عن أمثاله

(3/110)


أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)

{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ} استئنافٌ مَسوقٌ لتعيين ما هو المرادُ بالإنباء التي سبق بها الوعيد وتقرير إتيانِها بطريق الاستشهاد وهمزةُ الإنكار لتقرير الرؤية وهي عِرْفانية مستدعيةٌ لمفعول واحد وكم استفهاميةً كانت أو خبريةً معلِّقةٌ لها عن العمل مفيدة للتكثير سادّةٌ معَ ما في حيزها مسد مفعولهات منصوبةٌ بأهلكنا على المفعولية على أنَّها عبارةٌ عن الأشخاص ومن قرن مميِّزٌ لها على أنه عبارةٌ عن أهل عصر من الأعصار سمو بذلك لاقترانهم برهة

(3/110)


الأنعام آية 6
من الدهر كما في قولِه عليه الصلاة والسلام خيرُ القرون قَرني ثم الذين يلونهم الحديث وقيل هو عبارة عن مدة من الزمان والمضافُ محذوف أي من أهلَ قرن وأما انتصابها على المصدرية أو على الظرفية على أنَّها عبارةٌ عن المصدر أو عن الزمان فتعسفٌ ظاهر ومن الأولى ابتدائية متعلقة بأهلكنا أي ألم يعرِفوا بمعايَنةِ الآثارِ وسَماعِ الأخبار كم أمةٍ أهلكنا من قبلِ أهل مكة أي من قبلِ خلقِهم أو من قبل زمانهم على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه كعادٍ وثمودَ وأضرابِهم وقوله تعالى {مكناهم فِى الارض} استئناف لبيان كيفيةِ الإهلاك وتفصيلِ مباديه مبنيٌّ على سؤال نشأ من صدر الكلامِ كأنَّه قيلَ كيفَ كان ذلك فقيل مكانهم الخ وقيل هو صفةٌ لقرنٍ لِما أن النكرةَ مفتقرةٌ إلى مخصص فإذا وَلِيهَا ما يصلُح مخصِّصاً لها تعين وصيفته لها وأنتَ خبيرٌ بأنَّ تنوينَه التفخيميَّ مُغنٍ له عن استدعاء الصفة على أن ذلك مع اقتضائه أن يكون مضمونُه ومضمونُ ما عُطف عليه من الجمل الأربع أمراً مفروغاً عنه غيرَ مقصودِ بسياق النظم مؤدَ إلى اختلاف النَّظمُ الكريمُ كيفَ لا والمعنى حينئذٍ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قرنٍ موصوفين بكذا وكذا وبإهلاكنا إياهم بذنوبهم وأنه بيِّنُ الفساد وتمكينُ الشيء في الأرض جعلُه قارّاً فيها ولمّا لزِمه جعلُها مقراً له ورد الاستعمالُ بكلَ منهما فقيل تارةً مكّنه في الأرض ومنه قوله تعالى وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ وأخرى مكَّن له في الأرضِ ومنه قولُه تعالى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض حتى أُجرِيَ كلٌّ منهما مُجرَى الآخرَ ومنه قوله تعالى {مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ} بعد قوله تعالى مكناهم فِى الأرض كأنَّه قيلَ في الأول مكنا لهم أو في الثاني ما لم نمكنْكم وما نكرةٌ موصوفةٌ بما بعدها من الجملة المنفية والعائد محذوف محلها على النصب على المكصدرية أي مكناهم تمكيناً لم نمكنْه لكم والالتفاتُ لما في مواجهتهم بضَعف الحال مزيدُ بيانٍ لشأن الفريقين ولدفعِ الاشتباه من أول الأمر عن مرجِعَي الضميرين {وَأَرْسَلْنَا السماء} أي المطرَ أو السحاب أو المظلة لأنها مبدأ المطر {عَلَيْهِمْ} متعلق بأرسلنا {مُّدْرَاراً} أي مِغزاراً حال من السماء {وَجَعَلْنَا الانهار} أي صيّرناها فقوله تعالى {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ} مفعولٌ ثانٍ لجعلنا أو أنشأناها فهو حالٌ من مفعولِه ومن تحتهم متعلق بتجري وفيه من الدلالة على كونها مسخّرةً لهم مستمرةً على الجريان على الوجه المذكور ما ليس في أن يقالَ وأجرينا الأنهارَ من تحتهم وليس المرادُ بتَعدادِ هاتيك النعم العظامِ الفائضةِ عليهم بعد ذكر تمكينهم بيانَ عِظَم جنايتهم في كفرانها واستحقاقَهم بذلك لأعظم العقوبات بل بيانَ حيازتهم لجميعه اأسباب نيل المآرب ومبادىء الأمن والنجاة من المكاره والمعاطب وعدمَ إغناءِ ذلك عنهم شيئاً والمعنى أعطيناهم من البطة في الأجسام وزالامتداد في الأعمار والسَّعةِ من الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا في استجلاب المنافع واستدفاع المضارِّ ما لم نُعط أهلَ مكةَ ففعلوا ما فعلوا {فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ} أي أهلكنا كلَّ قرن من تلك القرون بسبب ما يخُصّهم من الذنوب فما أغنى عنهم تلك العُدَدُ والأسباب فسيحِلُّ بهؤلاء مثلُ ما حلَّ بهم من العذاب وهذا كما ترى آخِرُ ما به الاستشهادُ والاعتبار وأما قولُه سبحانه {وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ} أي أحدثنا من بعد إهلاك كل قرن {قَرْناً آخَرِين} بدلاً من الهالكين فلبيان كمالِ قدرتِه تعالى وسَعة سُلطانه وأن ما ذُكر من إهلاك الأمم الكثيرة

(3/111)


الأنعام آية 7 8
لم يَنْقُصْ من ملكه شيئاً بل كلما أهلك أمةً أنشأ بدلها أخرى

(3/112)


وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ} جملةٌ مستأنفة سيقت بطريق تلوين الخطاب لبيان شدةِ شكيمتِهم في المُكابرة وما يتفرَّع عليها من الأقاويل الباطلةِ إثر بيان إعراضهم عن آياتِ الله تعالى وتكذيبِهم بالحق واستحقاقِهم بذلك لنزولِ العذاب ونسبة التنزيل ههنا إليه عليه السلام مع نسبة إتيانِ الآياتِ ومجيءِ الحقِّ فيما سبق إليهم للإشعار بقَدْحهم في نبوته عليه السلام في ضمن قدحِهم فيما نزل عليه صريحاً وقال الكلبي ومقاتل نزلت في النضرين الحرث وعبدِ اللَّه بنِ أبي أمية ونوفل ابن خويلد حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لن نؤمن لك حتى تأتيَنا بكتاب مّنْ عِندِ الله ومعه أربعةٌ من الملائكة يشهدون أنَّه من عندِ الله تعالى وأنك رسولُه {كتابا} إن جُعل اسما كالإمام فقوله تعالى {فِى قِرْطَاسٍ} متعلقٌ بمحذوف وقع صفة له أي كتاباً كائناً في صحيفة وإن جعل مصدراً بمعنى المكتوب فهو متعلِّق بنفسه {فلمسوه} 6 أي لكتاب وقيل القرطاس وقوله تعالى {بِأَيْدِيهِمْ} مع ظهور أن اللمس لا يكون عادة إلا بالأيدي لزيادة التعين ودفع احتمالِ التجوُّز الواقعِ في قوله تعالى وأما لَمَسْنَا السماء أي تفحّصنا أي فمسوه بأيدهم بع ما رأَوْه بأعينهم بحيث لم يبقَ لهم في شأنه اشتباه ولم يقدِروا على الاعتذار بتسكير الأبصار {لقالوا} وإنما وضع الموصولُ موضعَ الضمير للتنصيص على اتِّصافُهم بما في حِّيزِ الصلة من الكفر الذي لا يخفى حسنُ موقعِه باعتبار مفهومه اللغوي أيضاً {إِنَّ هَذَا} أي ما هذا مشيرين إلى ذلك الكتاب {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي بيِّنٌ كونُه سحراً تعننا وعناداً للحق بعد ظهوره كما هو دأْبُ المُفحَمِ المجوج وديدان المكابِرِ اللَّجوج

(3/112)


وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)

{وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} شروع في قدحهم في نوبته عليه السلام صريحاً بعد ما أُشير إلى قدحهم فيهما ضِمناً وقيل هو معطوفٌ على جواب لو وليس بذاك لما أن تلك المقالةَ الشنعاءَ ليست مما يُقدَّر صدورُه عنهم على تقدير تنزيلِ الكتابِ المذكور بل هي من أباطيلهم المُحقّقة وخُرافاتهم المُلفّقة التي يتعللون بها كلما ضاقتْ عليهم الحيلُ وعيَّت بهم العلل أي هلا أُنزل عليه عليه السلام مَلكٌ بحيث نراه ويكلمنا أنه نبيٌّ حسبما نُقل عنهم فيما رُويَ عن الكلبي ومقاتل ونظيرُه قولهم لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ولما كان مدارُ هذا الاقتراح على شيئين إنوال الملَك كما هو وجعلِه معه عليه السلام نذيراً أجيب عنه بأن ذلك مما لا يكادُ يدخُل تحتَ الوجود أصلاً لاشتماله على أمرين متباينين لا يجتمعان في الوجود لِما أن إنزالَ الملَك على صورته يقتضي انتفاءَ جعلِه نذيراً وجعلُه نذيراً يستدعي عدمَ إنزاله على صورته لا مَحالة وقد أشير إلى الأول بقوله تعالى {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الامر} أي لو أنزلنا ملكا عللا هيئاته حسْبما اقترحوه والحالُ أنه مِن هِوْل المنظر بحيث لا تُطيقُ بمشاهدته قوى الآحاد البشرية ألا يرى أن الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام كانوا يشاهدون الملائكةَ ويفاوضونهم على الصور

(3/112)


الأنعام آية 9
البشرية كضيف غبراهيم ولوطٍ وخصْمِ داودَ عليهم السلام وغير ذلك وحيث كان شأنُهم كذلك وهم مؤيَّدون بالقُوى القدُسية فما ظنُّك بمن عداهم من العوام فلو شاهدوه كذلطك لقُضِيَ أمرُ هلاكهم بالكلية واستحال جعلُه نذيراً وهو مع كونه خلافَ مطلوبِهم مستلزِمٌ لإخلاءِ العالم عما عليه يدور نظامُ الدنيا والآخرةِ من إرسال الرُّسل وتأسيسِ الشرائع وقد قال سبحانه وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً وفيه كما ترى إيذانٌ بأنهم في ذلك الاقتراحِ كالباحثِ عن حَتْفه بظِلْفه وأن عدم الإجابة إليه للبُقيا عليهم وبناءالفعل الأول في الجواب للفاعل الذي هو نونُ العَظمة مع كونه في السؤال مبنياً للمفعول لتهويلِ الأمر وتربية المهابة وبناء الثاني للمفعولِ للجَريِ على سَنَنِ الكِبرياء وكلمةُ ثم في قوله تعالى {ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} أي لا يُمْهَلون بعد نزوله طرفةَ عينٍ فضلاً عن أن يُنْذَروا به كما هو المقصودُ بالإنذار للتنبيه على تفاوت ما بين قضاءِ الأمر وعدمِ الإنظار فإن مفاجأة العذابِ أشدُّ من نفس العذاب وأشق وقيل في سبب إهلاكهم أنهم إذا عاينوا الملَك قد نزل على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم في صورته وهي آيةٌ لا شيءَ أبينُ منها ثم لم يؤمنوا لم يكنْ بدٌّ من إهلاكهم وقيل إنهم إذا رأَوه يزول الاختيارُ الذي هو قاعدةُ التكليف فيجبُ إهلاكُهم وإلى الثاني بقوله تعالى

(3/113)


وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)

{وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً} على أن الضميرَ الأول للنذير المفهومِ من فحوى الكلام بمعونة المقام وإنما لم يجعل للملك المذكور قبله بأن يعكس ترتيب المفعولين ويقال لو جعلناه نذيراً لجعلناه رجلاً مع فهم المراد منه أيضاً لتحقيق أن مناطَ إبرازِ الجعل الأول في معرِض الفرض والتقدير ومدارَ استلزامه للثاني إنما هو مَلَكيةُ النذير لا ذيرية المللك وذلك لأن الجعل حقُّه أن يكون مفعولُه الأولُ مبتدأ والثاني خبراً لكونه بمعنى التصييرِ المنقول من صار الداخِلِ على المبتدأ والخبر ولا ريب في أن مصَبّ الفائدة ومدارَ اللزوم بين الشرطية هو محمولُ المقدَّمِ لا موضوعُه فحيث كانت امتناعيةً أريد بها بيانُ انتفاءِ الجعْلِ الأول لاستلزامه المحذور الذي هو الجعل الثاني وجب أن يُجعلَ مدارُ الاستلزام في الأول مفعولاً ثانياً لا محالة ولذلك جَعَل مُقابِلَه في الجعل الثاني كذلك إبانةً لكمال التنافي بينهما الموجبِ لانتفاء الملزوم والضمير الثاني للملك لا لما رجع إليه الأول والمعنى لو جعلنا النذيرَ الذي اقترحوه ملكاً لمثّلنا ذلك المَلكَ رجلاً لما مر من عدم استطاعةِ الآحاد لمُعاينَةِ الملك على هيكله وفي إيثار رجلاً على بشراً إيذانٌ بأن الجعلَ بطريقِ التَّمثيلِ لا بطريقِ قلب الحقيقة وتعيينٌ لما يقع به التمثيل وقوله تعالى {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم} عطفٌ على جواب لو مبنيّ على الجواب الأول وقرىء بحذف لام الجواب اكتفاءً بما في المعطوف عليه يقال لَبَستُ الأمرَ على القوم ألبِسُه إذا شبّهتُه وجعلته مشكلا وأصله الستر بالثوب وقرىء الفعلان بالتشديد للمبالغة أي ولَخلّطنا عليهم بتمثيله رجلاً {ما يلبسون} على أنفسهم حينئذ بأن يقولوا له إنما أنت بشرٌ ولست بمَلَك ولو استُدل على مَلَكيته بالقرآن المعجزِ الناطقِ بها أو بمعجزاتٍ أُخَرَ غيرِ مُلجئةٍ إلى التصديق لكذّبوه كما كذبوا النبي عليه الصلاة والسلام ولو أظهر لهم صورته الأصلية لزم الأمر الأول والتعبير عن تمثيله تعالى رجلاً باللَّبْس إما لكونه في سوء اللبس

(3/113)


الأنعام آية 10 12
أو لكونه سبباً لِلَبْسِهم أو لوقوعه في صُحبته بطريق المشاكلة وفيه تأكيدٌ لاستحالة جعل النذيرِ مَلَكاً كأنه قيل لو فعلناع لفعلنا ما لا يليق بشأننا من لَبْس الأمر عليهم وقد جُوِّز أن يكونَ المعنى وللبسنا عليهم حينئذ مثلَ ما يلبِسون على أنفسهم الساعةَ في كفرهم بآيات الله البينة

(3/114)


وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)

{ولقد استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ} تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه وفي تصدير الجملة بلام القسم وحرفِ التحقيق من الاعتناء بها ما لا يخفى وتنوينُ رسل للتفخيم والتكثير ومن ابتدائيةٌ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لرسل أي وبالله لقد استُهزىء برسل أولي شأنٍ خطيرٍ وذوي عدد كبير كائنين من زمانٍ قبلَ زمانك على حذف المضافِ وإقامةِ امضاف إليه مُقامَه {فَحَاقَ} عَقيبه أي أحاط أو نزل أو حلَّ أو نحوُ ذلك فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يُستعمل إلا في الشر والحيقُ مايشتمل على الإنسان من مكروهِ فِعْلِه وقوله تعالى {بالذين سخروا منهم} أي استهزؤا بهم من أولئك الرسلِ عليهم السلام متعلق بحاق وتقديمُه على فاعله الذي هو قوله تعالى {مَّا كانوا به يستهزؤون} للمسارعة إلى بيان لحوقِ الشرّ بهم وما إما موصولةٌ مفيدةٌ للتهويل أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزءون به حيث أُهلكوا لأجله وإما مصدريةٌ أي فنزل بهم وَبالُ استهزائهم وتقديم الجار والمجرور على الفعل لرعاية الفواصل

(3/114)


قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)

{قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض} بعد بيانِ ما فعلت الأممُ الخالية وما فُعل به خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنذار قومه وتذكيرِهم بأحوالهم الفظيعة تحذيراً لهم عمَّا هم عليه وتملة للتسلية بما في ضِمْنه من العدة الالطيفة بأنه سيَحيقُ بهم مثلُ ما حاق بأضرابهم الأولين ولقد أنجَز ذلك يومَ بدرٍ أيَّ إنجازٍ أي سيرو في الأرض لتعرف أحوال أولئك الأمم {ثُمَّ انظروا} أي تفكروا {كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} وكلمة ثم إما لأن النظر في آثار الهالكين لا يتسنى إلا بعد انتهاءالسير إلى أماكنهم وإما لإبانةِ ما بينهما من التفاوت في مراتب الوجوب وهو الأظهر فإن وجوب السير ليس إلا لكونه وسيلةً إلى النظر كما يفصح عنه العطف بالفاء في قولِه عزَّ وجلَّ فانظروا الآية وإما أن الأول الأول لإباحة السير للتجارة ونحوها والثاني لإيجاب النظر في آثارهم وثم لتُباعِدَ ما بين الواجب والمباح فلا يناسب المقام وكيفَ معلِّقةٌ لفعلِ النظرِ ومحلُ الجملةِ النصبُ بنزعِ الخافض أي تفكروا في أنهم كيف أُهلكوا بعذاب الاستئصال والعاقبة مصد كالعافية ونظائرِها وهي منتهى الأمرِ ومآلُه ووضعُ المكذبين موضعَ المستهزئين لتحقيق أن مدارَ إصابةِ ما أصابهم هو التكذيبُ لينزجِرَ السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط مع بقاء التكذيب بحاله بناءً على توهُّم أنه المدار في ذلك

(3/114)


قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)

{قُلْ} لهم بطريق الإلجاء

(3/114)


الأنعامآيه 10 11 12
والتبكيت {لّمَن مَّا فِى السماوات والارض} من العقلاء وغيرِهم أي لمن الكائناتُ جميعاً خالقا ومُلكاً وتصرّفاً وقوله تعالى {قُل لِلَّهِ} تقريرٌ لهم وتنبيهٌ على أنه المتعيَّنُ للجواب بالاتفاق بحيث لا يتأتّى لأحد أن يُجيب بغيره كما نطق به قوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خلقِ السمواتِ والأرضِ لَيَقُولُنَّ الله وقوله تعالى {كتب على نفسه الرحمة} جملةٌ مستقلةٌ داخلةٌ تحتَ الأمر ناطقةٌ بشمول رحمتِه الواسعةِ لجميع الخلق شمولَ مُلكِه وقدرته للكلِّ مَسوقةٌ لبيان أنه تعالى رءوف بعباده لا يعدل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة وافنابة وأن ما سبق ذكرُه وما لحِقَ من أحكام الغضب ليس من مقتَضيَات ذاتِه تعالى بل من جهة الخَلْق كيف لا ومن رحمتِه أن خلقَهم على الفطرة السليمةِ وهداهم إلى معرفته وتوحيدِه بنَصْب الآياتِ الأنفسية والآفاقية وإرسالِ الرسل وإنزالِ الكُتب المشحونة بالدعوة إلى موجباتِ رِضوانِه والتحذير عن مقتضيان سُخْطِه وقد بدّلوا فطرةَ الله تبديلاً وأعرَضوا عن الآياتِ بالمرة وكذّبوا بالكتب واستهزءوا بالرسل وما ظلمهم الله ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين ولولا شمولُ رحمتِه لسلك بهؤلاءِ أيضاً مَسلكَ الغابرين ومعنى كتب الرحمة على نفسه أنه تعالى قضاها وأوجبها بطريق التفضُّل والإحسانِ على ذاته المقدّسةِ بالذات لا بتوسُّط شيءٍ أصلاً وقيل ما رُوي عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لمَّا قضى الله تعالى الخلقَ كتَبَ في كتابٍ فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي وعنه في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لمَّا قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إنَّ رحمتي غلبتْ غضبي وعن عمر رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب ما أولُ شيءٍ ابتدأه الله تعالى مِنْ خلقه فقال كعب كتب الله كتاباً لم يكتبْه بقلم ولا مِدادٍ كتابةَ الزَّبَرْجد واللؤلؤ والياقوت إني أَنَا الله لاَ إله إِلا أَنَاْ سبقت رحمتي غضبي ومعنى سبْقِ الرحمةِ وغَلَبتِها أنها أقدمُ تعلُّقاً بالخلق وأكثرُ وصولاً إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير وفي التعبير عن الذات بالنفس حجةٌ على من ادّعى أن لفظَ النفسِ لا يُطلق على الله تعالى وإن أريد به الذاتُ إلا مشاكلةً لِما ترَى من انتفاءِ المشاكلة ههنا بنَوْعَيْها وقوله تعالى {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} جوابُ قسمٍ محذوف والجملة استئنافٌ مسوقٌ للوعيد على إشراكهم وإغفالِهم النظرَ أي والله ليجمعنّكم في القبور مبعوثين أو محشورين إلى يوم القيامة فيجازيكم على شركك وسائرِ معاصيكم وإن أمهلكم بموجَب رحمتِه ولم يعاجِلْكم بالعقوبة الدنيوية وقيل إلى بمعنى اللام أي ليجمعنك ليوم القيامة كقوله تعالى إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لا ريبَ فيه وقيل هي بمعنى في أي ليجمعنكم يوم القيامة {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في اليوم أو في الجمع وقوله تعالى {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} أي بتضييع رأسِ مالهم وهو الفطرةُ الأصليةُ والعقلُ السليم والاستعدادُ القريبُ الحاصلُ من مشاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم واستماعِ الوحْي وغيرِ ذلك من آثار الرحمة في موضع النصْب أو الرفعِ على الذم أي أعني الذين الخ وهم مبتدأ والخبر قوله تعالى {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} والفاءُ لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشرط والإشعارُ بأن عدمَ إيمانهم بسبب خُسرانهم فإن إبطالَ العقل باتباع الحواسِّ والوهم والانهماك في تلقليد وإغفالِ النظر أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناعِ من الإيمان والجملةُ تذييلٌ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى لهم لتقبيح حا غير داخل

(3/115)


الأنعام 13 15
تحت الأمر

(3/116)


وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)

{وَلَهُ} أي لله عز وجل خاصةً {مَا سَكَنَ فِى الليل والنهار} نزال الملوان منزلةَ المكان فعبّر عن نسبة الأشياء الزمانية إليهما بالسُكنى فيهما وتعديتُه بكلمة في كَما في قولِه تعالى وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ أو السكونِ مقابلَ الحركة والمرادُ ما سكن فيهما أو تحرّك فاكتفي بأحد الضدَّيْن عن الآخر {وَهُوَ السميع} المبالغُ في سماع كلِّ مسموع {العليم} المبالغُ في العلمِ بكلّ معلوم فلا يَخْفى عليه شيءٌ من الأقوال والأفعال

(3/116)


قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)

{قُلْ} لهم بعد ما بكّتهم بما سبق من الخطاب {أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} أي معبوداً بطريق الاستقلالِ أو الاشتراك وإنما سُلِّطت الهمزةُ على المفعول الأول لا على الفعل إيذاناً بأن المنكرَ هو اتخاذُ غيرِ الله ولياً لا اتخاذُ الوليِّ مطلقاً كما في قوله تعالى أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا وقولُه تعالى أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ الخ {فَاطِرِ السماوات والارض} أي مُبدعِهما بالجرِّ صفةٌ للجَلالة مؤكِّدةٌ للإنكار لأنه بمعنى الماضي ولذلك قُرىء فطَرَ ولا يضرّ الفصلُ بينهما بالجملة لأنها ليست بأجنبية إذ هي عاملةٌ في عامل الموصوف أو بدلٌ فإن الفصلَ بينه وبين المبدل منه أسهلُ لأن البدلَ على نية تكرير العامل وقرىء بالرفع والنصب على المدح وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما عرفتُ معنى الفاطرِ حتى اختصم إليَّ أعرابيانِ في بشر فقال أحدهما أنا فَطَرْتُها أي ابتدأتها {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} أي يرزُق الخلق ولا يُرْزَق وتخصيصُ الطعام بالذكر لشدة الحاجة إليه أو لأنه معظمُ ما يصل إلى المرزوق من الرزق ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحالية فإن مضمونها مقرر لوجوب اتخاذه سبحانه وتعالى وليا وقرىء ولا يطعم بفتح الياء وبعكس القراءةِ الأُولى أيضاً على أن الضميرَ لغير الله والمعنى أأُشرِك بمن هو فاطرُ السموات والأرض ما هو نازلٌ عن رتبة الحيوانية وببنائهما للفاعل على أن الثانيَ بمعنى يستطعم أو على معنى أنه يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله تعالى يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ {قُلْ} بعد بيان أن اتخاذِ غيرِه تعالى ولياً ممَّا يَقْضي ببُطلانِه بديهةُ العقول {إِنّى أُمِرْتُ} من جنابِه عزَّ وجلَّ {أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} وجهَه لله مخلِصاً له لأن النبيَّ إمامُ أمته في الإسلام كقوله تعالى وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين وقوله تعالى سبحانك تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين {وَلاَ تَكُونَنَّ} أي وقيل لي وَلاَ تَكُونَنَّ {مِنَ المشركين} أي في أمرٍ من أمورِ الدِّينِ ومعناه أُمرت بالإسلام ونُهيتُ عن الشرك وقد جوَّزَ عطفَه على الأمر

(3/116)


قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)

{قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى} أي بمخالفة أمرِه ونهيه أيَّ عصيانٍ كان فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً وفيه بيانٌ لكما اجتنابه صلى الله عليه وسلم عن المعاصي على الإطلاق وقولُه تعالى {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} أي عذابَ يوم القيامة مفعول خاف

(3/116)


الأنعام آية 16 19
والشرطية معترِضةٌ بينهما والجوابُ محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه وفيه قطعٌ لأطماعهم الفارغة وتعريضٌ بأنهم عصاةٌ مستوجبون للعذاب العظبم

(3/117)


مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)

{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ} على البناء المفعول أي العذاب وقرىء على البناء للفاعل والضمير لله سبحانه وقد قرىء بالإظهار والمفعولُ محذوفٌ وقوله تعالى {يومئذ} للصرف أيْ في ذلكَ اليومِ العظيم وقد جوز أن يكون هو المفعول على قراءة البناء للفاعل بحذف المضاف أي عذاب يومئذ {فَقَدْ رَحِمَهُ} أي نجاه وأنعم عليه وقيل فقد أدخله الجنة كما في قوله تعالى فمن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ والجملة مستأنفةٌ مؤكِّدةٌ لتهويل العذاب وضميرُ عنه ورَحمه لمن هو عبارة عن غيرالعاصي {وَذَلِكَ} إشارة إلى الصرف أو الرحمة لأنها مؤوّلة بأن مع الفعل وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ درجتِه وبعد مكانه في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى {الفوز المبين} أي الظاهرُ كونُه فوزاً وهو الظَفَر بالبُغية والألف واللام لقصره على ذلك

(3/117)


وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)

{وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ} أي ببليةٍ كمرَض وفقر ونحو ذلك {فَلاَ كاشف لَهُ} أي فلا قادرَ على كشفه عند {إِلاَّ هُوَ} وحده {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} من صِحةٍ ونعمةٍ ونحو ذلك {فَهُوَ على كل شىء قدير} ومن جملته ذلك فيقدِرُ عليه فيمسك به ويحفَظْه عليك من غير أنيقدر علي دفعه أو على رفعه أحدٌ كقوله تعالى فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ وحملُه على تأكيد الجوابين يأبه الفاء تذكرة روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها كسرى فركِبها بحبْل من شعر ثم أردفني خلفه ثم سار بي ميلاً ثم التفت إلي فقال يا غلام فقلت لبيك يا رسول الله فقال أحفَظِ الله يحفَظْك احفظ الله تجدْه أمامك تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرِفْك في الشدة وإذا سألت فاسألِ الله وإذا استعنت فاستعنْ بالله فقد مضى القلمُ بما هو كائنٌ فلو جَهَدَ الخلائقُ أن ينفعوك بما لم يقضِه الله لك لم يقدِروا عليه ولو جَهَدوا أن يضروك بما لم يكتُبِ الله عليك ما قدَروا عليه فإن استطعتَ أن تعملَ بالصبر مع اليقين فافعل فإن لم تستطِعْ فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً واعلم أن النصر مع الصبر وأن مع الكرْب فرَجاً وأن مع العسر يسراً

(3/117)


وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)

{وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} تصويرٌ لقهره وعلوِّه بالغَلَبة والقُدرة {وَهُوَ الحكيم} في كلِّ ما يفعله ويأمر به {الخبير} بأحوال عبادِه وخفايا أمورِهم واللام في المواضع الثلاثة للقصر

(3/117)


قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)

{قل} أي

(3/117)


الأنعام آية 20 21
{شَىْء أَكْبَرُ شهادة} رُوِيَ أنَّ قريشاً قالُوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد لقد سألنا عنك اليهودَ والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكرٌ ولا صفةٌ فأرنا من يشهد لك أنك رسولُ الله فنزلت فأي ممبتدأ وأكبر خبره وشهادة نصبعلى التمييز وقوله تعالى {قُلِ الله} امر له صلى الله عليه وسلم بأن يتولَّى الجواب بنفسه إما للإيذان بتعيُّنه وعدمِ قدرتهم على أن يجيبوا بغيره أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه لا لتردُّدهم في أنه أكبرُ من كل شيء بل في كونه شهيداً في هذا الشا قوله تعالى {شهيد} خبر ميتدأ محذوف أي هو شهيد {بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} ويجوز أن يكون الله شهيد بيني وبينكم هو الجواب لأنه إذا كان هو الشهيدَ بينه وبينهم كان أكبرُ شيءٍ شهادةً شهيداً له صلى الله عليه وسلم وتكريرُ البين لتحقيق المقابلة {وَأُوحِىَ إِلَىَّ} أي من جهتِه تعالَى {هذا القرآن} الشاهدُ بصِحة رسالتي {لاِنذِرَكُمْ بِهِ} بما فيه من الوعيد والاقتصارُ على ذكر الأنذار لما أن الكلام مع الكفرة {وَمَن بَلَغَ} عطفٌ على ضمير المخاطَبين أي لأنذركم به يا أهلَ مكةَ وسائرَ مَنْ بلغه من الأسودِ والأحمرِ أو من الثقلَيْن أو لأنذركم به أيها الموجودون ومَنْ سيوجد إلى يوم القيامة وهو دليلٌ على أن أحكام القرآن تعمُّ الموجودين يوم نزولِه ومن سيوجد بَعْدُ إلى يوم القيامة خلا أن ذلك بطريق العبارة في الكل عند الحنابلة بالإجماع عندنا في غير الموجودين وفي غير المكلفين يومئذ كما مر في أول سورة النساء {أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى} تقرير لهم مع إنكارواستبعاد {قُل لاَّ أَشْهَدُ} بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صِرْف {قُلْ} تكرير للأمر للتأكيد {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} أي بل إنما أشهد أنه تعالى لاَ إله إِلاَّ هو

(3/118)


الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)

{وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ} مِن الأصنام أو من إشراككم {الذين آتيناهم الكتاب} جواب عما سبق من قولهم لقد سألنا عنك اليهود والنصارى أُخِّر عن تعيين الشهيد مسارعةً إلى إلزامهم بالجواب عن تحكّمهم بقولهم فأرنا من يشهد لك الخ والمرادُ بالموصول اليهودُ والنصارى وبالكتاب الجنسُ المنتظمُ للتوراة والإنجيل وإيرادُهم بعنوان إيتاءِ الكتابِ للإيذان بمدار ما أسند غليهم بقوله تعالى {يَعْرِفُونَهُ} أي يعرفون رسول الله صه من جهة الكتابَيْن بحِلْيته ونُعوتِه المذكورة فيهما {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ} بحِلاهم بحيث لا يشكون في ذلك أصلاً رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قال عمر رضي الله عنه لعبدِ اللَّه بنِ سَلامٍ أنزل الله تعالى علي نبيه هذه الآيةَ وكيف هذه المعرفة فقال يا عمر لقد عرفتُه فيكم حين رأيته كما أعرِف ابني ولأنا أشدُّ معرفةً بمحمدٍ مني بابني لأني لا أدري ما صنع النساء وأشهد أنه حقٌّ من الله تعالى {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} من أهل الكتابين والمشركين بأن ضيعوه فطرة الله التي فطرَ النَّاسَ عليها وأعرضوا عن البينات الموجبةِ للإيمان بالكلية {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} لما أنهم مطبوعٌ على قلوبهم ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على الابتداء وخبرُه الجملة المصدرةُ بالفاء لِشَبَه الموصول بالشرط وقيل على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هم الذين خسروا الخ وقيل على أنَّه نعتٌ للموصولِ الأول وقيل النصبُ على الذم فقوله تعالى فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ على الوجوه الأخيرة عطفٌ على جملة الذين آتيناهم الكتاب الخ

(3/118)


وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً}

(3/118)


بوصفهم النبيَّ الموعودَ في الكتابين بخلاف أوصافه صلى الله عليه وسلم فإنه افتراءٌ على الله سبحانه وبقولهم الملائكةُ بناتُ الله وقولِهم هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله ونحو ذلك وهو إنكارٌ واستبعادٌ لأن يكون أحدٌ أظلمَ ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإنْ كانَ سبكُ التَّركيبِ غيرَ متعرِّض لإنكار المساواة ونفيُها يشهد به العرف الفاشي والاستعمال المطرد فإنه إذا قيل مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضلَ من فلان فالمراد حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضل من كل فاضل ألا يُرى إلى قوله عز وجل لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الأخرة هُمُ الأخسرون بعد قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً الخ والسرُّ في ذلك أن النسبةَ بين الشيئين إنما تُتصوَّر غالباً لا سيما في باب المغالبة بالتفاوُت زيادةً ونُقصاناً فإذا لم يكن أحدُهما أزيدَ يتحقق النُقصانُ لا محالة {أو كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} كأن كذّبوا بالقرآن الذي من جملته الآيةُ الناطقةُ بأنهم يعرفونه صلى الله عليه وسلم كما يعرِفون أبناءهم وبالمُعجزات وسمَّوْها سحراً وحرفوا التوراة وغيروا نعوته صلى الله عليه وسلم فإن ذلك تكذيبٌ بآياته تعالى وكلمةُ أو للإيذانِ بأنَّ كلاً منَ الافتراء والتكذيب وحدَه بالغٌ غايةَ الإفراط في الظلم فكيف وهم قد جمعوا بينهما فأثبتوا ما نفاه الله تعالى ونفَوْا ما أثبته قاتلهم الله أنَّي يُؤفكون {إِنَّهُ} الضميرُ للشأنِ ومدارُ وضعِهِ موضعَه ادِّعاءُ شهرتِه المُغْنية عن ذكره وفائدته تصديرِ الجملة به الإيذانُ بفخامة مضممونها مع ما فيه من زيادة تقريرِه في الذهن فإنَّ الضميرَ لا يُفهمُ منه من أولِ الأمرِ إلا شأنٌ مبهمٌ لهُ خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما يعقُبه فيتمكنُ عندَ ورودِه لَهُ فضلُ تمكُّنٍ فكأنه قيل إن الشأنَ الخطيرَ هذا هو {لاَ يُفْلِحُ الظالمون} أي لا ينجُون من مكروهٍ ولا يفوزون بمطلوب وإذا كان حالُ الظالمين هذا فما ظنُّك بمن في الغايةِ القاصيةِ من الظلم

(3/119)


وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} منصوبٌ على الظرفية بمُضمر مؤخَّرٍ قد حُذف إيذاناً بضيق العبارة عن شرحه وبيانه وإيماءً إلى عدم استطاعة السامعين لسماعِه لكمال فظاعةِ ما يقع فيه من الطَّامةِ والدَّاهيةِ التامة كأنه قيل ويوم نحشرُهم جميعاً {ثُمَّ نَقُولُ} لهم ما نقول كانَ من الأحوالُ والأهوالُ ما لا يحيطُ بهِ دائرةُ المقال وتقديرُ صيغةِ الماضِي للدَلالة على التحققِ ولحُسنِ موقَعِ عطفِ قوله تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ الخ عليه وقيل منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ مقدّم أي واذكر لهم للتخويف والتحذير ويوم نحشرهم الخ وقيل وليتقوا أو ليحذروا يوم نحشرهم الخ والضمير للكل وجميعاً حال منه وقرىء يَحشرُهم جميعاً ثم يقول بالياء فيهما {لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} أي نقول لهم خاصة للتوبيخ والتقريع على رءوس الأشهاد {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ} أي آلهتُكم التي جعلتموها شركاءَ لله سبحانه وإضافتُها إليهم لما أن شِرْكتَها ليست إلا بسميتهم وتقوُّلهم الكاذب كما ينبىء عنه قوله تعالى {الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي تزعُمونها شركاءَ فحُذِف المفعولان معاً وهذا السؤالُ المُنبِىءُ عن غَيْبة الشركاءِ مع عموم الحشر لها لقوله تعالى احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وغيرِ ذلك من النصوص إنما يقع بعد ما جرى بينها وبينهم من التبرُّؤ من الجانبين وتقطَّع ما بينهم من الأسباب والعلائقِ حسبما سحكيه قوله تعالى فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ الخ ونحوذلك من الآيات الكريمة إما بعدم حضورِها حينئذٍ في الحقيقة بإبعادها من ذلك الموقف وإما بتنزيل

(3/119)


0 -
الأنعام آية 23 24
عدمِ حضورها بعُنوان الشِرْكة والشفاعة منزلةَ عدم حضورها في الحقيقة إذ ليس السؤالُ عنها من حيث ذواتها إنما هو من حيث إنها شركاءُ كما يُعرب عنه الوصفُ بالموصول ولا ريب في أن عدم الوصفِ يوجب عدمَ الموصوف من حيث هو موصوف فهي من حيث هي شركاءُ غائبةٌ لا محالة وإن كانت حاضرةً من حيث ذواتُها أصناماً كانت أو غيرها وأما ما يقال من أنه يُحال بينها وبينهم في وقت التة وبيخ ليفقِدوهم في الساعة التي علقوا بها الرجاءَ فيها فيرَوْا مكان خِزْيهم وحسرتِهم فربما يُشعِر بعدم شعورِهم بحقيقة الحال وعدمِ انقطاع حبالِ رجائهم عنها بعدُ وقد عرفت أنهم شاهدوها قبل ذلك وانصرمت عُروةُ أطماعهم عنها بالكلية على أنها معلومةً لهم من حين الموتِ والابتلاءِ بالعذاب في البرزخ وإنما الذي يحصُل يوم الحشر الانكشافُ الجليُّ واليقين القويُّ المترتبُ على المحاضَرة والمحاوَرة

(3/120)


ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)

{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} بتأنيث الفعلِ ورفع فتنتُهم على أنه اسمٌ له والخبرُ {إِلاَّ أَن قَالُواْ} وقُرىء بنصب فتنتَهم على أنها الخبرُ والاسمُ إلا أن قالوا والتأنيث للخبر كما في قولهم من كانت أمَّك وقرىء بالتذكير مع رفع الفتنة ونصبها ورفعُها أنسبُ بحسب المعنى والجملة عطفٌ على ما قُدّر عاملاً في يوم نحشرهم كما أُشيرَ إليهِ فيما سلف والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعم الأشياء وفتنتُهم إما كفرُهم مراداً به عاقبتُه أي لم تكن عاقبةُ كفرِهم الذي لزِموه مدةَ أعمارِهم وافتخروا به شيئاً من الأشياءِ إلا جحدوه والتبرؤَ منه بأن يقولوا 6 {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مشركين} وأما جواتبهم عبّر عنه بالفتنة لأنه كذِب ووصفُه تعالى بربوبيته لهم للمبالغة في التبرّؤ من الإشراك وقرىء بنا على النداء فهو لإظهار الضراعة والابتهال في استدعاء قبول المعذرة وإنما يقولون ذلك مع علمهم بأنه بمعزِلٍ من النفع رأساً من فرط الحَيْرة والدهَش وحملُه على معنى ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا في الدنيا أنا على خطأ غي معتقَدِنا مما لا ينبغي أن يُتوهّم أصلاً فإنه يُوهِم أن لهم عذراً أما وأن لهم قدرةً على الاعتذار في الجملة وذلك مُخِلٌّ بكمال هَوْل اليوم قطعاً على أنه قد قضى ببطلانه قوله تعالى

(3/120)


انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)

{انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} فإنه تعجيبٌ من كذبهم الصريح بإنكار صدورِ الإشراك عنهم في الدنيا أي انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أنفسهم في قولهم ذلك فإنَّه أمرٌ عجيبٌ في الغاية وأما حملُه على كِذْبهم في الدنيا فتمحُّلٌ يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عنه وقوله تعالى {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} عطفٌ على كذَبوا داخلٌ معه في حكم التعجيب وما مصدريةٌ أو موصولةٌ قد حُذف عائدُها والمعنى انظر كيف كذَبوا باليمين الفاجرةِ المغلَّظة على أنفسهم بإنكار صدور ما صدر عنهم وكيف ضل عنهم أي زال وذهب افتراؤهم أو ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفَوا صدوره عنهم بالكلية وتبرءوا منه بالمرة وقيل ما عبارةٌ عن الشركاء وإيقاعُ الافتراء عليها مع أنه في الحقيقة واقعٌ على أحوالها من الإلهية والشِرْكة والشفاعة ونحوِها للمبالغة في أمرها كأنها نفسالمفترى وقيل الجملة كلامٌ مستأنفٌ غيرُ داخلٍ في حيز التعجيب

(3/120)


الأنعام آية 25

(3/121)


وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)

{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} كلامٌ مبتدأ مَسوقٌ لحكاية ما صدر في الدنيا عن بعض المشركين من أحكام الكفر ثم بيانِ ما سيصدر عنهم يوم الحشر تقريراً لما قبله وتحقيقاً لمضمونه والضميرُ للذين أشركوا ومحلُ الظرفِ الرفعُ على أنه مبتدأ باعتبارِ مضمونِه أو بتقديرِ الموصوف كما في قوله تعالى ومنادون ذَلِكَ أي وجمعٌ منا الخ ومَن موصولةٌ أو موصوفةٌ محلُها الرَّفعُ على الخبرَّيةِ والمعنى وبعضهم أو وبعضٌ منهم الذي يستمع إليك أو فريق يستمع إليك على أنَّ مناطَ الإفادةِ اتصافُهم بما في حِّيزِ الصِّلةِ أو الصِّفةِ لا كونُهم ذواتِ أولئك المذكورينَ وقد مرَّ في تفسيرِ قوله تعالى ومن الماس مَن يَقُولُ الخ رُوي أنه اجتمع أبو سفيانَ والوليدُ والنضْرُ وعُتبةُ وشيبةُ وأبو جهل وأضرا بهم يستمعون تلاوةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر وكان صاحبَ أخبار يا ابا قتيلة ما يقول محمد فقال والذي جعلها بيتَه ما أدري ما يقول إلا أنه يحرِّك لسانه ويقول أساطيرَ الأولين مثلَ ما حدثتُكم من القرون الماضية فقال أبو سفيان إني لأراه حقاً فقال أبو جهل كلا فنزلت {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} من الجَعْل بمعنى الإنشاء وعلى متعلقةٌ به وضمير قلوبهم راجعٌ إلى مَنْ وجمعيتُه بالنظر إلى معناها كما أن إفرادَ ضميرِ يستمعُ بالنظر إلى لفظها وقد رُوعيَ جانب المعنى في قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ الآية والأكنة جمع كِنان وهو ما يُستر به الشيءُ وتنوينُها للتفخيم والجملة إما مستأنفةٌ للإخبار بما تضمنه من الخَتْم أو حالٌ من فاعل يستمع بإضمار قد عند من يقدِّرها قبل الماضي الواقعِ حالاً أي يستمعون إليك وقد ألقينا على قلوبهم أغطية كثيرةً لا يُقَادر قدرُها خارجةً عما يتعارفه الناس {أَن يَفْقَهُوهُ} أي كراهةَ أن يفقهوا ما يستمعونه من القرآن المدلولِ عليه بذكر الاستماع ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً لما يُنبىء عنه الكلامُ أي منعناهم أن يفقهوه {وَفِي آذَانِهِم وَقْراً} صَمماً وثِقَلاً مانعاً من سماعه والكلام فيهِ كما في قوله تعالى على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً وهذا تمثيلٌ مُعرِبٌ عن كمال جهلهم بشئون النبي عليه الصلاةَ والسلام وفرطِ نُبُوَّة قلوبهم عن فهم القرآنِ الكريم ومجِّ أسماعِهم له وقد مرَّ تحقيقُه في أول سورة البقرة وقيل هو حطكاية لما قالوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى آذاننا وَقْرٌ الآية وأنت خبيرٌ بأن مرادهم بذلك الإخبارُ بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم جهلاً وكفراً من اتصافهما بأوصافٍ مانعةٍ من التصديق والإيمانِ ككون القرآنِ سِحراً وشعراً وأساطيرَ الأولين وقسْ على ما تخيلوه في حق النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لا الإخبارُ بأن هناك أمراً وراء ذلك قد حال بينهم وبين إدراكه حائلٌ من قِبَلِهم حتى يُمكِنَ حملُ النظم الكريم على ذلك {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ} من الآيات القرآنيةِ أي يشاهدوهما بسماعها {لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} على عمومِ النفي لا على نفي العُموم أي كفروا بكل واحدى ة منها لعدم اجتلائهم غياها كما هي لما مر من حالهم {حتى إِذَا جاؤوك يجادلونك} هي حتى التي تقع بعدها الجمل والجملة هي قوله تعالى إِذَا جَاءوكَ {يَقُولُ الذين كَفَرُواْ} وما بينهما حالٌ من فاعل جاءوك وإنما وضع الموصولُ موضعَ الضمير ذمًّا لهم بما في حيِّز الصلةِ وإشعاراً لعلة الحكم أي بلَغوا من

(3/121)


الأنعام آية 26 27
التكذيب والمكابرة إلى أنهم إذا جاءوك مجادلين لك لا يكتفون بمجرد عدم افيمان بما سمعوا من الآياتِ الكريمة بل يقولون {إِنَّ هَذَا} أي ما هذا {إِلاَّ أساطير الأولين} فإنّ عدأ حسن الحديث وأصدقِه الذي لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا منْ خلفه من قبيل الأباطيلِ والخرافاتِ رتبةٌ من الكفر لا غاية وراءها ويجوز أن تكون حتى جارة وإذا ظرفيةً بمعنى وقتِ مجيئهم ويجادلونك حالٌ كما سبق وقوله تعالى يَقُولُ الذين كَفَرُواْ الخ تفسيرٌ للمجادلة والأساطيرُ جمع أُسطورة أو اسطارة أم جمع أسطار وهو جمع سَطَر بالتحريك وأصل الكل السَّطْر بمعنى الخط

(3/122)


وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)

{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} الضمير المرفوع للمذكورين والمجرورُ للقرآن أي لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه وعدِّه من قبيل الأساطير بل ينهَوْن الناسَ عن استماعه لئلا يقِفوا على حقّيته فيؤمنوا به {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي يتباعدون عنه بأنفسهم إظهاراً لغاية نفورهم عنه وتأكيداً لنهيهم عنه فإن اجتنابَ الناهي عن المنهيِّ عنه من متمّمات النهْي ولعل ذلك هو السرُّ في تأخير النأْي عن النهْي وقيل الضميرُ المجرور للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل المرفوعُ لأبي طالب ولعل جمعيته باعتبار استتباعه لأتباعه فإنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وينآى عنه فلا يؤمن به وروي أنهم اجتمعوا إليه وأرادوا برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم سوءاً فقال ... والله لن يَصِلوا إليك بجمعِهم حتى أُوسَّدَ في التراب دفينا ... فاصدَعْ بأمرك ما عليك غضاضة وابشُرْ بذاك وقَرَّ منه عيونا ... ودعوتني وزعمتَ أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينا ... وعرضتَ ديناً لا محالةَ إنه من خيرِ أديان البرية دينا ... لولا الملامةُ أو حِذاري سُبّة لوجدتني سَمْحاً بذاك مبينا فنزلت {وَإِن يُهْلِكُونَ} أي ما يهلكون بما فعلوا من النهي والنأي {إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} بتعريضها لأشد العذاب وأفظعِه عاجلاً وآجلاً وهو عذابُ الضلال والإضلال وقوله تعالى {وَمَا يَشْعُرُونَ} حال من ضمير يُهلكون أي يقصُرون الإهلاكَ على أنفسهم والحالُ أنهم ما يشعُرون أي لا بإهلاكهم أنفسَهم ولا باقتصار ذلك عليها من غير أن يُضِروا بذلك شيئاً من القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإنما عبّر عنه بالإهلاك مع أن المنفي عن غيرهم مطلقُ الضرر إذ غعاية ما يؤدي إليه ما فعلوا من القدح في القرآن الكريم الممانعةُ في تمشّي أحكامِه وظهورِ أمر الدين للإيذان بأن ما يَحيق بهم هو الهلاكُ لا الضررُ المطلقُ على أن مقصِدهم لم يكن مطلق الممانعة فيما ذُكر بل كانوا يبغون الغوائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويجوز أن يكون الإهلاكُ معتبراً بالنسبة إلى الذين يُضِلونهم بالنهي فقصْرُه على أنسهم حينئذ مع شموله للفريقين مبنيٌّ على تنزيلِ عذاب الضلال عند عذاب افضلال منزلةَ العدم

(3/122)


وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)

{وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} شروعٌ في حكاية ما سيصدر عنهم يوم القيامة من القول المناقضِ لما صدر عنهم في الدنيا من القبائحِ المَحْكيّة مع كونه كِذْباً في نفسه والخطابُ إمَّا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد

(3/122)


الأنعام آية 28
من أهل المشاهَدة والعِيانِ قصداً إلى بيانُ كمالِ سوءِ حالِهم وبلوغِها من الشناعة والفظاعةِ إلى حيثُ لا يختصُّ استغرابُها براءٍ دونَ راءٍ ممَّن اعتاد مشاهدةَ الأمورِ العجيبة بل كلُّ منْ يتأتى منْهُ الرؤيةُ يتعجبُ من هولها وفظاعتِها وجوابُ لو محذوف ثقةً بظهوره وإيذاناً بقصور العبارة عن تفصيله وكذا مفعولُ ترى لدِلالة ما في حيِّز الظرْفِ عليه لو تراهم حين يوقَفون على النار حتى يعاينوها لرأيتَ ما لا يسعه التعبيرُ وصيغةُ الماضِي للدَلالة على التحقق أو حين يطّلعون عليها اطّلاعاً وهي تحتَهم أو يدخُلونها فيعرِفون مقدارَ عذابها من قولهم وقفتُه على كذا إذا فهَّمتُه وعرَّفته وقرىء وقَفوا على البناءِ للفاعلِ منْ وقَف عليه وقوفاً {فَقَالُواْ يا ليتنا} أي إلى الدنيا تمنياً للرجوع والخلاص وهيهاتَ ولاتَ حينَ مناصٍ {وَلاَ نُكَذّبَ بآيات رَبّنَا} أي بآياته الناطقةِ بأحوال النار وأهوالها الآمرةِ باتقائها إذ هي التي تخطُر حينئذ ببالهم ويتحسرون على ما فرّطوا في حقها أو بجميع ى ياته المنتظمةِ لتلك الآياتِ انتظاماً أولياً {وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} بهَا العاملين بمقتضاها حتى لا تنرى هذا الموقفَ الهائلَ أو نكونَ من فريق المؤمنين الناجين من العذاب الفائزين بحُسن المآب ونصبُ الفعلين على جواب التمني بإضمار أنْ بعد الواو وإجرائها مجرى الفاء ويؤيده قراءةُ ابن مسعوج وابن إسحق فلا نكذبَ والمعنى إنْ رُدِدْنا لم نكذبْ ونكنْ من المؤمنين وقيل ينسَبِكُ من أن المصدرية ومن الفعل بعجها مصدرٌ متوهِّم فيُعطَف هذا عليه كأنه قيل ليت لنا رداً وانتفاءَ تكذيبٍ وكوناً من المؤمنين وقرىء برفعهما على أنه كلامٌ مستأنف كقوله دعني ولا أعودُ أي وأنا لا أعود تركتَني أو لم تترُكْني أو عطفٌ على نرد أو حال من ضميره فيكون داخلاً في حكم التمني كالوجه الخير للنصب وتعلقُ التكذيب الآتي به لما تضمّنه من العِدَة بالإيمان وعدمِ التكذيب كمن قال ليتني رُزقتُ مالاً فأكافئك هـ = على صنيعك فإنه متمنَ في معنى الواعد فلو رزق مالاً ولم يكافىءْ صاحبه يكون مكذِّباً لا محالة وقرىء برفع الأول ونصب الثاني وقد مر وجههما

(3/123)


بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)

{بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} إضرابهما يُنْبىءُ عنه التمني من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها أي ليس ذلك عن عزيمة صادقةٍ ناشئة عن رغبةٍ في الإيمان وشوق إلى تحصيله والاتصافِ به بل لأنه ظهرَ لهم في موقفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من الداهيةِ الدهياء وظنوا أنهم مُواقِعوها فلِخَوْفها وهول مطلعها قالوا ما قالوا والمراد بها النارُ التي وُقفوا عليها إذ هي التي سيق الكلامُ لتهويل أمرها والتعجيب من فظاعة حالِ الموقوفين عليها وبإخفائها تكذيبُهم بها فإن التكذيبَ بالشيء كفر به وإخفاءٌ له لا محالة وإيثاره على صريح التكذيب الوارد في قولِه عزَّ وجلَّ هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بها المجرمون وقوله تعالة هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ مع كونه أنسبَ بما قبله من قولهم ولا نكذب بآيات رَبّنَا لمراعاة ما في مقابلته من البُدُوّ هذا هُو الذي تستدعيهِ جزالةُ النظمِ الكريم وأما ما قيل من أن المراد بما يُخفون كفرُهم ومعاصيهم أو قبائحُهم وفضائحُهم التي كانوا يكتُمونها من الناس فتظهر في صحفهم وبشهادجة جوارحِهم عليهم أو شركِهم الذي يجحدون به في بعض مواقف القيامة بقولهم والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ثم يظهر بما ذُكر من شهادة الجوارحِ عليهم أو ما أخفاه رؤساء

(3/123)


الأنعام آية 29 30
الكفرة عن أتباعهم من أمر البعث والتنشور أو ما كتمه علماءُ أهل الكتابين من صحة نبوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ونُعوته الشريفة عن عوامِّهم على أن الضميرَ المجرورَ للعوام والمرفوعَ للخواص أو كفرُهم الذي أخفَوْه عن المؤمنين والضميرُ المجرور للمؤمنين والمرفوع للمنافقين فبعدج الإغضاءِ عما في كلَ منها من الاعتساف والاختلال لا سبيل إلى شيء من ذلك أصلاً لما عرفتَ من أنَّ سَوْق النظم الشريف لتهويل أمر النار وتفظيعِ حال أهلها وقد ذُكر وقوفُهم عليها وأُشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحَيْرة والدهشة ما لا يحبط به الوصفُ ورُتّب عليه تمنِّيهم المذكورُ بالفاء القاضيةِ بسببية ما قبلَها لما بعدَها فإسقاطُ النار بعد ذلك من تلك السببية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجرُ الزواجر وإسنادُها إلى شيء من الأمور المذكورة التي دونها في الهول والزجر مع عدم جَرَيانِ ذكرها ثَمةَ أمرٌ يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن أمثاله وأما ما قيل من أن المراد جزاءُ ما كانوا يُخفون فمن قبيل دخولِ البيوت من ظهورِها وأبوابُها مفتوحة فتأمل {وَلَوْ رُدُّواْ} أي من موقفهم ذلك إلى الدنيا حسبما تمنَّوْه وغاب عنهم ما شاهدوه من الأهوال {لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} من فنون القبائح التي من جملتها التكذيبُ المذكورُ ونسُوا ما عاينوه بالكلية لاقتصار أنظارِهم على الشاهدِ دون الغائب {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} أي لقومٌ ديدَنُهم الكذِبُ في كلِّ ما يأتُون وما يذرون

(3/124)


وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)

{وَقَالُواْ} عطفٌ على عادوا داخلٌ في حيز الجواب وتوسيطُ قولِه تعالى وَإِنَّهُمْ لكاذبون بينهما لأنه اعتراضٌ مسوقلتقرير ما أفاده الشرطيةُ من كذبهم المخصوصِ ولو أُخِّر لأَوْهم أن المراد تكذيبُهم في إنكارهم البعثَ والمعنى لوردوا إلى الدنيا لعادجوا لما نُهوا عنه وقالوا {إِنْ هِىَ} أيْ ما الحَيَاةُ {إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بعد ما فارقنا هذه الحياةَ كأن لم يرَوا ما رأَوا من الأحوال التي أولُها البعثُ والنشور

(3/124)


وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)

{وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ} الكلامُ فيه كالذي مر في نظيره خلا أن الوقوف ههنا مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقَفُ العبدُ الجاني بين يدَيْ سيده للعقاب وقيل عرَفوا ربهم حق التعريف وقل وُقفوا على جزاءِ ربهم وقولُه تعالى {قَالَ} استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من الكلامِ السابقِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ لهم ربهم إذ ذاك فقيل قال {أَلَيْسَ هذا} مشيراً إلى ما شاهدُوه من البهث وما يتبعه من الأمور العظام {بالحق} تقريعاً لهم على تكذيبهم لذلك وقولِهم عند سماعِ ما يتعلق به ما هو بحقَ وما هو إلا باطلٌ {قَالُواْ} استئنافٌ كما سبق {بلى وربنا} أكدوا اعتبرافهم باليمين إظهاراً لكمال يقينهم بحقِّيته وإيذاناً بصدور ذلك عنهم بالرغبة والنشاط معا في نفعه {قَالَ} استئناف كما مر {فَذُوقُواْ العذاب} الذي عاينتموه والفاءُ لترتيب التعذيب على اعترافهم بحقية ما كفروا به في الدنيا لكن لا على أن مدارَ التعذيب هو اعترافُهم بذلك بل هو كفرُهم السابقُ بما اعترفوا بحقيته الآن كما نطق به قوله عز وجل {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي بسبب كفركم في الدنيا بذلك أو

(3/124)


الأنعام 31 32
بكلِّ ما يجبُ الإيمانُ به فيدخل كفرُهم به دخولاً أولياً ولعل هذا التوبيخ والتقريع وإنما يقع بعد ما وُقفوا على النار فقالوا ما قالوا إذِ الظاهرُ أنه لا يبقى بعد هذا الأمر إلا العذاب

(3/125)


قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)

{قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله} هم الذين حُكِيت أحوالُهم لكنْ وْضع الموصولُ موضعَ الضمير للإيذان بتسبب خسرانهم بما في حيز الصلة من التكذيب بلقائه تعالى بقيام الساعة وما يترتبُ عليهِ من البعث وأحكامه المتفرعةِ عليه واستمرارِهم على ذلك فإن كلمةَ حتى في قولِه تعالى {حتى إِذَا جَاءتْهُمُ الساعة} غايةٌ لتكذيبهم لا لخُسرانهم فإنه أبديٌّ لا حدَّ له {بغتة} البغت والبغت مفاجأة للشيء بسرعة من ير شعور به يقال بغة بغْتاً وبغتةً أي فجأةً وانتصابُها إما على أنها مصدرٌ واقعٍ موقعَ الحالِ من فاعلِ جاءتهم أي مباغتة أو من مفعول أي مبغوتين وإما على أنَّها مصدرٌ مؤكِّدٌ على غير الصدر فإنّ جاءتهم في معنى بغتتهم كقولهم أتيته ركضاً أو مصدرٌ مؤكِّد لفعل محذوف وقع حالاً من فاعل جاءتهم أي جاءتهم الساعة تبغتهم بغتة {قَالُواْ} جواب إذا {يا حسرتنا} تعالَيْ فهذا أوانُك والحسرةُ شدة الندم وهذا التحسرُ وإن كان يعتريهم عند الموت لكنْ لما كان ذلك من مبادىء الساعة يمي باسمها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام من مات فقد قامت قيامتُه أو جُعل مجيءُ الساعة بعد الموت كالواقع بغير فترةٍ لسرعته {على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أي على تفريطنا في شأن الساعة وتقصيرنا في مراعاة حقها والاستعداد لها بالإيمان بها واكتسابِ الأعمالِ الصَّالحةِ كما في قوله تعالى على مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ الله وقيل الضميرُ للحياة الدنيا وإن لم يجْرِ لها ذكرٌ لكونها معلومة والتفريطُ التقصيرُ في الشيء مع القدرة على ما فعله وقيل هو التضييعُ وقيل الفَرَط السبق ومنه الفارط أي السابق ومعنى فرطلى السبْقَ لغيره فالتضعيف فيه للسلب كما في جلّدتُ البعير وقوله تعالى {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} حالٌ من فاعل قالوا فائدتُه الأيذان بأن عذابَهم ليس مقصُوراً على ما ذكِر من الحسرة على ما فات وزال بل يقاسون مع ذلك تحمُّلَ الأوزار الثِقال والإيماءُ إلى أن تلك الحسرةَ من الشدة بحيث لا تزول ولا تنسى بما يكابدونه من فنون العقوبات والسرُّ في ذلك أن العذابَ الروحانيَّ أشدُّ من الجُسمانيِّ نعوذ برحمة الله عز وجل منهما والوِزر في الأصل الحِملُ الثقيل سُمِّي به الإثمُ والذنبُ لغاية ثِقَلِه على صاحبه وذكرُ الظهور كذكر الأيدي في قوله تعالى فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فإن المعتاد حملُ الأثقالِ على الظهور كما أن المألوفَ هو الكسبُ بالأيدي والمعنى أنهم يتحسرون على ما لم يعملوا من الحسنات والحال أنعهم يحمِلون أوزارَ ما عملوا من السيئات {أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} تذييلٌ مقرِّرٌ لمَا قبلَهُ وتكملةٌ له أي بئس شيئاً يَزِرُونه وِزْرُهم

(3/125)


وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)

{وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} لمّا حقَّق فيما سبق أن وراءَ الحياة الدنيا حياةً أخرى يلقَوْن فيها من الخطوب ما يلقون بَيَّن بعدَه حالَ تينِك الحياتين في أنفسهما واللعب

(3/125)


6 -
الأنعام آية 33
عمل يشغل النفس ويفطرها عما تنتفع به واللهوُ صرفُها عن الجدّ إلى الهزل والمعنى إما على حذف الماف أو على جعل الحياة الدنيا نفسَ اللعِب واللهوِ مبالغةً كما في قول الخنساء فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ أي وما أعمالُ الدنيا أي الأعمالُ المتعلقةُ بها من حيث هي هي أو وما هي من حيث إنها محلٌ لكسب تلك الأعمال إلا لعبٌ يشغَل الناسَ ويلهيهم بما فيه من منفعةٍ سريعة الزوال ولة وشيكة الاضمحلال عما يعقُبهم منفعة جليلة باقية ولذة حقيقية غير متناهية من الإيمان والعملِ الصالحِ {وَلَلدَّارُ الاخرة} التي هي محلُ الحياة الأخرى {خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الكفرَ والمعاصِيَ لأن منافعها خالصةٌ عن المضارِّ ولذاتِها غيرُ مُنغّصةٍ بالآلام مستمرةٌ على الدوام {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان والفاء للعطف على مقدار أي تغفلون فلا تعقِلون أو ألا تتفكرون فتعقِلون وقرىء يعقلون على الغَيْبة

(3/126)


قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذى يَقُولُونَ} استئنافٌ مَسوقٌ لتسليةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه مما حُكي عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة فيه ببيان أنه عليه الصلاة والسلام بمكانة من الله عز وجل وأن ما يفعلونه في حقه فهو راجعٌ إليه تعالى في الحقيقة وأنه ينتقم منهم لا محالة أشدَّ انتقام وكلمةُ قد لتأكيد العلم بما ذكر المفيدِ لتأكيد الوعيدِ كما في قوله تعالى ما أنتم عليهخ وقوله تعالى قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين ونحوِهما بإخراجها إلى معنى التكثير حسبما يُخْرجُ إليه ربما في مثل قوله ... وإنْ تُمْسِ مهجورَ الفِناء فربما أقام به بعد الوفود وفودُ جرياً على سَننِ العرب عند قصد الإفراط في التكثير تقول لبعض قُوادِ العساكر كم عندك من الفرسان فيقول رُبَّ فارسٍ عندِي وعندُه مقانبُ جَمةٌ يريد بذلكَ التماديَ في تكثير فُرسانه ولكنه يروم إظهارَ براءته عن التزيُّد وإبرازَ أنه ممَّن يقللُ كثيرَ مَا عنده فضلاً عن تكثير القلل وعليه قوله عز وجل رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ وهذه طريقةٌ إنما تُسلك عند كون الأمر من الوضوح بحيث لا تحو حوله شائبةُ ريبٍ حقيقةً كما في الآيات الكريمة المذكورة أو ادعاءً كما في البيت وقولِه ... قَدْ أتركَ القِرْنَ مُصفرّاً أناملُهُ وقولِه ولكنه قد يُهلك المالَ نائِلُهْ والمراد بكثرة علمه تعالى كثرةُ تعلقِه وهو متعدَ إلى اثنين وما بعده ساد مسدهما واسمُ إن ضمير الشأن وخبرُها الجملة المفسرة له والموصولُ فاعل يحزنك وعائدُه محذوف أي الذي يقولونه وهو ما حُكي عنهم من قولهم إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين ونحوُ ذلك وقرىء لَيُحزِنُك من أحزن المنقول من حزن اللام وقوله تعالى {فَإِنَّهُمْ لاَ يكذبونك} تعليل لما يشعرون به الكلامُ السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا لكن لا بطريق التشاغل عنه وعدِّه هيناً والإقبالِ التام على ما هو أهمُّ منه من استعظام جحودهم بآيات الله عزَّ وجلَّ كما قيل فإنه مع كونِه بمعزلٍ من التسلية بالكلية مما يوهم كونَ حزنه عليه الصلاة والسلام لخاصة نفسه بل بطريق التسلِّي بما يفيده من بلوغه عليه الصلاة والسلام في جلالة القَدْرِ ورِفعة المحل والزُلفى من الله عز وجل إلى حيث لا غايةَ وراءَه حيثُ لم يقتصر على جعل تكذيبه صلى الله عليه وسلم تكذيباً لآياته سبحانه على طريقة قوله تعالى مَّنْ يطع الرسول

(3/126)


الأنعام آية 34
فَقَدْ أَطَاعَ الله بل نفى تكذيبهم عنه صلى الله عليه وسلم وأثبت لآياته تعالى على طريقة قوله تعالى إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا ينعون الله أيذاناً بكمال القرب واضمحلال شئونه صلى الله عليه وسلم في شأن الله عز وجل نعم فيه استعظام لجنايتاهم مُنْبىءٌ عن عظم عقوبتهم كأنه قيل لا تعتدَّ به وكِلْه إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في الحقيقة {ولكن الظالمين بآيات الله يَجْحَدُونَ} أي ولكنهم بآياته تعالى يكذّبون فوضَعَ المُظهرَ موضعَ المُضمر تسجيلاً عليهم بالرسوخ في الظلم الذي جحودهم هذا فن من فنونه والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابة واستعظام ما أقدَموا عليه من جحود آياته تعالى وإيرادُ الجحود في مورد التكذيب للإيذان بأن آياتِه تعالى من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كلُّ أحد وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود الذي هو عبارةٌ عن الإنكار مع العلم بخلافه كما في قوله تعالى وَجَحَدُواْ بها واستيقنها أَنفُسُهُمْ وهو المعنيُّ بقول من قال إنه نفْيُ ما في القلب إثباتُه أو إثباتُ ما في القلب نفيُه والباء متعلقة بيجحدون يقال جحد حقَّه وبحقِّه إذا أنكره وهو يعلمه وقيل هو لتضمين الجحود معنى التكذيب وأيًّا ما كان فتقديمُ الجارِّ والمجرور للقَصْر وقيل المعنى فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم ويعضُده ما رُوي من أن الأخْنَسَ بنَ شُرَيْقٍ قال لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادقٌ هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحدٌ غيرُنا فقال له والله إن محمداً لصادقٌ وما كذَب قطُّ ولكن إذا ذهب بنو قُصيَ باللواءِ والسِّقاية والحِجابة والنبوّة فماذا يكونُ لسائر قريش فنزلت وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمَّى الأمينَ فعرَفوا أنه لا يكذِب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون وقيل فإنهم لا يكذبونك لأنهم عندهم الصادقُ الموسومُ بالصدق ولكنهم يجحدون بآيات الله كما يروى أن أبا جهل كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما نُكذِّبُك وإنك عندنا لصادقٌ ولكنا نكذِّبُ ما جئتنا به فنزلت وكأن صدقَ المُخبرِ عند الخبيث بمطابقةِ خبرِه لاعتقادِه والأولُ هو الذي تستدعيهِ الجزالة التنزيلية وقرىء لا يُكْذِبونك من الإكذاب فقيل كلاهما بمعنى واحدٍ كأكثرَ وكثُر وأنزل نزل وهو الأظهر وقيل معنى أكذبه وجده كاذباً ونُقل عن الكسائيِّ أن العربَ تقول كذبتُ الرجلَ أي نسبتُ الكذب إليه وأكذبته أي نسبت الكذب إلى ما جاءَ به لا إليه وقوله تعالى

(3/127)


وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)

{وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} افتنانٌ في تسليته عليه الصلاة والسلام فإن عمومَ البلية ربما يهوِّنُ أمرَها بعضَ تهوين وإرشادٌ له عليه الصَّلاةُ والسلام إلا الاقتداءِ بمن قبلَه من الرسلِ الكرام عليهم الصلاة والسلام في الصبر على ما أصابهُم من أممهم من فنون الأَذِيَّة وعِدَةٌ ضمنية له عليه الصلاة والسلام بمثل ما مُنِحوه من النصر وتصديرُ الكلام بالقسم لتأكيد التسلية وتنوينُ رسلٌ للتفخيم والتكثر ومن إما متعلقةٌ بكُذِّبت أو بمحذوف وقع صفة لرسل أي وبالله لقد كذِّبت من قبل تكذيبك رسلٌ أول شأنٍ خطير وذوُو عددٍ كثير أو كُذبت رسل كانوا من زمان قبلَ زمانك {فَصَبَرُواْ على مَا كُذّبُواْ} ما مصدرية وقوله

(3/127)


الأنعام آية 35
تعالى {وَأُوذُواْ} عطفٌ على كُذبوا داخلٌ في حكمه فأنسبك منهما مصدران من المبنيِّ للمفعول أي فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم فتأسَّ بهم واصطبِرْ على ما نالكَ من قولمك والمرادُ بإيذائهم إما عينُ تكذيبهم وإما ما يقارنه من فنون الإيذاء لم يُصرَّحْ به ثقةً باستلزام التكذيب إياه غالبا وأياما كان ففيه تأكيدٌ للتسلية وقيل عطفٌ على صبروا وقيل على كذبت وقيل هو استئناف وقوله تعالى {حتى أتاهم نَصْرُنَا} غايةٌ للصير وفيه إيذانٌ بأن نَصره تعالى إياهم أمرٌ مقرَّر لا مرد له وأنه متوجه إليهم لا بد من إتيانه البتةَ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبراز الاعتناء بشأن النصر وقوله تعالى {وَلاَ مُبَدّلَ لكلمات الله} اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله من إتيان نصرِه إياهم والمراد بكلماته تعالى ما ينبىء عنه قوله تعالى وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون وقولُه تعالى كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى من المواعيد السابقة للرسلِ عليهمْ الصلاةُ والسلامُ الدالة على نُصرة رسول الله أيضاً لا نفسُ الآياتِ المذكورة ونظائرُها فإن الإخبارَ بعدم تبدّلِها إنما يفيد عدمَ تبدلِ المواعيدِ الواردةِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة جون المواعيد السابقة للرسلِ عليهمْ الصلاةُ والسلامُ ويجوزُ أن يُرادَ بكلماته تعالى جميعُ كلماته التي من جُملتِها تلك المواعيدُ الكريمةُ ويدخل فيها المواعيدُ الواردة في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسلام دخولاً أولياً والالتفاتُ إلى الإسم الجليل للإشعارِ بعلَّةِ الحُكم فإنَّ الألوهية من موجبات أن لا يغالبه أحدٌ في فعلٍ من الأفعال ولا يقعَ منه تعالى خُلْفٌ في قول من الأقوال وقوله تعالى {وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ المرسلين} جملة قَسَمية جيءَ بها لتحقيق ما مُنحوا من النصر وتأكيدِ ما في ضِمْنه من الوعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لتقرير جميعَ ما ذكِر من تكذيب الأمم وما ترتب عليه من الأمور والجارُّ والمجرور في محلِ الرفعِ على أنه فاعل إما باعتبار مضمونِه أي بعضُ نبأ المرسلين أو بتقدير الموصوف أي بعضٌ من نبأ المرسلين كما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمنا بالله الآية وأياما كان فالمرادُ بنَبَئِهم عليهم السلام على الأول نصرُه تعالى إياهم بعد اللُّتيا والتي وعلى الثاني جميعُ ما جرى بينهم وبين أممهم على ما ينبىءُ عنه قوله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء وَزُلْزِلُواْ الآية وقيل في محل النصب على الحالية من المستسكن في جاء العائدِ إلى ما يُفهم من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر كائناً من نبأ المرسلين

(3/128)


وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)

{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لتأكيد إيجاب الصبر المستفاد من التسلية ببيان أنه أمرٌ لا محيدَ عنه أصلاً أي إن كان عظُم عليك وشقَّ إعراضُهم عن الإيمان بما جئت به من القرآن الكريم حسبما يُفصح عنه ما حُكي عنهم من تسميتهم له أساطيرَ الأولين وتنائيهم عنه ونهْيِهمُ الناسَ عنه وقيل إن الحرث بن عامر بنِ نوفلِ بنِ عبدِ منافٍ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في محضر من قريش فقال يا محمدُ ائتنا بآيةٍ من عند الله كما كانت الأنبياءُ تفعل وأنا أصدقك فأبى الله أن يأتي بآية مما اقترحوا فأعرضوا عن رسول

(3/128)


الأنعام 36
الله فشق ذلك عليه لما أنَّه عليه الصَّلاةُ السلام كان شديدَ الحِرْص على إيمان قومه فكان إذا سألوا آيةً يودّ أن يُنزِلها الله تعالى طمعاً في إيمانهم فنزلت فقوله تعالى إِعْرَاضُهُمْ مرتفعٌ بكبُرَ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عليهِ لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخرة والجملة في محل النصب على أنها خبر لكان مفسرة لاسمها الذي هو ضميرُ الشأنِ ولا حاجة إلى تقدير قد وقيل اسم كان إعراضُهم وكبر جملة فعلية في محل النصب على أنها خبر لها مقدم على اسمها لأنه فعلٌ رافع لضميرٍ مستتركا هو المشهور وعلى التقديرين فقوله تعالى {فَإِن استطعت} الخ شرطيةٌ أخرى محذوفةُ الجواب وقعتْ جواباً للشرط الأول والمعنى إن شق عليك إعراضُهم عن الإيمان بما جئت به من البينات وعدمُ عدِّهم لها من قبيل الآيات وأحببتَ أن تجيبهم إلى ما سألوه اقتراحاً فإن استطعت {أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً} أي سَرَباً ومنفَذاً {فِى الارض} تنفُذ فيه إلى جَوفها {أَوْ سُلَّماً} أي مصعداً {فِى السماء} تعرج به فيها {فتأتيهم} منهما {بآية} مما اقترحوه فافعلْ وقد جُوِّز أن يكون ابتغاؤهما نفسَ الإتيان بالآية فالفاء في فتأتيَهم حينئذ تفسيرية وتنوينُ آية للتفخيم أي فإن استطعت أن تبتغيَهما فتجعلَ ذلك آيةً لهم فافعل والظرفان متعلقان بمحذوفين هما نعتات لِنفقاً وسلماً والأول لمجرد التأكيد إذ النفقُ لا يكون إلا في الأرض أو تبتغي وقد جُوِّز تعلقُهما بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل تبتغي أي أن تبتغي نفقاً كائناً أنت في الأرض أو سلماً كائناً في السماء وفيه من الدلالة على تبالُغِ حِرْصِه عليه الصلاة والسلام على إسلام قومه وتراميه إلى حيث لو قدَر على أن يأتيَ بآيةٍ من تحت الأرض أو من فوق السماء لفعل رجاء لإيمائهم ما لا يخفى وإيثار الابتغاءِ على الاتخاذ ونحوه للإيذانِ بأنَّ ما ذُكر من النفق والسُلّم مما لا يُستطاع ابتغاؤه فكيف باتخاه {وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ على الهدى} أي ولو شاء الله تعالى أن يجمعهم على ما أنتُم عليهِ من الهدى لفعله بأن يوفقهم للإيمان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ لعد صَرفِ اختيارِهم إلى جانب الهُدى مع تمكنِّهم التامِّ منه في مشاهدتهم للآياتِ الداعية إليه لا أنه تعالى لم يوفقهم له مع توجُّهِهِم إلى تحصيله وقيل لو شاء الله لجمعهم عليه بأن يأتيَهم بآيةٍ ملجئةٍ إليه ولكن لم يفعلْه لخروجه عن الحِكْمة وقوله تعالى {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} نهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من الحرصِ الشديدِ على إسلامِهم والميل إلى إتيان ما يقترحونه من الآيات طمعاً في إيمائهم مرتَّبٌ على بيان عدمِ تعلقِ مشيئتِه تعالى بهدايتهم والمعنى وإذا عرفت أنه تعالى لم يشأ هدايتهم وإيمائهم بأحد الوجهين فلا تكونَنَّ بالحرص الشديدِ على إسلامهم أو الميلِ إلى نزول مقترحاتِهم من الجاهلين بدقائق شئونه تعالى التي من حملتها مَا ذُكر من عدمِ تعلقِ مشيئتِه تعالى بإيمائهم أما اختياراً فلعدم توجُّههم إليه وأما اضطراراً فلخُروجه عن الحكمة التشريعيةِ المؤسسةِ على الاختيار ويجوز أن يُرادَ بالجاهلين على الوجه الثاني المقترِحون ويُراد بالنهْي منعه عليه الصلاة والسلام من المساعدة على اقتراحهم وإيرادُهم بعُنوان الجهل دون الكفر ونحوِه لتحقيق مَناطِ النهْي الذي هو الوصفُ الجامع بينه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وبينهم

(3/129)


إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ}

(3/129)


تقريرٌ لما مرَّ منْ أنَّ على قلوبهم أكنةً مانعة من الفقه وفي آذانهم وَقراً حاجزاً من السماع وتحقيقٌ لكونهم بذلك من قبيل الموتى لا يُتصور منهم الإيمانُ البتةَ والاستجابةُ الإجابةُ المقارنة للقَبول أي إنما يَقبلُ دعوتَك إلى الإيمان اللذين يسمعون ما يلقى إليهم سماع تفهم وتدبر جون الموتى الذين هؤلاء منهم كقوله تعالى إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وقوله تعالى {والموتى يَبْعَثُهُمُ الله} تمثيلٌ لاختصاصه تعالى بالقدرة على توفيقهم للإيمان باختصاصه تعالى بالقدرة على بعث الموتى من القبور وقيل بيانٌ لاستمرارهم على الكفر وعدمِ إقلاعهم عنه أصلاً أن الموتى من القبور وقيل بيان مستعارٌ للكفرة بناءً على تشبيه جهلهم بموتهم أي وهؤلاء الكفرة يبعثهم الله تعالى من قبورهم {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} للجزاء فحينئذ يستجيبون وأما قبل ذلك فلا سبيل إليه وقرىء يَرْجِعون على البناءِ للفاعلِ منْ رجَع من رجوعا والمشهورة أو في بحق المقام لإنبائه عن كون مرجِعِهم إليه تعالى بطريق الاضطرار

(3/130)


وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)

{وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ آية مّن رَّبّهِ} حكايةٌ لبعضٍ آخَرَ من أباطيلهم بعد حكايةِ ما قالُوا في حقِّ القرآن الكريم وبيانِ ما يتعلّق به والقائلون رؤساء قريش وقيل الحرث بن عامر بن نوفل وأصحابُه ولقد بلغت بهم الضلالةُ والطغيان إلى حيث لم يقتنعوا بما شاهدوا من البينات التي تخِرُّ لها صمُّ الجبال حتى اجترءوا على ادِّعاء أنها ليست من قبيل الآياتِ وإنما هي ما اقترحواه من الخوارقِ الملجئةِ أو المُعْقِبة للعذاب كما قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هَذا هُوَ الحقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ الآية والتنزيل بمعنى الإنزال كما ينبىءُ عنْهُ القراءةُ بالتخفيف فيما سيأتي وما يفيده التعرضَ لعنوان ربوبيتِه تعالى له عليه الصلاة والسلام من الإشعار بالعلّية إنما هو بطريق التعريض بالتهكّم من جهتهم وإطلاق الآيةِ في قوله تعالى {قل إِنَّ الله قَادِرٌ على أن ينزل آية} مع أن المرادَ بها ما هو من الخوارق المذكورةِ لا آيةٌ ما من الآيات لفساد المعنى مجاراةً معهم على زعمهم ويجوزُ أنْ يُرادَ بها آيةٌ مُوجبةٌ لهلاكهم كإنزال ملائكةِ العذاب ونحوه على أن تنوينها للتفخيم والتهويل كما أن إظهارَ الاسمِ الجليل لتربية المهابةِ مع ما فيه من الإشعار بعِلّة القُدرة الباهرةِ والاقتصار في الجواب على بيانِ قدرتِهِ تعالَى على تنزيلِها مع أنها ليست في حيز الإنكار للإيذان بأن عدم تنزيله تعالى إياها مع قدوته عليه لحكمةٍ بالغة يجب معرفتها وهم عنها غافلون كما ينبىء عنه الاستدراكُ بقوله تعالى {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي ليسوا من أهل العلم على أن المفعول مطروحٌ بالكلية أو لا يعلمونَ شيئاً على أنه محذوفٌ مدلولٌ عليه بقرينةِ المقام والمعنى أنَّه تعالى قادرٌ على أن ينزل آيةً من ذلك أو آيةً أيَّ آية ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ فلا يدرون أن عدمَ تنزيلِها مع ظهور قدرته عليه لما أفي تنزيلها قلْعاً لأساسِ التكليف المبنيِّ على قاعدة الاختيار أو استئصالاً لهم بالكلية فيقترحونها جهلاً ويتخذون عدم تنزيلها ذريعةً إلى التكذيب وتخصيصُ عدم العلم بأكثرهم لما أن بعضَهم واقفون على حقيقة

(3/130)


الأنعام آية 38 39
الحال وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرةً وعناداً وقوله تعالى

(3/131)


وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)

{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض} إلخ كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لبيان كمال قدرتِه عز وجل وشمول علمه وسعةِ تدبيرِه ليكون كالدليل على أنَّه تعالى قادرٌ على تنزيل الآية وإنما لا يُنزِّلُها محافظةً على الحِكَم البالغةِ وزيادةُ من لتأكيد الاستغراق وفي متعلقةٌ بمحذوفٍ هو وصفٌ لدابة مفيد لزيادة التعميم كأنه قيل وكا فردٌ من أفراد الدوابِّ يستقرّ في قُطر من أقطارِ الأرضوكذا زيادةُ الوصف في قوله تعالى {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} مع ما فيه من زيادة التقرير أي ولا طائرٍ من الطيور يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه كما هو المشاهَدُ المعتاد وقرىء ولا طائرٌ بالرَّفعِ عطفاً عَلى محلِّ الجار والمجرور كأنه قيل وما مِنْ دابة ولا طائر {إِلاَّ أُمَمٌ} أي طوائفُ متخالفةٌ والجمع باعتبارِ المَعْنى كأنَّه قيلَ وما مِنْ دوابَّ ولا طيرٍ إلا أممِ {أمثالكم} أي كلُّ أمة منها مثلُكم في أن أحوالها محفوظةٌ وأمورَها مقنَّنة ومصالحَها مرعيةٌ جاريةٌ على سَنن السَّداد ومنتظمةٌ في سلك التقديرات الإلهية والتدبيراتِ الربانية {مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء} يقال فرط الشيء ألأي ضيَّعه وتركه قال ساعدة بن حُوَية معه سِقاءٌ لا يُفرِّط حملَه أي لا يتركه ولا يفارقه ويقال فرّط في الشيء أي أهمل ما ينبغي أن يكون فيه وأغفله فقوله تعالى فِى الكتاب أي في الرقى ن على الأول ظرفُ لغوٍ وقوله تعالى مِن شَىْء مفعول لفرطنا ومن مزيدة للاستغراق أي ما تركنا في القرآن شيئاً من الأشياء المُهمّة التي من جُملتِها بيانُ أنه تعالى مراعٍ لمصالحِ جميعِ مخلوقاته على ما ينبغي وعلى الثاني مفعول للفعل ومن شيء في موضع المصدر أي ما جعلنا الكتاب مفرَّطاً فيه شيئاً من التفريط بل ذكرنا فيه كلَّ ما لا بد من ذكره وأيا ما كان فالجملةُ اعتراضٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبلها وقيل الكتابُ اللوْح فالمراد بالاعتراضِ الإشارة إلى أن أحوالَ الأمم مستقصاةٌ في اللوح المحفوظ غيرُ مقصورة على هذا القدر المُجمل وقرىء فَرَطنا بالتخفيف وقوله تعالى {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} بيانٌ لأحوال الأمم المذكورة في الآخرةِ بعد بيانِ أحوالها في الدنيا وإيرادُ ضميرها على صيغة جمع العقلاء لإجرائها مُجراهم والتعبير عنها بالأمم أي إلى مالك أمورهم يحشرون يوم القيامة كدأبكم لا إلى غيره فيجازيهم فيُنصِفُ بعضَهم من بعض حتى يبلُغ من عدله أن يأخذ للجّماءِ من القَرْناء وقيل حشرُها موتها ويأباه مقامُ تهويل الخطب وتفظيع الحال وقوله تعالى

(3/131)


وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)

{والذين كذبوا بآياتنا} متعلق بقوله تعالى مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء والموصول عبارةٌ عن المعهودِين في قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ الايات ومحلُه الرفعُ على الابتداء خبرُه ما بعده أي أوردنا في القرآن جميعَ الأمور المهمة وأزَحْنا به العلل ة والأعذارَ والذين كذبوا بآياتنا

(3/131)


الأنعام آية 40 41
التي هي منه {صُمٌّ} لا يسمعونها سمعَ تدبرٍ وفهمٍ فلذلك يسمّونها أساطيرَ الأولين ولا يعدّونها من الآيات ويقترحون غيرها {وَبُكْمٌ} لا يقدِرون على أن ينطِقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون دعوتك بهَا وقولُهُ تعالَى {فِى الظلمات} أي في ظلمات الكفر أو ظلمات الجهل والعناد والتقليد إما خبر ثان للمبتدأ على أنه عبارةٌ عن العمى كما في قوله تعالى صم بكم عمي وإما متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المستكنِّ في الخبر كأنه قيل ضالون كائنين في الظلمات أو صفةً لبكْم أي بُكم كائنون في الظلمات والمراد به بيانُ كمالِ عراقتهم في الجهل وسوء الحال فإن الأصمَّ الأبكمَ إذا كان بصيراً ربما يَفهم شيئاً بإشارةِ غيرِه وإن لم يفهَمْه بعبارته وكذا يُشعِرُ غيرَه بما في ضميره بالإشارة وإن كان معزولاً عن العبارة وأما إذا كان مع ذلك أعمى أو كان في الظلمات فينسدّ عليه بابُ الفهم والتفهيم بالكلية وقوله تعالى {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} تحقيقٌ للحق وتقريرٌ لما سبق ممن حالهم ببيانِ أنهم من أهل الطبْعِ لا يتأتَّى منهمْ الإيمانُ أصلاً فمَنْ مبتدأ خبره ما بعد ومفعولُ المشيئة محذوفٌ على القاعدة المستمرَّة من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ وانتفاءِ الغرابةِ في تعلقها به أي من يشأ الله إضلالَه أي أن يخلُق فيه الضلالَ يضلِلْه أي يخلُقه فيه لكن لا ابتداءً بطريق الجَبْرِ من غير أن يكونَ له دخلٌ ما في ذلك بل عند صَرْفِ اختياره إلى كَسْبه وتحصيلِه وقِسْ عليه قولُه تعالَى {وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ} لا يضِلُّ من ذهب إليه ولا يزِلُّ من ثبَت قدمُه عليه

(3/132)


قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)

{قُلْ أَرَأَيْتُكُم} أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُبكِّتَهم ويُلقِمَهم الحجرَ بما لا سبيلَ لهم إلى النكير والكاف حرف جيء به لتأكيد الخطاب لا محلَّ له من الإعراب ومبنى التركيب وإن كان على الاستخبار عن الرؤية قلبية كانت أو بصَرية لكنّ المرادَ به الاستخبارُ عن مُتعلَّقِها أي أخبروني {إِنْ أتاكم عَذَابُ الله} حسبما أتى الأممَ السابقةَ من أنواع العذاب الدنيوي {أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة} التي لا محيصَ عنها البتة {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} هذا مناطُ الاستخبار ومحطّ التبكيت وقوله تعالى {إِن كُنتُمْ صادقين} متعلق بأرأيتكم مؤكِّد للتبكيت كاشفٌ عن كذبهم وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقة بدِلالة المذكورِ عليهِ أيْ إِن كُنتُمْ صادقين في أن أصنامكم آلهةٌ كما أنها دعواكم المعروفةُ أو إن كنتم قوماً صادقين فأخبروني أغيرَ الله تدعون إن أتاكم عذابُ الله الخ فإن صدقهم بأيِّ معنى كان من موجبات إخبارِهم بدعائهم غيرَه سبحانه وأما جعلُ الجواب ما يدلُّ عليه قولُه تعالى أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ أعني فادعوه على أن الضميرَ لغير الله فمُخِلٌّ بجزالة النظمِ الكريم كيف لا والمطلوبُ منهم إنما هو الإخبارُ بدعائهم غيرَه تعالى عند إتيانِ ما يتأتى لا نفسُ دعائهم إياه وقوله تعالى

(3/132)


بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)

{بَلْ إياه تَدْعُونَ} عطفٌ على جملة منفيةٍ ينْبىء عنها الجملةُ التي تعلقَ بها الاستخبارُ إنباءً جلياً كأنه قيل لا غيرَه تعالى تدعون بل غياه تدعون وقوله تعالى {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} أي إلى كشفه عطفٌ على تدعون أي فيكشفه إثرَ دعائِكم وقولُه تعالَى {إِن شَاء الله} أي أنْ شاء كشفَه لبيانِ أن قبولَ دعائِهم غيرُ مطَّردٍ بل هو تابع

(3/132)


الأنعام آية 42 44
لمشيئته المبنيةِ على حِكَمٍ خفية وقد استأثر الله تعالى بعلمها فقد يقبلُه كما في بعض دعواتهم المتعلقةِ بكشف العذاب الدنيوي وقد لا يقبله كما في بعض آخَرَ منها وفي جميع ما يتعلق بكشف العذابِ الأخرويِّ الذي من جملته الساعةُ وقوله تعالى {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} أي تتركون ما تشركونه به تعالى من الأصنامِ تركاً كلياً عطفٌ على تدعون أيضاً وتوسيطُ الكشفِ بينهما مع تقارنهما وتأخُرِ الكشف عنهما لإظهار كمال العناية بشأن الكشفِ والأيذان بترتّبه على الدعاء خاصةً وقولُه تعالى

(3/133)


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)

{ولقد أرسلنا} مكلام مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أن منهم ة من لا يدعو الله تعالى عند إتيانِ العذاب أيضاً لتماديهم في الغيِّ والضلال لا يتأثرون بالزواجر التنزيلة وتصديرُه بالجملة القَسَمية لإظهار مزيدِ الاهتمام بمضمونه ومفعول أرسلنا محذوف لما أنَّ مُقتضى المقام بيانُ حال المرسَل إليهم لا حالِ المرسلين أي وبالله لقد أرسلنا رسلاً {إلى أُمَمٍ} كثيرة {مِن قَبْلِكَ} أي كائنة من زمان قبلَ زمانك {فأخذناهم} أي فكذبوا رسلهم فأخذناهم {بالبأساء} أي بالشدة والفقر {والضراء} أي الضر والآفات وهما صيغنا تأنيثٍ لا مذكر لهما {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أي لكي يدعوا الله تعالة في كشفها بالتضرّع والتذلل ويتوبوا إليه من كفرهم ومعاصيهم

(3/133)


فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)

{فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} أي فلم يتضرعوا حينئذ مع تحقق ما يستدعيه {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} استدراكٌ عما قبله أي فلم يتضرعوا إليه تعالى برقةِ القلب والخضوع مع تحقق ما يدعوهم إليه ولكن ظهر منهم نقيضُه حيث قستْ قلوبُهم أي استمرتْ على ما هي عليه من القساوة أو ازدادَتْ قساوةً كقولك لم يُكرِمْني إذ جئتُه ولكن أهانني {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان ما كانوا يعملون} من الكفر والمعاصي فلم يُخْطِروا ببالهم أنّ ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله وقيل الاستدراك لبيان أنَّه لم يكُن لهم في ترك التضرُّع عذرٌ سوى قسوةِ قلوبهم والإعجابِ بأعمالهم التي زيَّنها الشيطانُ لهم وقوله تعالى

(3/133)


فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)

{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ به} عطف على مقدَّرٍ ينساقُ إليه النظمُ الكريمُ أي فانهمَكوا فيه ونسُوا ما ذُكَّروا به من البأساء والضّراء فلما نسوه {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء} من فنون النَّعْماء على منهاج الاستدراج لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال مُكِر بالقوم ورب الكعبة وقرىء فتّحنا بالتشديد للتكثير وفي ترتيب الفتح على النسيان المذكور إشعارٌ بأن التذكر في الجملة غير خالٍ عن النفع وحتى في قولِه تعالى {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} هي التي يُبتدأ بها الكلامُ دخلتْ على الجملةِ الشرطية كما في قوله تعالى حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا الآية ونظائرِه وهي

(3/133)


الأنعام آية 45 47
مع ذلك غاية لقوله تعالى فَتَحْنَا أو لما يدل هو عليه كأنه قيل ففعلوا ما فعلوا حتى إذا اطمأنوا بما أتيح لهم وبطِروا وأشِروا {أخذناهم بَغْتَةً} أي نزل بهم عذابنا فجأةً ليكون أشدَّ عليهم وقعا وأفظع هو لا {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} متحسِّرون غاية الحسرة آيسون من كل هير واجمون وفي الجملة الاسميةِ دلالة على استقرارهم على تلك الحالة الفظيعة

(3/134)


فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)

{فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ} أي آخِرُهم بحيث لم يبقَ منهم أحد من دبره دبرا ودبورا أي تبعه ووضعُ الظاهر موضعَ الضميرِ للإشعارِ بعلةِ الحُكم فإن هلاكهم بسبب زلمهم الذي هو وضعُ الكفر موضعَ الشكر وإقامةُ المعاصي مُقامَ الطاعات {والحمد للَّهِ رَبّ العالمين} على ما جرى عليهم من النَّكال فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث أنه تخليصٌ لأهل الأرض من شؤم عقائدِهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمةٌ جليلة مستجلِبةٌ للحمد لا سيما مع ما فيه من إعلاءِ كلمةِ الحق التي نطقَت بها رسلُهم عليهم السلام

(3/134)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)

{قل أرأيتم} أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتكرير التبكيت عليهم وتثنيةِ الإلزامِ بعد تكملةِ الإلزامِ الأولِ ببيان أنه أمرٌ مستمرٌ لم يزَلْ جارياً في الأمم وهذا أيضاً استخبارٌ عن متعلَّق الرؤية وإن كان بحسب الظاهر استخباراً عن نفسِ الرؤية {إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم} بأن أصَمّكم وأعماكم بالكلية {وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ} بأن غطى عليها بما لا يبقى لكم معه عقلٌ وفهمٌ أصلاً وتصيرون مجانين ويجوز أن يكون الختمُ عطفاً تفسيرياً للأخذ المذكور فإن السمعَ والبصر طريقان للقلب منهما يرِدُ ما يرِدُه من المدرَكات فأخذهما سد لبابه وهو السرُّ في تقديم أخذِهما على ختمها وأما تقديمُ السمع على الإبصار فلأنه مورِدُ الآياتِ القرآنية وإفرادُه لما أن أصله مصدَرٌ وقوله تعالى {مِنْ إله} مبتدأ وخبر ومن استفهامية وقوله تعالى {غَيْرُ الله} صفةٌ للخبر وقوله تعالى {يَأْتِيكُمْ بِهِ} أي بذاك على أن الضميرَ مستعارٌ لاسم الإشارة أو بما أَخَذ وخَتَم عليه صفةٌ أخرى له والجملة متعلَّقُ الرؤية ومناطُ الاستخبار أي أخبروني إنْ سلب الله مشاعرَكم من إله غيرُه تعالى يأتيكم بها وقوله تعالى {انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الايات} تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم تأثُّرِهم بما عاينوا من الآيات الباهرةِ أي انظر كيف نكرِّرها ونقرِّرها مصروفةً من أسلوب إلى أسلوب تارةً بترتيب المقدِّمات العقلية وتارةً بطريق الترغيب والترهيب وتارةً بالتنبيه والتذكير {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} عطفٌ على نصرِّف داخلٌ في حُكمه وهو العُمدة في التعجيب وثم لاستبعاد صدوفهم أي إعراضِهم عن تلك الآيات بعد تصريفها على هذا النمط البديعِ الموجبِ للإقبال عليها

(3/134)


قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)

{قُلْ أَرَأَيْتُكُم} تبكيتٌ آخَرُ لهم بإلجائهم إلى الاعترافِ باختصاص للعذاب بهم {إِنْ أتاكم عَذَابُ الله} أي

(3/134)


الأنعام آية 48
عذابُه العاجلُ الخاصُّ بكم كما أتى مَنْ قبلكم من الأممِ {بَغْتَةً} أي فجأةً من غير أن يظهرَ منه مخايِلُ الإتيان وحيثُ تضمّن هذا معنى الخُفية قوبل بقوله تعالى {أَوْ جَهْرَةً} أي بعد ظهورِ أماراتِه وعلائمه وقيل ليلاً أو نهاراً كما في قوله تعالى بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا لما أن الغالبَ فيما أتى ليلاً البغتةُ وفيما أتى نهاراً الجهرةُ وقرىء بغتة أو جهرة وهما في موضع المصدر أي إتيانَ بغتةٍ أو إتيانَ جهرة وتقديمُ البغتة لكونها أهولَ وأفظعَ وقوله تعالى {هَلْ يُهْلَكُ} متعلَّق الاستخبار والاستفهام للتقرير أي قل لهم تقريراً لهم باختصاص الهلاكِ بهم أخبروني إن أتاكم عذابه تعالى حسبما تستحقونه هل يُهلك بذلك العذاب إلا أنتم أي هل يُهلك غيرُكم ممن لا يستحقه وإنما وُضع موضعَه {إِلاَّ القوم الظالمون} تسجيلاً عليهم بالظلم وإيذاناً بأن مناطَ إهلاكهم ظلمُهم الذي هو وضعُهم الكفرَ موضعَ الإيمان وقيل المرادُ بالظالمين الجنسُ وهو داخلون في الحكم دجخولا أولياً قال الزجاج هل يُهلك إلا أنتم ومن اشبهكم ويأباه تخصيص افتيان بهم وقيل الاستفهامُ بمعنى النفي فمتعلَّق الاستخبارِ حينئذ محذوفٌ كأنه قيل أخبروني إن أتاكم عذابه تعالى بغتة أو جهرة مذا يكون الحال ثم قيل بياناً لذلك ما يُهلك إلا القومُ الظالمون أي ما يُهلك بذلك العذاب الخاصِّ بكم إلا أنتم فمن قيَّد الهلاكَ بهلاك التعذيب والسُخط لتحقيق الحصْرِ بإخراج غيرِ الظالمين لِما أنه ليس بطريقِ التعذيب والسَّخَطِ بل بطريق الإثابة ورفع الدرجة فقد أهمل ما يُجْديه واشتغل بما لا يعينه وأخلَّ بجزالة النظم الكريم وقرىء هل يَهلِك من الثلاثي

(3/135)


وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)

{وَمَا نُرْسِلُ المرسلين} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيانِ وظائفِ منْصِبِ الرسالة على الإطلاق وتحقيقِ ما في عُهدة الرسلِ عليهم السلام وإظهارُ أن ما يقترحه الكفرةُ عليه عليه السلام ليس مما يتعلقُ بالرسالة أصلاً وصيغةُ المضارع لبيانِ أن ذلك أمرٌ مستمرٌّ جرتْ عليه العادةُ الإلهية وقوله تعالى {إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} حالات مقدّرتان من المُرْسلين أي ما نرسِلُهم إلا مقدَّراً تبشيرُهم وإنذارُهم ففيهما معنى العلة الغائبة قطعاً أي ليبشروا قومَهم بالثواب على الطاعة وينذروهم بالعذاب على المعصية أي ليُخبروهم بالخبر السار والخبرِ الضارّ دنيويا كان أو أخرويا من غير أن يكون لهم دخلٌ ما في وقوع المخبَر به أصلاً وعليه يدور القصر والإ لزم أن لا يكون بيان الشرائع والأحكام من وظائف الرسالة والفاء في قوله تعالى {فمن آمن وَأَصْلَحَ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها ومن موصوله والفاء في قوله تعالى {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} لشَبَه الموصول بالشرط أي لا خوف عليهم من العذاب الذي أُنذِروه دنيوياً كان أو أخروياً ولا هم يحزنون بفوات ما بُشِّروا به من الثواب العاجل والآجل وتقديمُ نفْيِ الخوفِ على نفْيِ الحُزْن لمراعاة حقِّ المقام وجمعُ الضمائر الثلاثة الراجعة إلى مَنْ باعتبارِ معناها كما أنَّ إفرادَ الضميرَيْن السابقين باعتبار لفظها أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون والمرادُ بيانُ دوام انتفاءِ دوامِهما كما يُوهمه كونُ الخبرِ في الجملة الثانية مضارعا

(3/135)


الأنعام آية 49 50
لما تقرر في موضعه من أن النفيَ وإن دخل على نفس المضارع يُفيد الدوام والاستمرارَ بحسب المقام ألا يُرى أن الجملةَ الاسميةَ تدلُّ بمعونة المقام على استمرار الثبوت فإذا دخل عليها حرفُ النفي دلت على استمرار الانتفاءِ لا على انتفاء الاستمرار كذلك المضارعُ الخاليَ عن حرف النفي يفيد استمرار الثبوت فإذا دخل عليه حرفُ النفي يفيد استمرارَ الانتفاء لا انتفاء الاستمرار ولا بُعْد في ذلكَ فإن قولك ما زيداً ضربت مفيدٌ لاختصاص النفي لا نفي الاختصاص كما بُيّن في محله وقوله عز وجل

(3/136)


وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)

{الذين كانوا} عطفٌ على مَنْ آمن دالخل في حكمه قوله تعالى {بآياتنا} إشارى ة إلى أن ما ينطِقُ به الرسلُ عليهم السَّلامُ عند التبشير والإنذار ويبلّغونه إلى الأمم ى ياته تعالى وأن من آمن به فقد آمن بآياته تعالى ومن كذب به فقد كذب بها وفيهِ من الترغيبِ في الإيمان به والتحذيرِ عن تكذيبه ما لا يخفى والمعنى ما نرسل المرسلين إلا ليُخبروا أممهم من جهتنا بما سيقع منا من الأمور السارّة والضارّة لا ليُوقعوها استقلالاً من تلقاء أنفسهم أو استدعاءً من قِبَلِنا حتى يقترحوا عليهم ما يقترحون فإذا كان الأمرُ كذلك فمن ى من بما أَخبروا به من قبلنا تبشيراً أو إنذاراً في ضمن آياتنا وأصلح ما يجب إصلاحُه من أعماله أو دخل في الصلاح فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا التي بُلِّغوها عند التبشير والإنذار {يَمَسُّهُمُ العذاب} أي العذاب الذي أُنذِروه عاجلاً أو آجلاً أو حقيقةُ العذاب وجنسُه المنتظمُ له انتظاماً أولياً {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أي بسبب فسقهم المستمر الذي هو الإصرارُ على الخروج عن التصديق والطاعة

(3/136)


قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)

{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله} استئنافٌ مبنيٌّ على ما أسِّسَ من السنة الإلهية في شأنِ إرسالِ الرسل وإنزالِ الكتب مسوق لإظهار تبرئه صلى الله عليه وسلم عما يدورُ عليه مقترحاتُهم أي قل للكفرة الذين يقترحون عليك تارةً تنزيلَ الآياتِ وأخرى غيرَ ذلك لا أدَّعي أن خزائنَ مقدوراتِه تعالى مُفوَّضةٌ إلي أتصرف فيهما كيفما شاء استقلالاً أو استدعاءً حتى تقترحوا عليّ تنزيلَ الآياتِ أو إنزالَ العذاب أو قلبَ الجبال ذهباً أو غير ذلك مما لا يليق بشأني وجعلُ هذا تبرُّؤاً عن دعوى الإلهية مما لا وجهَ لَهُ قطعاً وقوله تعالى {وَلاَ أَعْلَمُ الغيب} عطفٌ على محلَّ عندي خزائنُ الله أي ولا أدّعي أيضاً أني أعلم الغيبَ من أفعاله تعالى حتى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت نزول العذاب أو نحوهما {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ} حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقةِ للعادات ما لا يطيق به البشرُ من الرُقيِّ في السماء ونحوه أو تعدوا عدمَ اتّصافي بصفاتهم قادحاً في أمري كما ينبىء عنه قولهم مال هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الاسواق والمعنى إني لا أدعي شيئا من هذه الأشياء الثلاثة حتنى تقترحوا عليَّ ما هو من آثارها وأحكامها وتجعلوا عدمَ إجابتي إلى ذلك دليلا على عد صحةِ ما أدَّعيه من الرسالة التي لا تعلُّقَ لها بشيء مما ذُكر قطعاً بل إنما هي

(3/136)


الأنعام آية 51
عبارةٌ عن تلقِّي الوحْي من جهةِ الله عزَّ وجل والعملِ بمقتضاه فحسْب حسْبما ينبيء عنه قوله تعالى {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} لا على معنى تخصيص اتباعه صلى الله عليه وسلم بما يوحى إليه دون غيرِه بتوجيِه القَصْر إلى المفعول بالقياس إلى مفعولٍ آخرَ كما هو الاستعمالُ الشائعُ الواردُ على توجيه القصْر إلى ما يتعلَّق بالفعلِ باعتبار النفي في الأصل والإثبات في القيد بل على معنى تخصيص حاله صلى الله عليه وسلم باتباع ما يوحى إليه بتوجيه القصرِ إلى نفسِ الفعلِ بالقياس إلى ما يغرّه من الأفعالِ لكن لا باعتبار النَّفي والإثباتِ معاً في خصوصية فإن ذلك غيرُ ممكنٍ قطعاً بل باعتبار النفي فيما يتضمنه من مطلق القعل والإثباتِ فيما يقارنه من المعنى المخصُوص فإنَّ كلَّ فعلٍ من الأفعال الخاصَّةِ كنصر مثلاً ينحلُّ عند التَّحقيقِ إلى معنى مطلقٍ هو مدلولُ لفظِ الفعلِ وإلى معنى خاص يقومه فإن معناه فصل النصْرَ يُرشدك إلى ذلك قولُهم معنى فلانٌ يُعطي ويَمنعُ يفعلُ الإعطاءَ والمنعَ فموردُ القصرِ في الحقيقةِ ما يتعلق بتوجيه النفي إلى الأصل والإثباتِ إلى القيد كأنه قيل ما أفعلُ إلا اتباعَ ما يُوحَى إليَّ من غير أن يكون لي مدخَلٌ ما في الوحي أو في الموحى بطريق الاستدعاء أو بوجهٍ آخرَ من الوجوه أصلاً {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير} مثل للضال والمهتدي على الإطلاق والاستفهام إنكاري والمراد إنكاري استواءِ مَنْ لا يعلم ما ذُكر من الحقائق ومن يعلمُها وفيه من الإشعار بكمالِ ظهورِها ومن التنفير عن الضلالِ والترغيب في الاهتداء ما لا يَخْفى وتكريرُ الأمر لتثنية التبكيتِ وتأكيدِ الإلزام وقوله تعالى {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} تقريعٌ وتوبيخٌ داخلٌ تحت الأمر والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي لا تَسْمَعُونَ هذا الكلامَ الحقَّ فلا تتفكرون فيم أو أتسمعون فلا تتفكرون فيه فمناطُ التوبيخِ في الأول عدمُ الأمرَيْنِ معاً وفي الثَّانِي عدمُ التفكر مع تحقق ما يوجيه

(3/137)


وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)

{وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ} بعد ما حكَى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن من الكفرة قوماً لا يتعظون بتصريف الآيات الباهرة ولا يتأثرون بمشاهدة المعجزات القاهرة قد إيفت مشاعرُهم بالكلية والتحقوا بالأموات وقرَّر ذلك بأن كرَّر عليهم من فنون التبكيت والإلزام ما يُلقِمُهم الحجرَ أي غلقام فأبَوا إلا الإباءَ والنكيرَ وما نجَع فيهم عِظةٌ ولا تذكير ة وما أفادهم الإنذارُ إلا افصرار على الإنكار أُمرَ عليه الصلاةُ والسلامُ بتوجيه الإنذار إلى مَنْ يتوقعُ منهم التأثرَ في الجملة وهم المحجوزون منهم للحشر على الوجه الآتي سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب وبعضِ المشركين المعترفين بالبعث المتردِّدين في شفاعة آبائهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالأولين أو في شفاعة الأصنام كالآخِرين أو متردّدين فيهما معاً كبعض الكفرة الذين يُعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديث البعث يخافون أن يكون حقاً وأما المنكرون للحشر رأساً والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم وقد قيل هم المفرِّطون في الأعمال من المؤمنين ولا يساعدُه سِباقُ النَّظم الكريمِ ولا سياقه بل فيه ما يقضي باستحالة صحته كما ستقف عليه

(3/137)


الأنعام آية 52
والضميرُ المجرورُ لما يوحى أو لما دَلَّ هو عليهِ من القرآن والمفعولُ الثاني للإنذار إما العذابَ الأخرويَّ المدلولَ عليه بما في حيز الصلة وإما مطلقَ العذابَ الذي وردَ به الوعيدُ والتعرّضُ لعنوان الربوبية المنبشة عن المالكية المطلقة والتصرف اكلي لتربية المهابة وتحقيق المخافة وقوله تعالى {لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شفيع} في حين النصب على الحالية من ضمير يحشروا ومن متنعلقة بمحذوفٍ وقعَ حالاً من اسم ليس لأنَّه في الأصلِ صفةٌ له فلما قد عليه انتصب حالاً خلا أن الحال الأولى لإخراج الحشر الذي لم يقيد بها عن حيز الخوف وتحقيقِ أن ما نيط به الخوفُ هو الحشر على تلك الحالة لا الحشرُ كيفما كان ضرورةَ أن المعترفين به الجازمين بنُصرة غيرِه تعالى بمنزلةِ المنكرين له في عدم الخوفِ الذي عليه يدورُ أمرُ الإنذار وأما الحالُ الثانية فليست لإخراج الوليِّ الذي لم يقيد بها عن حيز الانتفاء لفساد المعنى لاستلزام ثبوتِ ولايتِه تعالى لهم كما في قوله تعالى ومالكم من دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ بل لتحقيق مدارِ خوفهم وهو فُقدان ما علّقوا به رجاءَهم وذلك إنما هو ولايةُ غيرِه سبحانه وتعالى في قوله تعالى وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الارض وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء والمعنى أنذر به الذين يخافون أن يحشروا غيرَ منصورين من جهة أنصارهم على زعمهم ومن هذا اتضح أن لا سبيلَ إلى كون المرادِ بالخائفين المفرِّطين من المؤمنين غذ ليس لهم والي سواه تعالى ليخافوا الحشرَ بدون نصرته وإنما الذي يخافونه الحشرَ بدون نُصرته وإنما الذي يخافونه الحشر بدون نصرته عزَّ وجلَّ وقولُه تعالَى {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} تعليل للأمر أي أنذرهم مرجواً منهم التقوى

(3/138)


وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)

{وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى} لما أمر صلى الله عليه وسلم بإنذار المذكورين لينتظموا في سلك المتقين نهي صلى الله عليه وسلم عن كون ذلك بحيث يؤدي إلى طردهم رُوي أن رؤساءَ من المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو طردتَ هؤلاء الأعبُدَ وأرواحَ جبابهم يعنون فقراءَ المسلمين كعمارٍ وصهيبٍ وخبابٍ وسَلمانَ وأضرابهم رضي الله تعالى عنهم جلسنا إليك وحادثناك فقال صلى الله عليه وسلم ما أنا بطارد المؤمنين فقالوا فأقِمْهم عنا إذا جئنا فإذا قُمنا فأقعِدْهم معك إن شئت قال صلى الله عليه وسلم نعم طمعاً في إيمانهم ورُوي أن عُمر رضي الله تعالى عنه قالَ لَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسلام لو فعلتَ حتى تنظرَ إلى ما يصيرون وقيل إن عُتبةَ بنَ ربيعةَ وشيبةَ بنَ ربيعةَ ومُطعِمَ بن عدي والحرث بنَ نوفل وقرصةَ بنَ عبيد وعمروَ بنَ نوفل وأشرافَ بني عبد مناف من أهل الكفر أتَوا أبا طالب فقالوا يا أبا طالب لو أن ابنَ أخيك محمداً يطرُد موالينا وحلفاءناوهم عبيدنا وتقاؤنا كان أعظمَ في صدورنا وأدنى لاتّباعنا إياه فأتى أبو طالب إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فحدثه بالذي كلموه فقال عمرُ رضي الله عنه لو فعلتَ ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون إلى ما يصيرون وقال سلمان وخباب فينا نزلت هذه الآية جاء الأقرعُ بنُ حابسٍ التميميث وعُيَيْنةُ بنُ حِصْنٍ الفزاريُّ وعباس بن مرداس وذو وهم من المؤلفة قلوبهم

(3/138)


الأنعام آية 53
فوجدوا النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم جالساً مع أناسٍ من ضعفاءِ المؤمنين فلما رأوهم حوله صلى الله عليه وسلم حقروهم فأتوه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فقالُوا يا رسولَ الله لو جلستَ في صدر المجلس ونفَيْتَ عنا هؤلاء وأرواحَ جبابهم فجالسناك وحادثناك وأخذنا عنك فقال صلى الله عليه وسلم ما أنا بطارد المؤمنين قالوا فإنا نحب أن تجعل لنا معك مجلساً تعرِفْ لنا به العربُ فضلَنا فإن وفودَ العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء الأعبُد فإذا نجحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فعد معهم إن شئت قال صلى الله عليه وسلم نعم قالوا فاطكتب لنا كتاباً فدعا بالصحيفة وبعليَ رضي الله تعالى عنه ليكتبَ ونحن قعود ي ناحية فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ بالآية فرمى عليه السلام بالصحيفة ودعانا فأتيناه وجلسنا عنده وكنا ندنو منه حتى تمس ركبتنا رُكبتَه وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال الحمد لله الذي لم يتمنى حتى أمرني أن أصبِرَ نفسي مع قومٍ من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات والمرادُ بذكر الوقتين الدوامُ وقيل صلاةُ الفجر والعصر وقرىء بالغُدوة وقوله تعالى {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} حال من ضمير يدعون أي يدعونه تعالى مخلصين له فيه وتقييدُه به لتأكيد علِّيتِه للنهي فإن الإخلاصَ من أقوى موجبات الإكرام المضادِّ للطرد وقوله تعالى {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء} اعتراضٌ وُسِّط بين النهي وجوابه تقريراً له ودفعاً لما عسى يُتوَهم كونُه مسوِّغاً لطردهم من أقاويلِ الطاعنين في دينهم كدأب قوم نوحٍ حيث قالوا مَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أراذلنا بادجى الرأى أي ما عليك شيءٌ ما مِنْ حساب إيمانهم وأعمالِهم الباطنة حتى تتصدى له وتبنى على ذلك ما تراه من الأحكام وإنما وظيفتُك حسبما هو شأنُ منصِبِ النبوة اعتبارُ ظواهرِ الأعمال وإجراءُ الأحكام على موجبها وأما بواطنُ الأمور فحسابُها على العليم بذات الصدور كقوله تعالى إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّى وذكرُ قوله تعالى {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء} مع أن الجوابَ قد تم بما قبله للمبالغةِ في بيانِ انتفاءِ كون حسابهم عليه صلى الله عليه وسلم بنظمه في سلك ما لا شُبهة فيه أصلاً وهو انتفاءُ كونِ حسابه صلى الله عليه وسلم عليهم على طريقة قولِه تعالى لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ وأما ما قيل من أن ذلك لتنزيل الجملتين منزلةَ جملةٍ واحدةٍ لتأدية معنى واحدٍ على نهج قوله تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى فغيرُ حقيقٍ بجلالة شأن التنزيل وتقديم عليك في الجملة الأولى للقصدج إلى إيراد النفي على اختصاص حسابهم به صلى الله عليه وسلم إذ هو الجاعي إلى تصدية صلى الله عليه وسلم لحسابهم وقيل الضميرُ للمشركين والمعنى أنك لا تؤاخَذُ بحسابهم حتى يُهمَّك إيمانُهم ويدعُوَك الحِرْصُ عليه إلى أن تطرُدَ المؤمنين وقوله تعالى {فَتَطْرُدَهُمْ} جواب النفي وقوله تعالى {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} جواب النهي وقد جُوِّز عطفُه على فتطردَهم على طكريقة التسبيب وليس بذاك

(3/139)


وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)

{وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} استئنافٌ مبينٌ لما نشأ عنه ما سبق من النهي وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ ما بعده من الفعل الذي هو عبارةٌ عن تقديمه لفقراء المؤمنين في أمر الدين بتوفيقهم للإيمان

(3/139)


الأنعام آية 54
مع ما هم عليه في أمر الدنيا من كمال سوء الحال وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ درجتِه المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الكمال والكاف مُقحَمَةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلُها في الأصلِ النصبُ على أنه نعتٌ لمصدرٍ مؤكّدٍ محذوف والتقدير فتنا بعضَهم ببعض فتوناً كائناً مثلَ ذلك الفتون ثم قُدّم على الفعلِ لإفادة القصِر المفيدِ لعدم القصور فقط واعتُبرت الكافُ مُقحَمةً فصار نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتاً له والمعنى ذلك الفتونَ الكاملَ البديعَ فتنّا أي ابتلَينا بعضَ الناس ببعضهم لا فتوناً غيره حيث قدمنا الآخِرين في أمر الدينِ على الأولين المتقدَّمين عليهم في أمر الدنيا تقدماً كلياً واللام في قوله تعالى {لّيَقُولواْ} للعاقبة أي ليقول البعضُ الأولين مُشيرين إلى الآخِرين محقِّرين لهم نظراً إلى ما بينهما من التفاوت الفاحشِ الدنيوي وتعامياً عما هو مَناطُ التفضيلِ حقيقةً {أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا} بأن وفّقهم لإصابة الحق ولما يصعجهم عنده تعالى من دوننا ونحن المقدَّمون والرؤساء وهم العبيدُ والفقراء وغرضُهم بذلك إنكارُ وقوعِ المنِّ رأساً على طريقة قولِهم لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ لا تحقيرُ الممنونِ عليهم مع الاعتراف بوقوعه بطريق الاعتراضِ عليه تعالى وقولُه تعالى {أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} ردٌّ لقولهم ذلك وإبطال له وإشارةٌ إلى أن مدارَ استحقاقِ الإنعامِ معرفةُ شأنِ النعمةِ والاعترافُ بحق المُنعِم والاستفهامُ لتقرير علمه البالغِ بذلك أي أليس الله بأعلمَ بالشاكرين لِنِعَمِه حتى تستبعِدوا إنعامَه عليهم وفيه من الإشارة إلى أن أولئك الضعفاءَ عارفون بحقِّ نِعَم الله تعالى في تنزيل القرآنِ والتوفيقِ للإيمان شاكرون له تعالى على ذلك مع التعريض بأن القائلين بمعزلٍ من ذلك كله ما لا يخفى

(3/140)


وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)

{وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بآياتنا} هم الذين نُهيَ عن طردهم وُصِفوا بالإيمان بآيات الله عزَّ وجلَّ كما وُصفوا بالمداومة على عبادته تعالى بالإخلاص تنبيهاً على إحرازهم لفضيلتَي العلم والعمل وتأخيرُ هذا الوصفِ مع تقدمه على الوصف الأولِ لما أن مدارَ الوعدِ بالرحمة والمغفرة هو الإيمانُ بها كما أن مناطَ النهْي عن الطرد فيما سبق هو المداومةُ على العبادة وقوله تعالى {فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ} أمرٌ بتبشيرهم بالسلام عن كل مكروهٍ بعد إنذارِ مُقابليهم وقيل بتبليغ سلامِه تعالى إليهم وقيل بأن يبدأَهم بالسلام وقوله تعالى {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} أي قضاها وأوجبَها على ذاته المقدسةِ بطريق التفضّل والإحسانِ بالذات لا بتوسُّط شيءٍ ما أصلا تبشير لهم بسَعَة رحمتِه تعالى وبنيل المطالبِ إثرَ تبشيرِهم بالسلامة عن المكاره وقبولِه التوبة منهم وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافةِ إلى ضميرِهم إظهارُ اللطفِ بهم والإشعارُ بعلّة الحُكْم وقيل إن قوماً جاءوا إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فقالوا إنا أصبْنا ذُنوباً عظاما فلم يرد على أنه تفسيرٌ للرحمة بطريق الاستئناف وقوله تعالى {بِجَهَالَةٍ} حال من فاعل عمل أي عمله وهو جاهلٌ بحقيقة ما يتبعه من المضارِّ والتقييدُ بذلك للإيذان بأن المؤمنَ لا يباشر ما يعلمُ أنه

(3/140)


الأنعام آية 55 57
يؤدي إلى الضرر أو عمله ملتبسا بجهالة {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ} أي من بعد مله أو من بعد سَفَهِه {وَأَصْلَحَ} أي ما أفسده تدارُكاً وعزْماً على أن لا يعودَ إليه أبداً {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي فأمرُه أنه غفور رحيم أو فله أنه غفور رحيم وقُرىء فإنَّه بالكسرِ على أنه استئنافٌ وقع في صدر الجملة الواقعةِ خبراً لمن على أنَّها موصولةٌ أو جوابا لها على أنها شرطية

(3/141)


وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)

{وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الايات} قد مر آنفاً ما فيه من الكلام أي هذا التفصيلِ البديعِ نُفَصّلُ الآيات في صفة أهل الطاعةِ وأهل الإجرام المُصرِّين منهم والأوابين {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين} بتأنيث الفعلِ بناءً على تأنيث الفاعل وقرىء بالتذكير بناءً على تذكيره فإن السبيلَ ممَّا يُذكِّرُ ويُؤنَّثُ وهو عطفٌ على علة محذوفةٍ للفعل المذكورِ لم يُقصَدْ تعليلُه بها بعينها وإنما قُصد الإشعارُ بأن له فوائدَ جمّةً مِنْ جُمْلتها ما ذُكر أو علةٌ لفعل مقدرٍ هو عبارة عن المذكور فيكون مستأنَفاً أي ولتستبين سبيلَهم نفعلُ ما نفعل من التفصيل وقرىء بنصب السبيلَ على أن العف متعدَ وتاؤُه للخطاب أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيلَ المجرمين فتعامِلَهم بما يليق بهم

(3/141)


قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)

{قُلْ إِنّى نُهِيتُ} أُمر صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مخاطبة المُصِرّين على الشرك إثرَ ما أُمر بمعاملة مَنْ عداهُم من أهلِ الإنذار والتبشيرِ بما يليق بحالهم أي قل لهم قطعاً لأطماعهم الفارغة عن ركونه صلى الله عليه وسلم إليهم وبياناً لكون ما هم عليه من الدين هوىً محضاً وضلالاً بحتاً إني صُرفتُ وزُجِرْت بما نُصب لي من الأدلة وأُنزل علي من الآيات في أمر التوحيد {أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ} أي عن عبادة ما تعبدونه {مِن دُونِ الله} كائناً ما كان {قُلْ} كَرر الأمرَ مع قرب العهد اعتناء بشأن المأمور به أو غيذانا باختلاف المَقولَيْن من حيث إن الأولَ حكايةٌ لِما منْ جهتِه تعالَى منْ النهي والثاني حكايةٌ لما من جهته صلى الله عليه وسلم من الانتهاء عما ذُكر من عبادة ما يعبدونه وإنما قيل {لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ} استجهالاً لهم وتنصيصاً على أنهم فيما هم فيه تابعون لأهواءَ باطلةٍ وليسوا على شيء مما ينطلق عليه الدين أصلاً وإشعاراً بما يوجب النهيَ والانتهاءَ وقوله تعالى {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً} استئنافٌ مؤكِّد لانتهائه عما نهي عنه مقرِّر لكونهم في غاية الضلال والغَواية أي إن اتبعتُ أهواءكم فقد ضللت وقولُه تعالَى {وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين} عطفٌ على ما قبله والعدولُ إلى الجُملةِ الاسميَّةِ للدلالة على الدوام والاستمرار رأي دوامِ النفْي واستمرارِه لا نفْيِ الدوام والاستمرار كما مرَّ مراراً أي ما أنا في شيء من الهدى حين أكون في عِدادهم وقوله تعالى

(3/141)


قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)

{قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ} تحقيقٌ للحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان لاتباعه غياه إثر إبطال الباطل الذي عليهالكفرة وبيان عدم

(3/141)


2 -
الأنعام آية 58
اتباعه والبينةُ الحجةُ الواضحةُ التي تفصِلُ بين الحق والباطل والمرادُ بها القرآنُ والوحْيُ وقيل هو الحججُ العقلية أو ما يعمُّها ولا يساعدُه المقامُ والتنوينُ للتفخيم وقولُه تعالى {مّن رَّبّى} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لبينة مؤكدة لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من التشريفِ ورفعِ المنزلة ما لا يخفى وقوله تعالى {وَكَذَّبْتُم بِهِ} إما جملةٌ مستأنفة أو حاليةٌ بتقدير قد أو بدونه جىء بها الاستقباح مضمونها واستيعاد وقوعِه مع تحقق ما يقتضي عدمَه من غاية وضوحِ البينة والضميرُ المجرورُ اللبينة والتذكير باعتبار المعنى لمراد والمعنى إني على بينةٍ عظيمة كائنةٍ من ربي وكذبتم بها وبما فيها من الأخبار التي من جملتها الوعيدُ بمجيء العذاب وقولُه تعالى {مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} استئنافٌ مبينٌ لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأً لتكذيبهم بها وهو عدمُ مجيءِ ما وَعد فيها من العذابِ الذي كانُوا يستعجلونه بقولهم متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين بطريق الاستهزاءِ أو بطريق الإلزامِ على زعمهم أي ليس ما تستعجلونه من العذاب الموعودِ في القرآنِ وتجعلون تأخُّرَه ذريعةً إلى تكذيبه في حُكمي وقدرتي حتى أَجيءَ به وأُظهرَ لكم صِدْقَه أو ليس أمرُه بمُفوَّضٍ إلي {إِنِ الحكم} أي ما الحكمُ في ذلك تعجيلاً وتأخيراً أو ما الحكمُ في جميع الأشياء فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً {إِلاَ لِلَّهِ} وحده من غير أن يكون لغيره دخْلٌ ما فيه بوجه من الوجوه وقولُه تعالى {يَقُصُّ الحق} أي يتبعه بيان لشئونه تعالى في حكم المعهودِ أو في جميع أحكامِه المنتظمةِ له انتظاماً أولياً أي لا يَحكُم إلا بما هو حقٌّ فيُثبتُ حقيقة التأخير وقرىء يقضي فانتصابُ الحقَّ حينئذٍ على المصدية أي يقضي القضاءَ الحقَّ أو على المفعولية أي يصنعُ الحقَّ ويدبرُه من قولهم قضى الدِّرعَ إذا صنعها وأصلُ القضاءِ الفصلُ بتمام الأمرِ وأصلُ الحُكمِ المنعُ فكأنه يمنعُ الباطل عن معارَضةِ الحقِّ أو الخصمِ عن التعدِّي على صاحبه {وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مشيرٌ إلى أن قص الحق ههنا بطريق خاصَ هو الفصلُ بين الحقِّ والباطلِ هذا هُو الذي تستدعيهِ جزالة التنزيلِ وقد قيل إن المعنى إني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه على حجةٍ واضحةٍ وشاهدِ صدقٍ وكذبتم به أنتم حيث أشركتم به تعالى غيرَه وأنت خبيرٌ بأن مساق النظم الكرين فيما سبقَ وما لحقَ على وصفهم بتكذيب آياتِ الله تعالى بسبب عدمِ مجيءِ العذاب الموعودِ فيها فتكذيبُهم به سبحانه في أمر التوحيد مما لا تعلُّقَ له بالمقامِ أصلاً

(3/142)


قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)

{قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى} أي في قدرتي ومِكْنتي {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذابَ الذي وردَ به الوعيد بأن يكون أمرُه مفوّضاً إلي من جهته تعالى {لَقُضِىَ الامر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} أي بأن ينزِلَ ذلك عليكم إثرَ استعجالِكم بقولكم متى هذا الوعد ونظائرِه وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعيُّن الفاعِلِ الذي هو الله تعالى وتهويلِ الأمر ومراعاةِ حسنِ الأدب ما لا يخفى فما قيل في تفسيره لأهلكتُكم عاجلاً غضباً لربي ولتخلصْتُ منكم سريعاً بمعزلٍ من تَوْفِيةِ المقام حقَّه وقولُه تعالى {والله أَعْلَمُ بالظالمين} اعتراضٌ مقرِّرٌ لِما أفادتْه الجملةُ الامتناعية من انتفاءِ كونِ أمرِ العذاب مفوضا إليه صلى الله عليه وسلم المستتبِع لانتفاء قضاءِ الأمر وتعليل له والمعنى

(3/142)


الأنعام 59 60
والله تعالى أعلم بحال الظالمين وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب ولذلك لم يفوِّضِ الأمرَ إليّ فلم يقضِ الأمرَ بتعجيل العذاب والله أعلم

(3/143)


وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)

{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} بيانٌ لاختصاص المقدوراتِ الغيبية به تعالى من حيثُ العلم غثر بيانِ اختصاصِ كلِّها به تعالى من حيثُ القدرةُ والمفاتحُ إما جمعُ مفتَح بفتح الميم وهو المخزَن فهو مستعارٌ لمكان الغيب كأنها مخازِنُ خُزِنت فيها الأمورُ الغيبيةُ يُغلق عليها ويُفْتَح وإما جمعُ مفتِح بكسرها وهو المفتاح ويُؤيده قراءةُ مَنْ قرأَ مفاتيحُ الغيب فهو مستعارٌ لما يُتوصَّلُ به إلى تلك الأمورِ بناءً على الاستعارة الأولى أي عنده تعالى خاصةُ خزائنِ غُيوبِه أو ما يُتوصّل به إليها وقولُه عز وجل {لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} تأكيدٌ لمضمونِ ما قبله وإيذانٌ بأن المرادَ هو الاختصاصُ من حيث العلمُ لا من حيث القدرةُ والمعنى أن ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدوراً لي حتى أُلزِمَكم بتعجيله ولا معلوماً لديّ لأُخبرَكم وقتَ نزولِه بل هو مما يَختصُّ به تعالى قدرة وعلما فينزله حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَم والمصالح وقولُه تعالى {وَيَعْلَمُ مَا فِى البر والبحر} بيان لتعلّق علمِه تعالى بالمشاهَدات إثرَ بيان تعلُّقِه بالمغيَّباتِ تكملةً له وتنبيهاً على أن الكلَّ بالنسبة إلى علمِه المحيطِ سواءٌ في الجَلاءِ أي يعلمُ مَا فِيهمَا مِنَ الموجودات مُفصّلةً على اختلاف أجناسِها وأنواعِها وتكثُّرِ أفرادِها وقولُه تعالى {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} بيانٌ لتعلُّقه بأحوالها المتغيَّرةِ بعد بيانِ تعلقِه بذواتها فإن تخصيصَ حالِ السقوطِ بالذكر ليس إلا بطريق الاكتفاءِ بذكرها عن ذكر سائر الأحوال كما أن ذكرَ حالِ الورقةِ وما عُطفَ عليها خاصةً دون أحوالِ سائرِ ما فيهما من فنونِ الموجودات الفائتة للحصر باعتبارِ أنها أُنموذَجٌ لأحوال سائرِها وقولُه تعالى {وَلاَ حَبَّةٍ} عطفٌ على ورقةٍ وقولُه تعالى {فِى ظلمات الارض} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لحبة مفيدة لكما نفوذِ علمِه تعالى أي ولا حبةٍ كائنةٍ في بطونِ الأرض إلا يعلمها وكذا قوله تعالة {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ} معطوفان عليها داخلان في حُكمها وقولُه تعالى {إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ} بدلٌ من الاستثناءِ الأول بدلَ الكلِّ على أن الكتابَ المُبِينَ عبارةٌ عن علمه تعالى أو بدلَ الاشتمالِ على أنه عبارةٌ عن اللوحِ المحفوظ وقرىء الأخيران بالرَّفعِ عطفاً عَلى محلِّ من ورقة وقيل رفعُهما بالابتداء والخبرُ إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ وهو الأنسبُ بالمقام لشمول الرطبِ واليابس حينئذ لِما ليس من شأنه السقوطُ وقد نُقل قراءةُ الرفعِ في ولا حبةٌ أيضاً

(3/143)


وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)

{وهو الذي يتوفاكم بالليل} أي يُنيمُكم فيه على استعارة التوفِّي من الإماتة للإنامة لما بين الموتِ والنومِ من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز وأصله قبضُ الشيء بتمامه {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} أي ما كسبتم

(3/143)


الأنعام آية 61
فيه المراد بالليل والنهار الجنسُ المتحقِّق في كل فردٍ من أفرادهما بالتوفي والبعث الوجدين فيها يتحققُ قضاءُ الأجلِ المسمَّى المترتبِ عليها لا في بعضِها والمرادُ بعلمه تعالى ذلك علمُه قبل الجَرْحِ كما يلوحُ به تقديمُ ذكره على البعث أي يعلم ما تجرَحون بالنهار وصيغة الماضي الجلالة على التحقّق وتخصيصُ التوفي بالليل والجَرْحِ بالنهار مع تحقّق كلَ منهما فيما خُصَّ بالآخر للجَرْي على سَنن العادة {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي يوقظكم في النهار عطفٌ على يتوفاكم وتوسيطُ قوله تعالى وَيَعْلَمَ الخ بينهما لبيان ما في بعثهم من عظيمِ الإحسانِ إليهم بالتنبيه على أن ما يكتسبونه من السيئات مع كونها موجبةً لإبقائهم على التوفّي بل لإهلاكهم بالمرة يُفيض عليهم الحياة ويُمهلُهم كما ينبىء عنه كلمةُ التراخي كأنه قيل هو الذي يتوفاكم في جنس الليالي ثم يبعثكم في جنس النهر مع علمه بما ستجرَحون فيها {ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى} معين لكل فرد بحيث لايكاد يتخطى أحدٌ ما عُيِّن له طرفةَ عينٍ {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي رجوعُكم بالموت لا إلى غيره أصلاً {ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بالمجازاة بأعمالكم التي كنتم تعملونها في تلكَ الليالِي والأيامِ وقيل الخطابُ مخصوصٌ بالكفرة والمعنى أنكم مُلقَوْن كالجيف بالليل كاسبون للآثام بالنهار وأنه تعالى مطّلعٌ على أعمالكم يبعثكم الله من القبور في شأن ما قطعتم به أعمارَكم من النوم بالليل وكسْبِ الآثامِ بالنهار ليقضى الأجلُ الذي سماه وضَرَبه لبعث الموتى وجزائِهم على أعمالهم وفيه ما لا يَخفْى من التكلف والإخلالِ لإفضائه إلى كون البعث معلَّلاً بقضاء الأجلِ المضروب له

(3/144)


وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)

{وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} أي هو المتصرِّفُ في أمورهم لاغيره يفعل بهم ما ييشاء إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة وتعذيباً وإثابةً إلى غير ذلك {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم} خاصة أيها المكلفون {حَفَظَةً} من الملائكة وهم الكرام الكاتبون وعليكم متعلقٌ بيُرسل لما فيه من معنى الاستيلاء وتقديمُه على المفعولِ الصريحِ لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقيل متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من حفظة إذ لو تأخر لكان صفة أي كائنين عليكم وقيل متعلق بحفظةً والمحفوظُ محذوفٌ على كل حال أي يرسل عليكم ملائكةً يحفظون أعمالَكم كائنةً ما كانت وفي ذلك حكمةٌ جميلةٌ ونعمةٌ جليلة لما أن المكلفَ إذا عَلم أن أعماله تحفظ وتعرض على رءوس الأشهادِ كان ذلك أزجرَ له عن تعاطي المعاصي والقبائحِ وأن العبد إذا وثِقَ بلُطف سيّدِه واعتمد على عفوه وسَترِه لم يحتشمه احتشامه من خدمه الواقفين على أحواله وحتى في قولِه تعالى {حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت} هي التي يُبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تَجعلُ ما بعدها من الجملة الشرطية غايةً لما قبلها كأنه قيل ويُرسلُ عليكم حفظة يحفَظون أعمالَكم مدةَ حياتكم حتى إذا انتهت مدة أحدم كائناً مَنْ كان وجاءه أسبابُ الموت ومباديه {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} الآخرون المفوَّضُ إليهم ذلك وهم ملكُ الموتِ وأعوانُه وانتهى هناك حِفظُ الحفظة وقرىء توفاه ماضياً أو مضارعاً بطرح إحدى التامين {وَهُمْ} أي الرسل {لاَ يُفَرّطُونَ} أي بالتواني والتأخير وقرىء مخففاً من الإفراط أي

(3/144)


الأنعام آية 62 64
لا يجاوزون ما حدا بهم بزيادة أو نقصان والجملة حال من رسلنا وقيل مستأنَفةٌ سيقت لبيان اعتنائِهم بما أُمروا به وقوله تعالى

(3/145)


ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)

{ثُمَّ رُدُّواْ} عطفٌ على توفته والضمير للكلِّ المدلول عليه بأحدكم وهو السرُّ في مجيئه بطريق الالتفات تغليباً والإفرادُ أولاً والجمعُ ى خرا لوقوع التوفِّي على الانفراد والردِّ على الاجتماع أي ثم ردوا بعد البعث بالحشر {إِلَى الله} 6 أي إلى حُكمه وجزائه في موقف الحساب {مولاهم} أي مالكُهم الذي يلي أمورَهم على الإطلاق لا ناصرُهم كما في قوله تعالى وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ {الحق} الذي لا يقضي إلا بالعدل وقرى بالنصب على المدح {أَلاَ لَهُ الحكم} يومئذ صورةً ومعنى لا لأحد غيرِه بوجهٍ من الوجوه {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} يحاسب جميعَ الخلائق في أسرعِ زمانٍ وأقصره لا يشغَله حسابٌ عن حسابٌ ولا شأنٌ عن شأنٍ وَفِي الحديثِ إِنَّ الله تعالى يحاسب الكلَّ في مقدار حلْبِ شاة

(3/145)


قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)

{قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظلمات البر والبحر} أي قل تقريراً لهم بانحطاط شركائِهم عن رتبةِ الإلهية مَنْ ينجِّيكم من شدائدهما الهائلةِ التي تُبطل الحواسَّ وتدهش العقولَ ولذلك استُعير لها الظلماتُ المبطلةُ لحاسةِ البصَر يقال لليوم الشديد يومٌ مظلم ويومٌ ذو كواكبَ أو من الخسف في البر والغرقِ في البحر وقرىء ينْجيكم من الإنجاء والمعنى واحد وقوله تعالى {تَدْعُونَهُ} نصبٌ على الحالية من مفعول ينجِّيكم والضميرُ لمن أي مَن ينجّيكم منها حال كونكم داعين له أو من فاعلِه أي من ينجيكم منها حال كونه مدعواً من جهتكم وقوله تعالى {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} إما حالٌ من فاعل تدعونه أو مصدرٌ مؤكِّد له أي تدعونه متضرعين جِهاراً ومُسِرِّين أو تدعونه دعاءَ إعلانٍ وإخفاء وقرىء خفية بكسر الخاس وقوله تعالى {لئن أنجيتنا} حال من الفاعل أيضاً على تقدير القولِ أي تدعونه قائلين لئن أنجيتنا {مِنْ هذه} الشدة والورطة االتي عبر عنها بالظلمات {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} أي الراسخين في الشكر المداومين عليه لأجل هذه النعمةِ أو جميع النعماءِ التي من جُمْلتِها هذهِ وقرىء لئن أنجانا مراعاة لقوله تعالى تَدْعُونَهُ

(3/145)


قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)

{قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ} أُمر صلى الله عليه وسلم بتقرير الجواب مع كونه من وظائفهم للإيذان بأنه متعيِّنٌ عندهم ولبناءِ قولِه تعالى {ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} عليه أي الله تعالى وحده ينجيكم مما تدعونه إلى كشفه من الشدائد المذكورةِ وغيرِها من الغموم والكُرَبِ ثم أنتم بعد ما تشاهدون هذه النعمَ الجليلةَ تشركون بعبادته تعالى غيرَه وقرىء يُنْجيكم بالتخفيف

(3/145)


الأنعام آية 65 66

(3/146)


قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)

وقوله تعالى {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُم عَذَاباً} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أنه تعالى هو القادرُ على إلقائهم في المهالك إثرَ بيانِ أنه هو المُنْجي لهم منها وفيه وعيدٌ ضمنيٌّ بالعذاب لإشراكهم المذكورِ على طريقة قوله عز وجل أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر إلى قوله تعالى أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى الآية وعليكم متعلقٌ بيبعثَ وتقديمُه على مفعوله الصريح للاعتناء به والمسارعةِ إلى بيان كون المبعوثِ مما يضرُّهم ولتهويل أمْرِ المؤخرِ وقوله تعالى {مّن فَوْقِكُمْ} متعلقٌ به أيضاً أو بمحذوف وقع صفةٌ لعذاباً أي عذاباً كائناً من جهة الفوق كما فَعَل بمن فَعَل من قومِ لوطٍ وأصحابِ الفيلِ وأضرابِهم {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} أو من جهة السُفلِ كما فعل بفِرْعونَ وقارونَ وقيل مِنْ فوقكم أكابركم ورؤسائكم ومن تحت أرجلِكم سفلتُكم وعبيدُكم وكلمة أَوْ لمنعِ الخُلوّ دونَ الجمع فلا منْعَ لما كان من الجهتين معاً كما فُعل بقوم نوحٍ {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أي يخلطَكم فِرَقاً متحزّبين على أهواءَ شتّى كلُّ فرقةٍ مشايعةٌ لإمامٍ فينشَبُ بينكم القتالُ فتختلطوا في الملاحم كقول الحَماسي ... وكتيبةٍ لبَّستُها بكتيبة حتى إذا التَبَسَتْ نفضْتُ لها يدي {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} عطفٌ على يبعثَ وقرىء بنون العظمةِ على طريقة الالتفات لتهويل الأمرِ والمبالغةِ في التحذير والبعضُ الأولُ الكفارُ والآخَرُ المؤمنون ففيه وعدٌ ووعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عند قوله تعالى عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أعوذ بوجهك وعند قوله تعالى أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أعوذ بوجهك وعند قوله تعالى أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ هذا أهونُ أو هذا ايسر وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال سألتربي أن لا يبعثَ على أمتي عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلِهم فأعطاني ذلك وسألته أن لا يجعلَ بأسهم بينهم فمنعني ذلك {انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الايات} من حال إلى حال {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} كي يفقَهوا ويقِفوا على جلية الأمر فيرجعوا عمَّا هُم عليهِ من المكابرة والعِناد

(3/146)


وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)

{وَكَذَّبَ بِهِ} أي بالعذاب الموعود أو القرآنِ المجيد الناطقِ بمجيئه {قَوْمِكَ} أي المعاندون منهم ولعل إيرادَهم بهذا العنوانِ للإيذان بكمالِ سوءِ حالِهم فإن تكذيبَهم بذلك مع كونهم من قومه صلى الله عليه وسلم مما يقضي بغاية عَتُوِّهم ومكابرتهم وتقديم الجار والمجرور على الفاعلِ لما مرَّ مراراً من إظهار الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخرة وقوله تعالى {وَهُوَ الحق} حالٌ منَ الضميرِ المجرورِ أي كذبوا به والحال أنه الواقعُ لا محالة أو إ هـ الكتابُ الصادقُ في كل ما نطقَ به وقيل هو استئنافٌ وأيا ما كان ففيه دلالة على عظيم جنايتِهم ونهاية قُبْحِها {قُلْ} لهم منبِّهاً على ما يئول إليه أمرُهم وعلى أنك قد أديتَ ما عليك من وظائف الرسالة {لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} بحفيظٍ وُكِّلَ إلى أمركم لا منعكم من التكذيب وأُجبِرَكم على التصديق إنما أنا منذرٌ وقد خرجتُ عن العُهدة حيث أخبرتُكم بما سترَونه

(3/146)


الأنعام ى ية 67 69

(3/147)


لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)

{لّكُلّ نَبَإٍ} أي لكل شيءٍ يُنبَأُ به من الأنباء التي من جملتها عذابُكم أو لكلِّ خبرٍ من الأخبار التي من جملتها خبرُ مجيئِه {مُّسْتَقِرٌّ} أي وقتُ استقرارٍ ووقوعٍ البتة ووقت استقرارٍ بوقوعِ مدلولِه {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي حالَ نَبئِكم في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً وسوف للتأكيد كما في قوله تعالى وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ

(3/147)


وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)

{وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آياتنا} أي بالتكذيب والاستهزاءِ بها والطعنِ فيها كما هو دأْبُ قريشٍ ودَيدَنُهم {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} بترك مُجالستهم والقيامِ عنهم وقولُه تعالى {حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ} غايةٌ للإعراض أي استمِرَّ على الإعراضِ إلى أن يخوضوا في حديثٍ غيرِ ى ياتنا والتذكيرُ باعتبار كونها حديثاً فإن وصفَ الحديثِ بمغايرتها مشيرٌ إلى اعتبارها بعُنوان الحديثية وقيل باعتبار كونِها قرآناً {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان} بأن يشغَلَك فتنسى النهْيَ فتُجالِسَهم ابتداءً أو بقاءً وقرىء يُنَسِّينَّك من التَنْسِية {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى} أي بعد تذكُّرِ النهي {مَعَ القوم الظالمين} أي معهم فوضَعَ المُظهرَ موضعَ المُضمر نعياً عليهم أنهم بذلك الخوضِ ظالمون واضعون للتكذيب والاستهزاءِ موضِعَ التصديق والتعظيم راسخون في ذلك

(3/147)


وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)

{وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ} روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ المسلمين حين نُهوا عن مجالستهم عند خوضِهم في الآيات قالوا لئن كنا نقول كلما استهزءوا بالقرآن لم نستطِعْ أن نجلِسَ في المسجد الحرام ونطوفَ بالبيت فنزلت أي ما على الذين يتقون قبائحَ أعمالِ الخائضين وأحوالَهم {مِنْ حِسَابِهِم} أي مما يُحاسَبون عليه من الجرائر {من شىء} أي شيء ما على أنه في محلِ الرفعِ على أنه مبتدأ وما تميمية أو اسم لها وهي حجازية ومن مزيدة للاستغراق ومن حسابهم حال منه وعلى الذين يتقون في محلِ الرفعِ على أنه خبر للمبتدأ أو لما الحجازية على رأي مَن لا يُجيز إعمالَها في الخبر المقدَّم مطلقاً أو في محلِّ النصبِ على رأي من يجوِّز إعمالَها في الخبر المقدّم عند كونه ظرفاً أو حرفَ جر {ولكن ذكرى} استدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم أن يذكِّروهم ويمنعوهم عمَّا هُم عليهِ من القبائح بما أمكن من العِظة والتذكير ويُظهروا لهم الكراهَةَ والنكيرَ ومحل ذكرى إما النصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكِّد للفعل المحذوف أي عليهم أن يذكّروهم تذكيراً أو الرفعُ عَلى أنَّه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أيْ ولكن عليهم ذكرى {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي يجتنبون الخوضَ حياءً أو كراهةً لمسَاءتهم وقد جُوِّز كونُ الضمير للموصول أي يذكّروهم رجاءَ أن يثبُتوا على تقواهم أو يزدادوها

(3/147)


الأنعام آية 70

(3/148)


وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)

{وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ} الذين كُلِّفوه وأُمروا بإقامة مواجبِه {لَعِباً وَلَهْواً} حيث سخِروا به واستهزءوا أو بنَوْا أمرَ دينهم على ما لا يكاد يتعاطاه العاقلُ بطريق الجِدّ وإنما يصدُر عنه لو صدَر بطريق اللعِبِ واللهوِ كعبادة الأصنام وتحريمِ البحائرِ والسوائبِ ونحوِ ذلك والمعنى أعرضْ عنهم ولا تُبالِ بأفعالهم وأقوالهم وقيل هو تهديدٌ لهم كقوله تعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ الآية {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} واطمأنوا بها حتى زعموا أنْ لا حياةَ بعدها أبداً {وَذَكّرْ بِهِ} أي بالقرآنِ من يصلُح للتذكير {أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي لئلا تُبْسَلَ كقوله تعالى أَن تَضِلُّواْ الآية أو مخافةَ أن تُبسَل أو كراهةَ أن تبسل نفوسٌ كثيرة كما في قوله تعالى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ وتُرتَهنَ لسوء عملِها وأصلُ الإبسالِ والبَسْل المنعُ ومنه أسد باسلٌ لأن فريستَه لا تُفلت منه أو لأنه ممتنَعٌ والباسل الشجاع لامتناعه من قِرْنه وهذا بَسْلٌ عليك أي حرام ممنواع وقد جوز أن يكون الضمير المجرور في به راجعها إلى الإبسال مع عدم جرَيانِ ذكرِه كما في ضمير الشأن وتكون الجملةُ بدلاً منه مفسِّراً له في الإبهام أولاً والتفسيرِ ثانياً من التفخيم وزيادةِ التَّقريرِ كما في قولِه ... على جودِه لَضَنَّ بالماء حانم بجر حانم على أنه بدل من ضمير جوده فالمعنى وذكر بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت وقوله تعالى {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} استئنافٌ مَسوقٌ للإخبار بذلك وقيل في محل النصب على أنه حالٌ من ضمير كسبت وقيل في محلِ الرفعِ عَلى أنَّه وصفٌ لنفسٌ والأظهرُ أنَّه حالٌ من ف = نفسٌ فإنه في قوة نفسٌ كافرةٌ أو نفوسٌ كثيرة كما في قوله تعالى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ومن دون الله متعلقٌ بمحذوف هو حال من وليٌّ كما بُيّن في تفسيرِ قولِه تعالى وَأَنذِرْ بِهِ الآية وقيل هو خبرٌ لليس فيكون لها حينئذٍ متعلقاً بمحذوفٍ على البيان {وَإِن تَعْدِلْ} أي إن تَفْدِ تلك النفسُ {كُلَّ عَدْلٍ} أي كلَّ فِداءٍ على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ {لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا} على إسنادِ الفعلِ إلى الجار والمجرور لا إلى ضمير العدل كما في قوله تعالى وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ فإنه المَفْدِيُّ به لا المصدرُ كما نحن فيه {أولئك} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيزِ الصلةِ وما فيهِ من معنى البعد للإيذان ببعدِ درجتِهم في سُوءِ الحال ومحلُه الرفعُ على الابتداء والخبر في قوله تعالى {الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} والجملةُ مستأنفةٌ سيقت إثرَ تحذيرِهم من الإبسال المذكور لبيان أنهم المبتَلَوْن بذلك أي أولئك المتخِذون دينَهم لعباً ولهواً المغترون بالحياة الدنيا هم الذين أُبسِلوا بما كسبوا وقولُه تعالى {لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ} استئناف آخَرُ مُبينٌ لكيفية الإبسال المذكور وعاقبتِه مبنيٌّ على سوء نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيل ماذا لهم حين أُبسلوا بما كسبوا فقيل لهم شرابٌ من ماءٍ مغليَ يتجَرْجَرُ في بطونهم وتتقطَّعُ به أمعاؤهم {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} بنار تشتعل بأبدانهم {بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} أي بسبب كفرهم المستمر في الدنيا وقد جُوِّز أن يكون لهم شراب الخ حالاً من ضمير أبسلوا وترتيب

(3/148)


الأنعام آية 71
ما ذُكر من العذابَيْن على كفرهم مع أنهم معذبون بسائر معاصيهم أيضاً حسبما ينطِق به قوله تعالى بِمَا كَسَبُواْ لأنه العُمدةُ في إيجاب العذاب والأهمُ في باب التحذير أو أريد بكفرهم ما هو أعمُّ منه ومن مستتْبِعاته من المعاصي والسيئات هذا وقد جوِّز أنْ يكون أولئك إشارةً إلى النفوس المدلولِ عليها بنفسٌ محلُه الرفعُ بالابتداء والموصولُ الثاني صفتُه أو بدلٌ منه ولهم شراب الخ خبرُه والجملة مَسوقةٌ لبيان تبعة الإبسال

(3/149)


قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)

{قل أندعو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا} قيلَ نزلتْ في أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ حين دعاه ابنه عبدُ الرحمن إلى عبادة الأصنام فتوجيهُ الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للإيذان بما بينهما من الاتصال والاتحادِ تنويهاً لشأن الصديقَ رضي الله تعالى عنه أي أنعبد متجاوزين عبادةَ الله الجامعِ لجميعِ صفاتِ الألوهيةِ التي من جملتها القدرةُ على النفع والضر ما لا يقدر على نفعنا إذا عبدناه ولا على ضَرِّنا إذا تركناه وأدنى مراتبِ المعبوديةِ القُدرةُ على ذلك وقوله تعالى {وَنُرَدُّ على أعقابنا} عطفٌ على ندعوا إذا حل في حكم الإنكارِ والنفْي أي ونُرَدّ إلى الشرك والتعبير عنه بالرد غعلى الأعقاب لزيادة تقبيحِه بتصويره بصورةِ ما هو عَلَمٌ في القُبح مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشركِ حالةً قد تُركت ونُبذتْ وراءَ الظهر وإيثارُ نرد على نرتد لتوجيه الإنكار إلى الارتداد بردِّ الغير تصريحاً بمخالفة المُضلِّين وقطعاً لأطماعهم الفارغةِ وإيذاناً بأن الارتدادَ من غير رادَ ليس في حيِّزِ الاحتمال ليُحتاجَ إلى نفيه وإنكاره وقولُه تعالى {بَعْدَ إِذْ هدانا الله} أي إلى الإسلام وأنقذنا من الشرك متعلقٌ بنرُدّ مَسوقٌ لتأكيد النكيرِ لا لتحقيق معنى الرد وتصويرِه فقط وإلا لكفى أن يقالَ بعد إذ اهتدينا كأنه قيل ونُرَدّ إلى الشرك بإضلال المضِلّ بعد إذ هدانا الله الذي لا هاديَ سواه وقوله تعالى {كالذى استهوته الشياطين} في محل النصب على أنه حالٌ من مرفوع نرد أي نُرد أي أنرد على أعقابنا مشبَّهين بالذي استهوته مَرَدةُ الجن واستغوته إلى المهامه أو المهالك أو على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أي أنُرد رداً مثلَ ردِّ الذي استهوته الخ والاستهواءُ استفعال من هَوَى في الأرض إذا ذهَب فيها كأنها طلبت هُويَّه وحرصت عليه وقرىء استهواه بألف مما له وقوله تعالى {فِي الأرض} إما متعلق باستهوته أو بمحذوفٍ هو حالٌ من مفعوله أي كائناً في الأرضَ وكذا قوله تعالى {حَيْرَانَ} حال منه على أنها بدلٌ من الأولى أو حال الثنية عند من يجيزها أو من الذي أو من المستكنّ في الظرف أي تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري ما يصنع وقوله تعالى {لَهُ أصحاب} جملة في محل النصب على أنها صفةٌ لحيران أو حال من الضمير فيه أو مستأنفةٌ سيقت لبيان حالِه وقوله تعالى {يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى} صفةٌ لأصحاب أي لذلك المستهوى رفقةٌ يهدونه إلى الطريق المستقيم تسميةٌ له بالمصدر مبالغةً كأنه نفس الهدى {ائتنا} على إرادةِ القولِ على أنه بدل ممن يدونه أو حالٌ من فاعلِه أي يقولون ائتنا وفيه إشارة

(3/149)


الأنعهام آية 72 73

إلى أنهم مهتدون على الطريق المستقيم وأن من يدعونه ليس ممن يعرف الطريق المستقيم ليدعى إلى إتيانه وإنما يُدرك سمتَ الداعي ومورِدَ النعيق فقط {قُلْ إِنَّ هُدَى الله} الذي هدانا إليه وهخو الإسلام {هُوَ الهدى} وحدَه وما عداه ضلال محضٌ وغيٌّ بحتٌ كقوله تعالى فَمَاذَا بَعْدَ الحقِّ إِلاَّ الضلال ونحوِه وتكريرُ الأمر للاعتناء بشأن المأمورِ به ولأن ما سبق للزجْرِ عن الشرك وهذا حثٌّ على الإسلام وهو توطِئةٌ لما بعده فإن اختصاصَ الهُدى بهُداه تعالى مما يوجبُ الامتثالَ بالأوامر الواردةِ بعده {وَأُمِرْنَا} عطفٌ على إن هُدى الله هو الهدى داخلٌ تحت القول واللام في {لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالمين} لتعليل الأمر المَحْكيِّ وتعيينِ ما أريد به كمن الأوامر الثلاثة كما في قوله تعالى قُل لّعِبَادِىَ الذين آمنوا يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ الآية كأنه قيل أمرنا وقيل لنا اسلموا لأجل أنم نسلَمَ وقيل هي بمعنى الباء أي أمرنا بأن نُسلم وقيل زائدة أي أُمرنا أن نُسلم على حذف الباء وقوله تعالى

(3/150)


وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)

{وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه} أي الله تعالى في مخالفةِ أمرهِ عطفٌ على نُسلم على الوجوه الثلاثة على أنّ أنْ المصدريةَ إذا وصلت بالأمر بتجرد هو عن معنى الأمر نحوُ تجردِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضي والاستقبال فالمعنى على الأول أمرنا أي قيل لنا أسلموا وأقيموا الصلاة واتقوا الله لأجل أن نُسلمَ ونُقيمَ الصلاة ونتّقِيَه تعالى وعلى الأخيرين أمرنا بأن نسلمَ ونقيم الصلاة ونتقيه تعالى والتعرضُ لوصف ربوبيته تعالى للعالمين لتعليل الأمرِ وتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ به كما أن قوله تعالى

(3/150)


وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

{وَهُوَ الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} جملةٌ مستأنفةٌ موجِبةٌ للامتثال بما أُمر به من الأمور الثلاثة {وَهُوَ الذى خلق السماوات والارض} أُريد بخلقهما خلقُ ما فيهما أيضاً وعدمُ التصريح بذلك لظهور اشتمالهما على جميع العُلويات والسُفليات وقوله تعالى {بالحق} متعلقٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من فاعلِ خلقَ أوْ منْ مفعولِه أو صفةٌ لمصدرِه المؤكِّد له أي قائماً بالحق أو متلبسه بالحق أو خلقا متلبساً به وقوله تعالى {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحق} استئنافٌ لبيانِ أنّ خلقَه تعالى لِما ذُكر من السمواتِ والأرضِ ليس مما يَتوقَّفُ على مادّةٍ أو مُدّة بل يتَمّ بمحض الأمرِ التكوينيِّ من غير توقفٍ على شيءٍ آخَرَ أصلاً وأن ذلك الأمرَ المتعلِّقَ بكل فردٍ فردٌ من أفراد المخلوقات في حينٍ معينٍ من أفراد الأحيان حقٌّ في نفسه متضمنٌ للحكمة ويومَ ظرفٌ لمضمون جملةِ قولُه الحقُّ والواو بحسب المعنى داخلٌ عليها وتقديمُه عليها للاعتناءِ به من حيث إنه مدارُ الحقّيةِ وتركُ ذكرِ المقولِ له للثقةِ بغاية ظهوره والمرادُ باالقول كلمةُ كن تحقيقاً أو تمثيلاً كما هو المشهورُ فالمعنى وأمرُه المتعلقُ بكل شيءٍ يريد خلقَه من الأشياء في حينِ تعلّقِه به لا قبلَه ولا بعده من أفراد الأحيان الحقُّ أي المشهودُ له بالحقّية المعروفُ بها هذا وقد قيلَ قولُه مبتدأ والحق صفته ويوم يقول خبره مقدما عليه كقولك يومَ الجمعةِ القتالُ وانتصابه بمعنى الاستقرار وحاصلُ المعنى قولُه الحقُّ كائنٌ

(3/150)


الأنعام آية 74 75
حينَ يقول لشيءٍ من الأشياء كنْ فيكونُ ذلك الشيءُ وقيل يوم منصوبٌ بالعطف على السمواتِ أو على الضمير في واتقوه أو بمحذوف دل عليه بالحق وقوله الحق مبتدأ وخبر أو فاعلُ يكون على معنى حين يقول لقوله الحق أي لقضائه الحقِّ كن فيكون والمرادُ حين يكوِّن الأشياءَ ويُحدِثُها أو حين تقومُ القيامةُ فيكونُ التكوينُ حشرَ الأجساد وإحياءَها فتأملْ حقَّ التأمل {وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور} تقييدُ اختصاصِ المُلك بهِ تعالَى بذلك اليومِ مع عموم الاختصاصِ لجميع الأوقات لغاية ظهورِ ذلك بانقطاعِ العلائقِ المجازيةِ الكائنةِ في الدنيا المصحِّحة للمالكيةِ المجازية في الجملة كقوله تعالى لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الواحد القهار {عالم الغيب والشهادة} أي هو عالمُهما {وَهُوَ الحكيم} في كلِّ ما يفعله {الخبير} بجميعِ الأمور الجليّة والخفيّة

(3/151)


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)

{وَإِذْ قَالَ إبراهيم} منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطب به النبي عليه الصلاةَ والسلام معطوف على قل أندعو لا على أقيموا كما قيل لفساد المعنى أي واذكر لهم بعد ما أنكرتَ عليهم عبادةَ ما لا يقدِرُ على نفعٍ وضُرَ وحققتَ أن الهدى هو هدى الله وما يتبعه من شئونه تعالى وقتَ قولِ إبراهيمَ الذي يدّعون أنهم على ملته موبخا {لأبيه آزر} على عبادة الأصنام فإن ذلك مما يبكِّتُهم وينادي بفساد طريقتِهم وتوجيهُ الأمرِ بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ لما مر مرارا من المبالغة في إيجاب ذكرِها وآزرُ بزنةِ آدم وعابَر وعازَر وفالَغ وكذلك تارَحُ ذكره محمد بن إسحق والضحاكُ والكلبيُّ وكان من قريةٍ من سَواد الكوفة ومُنعَ صَرْفُه للعُجمة والعَلَمية وقيل اسمُه بالسريانية تارَحُ وآزَرُ لقبُه المشهورُ وقيل اسمُ صنمٍ لُقِّب هو به للزومه عبادتَه فهو عطف بيان لأبيه وبدل منه وقال الضحاك معناه الشيخ الهرم وقال الزجاج المُخطىء وقال الفراءُ وسليمانُ التيمي المعوَجُّ فهو نعتٌ له كما إذا جُعل مشتقاً من الأزْرِ أو الوز وأريد به عابدُ آزرَ على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه وقرىء آزرُ على النداء وهو دليلُ العَلَمية إذ لا يُحذف حرفُ النداء إلا من الأعلام {أَتَتَّخِذُ} متعدَ إلى مفعولين هما {أَصْنَاماً آلِهَة} أي أتجعلُها لنفسك آلهةً على توجيه الإنكارِ إلى اتخاذ الجنس من غير اعتبار الجمعية وإنما إيرادُ صيغةِ الجمع باعتبار الوقوعِ وقرىء أاَزْراً بفتح الهمزة وكسرها بعج همزة الاستفهام وزاءٍ ساكنةٍ وراءٍ منونةٍ منصوبةٍ وهو اسمُ صنم ومعناه أتعبدُ آزرا ثم قيل تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً وهو داخل تحت الإنكار لكونه بيانا له وقيل الأزرُ القوة والمعنى ألأجل القوة والمظاهَرَةِ تتخذ أصناماً آلهة إنكاراً لتعزُّزِه بها على طريقة قوله تعالى أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة {إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ} الذين يتبعونك في عبادتها {فِى ضلال} عن الحق {مُّبِينٌ} أي بيِّنٌ كونُه ضلالاً لا اشتباهَ فيه أصلاً والرؤيةُ إما علميةٌ فالظرفُ مفعولُها الثاني وإما بصَرية فهو حال من المفعول والجملة تعليلٌ للإنكار والتوبيخ

(3/151)


وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)

{وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم} هذه الإرادة من الرؤية البصَريةِ المستعارةِ للمعرفة ونظرِ البصيرة أي عرفاناه

(3/151)


2 -
الأنعام آية 76
وبصَّرناه وصيغةُ الاستقبال حكايةٌ للحال الماضيةِ لاستحضار صورتِها وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ نُري لا إلى إراءةٍ أخرى مفهومةٍ من قوله إني أراك وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المُشَارِ إليهِ وبُعدِ منزلتِه في الفضل وكمال تميزه بذلك وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهَدة والكافُ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلُها في الأصلِ النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصل التقدير نُري إبراهيم إراءةً كائنة مثلَ تلك الإراءة فقُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً للنكتة المذكورة فصار المشارُ إليه نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتاً له أي ذلك التبصيرَ البديعَ نبصِّره عليه السلام {مَلَكُوتَ السماوات والارض} أي ربوبيته تعالى ومالكيته لهما وسلطانَه القاهرَ عليهما وكونَهما بما فيهما مربوباً ومملوكاً له تعالى لا تبصيراً آخَرَ أدنى منه والملكوتُ مصدرٌ على زنة المبالغة كالرَهَبوت والجَبَروت ومعناه الملك العظيم والسلطان القاهرُ ثم هل هو مختصٌّ بمُلك الله عزَّ سلطانه أو لا فقد قيل وقيل والأول هو الأظهر وبه قال الراغب وقيل ملكوتهما وعجائبهما وبدائعهما روي أنه كُشف لع عليه السلام عن السموات والأرض حتى العرشُ وأسفلُ الأرضين وقبل ى ياتهما وقيل ملكوتُ السموات الشمسُ والقمرُ والنجومُ وملكوتُ الأرض الجبالُ والأشجار والبحارُ وهذه الأقوالُ لا تقتضي أن تكون الإراءَةُ بصَريةً إذ ليس المرادُ بإراءةِ ما ذُكر منَ الأمورِ الحسية مجردَ تمكينِه عليه السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها بل إطلاعه عليه السلام على حقائقها وتعريفَها من حيث دلالتها على شئونه عز وجل لا ريبَ في أن ذلك ليس مما يُدرَك حسا كما يُنبىء عنه اسمُ الإشارة المُفصِحُ عن كون المشار إليه أمراً بديعاً فإن الإراءة البصرية المعتادو بمعزلٍ من تلك المثابة وقرىء تُري بالتاء وإسنادُ الفعل إلى الملكوت أي تُبصِره عليه السلام دلائل الربوبية واللام في قوله تعالى {وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} متعلقةٌ بمحذوفٍ مؤخر والجملةُ مقرِّر لما قبلها أي وليكون من زُمرة الرَّاسخين في الإيقان البالغين درجةَ عينِ اليقين من معرفة الله تعالى فعلنَا مَا فعلنَا منْ التبصير البديعِ المذكورِ لا لأمرٍ آخرَ فإن الوصولَ إلى تلك الغاية القاصيةِ كمالٌ مترتبٌ على ذلك التبصير لا ينه وليس القصرُ لبيان انحصار فائدتِه في ذلك كيف لا وإرشادُ الخلق وإلزامُ المشركين كما سيأتي من فوائده بلا مرْية بل لبيان أنه الأصلُ الأصيلُ والباقي من مستَتْبِعاته وقيل هي متعلقة بالفعل السابق والجملةُ معطوفةٌ على علةٍ أخرى محذوفةٍ ينسحبُ عليها الكلام أي يستدل بها وليكونَ الخ فينبغي أن يُرادَ بملكوتهما بدائعُهما وآياتُهما لأن الاستدلالَ من غاياتِ إراءَتِها لا من غايات إراءةِ نفسِ الربوبية وقوله تعالى

(3/152)